دور العلماء في تجديد الدين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 37 )           »          الوقـف الإســلامي ودوره في الإصلاح والتغيير العهد الزنكي والأيوبي نموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أفكار للتربية السليمة للطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          لزوم جماعة المسلمين يديم الأمن والاستقرار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          منهجُ السَّلَف الصالح منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ ولا ينحصِرُ بمكانٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 38 - عددالزوار : 1198 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 16920 )           »          حوارات الآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 17 )           »          الخواطر (الظن الكاذب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الإنفــاق العــام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29-01-2020, 05:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي دور العلماء في تجديد الدين

دور العلماء في تجديد الدين


عدنان محمد أمامة





الحمد لله ربِّ العالمين, وأفضل الصَّلاة وأتَمُّ التسليم على سيِّدنا محمدٍ، المبعوثِ رحمة للعالَمين, وعلى آله وصحبهِ أجمعين.

أمَّا بعد:
فإنَّ الهيئة العليا في رابطة علماء المسلمين قد عهدَتْ إلَيَّ أن أتحدَّث في مؤتَمرِها الأوَّل: "العلماء ونَهضة الأمة" عن "دور العلماء في تَجديد الدِّين".

وحيث إنَّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره؛ فلا بدَّ إذًا من بيان المراد بتجديد الدِّين قبل الحديث عن دور العلماء في هذا التَّجديد, خاصَّة بعد أن امتَطى شِعارَ تَجديد الدِّين مَن غرَضُه هدْمُ الدِّين، وتبديل أحكامه، حتَّى غدا مصطلَحُ "تجديد الدِّين" في كثيرٍ من الأحيان كلمةَ حقٍّ يُراد بها الباطل!

تعريف التجديد:
التجديد لغةً: تصيير الشيء جديدًا, وجدَّ الشيءُ؛ أيْ: صار جديدًا، خِلاف القديم[1].
فالتَّجديد على ذلك: جَعْل القديم جديدًا؛ أيْ: إعادة القديم، ورَدُّه إلى ما كان عليه أوَّلَ أمرِه, وليس تعديلَه، أو تبديله، أو تغييره.
أمَّا التجديد شرعًا فهو: التجديد اللُّغوي عينه, مضافًا إليه ما تقتضيه طبيعةُ الإضافة إلى الشَّرع من مدلولٍ خاص، ومعنًى جديد.

وقد تنوَّعَت عباراتُ العلماء في تعريف التجديد، ويُمكننا أن نَخلص إلى تعريفٍ إجمالي للتَّجديد وتعريفٍ تفصيلي:
أمَّا الإجمالي فالتجديد يعني: إعادةَ الدِّين إلى النَّحو الذي كان عليه زمن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما استقرَّ عليه في القرون الفاضلة الثَّلاثة الأولى.

أمَّا تفصيلاً فالتجديد يعني: إحياء وبعْث ما اندرَس من الدِّين, وتخليصه من البِدَع والمُحْدَثات, وتَنْزيله على واقع ومستجدَّات الحياة[2].

ومن خلال التعريف يتبيَّن أن التجديد يَعمل على ثلاثة مَحاور:
1- المِحور الأول: إحياءُ ما انطمس واندرس من معالِم السُّنن، ونشرُها بين الناس، ودعوتهم إلى العمل بها.

2- المحور الثاني: قَمع البدع والمُحدَثات, وتوعية أهلها، وإعلان الحربِ عليهم, وتنقية الإسلام مِمَّا علق عليه من أوضار الجاهليَّة, والعودة به إلى ما كان عليه زمن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته الكرام.

3- المحور الثالث: تَنْزيل الأحكام الشَّرعية على ما جدَّ ويجدُّ من وقائع وأحداث, ومعالَجتُه معالجةً نابعة من هَدْي الوحي.

لماذا التجديد؟
سؤال يتبادر إلى الأذهان, هل ديننا بحاجة إلى تجديد؟ وما دام الله قد تكفل بحفظ الدين, فلماذا التجديد؟
والجواب: أنَّ التجديد بِمَعناه الشرعيِّ المتقدِّم حاجةٌ تحتِّمها طبيعةُ هذا الدِّين, وتفرضها الخصائصُ التي خصَّ الله بها هذه الشريعةَ الغرَّاء، وأهَمُّها خاصَّتا: الخلود, والشُّمول.

أما الخُلود للشريعة المتمثِّل في كون النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خاتَمَ النبيِّين كما نصَّ على ذلك القرآنُ في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، والسُّنة في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وأنا خاتم النبيِّين))، ((لا نبيَّ بعدي))[3]، والمتمثل أيضًا في كون رسالته هي الرسالة الخاتمة للبشر، كما نصَّ على ذلك قولُه تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

فإنه لا يتحقَّق إلا من خلال العلماء المُجدِّدين الذين يُحْيون الدِّين في الأُمَّة, ويصونونه من تأويل الجاهلين, وانتحال المبطلين, وتحريف الغالين، وهذا ما بشَّر به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((إن الله يَبعث إلى هذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنة من يجدِّد لها دينَها))[4].

وأما خاصيَّة الشُّمول التي دلَّ عليها قولُه تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158], وقولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وكان كلُّ نبيٍّ يُبعَث إلى قومه خاصَّة، وبُعثتُ إلى الناس كافَّة))[5], والتي تَعني استيعاب الشريعة لكلِّ شأنٍ من شؤون حياة الإنسان الخاصَّة والعامَّة في دنياه وأخراه, بحيث لا تقع حادثةٌ في جميع الأقطار والأعصار والأحوال إلاَّ ولله فيها حكم, قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].

