موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 19 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4411 - عددالزوار : 849150 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3941 - عددالزوار : 385652 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 171 - عددالزوار : 59783 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 168 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 112 - عددالزوار : 28269 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 803 )           »          طرق تساعد على تنمية ذكاء الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          السلفيون ومراعاة المصالح والمفاسد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 716 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 113 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #181  
قديم 05-04-2008, 08:16 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الإشارات القرآنية إلى الطبائع البشرية

د/ السيد إبراهيم الجميلي
كاتب ومفكر إسلامي وطبيب استشاري
توطئة وتمهيد:
إن الإنسان مخلوق الله تعالى الذي خلقه فسواه فعدله، فكان هذا تكريماً للإنسان على مخلوقات الله الأخرى، وحسبه من هذا التكريم الإنعام عليه بالعقل والفكر، وتشريفه بالتكليف الإلهي.
إن الإنسان في أصل جوهره الذي عليه مدار ذاته وكيانه ووجوده يدور حول طبعه وسليقته من ناحية، ومن ناحية أخرى يدور حول ذاته الحرة الواعية المستبصرة بما أضاف أو أضيف إليها من مكسوبات البيئة والظروف المخامرة، والأحوال الملابسة...
ويكون هناك إحدى حالتين:
الأولى يسيطر فيها الطبع الموروث بالسليقة في الأغلب الأعم، وهو ما تنطوي عليه الفطرة المفطور عليها، وإما أن تسيطر الظروف على الطبع فتعمد إلى تعديله وتخصيص حركته ونزعاته وسلوكياته...
وفي دولاب الحياة توجد كل أصول الطباع، خصالها وخصائصها وتفريعاتها، سواء كانت أصولاً محضة ( لم يلحقها تغير أو تبديل أو تحوير وتخصيص ) أم غير ذلك مما أعتورها وكاتفها ـ درجة ما من التعديل والتحوير.. وهذا الطرز والأنماط فاشية بين بني البشر، ظاهرة كل الظهور، واضحة كل الوضوح للعيان، لا تخفي على الأريب والخبير الممارس.
والكلام على الإشارات القرآنية للطبائع البشرية كلام كثير يحتاج بيانه وتفصيله إلى سفر جامع، لكن نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض هذه الطبائع، ونحرر تحليل بعض المواقف الظاهرة السافرة والخيوط التي تصل بينها وبين عوالم الأسرار المطوية في السرائر، والتي قد تكون محجوبة مستورة ولكنها تقف وراء كل حركات الإنسان وسكناته، فنفسر أسلوبه في الحياة ومنهاج عمله، وتبرر مسلك عقيدته، وما يتأدى إليه من قول وفعل.
الطبائع الثمانية
هناك تقسيمات قديمة للطبائع عزا القدماء إليها كل شيء، لعل أقدمها الطبائع الأربعة: الناري، ويدل على الحرارة، والهوائي، يدل على الرطوبة، والمائي، للبرودة، والأرضي ( الترابي )، لليبوسة.
كما أن القدماء اتفقوا على الأخلاط والأمزجة الأربعة، وهي:
  • <LI dir=rtl>الصفراوي (choleretic).
    <LI dir=rtl>والبلغمي (phlegmonus).
    <LI dir=rtl>والدموي (consanguious) (consanguinargy).
  • والسوداوي ( الميلانخوليا ): (melancholic).
ثم أخذ العلم في التطور وتوالت البحوث والدراسات التي قطعت أشواطاً بعيدة من النظرية والتطبيق، لكن في النهاية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلاديين المدرسة الفرنسية في علم الطباع التي طوّرت هذا العلم وانتقلت به من حيز الفروض النظرية البحتة والتصورات النمطية الخيالية المحضة إلى الدراسات التطبيقية والتحليلات العملية، على عينات إحصائية مختارة من مختلفة طبقات وشرائح المجتمع، ورصد النتائج وتدوين الملاحظات المنتهي إليها في دقة بالغة.
كانت هذه طفرة بارزة يرجع الفضل فيها إلى العلامة والفيلسوف الفرنسي رينيه لوسين (rene lesenene) ( أستاذ علم النفس والفلسفة بجامعة السربون والمتوفي سنة خمس وخمسين وتسع مئة وألف للميلاد ).
وكان رافقه وعاضده في بحوثه جيرترود هيمانس (gertrude heymans) ( عالم النفس الهولندي ) وصديقه الدكتور فيرزما (wirsma) (وهو طبيب اختصاصي في الأمراض العقلية ).
ولقد انتهت الدراسات لهذه المدرسة إلى أن طبائع البشر ثمانية طباع: العصبي، والعاطفي، والغضبي، والجموح، والدموي، واللمفاوي، والهلامي، ثم الخامل.
وعن كل طبع من هذه الطباع استخلصت البحوث العلمية لهذه المدرسة كثيراً من الدقائق واللطائف التي تفسر لنا كثيراً من الرغبات والمنازع التي تتحكم في التوجه وتبرر لنا غوامض الشخصية، وتميط اللثام عن عديد من السلوكيات الغامضة.
* الإشارات القرآنية:
إن الإشارات القرآنية الواردة في الكتاب العزيز إنما تعطينا صورة دقيقة للملامح والسمات والقسمات التي ينضوي تحتها الطبع، فهي إما تصرح بالطبع تصريحاً، أو تشير إليه تلميحاً، أو تقرر أخص خصائصه بلمحات ضمنية أو غير مباشرة.
وهنا يأتي دور الخبير المتمرس بطول المران على قراءة ما وراء الظواهر والمحسوسات، من خلال تقويم الإشارات واللمحات، وترجمة مدلولاتها بغير افتئات على النصوص، أو تزيد لا موجب له بحال من الأحوال.
لكننا بادي الرأي ـ قبل الولوج إلى جواهر المسائل ـ نرى وجوب الإشارة والتنبيه والتنويه عن عدة ملاحظات وتحفظات وهي:
أولاً: الغضب من أقبح الطبائع البشرية على مختلف مستوياتها، لكنه إذا كان منسوباً لله تعالى فإنه قمة العدل والقسط، لكونه منزهاً عن عوارض السلبية التي تعتور البشر، ولأنه بريء من الظلم والفساد ( حاشاه ذلك )، ومع هذا فإن رحمته سبحانه وتعالى سبق تغضبه. من ثم، فإنه في الصفات المشتركة بين الخالق والمخلوق تكون المشاركة لفظية فحسب، فإنه جل شأنه ( ليس كمثله شيء ).
ثانياً : الأنبياء كلهم مبشرون بالجنة لكونهم مخلصين مختارين، والغصب عندهم ليس بنقيصة تقدح في عصمتهم، وسلامتهم، وكمال إيمانهم. ولكن ورد في كل الأحوال على سبيل ضرب الأمثال والتعريض بالأمم، وهم مختلفون عن السواد البشري، فهم جميعاً معفو عنهم، مغفور لهم، وما ورد عنهم من المواقف والأحوال إنما كان استقصاءً وسبراً لأغوار النفس البشرية، مع إلهامهم المسارعة بالتوبة والإنابة، ورسم لهم سبحانه طريق الإعذار والإنذار وتدارك الأمر قبل فوات الأوان، وهذا مفاده تعليم المكلفين كيف يتصرفون... والأنبياء جميعاً قدوة حسنة، أعذارهم ممهودة وأخطاؤهم مغفورة، وطباعهم مرضية...
ثالثاً: كل كافر مغضوب عليه، وكل مغضوب عليه من الله تعالى هالك لا محالة، كذا كل مرضي عنه من الله ناج.
قال تعالى: )قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) ([سورة طه](1).
وقال: )وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) ([سورة الأعراف].(2)
)وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ..... (154 ) ([سورة الأعراف ].(3)
كان موسى عليه السلام على درجة رهيبة من الغضب والثورة لانحراف قومه عن عبادة الله تعالى وتوحيده، وقد ثارت ثائرته وهجم على أخيه هارون أخذاً بلحيته ورأسه في ثورة عارمة، ظاناً أنه قصر في زجر قومه وحاد عن طريق الحق بالسكوت عن ضلالهم(4)
)وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ......(5)قوة عارضة وفحولة مدهشة حال اختلاجه وانفعاله الذي انفلت بسبب الغيرة الشديدة على دين الله )قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (6)توضح الآيات في أجلى وأبين بيان وأدق تصوير كل ملابسات وخصائص الغضب في الطبع الغضبي.
وهذه الخصيصة من هذا الطبع (furious temperment) ممدوحة عند موسى، لأن مردها ومرجعها إلى القوة في أمر الله والغيرة على دينه، وهذا موجب قوي يحفز إليها ويحض عليها.
لكن الطبع الغضبي بين السواد الأكبر من أفناء الناس طبع ممقوت لكثرة مثاليه وجم عوراته، وما انطوى عليه من نقائص تتمثل في القوة الشديدة والصرامة العنيفة، والعناد، والاندفاع، والحمق وعدم التروي، والتهور العشوائي غير المحسوب، محروم من الحلم والأناة والرفق.
والغضبي معنىٌّ بالرد الفوري سريع الاستجابة مهما كانت الآثار والتداعيات والمردودات.
إن عقل الغضبي فولازي صلب، لا يعرف المرونة، وإن كان لا يعدم المروءة، شديد الصلادة والتحجر. ولئن كان الطبع الغضبي مولعاً بالموضوعية، فهو منهوم بالفعل، يلتذ بتفعيل طموحاته، إلا أنه ضيق الأفق مع طيبة القلب ورهافة الشعور.
والغضبي يشبه العصبي في انفعالاته، لكن العصبي الطبع (temperment) (neurotic character يتميز عادة بقعود الهمة، وضعف القدرة على تحقيق المرادات بالعمل الشاق، فهو يشعر بالوهن، ويستطيع التضحية بالعمل والفعل حتى لا يرهق بدنه.
وبينما نرى الغضبي مشهوراً بالحيوية والنشاط والهمة، نرى العصبي ملولاً ثرثاراً، وهو يفتقر إلى الموضوعية، كذوب، يهمل الأعمال والواجبات المفروضة عليه، وهو سهل الاقتناع، وسهل الاستسلام، والسيطرة عليه ممكنة ميسرة من أسهل الطرق.
ونرى من مشهد موسى أن قوته بلغت حداً فائقاً، فهو في عنفوان غضبه ألقى الألواح، وفعل ما فعل بأخيه هارون، وفي لحظة خاطفة بعد أن استشفع أخوه بأمه وقدم أعذاره بأن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه تساير ( سكت ) الغضب عن موسى، وهدأت نفسه بعد أن قدر ظروف أخيه وأيقن من أعذاره، فأخذ الألواح...
ويصور المشهد: ضعف هارون الشديد باعترافه )استضعفوني (و )كادوا يقتلونني (، وهذا تصريح واضح بقلة حيلته، وضعفه وهوان شأنه عند قومه الذين كانوا يهابون موسى عليه السلام بدليل أنه مجرد أن غاب عنهم انحرفوا إلى عبادة العجل... من ثم كانت مهابة الطبغ الغضبي مدعاة للتوقير، والإجلال لأن القوم يعرفون بأن حدة الغضب وشدة الانفعال عند موسى من ألزم خصائص طبعه.
وقوة الانفعال عند الغضبي غير قوته عند الطبع الجموح (bolty temperment type)، حيث إن الغضبي لا يتحكم في نفسه ولا تصرفاته حال الانفعال.
أما الجموح: فإن انفعاله فيه درجة القوة الغضبية، لكنه محسوب تحت السيطرة، ولذلك، فإن الغضبي يتحكم فيه الطبع ويسيطر عليه سيطرة تامة كاملة، أما الجموح فإنه يسيطر على طبعه ويتلافى سلبيات الغضبي بالتروي والإثارة وحساب الآثار والتداعيات بمنتهى الدقة.
أما طبع هارون فهو الطبع العاطفي الوديع شديد الانفعالية، قليل الفعالية أو نادرها، حيث يميل إلى الوداعة والسلامة..
والنمط العاطفي يؤثر السكينة ويكره الصراع ولو أتى أسباب النصر فيه... إن الصدام رهان خاسرة، ومجازفة تهولة، وخرق لا موجب له، ولا مبرر للتورط فيه من العاطفي الذي ينشد السلامة، ويركن إلى الدعة مهما كان في ذلك تفويت لفرص يرجوها ويتشوق إليها... ثم يستغفر موسى عليه السلام لنفسه ولأخيه وهذا بعد أن برئت ذمة أخيه من التقصير والتهاون المقصود.
هناك موقف آخر لموسى عليه السلام عندما استغاث به الإسرائيلي فيصراعه مع القبطي: )فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) ([سورة القصص]....
وكزه: لكزه(7) وموسى في ثورته الغضبية لم يقصد قتل القبطي، فهو قتل خطأ إذن... وقد فطن موسى لأول وهلة أن الشيطان هو الذي هيج غضبه وزج به إلى هذا الفعل القاتل... فاستغفر ربه فغفر له: )قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) ([سورة القصص].
وهذا مفاده: أن المسارعة إلى التوبة من السنن المحمودة، مع الإقرار بالخطأ والاعتراف به(8).
لكن بعد هذه التوبة المقبولة والعذر الممهود والإنابة، يحاول الطبع السيطرة على الشخصية مرة أخرى بالتوسيل والتغرير: ).... فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) ([القصص]...
لم يزل موسى متأثراً متألماً لما حدث بالأمس من قتله القبطي خطأ عن غير عمد، فما أن استصرخه الإسرائيلي، الذي كان استنصره بالأمس، حتى قال له موسى منفعلاً:)إنك لغوي مبين (.
ولما رأى الإسرائيلي ـ والذي هو من شيعة موسى ـ الغضب في عينيه والتهجم بادياً على جبينه وإنه على وشك الهياج والثوران، ارتعب وذعر واستولى عليه الفزع والهلع مخافة أن يفتك به موسى، فاستطار قلبه، وسارع صارخاً: ).... أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ( 19 )([القصص].
ولكن الحقيقة الثابتة في ظاهر النص القرآني أن موسى ساورته نفسه أن يبطش بالقبطي(9)، وكأنه سيطر عليه الطبع القوي الذي يحضه على الانتصار للإسرائيلي الذي هو من شيعته.
قال تعالى: )فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما.... (، فإن مدلول الآية يقطع بتوجه إرادة موسى إلى قتل القبطي، وهنا نية العمد متوفرة.
وتدل الآيات دلالة صريحة واضحة على سمة الاندفاع التي يتميز بها الطبع الغضبي، وهو الذي يسعد ويلتذ ويشعر بلذة عارمة في الفعل ذاته، وينسى ما فرط منه سلفاً، وإن كان نادماً على فوارطه وبوادره، متألماً ألماً وجيعاً عند تذكرها واسترجاعها واستدعائها من مخزون الذاكرة (10).
إن حاجة الغضبي إلى ذات الفعل أهم وأبعد من الغاية من الفعل، ومن ثم فإنه لا يحفل ولا يكترث بمردود الفعل، ولو كان منطوياً على هلكه.
ومشهور عن الغضبيين: أن ردودهم قوية صادمة صارمة عنيفة مفحمة حاسمة.
إن خطورة الغضبية غير محصورة، لأن سلبيات هذه الطبيعة تنعكس على المجتمع وعلى الناس، ولذلك قرر القرآن الكريم أن المغضوب عليه من الله هالك لا محالة ).... ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ( 81) ([سورة طه] (11)
)وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ([الأنبياء]. أي: مغاضباً لقومه، ولا يصح أن يقال: مغاضباً لربه، إذ إن بغضه وغضبه على قومه كان في سبيل الله، فكيف يكون مغاضباً لله(12)؟!.
قال تعالى: )وإذا ما غضبوا هم يغفرون ( 37 ) ([الشورى].
قال ابن كثير: أي: سجيتهم العفو عن الناس، وليس الانتقام من الناس(13).
وقال الشيخ الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، لكن يشترط أن يكون الحلم غير مخل بالمروءة(14).
وقال الشافعي: من استغضب ولم يغضب فهو حمار.
(وزيد عليه: من استرضي ولم يرض فهو شيطان ).
والغضوب مبغوض عادة من الناس، لأنه غير مأنوس.
وقد ثبت من المأثورات الجليلة والمسموعات القيمة أن المنجني من غضب الله هو أن لا تغضب.
والغضبي بعيد عن نفسه، منزوي عن الناس، غير مرضي عنه عند ربه ما لم يهذب من أمره.
يقول تعالى: ).... حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ( 16 ) ([الشورى].(15)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الغضب من الشيطان ). أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن.
وورد في الصحيحين وغيرهما: ( إن رحمتي سبقت غضبي ).
وفي لفظ: ( إن رحمتي [ تغلب ] غضبي ).
وقد أخرجه الشيخان وابن ماجه(16)والعجلوني في كشف الخفاء(17)، والسخاوي في المقاصد الحسنة(18)، والترمذي في جامعه الصحيح(19)، وأحمد في المسند(20)، وورد بلفظ: ( سبقت رحمتي غضبي)(21)..
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من نار ) (22).
ولذلك أوصي وأنصح الغاضب بأن يتوضأ لتساير عنه الغضب ويذهب عنه ما يجد لأن نار الشيطان يطفؤها الماء.
وقد ورد في الجامع الصحيح: ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ) (23).
وحسب الغضب من القبح أن يقول فيه المعصوم: ( الغضب يجمع الشر كله ) (24).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب )(25).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني! قال: ( لا تغضب ) فردد مراراً، فقال: ( لا تغضب ) (26).
ومن أروع ما ذكره الخطابي ( شارح سنن أبي داود ): معنى قوله: ( لا تغضب ): أجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه(27).
لكن هناك بعض الحالات تعتري فيها الحدة خيار الناس، وهي تختلف عن القوة الغضبية، لأن الحدة عرض من عوارض النفس التي تسري عن مكنون الكبت والقهر المضغوط في أطواء الضمير، ولا يقدر البشر على مغالبته، وهذا ليس صفة طبيعية ملازمة، ولكنها حال متغيرة سرعان ما تذوي وتنمحي آثارها، فهي بنت وقتها وبنت لحظتها، ورد في الحديث: ( الحدة تعتري خيار أمتي ).(28)
قال المؤرخون وعلماء السير والتراجم: إن أبا بكر رضي الله عنه كان خيراً كله على حدة فيه، وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يخشى بوادره.
وهذه البوادر لا تعدو أن تكون لوناً من الحدة الفارطة في موقف من المواقف الحرجة، لكن سرعان ما يعود الأمر إلى حافرته.
نرجسية فرعون وبطره
وردت نرجسية فرعون واستعلاؤه وأشره وبطره في ادعائه الألوهية والربوبية وجحده للإله الحق الواحد المربوب، لا رب سواه. في قوله ـ الذي رواه عنه القرآن الكريم ـ: )ما علمت لكم من إله غيري.... (38) ((29)[سورة القصص].
وهي أشبه ما تكون ـ مع الفارق ـ بعنجهية قارون، إذ جحد فضل الله تعالى عليه عندما قال: )قال إنما أوتيته على علم عندي.... (78) ((30)[سورة القصص].
أما إبليس اللعين ـ قبحه الله ـ فهو من النمط العصبي الذي يتسم بطاقة رهيبة من الانفعالية، وهذا النمط الطباعي حاد العاطفة، أذي شديد الإيذاء، ثرثار متكلم يتحدث عن نفسه كثيراً، وهو خفيف الحركة، نزق الأفعال محب للتألق والظهور... وهو من أكثر الطباع المخلوقة تحللاً من الدين وهروباً من التكليف، وميلاً إلى اللهو والاستمتاع.
ويتميز الطبع العصبي بالتشرد النفسي، والقلق المخامر والسآمة والملل وسرعة الإياس.
والنمط اللمفاوي مناقض تماماً للنمط العصبي، من حيث إنه لا انفعالي، فعال ذو ترجيع بعيد.
وإذا كان للمفاوي من أصدق الناس، فإن العصبي من أكذب خلق الله طراً.
وكما أن العصبي ليس موضوعي النظرة، فإنه في حقيقته ذاتي، لكن اللمفاوي موضوعي لاهتمامه بالموضوع.
إن اللافعالية التي يعاني منها العصبي ويكتوي بنارها هي المسؤولة عما يدهمه ويفعل به الأفاعيل، حيث تسلمه هذه اللافعالية للفراغ والضياع والتشرد والتمزق النفسي والوجداني، من ثم نرى العصبي مولعاً بالمقامرات والمغامرات الحسية غير المأمونة، وهو كثيراً ما يتورط في الأوهام الخطيرة، وهو مهدر للقيم والأخلاقيات.
والعصبي متمرد محب للظهور، على هشاشة وعدم جلادة وثبات، وهو يفتقد إلى المثابرة، ويفتقر إلى الصلابة.
من أهم سمات وأشراط هذا الطبع السقيم الرديء: الميل إلى الابتذال والتدهور الأخلاقي، مع الولوع الشديد بالأحوال الشاذة، كالسحر والجن والشياطين، مع إدمان النظر في الغيبيات... وهو في كل أحواله مهتلك على اللجاجات الفارغة، وهو يعلم في أكثر أحواله وأطواره أنه على غير الحق وأنه بعيد كل البعد عن المضمون....
ولما كان الذكاء موجوداً في كل طبائع البشر بلا استثناء إلا أنه لا توجد قاعدة ثابتة ولا قانون معين محدد لدرجة الذكاء ومستواه عند كل من هذه الطبائع. فلو تأملنا منهج إبليس ومسلكه نجده عالماً ومثقفاً واعياً: ).... أأسجد لمن خلقت طيناً (61) ([سورة الإسراء].
)خلقتني من نار وخلقته من طين (12 ) ([سورة الأعراف].
فهو على علم دقيق بأصل الخلق والخليقة، ويعرف جيداً أصل عنصره ومادة طبيعته، وجبلته الأولى، ثم هو يعرف قدر الله تعالى وعزته: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) ([سورة: ص]. ثم يستثني من يخرج عن طاعته ويتمرد على سيطرته: )إلا عبادك منهم المخلصين (83) ([سورة ص].... ثم إنه يعلم يقيناً أن الله تعالى بيده الخلق والأمر، وإن أمره بالكاف والنون، )قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) ([سورة الأعراف].
إنه كان مؤمناً بالبعث والحساب والجزاء لكن للأسف لم ينفعه علمه ولا ذكاؤه حيث تردى إلى أسفل درك، وهوى من حالق، وأورد نفسه موارد التهلكة التي لا صدر لها، وصار خسيئاً مطروداً مغضوباً عليه من رب العالمين إلى يوم الدين.

