قضية الاحتجاج في اللغة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850185 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386318 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النحو وأصوله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-08-2022, 11:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي قضية الاحتجاج في اللغة

قضية الاحتجاج في اللغة
د. سيد مصطفى أبو طالب





الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد:
فقد شغلت قضية الاحتجاج علماء اللغة؛ وذلك لما أرادوا جمع اللغة وتدوينها وجدوا أنفسهم أمام تراث لغوي هائل، فنظروا ماذا يأخذون وماذا يتركون؟
فقاموا بتقسيم هذا التراث إلى: القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر، والنثر، وسأتناول كل واحد منها على حدة.

أولًا: القرآن الكريم:
أما القرآن فلا خلاف بين جمهور العلماء في الاستشهاد به، ولو بالشاذ منه؛ قال الفراء في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [البقرة: 7]: والكتاب أعربُ وأقوى في الحجة من الشِّعر[1].

وقال ابن جني في الشاذ من القراءات: وضربًا تعدى ذلك[2]، فسماه أهل زماننا شاذًّا؛ أي خارجًا عن قراءة القراء السبعة المقدم ذكرها، إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه... لكن غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى الآن شاذًّا، وأنه ضارب في صحة الرواية بجِرانه، آخذ من سَمْت العربية مهلة ميدانه[3].

وقال السيوطي: أما القرآن فكل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاجُ به في العربية، سواء أكان متواترًا، أم آحادًا، أم شاذًّا، وقد أطبق الناسُ على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسًا معلومًا، بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجُزِ القياس عليه، كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه، ولا يقاس عليه، نحو: استحوذ، ويأبى.

وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافًا بين النحاة، وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه، ومن ثَم احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة: (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا) [يونس: 58]، كما احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة: ﴿ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾ [العنكبوت: 12].

واحتج على صحة قول من قال: إن (الله) أصله (لاه) بما قُرئ شاذًّا: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَاهٌ وَفِي الْأَرْضِ لَاهٌ) [الزخرف: 84][4].

ثانيًا: الاحتجاج بالحديث الشريف:
أما الحديث فقد انقسموا فيه إلى فريقين: فريق يمنع الاستشهاد به في مسائل اللغة، وحجَّتهم في ذلك أن الأحاديث يجُوز روايتها بالمعنى، كما أن كثيرًا من الرواة كانوا من المولَّدين الذين عاشوا بعد عصور الاحتجاج، وهؤلاء يجوز عليهم اللحن[5].

أما القلة ممن يجوِّزون الاستشهاد بنصوص الأحاديث في مسائل اللغة، فحجتهم أنه إذا جاز اللحن في رواية الحديث، فكذلك يقال في رواية الأشعار، بل إن احتمال اللحن في رواية الأشعار أكثر؛ وذلك لأن الوازعَ الديني يساعد على تذكر نصوص الأحاديث، ويعمل على صيانتها من أي انحراف[6].
على أنه توجد طائفة من العلماء قد توسطوا في ذلك، فجوَّزوا الاحتجاج بالأحاديث التي عُنِي بنقل ألفاظها.

قال الشاطبي: لم نجد أحدًا من النَّحْويين استشهد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يستشهدون بكلام أجلافِ العرب وسفهائهم الذين يبولون على أعقابهم وأشعارهم التي فيها الفُحش والخَنا، ويتركون الأحاديث الصحيحة؛ لأنها تنقل بالمعنى[7].

فالمانعون يحتجُّون بأمرين:
1-أن الأحاديثَ لم تُنقَل كما سُمِعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رُويت بالمعنى.
2- وأن أئمةَ النحو المتقدمين من البصرة والكوفة لم يحتجُّوا بشيء منه.

وقد رد المُجوِّزون على الأمرين فقالوا:
إن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوينه في الكتب وهم ممَّن يُحتج بهم؛ لأنهم في عصور الاحتجاج، وغايته تبديل لفظ بلفظ، وهذا يصحُّ الاحتجاج به.
وأنه لا يلزم من عدم استدلال المتقدمين بالحديث عدمُ صحة الاستدلال به.