فإنَّ هذه الخصية لا تتحقَّق إلا بوجود المجدِّدين المجتهدين الذين بإمكانهم إسقاطُ الأحكام الموجودة في كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على كلِّ ما جدَّ ويجدُّ من أحوال الناس.

كما أنَّ الحاجَة داعيةٌ إلى تجديد الدِّين:
1- لأنَّ العِلم يُختلَس كما وقع لليهود والنَّصارى، روى زيادُ بن لبيد - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكر شيئًا، فقال: ((ذاك آوانُ ذهابِ العلم))، قلتُ: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نَقرأ، ونُقْرِئ القرآن أبناءنا، ويُقْرِئه أبناؤنا أبناءَهم؟ قال: ((ثكلتك أمُّك زياد! إنْ كنتُ لأراك مِن أفقه رجلٍ بالمدينة, أوليس هذه اليهود والنَّصارى يَقرؤون التوراة والإنجيل, لا يعملون بشيءٍ مِمَّا فيهما؟!))[6].

2- ولأنَّ العلماء يُقبَضون؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله لا ينتزع العلمَ من الناس انتزاعًا، ولكن يَقبِضُ العلماءَ، فيرفع العِلم معهم، ويُبقِي في الناس رؤوسًا جهَّالاً يُفْتونهم بغير عِلم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون))[7].

3- ولأن الغربة عن الدِّين قدرٌ مَحتوم؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بدأ الدِّين غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء))[8].

ضوابط التجديد:
حتَّى لا يتسلَّق سنامَ التجديدِ أدعياءُ التجديد، وكلُّ من هبَّ ودبَّ، وحتَّى يبقى التَّجديد في إطاره الشرعيِّ، ولا يتحوَّل إلى أداةٍ لِهدم الدِّين، وتبديل أحكامه؛ فقد اتَّفقَت كلمة العلماء على جملةٍ من القواعد والضوابط اللازمة؛ ليكون التجديدُ صحيحًا، وأهَمُّها:
1- الحفاظ على الثوابت:
ففي الإسلام ثوابِتُ وقطعيَّات لا تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان, ولا يسوغ أن تكون محلاًّ للاجتهاد، وهي العقائد والحقائق الإيمانيَّة، وما عُلِم من الدِّين بالضرورة وما استقرَّ عليه المسلمون عبر قرونِهم المتطاولة، وخاصةً عصر الصحابة والتابعين؛ مِن فَهْمٍ للدين، وتطبيقٍ عملي له، دون أي خلاف، فهذه يجب أن تبقى كما هي إلى قيام الساعة، وتَجديدها يكون ببيانِها وتعليمها للناس، والدعوة إلى تطبيقها، والدِّفاع عنها في وجه العابثين.

2- مراعاة موارد الإجماع:
فقد اتَّفقَت الأمَّة على حجِّية الإجماع، وأنه مصدرٌ من مصادر الشريعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
قال ابن تيمية رحمه الله: "من خرَج عن إجماعهم فقد اتَّبع غيرَ سبيلِهم قطعًا"[9].

ولقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((إن أمَّتي لا تجتمع على ضلالة))[10], فإذا كان الله عصمَ الأمَّة أن تجتمع على خطأ وضلالة, فما اجتمعَتْ عليه حقٌّ وصواب لا يجوز لأحدٍ خلافُه أبدًا.

والمسائل التي أجمع عليها المسلمون كثيرةٌ، وخاصَّة في أصول الدِّين ومناهجِ الاستنباط، وحتَّى في الفقه والفروع هناك كمٌّ كبيرٌ من المسائل التي انعقد عليها الإجماع.

وعليه؛ فكلُّ خرقٍ للإجماع سواءٌ كان إجماعًا صريحًا أو إجماعًا سكوتيًّا بحيث تُستقرَأ الأقوال في المسألة، فلا يُعلَم فيها مُخالف, أو إجماعًا عمَلِيًّا، جرى عليه عمَلُ المسلمين على أمرٍ لقرون متطاوِلة، دون خلافٍ أو نكير يعدُّ ضلالاً وزيغًا وخروجًا عن سبيل المؤمنين, وإن أُخرِج بصورة التَّجديد والاجتهاد.

3- مراعاة فَهْمِ السَّلَف للدِّين، واعتماد منطلقاتِهم، ومَواقفهم من مُختلِف القضايا:
وقد شهد الله لصحابة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالخيريَّة والعدالة, ووصفهم بأنَّهم دُعاة إلى شرعه وسبيله, وأنَّهم على نورٍ وهدًى وبصيرة، فقال: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، والوسط: الخيار والعدل.

وحذَّر من اتِّباع غير سبيلهم، وتوعَّد على ذلك، فقال: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].

وجعل الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سُنَّةَ الخلفاء الراشدين من بعده قرينةَ سنَّتِه، وحجَّةً كحجيَّةِ سنته، فقال: ((عليكم بِسُنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ))[11].

وأخبَر أنَّ الفرقة والانحراف والاختلافَ سيقع في أمَّتِه، كما وقع في الأمم السابقة, وأنَّ كل المختلفين في زيغٍ وضلال، إلاَّ من اعتصم بِمَنهج الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحبه الكرام، فقال: ((وتفترق أمَّتِي على ثلاثٍ وسبعين ملَّة، كلُّها في النار إلا ملة واحدة؛ ما أنا عليه وأصحابي))[12].