يتبــــــــــــــــــــع
  #182  
قديم 05-04-2008, 08:22 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبع موضوع ... الإشارات القرآنية إلى الطبائع البشرية

من النمط العاطفي (romantic temperment) الجدير بالتنويه، القمين بالتنبيه إليه، الحقيق بالتأمل والتدبر فيه ـ إنما هو نمط نبي الله يعقوب عليه السلام وما جرى له من جراء فراق ابنه يوسف وحزنه عليه.
وتتمثل الطبيعة العاطفية في يعقوب أصدق تمثيل وأبلغ تصوير، إذ تلوح في كل أقطار الشخصية كل المخايل والعلامات والأشراط والتصرفات ـ كل خصائص الفطرة العاطفية:).... وقال يا أسفى على يوسفَ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84 ) ((31)[سورة يوسف].
إن ابيضاض عيني يعقوب، بسبب الحزن الشديد والأسف على فقدان فلذة كبده، أشعل حريق اللوعة، وأجج وأضرم سعير الوله على يوسف الطفل المفقود في غياهب الجب، مما كان له أعنف الأثر الذي أعقب يعقوب العمى النفسي المسمى عند الأطباء النفسيين بـ (hysterical blindness). وهو من ألوان العمى الذي يقع على الحقيقة، وهو مردود إلى الكوارث النفسية (psychological crises) والصدمات العاطفية العنيفة التي تعتري الطبع العاطفي المشحوذ الإحساس، المطرور في رهافته وشعوره، والمتوتر الوجدان دائماً لفرط الانفعالية.
إن تراكم الأحزان في طوية العاطفي تجعله دائماً مثقلاً بالهموم ينوء بالأنكاد، منغلق على نفسه يميل إلى الوحدة والعزلة، كثير الخجل، خوالجه مشحونة مشغولة بما يجتره باستمرار من وقائع موجعة وأفكار أليمة وذكريات تحمل في مطاويها كل ما يجرح الشعور ويثير كامن الأشجان.
إن العاطفي يعيش في ذكرياته الوجيعة وأحلامه القاسية المنصرمة التي تنبض بالقلق في ضميره ومكنون سريرته بين الحين والحين، وبين الفينة والفينة، وهي تفتأ تكدر عليه حياته، وتنغص عليه أوقاته وتحرمه من المسرات، وتقطع عليه سبيل التسرية والتفريج.
إن العاطفي شديد التأذي، وهو على النقيض من العصبي.
وبينما نرى العصبي موصوف بحضور البديهة مع الاستجابة الفورية ـ نرى العاطفي يكبت الاستجابة ويكبح الرد الفوري ويلجم شعوره في أطواء ذاته وأعماق نفسه، لكنه لا يهدر هذه الإحساسات والمشاعر إنما تتراكم وتتعاظم في خوالجه، ودخائل ضميره ومكنون سريرته، ولكن هذا كله مرهون بظروف وملابسات مجهولة، إذ لا بد أنه سيأتي وقت لا حق معلوم تتفجر هذه الشحنات المتوهجة كالمتفجرات المدمرة إذا ما عيل الصبر وطال المدى على هذا التنامي المفزع والتكاثف المثير.
إن جراح العاطفي لا يبليها الزمان ولا يقدر على الفكاك من أسرها، فهي تتضيفه وتتحرك بعد فترة وأخرى محركة شجونة، ومثيرة لواعج أحزانه، فتكدر عليه صفو الحياة، فيضيق صدره ويغتم لمعاودتها كالحمى، وهي تنهش في خالجته وتكوي صدره، وتحرق وجدانه.
إذا كان العصبي مشهوراً بالعبث، فإن العاطفي مشهور بالحزن وأثقاله التي تثقله وينوء بها. وإذا كان العاطفي محتمياً بالعزلة عن الناس، لكونه شديد التأذي ضيق الحظيرة بهم، فإنه دائماً يحلل نفسه في الحوادث، ولا يحلل الحوادث في نفسه.
ثم إن كآبة العاطفي تحدو بكثير من العلماء إلى أن يسموها بالحداد الميتافيزيقي (****physic mourning)، وهي التي يكون فيها حدباً مشفقاً على بني جلدته من البشر.
وإذا كان الانفجار العاطفي لتكاثف المؤثرات النفسية في العقل الباطن ـ أمراً محتوماً غير مردود لتعاظم تأثير الانفعالية المكبوتة المقموعة بالترجيع البعيد، والترديد المناوب فإنه لا بد وأن يظهر في صورة أوجاع وأمراض عضوية حتمية كلون من التفريح وتفريغ الشحنات المضغوطة في قرار اللاشعور كالشلل الهستيري (hysterical hemiplegia) والعمى الهستيري (hysterical blindnes)،وغير ذلك مثل: الهستيريا التحولية (conversion hysterical)، والهستريا الانشقاقية (diversion hysterica).
يقول علماء الطباع: الغضبيون يندفعون إلى المستقبل، بينما العاطفيون يكتفون بالتشوف إليه، أما الدمويون فإنهم تقدميون، ولكن بعض العاطفين، بل كثيراً منهم، يقفون بطموحاتهم إلى حد التشوف، وليست لديهم الجسارة على العبور والتحدي والصمود إزاء المعوقات التي قد تعترض طريقهم، وهذا العجز الظاهر يضاعف من أوجاع العاطفي وأوصابه، وكثيراً ما يقع فريسة لأحلام اليقظة، وهو أكثر الطبائع تعرضاً لخطر الأمراض النفسية الخطيرة، مثل: الفصام (schizophrenia)، والهستريا (hysterica)، والتوتر العصبي (anxiety neuzosis) الخ.
لكن إذا كان الطبع العاطفي مستهدفاً من كثير من الأمراض والعواصف النفسية، إلا أن الأنبياء عليهم السلام جميعاً لهم قانون خاص غير بني جلدتهم من البشر لكونهم ( أي: الأنبياء ) محوطين منظورين من عين الله تعالى مكلوئين برعايته.
ونؤكد مجدداً منبهين إلى أن هؤلاء الأنبياء جميعاً مبشرون بالجنة، وأن أعذارهم ممهودة وذرائعهم مقبولة وشافعهم غير مردود.
سليمان والملك مع النبوة
كان سليمان بن داود، وأبوه، ويوسف بن يعقوب، هؤلاء الثلاثة كانوا ملوكاً وأنبياء، وقد أوتي كل منهم ما لم يؤت أحد من أنبياء الله من نعيم الدنيا ومتعتها، فنالوا خير الدين والدنيا معاً.
وقصة سليمان مع الهدهد التي ذكرها القرآن الكريم مشهورة، نعرفها جميعاً لكن حسبها أن تصور لنا الطبع المثالي(32)في أدق صورة وأعمق خصائصه ولطيف علائقه بالذات الإنسانية والطبع البشري.
يقول الله تعالى:)وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لاعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)([سورة النمل].
هذه القوة والصرامة والدقة والانضباط عند سليمان عليه السلام وسيطرته الكاملة على المملكة تبدي لنا طاقة جبارة وحرصاً بالغاً في تسيير دفة المملكة باتساق ونظام لا تتسع معه إلى مراوغة أو افتعال تبريرات للتخلف عن النظام العام والنسق المرسوم لديوان المملكة.
إن مملكة مديدة الأطراف واسعة الأفياء فيها العدد العديد والكثرة الكاثرة من الإنس والجن والطير، لا بد أن تكون في أشد الحاجة إلى حكم قوي مكين قوامه العدل والرأفة والشفقة على خلق الله، إذ إن الصرامة وقوة الحزم لا تمنع ولا يمكن أن تمنع من ترسيخ قواعد العدل والحق والحرية.
لقد كانت كل أمارات وملامح الرزانة والذكاء والقوة والنزاهة والعدالة متوفرة في أعلى مجاليها في شخصية سليمان. ولولا هذه القوة والضلاعة والثبات والعدل لما استطاع السيطرة على هذه المملكة ولا نفرط عقدها وتحللت علائقها.
إن الطبع الجموح والذي نراه أعلى الطباع، ويطيب لنا أن نستأذن علماء الطباع في تسميته بالطبع المثالي، يمتاز برقة الشعور لفرط الانفعالية مشفوعة بقوة في الفعالية مع الترجيع البعيد... إنه يتميز بحب العمل، وذلك مع الدقة والعزيمة والصبر والجلادة لتحقيق غاية منشودة. ولئن كان الغضبي محباً للفعل لذات الفعل، فإن المثالي يهتلك على الفعل لغايته أكثر منها لذاته... فضلاً عن تميز المثالي على الغضبي حيث إن المثالي منظم قوى الإدراك والاستيعاب شديد التركيز مع تميز الحس العملي وقوة الذاكرة.
يتميز المثالي أيضاً، بالقوة مع المثابرة وعدم الملل فهو لا يعرف اليأس، وهو شديد الحرص والحذر واليقظة والجلادة، مع عدم المبالاة بشهوة الجنس غير الشرعية مع البساطة والتواضع.
هذا النمط المثالي مشهود له بالحب والشفقة والتحنن على الآخرين، والعطف على من هم دونه من الضعفاء وأضرابهم، مع صلابته في التحدي والتصدي لنظراته وأقرانه ومن هم أقوى، والجموح لا يعرف الإعضال، أو الاستحالة إزاء همته العالية، وعزيمته القوية.
ثم إن العاطفة الدينية عند هذا النمط تكون عادة متوهجة مطرودة، وهم يهتمون بالتاريخ والمستقبل البعيد، من ثم نراهم يعدون العدة ويرسمون الخطط لمستقبلهم في دقة بالغة، وهم لذلك ليسوا مسوقين عشوائياً إلى مقاصدهم وغاياتهم عشوائياً بل إنهم يتشوفون إلى غوامض المستقبل بالحكمة والأناة، مع الفعل المنسق المرتب مع الالتزام بضوابط الأخلاق والقانون بلوائحه وقوانينه في إطار عزيمة خارقة تقتحم الصعاب وتجتاز المهالك بضراوة وشراسة وتصميم، لا يلوي على شيء، وتتصدى وتتحدى كل من يقف في طريقها ليعوقها عن الوصول إلى مبتغاها، مع الدقة والإتقان الذي هو قوام النجاح والبلوغ إلى الذروة المأمولة.
وإذا كان العصبي متفلتاً من التدين، ولا يكترث بقيم الدين ولا ضوابطه، ولا أخلاقياته، فإن تدين العاطفي هو الأميل إلى التصوف والفلسفة والفكر، لكن تدين الجموح هو للسيطرة على الزمان بدلاً من الانخراط فيه... وأما ما ينعاه الناعون على تدين العاطفي بأنه فوضوي لخطورة انزلاقه في كثير من الأحيان إلى التردد والشك والريبة وهذا ما يتنزه عنه الجموحين ومن على شاكلتهم.
لكن الطراز اللمفاوي عقلي التدين، ولا يخرج تدين الغضبي عن التصلب والتشدق بأصول العبادة مع جنوحه إلى الرقائق والمواعظ والإرشاد بالخطب الحماسية والصوت الجهوري.
أما الدمويون فإنهم يرون الدين وسيلة لابتزاز المشاعر، مع تسخيره لأعراضهم بافتعال تبريرات مصنوعة وذرائع مكذوبة.
إن المتهم أمام سليمان عليه السلام ـ الهدهد ـ وهو طائر لا حول له ولا قوة، لكن قوبل بحسم منقطع النظير، وشدة فائقة، حتى لا يكون التساهل والتهاون معه سبيلاً وطريقاً لتبرير الخروج على النظام والالتفاف حول القواعد الكلية بذرائع وتبريرات منحولة واختلافات مفتراة... لكن هذه الشدة لم تكن عنفاً محضاً ولا اعتسافاً في استعمال الحق، لكنها ممزوجة بالعدل الذي هو أساس الملك، ولا تقوم للحياة قائمة بدونه....
لما أن ذكر الهدهد لسليمان سبب تأخره وغيبته عن المملكة، تأمل سليمان بثاقب نظره، وبتؤدة حتى لا يجور على هذا الهدهد المتهم إنما ليعطيه الفرصة كاملة لتقديم مبرراته وتسويفاته.
ثم إن توعد سليمان بمحاسبة الهدهد شملت ثلاثة أحوال:
الأولى: العذاب الشديد، إذا كانت ذرائعه واهية أو ضعيفة.
الثانية: الذبح، إذا كان كاذباً على نبي الله سليمان، من ثم يكون التجاوز عنه في هذه الحالة ذريعة وفتحاً لباب شديد الحرج والخطورة على المملكة والتحلل من قواعد الانضباط فيها...
الثالثة: إخلاء سبيله وبراءته، إذا جاء بالدليل القاطع الذي تبرأ ذمته به، حيث يكون ثمة طارىء ملح وضرورة قهرية فرضت نفسها عليه.
وبعد أن حكى الهدهد المشهد الذي صدمه من بلقيس وقومها الذين يسجدون للشمس من دون الله، قال سليمان بنظره الحاذق الحكيم: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين )، ونلحظ هنا أنه لم يقل أصدقت أم كذبت؟ ولكنه أفرد الصدق مع ضمير المخاطب، وجمع الكذب، ليدلنا على ندرة الصدق وتفشي الكذب بين الكثرة الكاثرة من السواد الأعظم.
هذا الطبع المثالي لا بد أن يكون كذلك، قمة في العدل والتنزه عن أوضار الظلم، والتجرد من الهوى وسلطان النفس الذي يهدم دائماً ولا يبني أبداً.
كان آدم أبو الأنبياء، وأبو البشر أيضاً، مستهدفاً من إبليس اللعين الذي فشل في السيطرة عليه، فاخترق أوهى النقط في الأسرة الأولى على الأرض، فنفذ إليه من خلال حواء، وكان هذا مدخلاً خطيراً تسبب في عصيان آدم ربه وإخراجه وحواء من الجنة )فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا ........ (20)[الأعراف].(33)
وكلنا يعرف قصة ابني آدم )لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) ([المائدة].
ثم يقول: )إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) ([المائدة].(34)
وممن المواقف المثيرة ما ورد بشأن العتاب من الهدهد لسيدنا سليمان حيث قيل: إنه لما كان من أمر صدق الهدهد وسلامة موقفه وإخلاصه للتوحيد ـ قال لسليمان: كيف توعدتني يا نبي الله بالذبح لمجرد التغيب عن الحضور والتأخر عن المملكة إذا لم يكن هذا التغيب مشفوعاً بسلطان مبين؟!! ( وكان الهدهد توهم أنه الذبح المعروف بالمدية ( السكين )، وهو الذي تفزع وتفرق منه الطيور والحيوانات ).
ـ قال سليمان: كنت سأذبحك بغير سكين...
ـ كيف ذلك؟.
ـ بأن أضعك بين قوم لا يعرفون قدرك!!.
ـ إن هذا والله لأشنع وأبشع من الذبح..
إن الهدهد المؤمن لم يطق أن يرى قوماً يسجدون للشمس من دون الله، وهذا يقطع بيقينه وعمق رصيده الإيماني بالله الواحد الأحد الحقيق بالعبادة... ثم إنه عالم بأن وراء ضلالهم وغوايتهم الشيطان الذي غرر بهم وزين لهم أعمالهم فضللهم وصدهم عن السبيل، فهم لا يهتدون(35).
إن الطبع الجموح، وهو المسمى عندنا بالطبع المثالي، إنما هو أعلى الطباع شأناً وأعظمهم فطرة، وأقواهم جبلة من حيث إن صاحبه يملك أمره ويسيطر على جميع قواه النفسية والعصبية والحسية، فهو يملك زمام الأمور في يد واثقة ويقف على أرض صلبة من اليقين والثقة بالنفس، ومهما أوتي من قوة عارضة أو كثافة حد إلا أنه إذا عورض بدليل راجح لا يتورع أن يسلم به ويتخلى عن رأيه دون أدنى شعور بالغضاضة أو التردد أو التقاعس لسبب من الأسباب...
وهذه بلقيس التي كانت من قوم كافرين بشخصيتها وطبعها المثالي لأول وهلة قالت: )إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) (، ثم كان إسلامها مع الإقرار والاعتراف بالذنب: )قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) (.
هذه المرأة العملاقة الجسور(36)صدق فيها قول الشاعر:
ولو كانت النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال
طبع معاوية وشخصية عمرو بن العاص
في حوار خاطف سريع بين معاوية بن أبي سفيان وبين عمرو بن العاص نستطيع ـ من تحليل السياق والوقوف على المآتي والمصادر والحوافز النفسية والخوالج المطمورة في مطاوي السريرة ـ أن نستخلص الطبع والشخصية وإمكاناتها وأبعاد القدرات الخاصة، سيما الميتافيزيقية، وهي ما وراء الظواهر التي تلوح عن الخواطر والبوادر ولكن تكمن وراء أسجافها وستورها ألغاز وحوافز أو كوابح غامضة أو خفية محجوبة.
قال معاوية: ما بلغ من أمرك يا عمرو؟.
قال عمرو: يا أمير المؤمنين، ما دخلت في أمر إلا وخرجت منه...
قال معاوية: لكني ما دخلت في أمر، وأردت الخروج منه.
ونقول: إن شخصية عمرو بن العاص تلوح ركائزها وعمق جذورها الراسخة المكينة من خلال هذه الفقرة المحدودة، إذ إن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، على ما ذكر علماء النحو.
وقوله: ( ما دخلت ) نفي.
وقوله: ( أمر ) نكرة، وهذه النكرة المسوقة في إطار النفي أفادت العموم لأجل ذلك، ومفاد هذا: أنه في أي أمر ( على العموم والإطلاق) مهما كان شأنه ما دخل فيه عمرو بن العاص إلا وخرج منه. وهذا يدل على قوة العارضة والثقة الفارطة بالنفس. وحدة الذكاء، وحضور البديهة واليقظة التامة، كلها من مقومات تلك الشخصية التي لا تبالي أي الأمور تنخرط في أتونها، فهي مستعدة لاستدعاء كل طاقتها وكوامن قدراتها للخروج من المآزق المتوقعة والمروق من الكوارث والإفلات الخاطف من أية نازلة أو نائبة في أي وقت في أي مكان وفي أي زمان: وكذلك كان عمرو بن العاص حقاً، وبذلك طارت شهرته في الآفاق كأحد دهاة العرب...
أما معاوية رضي الله عنه فكان من الطبع اللمفاوي، الذي يتروى ويستشير، ويستأنس بآراء المقربين منه وغير المقربين من أهل الرأي الموثوق بهم... فهو إذا دخل في أمر ( لا يريد ) الخروج منه لأنه اختاره بإرادته الحرة الواعية، ولا يتم ذلك إلا بعد مشاورة واستئناس ودراسة وتقويم لكل الأخطار المتوقعة واستحضار كل البدائل والممكنات... ومن ثم يكون مطمئناً نماماً لأن هذا الاختيار هو أفضل وأنسب اختيار ولا يسد مسده أو ينوب عنه اختيار آخر... من ثم، فلا موجب ولا مدعاة للتفكير في إرادة الخروج منه بعد دراسة الجدوى بجدية وتقويم.
كلا الرجلين له طبعه وله شخصيته، وكلاهما واجه التاريخ بصفحة حافلة من الأحداث الجسام التي تتآزر جميعها على التأكيد على ما ذهبنا إليه من تحليل طباعي لكلا العملاقين من الصحابة... فرضي الله عنهم أجمعين.
[1] – توضح الآيات قوة موسى وشدة غضبه الذي تمثل في ثورة عارمة إذ أخذ بلحية أخيه ورأسه.
[2] – راجع ما حرره العلماء في تفسير القرطبي وروح المعاني للإمام الألوسي 9/66 ـ 68 .
[3] – راجع القرطبي والطبري والكشاف للزمخشري.
[4] – قال ابن عباس: لما رجع موسى من المناجاة غضبان لعبادة قومه العجل أعجلتم أمر ربكم بانتظار موسى حتى يرجع من الطور وألقى الألواح وهي ألواح التوراة من شدة الضجر والغضب ألقى الألواح وأخذ بشعر رأس أخيه هارون ولحيته ويجره إليه ظناً منه أنه قصر في كفهم عن ذلك. راجع تفسير الطبري 13/123 وروح المعاني 9/66 وما بعدها.
[5] – يلاحظ قوة غضب موسى ووهن هارون وضعفه وتوسله واستشفاعه لأخيه بالرحم الماسة الميلولة ليكف عنه.
[6] – ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح.
[7] – على ما ورد في لسان العرب لابن منظور 7/273 ، 274 وما بعدها، وهو منقول عن القرطبي أيضاً في تفسيره 13/ 260، 261 .
[8] – وهذا مؤدى قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً 17 [النساء]. راجع ما قاله الفخر الرازي في التفسير الكبير 9/ 235 .
[9] – قال الإمام الطبري 20/31 وابن عباس: أو أن يبطش بالقبطي الفرعوني فظن الإسرائيلي الذي هو من شيعته أنه يريده. ولكن ورد عن الحسن أن الصارخ المستغيث هنا هو القبطي. تفسير القرطبي 13/265 ، ولكن المختار عند الطبري أولى.
[10] – وإلا فكيف نفسر قول موسى للإسرائيلي: إنك لغوي مبين ، ويقر بهذا تصريحاً وتأكيداً، ثم يريد أن يبطش بعدوه مع كل هذا؟؟!!.
[11] – هوى: هلك، وقيل: شقى. وقيل: هوى: أي: سقط من قصر في جهنم، يهوي الكافر من أعلاه في جهنم أربعين خريفاً. راجع تفسير ابن كثير 3/161 .
[12] – راجع التفسير الكبير للرازي 22/214، والقرطبي 11/329، وجامع البيان للطبي 17/61. وقال الرازي 2 /15: دخل ابن عباس على معاوية، فقال له معاوية: يظن نبي الله يونس أن لن يقدر الله عليه؟! قال ابن عباس: هذا من القدر لا من القدرة هـ . بتصرف.
[13] – التفسير 4 /118.
[14] – حاشية الصاوي على الجلالين 4/40 وانظر الزمخشري في الكشاف 3/472 وفيه: لا يقول الغضب أحلام.
[15] – داحضة بمعنى مدحوضة فاعلة بمعنى مفعولة، مثل دافق بمعنى مدفوق، وراضية بمعنى مرضية وساتر بمعنى مستور . وقال ابن كثير: وفيه غضب منه، وعذاب شديد يوم القيامة، التفسير 4/110. وقال ابن عباس: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام ومحاجتهم بالباطل. البحر المحيط 7/513.
[16] – في السنن 1/67 و2/435.
[17] – 2/79.
[18] – 190/223.
[19] – الترمذي.
[20] – المسند 2/242.
[21] – قال المفسرون: وهذه الكلمة هي المشار إليها في قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى 129 [طه].
[22] – أخرجه أبو داود في السنن 5/141/4748 وأحمد في المسند 4/226. فالغضب من الشيطان، والشيطان من نار، والماء يطفىء النار.
[23] – الترمذي 3450 عن ابن عمر.
[24] – مسند الإمام أحمد 1/239.
[25] – أخرجه البخاري 8/52/6114 ومسلم 2609 وأبو داود وأفمام أحمد في المسند 1/382 و2/236 و268 و517.
[26] – أخرجه البخاري 8/53/6116.
[27] – وهذه إشارة ضمنية إلى أن الطبع الغضبي لا يتغير ولا يتأتى لذلك النهي عنه، لذلك فهو أمر طبيعي لا يزول من الجبلة.
[28] – راجع فيض القدير للمناوي 3/462، وكشف الخفاء للإمام العجلوني 1/353/1120 والسخاوي في المقاصد الحسن 303/397، والطبراني في معجمه 3/88.
[29] – سورة القصص، من الآية 38. هذا هو قمة الجهل والتردي في حمأة النرجسية والتشوه.
[30] – وهو بذلك يجحد فضل الله تعالى عليه ويتملكه الغرور ويستولي عليه البطر والغطرسة.
[31] – كظيم: كاظم، وهو الممسك على حزنه، لا يظهره ولا يشكوه. وقيل: هو المملوء كمداً وغيظاً ولكنه يكتمه في نفسه.
قال الألوسي: الأسف أشد الحزن على ما فات. روح المعاني 13/39 ـ 41. وقال الرازي في الكبير 18/93: الحزن الجديد يقوي الحزن القديم. وقد قال الشاعر القديم:
فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي:
فإن يك البين يا ابن الطلح فرقنا إن المصائف يجمعن المصائب
وفي روح المعاني 13/39:
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع.
[32] – هذا النمط هو الجموح bogty temperment، وذلك باصطلاح علماء الطباع، ولكن لاشتراك لفظ الجموح مع المعنى اللغوي الذي مفاده السرعة والاندفاع، ولذلك رأى السيد الجميلي أن يسميه عند الأنبياء وغيرهم بالطبع المثالي.
[33] – وكانت النتيجة: أن عصى الإثنان ربهما وأكلا من الشجرة. قال تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ 22 [الأعراف].
[34] – تأمل قوله: لئن بسطت إلي ، حكاية عن قابيل، ويرد عليه هابيل: ما أنا بباسط يدي... والفرق البلاغي ظاهر الوضوح. قال العلماء: إثمي: إثم قتلي، وإثمك: لعدم صبرك علي. قال الزمخشري: كان هابيل أقوى من قابيل القاتل، لكنه تحرج من قتله خوفاً من الله الكشاف 1/485. وقال أبو حيان: أراد أن يقتل مظلوماً لا ظالماً من البحر. المحيط 3/463.
[35] – راجع التفسير الكبير للإمام الرازي 24/190 وما بعدها، وانظر ما قاله ابن عباس عن بلقيس: قالت لقومها: إن قبل سليمان الهدية فقاتلوه، فهو ملك يريد الدنيا، وإن رفضها فهو نبي صادق فاتبعوه ابن كثير في مختصره 2/671 وتفسيره 3/361. وقال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها بتصرف من القرطبي 13/194.
[36] – وقد بسط الإمام الألوسي قصة توليها المملكة وتنصيبها ملكة، وذكر أيضاً ـ كما نقل عن آخرين ـ أن أمها كانت جنية راجع روح المعاني 19/188 بتصرف .
  #183  
قديم 05-04-2008, 08:40 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