ويرى بعض الدارسين المحدَثين أننا يجب أن نقف موقفًا معتدلًا، فنقسم الأحاديث قسمين: قسم يستشهد بنصوصه، وقسم لا يحتج به في مسائل اللغة.

فيستشهد بالأحاديث الآتية:
1-ما يروى بقصد الاستدلال به على فصاحته صلى الله عليه وسلم؛ مثل: (مات حَتْفَ أنفه)[8]، (الآن حمِيَ الوطيس)[9]، وككتابه إلى وائل بن حجر، والأمثال النبوية، فهذا يصحُّ الاستشهاد به في العربية.
2- ألفاظ القنوت والتحيات والأدعية وغيرها من أقوال التعبد.
3- أحاديث من مصادرَ متعددة وبلفظ واحد.
4- أحاديث يرويها أولئك الذين رُبُّوا في بيئة عربية؛ كأنسٍ والشافعي.
5- ما عُرف مِن حال رواته أنهم لا يُجِيزون رواية الحديث بالمعنى؛ كابن سيرين، والقاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وعلي بن المَديني[10].

أما التي دُوِّنت متأخرًا أو التي غُمزت في صحتها أو الأحاديث التي شذَّت روايتُها، فلا يحتج بها[11].

ويمكن أن نخرج من هذا العرض برأي: أن قَبولَ الاستشهادِ بالحديث ورَدَّه يجب أن ينبنيَ على تخريجه ودراسة أسانيده وتتبُّع ألفاظه ورواياته، فإذا ظهر من خلال ذلك أنه محفوظٌ في الحديث عن النبي أو مَن دونه ممن يُحتَج بكلامه في اللغة، كأن يتفقَ الرواة جميعهم أو أكثرهم على لفظه - فإنه يصحُّ أن يستشهد به.

وإن كان مدارُه على راوٍ متأخر لا يستشهد بكلامه في اللغة، فإن كان محفوظًا عنه، وصح الإسنادُ منه إلى النبي، أو مَن دونه ممن يحتج بكلامه في اللغة، وليس رواتُه ممن رُمِي باللحن في حديثه، ولم يظهر من خلال دراسته وقوعُ الخطأ "أي التصحيف" في روايتِه - فإنه يصح أن يُستشهَد به.

أما إذا ظهر مِن خلال التخريج والدراسة أن اللفظ المستشهد به غيرُ محفوظ في الحديث عن النبي أو مَن دونه ممن يحتج بكلامه في اللغة - فإنه يُرَدُّ، ولا يصح الاستشهاد به[12].

ثالثًا: الاستشهاد بالشِّعر:
قسم العلماء الشعراء إلى طبقات[13]:
1- طبقة الجاهليين: كزُهير وطَرفة وامرئ القيس وعنترة والنابغة وغيرهم.
2- طبقة المخضرَمين، وهم الذين شهِدوا الجاهلية والإسلام: كحسان ولَبيد والخنساء وكعب بن زهير.
3- الإسلاميين، وهم المتقدِّمون الذين كانوا في صدر الإسلام: كجَرير والفرزدق والأخطل.
4- المولَّدين، ويقال لهم المُحدَثون، وهم مَن بعدهم إلى زماننا: كبشَّار وأبي نُواس.
فالطبقتانِ الأُوليان يستشهد بشِعرهما إجماعًا، وأما الثالثة فالصحيحُ صحةُ الاستشهاد بكلامها.

وقد كان أبو عمرو بن العلاء وعبدالله بن إسحاق والحسَن البصري وعبدالله بن شبرمة يُلحِّنون الفرزدق والكُميت وذا الرمة وأضرابهم في عدة أبيات أُخذت عليهم ظاهرًا، وكانوا يعُدونهم من المولَّدين؛ لأنهم كانوا في عصرهم، والمعاصرة حجاب[14].

قال ابن رشيق: كلُّ قديم من الشعراء فهو مُحدَث في زمانه بالإضافة إلى مَن كان قبله. وكان أبو عمرو يقول: لقد أحسن هذا المولَّد، حتى لقد هممتُ أن آمر صبياننا برواية شعره - يعني بذلك جريرًا والفرزدق - فجعله مولَّدًا بالإضافة إلى شِعر الجاهلية والمخضرَمين، وكان لا يعُدُّ الشعر إلا من المتقدمين، قال الأصمعي: جلستُ إليه عشر حِجَجٍ فما سمعتُه يحتجُّ ببيت إسلامي[15].