وتكاثرَتْ أقوال الأئمة في تقرير حجيَّة عمل الصحابة، وفهمِهم للدين؛ يقول الإمام الأوزاعيُّ - رحمه الله -: "واصْبِر نفسَك على السُّنة, وقِفْ حيث وقف القومُ, وقُل بما قالوا, وكُفَّ عمَّا كفُّوا عنه, واسلُك سبيلَ سلَفِك الصَّالِح؛ فإنَّه يسَعُك ما وسِعَهم"[13].

ويقول قوام السُّنة الأصبهانيُّ: "مَن خالف الصَّحابة والتابعين فهو ضالٌّ، وإن كان كثيرَ العلم"[14].

وما دلَّت عليه النُّصوص والآثار المتقدِّمة مِن لزوم فَهم السَّلف، وقولِهم وعملهم - دلَّ عليه العقلُ أيضًا؛ لأنَّ من كان بالمتبوع ألصقَ كان بأقواله وأحوالِه ومُراده أحذقَ وأعرفَ مِن غيره، مِمَّن لَم يشاركه في هذه الخصلة, ومعلوم أنَّ أسعد الناس بِهذه المعرفة هم أصحابُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين صحبوه، وشاهدوا التَّنْزيل، وعاينوا الوقائع، وعرفوا التَّأويل, وهم أصحاب اللِّسان العربي الذي نزل به القرآنُ والسُّنة, فهُم الأعرف بألفاظ ما نزل عليهم، وبِمعاني تلك الألفاظ, وهم الترجمان العمَلِيُّ لشرع الله، والصُّورة الحيَّة الناطقة بأحكام الإسلام.

فما أجمعوا عليه فلا يصحُّ نَصْب الدَّليل إلا من خلاله, وما اختلفوا فيه فالحقُّ مَحصور في تلك الأقوال، والقول المخالِفُ لكلِّ أقوالهم مُحْدَث مبتدَع.

ومن أهمِّ ما يَجب متابعتهم فيه، وعدَمُ الخروج عليه منهجُهم في الاستدلال، وأصولُهم في معرفة الأحكام، وأبرزها:
1- مرجعيَّة الكتاب والسُّنة.
وتقديمهما على قول كلِّ أحدٍ؛ كائنًا مَن كان, وهذا ما صرَّحَت به عشرات النُّصوص، وانعقد عليه إجماعُ الأمةِ القولِيُّ والعمَلي.

2- تقديم النقل على العقل:
فمع تكريم الإسلام للعقل، وجعْلِه مناطًا للتكليف، وتقريرِه دلائل التوحيدِ والمَعاد، وسائر قضايا الإيمان الكبرى بالبراهين العقليَّة, وذمِّ المشركين؛ لعدم استخدام عقولِهم، وتعطيلها عن التبصُّر، وتمييز الحقِّ من الباطل، والخير من الشر - إلاَّ أن العقل له حدٌّ ينتهي إليه, ومجالٌ لا يتجاوزه، وقَدْر لا يتخطَّاه؛ لأنه يَستند في أحكامه إلى معطيات الحسِّ فقط من السَّمع والبصر وغيرِهما, ونطاق هذه الحواسِّ عالَمُ الشَّهادة، ولا دَوْرَ لَها في عالَم الغيب، أمَّا الوحي والنَّقل فله المَجال الأرحب والأوسع، وميدانه: عالَما الغيب والشهادة؛ لأنه مُنَزَّل ممن لا يَعْزُب عنه مثقالُ ذرَّة في السَّماوات، ولا في الأرض.

وعليه؛ فالواجِبُ على العقل الخضوعُ التامُّ، والتسليم المُطلق لحكم النَّقل، ثُمَّ إنَّ العقل الإنسانيَّ غيرُ معصوم، والخطأ يرد عليه كثيرًا، أمَّا نصوص الشَّرع فمعصومة, ومع أنَّه من المُحال أن يتعارَض العقل الصحيح مع النَّقل الصريح، إلاَّ أن العقل أحيانًا لا يتمكَّن من الإحاطة والإدراك الكامل ببعض النُّقول الشرعيَّة، ويَحار في فهمِها، فالواجِبُ - والحالةُ هذه - القَبولُ والتسليم، وعدمُ الردِّ والاعتراض.

يقول الشاطبِيُّ: "إذا تعاضَد النَّقل والعقل على المسائل الشرعيَّة، فعلى شرط أن يتقدَّم النقلُ؛ فيكون متَّبَعًا، ويتأخر العقل؛ فيكون تابعًا، فلا يَسْرَح العقلُ في مجال النَّظر إلا بِقَدْر ما يُسرِّحه النَّقل"[15].

3- حجية خبر الواحد:
فقد دلَّت الأدلة على وجوب العمل بكلِّ ما صحَّ عن رسول الله من غير تفريقٍ بين خبَرٍ متواتر وخبر آحاد، وثبت عن الصَّحابة والتابعين ومَن بعدهم الأخذُ بأحاديثِ الآحاد الصحيحة، دون شرط، أو تفريق بين مسألةٍ وأخرى، وانعقد على ذلك إجماعهم جميعًا.

قال الشافعيُّ - رحمه الله -: "ولو جاز لأحدٍ من النَّاس أن يقول في علم الخاصَّة: أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبَرِ الواحد، والانتهاء إليه؛ بأنَّه لَم يُعلَم من فقهاء المسلمين أحدٌ إلاَّ وقد ثبَّتَه - جازَ لي"[16].