مَنْ عَلَّم آدم

د / حسين رضوان اللبيدي(1)
لقد دأب أعداء الإسلام على مهاجمته من خلال التشكيك في لغة الوحي، وقد ذكر ذلك في القرآن الكريم وها هم يعاودون الكرة، ولكن في هذه المرة من خلال عملاء لهم من المنتسبين إلى الإسلام، فظهرت فتنة الشعر الجاهلي وفتنة الآيات الشيطانية ومفهوم النص يريدون بها أن يوحوا لعقول البسطاء غير الراسخين في العلم بأن لغة القرآن أو منطوقهقابل للتغير في الزمان والمكان، بل قابل للنقض والإبرام كما هو في أي نص أدبي من إنتاج البشر، حتى يخرجوا النص القرآني من جانب الوحي الإلهي إلى جانب الوضع الإنساني، بمعنى أن يجعلوه كلام بشر، ولكن هيهات لهم أن ينجحوا في ذلك، لأن الحق سبحانه وتعالى جعل في كتابه آيات وفي كونه آيات، وجعل العقل دليلاً يستطيع أن يصل إلى الحق والحقيقة وهذا العلم دليلٌ على ذلك، وهذا البحث يحتاج إلى إمعان فكر لأنه بلغة علمية رصينة ونتيجة أبحاث علمية متينة.
ولأن الكمال لله والعجز من شيمة البشر، فإني أعتذر للقارئ المفكر من قصور قد يجده في سياق البحث ولكن ليكن هذا البحث بداية أعمالعلمية موسعةتشترك فيه مجموع من العقول الباحثة عن الحقيقة المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الحق بالفكر والعلم ومن تعصب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
خلق أعداء الوحي (القرآن) أفكاراً جديدة تتمثل في اتجاهين:
1) ـ اتجاه يشكك في الإسناد المتمثل في الشعر الجاهلي كمرجع للبيان العالي وللإعجاز البياني، ويقولون إن الشعر الموجود في بداية نزول الوحي شعر مزيف منسوب للشعر الجاهلي، وهم يريدون بذلك أن يهدموا المرجع للإعجاز البياني في اعتقادهم، وإذا هدموا المرجع هدموا إعجاز النص المرسل بالوحي في اعتقادهم.
2) ـ اتجاه آخر يقول بأن النص المرسل من جنس البشر ولغة البشر اصطلاحية بشرية أو تطورية نشأت بالصدقة ثم بالاصطلاح البشري البحت يريدون أن يقولوا أن النص المرسل قابل للتغير في الزمان والمكان، ومدلولاته قد تعطي مفاهيم في زمان غير الذي تعطيه في زمان آخر، وهذه الفرية تهدم الإعجاز والثبات والعالمية للنص المرسل بالوحي. (ملحوظة: المقصود بالنص المرسل بالوحي هنا القرآن الكريم المعجزة الخالدة)، ومع اشتراك أصحاب هذه الاتجاهات في هدف واحد وهو الإيحاء ببشرية النص ولأنه بشري فهو قابل للنقض والإبرام والتغير في الزمان والمكان. ومع ذلك فوسيلة الوصول إلى ذلك الاتجاه الأول تختلف بل تتناقض مع وسيلة الاتجاه الثاني.
فالاتجاه الأول يعتبر أن اللغة وصلت إلى قمة مجدهاوبيانها عند نقطة معينة، وبعدها حدث الانهيار والضعف، وعند هذه النقطة يكون الإسناد والقياس والمرجعية، ولأن هذه النقطة مفقودة فالإسناد ضعيف.
والاتجاه الثاني يقول العكس بأنه لا إسناد ولا قمة بل اللغة تتطور إلى الأصلح دائماً وأبداً، فهي مع الإنسان في حركته في الزمان والمكان، وما كان مبيناً معجزاً في وقت لهو غير ذلك في وقت آخر، بل قد تختلف الدلالة بالكلية من زمان إلى زمان بل ومن مكان إلى مكان.
ولأن هذه القضايا من تلبيس إبليس فإن الرد العلمي هو خير وسيلة لمنع الآثار المدمرة لهذه الفتن الشيطانية، فهيا بنا مع العقل والعلم مع الفكر الهادئ لنصل إلى الحقيقة بإذن الله.
العقل هو أداة التكليف وهو ميزة بشرية عالية، وهو لطيفة ربانية ميزت جنس الإنسان عن بقية المخلوقات، وهو موجود غير محسوس، وهو مدرك بآثاره الواضحة، والتي منها الفرق بين من له عقل ومن لا عقل له، وحتى هذا الفرق لا يدرك إلا به، وهو اللطيفة التي بها يفهم الحس ويتوصل به إلى نتائج ذات معنى من مقدمات متعددة، وهو المقباسالمخترع المبدع وهو هبة من الله للإنسان تكليفاً وفي غيابه يسقط التكليف وبه يتمايز المكلفون. ولكي تتواصل العقول كان لا بد من لغة فيها بيان من خلالهاتتلاقح الأفكار لتولد المعاني، والمعاني الجديدة ومن خلاله تتواصل المعاني الداخلية من فرد إلى فرد، ومن أمة إلى أمة وبقدر العقول تكون درجة ذلك البيان، وهذه اللغة وذلك البيان علم والعلم يحتاج إلى معلم فمن علم الإنسان؟ الإجابة أبواه وأساتذته وبتسلسل القضية حتى آدم يسأل العقل من علم آدم؟ وتسمع الإجابة من رب آدم:)وعلم آدم الأسماء كلها .. ([الآية 31 سورة البقرة].
ومن هنا بدأت قضية اللغة: أتوفيقية هي أم اصطلاحية؟ بمعنى هل هي إلهام من الله أم من تواضع البشر؟ ولهذه القضية تاريخ طويل فهيا بنا في رحلة مع القضية عبر الزمان.
نشأة اللغة:
هناك أربع نظريات في نشأة اللغة هي:
(النظرية الأولى)إلهام إلهي هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء وذهب إلى هذا الرأي:
أ ـ في العصور القديمة:الفيلسوف اليوناني هيراكليت، ب ـ في العصور الوسطى: ابن فارس، ج ـ في العصور الحديثة: الأب لامي والفيلسوف دوبونالد. قال ابن فارس(2).
أقول: إن لغة العرب توفيق ودليل ذلك قوله تعالى: )وعلم آدم الأسماء كلها (فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشياء ذلك من الأمم وغيرها. وعن مجاهد قال: علمه اسم كل شيء، وقال غيرهما: إنما علمه أسماء الملائكة، وقال آخرون: علمه أسماء ذريته أجمعين. فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحسام إلى غير ذلك من أوصافه أنه توفيق حتى لا يكون شيء منه مصطلحاً عليه؟ قيل له: كذلك نقول، والدليل على صحة ما نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأشعارهم، ولو كانت اللغة، واضعة واصطلاحاً لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منا في الاحتجاج لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.
ولعل ظاناً يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد. وليس الأمر كذلك بل وفق الله جل وعز آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشرت من ذلك إلى ما شاء الله، ثم علم بعد أدم عليه السلام من عرب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً ما شاء أن يعلمه، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فآتاه الله عز وجل من ذلك ما لم يؤت أحداً قبله، تماماً على ما أحسنه من اللغة المتقدمة، ثم قر الأمر قراه فلا نعلم لغة من بعده حدثت. فإن أخطأ أحد في اللغةوجد من نقاد العلم من ينقيه ويرده.
ونقطةأخرى أنه لم يبلغنا أن قوماً من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه، فكنا نستدل بذلك على اصطلاح كان قبلهم. وقد كان من الصحابة رضي الله عنهم ـ وهم البلغاء والفصحاء ـ من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناه اصطلحوا على اختراع لغة أو أحداث لفظة لم تتقدمهم.
ومعلوم أن حوادث العالم لم تنقضيإلا بانقضائه ولا تزول إلا بزواله وفي ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه من هذا الباب. ورد ابن جني على النظرية بتأويل الآية )وعلم آدم الأسماء .. (بأنها قد تحتمل أن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ.
وفي العهد القديم، سفر التكوين: ( الله خلق من الطين حيوانات الحقول وجميع طيور السماء ثم عرضها على آدم ليري كيف يسميها وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه لها الإنسان، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول ..). ويقول الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد: أن ككل هؤلاء يقررون بأن اللغة التوفيقية إلهامية ولكن أصحاب هذه النظرية لا يكادون يقدمون بين يدي مذهبهم دليلاً يعتد به. وأما أدلتهم النقلية فبعضها يحتمل التأويل وبعضها يكاد يكون دليلاً عليهم لا لهم.
النظرية الثانية:
تقول بأن اللغة اصطلاحية حدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالاً ومن أهم من تكلموا عنها ابن جني(3)يقول: (هذا موضع محرج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تراضه واصطلاح لا وحي (وتوقيف) ويشرح رحمه الله ذلك بقوله: وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظاً ثم يقول رحمه الله: (أن كل اللغات تجري على هذا المنوال ثم يتولد منها لغات كثيرة، ولكن لا بد لأولها أن يكون متواضعاً عليه بالمشاهدة والإيماء).
وقال أصحاب هذا الرأي: إن القدير سبحانه لا يجوز أن يوصف بأنه يواضع أحداً من عبادة على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد لها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه، والمشار نحوه، والقدير سبحانه لا جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه.
ثم قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا، والذي كنتم تسمونه كذا ينبغي أن تسموه كذا، وجواز هذا منه ـ سبحانه ـ كجوازه من عباده.
ويعلق ابن جني رحمه الله قائلاً: إلا أنني سألت يوماً بعض أهله، فقلت: ما تنكر أن تصح المواضع من الله تعالى؟ وإن لم يكن ذا جارحة، بأن يحدث في جسم من الأجسام، خشية أو غيرها، إقبالاً على شخص من الأشخاص، وتحريكاً لها نحوه، ويسمح في نفس تحريك الخشية نحو ذلك الشخص صوتاً يضعه اسماًله، ويعيد حركة تلك الخشية نحو ذلك الشخص دفقات، فتقوم الخشية في هذا الإيماء، وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في الواضعة ثم يعقب قوله: وأعلم فيما بعد، أنني علم تقادم الوقت، دائم التغير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التاذب لي، مختلفة جهات التقول على فكري، وذلك بأنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك على جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل فقوي في نفسي اعتقاد كونها توفيقاًمن الله سبحانه وأنها وحي، ثم أقول في ضد هذا. كما وقع لأصحابنا ولنا تنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى خلق من قبلنا ـ وإن بعد مداه عنا ـ من كان ألطف منا أذهاناً وأسرع خواطر، وأجرأ جفاناً فأقف بين هاتينالخلتين حسيراً، وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتينويكفها عن صاحبتها قلنا به، وبالله التوفيق.
وهكذا انتهى بحث ابن جني عن نشأة اللغة أو الكلام البشري بالحيرة والتردد وعدم الجذم وهذا إحساس صادق لعالم كبير كما سترى في سياق البحث.
ويعلق الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد وافي في كتابه(4)بقوله: وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي، بل إن ما تقره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً، بل تتكون بالتدرج من تلقاء نفسها.
هذا ولأن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل.
النظرية الثالثة:
تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني، وإن هذه الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي أو معقول بكلمة خاصة به كما أن غريزة التعبير الطبيعي عن الانفعالات تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة (الضحك، البكاء تغيرات الأسارير المختلفة ..) وأن هذه التغيرات الغريزية عامل مشترك من البداية لجنس الإنسان . وأنه يعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم يستخدم الإنسان هذه الغريزة فأخذت تنقرض شيئاً فشيئاً حتى تلاشت.
ولقد وجد العالم الألماني (مكس مولر) أن اللغات الهندية الأوربية وهي إحدى اللغات الثلاث التي يرجع إليها اللغات الإنسانية لها مفردات لا تتجاوز 500 خمس مئة أصل مشترك وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشقت منها هذه الفصيلة، وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معاني كلية، وأنه لاتشابه مطلقاً بين أصواتها وما تدل عليه من فعل أو حالة ففي دلالتها على معاني كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق لماذا؟.
الإجابة: (1)لأن التواضع يتوقف على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون، وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية، لأن المفروض أن المتواضع عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة ولا يعقل أن تكون لغة الإشارة لأننا
بصدد ألفاظ تدل على معاني كلية أي على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها.
(2) لأن التواضع فيه تحديد للمعاني وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصوات الطبيعة (أصوات التغيير الطبيعي عن الانفعالات وأصوات الحيوانات والأشياء . لماذا ؟.
والجواب:لأن الأصوات الطبيعية محدودة ولو كانت هي التي تشمل أصول اللغة الأولى لوجدنا تشابها ظاهراً بين أصواتها.
ويبني نقد النظرية على ما يأتي:
إن هذه النظرية تعتمد من البداية على أساس واه لأنها جعلت بداية اللغة أصولاً مشتركة تدل على معاني كلية، ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية لا يتحور وجود مثلها من البداية البسيطة بل إن هناك عملية استقراء لقبائل بداية بينت أن اللغة البدائية لهم بعيدة كل البعد عن الكليات وقريبة من المعاني المحدودة (5).
النظرية الرابعة:
تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية (أصوات مظاهر الطبيعة وأصوات الحيوانات وأصوات الأفعال، كصوت الضرب والقطع وغير ذلك، وسارت في سبيل الرقي شيئاً فشيئاً تبعاً لارتفاع العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة وتعدد حاجات الإنسان.
وبحسب هذه النظرية، يكون الإنسان قد افتتح هذه السبل بمحاكاة أصوات الطبيعة والمؤثرات الناتجة من الأفعال كصوت الريح وخرير الماء وحفيف الشجر وصوت سقوط الصخور وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدد عنه الصوت المحاكى أو عما يلازمه أو يصاحبه من حالات وشؤون، واستخدام في هذه المحاكاة ما زود به من قدرة على لفظ الأصوات المركبة ذات المقاطع.
وكانت لغته في بادئ الأمر محدودة الألفاظ الطبيعية التي أخذت عنه قاصرة عن الدلالة على المقصود، ثم اتسعت وتطورت .... وبعد أن استعرض الأستاذ الدكتور / علي عبد الواحد وافي هذه النظرية في كتابه(6) استطرد قائلاً: وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة وأقربها إلى المعقول، وأكثرها اتفاقاً مع طبيعة الأمور وسنن النشوء والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة والنظم الاجتماعية. ثم يقول: ولم يقم أي دليل يقيني على صحتها، ولكن لم يقم أي دليل يقيني على خطئها، وكل ما يذكر لتأبدها لا يقطع بصحتها.
ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في كثير من وجودها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل ـ فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية فيحاكي الصوت قاصداً التعبير عن مصدره أو ما يتصل به ومن المقرر أن المراحل التي يجتازها الطفل في نظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر.
ومن أدلتها كذلك أن ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يتفق مع ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم البدائية، ففي هذه اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها ما تدل عليه ولنقص هذه اللغات وسذاجتها وإبهامها وعدم كفايتها للتعبير، لا يجد المتكلمون مناصاً من الاستعانة بالإشارة اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم لتكملة ما يفتقر إلي من عناصر وما يعوذه من دلالة ومن المقرر أن هذه الأمم لبعدها عن تيارات الحضارة وعزلتها، تمثل إلى حد كبير النظم الإنسانية في عهودها الأولى.
بعد هذه الجولة مع نظريات نشأة اللغة نلاحظ أن النظرية الثانية والثالثة قد اعتمدتاعلى حجج واهية أو ملفقة أصبحت بمثابة معاول هدم لهما، وبقيت النظرية الأولى وهي التوفيقية الإلهامية والنظرية الرابعة وهي التطورية (من بداية محاكاة أصوات الطبيعة إلى اللغة الإنسانية الراقية) بقيتا بغير مرجع يقيني في رأي علماء اللغة.
فهل اللغة إلهامية (توفيقية) أم تطورية طبيعية؟ هذا السؤال عجز علماء اللغة حتى الآن عن الإجابة عليه فهل هناك بصيص أمل خطأنا إلى الوصول إلى إجابة عليه قاطعة لهذا السؤال المعلق؟.
أقول، وبالله التوفيق: نعم ... كيف؟ هناك ظواهر علمية تجلت للعلماء حديثاً يمكنها أن تجيب يقيناً على هذا السؤال الهام وهي كالآتي: لاحظ العالم (دافيد هيوبل) والعالم (وسل) وهم من علماء جامعة " هارفارد " أن الأطفال الذين يولدون لعتامة عدسة العين يصابون بمعمى دائم وإن لم تعالج العتامة مبكراً وقبل مرور زمن محدد بعده تصبح العين عمياء حتى لو تم إزالة العتامة(7).
وفتحت هذه الملاحظات الهامة الباب على مصارعه لأبحاث نمو (الممر العصبي البصري) من العين وحتى القشرة البصرية بمناطقها المختلفة، واستخدام العلماء القطط والقرود في كشفي أسرار لم تكن معروفة وذلك بخياطة عيون القطط وغيرها في فترات مبكرة ومتأخرة وملاحظة هندسة الممر البصري حتى داخل القشرة الابصارية، وكانت خلاصة هذه الأبحاث الهامة، أن الممرات الحسية كممر السمع والبصر ومراكزها داخل المخ (مراكز السمع والبصر) يتم بناؤه على العموم وفقاً لخطة جينيةمسبقة لكن الارتباطات الداخلية اللازمة لأداء وظائفها على أكمل وجه يلزمه التقاء المؤثرات الحسية الخارجية ـ كالأصوات والصور مثلاً ـ بالمستقبلات الحسية كالعين والأذن حتى يتم استكمال النظام الهندسي داخل مركز الحس في المخ واللازمة لعمل تلك المراكز ولا بد أن يتم هذا الالتقاء في فترة محددة بمعنى أنه لو لم يتم هذا التزاوج بين المؤثرات الحسية الخارجية (الكونية) وبين مراكز الحس في الفترة المحددة المبكرة فإن نمو المراكز سيكون، مشوهاً أو معوقاً مدى الحياة ويترتب على ذلك إعاقة أو ضمور أو تشويه تلك المراكز المحورية فلقد لاحظ العلماء أن خياطة أعين القطط مبكراً في الفترة الحرجة ثم فتحها بعد ذلك يؤدي إلى حدوث عمى نهائي لهذه القطط بينما خياطة أعينها ثم فتحها، بعد هذه الفترة الحرجة لا يؤدي إلى عمى دائم ويعود الإبصار إليها كما كان. (الفترة الحرجة في القطط هي الشهور القليلة بعد الولادة). وفي جامعة " كارل ماركس " قام العالم (دينماربيسولد) والعلم (فولكوبيجل) بتأكيدها ذلك. وخلاصة هذه الأبحاث الرائعة يمكن تلخيصها كما جاء في مجلة العلوم الأمريكية (8) فيما يأتي:


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــع
  #184  
قديم 05-04-2008, 08:47 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .. مَنْ عَلَّم آدم