وأما الطبقة الرابعة فالصحيح أنه لا يستشهد بكلامها مطلقًا، وقد يُستشهد بكلام مَن يوثق به منهم، واختاره الزمخشري؛ فإنه استشهد بشعر أبي تمام في عدة مواضع، وقال: وهو وإن كان محدَثًا لا يُستشهَد بشعره في اللغة، فهو مِن علماء العربية، فأجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدليلُ عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك بروايتِه وإتقانه[16].

وإذا كان الزمخشري يصرِّح بثقته في شعر أبي تمَّام وأضرابه؛ ولذا فهو يستشهد به - فهناك من اللُّغويين مَن استشهد في استخفاء بشعراءَ مِن هذه الطبقة.

ومن هؤلاء: الخليل بن أحمد، الذي استشهد في كتابه العين بحفص الأموي، وبشار بن بُرد[17].

واستشهَد سيبويهِ في كتابه ببيت لبشار بعد أن توعَّده بالهجاء، وأصحاب بشار يروون له هذا البيت[18]:
وما كلُّ ذي لبٍّ بمؤتيكَ نُصحَه ♦♦♦ وما كلُّ مُؤْتٍ نصحَه بلبيبِ

وفي الكتاب نصفُ هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام، لم يسم قائله[19].

وفي الاقتراح للسيوطي: أولُ الشعراء المحدَثين بشار بن برد، وقد احتج سيبويه في كتابه ببعض شعره تقربًا إليه؛ لأنه كان هجاه لتركه الاحتجاجَ بشِعره[20].
إن مِن الإنصاف أن نورد بعضَ النصوص التي لها دلالتها في هذا الصدد.

قال ابن قتيبة: ولم يقصُرِ اللهُ العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كلَّ قديم حديثًا في عصره[21].

ثم قال: فكل مَن أتى بحسَن مِن قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا به عليه، ولم يضَعْه عندنا تأخُّرُ قائله أو فاعله، ولا حداثةُ سنِّه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدِّم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرفُ صاحبِه ولا تقدُّمه[22].

وقال الجرجاني: إن الشعر علمٌ من علوم العرب، يشترك فيه الطبعُ والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادةً له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمَن اجتمعت له هذه الخصالُ فهو المحسِن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان، ولست أفضِّل في هذه القضية بين القديم والمحدَث، والجاهلي والمُخضرم، والأعرابي والمولَّد[23].

إن الطرحَ الذي طرحه علماؤنا - رحمهم الله - يفيد نفي اعتبار العصر عاملًا مرجِّحًا للاستشهاد بكلام المتقدمين وطرحِ كلام المتأخرين، كما أنه يثير عدة تساؤلات:
ما معنى تقسيمهم الشعراءَ إلى طبقات؟
ألا يعني هذا التقسيمُ أنهم أدركوا أن لكل طبقةٍ خصائصَ تميزها، وأدركوا أن بين كل طبقة وأخرى فروقًا؟
ثم هل يمكن أن تكون طبقة المولَّدين إلى زماننا هذا طبقةً واحدة في خصائصها اللغوية؟ ألا توجد فروق تميِّز كل عصر من غيره؟ ألم تحدُثْ هِزَّات اجتماعية وسياسية واقتصادية تؤدي إلى تغيُّر في دلالات المفردات والتراكيب اللغوية؟

ثم ما معنى أن الطبقةَ الرابعة لا يُستشهد بشِعرها مطلقًا؟
إن ما فعله العلماءُ مِن هذا التقسيم يسلِّمنا إلى حقيقتين؛ أُولاهما: أن اللغة كانت تتطور في ألسنةِ الأجيال المتعاقبة، وأن العلماء أدركوا بحسِّهم اللغوي، وكان عليهم أن يدرسوه ويبينوا الخصائص المميِّزة لكل جيل، ويرصدوا تحركات التطوُّر المتعاقبة في تُؤَدة؛ حتى نُحسِن استغلالها في خدمة الفصحى.