وقال الخطيب البغداديُّ: "وعلى العمل بخبر الواحد كان كافَّة التابعين، ومَن بعدهم مِن الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا, ولَم يَبلُغنا عن أحدٍ منهم إنكارٌ لذلك، ولا اعتراض عليه"[17].

وعليه؛ نَعلم أن التفريق بين المتواتِر والآحاد في إفادة العلم والحُجِّية اصطلاحٌ حادث بعد القرون الثلاثة الفاضلة، لَم يَدُلَّ عليه كتابٌ ولا سُنَّة، ولم يعرفه الصحابة ولا التَّابعون، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد صدَّقَه المؤمنون فيما أخبَر به دون حاجةٍ إلى تواتُرِ المُخْبِرين، وكذلك كان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصدِّق أصحابَه فيما يُخْبِرونه به, وكان الرسول يَبعث الآحادَ من الصَّحابة إلى المُلوك والوُلاة؛ ليبلِّغوا عنه رسالةَ ربِّه, فلو كان خبَرُ الآحاد لا يُعمل به في باب العقائد لَما قامت الحُجَّة على أولئك الأقوام.

4- فهم الشريعة بِمُقتضى لغة العرب ومعهودها:
وذلك لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن بلغة العرب؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان من أمَّة العرب، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [التوبة: 128]، فكلُّ تفسير للنُّصوص لا يعرفه العرب بلسانِهم، وكلُّ إخراج للكلام عن ظاهره الذي تدلُّ عليه اللغة العربية، دون قرينةٍ أو دليل بِما يسمَّى بالتأويل - باطلٌ، ومردود، وعَوْدٌ على كلام الله وكلام رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالتحريف.

5- رد المتشابهات إلى المحكمات:
فنصوص الشَّرع منها المُحْكَم الذي لا يَحتمل إلا معنًى واحدًا، ومنها المتشابه, وفي حال توهُّم التعارض بين المُحكم والمتشابه فالواجب تثبيت المُحكَم وردُّ المتشابه إليه، وفهم دلالته في ضوء المُحكمات والثَّوابت كما هو شأن الرَّاسخين في العلم, وليس ردّ المُحكَمات والتمسُّك بالمتشابهات كما هو شأن أهل الزَّيغ والانحراف.

مجالات التجديد:
كما أنَّ الغربة تطرأ على كلِّ نواحي الدِّين، فالتجديد يجب أن يتَّجِه إلى كل جوانب الدِّين أيضًا، ويُمكِنُنا أن نرصد ستَّة مَجالاتٍ تَحتاج إلى تجديدٍ دائم.

1- المجال الأول: الحفاظ على نصوص الدين الأصلية صحيحة نقية:
لأنَّ الإسلام بنصوصه الأصليَّة، وإن كان محفوظًا بِحِفظ الله، إلاَّ أن ذلك إنَّما يتمُّ، ويتحقَّق بِهمَم العلماء الربَّانيين، وجهودهم وتضحياتهم، وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد حظِيَ القرآن الكريم بعناية بالغةٍ من المسلمين؛ كتابةً في السُّطور، وحِفظًا في الصدور، بوتيرة متصاعدةٍ منذ نزوله، وإلى أيَّامنا هذه، والحمد لله.

وحظيت سُنَّة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعنايةٍ لَم تعرفها أمَّة من الأمم، حتَّى عُدَّ الإسناد وتَمييزُ الأحاديث المقبولة من غيرها ميزةً وخاصيَّة من خصائص أمَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومَفْخَرة من أعظم مفاخرها، قال المستشرق "مرجيليوث": "لِيَفخَرِ المسلمون ما شاؤوا بعِلم حديثهم"[18].

2- المجال الثانِي: نقل المعاني الصحيحة للنصوص، وإحياء الفهم السليم لها:
وذلك لأنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسَّر لأمَّتِه معانِيَ القرآن الكريم، وتلقَّى صحابةُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - تلك المعاني، وسمعوا كلام النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفهموا مرادَه، وعايشوا التَّنْزيل، وطبَّقوا أحكامه بين يدَيِ النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فغدا فهمُهم للنُّصوص جزءًا لا يتجزَّأ من الدِّين, وحجَّةً يجب الرُّجوع إليها، وعليه يكون إحياءُ منهج الصَّحابة, والعناية بتوثيق المنقولِ عنهم من أهمِّ مَجالات تجديد الدِّين.

3- المجال الثالث: بذل الجهد في التعرُّف على أحكام المستجدات والنوازل:
فممَّا لا شكَّ فيه أن تقلُّبات الزمان والمكان، وتغيُّر أنماط العيش وتداخل البشر فيما بينهم ينشأ عنه قضايا لَم يكن للسَّالفين بها عهد, فالواجب على المجدِّدين الإحاطةُ بها، وتكييفُها التكييفَ الشرعيَّ، ثُمَّ إعطاؤُها الحُكْمَ المناسب لها، المستمَدَّ من الكتاب والسُّنة, وما أكثرَ النَّوازل المعاصِرة في مختلف ميادين الحياة الاقتصاديَّة، والاجتماعية، والسياسية، والدينية!

4- المجال الرابع: تجديد العلوم الشرعية، وتنقيتُه من علوم المنطق والفلسفة، والأحاديث الدَّخيلة.