وجد العلماء أن الهريرات (القطط) التي أغلقت إحدى عينها خياطة خلال الأشهر القليلة الأولى من ولادتها تقل لديها، بشكل ملحوظ، نسبة الخلايا العصبية الموجودة في المنطقة 17 في القشرة المخية المستجيبة لتنبيه العين المغلقة وبقيت كذلك حتى بعد فتح عينها أما العين التي بقيت مفتوحة فإن المراركز الخاصة بها في المخ نمت نمواً طبيعياً، ويلاحظ العلماء أن العطب بقي ملازماً للقط حتى آخر عمره أي بقيت هذه العين عمياء حتى آخر عمر القط.
ويعتمد التأثير بشكل حاسم على توقيت الحرمان ولقد وجد (هوبل ويزل) أن الحرمان الأحادي العين أثناء البلوغ لم يغير من عضويةالمنطقة 17 فبقيت سليمة هذه الفترة بالفترة الحرجة. وكل الأبحاث النفسية أكدت أهمية المناغاة للطفل في مراحله المبكرة حتى تستقيم لغته وبيانه بل أظهرت حالات الحرمان الحسي والحركي، أو الحركة في الأطفال المبسترين والذي ربوا في ملاجئ معزولة قاحلة أظهرت تخلفاً حركياً ولغوياً وكذلك تأخر في النمو العقلي ولقد لاحظ عالم النفس (سيلز) أن الحيوان إذا استمر فترة طويلة (بعد الفترة الحرجة) فإن التخلف سيكور غير قابل للتحسن.
وأثبتت الدراسة التي قام بها العالم النفسي (واين دينيس) في أحد الملاجئ اللبنانية أن الحرمان الحركي المبكر للأطفال يؤدي إلى تخلف عقلي غير قابل للإصلاح (نهائي) إذا استمر الحرمان لفترة ما بعد الفترة الحركة التي قدرها سنتين وأكثر (بعد التقديرات).
ولأن اللغة والبيان تتأثر بنمو المخ الطبيعي من ناحية والنمو العقلي السوي من ناحية أخرى فإن علماء اللغة انتبهوا إلى هذه الظواهر العلمية وسخروها لأبحاثهم ليكشفوا بعض أسرار البيان البشري ـ فلماذا وجد العلماء، لقد وجدوا ما يأتي:
1) ـ أن الأطفال يخرجون من بطون أمهاتهم وهم مجهزون بآليات إدراك فطرية، وأنها مهيأة وإلى حدٍ كبير للتكيف مع خصائص لغة البشر التي تعدهم لعالم اللغة التي سيواجهونه مستقبلاً.
2) ـ إن هذه الآليات عامة بمعنى أنها تتعامل مع ذبذبات (ترددات صوتية) تشترك فيها جميع لغات البشر لتشكل هذه الترددات أرضية مشتركة للغات البشرية المختلفة.
3) ـ أن استقبال الطفل للغة مبكراً يبدأ بالتقاط تلك الذبذبات (الترددات) البشرية العامة وتنميتها ثم تبدأ بعد ذلك الخصصة من خلال تعامل الطفل للوسط اللغوي الذي يعيش فيه بالتركيز على لغة خاصة وتنمية ذبذبة أو ذبذبات معينة مع كمون أو ضمور الأخرى التي لم تنس(9).
بعد هذه الجولة مع تلك الحقائق العلمية يمكن أن نصل إلى النتائج التالية:
أ ـ أن مخ الطفل حديث الولادة يحتوي على مراكز للسمع والبصر جاهزة للاستخدام ولكن تحتاج إلى استكمال وظيفي يتمثل في اتصال خلاياها وفقاً لخطة وهدف محدد بمحكمة.
ب ـ أنه لكي تنمو المراكز وغيرها نمواُ سليماً يحقق وظائفها على أكمل وجه، فإنه لا بد لهذه المراكز أن تتلقى سيلاً من التنبيهات العصبية الناتجة من تأثير الأصوات والصور الخارجية على مستقبلات السمع والبصر ولا بد أن يكون هذا التلقي مبكراً في فترة حرجة وإذ لم يتم ذلك أو أعيق في تلك الفترة المبكرة فإن تعطيلاً كلياً أو جزئياً سيصيب تلك المراكز وفقاً لدرجة الإعاقة ويكون هذا الخلل نهائياً ومستديماً.
ج ـ ولأن مركز اللغة في مخ الإنسان هو المنطقة التي يصب فيها مركز السمع ومركز البصر بل إن امتدادات مركز السمع إلى الخلف ومركز البصر إلى الإمام تشكل منطقة فهم البيان وإنتاجه في المخ البشري، ولذلك فإن أي تعطيل أو تعويق لهذه المراكز يعني بالتالي تعطيل أو تعويق في إنتاج اللغة والبيان البشري.
د ـ إن جهاز اللغة أو مركز البيان في المخ البشري يحتاج لتنشيطه إلى ترددات (ذبابات) من جنس الذبابات الخاصة بالنطق البشري، ولا بد لهذه الذبذبات البشري أن تلتقي بمراكزها الحسية في المخ في فترة مبكرة ومحددة بعد الولادة وإلا لحدث تعطل كلي أو جزئي ومستقيم لملكة البيان البشري بل وقد يمتنع إنتاج اللغة المنطوقة من البداية.
وهذه الظواهر البيولوجية والفسيولوجية المؤكدة عليها تسقط النظرية التطويرةللغة وهي النظرية الرابعة وتراجع النظرية التوفيقيةأو الإلهامية للغة وهي النظرية الأولى " لأن النظرية التطويرةتعتمد على أن الإنسان من البداية كان لا يسمع إلا الأصوات الطبيعية ومعنى ذلك أن مركزا السمع والنطق في مخه ستبنىوفقاً لهذه الذبذبات (الأصوات) وسيكون هذا البناء نهائياً وعلى ذلك فستكون تلك الأصوات الطبيعية هي منطوق آدم التي سيقوم بتعليمها لأبنائه وبذلك لن تكون هناك فرصة لظهور البيان البشري المعروف. وبذلك يمكن للنظرية الأولى أن ترتفع إلى حد اليقين العلمي، وإن آدم عليه السلام لا بد وأن يكون قد تلقى تعليماً لغوياً من جنس ذبذبات اللغة البشرية مبكراً ثم استمر التلقين بعد ذلك.
وبمعنى آخر، يمكن أن نقول: أن الطفل لا بد لكي يكون ناطقاً أن يتلقى تعليمه مبكراً من أبويه، وأبواه ممن سبقهم وتسلسل إلى آدم فيكون السؤال المنطقي ـ من علم آدم؟ فلا نجد إجابة علمية يقينية إلا: )وعلم آدم الأسماء كلها (.فهيا بنا مع معجزة الوجود مع كتاب الله الخالد الوحيد الباقي المحفوظ ... به الجميع وليكون دستوراً للعالمين لمن شاء منهم أن يستقيم. هنا بنا مع القرآن الكريم لنرى كيف عرض الحق قضية تعليم الإنسان من لدن آدم.
)وعلم آدم الأسماء كلها (
جاء في الطبري: ما هي الأسماء التي علمها سبحانه لآدم؟.
هناك آراء في ذلك منها:
(1) أسماء المخلوقات التي تحبط بالإنسان. (2) أسماء كل شيء.
(3) أسماء الملائكة. (4) أسماء ذريته.
ورجع الطبري (3 + 4) مستنداً على (ثم عرضهم). وفي روح المعاني للألوسي جاء في شرح هذه الآية:
الأسماء جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلاً برفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال واستعمل عرفاً في الموضوع لمعنى مفرداً كان أو مركباً أو خبراً أو رابطة بينما وكلا المعنيين محتمل، والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيباً خبرياً أو إنشائياً يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية وقال الإمام:والمراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها لأنها علامات دالة على ماهياتها فجاز أن يعبر عنها بالأسماء، وقيل المراد بها أسماء ما كان وما سيكون وقبل اللغات وقبل أسماء الملائكة وقبل أسمائه تعالى ـ ثم يعلق الألوسي بقوله: والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية. ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتباره دلالتها عليه وظهوره فيها غير متقيد بها.
(كيفية التعليم):
يقول الألوسي: التعليم هو فعل يترتب عليه العلم غالباً بعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم. وعن كيفيته بالنسبة لآدم في هذا المقال يقول:
(1) خلق فيه عليه السلام بموجب استعداده علماً ضرورياً تفصيلياً بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها.
(2) بأن خلقه الله من أجزاء مختلفة وقوى متباينةمستعداً لإدراك أنواع المدركات والهمة معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها وأصول العلم وقوانين الصناعات فيكون ما مر من المقاومة قبل خلقه عليه السلام.
(3) كان التعليم بواسطة ملك يلقنه ذلك.
(4) وقال أبو هامش بوجود لغة اصطلاحية كانت لدى آدم قبل تعليمه ومن خلال وحداتها تم تعليمه العلم الكامل.
ويقول الفخر الرازي في تفسيره:
المسألة الأولى:قال الأشقر والجبائي والكعبي أن اللغات كلها توفيقية بمعنى أن الله تعالى خلق آدم ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني.
وبعد هذه الجولة مع تفسير الآية الكريمة: )علم آدم الأسماء كلها (
نلاحظ أن معنى الآية واضح في أن الله علم آدم ما لم يكن يعلم وفي سورة العلق تأكيد لذلك إذ يقول الحق تبارك وتعالى: )علم الإنسان ما لم يعلم (وفي سورة الرحمن إشارة أخرى للتعليم إذ يقول الحق هز وجل في محكم تنزيله )خلق الإنسان علمه البيان (.
ويقول الفخر الرازي مفسراً لمعنى البيان: البيان: المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غير ما عنده وهو ميزة بشرية.
ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توفيقيةحصل العلم بها بتعليم الله. يقول الإمام الشنقيطي في تفسيره (أضواء البيان). علمه البيان علمه الإفصاح عما في الضمير ثم يربط رحمة الله بين هذه الآية والآية في صورة النحل: )خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (. فيقول: فالإنسان بالأمس نطفة واليوم هو في غاية البيان وضده الخصام يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث " وأن هذه النطفة مهما نمت وكبرت وأصبحت جسداً فإنها لن تعطي بياناً بل تعطي جسداً أبكم فمن علم الإنسان من البداية البيان فأخرجه من بكمه الحتمي إلى بيانه الراقي(10).
ثم تأتي الآية (78) من سورة النحل لتشير في إعجاز مبهر إلى المراحل الزمانية لتشكيل ملكة السمع والبصر بعد ولادة الطفل: )والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (،فالطفل يولد وله جهاز عصبي فيه مراكز السمع والبصر وغيرها، ولكن هذه المراكز تحتاج للاستكمال الوظيفي وفقاً لالتقائها بالمحسوسات الخاصة بها والمخلوقة وفقاً لها ويتم ذلك بعد ولادة الطفل ومن هذه المراكز وفيها يتكون البيان البشري وفق مراحل زمنية علمها عند خالقها العليم الحكيم.
وبعد هذه الجولة نصل إلى النتيجة التالية: أن النقل (القرآني) يشير بوضوح إلى حتمية وجود معلم لآدم من البداية والعلم العقلي اليقيني يؤكد حتمية التقاء الأصوات والصور مبكراً بأدوات حس الطفل بعد الولادة حتى يمكن أن ينشأ طفلاً متكلماً مبيناً ولا بد أن تكون هذه الأصوات من جنس ترددات الأصوات البشرية وإذ لم يحدث ذلك مبكراً لحدث تعطيل كلي أو جزئي في عملية البيان للإنسان بعد ذلك.
وتبقى مشكلة وهي: على أي حال كان تعليم آدم؟
العلم المشاهد يرجع قياساً أن تعليمه كان عن طريق التعليم وهذه فطرة فطر الله عليها جهاز البيان في مخ الإنسان المكلف بأنه يحتاج من البداية لسماع أصوات بشرية حتى تستكمل مراكزه داخل المخ فيكون أهلاً للبيان البشري والمنطق الإنساني ولو تعطل ذلك فإن الإنسان سينشأ أبكم أو معوقاً بياناً. وهذه حكمة جعلها الله في عالم الأسباب لتكون حجة للعقل أو حجة عليه حتى بتسلسل العقل مع حلقات الأسباب موقتاً أن كل إنسان يحتاج إلى معلم ملقن يسلقه فيسأل العقل: من علم آدم؟ فتكون الإجابة الوحيدة الله علم آدم.
فيكون السؤال التالي كيف علمه؟ فيكون الجواب من خلال التكليم، ولكن كيف كان التكليم؟ هذه القضية غيبية من عالم الغيب والشهادة من الله الخالق الذي قال في سورة الشورى آية (51). )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم (.
إذن العقل والنقل وملاحظة العلماء تؤكد ضرورية التلقين المبكر للغة بأصوات ذات ترددات شبيهة بلغة البشر حتى ينشأ الإنسان قادراً على البيان، كل ذلك يجعل اللغة في هيكلها أو في جذورها توقيفية، وهي مع ذلك قابلة للامتداد والشكل الحر في الزمان والمكان وفقاً لحرية الإنسان المكلف المخير ولكن تبقى اللغة في جذورها في هيكلها وأساسها توفيقيةبتعليم الله.
وقد يقول قائل: ما فائدة هذا الجهد الذي أدى إلى تلك النتيجة اليقينية في أصل اللغة؟ أرد أنه بالإضافة إلى ما سيكتسبه البيان البشري من قيمة عالية لا تشابه إلى العليم الحكم فإنه بناء على ذلك يصبح الخطاب الآلي للإنسان بديهة عقلية ويصبح الوحي حقيقة علمية لازمة من البداية (آدم) لإرساء وقاعد لغة عالمية وعلوم أساسية بل ولازمة لمسيرة الإنسان بعد ذلك وفقاً لأطوار محددة لدقة نحو هدف سام وهو الوصول إلى الكمال البشري في مراحل لا تستغني عن البداية الأولى بل تأخذ بعضها بأعناق بعض من لدن آدم.
وبناء على ذلك، فإن العقل لا يستبعد نزول رسالات من السماء مع رسل للمتابعة والتعديل ولكن العقل يسأل هل الرسول حقيقي هل هو صادق في دعواه فيدل صدقه على صدق الرسالة ومن هناك كانت الرسل تؤيد بالمعجزات الحسية وأمور أخرى مصاحبة لها تدفع العقل للتفكر في الرسالة والاقتراب منها ومن ثم تصديقها وتنفيذها حتى انتهى المطاف برسالة خالدة محفوظة تحمل معجزتها فيها رسالة تليق بكمال البشرية العقلي.
إنه القرآن الكريم ، الرسالة الخالدة المحفوظة والعالمية والتي تحمل دليلها فيها وعلى العقل أن يسأل بحرية.
1 ـ هل القرآن وحي من الله للإنسان أم هو كلا بشر؟.
2 ـ هل هو الرسالة الوحيدة الخالدة المحفوظة أم هناك غيره؟.
3 ـ هل هو محلي أو عالمي؟.
وللإجابة عن السؤال الأول على العقل أن يدرس النص وفقاً لأصول علمية محايدة.
وللإجابة عن السؤال الثاني عليه أن يدرس النص دراسة مقارنة مع غيره.
وللإجابة عن السؤال الثالث عليه أن يدرس النص وفقاً لاحتياجات الإنسان العقلية والنفسية والمادية على المستوى العالمي لنرى هل يقدم حلولاً موافقة ومقومة لهذه الاحتياجات بحيث تحقق التوازن بين روح الإنسان وماديته وبين الإنسان والمجتمع من حوله.
والدراسات العلمية المحايدة بينت أن النص القرآني لا يمكن أن يكون من تأليف بشر فهو معجز في معانيه وبيانه وينطبق ذلك حتى على مستوى الحرف فيه وهو يخالف الجانب العقلي والعاطفي في الإنسان في توازن لا يمكن أن يأتي به بشر ولو اجتمعوا عليه بل ولقد أخبر عن الغيب فصدق ومن هذه الغيوب إشارات العلوم فيه والتي اشتملت على علوم من الذرة إلى المجرة علوم لم تكن معروفة عند نزول الوحي بل ولم يكن هناك حتى دليل ولو من بعيد عنها ثم دارت الأيام فإذا أدق وسائل التقنية تصور ما جاء القرآن وتؤكد صدق أخباره عن تلك الأخبار العلمية فمن أين جاء النبي الأمي بكل هذه العلوم؟.
والدراسة المقارنة بينه وبين الكتب الأخرى بينت أنه الوحيد الخالي تمام من التناقض والاختلاف والتحريف والتصحيف المنزه للألوهية وللرسل المكرمين والمتطابق في جميع نسخه في أي زمان ومكان. والدراسة العالمية بينت أنه يغطي على جميع جوانب الإنسان العقلية والنفسية والاجتماعية ويضع الحلول العالمية لمعادة الإنسان في إطار من العدل بين أفراده وتحقيق التوازن بين الجانب المادي والروحي للإنسانية.
وهنا يقر العقل بأن كتاباً بهذه الإمكانيات ورسالة بهذه الصفة لا يمكن أن تكون من فعل بشر، بل إن العقل يصل يقيناً أنها من وحي خالق البشر العالم بأحوالهم وأسرارهم وما يصلح لهم.
تعقيب:
للبحث السابق يعد دليلاً علمياً يقينياً على حتمية التكليم للإنسان من البداية، سواء من بدايته الأولى (آدم) أو من بدايته التالية بعد الولادة، حتى ينشأ البيان البشري الراقي، والبديل الوحيد لذلك هو البكم والتخلف العقلي، وهذا بالتالي يدل أيضاً على حتمية الوحي وأنه بديهة عقلية لأنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من كيان الإنسان الراقي وبقيت قضية الشعر الجاهلي كمرجع يقاس عليه في قضية الإعجاز البياني للوحي تحتاج لمزيد من التعليق بأن اللغة كما بين علماؤها تمر بمراحل تبدأ بالطفولة ثم بقوتها ثم تنتهي باختلاطها وضعفها وهو منحنى معروف لعلماء اللغات بل إن ذلك المنحنى ينطبق على كل الكائنات الحية.
وفي حالة تحقيق الإعجاز البياني لا بد أن يكون الإسناد إلى قمة ما وصل إليه البيان ولأن القمة لا تكون دائماً فترة خاطفة بل تكون فترة ممتدة فهي بالنسبة للعربية شملت فترة من العصر الجاهلي وفترة من العصر الإسلامي ومن هذه الفترة جمع علماء اللغة بدقة وعلم وضبط مباني ومعاني اللغة ورسموا خطوط البيان ويبينوا ذلك بدقة مراعين الأمانة العلمية حتى أصبحت أعمالهم قانوناً ومرجعاً صالحاً لكل زمان ومكان، وعلى هذا الأساس يكون القياس والإسناد.
وعلى كل حال، فالإنسان هو الإنسان في أي مكان وزمان، ويحتكم إلى عامل مشترك العقل والعاطفة، فأي نص يخاطب العقل والعاطفة في توازن يوافق خلق الإنسان دون أن يخل بكفتي الميزان (العقل والعاطفة) يجب أن يوضع على مستوى القمة لغض عن الزمان والمكان فلو خاطب النص الإنساني بطريقة تحقق توازن يعجز عن الإتيان به فهذا نص معجز بيانياً فماذا لو كان النص معجزاً بكل المقاييس البيانية والعلمية والنفسية والاقتصادية وصالح للإنسان في أي زمان ومكان .. هنا يقف العقل ليقرر يقيناً أن هذا النص لا يمكن أن يكون من اختراع بشر بل لا بد وأن يكون وحياً من خالق الكون والبشر والعالم بأسرار خلقه .. هذا يقين أهل العرفان فما حجة المبطلين.
د / حسين رضوان اللبيدي

[1] – مدير مستشفى الصدر بجرجا ـ سوهاج.
[2] – كتاب الصاحبي.
[3] – كتاب الخصائص، أبي الفتح عثمان بن جني، الجزء الأول.
[4] – نشأة اللغة عند الإنسان والطفل.
[5] – انظر المرجع السابق.
[6] – نشأة اللغة عند الإنسان والطفل دار النهضة.
[7] – انظر مجلة العلوم الأمريكية المخ والعقل الأصل باللغة الإنجليزية، سبتمر سنة 1992م.
[8] – مجلة العلوم الأمريكية، عدد أكتوبر سنة 1989م مجلد 6 عدد 10 اللدونة في نمو الدماغ الأصل المترجم من إصدار الكويت.
[9] – مجلة العلوم الأمريكية، ديسمبر سنة 1989م عدد 1 إدراك الكلام في مرحلة الطفولة المبكرة، الأصل المترجم من إصدار الكويت.
[10] – صاحب البحث.
  #185  
قديم 05-04-2008, 08:51 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

النوم كظاهرة حيوية بين القرآن والسنة

النوم كظاهرة حيوية بين القرآن والسنة
أ. د / عبد الباسط محمد سيد(1)
يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه الحكيم: )ومن آياته منامكم بالليل ([سورة الروم: 23].فالنوم آية من آيات الله في خلقه، وصفة أساسية من صفات الإنسان، وضرورة من ضرورات حياته، فكل إنسان ينام، لا يشذ عن ذلك أحد حتى الأنبياء والرسل، لا يستطيع الإنسان أن يمتنع عن النوم إلا في حدود زمنية محدودة لا يستطيع بعدها المقاومة، فيسقط نائماً مهما كانت المؤثرات من حوله، ولحكمت ما كانت إحدى المعجزات التي أخبرنا بها القرآن الكريم هي نوم الفتية الذين آمنوا بربهم في الكهف ثلاث مئة سنين )ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعاً ([سورة الكهف: 25].في حين أنه لم تصل إلينا أخبار عن أي معجزة كان أساسها عدم النوم، فالنوم هو السكن والراحة بعد التعب والعناء )الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ([سورة غافر: 61].وهو الهدوء والأمن والطمأنينة أياً كانت مدته )إذ يغشيكم النعاس أمنةً منه ([سورة الأنفال: 11].
ويدعونا ـ سبحانه وتعالى ـ إلى التفكير في أهمية تلك الدورة الحيوية اليومية التي تشمل الأرض ومن عليها، وذلك في آيات القرآن الكريم )وجعلنا نومكم سباتاً. وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً ([سورة النبأ: 9 ـ 11]. )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ([سورة القصص: 71 ـ 72].إذ لا بد من ليل ينام فيه الإنسان، وتهدأ فيه أعضاؤه وترتاح أجهزته، ويسكن جسده كله في سبات يستعيد فيه نشاطه وحيويته ومقدرته على السعي والعمل والكد من جديد في نهاره التالي، وهكذا يتعاقب النوم مع اليقظة بصورة دورية تستمر طول حياة الإنسان، ويصاحب كلاً من حالتي النوم واليقظة علامات جسدية وعضوية هي الأساس لما تم اكتشافه حديثاً بعد ذلك فيما أطلق عليه لقب الدورة البيولوجية للجسم، وذلك بعد قرون عديدة من إشارة القرآن الكريم لذلك)والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى ([سورة الليل: 1 ـ 2].فالليل سكن وغشاء، والنوم سكينة وهدوء وأمن، يغشى الإنسان عينيه وتقل حدة سمعه فكأن على سمعه وبصره غشاء، وحجاب يمنع استقبال المؤثرات العادية من صوت وضوء، حتى لو أبعدنا جفنيه أحدهما عن الآخر، فلن يرى بعينيه المفتوحتين وهو نائم، وتهدأ أعضاء النائم وأجهزته، فترتخي عضلاته الإرادية، ويهدأ القلب فيبطىء النبض، وينخفض مستوى ضغط الدم الشرياني، وتهدأ الدورة الدموية، ويهدأ التنفس ويبطىء وينظم، وينخفض استهلاك الأعضاء والأنسجة للأكسجين والمواد الغذائية الأخرى، ويقل نشاط معظم الغدد، ويهدأ الجهاز العصبي، وتستمر حالة السكون هذه إلى أن يحين موعد الاستيقاظ فتنشط أجهزة الجسم تباعاً، وتزداد حيوية الأعضاء والأنسجة تلقائياً، وتعود الحواس إلى حالتها الطبيعية والعضلات على حركاتها الإرادية، ليبدأ الجسم مرحلة جديدة من النشاط، ويكمل دورته البيولوجية اليومية إلى آخر النهار، ليعود بعد ذلك عند حلول الظلام فيغلبه النوم، وتتكرر الدورة من جديد فيما هو عليه العلماء ( النظام اليومي ) (Circadian rhythm)