والثانية: أن إتقانهم الفصحى كان بالمران والدربة، وهذا أمر لا غبار عليه، وإنما فيه ما يؤكد أن اللغةَ لا علاقة لها بالجنس، وإنما هي قابلةٌ للأخذ والتلقي والإتقان[24].

وقد اتخذ مجمعُ اللغة العربية بالقاهرة قرارًا في هذا الشأن، يفيد أن العربَ الذين يوثق بعربيَّتِهم ويستشهد بكلامهم هم عربُ الأمصار إلى نهاية القرن الثاني، وأهل البدو من جزيرة العرب إلى أواسط القرن الرابع[25].

ولم يَلْقَ هذا القرار قبولًا من بعض المحدَثين، وحجتهم في ذلك: أن مِن الشعراء والناثرين بعد عصور الاحتجاج - التي حددها المجمع - مَن هو قويم اللسان، سليم البيان، يصلُحُ أن يكون مرجعَ استشهاد، ومردَّ حُجة؛ كأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، والمعري وشوقي، وأشباههم من الشعراء، وكالجاحظ وابن خلدون والمويلحي ومحمد عبده، وأمثالهم من الناثرين، وغير هؤلاء وأولئك من رِجالات اللغة والعلم والأدب[26].

لقد عرَض فندريس وجهةَ نظر علماء اللغة الكلاسيكيين في اللُّغتين اللاتينية والإغريقية، الذين اعتبروا فيهما أيضًا مقياسًا للكمال وصلتا إليه ثم أخذتا في التدهور والفساد، وكان هذا المقياس في اللاتينية هو كتاباتِ الأديب شيشرون، واللاتينية الحقَّة عندهم تتلخص في طائفة من الخُطَب والدراسات الفلسفية التي تركها الخطيب الكبير.

يقول فندريس: كان لُغَويُّو القرن المنصرم الذين كانوا يقررون لكل لغة مثلًا أعلى من الكمال، وكانوا يجعلون هذا المثَل الأعلى في العهد الماضي، وفي الماضي السحيق بطبيعة الحال، ويزعمون أنه كانت توجد في العصر البدائي لغة كاملة ذات اطِّراد مطلَق، وأنه لما كان التغيير مِن قوانين اللغة المحتوم أن يسيرَ تطور اللغة بها إلى الابتعاد عن مثلها الأعلى؛ لذلك يتكلَّمون عن هذا التطور اللغوي في عبارات غريبة، فهو عندهم تشويهٌ أو تحريف أو فساد، وليست لغاتنا الحديثة إلا بقايا مزدراة ... فكلما تقادَم عهدُ اللغة عظُم جانبُها من الاحترام[27].

لكن فندريس يرفض هذا الاتجاه، ويؤكد أنه عبَثٌ في عبَثٍ؛ إذ يجب أن نسلم بالتغيير؛ لأنه أمر حتمي، وألا نستسلم للبكاء على العصر الذهبي.

ثم ينتهي - بعد مناقشة طويلة لمن يربطون بين اللغة المثالية وبعض العصور القديمة - إلى رأي مُؤدَّاه: أن اللغة تتطور، وكل مرحلة من مراحل هذا التطور جديرة بالدرس، ما دامت تعبِّر عن حاجات المجتمع وعاداته وتقاليده؛ إذ "إن اللغة لا توجد خارج أولئك الذين يفكرون ويتكلمون، إنها تمد جذورها في أعماق الضمير الفردي، ومِن هنا تستمد قوتها لتتفتح على شفاه الناس، غيرَ أن الضمير الفردي ليس إلا عنصر الضمير الجمعي الذي يفرض قوانينه على كل فرد من الأفراد، وعلى هذا فتطور اللغات ليس إلا مظهرًا من مظاهر تطور الجماعات، فليس لنا أن نرى فيه سيرًا في طريق متصل نحو غاية محددة"[28].

إننا أمام رأيين: رأي يضيِّق الأخذ والاستشهاد ويقصُرُه على زمن محدد وبيئة محددة وطائفة بعينها، ولا يسوِّغ الأخذَ من غيرها، ورأي يريد أن يوسع في الأخذ ممن توافرت لديه السليقةُ اللغوية السليمة والبيان القويم.