5- المجال الخامس: تحديث لغة الخطاب، والاستفادة من التقنيات المعاصرة ووسائلِ الإعلام.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 29-01-2020, 05:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دور العلماء في تجديد الدين


6- المجال السادس: حماية الدِّين، والدِّفاع عنه، والجهاد في سبيله:
وهذا يشمل الجهادَ بكلِّ أنواعه؛ جهادَ الكلمة، وجهاد المال، وجهاد النَّفس، سواءٌ في وجه الكفَّار أعداءِ الدِّين المُحاربين له، أو أصحاب العقائد الشِّركية الباطلة على اختلاف مِللهم ونِحَلهم، والوقوف في وجه أهل الزَّيغ والانحراف والابتداع، المنتسبين إلى الإسلام، وما أكثرَهم!

وعند هذه النقطة ينبغي أن نقف قليلاً؛ لنتأمَّل في ظاهرة تجديد الخطاب الدِّيني، والَّتِي يرفعها أدعياءُ التجديد، ويريدون منها هَدْمَ الدِّين، وتَغيير خواصِّه ومعالِمِه الأصليَّة, ولا شكَّ أنَّ خطر هؤلاء يفوق خطر الأعداء المعلنين بعداوتهم, والتحدِّي الذي يواجهه الإسلام ليس تحدِّيًا خارجيًّا من قِبَل أعداء الإسلام، بل يكمن التحدِّي في الإقرار بأنَّ الإسلام دينُ الحقِّ، ثُمَّ محاولة تفريغه بعد ذلك من مضمونه الحقيقيِّ، فيتحوَّل الإسلام إلى مظهرٍ أجوف، لا ثَمرة له، وذلك من قِبَل أشخاصٍ يَظهرون في زيٍّ وسَمْت إسلامي، ويُقَدَّمون لعامَّة الناس بأسماء المفكِّرين الإسلاميين! فلا بد من الوقوف على دعوة هؤلاء، وبيان مُرادهم من التَّجديد، ومنطلقاتهم وأصولهم، ثم الحصادِ الذي وصلوا إليه، ثم التحذير منهم.

تعريف التجديد المنحرف:
فالتجديد عند هؤلاء يعني: تطويرَ الدِّين، وتعديلَه بالزِّيادة عليه، والحذفِ منه، وتهذيبَه؛ ليتلاءمَ مع المفاهيم السَّائدة في العصر الحديث, وهو نسخة طبق الأصل لِحَركة تطوير الدِّين التي نشأت عند الغربيِّين باسم العصرانيَّة، يقول "منير البعلبكيُّ" في تعريفه للعصرانيَّة هي: "أيُّ وجهةِ نظر في الدِّين، مبنيَّة على الاعتقاد بأن التقدُّم العِلمي والثقافيَّ المعاصِرَيْن يَستلزمان إعادةَ تأويل التعاليم الدِّينية التقليديَّة، على ضوء المفاهيم الفلسفيَّة والعِلمية السَّائدة"[19].

وللإنصاف؛ فإنَّ دُعاة التجديد الواقعين تحت تأثير العصرانيَّة ليسوا سواءً؛ فمِنهم الماكر المرتَدُّ الذي يكيد للإسلام، ويسعى لتدميره، متخفِّيًا بأقنعة "الإسلام المستنير"، أو "المنفتح", ومنهم مَن تَحوم حوله شبهاتٌ قويَّة في عمالتِه، والله أعلمُ بِحاله, ومنهم الجاهل المضلَّل الذي قادَتْه غفلتُه، أو شهوته ومآربُه إلى ركوب موجة تطوير الإسلام, ومنهم العالِمُ الفاضل الذي آلَمه حالُ المسلمين، وقلَّ صبره، واستيئس من انتصار الدِّين، وظنَّ أنه لا سبيلَ لعودة الإسلام إلى واجهة الحياة إلاَّ بالانحناء للعاصفة، والمُصالحة مع الواقع المفروض على المسلمين.

ونحن هنا لا نُحاكم الأشخاص، وإنَّما نكشف عن انحراف الأفكار، بغضِّ النَّظر عن أصحابها ومراميهم، ونقرِّر أن كلَّ اجتهاد طال قطعيَّاتِ الإسلامِ وثوابتَ الشريعة وأحكامَها المستقِرَّة، ودعا إلى نقض ما أجمعَت عليه الأُمَّة فهو اجتهادٌ منحرِف، وتجديدٌ باطل، بِصَرف النَّظر عن الأشخاص والنَّوايا.

وأخطَرُ ما انتهى إليها التجديد المنحرفُ أنه انتقل من أشخاصٍ وأفراد معدودين، نبَذَهم الناسُ وعرفوا ضلالَهم وانحرافهم إلى أن تتبنَّاه جماعاتٌ وأحزاب وتيَّارات إسلامية كبرى، ويصبح منهجًا وبرنامجًا لها، تطرحه على الملأ، وتعرضه للرَّأي العامِّ على أنَّه الإسلامُ الذي تؤمن به، وتسعى لأن تَصِل إلى الحُكْم من خلاله، وهو نُسخة لا تختلف كثيرًا عمَّا يطرحه العلمانيُّون واللِّبيراليُّون المبهورون بالحضارة الغربيَّة، بل خطورته أشدُّ؛ لأنَّه لا يطرح نفسه عدوًّا للإسلام، أو مُعارضًا لقِيَمِه، بل باسم الإسلام نفسه.