مخطط بياني يبين نشاط الدماغ طوال فترة 24 ساعة نلاحظ كيف ينخفض نشاط الدماغ بعد الظهر لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقيلولة لاستعادة النشاط
والإنسان حين ينام فإنه يمر بما يمكن تسميتها بمراحل أو مستويات مختلفة للنوم، فهو يمر تدريجياً من حالة اليقظة الكاملة إلى حالة فقدان الإحساس بما حوله، ويزداد النوم عمقاً مروراً بمستويات مختلفة حتى يصل إلى أعمق مستويات النوم حيث هدوء الأعضاء وسكون الجسد في أقصى درجاته، وتصبح استجابات الجسم الغريزية للمؤثرات الخارجية أقل ما يمكن أو معدومة )وجعلنا نومكم سباتاً (، فهو السبات أو النوم العميق، حيث ينفصل الإنسان تماماً عما حوله من مؤثرات ضوئية أو ميكانيكية أو فيزيائية أخرى، إلا أنه بتتبع نشاط الدماغ الكهربائي أثناء النوم وربط ذلك بالمشاهدات الخاصة بسرعة النبض وسرعة التنفس وبعض الملاحظات الأخرى، وجد أن هناك فترات تعتري النائم حيث يزداد خلالها نشاط الدماغ الكهربائي ويسرع النبض، ويسرع التنفس، وتبدأ العينان المغمضتان في الحركة السريعة في الاتجاهات المختلفة، حتى أنهم أطلقوا عليها ( مرحلة الحركة السريعة للعينين Rapid eye movement rem phase) وتستمر تلك النوبات لفترات قصيرة يعود بعدها الدماغ وباقي الأعضاء إلى حالة السكون والهدوء، وقد لاحظ العلماء أن تلك النوبات لها علاقة بحدوث الأحلام أثناء النوم، حيث تؤدي إلى تلك الأنشطة التي يمكن ملاحظتها على النائم.
وأثناء النوم فإن الإنسان لا يستقر عادة على وضع واحد لفترة طويلة، وإنما يتقلب ذات اليمين وذات لشمال، ويحرك أطرافه ماداً ساقيه، أو ضاماً لأحدهما أو كليهما وكذلك ذراعاه، وهذه الحركات التي تحدث أثناء النوم حركات غير إرادية، وتختلف في نوعيتها وتكرارها وكمية حدوثها من شخص لآخر، ومن وقت لآخر لنفس الشخص، وكلما كان النوم عميقاً قلت حركات الجسم بينما يزداد حدوثها إذا كان مصاباً ببعض الأمراض العضوية مثل أمراض القلب والرئتين، وتتوقف حركات النائم تماماً أثناء مرحلة الحركة السريعة للعينين.
أنواع النوم:
يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ )الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذ سنة ولا نوم ([سورة البقرة: 255].وهكذا يفرق ـ سبحانه وتعالى ـ بين السنة وبين النوم، فأما السنة: فهي ما يعتري الإنسان للحظة وجيزة من غياب عن الواقع المحسوس حوله، ولكنه يعود لوعيه الكامل بسرعة دون أن يستغرق في النوم، وأحياناً يحدث ذلك وهو جالس أو واقف على قدميه دون أن يسقط على الأرض، وهي لحظة قصيرة جداً لا مجال خلالها لحدوث أحلام أو لما يحدث أثناء النوم من تغيرات في أنشطة أعضاء الجسم وأجهزته مما سبقت الإشارة إليه.
أما النوم فقد ذكر في القرآن الكريم بأكثر من اسم لكل منها دلالته وإيحاءاته الخاصة؛ حيث يشمل كل ما هو نوم، ولا يشمل ( السنة ) فهناك ( النعاس ) )إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ([الأنفال: 11].وهو النوم غير العميق والذي لا تعكر صفوه أحلام أو رؤى، وهناك ( السبات ) وهو النوم العميق الذي يقارب الغيبوبة، ثم هناك ( المنام ) )إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ([الأنفال: 43].وكذلك )فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ([سورة الصافات: 102].وهو الجزء من النوم، أو النوم الذي تظهر خلاله الرؤى والأحلام، ويتم فيه استقبال الوحي بالأمر من الله.
أما الرقاد فقد أطلق على حالتين:
الأولى: حالة الفتية الذين أووا إلى الكهف،حيث يقول عنهم الحق تبارك وتعالى: )وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ([الكهف: 18].
والثانية: هي وصف لحال البشر بعد موتهمحيث يقول الحق سبحانه: )ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون. قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ([يس: 51 ـ 52].فهي وصف لحالة الجسد النائم ووضعه الممدد على الأرض، ولكن رقود الفتية في الكهف يختلف عن رقود الموتى في الأجداث، فالكهف مرقد للنائمين، والأجداث مرقد للموتى لا حراك فيهم؛ ولذلك تبرز الحركة الموحية للفتية الرقود في الكهف كآية من آيات الله لها دلائلها القيمة )ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال (فالنائم لفترة طويلة أو الراقد دون حركة يضغط كله من أماكن محدودة لا تتغير من جسمه وبصفة مستمرة طالما أنه لا يتحرك، مما يسبب في النهاية تلفاً لذلك الجزء من الجسم نتيجة الضغط (pressure atrophy)وتقرحات الفرش (bed sores)وبالإضافة إلى ذلك فإن علم تحريك الأطراف لفترات طويلة ـ عدة أيام أو أكثر ـ وما يصاحبه من بطء في حركة سريان الدم في الأوعية الدموية في أطراف الجسم وهو ما يعرف بالركود الدموي (Haemostasis)يؤدي إلى زيادة القابلية لتجلط الدم وتخثره في الأوعية الدموية مما يؤدي إلى انسدادها (Intravascular Thrombosis).
كما أن الرقاد لفترات أطول دون حركة يؤدي إلى ضمور عضلات الجسم الإرادية، وإلى نقص كمية الكالسيوم في العظام مع ترسب أملاح في الكليتين مما يؤدي إلى فسادها، وهذه الأمور من المكتشفات الطبية الحديثة ذات الأهمية العلاجية الكبرى، وذلك بالنسبة للمرضى الذين تستلزم حالتهم المرضية ملازمة الفراش، أو المصابين بالغيبوبة لفترات طويلة حيث أصبح من التدابير الطبية الأساسية تقليب هؤلاء المرضى في الفراش كل بضع ساعات بالإضافة إلى تدليك عضلاتهم وتحريك أطرافهم سلبياً وإيجابياً بصفة منتظمة طوال فترة ملازمتهم للفراش تجنباً لحدوث هذه المضاعفات الخطيرة.
بعض ما يراه النائم:
إن ما يراه النائم من رؤى وأحلام هو من الحقائق التي لا ينكرها أحد، إذ أنها مما يراه الناس كلهم صغيرهم وكبيرهم، حتى أنه يمكننا أن نقول بأنها من خصائص الإنسان والصفات الملازمة له، والرؤى والأحلام ما زالت من التحديات التي يواجهها العلماء والأطباء في كل مكان، النائم مغمض العينين ولكنه يرى ويميز الألوان ويحدد التفاصيل ويفرق بين الصغير والكبير والبعيد والقريب، سمعه معطل عما حوله في دنيا المحسوسات، فلا يستطيع أن يسمع من يتحدثون حوله في نفس الغرفة، ولكنه يسمع أشياء لا يسمعها من حوله ولا يسمعها غيره، ويعي ما يسمعه ويفكر فيه ويبقى في ذاكرته حتى بعد أن يستيقظ من نومه، غائب من عالمنا المحسوس لا يدرك ما يدور حوله، ولا يشعر بحواسه المختلفة إلا أنه في عالم آخر، يتكلم دون أن يحرك لسانه أو شفتيه، ويشعر بالألم دون أن يمس جلده شيء، ويجري دون أن يحرك ساقيه، ويفكر ويناقش ويجادل، ويضحك ويبكي ويصرخ دون أن يسمع صوته أحد، أو يشعر بما يحدث له غيره، ويستيقظ من نومه فيجد ما كان يراه في نومه محفوراً في ذاكرته كأنه كان واقعاً محسوساً ملموساً.
ويتابع العلماء بأجهزتهم ومراقبتهم الشخصية ما يحدث أثناء النوم فلا ينتهون إلى شيء غير تسجيل بعض التغيير في النشاط الكهربي للدماغ، وبعض التغيرات في نبض النائم وتنفسه وبعض عضلاته، وغير ذلك مما لا يعطي أدنى فكرة عن طبيعة ما يراه النائم أو أسبابه، ويستمر التحدي، ولا يبقى لنا غير العودة إلى قول الحق تبارك وتعالى خالق الإنسان وخالق ما يراه الإنسان، ويبقى قول الحق تبارك وتعالى: )ولنعلمه من تأويل الأحاديث ([سورة يوسف: 21].وتتكرر الأحاديث في قصة يوسف عليه السلام، حيث تدور السورة كلها حول محور رئيسي هو ما رآه يوسف عليه السلام، وما رآه غيره، ومقدرة يوسف عليه السلام على تأويل تلك الرؤى التي كانت كلها ترمز إلى غيب مستقبل تحقق بإذن الله بالشكل الذي أولها عليه يوسف عليه السلام فهذا يوسف الصغير يحكي لأبيه ما رآه )إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ([سورة يوسف: 4].فيدرك أبوه معنى ذلك، فيبشره ويحذره في نفس الوقت من إخبار إخوته بما رأى، وتمر السنوات الطويلة لتتحقق الرؤيا الصادقة ) ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً ([سورة يوسف].ثم ها هما صاحبا السجن )قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً. وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ([سورة يوسف: 36].
ويتحقق تأويل يوسف ـ عليه السلام ـ لذلك بحذافيره )يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ([سورة يوسف: 41]. ها نحن نرى الذي رأى أنه يسقي ربه خمراً حضر الملك حين قص الملك رؤياه على من حوله قائلاً: )إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي عن كنتم للرؤيا تعبرون ([سورة يوسف: 43]. فما كان ردهم عليه إلا أن )قالوا: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ([سورة يوسف: 44]. لكن: )وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون([سورة يوسف: 45].
وهكذا عاد إلى يوسف ـ عليه السلام ـ الذي قام بتأويل رؤيا الملك وزاد عليها فكان إخباراً بغيب سيتحقق بأمر الله في المستقبل القريب، وقد كان، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يؤول رؤيا رآها قبل غزوة أحد حيث قال للمسلمين: ( إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً تذبح لي، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة، فأما البقر فأولتها ناساً من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل، أما الدرع فأولتها المدينة ).
وهكذا تحمل كل رؤيا مما استعرضنا إنباء بغيب يحدث بعد ذلك، غير أنها لا تأتي صريحة ولكنها تأتي بشكل رمزي معبر يستطيع تأويله من يعلمه الله ويعطيه القدرة على التأويل، وحين يعبر القرآن الكريم عنها بأنها ( أحاديث ) فمعنى ذلك: أن مرسل تلك الأحاديث عالم بالغيب وبما سيحدث مستقبلاً، وقادر على أن يخص بالحديث شخصاً واحداً وأن يضع له الأحاديث بأي شكل، وقادر على أن يجعله يتلقى الأحاديث بشكلها المرسلة به، وهذه هي الرؤيا الصادقة من الله تعالى، وبالطبع فإن استقبال النائم يختلف تماماً عن استقبال المستيقظ؛ إذ أن حواسه بشكلها المعروف لدينا تكون معطلة تماماً، ولكن لديه جهاز استقبال خاص ينشط أثناء النوم ويتلقى ما تعجز عن تلقيه الحواس، ويقوم بتسجيل ما يستقبله في ذاكرة النائم فلا ينساها حتى بعد أن يستيقظ، هذا الجهاز مبرمج لاستقبال أحاديث لا يتلقاها غيره، فالنائمون حتى لو كانوا في مكان واحد فإنهم لا يرون نفس الرؤيا بحال من الأحوال، ولأن الاستقبال يميز كل إنسان عن غيره فإنه كذلك يستقبل ما يأتي إليه من أوامر قد تكون وحياً أو غير ذلك، فهذا إبراهيم خليل الرحمن ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول لابنه: )يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين(فهو أمر من الله يتلقاه جهاز الاستقبال أثناء النوم فيعيه، ويدرك سيدنا إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن ذلك حق ووحي من الله فيسرع بالتنفيذ.
ومن أشهر ما يرويه التاريخ قصة إعادة حفر بئر زمزم على يد جد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جاءه الأمر بحفرها وهو نائم، وحدد له الهاتف مكانها بدقة، وذلك أنه أتاه آت في منامه فقال له: احفر طيبة، ثم جاءه الليلة التالية وقال له: احفر برة، ثم جاءه الليلة التالية فقال له: احفر المضنونة، ثم جاءه الليلة التالية فقال له: احفر زمزم، فقال له: وما زمزم؟ فقال: لا تنزف أبداً ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
إن ما يراه الإنسان النائم ـ مؤمناً أو غير مؤمن ـ من مرائي وما يأتيه من أخبار وأوامر تعتبر من الألغاز القديمة والتحديات الباقية للعقل البشري، ولكل ما أوتي الإنسان من وسائل المعرفة والبحث، وصدق الله العظيم )وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ([سورة الإسراء: 85].عجز العلماء، ووقف الفلاسفة حائرين، وأسسوا الجمعيات المختلفة التي تبحث فيما وراء إدراك الحواس، ومن أشهرها وأقدمها جمعية المباحث الروحية بلندن في إنجلترا، والتي تأسست عام 1882 ميلادية، وكثير من معاهد البارابسيكولوجي (parapsychology)في أمريكا وفي أوروبا، حيث اختاروا ذلك اللفظ المركب للتعبير عن نوعية الدراسات في تلك المعاهد، فقد قاموا بدراسة ما أطلقوا عليه ( ظواهر انتقال الفكر أو الاتصال الفكري على البعد Telepathy)والاستشفاف أو الجلاء البصري، أي: الإحساس بالحوادث التي تحدث على مسافات بعيدة، وأطلقوا لقب: الإدراك خارج الحواس على هاتين الظاهرتين.


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
  #186  
قديم 05-04-2008, 08:58 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـع موضوع ... النوم كظاهرة حيوية بين القرآن والسنة

الروح والمنام:
يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه الحكيم: )الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ([سورة الزمر: 42].وبذلك يبين لنا سبحانه وتعالى ثلاث حالات للنفس أو الروح، وهي: التوقي، والإمساك، والإرسال، ففي المنام وحين الموت يتوفى الله الأنفس، فإن كان موتاً أمسكت النفس فلا تعود لجسدها، وإن كان مناماً أرسلت ثانية إلى أن يحين أجلها، أي: الموت. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته حين ناموا ففاتتهم الصلاة: (إن الله قبض أرواحكم حيث شاء وردها حيث شاء) (أخرجه البخاري [1/154]) وهكذا نرى أن صلة الروح بالجسد أثناء المنام تختلف تماماً عن حالة اليقظة، فالله يتوفى الروح أو يقبضها في المنام وبذلك تتحرر الروح وتخرج من قيود الجسد التي تحد من قدرتها وإمكانيتها لتدخل حالة التوفي وهي حالة خاصة يظهر فيها من وقت لآخر ما لتلك الروح من قدرات يختفي معها حاجز الزمن وحاجز المكان، فهي تستطيع أن تستقبل ما لا يدركه الإنسان بحواسه المعروفة ضيقة المدى وإدراكه المحدود بإمكانية البشرية حبيسة الزمان والمكان، فالروح جوهر يخالف في مادته عن جوهر البدن الأرضي الترابي، ولذلك يمكنها أن تتلقى من الأحاديث، وتظل الروح على اتصال بجسم النائم بصورة لا يعلمها إلا الله، فتنقل إليه كل ما تلقاه، ولكن بصورة رمزية قد يصعب تأويلها في كثيرٍ من الأحيان.
وعندما تصل تلك ( الأحاديث ) إلى الجسم فإنها تسبب انفعاله بها فيما يحدث من ازدياد النشاط الكهربائي للدماغ وإسراع النبض والتنفس وبعض الحركات غير الإرادية للعضلات والأطراف، وهذه كلها ردود فعل غريزية لتلك المؤثرات ويمكن تسجيل ما يشابهها في حالة اليقظة ـ إذا تعرض الإنسان اليقظ إلى الانفعالات سواء كانت نتيجة لمؤثرات خارجية كحادثة أو مناقشة أو مشكلة ما، أو كانت لمؤثرات دخيلة مثل التفكير والقلق والاكتئاب وتوقع المشاكل أو الأخبار السيئة.
أما الأوامر التي يتلقاها النائم في منامه فتأتي دائماً صريحة واضحة لأنها تأمر بعمل ما أو باتخاذ إجراء معين محدد، ولذلك تأتي الأوامر صريحة دون رموز كما جاء في قصة الذبيح )يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال: يا أبت افعل ما تؤمر (فهو أمر ونوع من أنواع الوحي من الله ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وكذلك الأمر في قصة حفر بئر زمزم على يد جد الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك تأخذ شكلاً مغايراً للرؤى الأخرى الرمزية والتي تحتاج إلى تأويل ممن أعطاهم الله المقدرة على تأويل الأحلام، أما الأوامر فهي تحتاج إلى تنفيذ وهذا يستلزم وضوح المطلوب حتى يتم إنجازه دون خطأ أو تحريف، وأغلب الظن أن ما تلقته أم موسى كان من هذا القبيل )وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ([سورة القصص: 7].فهي تعليمات واضحة صريحة لا لبس فيها ولا غموض حتى يتم تنفيذها كما هي دون نقصان.
الموت الأصغر:
النوم كصفة من صفات الإنسان تلازمه طوال حياته، فهو ليس نقيضاً للحياة ولا مرادفاً للموت، وإنما تتوفى فيه النفس ثم ترسل ثانية، وبذلك يظل الجسد حياً بعكس الموت الذي يتم فيه إمساك روحه، فتتوفى الروح، ثم إرسالها في النائم يغاير تماماً توفي الروح ثم إمساكها بالنسبة للميت، ولذلك يظل النائم حياً بكل ما تحمله الحياة من مدلولات، إلا أنه يفقد ما تضفيه عليه الروح من صفات العقل والإدراك والانفعال والإرادة بالإضافة إلى الإحساس بالزمن، ولكن تظل العمليات الحيوية الكيميائية والفيزيائية تعمل تلقائياً بكل خلاياه، ولذلك كان القول بأن النوم هو الموت الأصغر له دلالاته الإيجابية الموحية، فنفس النائم يتوفاها الله ويرسلها عند الاستيقاظ، والنائم يرى من رموز الغيب ودلالاته ما لا يدركه الإنسان المستيقظ، وما يخرج عن إمكانيات الحواس المادية والقدرات الجسدية الفسيولوجية المعروفة، وإنما يدل على إمكانيات وقدرات الروح، وهي في حالة التوفي أثناء المنام، وكلها دلائل على وجود عوالم أخرى وآفاق غيبية لا يعلمها إلا الله، كما أن النوم يفقد الإنسان إحساسه بالزمن، فالنائم ساعة كالنائم يوماً كالنائم سنوات لا يدرى كم من الوقت مضى عليه وهو نائم، ويبدو الأمر بالنسبة له فترة زمنية لا تتعدى ساعات قليلة، إن أهل الكهف ناموا)ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعاً(وقاموا من رقودهم يتساءلون بينهم: )قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم ([سورة الكهف: 19].
وأخيراً: فإن كلمة ( البعث ) الموحية ذات المدلول اللغوي والشرعي، قد ذكرت في كتاب الله للتدليل على بعث النائمين، كما ذكرت للتدليل على بعث الموتى مما قد يشير إلى نوع من التشابه بين النوم وبين الموت في بعض زواياهما، فالله جل جلاله يقول عن الفتية الذين ناموا في الكهف ثلاثة قرون: )وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ([سورة الكهف: 19].فهذا بعث من نوم طويل، ويقول سبحانه عن صاحب القرية: )فأماته الله مئة عام ثم بعثه ([سورة البقرة: 259].فهو بعث من موت دام قرناً من الزمان، وعن أصحاب موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ:)ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ([سورة البقرة: 56].فذلك بعث من موت لفترة قصيرة، اتجه خلالها موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالدعاء إلى ربه فاستجاب له، وها هم الموتى يبعثون يوم القيامة متسائلين مذعورين: )يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ([سورة يس: 52].فهو بعث بعد موت تفاوتت مدته لتصل إلى عمر الإنسان على الأرض، وهو أمد لا يعلمه إلا الله، وفي تلك الآية الأخيرة يجتمع مدلول البعث ومدلول الرقاد بالنسبة للأموات، كما اجتمع اللفظان من قبل بالنسبة للفتية الذين كانوا رقوداً في الكهف وبعثهم الله، وهكذا يشبه النوم الموت من وجوه، فهو دليل عليه وإشارة إليه، وهنا علينا أن نتذكر ونتدبر قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه لنا عند الاستيقاظ من النوم: ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ).
لغز وتحد:
وهكذا ينام كل إنسان، يقضي جزءاً كبيراً من حياته نائماً، لا يشذ عن ذلك أحد، ولم ولا، فهي سنة الله في خلقه وآية من آياته سبحانه وتعالى، ويحيط بالنوم ما يحيط به من علامات ورؤى في المنام، ويظل لغزاً محيراً وتحدياً باقياً أمام العقل البشري، وكلما استمر البحث وأعمل الفكر زادت علامات التعجب والاستفهام، ويظل البحث في سر النوم وكنهه وما يلازمه من علامات جسدية وظواهر ورؤى بحثاً وصفياً لا يرقى إلى إظهار الحقيقة، إذ أن كل ذلك بحث في ما لا تدركه الحواس، ولا تحيط به الأفهام، ويكفينا أن نؤمن بأن النوم آية من آيات الخالق )ومن آياته منامكم بالليل ([سورة الروم: 23].وأن الروح آية من آيات الخالق وسر من أسراره وأمر من أموره عز وجل )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ([سورة الإسراء: 85]...ويبقى التحدي ويستمر البحث والتفكير والتدبر في آيات خلقه حتى يدرك كل إنسان حقيقة الخالق الواحد الأحد المبدع )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ([سورة فصلت: 53]. صدق الله العظيم.
أحكام شرعية:
وأخيراً فإن النائم شرعاً إنسان حي مرفوع عنه التكليف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأن القلم مرفوع عن ثلاثة فعنْ عَلِي أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "رُفِعَ القَلَمُ عنْ ثَلاَثةٍ، عنْ النّائِمِ حتّى يَسْتَيقِظَ، وعنْ الصّبيّ حَتّى يَشِبّ، وعنْ المعْتوهِ حتّى يَعْقِلَ".
فالنائم تنقصه الصلة الطبيعية بالروح التي تجعله مناطاً للتكليف فتمنحه الإرادة على حواسه وأعضائه الخاضعة للإرادة، من عين تتحرك في الاتجاه الذي يريد، ويد تمتد لتبطش أو لتمد العون حسبما يأمرها، ورجل تمشي إلى الخير أو على غير ذلك، كلها آلات تؤمر فتطيع ولا تملك إلا الطاعة، ليس لها إرادة حرة ولا قدرة إبداعية ولا قدرة على التفكير والعقل إلا بوجود الروح واتصالها بهذا الجسد بالصورة الطبيعية التي تغاير تماماً ما هو كائن أثناء النوم، انظر إلى تلك الآلات يوم القيامة في مقام الشهادة )حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ([سورة فصلت: 20 ـ 21].
وبالتالي: فإن حركات النائم هي حركات غير إرادية نابعة عن تفكير أو استجابة لما حوله من مؤثرات مادية، فإذا تحرك نائم مثلاً فضغط بجسده على جسد طفل صغير فقتله مثلاً، أو سبب له تلفاً جسدياً فإنه لا مسؤولية ولا إثم عليه.
وللنائم العذر المقبول إن غلبه النوم وفاته وقت الصلاة، فعليه أن يؤدي ما فاته من فرض بعد أن يستيقظ ويتذكر ما فاته لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ). ولا إثم عليه، كما أن النائم قد يصبح جنباً، بأن يحتلم أثناء نومه وفي تلك الحالة عليه أن يتطهر من جنابته بعد أن يستيقظ إذا عرف ذلك في نفسه، ولا إثم عليه. وذلك كله من فضل الله ورحمته بعباده الضعفاء أمام مخلوق من مخلوقات الله، وهو النوم الذي يغشى الإنسان كل يوم فلا يدري الإنسان عن نفسه ولا عما حوله شيئاً، ويستيقظ فكأنه بعث من جديد وكأنه ولد من جديد ليقول كما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ). فسبحان الذي خلق لنا الحياة ونفخ فينا الروح، وسبحان الذي خلق الموت وجعله حقاً على كل نفس أن تذوقه، وسبحان الله الذي خلق لنا النوم في أنفسنا دليلاً على الحياة ودليلاً على الموت ودليلاً على البعث: )فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ([سورة يس: 83]. )وهو السميع العليم ([سورة الشورى: 11].
من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن للنوم آداباً كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يدعو الله ويذكره عند النوم وعند اليقظة من نومه، فروى أبو داود عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من جلس مجلساً لم يذكر الله تعالى فيه كان عليه من الله تعالى ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كان عليه من الله ترة ). والترة ـ بكسر التاء ـ هي: النقص. وقيل: التبعة.
وروى البخاري ـ رضي الله عنه ـ قوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: ( اللهم باسمك أموت وأحيا ) وإذا استيقظ قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ).
وروى البخاري، عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، واجعلهن آخر ما تقول ).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضطجع على شقه الأيمن وينهى عن الاضطجاع على البطن، ويروي أبو داود عن يعيش بن طلحة الغفاري ـ رضي الله عنه ـ عن أبيه أنه قال: ( بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني، إذا رجل يحركني برجله فقال: إن هذه ضجعة يبغضها الله. قال: فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هديه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله لعلي بن أبي طالب ولفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ: ( إذا أويتما إلى فراشكما ـ أو إذا أخذتما مضاجعكما ـ فكبر ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين ).
وكذلك ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخل إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ).
وروى مسلم عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي ).
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ـ رضي الله عنهم ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون، فإنها لن تضره ). قال: وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك وعلقها في عنقه عند الاستيقاظ، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المستيقظ من نومه أن يقول: ( الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره ).
وكان مما يقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا استيقظ: ( لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ).
أ.د. / عبد الباسط محمد سيد
[1] – أستاذ بالمركز القومي للبحوث بالدقي.
  #187  
قديم 05-04-2008, 09:02 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