إن لرأيِ المجمع وجاهتَه؛ لأنه يريد مستوًى معينًا من اللغة، وهو اللغة النموذجية أو الفصحى المشتركة، كما أن فيه غَيرةً محمودة على اللغة التي هي لغة القرآن.

ولرأي المعترضين ما يبرره؛ فاللغة تيار يتدفَّق ليلبي حاجات العقل والخواطر الإنسانية، والاقتصار على تراكيب محددة ومفردات وعبارات بعينها، ورفض الزيادة عليها ورفض ما قد تتطور إليه دلالات بعضها - أمرٌ مخالف لطبيعة اللغة، بالإضافة إلى ما فيه من خسارة تتمثل في حرمان اللغة من صياغات جديدة، ومِن التعبير عن معانٍ جديدة.

ويمكن الجمعُ بين الرأيين بالأخذ من المحدَثين ممن صحت لغتُهم واستقامت ألسنتهم وساروا على النهج العربي السليم، ومتى فعلوا ذلك فقد صاروا عرَبًا بلغتهم، وتماثلت اللغتان؛ لغة السَّليقة، ولغة الخَليقة، فهما لغة واحدة، ولا فرق بين هذه وتلك، مما يسوِّغ الاحتجاجَ بهؤلاء المتأخرين.

رابعًا: الاستشهاد بالنثر:
حين تعرَّض العلماء للاستشهاد بالنثر نجدهم ذكروا قبائل بعينها يؤخذ عنها ويستشهد بكلامها، وطرحوا أخرى لا يتعرضون لها ولا يحتجُّون بكلامها.

لقد ذكَر السيوطي في كتابيه الاقتراح والمزهر أن أبا إبراهيم الفارابي حدَّد في كتابه الألفاظ والحروف أسماء القبائل التي يُحتَج بكلامها، وأسماء القبائل التي لا يستشهد بما يسمع عنها، فقال: كانت قريشٌ أجودَ العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانةً عما في النفس، والذين عنهم نُقلت اللغة العربية، وبهم اقتُدي، وعنهم أُخذ اللسان العربي من بين كلام العرب، هم: قيس وتميم وأسد؛ فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكِل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هُذَيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.

وبالجملة، فإنه لم يؤخذ عن حضَري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائرَ الأمم الذين حولهم.

فإنه لا يؤخذ لا من لخم ولا من جذام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصرَ والقِبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرؤون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تَغْلِب والنمر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر؛ لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس، ولا من عبدالقيس؛ لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والحبشة، ولا من أزد عمان؛ لمخالطتهم للهند والفُرس، ولا من أهل اليمن أصلًا؛ لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجارَ الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقُلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم[29].

ومِن خلال النظر في هذا النص، يتبيَّن أن العلماء قد أسسوا فصاحة القبيلة على دعامتين:
الأُولى: مقدار قُرب مساكنها من مكة وما حولها.
الثانية: مقدار توغُّلها في البداوة[30].

وعلى هذا الأساس نجد ابن جني قد بوَّب فصلًا في كتابه الخصائص بعنوان: "ترك الأخذ عن أهل المدَر كما أُخذ عن أهل الوبَر"، وهذا يعني أن العلماءَ أخذوا يقسمون اللغة إلى بدوية وحضرية، ويُعْنَوْنَ بالأولى ويحتكمون إليها، ويطرحون الثانية ولا يستشهدون بها.
وبالنسبة إلى القائمة السابقة فإن العلماءَ لم تنعقد كلمتهم تجاهها؛ فمنهم مؤيِّد، ومنهم معارض.

فممن أيد هذه النظرة ابن خلدون، وقد تحدث عن فساد اللسان العربي بسبب عدم اتِّباعه لما عليه العرب في كلامهم، ومخالطته للعجم، ثم قال: ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرَحها؛ لبُعدهم عن بلاد العجَم من جميع جهاتهم، ثم مَن اكتنَفَهم من ثقيف وهُذَيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم، وأما من بعُد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفُرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتُهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بُعدهم من قريش كان الأعاجم بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية[31].