والمُتابِع لما يطرحه أصحابُ التجديد المنحرف، سواءٌ المستقل منهم والمستكثر، يرى بوضوحٍ أنَّ سبب هذا الانحراف يعود لأمورٍ، أبرَزُها:
1- الإعجاب الكبير بالحضارة الغربيَّة، وضعف الثِّقة بكمال الشريعة، ووفائها بحاجات البشَر:
فقديمًا كان انْحِراف الفِرَق الضالَّة، كالمعتزلة، وامتداداتها، وملحقاتها؛ بسبب الفلسفة اليونانيَّة الغربيَّة، التي تُرجِمَت إلى اللُّغة العربيَّة، فأُعجِب بها بعضُ الناس، ونظروا إليها نظرةَ كمالٍ، ثُمَّ أخذوا يطوِّعون الشريعة ونصوصَها إلى ما يتوافق مع مُعطيات الفلسفة اليونانيَّة.

واليوم عادت الحضارة الغربيَّة لِتَغزو أفكارَ بعض الكُتَّاب والمثقَّفين، وتبهرهم، فتصوَّروا أنَّها منتهى الكمال البشري، والرُّقي الإنساني، وأصبحَتْ غايةُ الأماني أن نَعقد مصالحةً بين الإسلام بِنُظمه وتشريعاتِه، وما انتهت إليه الحضارة الغربيَّة، لا على أساس هيمنة الشَّريعة، ولا حتَّى النِّدِّية مع الحضارة الغربيَّة، بل على أساسِ أنَّ الحضارة الغربيَّة هي المِثال الأعلى والأكمل، وهي القائد المتبوع، وأنَّ النُّصوص الشرعيَّة يجب أن تُؤَوَّل وتطوَّع بل تُحذَف؛ لِتُوائِم وتوافِق تلك الحضارةَ، وليس من قبيل المصادفةِ أن تكون منظومةُ الأحكام التي طالَها تحريفُهم هي فقط تلك التي لا تُعجب الغرب.

2- غلَبة النظرة الماديَّة عليهم:
إذْ يغيب عنْ هؤلاء المتأثِّرين بحضارة الغرب أنَّ مقياس التقدُّم والحضارة في ميزان الله يحدِّده قرب الإنسان من ربِّه، وتحكيمه لشرعه، قال تعالى: ï´؟ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ï´¾ [الحديد: 9].

وكلُّ مَن له أدنى بصيرة بِمَقاصد الشَّريعة، وأدنى اطِّلاعٍ على نصوص القرآن والسُّنة، يدرِكُ بشكل قاطعٍ أن غاية الوجود تحقيقُ العبودية لله سبحانه, والعمل من أجل الآخرة، أما العمل الدُّنيوي وعمارة الأرض فقيمتُه تنحصر في خدمته للهدف الأساس، وهو عبادة الله سبحانه، وتحكيم شرعه.

إلاَّ أن أصحاب التجديد المنحرف عكسوا الأمور، فجعلوا العمارة المادِّية هي الأصلَ والغاية؛ مُتابِعين بذلك نظرةَ الغرب الماديَّة، أما العمل للآخرة فيحتلُّ مكانًا ثانَوِيًّا عندهم، وتناسى هؤلاء أنَّ الفراعنة وعادًا وثَمود وغيرَهم شيدوا حضاراتٍ عظيمةً وعريقة في التَّاريخ، لكنها لَم تُغْنِ عنهم شيئًا من عذاب الله ومَقْتِه حين ضيَّعوا أمره ومرادَه، فكفروا به وكذَّبوا رسُلَه، فحاق بِهم سوءُ العذاب، وأصبحت حضارتُهم أثرًا بعدَ عينٍ، وآيةً لِمن بعدهم.

أصول التجديد المنحرف:
يقوم التجديد المنحرف على أصول فاسدة، أهَمُّها:
تعظيم دور العقل، وتقديمه على النقل:
وهذه لوثة، ورِثُوها عن المعتزلة، وهم لا ينكرون ذلك، بل يفاخرون به؛ يقول "محمد عمارة" مشيدًا بِمَنهج المعتزلة: "لقد أحبُّوا عرض النُّصوص والمأثورات على العقل؛ فهو الحكم الذي يميِّز صحيحَها من منخولها، ولا عبرة بالرُّواة ورجال السَّند مهما كانت حالاتُ القداسة التي أحاطهم بها المُحَدِّثون, وإنَّما العبرة بِحُكم العقل في هذا المقام"[20]!

وضع شروط للعمل بالنصوص منها:
1- اشتراط التواتُر في مسائل العقيدة:
وهي بدعة أحدثَتْها الفِرَق الكلاميَّة قديمًا، فتلقَّفها أدعياءُ التجديد حديثًا، ولَم يكتفوا باشتراط ذلك في مسائل العقيدة، بل ضَمُّوا إليها الأحكامَ في ميدان التشريعات الدستوريَّة بِما في ذلك نظم الحُكم والحدود الشرعيَّة، والمعاملات الماليَّة؛ وذلك تمهيدًا لقبول القوانين الوضعيَّة.

يقول الغنوشي: "الإطار القانونيُّ والعقائدي والأخلاقي للدَّولة الإسلاميَّة يُمكن إجماله في كلمةٍ واحدة: (النَّص)؛ أيُّ نصٍّ يُوحى؛ كتابًا وسنَّة، قطعي الورود والدلالة، وهو الدُّستور الأعلى للدولة الإسلاميَّة"[21].