إشراقات علمية لآيات قرآنية

في الأذن والأنف والحنجرة(1)
د/ إسلام محمد الشبراوي(2)
قال الله تعالى: )إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون([سورة النمل : 80 ، 81].
وقال الله تعالى: )فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون([سورة الروم: 52 ، 53].
مع النصف الثاني من القرن العشرين بدأ العلماء في محاولة جادةلحل مشكلة فاقدي السمع بصورة كاملة، أي: الصم تعريفاً، أما فاقدوا السمع بصورة جزئية فهم علمياً لا يطلق عليهم اسم الصم، بل معاقي السمع أو ضعاف السمع (hard of hearing and not deaf) فالصمم: هو الفقد الكامل للحاسة السمعية، بما يناظر العمى الذي هو فقد كامل للإبصار وليس ضعف النظر فحسب.
وقد بدأ حلم تعويض حاسة السمع المفقود بصورة كلية (الصمم) يتبلور شيئاً فشيئاً مع تقدم علوم الطب والفهم الأعمق لخصائص السمع بما يتواكب مع تقدم علم الفيزياء، بما فيه من فهم أعمق لطبيعة الصوت وانتقاله في الأوساط المختلفة، وكذلك فهم أسلوب تحويل الإشارات السمعية الصوتية المعقدة إلى نبضات كهربائية ذات جوانب وصفات متعددة جداً وشديدة التعقيد، بحيث تتوازى بدقة مع خصائص الموجة الصوتية، وأيضاً الفهم الأعمق لطبيعة عمل كهربية المخ، وكذلك مع تقدم العلوم الالكترونية والتقدم التقني في هندسة الأجهزة الالكترونية.
من كل هذه القواعد المتقدمة انطلقت فكرة ما يسمى بزرع القوقعة السمعية (implantcochlear) أو ear(Electronic) أو (Bionic ear)أي: الأذن الالكترونية، وهي فكرة تقوم على محاولة محاكاة ما خلقه الله لنا من آليات سمعية تركزت في الأذن ومراكزها العصبية داخل الجهاز العصبي المركزي. حيث تم تطوير أجهزة الكترونية دقيقة ومعقدة تحول الرسالة الصوتية بما فيها من تضاغطات وتخلخلات في جزئيات الوسط الحامل للصوت (الهواء هنا) إلى ذبذبات ميكانيكية، وتلك يقوم جهاز معين بتحويلها إلى نبضات كهربية لها خصائص موازية لخصائص الصوت المنشئ لها أولاً. هذا فيما يختص بالجهاز الالكتروني الذي يحاكي عمل الأذن الداخلية من حيث وظيفة ترجمة التضاغطات والتخلخلات إلى تيار كهربي محفز لمراكز عصبية معينة في المخ وقد تطورت هذه الأجهزة بشكل مثير جداً إلى حد أنها أصبحت تحتوي على ألياف تعد بالمئات تسمى الأقطاب، يختص كل قطب منها بنقل التيار الكهربي المترجم عن الصوت والمعبر عنه إلى مناطق تحفيز الجهاز السمعي.


صورة تبين آلية عمل جهاز القوقعة السمعية
وتطورت أيضاً بالتوازي مع هذا التطور التقني تقنيات جراحية نقلت مناطق غرس هذه الأقطاب من مواضعها المبدئية من حيث الغرس خارج القوقعة السمعية إلى حد زرعها داخل القوقعة الرقيقة نفسها، بل وفي كل مليمتر منها، ثم تطورت الجراحات بصورة أكثر لتتخطى القوقعة السمعية نفسها كلية وتزرع فوق عصب السمع داخل تجويف الجمجمة لتحفيز هذا العصب مباشرة، ثم حدث تطور أشد فأصبحت تلك الأقطاب تزرع داخل جذع المخ ذاته وعلى امتداد المسارات العصبية للسمع داخل أنسجة المخ، مما أدى في النهاية إلى التخطي الكامل للأذن المعطوبة ونقل إشارات الصوت الخارجية للمراكز العصبية داخل المخ مباشرة... وهكذا تم تقريباً استنفاذ كل تقنيات عصر الفضاء التكنولوجية المعقدة في تلك المحاولات، وكذلك تم استنفاذ كل الأماكن التشريحية المحتملة في الرأس البشرية كأماكن للتحفيز السمعي سواء في الأذن أو في المخ... وبعد عقود من التجارب المستمرة على كل أنماط الأجهزة وكذلك المواقع التشريحية خلص العلماء للنتائج التالية:
(1) النوعية الملائمة من المرضى الذين يحتمل استفادتهم من الجهاز ينبغي اختيارهم من بين الذين سمعوا وتعلموا الكلام بصورة مبدئية، ثم فقدوا حاسة السمع بعد ذلك، أي في المرحلة المسماة مرحلة ما بعد اكتساب اللغة أما الصم الذين لم يسمعوا مطلقاً ولم يتعلموا الكلام ـ أي أن المخ لديهم لم تصله إشارات سمعية ولم يتكون فيه إدراك أو وعي بماهية السمع ـ فالنتائج لديهم غير مشجعة، ومن الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يكتسبوا لغة وكلاماً معقداً وراقياً ومتطوراً يمكنهم من التواصل والاتصال اللغوي مع باقي أفراد المجتمع.
(2) حتى المرضى المصنفون في مجموعة (ما بعد اكتساب اللغة) وجد أن أكثرهم استفادة هم:
(أ) الحديثو العهد بالصمم، حيث إنه كلما طالت مدة الصمم كلما قلت الاستفادة من الجهاز، وقد عزى ذلك إلى طول العهد بالصمم يؤدي إما لضمور وضياع وظيفة المسارات العصبية المختصة بالسمع داخل المخ، أو نسيان المخ لمدلول الكلام ذاته.
(ب) المرضى الذين يركزون على حاسة البصر أثناء الصمم كحاسة اتصال بديلة (قراءة الشفاه) هم الأكثر استفادة من الجهاز الالكتروني.
* وثبت أنه في أي مكان تشريحي يتم فيه زرع الجهاز ـ ومهما بلغ تعقيد هذا الجهاز ـ فلا يمكن أن يؤدي ذلك مطلقاً إلى نشوء سمع لكلام متصل معقد، بل إن أقصى ما يستطيع أن يقدمه هو مجموعة الأصوات التي يدركها المخ، وتلك لا تصلح بذاتها لتكوين كلام أو لغة، وهي ـ على أحسن الفروض ـ إشارات مساعدة لعملية قراءة الشفاه، ووجد أن المرضى الذين يجيدون قراءة الشفاه هم الذين يستفيدون فعلاً من الجهاز كأداة تواصل سمعي ولغوي؛ لذا أصبحت تجري أولاً وقبل زرع الجهاز الالكتروني اختبارات لحاسة البصر بهدف اكتشاف ثم تحسين عيوب البصر قبل زرع الأقطاب الالكترونية، وكذلك تجري اختبارات لقدرة المرضى على قراءة الشفاه، ويختار فقط منهم من له قدرة جيدة على ذلك، أما الآخرون فينبغي إجراء برامج تأهيلية مكثفة لهم بهدف تحسين تلك القدرة قبل إجراء جراحة الغرس.
نخلص مما سبق إلى عدة حقائق هي:
(1) أن المسارات العصبية للسمع قد تضمر أو تختفي وظائفها مع عدم استعمالها الناشئ عن الصمم، ويتناسب هذا الضمور طردياً مع طول مدة الصمم، وعكسياً مع الاعتماد على حاسةالبصر كآلية تعويضية، أي أنه يمكن القول أن قراءة الشفاه في حد ذاتها ورغم أنها رسالة بصرية ضوئية تسير في المسارات البصرية العصبية داخل المخ، إلا أنها تبقى مسارات السمع العصبية بصورة نشطة، أي قطعاً أنه يوجد هناك تحفيز ما لهذه المسارات المختصة بالسمع عن طريق تلك الإشارات البصرية رغم تباعد واختلاف المسارات العصبية للحاستين تشريحياً.
(2) بعد استنفاد كل المحاولات الالكترونية والجراحية لم يمكن نقل إشارات كلام كاملة للمخ عند الصم، بل على أحسن الفروض أمكن نقل بعض الأصوات المبهمة التي تحتاج لمساعدة وتعزيز بعملية قراءة الشفاه وصولاً لفهم الإشارة الضوئية.
(3) تأهيل وتدريب المرضى بعد عمليات زرع الأذن الالكترونية ينبغي أن يسلك طرقاً مزدوجاً، هو طريق سمعي _ بصري، أي: يتدرب المريض للمواءمة مع الجهاز السمعي الالكتروني، وذلك بالتوازي مع التدريب البصري على حدة، ودقة التقاط مدلولات قراءة الشفاه.
بعد هذه المقدمة العلمية تعالوا لنعود ونتأمل ثانية آياتنا القرآنية الموجزة جزءاً جزءاً على ضوء الحقائق التي تثبت حديثاً في هذا الموضوع:
(1) )إنك لا تسمع الموتى(:
وتلك هي حقيقة علمية مؤكدة لم يمكن اكتشافها إلا حديثاً جداً، فقد لوحظ أن الحاسة الوحيدة التي تبقى عاملة نشطة سواء في المراحل الأولية للتخدير أو في حالات الغيبوبة هي حاسة السمع، حيث إن الأحاسيس الجسدية العامة كأحاسيس الألم والحرارة أو وضع المفاصل وكذلك الأحاسيس الخاصة مثل خاصية البصر تذهب منكراً في مراحل التحذير الأولى، في الوقت ذاته الذي تبقى فيه حاسة السمع نشطة، وقد أدى ذلك إلى حدوث بعض القضايا الطبية الطريفة، منها مثلاً الدعاوى القضائية التي رفعتها النساء ضد أطباء في بريطانيا بعد أن قام هؤلاء الأطباء بتوليدهن، حيث ظن الأطباء أن فقد الوعي الظاهر لهؤلاء النسوة تحت التخدير بمواد أوكسيد النيتروز يمنعهن من سماع ما يدور في غرفة الجراحة، فحدث أن انطلقت ألسنة هؤلاء الأطباء بالتهكم على المريضة والمولود، مما سمعته المريضة الواقعة تحت التخدير، وتقدمت بعد تمام شفائها بدعوى تعويض عن الضرر النفسي الذي أصابها، وبالمثل أيضاً نرى شبيهاً لذلك في حالات الغيبوبة، حيث إن الأطباء المشرفين على تلك الحالات في البلدان المتقدمة أصبحوا دائماً يطلبون من أحباء المريض أن يلتفوا حول فراشه وأن يواصلوا الكلام معه باستمرار، حيث إنه ثبت ولأسباب غير محددة علمياً بدقة أن ذلك يساعد في سرعة شفاء تلك الحالات، ومن الطرف أيضاً أن بعض هؤلاء المرضى الذين استعادوا الوعي بدأوا في سرد الأحاديث التي دارت حولهم وهم في غيبوبتهم بدقة شديدة.
نقول أيضاً: إنه ثبت أن رسم رد الفعل السمعي المستحث Evoked Response Auditoryوهو من الفحوص التي ترصد كهربية المخ نتيجة للاستجابة للمؤثرات السمعية هو أصدق القرائن التي تثبت أو تنفي (موت المخ الإكلينيكي)حيث إن تلك الإشارات التي يمكن رصدها على طول مسارات السمع العصبية لا تختفي إلا بالموت الكامل، وهذا مثلاً يخالف نتائج رسم المخ الكهربي العادي EEGالذي ثبت أنه قد يختفي تماماً، بينما المخ لا يزال حياً ولم يمت بعد في حالات مرضية متعددة مثل التسمم بالعقاقير المنومة كعقاقير الباربتيورات.. وعلى هذا فإن وجود الجهاز الذي يرصد الاستجابة الكهربية في المخ للمؤثرات السمعية قد يكون فاصلاً ودليلاً لا يقبل الدحض على موت المخ أو العكس، بخلاف كل الفحوص الأخرى التي لا يمكن الاعتماد عليها بصورة قاطعة لسبب أو لآخر .. أليس هذا هو ما يقوله هذا الجزء من الآية محل البحث، حيث تعالى لم يقل مثلاً: ( إنك لا تُرى الموتى ) أو ( إنك لا تفهم الموتى ) أو ( لا تجعلهم يشعرون )، فتلك علامات إكلينيكية قد تذهب وتختفي تماماً ولا يزال الشخص حياً، بخلاف الأنشطة المتعلقة بالسمع والتي تضيع فقط مع الموت الحقيقي الكامل.
وتأكيداً للمعنى السابق دعنانراقب قول الحق: )وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء والأموات إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بِمُسمع من في القبور ([سورة فاطر : 19 ـ 22].
وهنا نرى أنه تعالى قارن بين كل خاصة وضدها، فقارن بين الإبصار والعمى ـ أي: الضياع الكامل لحاسة البصر ـ وبين الظلمات التي ينعدم فيها النور تماماً وبين وجود هذا النور، وكذلك بين الانخفاض والارتفاع في درجة الحرارة، بل قارن بين الحياة والموت نفسيهما كخاصتين لا مراء في التضاد والتقابل بينهما، أما في حاسة السمع وحدها بالذات فالآيات الكريمة لم تقارن بينها وبين ضياعها على نفس النسق السابق ( في أربع آيات )، بل قارنت بين وجودها وبين الموت ذاته، فلم تقل الآيات الكريمة مثلاً ( وما يستوي السميع والأصم )، بل قالت نصاً:)وما أنت بِمُسمع من في القبور (أي أن السمع هو خاصة بيولوجية تظل عاملة ما ظلت الحياة في الجسد البشري، أي بعبارة أخرى هي الحاسة الوحيدة التي يظل وجود أي أثر لها دليلاً قاطعاً على وجود الحياة، حيث إنها لا تختفي إلا بالموت ذاته فقط ... أليست تلك هي الحقيقة العلمية الطبية التي اكتشفناها مؤخراً جداً عن زمان التنزيل؟.
(ب) ثم نأتي للجزء الثاني من الآية الكريمة )ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (حيث نستخلص منها ما يلي:
(1) هناك تحديد علمي دقيق في القرآن للألفاظ الطبية المتعلقة بموضوع السمع، فالصمم: هو الفقد الكامل لحاسة السمع بأسلوب يتساوى مع حالته في الموتى أو بعد الموت، وأيضاً مايمكن استنتاجه من المقارنة القرآنية لتلك الحالة الواقعة تحت هذا المسمى مع الحالة البصرية المسماة (العمى) كما نراها في الآية التالية مباشرة، حيث إنه لا يوجد مطلقاً أحد يطلق على ضعيف البصر اسم (أعمى)، بل هو يطلق على الفاقد الكامل للحاسة .. إذن فالأصم هو الفاقد لحاسة السمع تماماً، وهذا هو الأسلوب العلمي الدقيق الذي يستعمل حالياً في الكتب العلمية الحديثة، حيث إن كلمة « الأصم » (Deaf)تطلق على فاقدي السمع بصورة كلية، أما فاقدوا السمع جزئياً فيطلق عليهم اسم " ضعاف السمع (hard of hearing) "وكذلك ففقد السمع الكامل هو الذي يطلق عليه الصمم (deafness)، أما الفقد الجزئي للحاسة فيسمى الفقد السمعي (hearing loss) .. لذا فإن كان هناك في الأسلوب العلمي القرآني استعمال للفظ "أعمى " بما يعني فقد البصر تماماً، وألفاظ أخرى مثل " غشاوة البصر " و " خشوع البصر " وخلافة للفقد الجزئي، فهناك أيضاً وبالمثل لفظ " الأصم " لفاقد حاسة السمع تماماً، أما الفاقدون جزئياً للحاسة وهم الأغلبية الكاسحة من المرضى فيسميهم القرآن كما سنناقش ونوضح لاحقاً بالذين ( في آذانهم وقر ) .. والخلاصة هي أن القرآن لا يزال هنا وفي تلك النقطة الطبية الحساسة المتعلقة بالمسميات والتعريفات يلتزم أشد المناهج العلمية دقة وصرامة ولا يعمم المسميات على مجموعات ذات خصائص متباينة مختلفة.


يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
  #188  
قديم 05-04-2008, 09:04 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـع موضوع ... إشراقات علمية لآيات قرآنية