وكان البَصْريون أكثرَ تمسُّكًا بهذه القائمة من الكوفيين؛ ولهذا كانوا يفتخرون بقولهم: "نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب، وأكَلة اليرابيع، وهؤلاء - يعنُون الكوفيين - أخذوا اللغة عن أهل السوادِ أصحاب الكواميخ، وأكلة الشواريز"[32].

وممن لم يلتزم بها ابن مالك؛ حيث أورد في مؤلفاته لغاتِ بعض القبائل التي لا يُحتَج بها، قال السيوطي: ونقل ذلك أبو حيان في (شرح التسهيل) معترضًا به على ابن مالك، حيث عُنِيَ في كتبه بنقل لغة لخم وخزاعة وقضاعة وغيرهم، وقال: "ليس ذلك مِن عادة أئمةِ هذا الشأن"[33].

كذلك لم تَلْقَ هذه القائمةُ قَبولًا عند بعض المحدَثين؛ مثل د /مهدي المخزومي، الذي يرى أن التفرقةَ بين القبائل خطأ منهجي، ويقول: ولا نرى هذا إلا لغوَ الكلام، إنهم يجهلون أن اللغةَ سليقة وطبيعة، ويجهلون أن صاحب اللغة لا يغلَطُ في لغته؛ لأنها جزء من حياته التي فُطِر عليها، وعادةٌ مِن عاداته التي نشأ عليها، وإذا كان الجاهليون يغلَطون، والمخضرَمون يغلَطون، والإسلاميون يغلَطون، فعلى مَن بعد هؤلاء يعتمد النحاة؟ بماذا يحتجون؟ ومن أين جاؤوا بهذه الأصولِ التي وضعوها، وهذه القواعد التي استنبطوها؟".

ثم يناقش فكرتها في وجود الفصاحة في كبد الصحراء فقط بعيدة عن ملابسات الحضارة فيقول: "ولو كان مقياسُ الفصاحة هو الانعزالَ في كبد الصحراء وعدم الاتصال بالأجانب، لكانت لغةُ قريشٍ أبعدَ اللغات عن الفصاحة، ولا قائلَ بهذا"[34].

وبالتدقيق فيما كتبه علماؤنا - رحمهم الله - توجد بعضُ الملحوظات:
1-اعتمادُهم على المشافهة دون النص المكتوب، وهذا صحيح، إلا أن المشافهةَ لم تدُمْ لهم طوال فترة الدراسة؛ فاضطرَّهم ذلك إلى إكمال الثغرات بالمنطق والقياس، لا بمعاودة المشافهة.

2- اعتقادهم أن اللغةَ شيء وراثي يتناقله الأبناء عن الآباء، وتُرضعه الأمهات للأطفال؛ ولهذا سيطرَتْ عليهم فكرة ارتباط الفصاحة بالجنس ارتباطًا وثيقًا، فكانوا يرفضون الأخذَ عن ابن المقفع؛ لأصله الفارسي، برغم فصاحتِه وتلقِّيه اللغةَ منذ نعومة أظفاره، في حين نجدهم لم يتورعوا عن الأخذ عن الأطفالِ والمجانين.

3- أنهم خلَطوا بين مستويينِ مِن اللغة لا يصح الخلطُ بينهما، وهما مستوى اللغة الأدبية النموذجية الممثَّلة في القرآن والحديث والشِّعر والخطب والأمثال، ومستوى اللهجات العامية المتمثِّلة في القراءات القرآنية ولغة الخطاب، فاضطرهم ذلك إلى التأويل والتخريج والحُكم على بعض الشواهد بالشذوذ؛ مما أظهَر اللغة بمظهر الاضطراب.
ولو زادوا في عنايتهم باللغة فدرَسوا لهجات القبائل المختلفة كما درسوا اللغةَ الأدبية المشتركة - لتوفَّر لنا الكثيرُ من أمر هذه اللغة، ولما ظهرت القواعد بهذا المظهَر المضطرب في بعض الأحيان.