2- محاصرة عموم النُّصوص:
حيث يسعون جاهدين لتطويق دلالات النُّصوص، وحصرها في أطرٍ زمانيَّة ومكانية وعينيَّة؛ يقول "فهمي هويدي": "ليس كلُّ توجيه نبويٍّ يَنصح به المسلمون في كلِّ زمانٍ ومكان، يعدُّ سُنَّة تتَّبَع وتُحتذى، بل إنَّ مِن تلك التوجيهات والتعاليمِ ما ارتبط بِظُروف تغيَّرَت، أو استهدفت علَّة، أو مصلحةً لَم تعد قائمة"، وعليه يرى أنَّ أحكام الرَّقيق والعِتق والحجاب والتَّصوير كلها لَم يَعُد لَها محلٌّ أو مكان[22].

ويقول الكاتب "محمد سعيد عشماوي القسماوي": "إنَّ قاعدة العبرة بعموم اللفظ إنَّما صاغها الفقه الإسلاميُّ وتبنَّاها في عصور الانحطاط العقليِّ"[23].

3- تقديم مطلق المصلحة على النص:
فتنسج عقولُهم مصالِحَ، فإذا ما عارضَت نصوصَ الشَّريعة قدَّموها عليها.
يقول الغنوشي: "يُمكن على أساس المصلحة تعليقُ العمل بنصٍّ ظنِّي"[24].

ويدَّعي "محمد عمارة" أنَّ سيِّدنا عمرَ كان مِمَّن يقدِّم المصلحة على النُّصوص، وكمِثالٍ على تقديم المَصلحة عندهم على النُّصوص: يرَون أنَّ المصلحة تقضي اتِّفاق الناس، ونبْذَ التعصُّب فيما بينهم، وهذا يقتضي التَّسوية بين الناس؛ مُسْلِمهم وكافرِهم، وإطلاق الدَّعوات إلى الحوار بَيْن الأديان، أو على الأقلِّ إلغاء أحكام الولاء والبَراء الَّتي تضبط التَّعامُل مع الكُفَّار.

4- الاكتفاء بِمَقاصد النُّصوص وروحها دون أحكامها التفصيليَّة، وتقديمها على النُّصوص:
فقد دعا أصحابُ التجديد المُنحرف إلى اعتماد الفقه المقاصديِّ للإسلام، وأن تُفهَم النُّصوص وتؤوَّل على ضوء المقاصد الكُبْرى، كالعدل والتَّوحيد، والحرِّية والإنسانية، وغيرها، وأن يحكم على الأحاديث صحَّة وضعفًا، لا حسب منهج المحدِّثين في تَحقيق الرِّوايات، بل حسب مُوافقتِها أو مُخالفتها للمقاصد.

يقول "سليم العوا": "ولذلك كان الالتزامُ الإسلاميُّ في المَجال السِّياسي بالقِيَم السياسية وحْدَها دون التفاصيل كلِّها"[25].
فكلُّ حكمٍ له مقصد؛ فحيث أمكننا تحقيقُ المقصد، فلسنا مُلزَمين بوسيلته التفصيليَّة؛ مثل: حجاب المرأة، المقصود منه العفَّة، وليس خصوص الحجاب، فإذا أمكن تحقيقُ هذا المقصد بوسيلةٍ أخرى غير الحجاب، فلا داعي لإلزام النِّساء به.

5- تاريخية التشريع:
فيجعلون ما ورد من النُّصوص في جانبٍ من جوانب الحياة مرتبطًا بالتاريخ مفسَّرًا به, فيجعلون قطْعَ يدِ السارق مثلاً إنَّما كان حلاًّ لعدم وجود السجن زمن الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأحكام أهل الذِّمة مرتبطة بظروف الحَرب التي نشأَت بين المسلمين وغيرهم، وليست أحكامًا عامَّة، وكذلك سائر أحكام الولاء والبَراء، والرِّق والجِزْية.

وكأنَّ الشريعة خاصَّة بزمن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما قرب منه, ولم تَعُد صالحة لزماننا، وكم يضيق صدرُ هؤلاء بقول الإمام مالكٍ - رحمه الله -: لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بِما صلَحَ به أوَّلُها، وما لَم يكن يومَها دينًا، لا يكون اليوم دينًا.

6- عزل النصوص عن فهم السلف وتطبيقاتهم لها:
وأنَّ المقدَّس هو النصُّ فقط، أمَّا فهْمُ النُّصوص وتطبيقاتُها فهي تجارب تاريخيَّة، غير ملزِمة، نأخذ منها ما يتَّفِق وعصرَنا، ونردُّ ما لا يُلائم عصرنا.

7- اختراع علل للأحكام لا عهد للأولين بها:
كتعليلهم لتحريم الرِّبا باستغلال حاجة الفقراء، وهذا يتجسَّد في القروض الاستهلاكيَّة الَّتي يأخذها الفقراء من أجْل سدِّ حاجاتِهم المعيشيَّة؛ من مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن.
أمَّا القروض الإنتاجيَّة فالعِلَّة فيها غير محقَّقة، فلا تكون حرامًا.

8- التيسير والتخفيف:
لا على أساس أنَّ التيسير صبغةٌ طَبَعت أحكامَ هذا الدِّين، وأنَّ الشارع هو الذي يرخِّص وييسِّر, بل على أنَّ كل ما استثقله الناسُ ينبغي أن يُخَفَّف عنهم، فغدا التيسيرُ والتخفيف عندهم تسيُّبًا وانفلاتًا.