(2) تقول آيتنا العلمية بوضوح شديد وبلا مواربة إنه لا يمكنك أن تسمع الأصم شيئاً في حالة واحدة هي إذا أعطاك دبره أي ظهره )ولوا مدبرين (،أي أن الآية الكريمة تقول بصراحة إن الأصم الفاقد لحاسة السمع كلية لا يمكن وبأي أسلوب أن يسمع كلاماً متصلاً مفهوماً وباستعمال أي أجهزة مهما كانت إذا أعطاك ظهره، أي إذا لم يواجهك، والمواجهة تعني شيئاً واحداً، وهو أن يراك، أي أن يرى تعبيرات وجهك وحركات شفتيك أثناء الكلام، وتلك هي النتيجة التي توصلنا إليها مع تجارب زرع الأقطاب السمعية في نهايات القرن العشرين، حيث ثبت أن الأصم لم يسمع حتى وباستعمال أعقد أجهزة السمع الإلكتروني إلا إذا واجه المتحدث، وكان يمتلك قدرة جيدة على قراءة الشفاه.
(3) يقول تعالى بنص الآية: )ولا تسمع الصم (وعلّق سبحانه عدم حدوث هذا السمع على شرط واحد هو )إذا ولوا مدبرين (،أي أن الأصم تماماً لن يسمع إذا أعطاك ظهره وهذا هو الشرط، إذن فهو يستطيع أن يسمعك إذا أعطاك وجهه ـ أي واجهك ـ أي أن ما يحدث ليس فقط رؤية أو فراسة أو استنتاجاً من قبل الأصم إذا واجهك، بل هو ( سمع حقيقي يرتبط بالمواجهة ) وفي حالة الأصم الفاقد للحاسة تماماً، فهل يمكن على ضوء مكتشفاتنا الحديثة أن ندرك مصداقية تلك الحقيقة القرآنية؟ نقول: إن هذا هو ما استنتجته الأبحاث الحديثة أخيراً بعد كل التجارب على زرع الأقطاب السمعية الالكترونية، حيث استنتجت أن مرضى الصمم الذين يركزون على حاسة البصر وينمون ويزيدون من حدة مقدرتهم على قراءة الشفاه، تبقى المسارات العصبية المختصة بالسمع عندهم في حالة نشطة تمكنهم من الاستفادة من زرع أقطاب التحفيز الالكتروني .. أي أن تلك المسارات العصبية داخل المخ لا تضمر ولا تضيع وظائفها، مما يشير إلى حدوث نشاط ما فيها يتواكب مع استقبال الرسائل البصرية، ذلك على الرغم من أن تلك المسارات مسارات مختصة بالسمع وتختلف تماماً عن المسارات المختصة بالبصر والتي يتم تنشيطها عند استقبال الرسائل البصرية، أي أنه ثبت حدوث نشاط ما بالمسارت السمعية عند الصم في حالة المواجهة واستقبال الرسالة البصرية المتمثلة في قراءة الشفاه .. أليس هذا هو ما نصت عليه الآية الكريمة ؟.
(4) كلمة )الدعاء (هنا كلمة ذات مدلول علمي خطير، حيث إنه في مجال المناقشة العلمية القرآنية لموضوع السمع والكلام تعني تلك الكلمة حرفياً ( أصواتاً مبهمة غير ذات مدلول لغوي واضح ) حيث يمكننا أن نستنتج ذلك من قوله تعالى : )ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ([البقرة : 171]أي أن هذا الدعاء والنداء هما من الأصوات المبهمة غير ذات الدلالة اللغوية، بل هما مما يمكن إدراجه تحت مسمى ( النعيق ) الذي هو بالتالي أصوات فطرية تطلقها البهائم، حيث إن تلك الحيوانات لو أنتجت أصواتاً تشابه (ما تسمع) لصارت لها لغة كلامية، أما حيث إنها تنتج أصواتاً تخالف تلك التي تسمعها )بما لا يسمع (فهذا هو العلة التي اكتشفها مؤخراً علماء السمع والكلام كحاجز بين هذه الحيوانات وبين تكوين لغة صوتية .. إذن فاستعمال كلمة )دعاء (هنا بالذات يتوافق تماماً مع ما وجدناه من تجارب زرع الأقطاب السمعية، حيث ثبت قطعياً أن هؤلاء الصم لا يمكنهم السماع الفعلي حتى باستعمال أعقد الأجهزة، وكذلك أدق الجراحات إلا لما يمكن تسميته بالأصوات المبهمة المجردة، والتي لا تقوم بذاتها مقام الكلام المفهوم المترابط، أي أنهم لا يمكن إسماعهم إلا أصواتاً مبهمة مما أسماه القرآن الكريم الـ )دعاء (وسبحان الله العظيم.
(ج) ثم نصل للمحطة الأخيرة في رحلتنا داخل أعماق تلك الآيات الكريمة الرائعة، وهي الآية الثانية في كلا الموضعين، حيث يقول الله تعالى: )وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ([النمل : 81 ، الروم: 53].
وهنا نرى مشهداً يستحق منا وقفة تأمل، يرسم لنا المولى تعالى من خلاله صورة تنتصب أمامنا حية عن الذين لا يهتدون ولا يثوبون للحق؛ وذلك لرفضهم لكافة أشكال وأساليب الهداية، وكذلك افتقادهم المبدئي للأساليب السليمة الهادية لدروب الحق، فهم مبدئياً يفتقدون الكثير من مؤهلات الاهتداء، كالأعمى الذي يفتقد حاسة البصر تماماً، ويزيدون على ذلك بإهمال ما هو متاح لهم أيضاً كوسائل أخرى تعويضية بديلة قد تخرج بهم من طريق الظلام والضلال .. يضرب لنا الحق تعالى مثل هؤلاء القوم بمشهد مثير، مشهد لعميان يتخبطون في الظلام بلا أي أمل في أن يهتدوا للطريق السليم الذي هو نقيض الضلال، أي فقد الطريق، ويقول لنا تعالى بوضوح إن السبب ـ في مثالنا هذا ـ المؤدي لهذا الضلال والتخبط ليس فقط هو العمى، بل هو اقتران هذا العمىبعدم القدرة أو الرغبة في السمع )إن تسمع إلا من يؤمن (، والحقيقة العلمية التي تسوقها الآية هي أن العميان يمكن مساعدتهم على الخروج من التخبط والتيه عن طريق السمع، ولعل هذا يقودنا إلى طرح سؤال مثير هو: هل رأى أحدكم وحتى يومنا هذا رجلاً أعمى يعتمد على السمع أو الحاسة السمعية التي هي استقبال للإشارات الصوتية ليتفادى الاصطدام والتخبط بالجدران والعوائق والمطبات؟ أو بلغة الأخرى: هل يمكن أن تقوم الآليات الصوتية السمعية محل الآليات الضوئية البصرية المفقودة عند العميان بغرض الاهتداء؟ ... والإجابة البديهية السريعة هي .. لا .. فالأعمى كما نراه جميعاً لا يعتمد على حاسة السمع، بل يعتمد على حواس اللمس سواء باليد أو بالعصا أو بخلافة ليلتمس أو يتحسس طريقه كما نقول لغوياً. إذن ما هي أبعاد تلك الأطروحة العلمية التي تقولها لنا هذه الآية الكريمة؟ .. وما هو مدى مصداقية فهمنا الفلسفي لتلك الآية؟ ..
أقول: إنه حتى زمان قريب جداً منا لم يكن هذا الفهم متاحاً، أما الآن فهو ميسور وواضح كالشمس الساطعة، فأولاً: لاحظ العلماء أن الأسلوب الحركي عند العميان المعتمد على التلمس والتحسس هو أسلوب حركي بطئ جداً وغير دقيق، وإن كان يصلح لسير بعض الأفراد لمسافات محدودة وبسرعات بطيئة فإنه حتماً لا يصلح كأسلوب حركي سريع للعمى، وبالتالي فإنه بداهة لا يصلح مطلقاً للتحرك البشري في ظلمات البر والبحر والجو، وما أكثرها بعد أن غزا الإنسان مناطق أرضية وكونية لم تكن متاحة من قبل، والكثير من تلك المناطق يفتقد لوجود أي ضوء مما يلزم لأي بصر نافع، هذا وقد بدأ البحث عن كافة الحلول الممكنة من وسائل مساعدة أو ظواهر فيزيائية وخلافه لحل تلك الإشكالية، وكان أهم الحلول مطروحاً دائماً للبشر في خلق الله تعالى، ولله المثل الأعلى دائماً وأبداً ... وقد فطن العلماء إلى أن هناك كائناً حياً يعيش دائماً في الظلمات ولا يتحرك إلا في الظلمات، واكتشفوا أنه شبه أعمى، وبالرغم من ذلك فهو ماهر وذو سرعة شديدة وقدرة تمييز عالية جداً، وهو أيضاً قناص ماهر وبارع، ألا وهو (الوطواط)، ولم تبدأ دراسة الأسلوب الحركي للوطواط إلا في عام 1793م على يد العالم لازارو سبالنزاني، وتبلورت على يد بعض العلماء في القرن العشرين مثل دونالد جريفين (1930) وغيره، حيث إن هؤلاء العلماء اكتشفوا أن الوطواط يستطيع أن يكتسب مهارته الحركية وإدراكه الحسي العالي جداً عن طريق إطلاق موجات صوتية ذات تردد أعلى من تلك التي تستقبلها الأذن البشرية، أي ما يسمى (موجات فوق الصوتية)، ثم ترتد هذه الموجات عند اصطدامها بالعوائق المختلفة وتعود للأذن الحساسة جداً للوطواط، حيث تقوم تلك الأذن بتحليل كافة أبعاد الإشارة الصوتية ومن ثم رسم صورة كاملة لكل موجودات البيئة حول الوطواط، وتلك الخاصية هي التي تسمى ********Echo-أي ظاهرة الاكتشاف والتحديد باستقبال الصدى الصوتي، وقد قام العلماء بمحاكاة تلك العملية في محاولة الوصول الحركية والإدراكية في التلكسات، فنراها تستعمل في الرادارات المختلفة التي ترصد كل ما يتحرك في ظلام السماوات أو قيعان البحار، حيث إن الطائرات والغواصات أصبحت لا تستغني بحال عن تلك الأجهزة، بل يستعملها العلماء الآن لاكتشاف غياهب ظلمات الجسد البشري ذاته، حيث ابتكر العلماء أجهزة (Ultrasound Scans) أي أجهزة الرصد والمسح بواسطة الموجات فوق الضوئية، مما يمكن من رسم صورة دقيقة لما يدور داخل ظلمات الجسد البشري وغيرها .. بل اكتشفوا أيضاً أن الوطواط يستطيع تحديد الجسم الموجود أمامه بدقة عن طريق خاصة أخرى هي (Doppler Effect)أي خاصة الدوبلر وذلك عن طريق تحليل نغمة الصوت المرتدة للأذن (وليس شدتها أو ارتفاعها فقط) .. واستعملت تلك النظرية حديثاً في عمل ما يسمى مجسات الدوبلر التي تستطيع اكتشاف حركة الدم في شرايين الجسد والرأس، بل وأكثر من ذلك تم أيضاً اكتشاف أن حشرات العثة ـ الفريسة المفضلة للوطواط ـ تمتلك آذاناً أكثر حساسية من الوطواط ذاته، حيث تلتقط إشارته فوق الصوتية من مكان بعيد، فتتمكن من الهرب، وأيضاً اكتشفوا أن تلك الحشرات أحياناً تطلق موجات فوق صوتية مضادة تتداخل مع ما يطلقه الوطواط فتربكه (خاصة التشويش الراداري) .. إذن فهناك في غياهب الظلمات والعمى صراع أبدي صوتي ـ سمعي بين الكائنات المختلفة التي خلقها العلي القدير تعلمنا منه الكثير، مما مكننا من التحرك الآن في غياهب الظلمات حيث لا نرى بعيوننا فنهتدي ولا نضل .. أي أنه ثبت أن الأسلوب الإدراكي والحركي الأمثل للعميان هو الأسلوب السمعي .. أليس ذاك هو ما ساقته تلك الآية القرآنية الوجيزة المنزلة منذ أربعة عشرقرناً، يوم تنزلت في عالم يتخبط في دياجير الظلمة والجهل.
ولعلي قبل أن أختم أود أن أذكر بحقيقة أخرى، وهي أن كل محاولات ابتكار ما يسمى بالعين الصناعية عن طريق التحفيز الضوئي لم تلق نجاحاً، وكل الأبحاث التي تجري حالياً في هذا المضمار تحاول ابتكار جهاز مساعد يساعد العميان في حركتهم عن طريق خواص مشابهة لما يستعمله الوطواط، أي أن ما يسمى أبحاث العين الصناعية أو الالكترونية في مفهومنا الحالي يقوم على خواص صوتية ـ سمعية بحتة، حيث تحاول ابتكار جهاز يمكنه رسم صورة للأعمى عن الموجودات حوله عن طريق أسلوب الرادار الذي يعتمد على الآليات الصوتية ـ السمعية.
وهنا أقول: إنه ينبغي وضع آية قرآنية أخرى في الوعي، عندما نرى تلك الحقائق والإنجازات العلمية تتوالى في الظهور على مسرح الأحداث إذ يقول تعالى: )والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ([الأنعام : 39].
وهنا نرى الحقيقة العلمية القرآنية مركزة وواضحة بلا أي غموض، فالمثل الوعظي يوازيه مثل علمي عن الأسلوب الحركي في الظلمات، أي: عند غياب الضياء، فيصير البصر بلا فائدة، حيث إن الآية الكريمة تتحدث بصراحة عن الاهتداء للطريق المستقيم الصائب الصحيح أو الضلال عنه، فهي إذن آية تحدثنا عن الحركة الصحيحة في الحياة الدنيا، كما تحدثنا بمثل علمي يوازيه عن الأسلوب الحركي الأمثل في الظلمات، ولم تورد لنا الآية أسلوباً آخر للوصول لذلك إلا الأسلوب الصوتي السمعي )صم وبكم (،فالذي يضل طرقه في الظلمات بنص الآية هو من لا يستطيع استقبال الإشارات الصوتية عن طريق السمع )صم (كما لا يستطيع أن يطلقها )بكم (،وذلك تعزيز آخر للتأكيد على صفاء تلك الحقيقة العلمية الواردة في القرآن الكريم ، ولعلني أذكر ثانية هنا بأن أولى التجارب البشرية في هذا المضمار ـ مضمار التحرك البشري الأمثل في الظلمات ـ بدأت أول ما بدأت في القرن الثامن عشر بعد قرون طويلة من التنزيل القرآني على يد العالم الإيطالي سبالانزاني، حيث أجراها على الوطاويط الساكنة في إحدى الكنائس، وثبت منها أن إتلاف عيون الوطاويط لا يؤثر مطلقاً على مهارتها الحركية أو على قدرتها على القنص، أما سد آذانها فقد أدى فوراً لضلالها في المسير وتخبطها في الجدران ثم موتها جوعاً فيما بعد، وكانت تلك التجربة هي التي استند إليها علماء القرن العشرين فيما بعد لتطوير الأسلوب الحركي في الظلام عن طريق الخواص الصوتية ـ السمعية بالرادار أو خلافه ... وسبحان المولى العظيم الذي قال فصدق، وبقي علينا أن نتأمل آياته العظمى في قرآنه المجيد، وفي كونه المعقد الفسيح.
د/ إسلام محمد الشبراوي
[1]محاضرة ألقيت في الموسم الثقافي لسنة 1998م.

[2]استشاري الأنف والأذن والحنجرة، وعضو جمعية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وعضو لجنة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر.
  #189  
قديم 05-04-2008, 09:08 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الشيخوخة بين القرآن والسنة والعلم الحديث

د / أحمد شوقي إبراهيم(1)
يمر جسم الإنسان في حياته الدنيا بأطوار مختلفة من أطوار الخلق فهو يخرج من بطن أمه طفلاً... لا يعلم شيئاً من أمر الدنيا... ثم ينمو جسمه شيئاً فشيئاً وتبدأ حواسه في العمل... فذلك قول الله عز وجل )والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ([النحل: 78].
ثم يكبر الجسم ويصير الإنسان شاباً قوياً، ثم يصير كهلاً... ويمضي به الزمن ـ إن طال به العمر ـ إلى آخر طور من أطوار خلق جسم الإنسان في الدنيا، وهو طور الشيخوخة...
وفي طور الشيخوخة يضعف الجسم شيئاً فشيئاً وتهاجمه الأمراض البدنية المختلفة في كل مكان... فيضعف من بعد قوة... وإذا امتدت الشيخوخة... وصل الجسم إلى مرحلة الشيخوخة المتأخرة التي هي أشد وطأة على الجسم والنفس معاً.. وأكثر ألماً وضعفاً وأكثر عجزاً... ذلك إن عوامل الهرم في الجسم تصير أكثر من عوامل البناء ويصاحب ذلك تغيرات بيولوجية في خلايا الجسم تقلل من كفاءتها كثيراً.. لذلك ما أن تدب الشيخوخة في الجسم حتى يصاحبها الشعور بالضعف ويتحول الجسم إلى مرعى خصيب لكثير من العلل والأمراض التي ربما تطول إقامتها فيه وقد لا تبرحه قط فالجسم في الطفولة يكون ضعيفاً، لذلك يعتمد الإنسان في طور الطفولة على غيره في القيام بشؤونه... ثم هو يكبر ويصير شاباً قوياً يساعد الآخرين... ثم كهلاً فيه بقية من قوة تساعده على القيام بشؤونه كلها وشؤون غيره أيضاً.. أما بعد ذلك فيدخل في طور الشيخوخة... وهي مرحلة الضعف التدريجي الذي يضطر الإنسان لها إلى الاعتماد على مساعدة غيره في القيام بشؤون نفسه.. ويصير مرة أخرى ضعيفاً كما كان في طور الطفولة فالإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً.. وعندما يدخل في طور الشيخوخة المتأخرة يدخل في طور من الخلق لا يعلم فيه شيئاً كما قال الله عز وجل )يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ([الحج: 5]. إنها دورة الحياة وأطوارها التي يمر بها جسم الإنسان إذا امتد به العمر... ضعف ثم قوة ثم ضعف وشيبة... وهذا يذكرنا بقول الله عز وجل في سورة الروم / 54:)الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (..ذكر حقيقة اختلاف أطوار خلق جسم الإنسان... ليستدل بها القارىء علىالخلق.ة الإلهية وعلى علم الله وقدرته ذلك مقصد الآية بالقول: )يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (.
ولماذا قدم المشيئة على العلم وقدم العلم على القدرة؟ لأن المشيئة سابقة على الخلق ... وعلم الله عز وجل أظهر لنا من القدرة.. لأن علم الله تعالى حاصل وظاهر في كل طور من أطوار الخلق... وفي هذا تبشير وإنذاراً له... فالله تعالى ينبه إلى أنه عالم بالإنسان في كل أحواله.. وهو قادر بعد ذلك على الثواب والعقاب، لذلك ذكر العلم بأطوار خلق الإنسان قبل ذكر القدرة عليه فقال تعالى: )الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (لأن المشيئة أزلية... ثم إن القدرة في الخلق مؤسسة على العلم.
وذكرت الحقيقة العلمية عن أطوار الشيخوخة )ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً (بنفس الكلمات والحروف في سورتي النحل والحج / 5 ... وإذا كان هناك تكرار في الكلمات فليس هناك تكرار في المعنى... وهذه قاعدة عامة في القرآن العظيم كله نزلت أولاً في مكة المكرمة في سورة النحل / 70 في قوله تعالى: )والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً إن الله عليم قدير (إنها حقائق علمية ثابتة ساقها دليلاً واضحاً على علم الله في خلقه وقدرته في ملكوته.
وبعد ذلك ذكر هذه الحقيقة العلمية، لتكون دليلاً على حقيقة أخرى غيبية، هي حقيقة البعث بعد الموت، وذلك في سورة الحج، وهي سورة مدنية، ونزلت بعد سورة النور، قال الله عز وجل )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث (ولماذا لم يوجه الحديث للمؤمنين؟ )يا أيها الذين آمنوا (ذلك لأن الذين آمنوا ليسوا في ريب من البعث. قال الله عز وجل: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً (ذكرت سورتا النحل والحج أطوار خلق الإنسان فبعد الإجمال في سورة النحل نزل التفصيل في سورة الحج وأورد حقيقة )ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً (في سياق الحديث عن الاستدلال بحقائق غيبية متعددة وليست متكررة فليس هناك تكرار في القرآن بمعنى التكرار... تكرار في اللفظ وليس تكرار في النفس إلا إذا أراد به التأكيد مثل فبأي آلاء ربكما تكذبان وأرذل العمر مرحلة لا يتمناها أحد لنفسه أبداً لذلك علمتنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من الله منها فقد روى البخاري: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه فيقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر... والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله تعالى عصمة من كل ذلك ولكنه كان يناجي ربه أمام الناس في أمور يريد بها تعليماً للناس وإرشاداً لهم كيف يدعون ربهم لأن الله عز وجل بعثه هادياً للأمة ومعلماً لها وإلى يوم القيامة...
الشيخوخة من سنن الله الكونية
إن الذي ينظر إلى سنن الله الكونية يجد أن الشيخوخة طور زمني حتمي، في دورة حياة كل مخلوق، أو دورة خلق كل موجود، فالشيخوخة من فطرة الخالق في هذا الكون، من أول الخلية الحية التي لا ترى إلا بالمجهر إلى خلق المجرة الهائلة في الفضاء الكوني...، كل شيء في الكون يبدأ خلقه بطور الطفولية وينتهي إلى طور الشيخوخة... نجد ذلك في الإنسان والنبات والحيوان والطير وحتى الجماد كالجبال والمحيطات... وحتى الكواكب والنجوم، وتبدأ كل خلية في الجسم في طور شبابها ثم بعد ذلك تظهر عليها أعراض الشيخوخة ومع أن زمن الخلية البيولوجي ـ وهو ما يسمى بالعمر الافتراضي ـ موجود بها منذ خلقها إلا أن عوامل البيئة المحيطة بها قد تؤثر عليها، فكل خلية بالجسم تعيش في توازن فسيولوجي في منتهى الدقة ويصيب الخلل هذا التوازن الفسيولوجي مع تقدم العمر وذلك بسبب تغيرات بالبيئة الداخلية المحيطة بالخلية مما يعجّل بحلول الشيخوخة فيها ومهما يكن من أمر فإن الشيخوخة طور حتمي من أطوار حياة الجسم لا يمكن منعه فالزمن يسوق الجسم إلى الشيخوخة سوقاً ويدفعه إليها دفعاً وتجري الحياة والموت جنباً إلى جنب في جسم الإنسان: ملايين الخلايا تموت كل ثانية من الثواني وملايين أخرى من الخلايا تحيا... ففي جسم الإنسان منايا وحياة.. حتى إذا جاءت الشيخوخة زادت عمليات الموت والهدم على عمليات الحياة والبناء وبذلك تحل الشيخوخة في الجسم ولا يمكن إعادة الشباب في خلايا الجسم أبداً... نجد ذلك من فيض المعاني في الحديث النبوي الذي رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال:
( مثل ابن آدم وفي جنبه تسع وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت ).
فالحياة والموت يجريان في جسم الإنسان جنباً إلى جنب... ولا بد للجسم من أن يصل إلى الشيخوخة إن أخطأته المنايا فطال به العمر.... ولن يجد الإنسان من شيخوخة الجسم مفراً ولن يجد منها مهرباً.
والإنسان يخشى الشيخوخة إذا كانت مقبلة عليه... ويخرج منها إذا حل فيها، كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
وقال آخر:
ذهب الشباب فماله من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب
وما يحدث في خلايا جسم الإنسان يحدث في خلايا كل كائن حي.. فكل كائن حي يمر بأطوار الطفولة والشباب والشيخوخة... ففي عالم النبات مثلاً نجد هذه الأطوار في كل نبتة وكل شجرة، ونقرأ عن هذه الحقائق في سورة الإسراء في قول الله عز وجل.
)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (.لما وصف الله تعالى أحوال المتقين في الجنة في الآية السابقة )لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد (بعد ذلك ذكر أحوال الدنيا بصفات تنفر الإنسان منها لأنها إلى زوال، والإنسان فيها مثل النبات مصيره إلى الضعف والشيخوخة.. وعقبت الآية بقوله تعالى: )إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (أي: أن من يشاهد هذه الأطوار في خلية النبات يقارنها يما يحدث له في بدنه فإذا هي تماماً ما يحدث للنبات ومصيره إلى شيخوخة ثم إلى موت وحطام فالذين يتذكرون ذلك يزهدون في الدنيا ويرغبون في الآخرة لما فيها من نعيم وقدم الترغيب في الجنة على التنفير من أهوال الدنيا لماذا؟ لأن الترغيب في الجنة مقصود بالذات... والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض.
فالشيخوخة تحدث في النبات كما تحدث في الإنسان والحيوان ذلك أن الشيخوخة من سنن الله الكونية... وساقها الله مثالاً في آية سورة الزمر لتكون ذكرى لأولي الألباب ونجد حقيقة الشيخوخة في النبات أيضاً مذكورة في سورة الحديد / 20 في قول الله عز وجل: )اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (ساق الله تعالى حقيقة أطوار خلق النبات وأن مصيرها إلى الزوال تشبيهاً بما يحدث للإنسان الغافل عن ربه وعن الحساب وعن الآخرة.
اللعب:هو ما رغب في الدنيا واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل الإنسان عنها.
والزينة:هي زينة الدنيا وما يتزين به الإنسان لغير الله في الدنيا... وكل هذا مصيره إلى زوال... كما ترون في أطوار خلق النبات من شباب ثم إلى شيخوخة وحطام.
إن الدارس لأطوار الخلق التي تنتهي بالشيخوخة يوقن تماماً أن الحياة الدنيا هي بمثابة لحظة في تاريخ الإنسان الطويل وأنها دار ممر وإن الآخرة هي الحياة الحقة ودار المقر الدائم كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبد الله كن في الدنيا كعابر سبيل )... فشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان في الدنيا ليس كسائر في طريق... وإنما كعابر الطريق، إشارة إلى قصر الحياة الدنيا، ولا شك أن الشيخوخة تعطي الدليل على حقيقة البعث بعد الموت، نقرأ سورة الحج / 5 قول الله تعالى:
)يا أيها الناس إن كنتم فيريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم (. هذه حقيقة أولى.
)ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى (وهذه حقيقة ثانية.
)ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً (وهذه حقيقة ثالثة.
)وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (وهذه حقيقة رابعة.
إنها أربع حقائق علمية نستدل بها على أربع حقائق غيبية:
الأولى: ذلك إن الله هو الحق.
الثانية: وأنه يحيي الموتى.
الثالثة: وأنه على كل شيء قدير.
الرابعة: وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
وجاء ذكر الأرض بوصفها هامدة في الآية الكريمة لأن ذلك أنسب في سياق الحديث عن خلق الإنسان منذ بدء خلقه نطفة وأنه قد يتوفى وقد يرد إلى أرذل العمر وجاء ذكر الأرض بوصفها خاشعة في سورة فصلت / 39 )ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت (لأن ذلك أنسب في سياق الحديث عن سجود الكون ومن فيه لله عز وجل، قال تعالى:
)لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون. فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون. ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير ([فصلت: 37 ـ 39].
إذن: فالحقائق العلمية إذ تذكر في القرآن الكريم إنما لتؤدي قصداً معيناً ولنستدل بها مع حقائق أخرى لا نحسها بحواسنا.. فنستشعر الحقيقة الغيبية في القلب عن طريق العقل وهذا أفضل الإيمان.... وما ذكرت الشيخوخة كحقيقة علمية في آي القرآن العظيم والحديث النبوي الشريف لمجرد الإعجاز العلمي، وإنما لنستمد منها تربية نفسية ونستدل بها على حقائق أخرى عن طريق الاستنباط والقياس.
شيخوخة جسم الإنسان
يمضي الجسم الرابع الأول من حياته في نمو وزيادة بينما يمضي الأرباع الثلاثة الأخرى في شيخوخة تدريجية ومستمرة، وليس للشيخوخة عمر محدد فبعض الأجسام تشيخ في عمر مبكر وبعض الأجسام لا تشيخ إلا بعد عمر طويل... فليست الشيخوخة معتمدة على العمر فقط وإنما على عوامل أخرى كالوراثة والبيئة والأمراض العضوية التي تصيب الجسم، كما تعتمد على صحة الشرايين..
وحتى في الشيخوخة هناك من يعاني منها كثيراً. وهناك من يعاني منها قليلاً ويظل نشطاً واسع الإدراك حاضر الذهن وقادراً على الحكم على الأمور في حكمة وبعد نظر بناء على خبرة طويلة يفتقر إليها من هو أقل منه عمراً وتحدث تغيرات بيولوجية وفسيولوجية في أعضاء الجسم في طور الشيخوخة.
فمثلاً شرايين الجسم:يحدث لها في الشيخوخة ما يسمى بتصلب الشرايين ما يؤدي إلى ضيق سعتها وبالتالي: قلة كمية الدم التي تجري فيها... وبالتالي إلى قلة توارد الدم إلى أعضاء الجسم المختلفة مما يؤدي بالتالي إلى ضعف تدريجي في الجسم عموماً وضعف بالقدرة الذهنية.
إلا أن بعض المسنين يظل نشاطهم الذهني حاداً وذكاؤهم شديداً كما في القادة والمفكرين والمخترعين والعلماء... فكثير من العلماء لم يكتشفوا اكتشافاتهم العلمية العظيمة ولم يبدعوا إلا في طور الشيخوخة... ذلك: أن صحة الجسم من صحة شرايينه فما دامت الشرايين سليمة، فمهما طال عمر الإنسان، فإنه سيظل قوياً ونشيطاً وحاضر الذهن.
وماذا عن العضلات والجلد والشعر؟ مع تقدم العمر تحدث تغيرات بيولوجية في خلايا الجسم ومن ذلك خلايا العضلات فالعضلة مكونة من خيوط عضلية كثيرة مثل حزمة من الخيط... كل خيط لا يزيد قطره عن 1.10 مللي متر.... وفي كل خيط نظام دقيق وعجيب من شأنه تقلص العضلة وارتخاؤها بقوة وسهولة... ومع تقدم العمر يضعف ذلك النظام داخل الخيوط العضلية فتتصلب العضلة ويقل حجمها وتتضاءل قوتها الأمر الذي يؤدي إلى حالة الضعف العضلي.
فالعضلات في طور الطفولة تكون ضعيفة ثم تنمو وتكبر وتقوى في الشباب ثم بعد ذلك تضعف شيئاً فشيئاً كلما دخل الجسم في طور الشيخوخة... إنها ثلاث مراحل: ضعف ثم قوة ثم عودة إلى الضعف مرة أخرى.
وكذلك شعر الجسم بتغير مع تقدم العمر... ونلاحظ ذلك بوضوح في شعر الرأس ولعوامل الوراثة دور كبير في ذلك... فالشعر في صغر السن يكون مرناً وقوياً وكثيفاً ومع تقدم العمر تقل مرونة الشعر وتضعف قوته وتقل كثافته ويزداد جفافه ويتساقط الشعر عن ذي قبل وخاصة في الرجال... ويبيض الشعر ويشيب الرأس.
نقرأ في سورة الروم / 54 قول الله عز وجل:
)الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (.
الشيخوخة والإنجاب
مع مرور الزمن تصل المرأة إلى منتصف العمر الذي هو بين الأربعين والخمسين وفي آخر هذه المرحلة ينقطع الطمث في كثير من الحالات، وذلك بسبب عجز المبيضين عن إفراز الهرمونات ( الاستروجين والبروجستيرون ) وقد يصاحب ذلك أعراض تشعر بها المرأة مثل الإحساس بالسخونة في الجسم والضيق النفسي والتوتر العصبي ونزول العرق وهذا ما يسمى (Menopausal syndrome)وتفقد المرأة القدرة على الإنجاب... أما الرجل فلا تتوقف القدرة على الإنجاب فيه إلا بعد أن يدخل في الشيخوخة، ومثالاً على ذلك في سياق الحديث عن قصة النبي إبراهيم عليه السلام وزوجه في سورة هود / 71 ـ 72:
)وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت: يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب (.
قال بعض المفسرين: فضحكت: أي: حاضت تحقيقاً لبشارة الملائكة لها التي أخبر الله عنها في قوله تعالى: )ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا: لا تخف إنا أرسلنا على قوم لوط. وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب (.
وقال بعض المفسرين: فضحكت أي: ضحكت فعلاً، ضحكت تعجباً.. أو ضحكت من خوف زوجها النبي إبراهيم من ثلاثة نفر وهو في خدمة وحشمة، ولا نتفق في تفسير الآية الكريمة مع هؤلاء ولا مع هؤلاء فليس معنى ضحكت حاضت وإن كان ذلك صحيحاً لغوياً ـ كما أنه من غير المعقول أن تضحك من اضطراب زوجها وخوفه من قوم قدموا إليه زائرين فهذا لا يكون من امرأة نبي. ولكنها ضحكت فعلاً تعجباً ودهشة.. وهي عجوز عقيم لا تحيض.. وقد أحست بتحرك الجنين في بطنها... لو كان المعنى أنها حاضت تحقيقاً للبشارة، لسألت عما هو بعد الحيض وهو الحمل ولقالت: ( يا ويلتا أأحمل وأنا عجوز ) ولكنها وقد أحست بتحرك الجنين في بطنها سألت ضاحكة مندهشة عما سيكون بعد الحمل وهو الولادة... قال تعالى يحكي على لسانها: )قالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب (قولها هذا إشارة إلى موجود بين وهذا بعلي شيخاً: أي: إن زوجي هذا الذي هو أمامي شيخ لا ينجب... إن هذا لشيء عجيب أي: إن حدوث الحمل هذا الذي أحس به شيء عجيب.
ولا أدري لماذا غاب عن بعض المفسرين هذا المعنى في الآية الكريمة مع وضوحه ووضوح السياق في الآية الكريمة وفي سورة الذاريات / 29 ـ 30 قال الله عز وجل: )فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم. قالوا: كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم(.في صرة أي: في تأوه وتعجب... فلما شعرت بالحمل ضربت وجهها بيدها ـ على عادة النساء عند التعجب والمفاجآت وقالت: كيف ألد وأنا عجوز عقيم؟.
ولماذا لم تذكر آية سورة الذاريات قولها: )أألد وأنا عجوز عقيم (واكتفت بالقول: )فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (.
وذلك: لأن عجبها من أمر الولادة جاء ذكره والإشارة إليه في آية سورة هود من قبل... وسورة هود نزلت قبل سورة الذاريات بزمن طويل: فترتيب نزول سورة هود 52 وترتيب سورة الذاريات 67.
ووصفت امرأة النبي نفسها بالعجوز العقيم في سورة الذاريات لأنها لم تصف نفسها من قبل بالعقيم في سورة هود... وعكس العقم: الحمل وليس الحيض.
وما حدث من إعجاز في الحمل من عقم، هو أمر من الله عز وجل الذي بيده الخلق والأمر )ألا له الخلق والأمر(... ونجد فيه الحكمة أظهر من العلم وأعجب، لذلك عقبت الآية الكريمة بالحكمة قبل العلم قال الله عز وجل: )إنه هو الحكيم العليم ()قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (قال ربك أي: أمر ربك وقضى... وإذا قال الله تعالى لشيء كن فيكون أي: أمر وقضى.... وهذا ما عقبت به أية سورة هود قال تعالى: )قالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب. قالوا: أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (وقول الله في هذا المقام هو الحمل والخلق وليس الحيض... ومثل ذلك في سورة مريم قول الله عز وجل: )قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً (.
)قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً (فإذا قيل: قال الله أي: أمر الله وقضى.