4- لم يفطنوا إلى الصلاتِ بين اللغة العربية وأخواتها الساميات، ولو أنهم فطنوا إلى ذلك، لاهتدَوْا إلى كثيرٍ من المسائل المهمة.
ولعلَّ الذي جعَلهم يُغفِلون هذه الصلة أنهم كانوا منصرفين بالدرجة الأولى إلى المحافظة على القرآن الكريم ولغتِه مِن التحريف، أو أن يتطرق إليها اللحن بأي شكل من الأشكال، وأن المناهج التي ابتدؤوا بها دراستَهم كانت محدودة؛ فالدراسات اللغوية المقارِنة في حاجة إلى تقدم منهجي، وإلى مرحلة من النُّضج تعقُبُ تلك المرحلة التي ابتدؤوا بها عملهم.

يقول أحد علمائنا المحدَثين بعد دراسته لما استشهد به العلماءُ بشعر ونثر المولَّدين: وأعتقد أنه في ضوء كل ذلك، وفي ضوء ما يتطلبه الحِفاظ على حياة العرب وحيويتها أنه قد آنَ أن نتخذ من النتاج اللغوي الرفيع لما بعد نُطُق الاستشهاد - شعرًا ونثرًا - موقف الخبير الحريص عليها وعلى نقائها ونضارتها معًا، فنقبل ما جاء عن ثقات الشعراء الذين يشهد لهم نتاجُهم بالتمكن في اللغة، وسلامة ملكتها وقوتها لديهم، كما نقبل عن مضارعيهم في هذا من أكابر الأدباء وعلماء اللغة، ما دام ما جاؤوا به لا يخرُجُ عن الأصول والضوابط العامة[35].


[1] معاني القرآن للفراء 1/ 14.

[2] يقصِد القراءات المتواترة.

[3] المحتسب 1/ 32، 33.

[4] الاقتراح للسيوطي ص 67، 68.

[5] خزانة الأدب للبغدادي 1/ 9.

[6] في اللهجات العربية لإبراهيم أنيس ص50.

[7] خزانة الأدب 1/ 12.

[8] المسند 26/ 340.

[9] المسند 3/ 298.

[10] الاحتجاج بالشعر في اللغة د/ محمد حسن جبل ص 74.

[11] في اللهجات العربية ص51، ومجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة 3/ 197.

[12] مواقف النحاة من الاستشهاد بالحديث؛ د/ ياسر بن عبدلله الطريفي؛ شبكة الألوكة.

[13] ينظر: العمدة في محاسن الشعر ص113.

[14] خزانة الأدب 1/ 6.

[15] العمدة ص90.

[16] خزانة الأدب 1/ 7، والكشاف 1/ 207، 208.

[17] ينظر: العين 1/ 236، 2/ 96، 4/ 25، 5/ 68، البحث اللغوي عند العرب د/ أحمد مختار عمر ص49، والمعجم العربي نشأة وتطورًا د/ حسين نصار ص265.

[18] ديوان بشار 4/ 23، في الملحقات.

[19] ينظر: الكتاب لسيبويه 4/ 441.

[20] الاقتراح ص122، وينظر: بحوث ومقالات في اللغة د/ رمضان عبدالتواب ص98، 99.

[21] الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 64.

[22] السابق نفسه.

[23] الوساطة بين المتنبي وخصومه ص15.

[24] مقدمة في علوم اللغة د/ البدراوي زهران ص62.

[25] مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1/ 202.

[26] اللغة والنحو بين القديم والحديث د/ عباس حسن ص24 وما بعدها، والبحث اللغوي عند العرب ص49، ومقدمة في علوم اللغة ص65 وما بعدها.

[27] اللغة لفندريس ص 418، 419.

[28] السابق ص 434.

[29] الاقتراح ص90، 91، والمزهر 1/ 211، 212.

[30] في اللهجات العربية ص51.


[31] مقدمة ابن خلدون ص626، 625.

[32] أخبار النَّحْويين البَصريين ص69.

[33] الاقتراح ص93.

[34] مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة النحو ص 55، 56.

[35] الاحتجاج بالشعر في اللغة د/ محمد حسن جبل ص235، 236.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 76.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 74.98 كيلو بايت... تم توفير 1.92 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]