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ع
  #190  
قديم 05-04-2008, 09:20 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـع موضوع .... الشيخوخة بين القرآن والسنة والعلم الحديث
وماذا عن شيخوخة الجلد والشعر؟
مع تقدم العمر تحدث تغيرات بيولوجية في خلايا الجسم ومن ذلك الجلد والشعر فتقل مرونة الجلد ويضمر ويرتخي ولذلك تتغير ملامح الوجه... كما أن الشعر يجف ويتساقط ويشيب الرأس ففي سورة مريم يقول الله عز وجل يحكي عن النبي زكريا: )ذكر رحمت ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفياً. قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً (.
ولقد أشارت الآية الكريمة إلى ضعف العظام في جسم الإنسان في طور الشيخوخة ونفهم أن تضعف العضلات وتضعف الذاكرة ويضعف الجلد... ولكن كيف يضعف العظم؟ وهو جسم صلب لا يلين إلا إذا مرض بمرض لين العظام وهو مرض غير متعلق بالشيخوخة. جاء لنا التقدم العلمي بتفسير قوله تعالى وهن العظم مني: ففي أثناء الشيخوخة يحدث ما يسمى بتخلخل العظام أو هشاشة العظام فتتناقص كتلة العظام تدريجياً... وتعمل الهرمونات الجنسية في كل من الرجل والمرأة على إنشاء الأنسجة البروتينية في العظام... فإذا أقبلت الشيخوخة قلت تلك الهرمونات... وبالتالي يقل بناء تلك الأنسجة البروتينية في العظام فيحدث تخلخل بالعظام وضعف بها ووهن... وتصير سريعة الكسر... فإذا وقع شاب على الأرض على علو نصف متر مثلاً ووقع إنسان في سن الشيخوخة فغالباً تماماً... فإن الشاب يقوم وعظامه سليمة عادة لأن أنسجتها البروتينية تقوي العظم... أما في الشيخوخة فغالباً ما يحدث كسر بالعظام أو كسور... وإذا شبهنا عظام الشباب والشيخوخة فإننا نشبهها بساق نبات الذرة مثلاً إذا كان أخضر لا ينكسر إذا ركلناه في كل الاتجاهات وإذا يبس فإنه ينكسر من أقل حركة...
وفي الشيخوخة يحدث ضعف آخر في العظام بسبب تآكل الغضاريف وما يصاحبها من التهاب مزمن بالمفاصل أي: الاعتلال العظمي المفصلي... وتصاب المفاصل الكبرى والصغيرة على سواء كما تصاب مفاصل العمود الفقري... وتآكل الغضاريف كثيراً ما تصاحبه الآلام العضلية أو ما يسمى الآلام العضلية العظمية والحديث في هذا الموضوع طويل ليس هذا مجال بيان أي: تفصيلات فيه... فالمهم: أن نفهم أن مع الشيخوخة تضعف عظام الجسم جميعاً وبلا استثناء قال الله عز وجل:)قال رب إن وهن العظم مني (...أي: عظم الجسم كله... وهذه حقيقة علمية أن الهيكل العظمي في الجسم جهاز واحد... إذا دب الضعف ببعض العظام أثناء الشيخوخة فإن جميع عظام الجسم يكون قد دب الضعف فيها أيضاً... وقد يصيب الضعف بعض العظام أكثر من عظام أخرى إلا أن الضعف يشمل العظم كله وإن كان بدرجات متفاوتة قليلاً... وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة )قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً (ونجد التشبيه لانتشار شيب الشعر في الرأس بالنار في انتشارها في الهشيم فأخرجه مخرج الاستعارة... وأسند التعبير القرآني الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس فلم يقل: ( واشتعل الشعر شيباً ) ولكنه قال: ( واشتعل الرأس شيباً ) وبذلك وصل وصف الشيب في الشيخوخة إلى قمة الإعجاز البلاغي.
هل للشيخوخة علاج؟.... نعم. هل للشيخوخة دواء؟...لا
لا شك أن الشيخوخة طور من أطوار العمر تزعج الإنسان المقبل عليها وتكدر الإنسان الذي هو فيها... وعبر الشاعر العربي عن ذلك بقوله:
ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب
وشاعر آخر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
لذا اهتم الناس منذ آلاف السنين بهذا الموضوع... وبذلوا الكثير من الجهد في البحث عن شفاء للشيخوخة أو حتى علاج يعيد جانباً من شباب الجسم أو يدفع عجز الشيخوخة.. وكان ذلك جهداً منطقياً نابعاً من غريزة حب الدنيا وطول الأمل... وطول العمر مطلب للإنسان لكنه مشروط بتوفر الصحة والعافية... لذلك كان الجهد الذي بذله الناس منذ فجر التاريخ في البحث عن علاج للشيخوخة لا يزال مستمراً حتى اليوم... ولكن تبين أن الجهد كان بدون جدوى وكان الناس في بحثهم عن شفاء من الشيخوخة إنما كانوا يسعون وراء سراب.
والإنسان في هذه المحاولات يريد أن يخرج من نسق التغير إلى نسق الثبات ويحيا في شباب دائم بلا شيخوخة.. وهذا أمر مستحيل الوقوع.. لأن ذلك لو تحقق وقف الزمن.. ولا يتوقف الزمن أبداً في الحياة الدنيا... وإنما يتوقف في الحياة الآخرة فذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة: ( إن لكم أن تصحو فلا تسقموا أبداً.. وأن لكم أن تشبوا لا تهرموا أبداً).
وروى مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها: أن الأعراب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فنظر إلى أحدث إنسان فيهم وقال:
( إن يعش هذا لا يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم ) وإذا عاش إنسان ولم يدركه الهرم فإن هذا يدل على أنه يعيش في اللازمن.. ولا يكون ذلك في عالمنا هذا وإنما في العالم الآخر حيث تقوم الساعة... ونفهم من الحديث النبوي الشريف أيضاً: أن كل إنسان طال به العمر لا بد أن يدركه الهرم لأن الزمن يجري في الإنسان والإنسان يجري في الزمن لا يتوقف أبداً في هذه الدنيا... ولا يتوقف الزمن إلا في الحياة الأخرى... لذلك فإن فيها الخلود ولا يحرم الناس فيها أبداً...
وكان سبب بحث الناس عبر العصور عن شفاء للشيخوخة هو شعورهم الداخلي بالخوف من الموت ورغبتهم في البقاء أحياء... ونسمع في أساطير الأولين عن رحلة البحث عن سر الخلود وإكسير الشباب الدائم... واعتقد فريق من الناس قديماً أن نباتاً في قاع البحر إذا أكل منه المسنون عادوا إلى الشباب.. وتبين أنها نباتات بحرية لا تفيد شيئاً في ذلك.. وفي مصر القديمة كان المصري القديم لا يهاب الموت ولكنه يخاف الحساب بعد الموت... وكانوا يعتقدون أن الموت رحلة إلى حياة أخرى وإلى عالم سفلي.. وكانوا يكررون دائماً قولهم: ( إن الموتى يعيشون ) ( إنك لم ترحل ميتاً إنك رحلت حياً )... وربما نقل المصريون القدماء عقيدتهم هذه عن رسالة سيدنا إدريس عليه السلام الذي عاش في منف ( البدرشين حالياً ) قبل العصر الفرعوني... واعتنق المصريون عقيدة التوحيد ولما جاء العصر الفرعوني حرفوا اسم إدريس إلى ازوريس...
وتدل أوراق البردي في الآثار المصرية القديمة على أن قدماء المصريين قاموا عبر عصورهم بمحاولات كثيرة لاسترداد الشباب... ولكنهم لم ينجحوا... وحاول الهنود القدامى ولكنهم لم يكونوا بأسعد حظاً من المصريين القدماء... وكذلك فعلت الأمم السابقة في الصين وغيرها من أمم الشرق الأدنى والأقصى.
أما في أوروبا فقد اهتمت شعوبها عبر القرون بالبحث عن شفاء أو علاج للشيخوخة.. فمنذ عهد الإغريق كان اهتمام الناس بهذا الموضوع.. فما دام الأمر يخص صحة الإنسان فإنه يمثل من تفكير الإنسان المقام الأول... وتحكي لنا أساطير الإغريق العديد من المحاولات في هذا الموضوع مثل محاولة يوسانيانس وكيف اعتقد أن ( ينبوعاً للشباب ) موجود في مكان ما في العالم واعتقد أن أي إنسان يعاني من الشيخوخة إذا نزل في ذلك الينبوع فسوف يخرج منه شاباً فثار فضول الناس... وراحوا يبحثون عن ذلك الينبوع... وصار البحث عن ينبوع الشباب شغلهم الشاغل... ومرت العصور والناس لا تكف عن البحث عنه حتى العصور الوسطى.. وكان آخر المحاولات في البحث تلك الرحلة التي قام بها بونس دي ليون سنة 1512 في المحيط الأطلسي وسار غرباً حتى وصل إلى العالم الجديد.. ولكنه لم يكتشف شيئاً.. ولكنه اكتشف ما هو أهم من ينبوع الشباب.. اكتشف قارة أمريكا الشمالية...
وظل العلماء حتى العصر الحالي يبحثون عن علاج للشيخوخة واستعادة الشباب ولكنهم لم ينجحوا ولعل آخر المحاولات كانت محاولة الدكتورة أنا أصلان من رومانيا في منتصف هذا القرن.. وصاحبتها ضجة إعلامية كبيرة إلا أنه في النهاية لم يكتب لها النجاح وأخيراً تأكد لدى العلماء أنه لا يوجد أي دواء يشفي من الشيخوخة.. فالشيخوخة هي نتيجة تغير بيولوجي حتمي في جسم الإنسان لا يوقفه شفاء ـ ولا يفيده علاج ولطالما أضاع الناس من جهد ومال ودراسة وراء البحث عن دواء لعلاج الشيخوخة فما وجدوا شيئاً....
ولو تدبر الناس ما جاء في الحديث النبوي في هذا الموضوع ما أضاعوا كل هذا الجهد وما خسروا كل تلك الأموال في البحث والعناء فيما لا طائل من ورائه... فقد أخرج أبو داود والترمذي عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: نعم عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داءً واحداً قالوا: وما هو قال: الهرم. ( أي: الشيخوخة لا دواء لها ).
وروى الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت ).
قوله صلى الله عليه وسلم: وقع في الهرم حتى يموت يشير إلى أن الذي يقع في الشيخوخة لا يشفيه دواء ولا ينفعه علاج وفي هذا الحديث النبوي الشريف الكثير من الحقائق العلمية سنتطرق إليها فيما بعد.
بعض مظاهر الشيخوخة في الجسم
تحدثنا من قبل عن مظاهر الشيخوخة وآثارها في عظام الجسم والجلد والشعر والقدرة على الإنجاب وعن تأثير الشيخوخة على شرايين الجسم...
ويخشى الناس من ضيق الشرايين في القلب.. لأنها تؤدي إلى حدوث الذبحة الصدرية وإلى جلطة الشرايين وما يؤدي ذلك إلى أخطار صحية كبيرة... إلا أن ضيق الشرايين يسبب انحطاطاً بوظائف الأعضاء الأخرى... فضيق شرايين الكلى يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وفشل كلوي، وضيق شرايين المخ يحدث تدهوراً بوظائف المخ تدريجياً وتضعف الذاكرة تدريجياً للأحداث القريبة وتظل قوية للأحداث البعيدة ويفقد الإنسان القدرة على التكيف مع الظروف المحيطة به.. ويظهر عدم التناسب في سلوكه واضحاً مع رد الفعل المطلوب والمناسب... ويحدث تغير في عواطفه وفي شخصيته ويدخل في حالة العته الشيخوخي ويعيش في الماضي ويرفض التغيير والتكيف مع الحياة الحديثة... وهناك أيضاً شيخوخة الرئتين والعين والسمع.. وأجهزة الجسم الأخرى وليست الشيخوخة متعلقة بالسن وحده فهناك
ما يسمى بشيخوخة الأطفال
وشيخوخة الأطفال مرض نادر... ويكون الطفل طبيعياً بعد ولادته ولكن يبطىء نموه البدني بعد السنة الأولى من عمره حتى يصير نحيل الجسم قزماً إلا أن ملامح وجهه تنم على كبر السن ويدب الصلع في الرأس بعد خمس سنوات وتبدو العينان جاحظتين ويضمر الجلد وتقل طبقة الدهن تحته فيترهل ويتأخر ظهور الأسنان أما العظام فهي مثل عظام المسنين هشة وضعيفة وتعاني مفاصل الطفل من شيخوخة المفاصل وتتصلب الشرايين في جسده وقد تحدث له ذبحات صدرية وجلطات بالقلب في سن دون العاشرة غالباً ويموت هؤلاء الشيوخ من الأطفال قبل سن العشرين.
وما سبب الشيخوخة؟.
لا زال سر الشيخوخة غامضاً ومعقداً... وهناك نظريات كثيرة تشير إلى أسباب تتعلق بالخلية وأسباب تتعلق بالنظام الوراثي وعوامل الوراثة وأسباب تتعلق بالزمن البيولوجي بالأجسام... وتؤثر على كل هذه العوامل عوامل البيئة وعوامل المرض وعوامل معاناة الحياة وأغلب الظن أن سر الشيخوخة يكمن في كل تلك الأسباب مجتمعة... لكن ما هو علاج الشيخوخة؟ لا يوجد للشيخوخة شفاء ولكن لها أنواعاً كثيرة من العلاج التي تخفف من آلامها وتحافظ على صحة أعضاء الجسم أثناءها.
المبادىء الأساسية في علاج أمراض المسنين:
ـ محاولة تقليل المدة التي يقضيها الإنسان المسن في الفراش في حالة استرخاء عضلي كامل لأن ذلك يترتب عليه ظهور أمراض فيه فضلاً عما يصيبه من ضعف وضمور في العضلات والعظام... ولا بد من الرياضة البدنية الخفيفة مثل المشي وهذا يؤجل شيخوخة العضلات والعظام...
ـ عدم إعطاء أدوية كثيرة للإنسان المسن للأسباب الآتية:
أـ قد ينسي الجرعى المناسبة أو يتناول الدواء في غير مواعيده... وثبت أن 60% من المسنين يقعون في أخطاء في تناول الأدوية... وقد يودي ذلك بحياتهم..
ب ـ بعض الآثار الجانبية لا يتحملها الجسم في الشيخوخة...
ـ العلاج الغذائي:الإكثار من تناول الفاكهة والخضروات والفيتامينات ( وخاصة ج ، هـ ) والتقليل ما أمكن من اللحوم والدهون الحيوانية... وعقدت الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية على مدى ثلاثة أيام مؤتمراً دولياً عن الشيخوخة في أوائل شهر مايو 1996 وذلك لدراسة ما من شأنه الحفاظ على صحة المسنين دون تعرضهم لأمراض الشيخوخة التي تمثل عبثاً ضخماً على الخدمات الصحية والاجتماعية وخاصة أن عدد المسنين هناك في ازدياد. إذاً هناك أنواع من العلاج والدواء ولكن لا يوجد شفاء من الشيخوخة قط هذا هو آخر ما توصل إليه العلم في عصرنا هذا.. وهذا ما لم يفهمه الناس عبر العصور الماضية... ولو درسوا السنة النبوية المشرفة لعلموا ما لم يكونوا يعلمون ولو فروا على أنفسهم أموالاً كثيرة بذلت وجهوداً مضنية استنفدت:
فقد روى الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا ووضع له دواء إلا داءً واحداً هو الهرم ) أي: الشيخوخة ليس لها دواء.
وهل تشيخ نفسية الإنسان؟ يشيخ الجسم ولكن لا تشيخ النفس.
ولكن الإنسان في الشيخوخة يشعر بمتع أخرى لم تكن تستهويه من قبل... ويصير أكثر نضجاً وتعقلاً ولا يستجيب لاندفاعات الشباب وحماسة غير المبني على مبرر معقول ويصير أكثر حرصاً على المال وأكثر ميلاً إلى البخل وأكثر تؤدة في التفكير وأقل اندفاعاً في تصرفاته وأكثر رؤية وأبعد نظراً...
وكثير من المسنين تزداد فيهم هذه الميول إلى درجة هي أقرب إلى البخل من الحرص على المال وأقرب إلى العجز من الرؤية... وأقرب إلى الجبن من بعد النظر والاتزان في التفكير فذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل.. وأعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم )...
ويكبر الإنسان في السن ويكبر حرصه على المال والولد وهما زينة الحياة الدنيا... ويكبر معهم حب الدنيا وطول الأمل في الحياة حتى أن الأمل يسبق العمر بكثير... إذن الجسم يشيخ ولكن النفس لا تشيخ.. وهذا قصارى ما وصل إليه علماء النفس في هذا الموضوع إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أسرار النفس البشرية في الشيخوخة... فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: حب الدنيا وطول الأمل ).
ونتوقف عند قوله صلى الله عليه وسلم حب الدنيا: ونفكر فنجد أن منع الإنسان في شيخوخته تختلف تبعاً لميوله ودرجة الإيمان والتقوى فيه... فالإنسان المؤمن يحب في الدنيا أن يقضي أيامه في الصلاة والعبادة والتقرب إلى الله تعالى... وغير المؤمن في شيخوخته يود أن يقضي ما بقي له في الدنيا من أيام في جمع المال والحصول على متع الدنيا التي تستهويه، لذلك ذكر الحديث النبوي كلمة ( حب الدنيا ) مطلقة ليتسع التعبير اللغوي لكل الاتجاهات النفسية للإنسان في شيخوخته.
وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قلب الشيخ شاب في اثنتين: طول الحياة وكثرة لمال ).
ويشكو الإنسان من الضعف والعجز في الشيخوخة كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
دكتور
أحمد شوقي إبراهيم

[1]– عضو كلية الأطباء الملكية بلندن، ورئيس لجنة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر.
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 77 ( الأعضاء 0 والزوار 77)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 308.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 302.24 كيلو بايت... تم توفير 5.82 كيلو بايت...بمعدل (1.89%)]