9- تقسيمهم السُّنة إلى تشريعية وغير تشريعية:
فيُخرِجون كلَّ ما كان في باب الآداب والهيئات والعادات من السُّنة، ويَحْصرون السُّنة التي يَلزمنا الخضوع لها فيما كان في أبواب الاعتقاد والعبادات فقط، مُسقِطين بذلك ألوفَ النُّصوص المتناوِلة لكلِّ شأنٍ من شؤون حياة الإنسان العامَّة والخاصة.

10- تتبُّع زلات العلماء وشذوذاتهم: وتصيُّد أخطائهم وسقطاتِهم، واتِّخاذ ذلك دينًا، وقد عدُّوا كلَّ ما ذُكِر في كتب الفقه من آراء واختلافاتٍ حُججًا شرعيَّة، مهما بَعُدَ مأخذها، ولَم يكتفوا بالمذاهب السُّنية، بل ضمُّوا إليها مذاهب الشِّيعة بفِرَقِها المتعدِّدة، والخوارج، وغيرهم.

حصاد التجديد المنحرف:
تَمخَّضَت هذه الأصول وتلك التقريراتُ التي اخترعها أصحاب التجديد المنحرف عن ولادة إسلامٍ جديدٍ، لا تربطه بالإسلام الذي أنزله الله - سبحانه وتعالى - إلاَّ جملةٌ من القِيَم والكُلِّيات الواسعة الفضفاضة، الفارغة والخاوية من المُحتوى؛ من قبيل الوَحْدة، والتسامُح، والعدالة، وصيانة الحقوق...

فلم يعد الإسلامُ إسلامَ الجهاد في سبيل الله؛ لنشر دعوة الله بين العالَمين؛ لأنَّ هذا وفق الفهم العصريِّ والقانون الدوليِّ عدوانٌ وتوسُّع، تأباه الإنسانيَّة المتمدِّنة.

وليس الإسلام الذي يَحكم الناس بكتاب الله وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّ هذا يتنافى مع حُرِّية الشعوب وحقِّها في أن تَختار ما تشاء من نُظم وتشريعات.
وليس إسلام الولاء والبراء على أساس الدِّين؛ لأنَّ ذلك يُخالف قِيَم التحضُّر.
وليس هو الإسلام الذي يَمنع الرِّبا؛ لأنَّ ربا اليوم ليس كربا الأمس.
وليس إسلامَ تقديمِ كلام الله ورسوله على ما سواهما؛ لأنَّ هذا تنطُّع وتشدد.
وليس هو إسلام التزامِ المرأة بما حدَّه الله لها من حشمةٍ وستر؛ لأنَّ هذا يعبِّر عن نظرة دونيَّة للمرأة، وقلَّة ثقة بها.
وليس هو إسلام الثَّبات الذي يبقى فيه الحلالُ حلالاً، والحرام حرامًا؛ لأن هذا لا يراعي خصوصيَّات الزمان والمكان، والمستجدَّات العصرية...

إلى آخر هذه القائمة التي تطول وتطول، وكأن الدِّين (موضة) من (الموضات)، ونظريَّة من النظريَّات التي تتبدَّل وتتغيَّر تبعًا لتقلُّبات الزمن والمكان.

وأصبح من المألوف - باسْم تجديد الخطاب الدِّيني والوسطيَّة - أن نرى ندواتٍ وحوارات ونقاشات حول ثوابِتَ استقرَّ حكمُها طيلة القرون الماضية؛ كالحجاب، وحدِّ المرتد، وقوامة الرِّجال على المرأة، وحاكميَّة الشريعة، والمثليَّة الجنسية، وحرمة بقاء المرأة التي تَدخل في الإسلام تحت زوجها الكافِر، وأصبح كثيرٌ من الدُّعاة الإسلاميين يروِّج بِحَماس للديمقراطيَّة؛ على اعتبار أنَّها أمثل النُّظُم لِحُكم مجتمع متعدِّد الثقافات, ويَجهر بأن السِّيادة للشعب، وأن الحُكم الأعلى في اختيار نوع الحكم الذي يُحكَم به الناس هو الشَّعب.

وهكذا جاء تجديدُيهم في الدِّين عاصفةً هَوْجاء ما تركت أصلاً من أصول الدِّين، ولا فرعًا من فروعه لا يتَّفِق مع أهواء الغربيِّين، إلاَّ نسفَتْه نسفًا، ودمَّرته تدميرًا, ولا يشكُّ المتابع لإفساد هؤلاء أنَّهم مَن يصدق فيهم قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإنَّه ليَخرُج في أمتي أقوام تتجارى بِهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبِه، لا يَبقى منه عرق ولا مفصل إلاَّ دخَلَه)).

فالواجب على العلماء الربَّانيين، والدُّعاة إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يُقابِلوا هذه الهجمة مِن قِبَل هؤلاء بهجمةٍ مقابِلة، وردٍّ متكافِئ، في منتهى الوضوح والبيان، والتفصيل والحزم، بعيدًا عن التَّعميم والتداخُل في الألفاظ، والمُناوَرات الكلاميَّة، وتَمييع القضايا، فالأمر جِدٌّ لا هزل فيه، وقد قال تعالى: ï´؟ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ï´¾ [القلم: 9].

والواجبُ علينا أن نُجاهِر، ونرفع صوتنا عاليًا بأنَّ ديننا هو الحقُّ بكلِّ نظُمِه وأحكامه وتشريعاته، وفيه وحدَهُ الصَّلاح والإصلاح للبشريَّة جمعاء, وفيه كفايةٌ ووَفاء لكلِّ أحوال الناس ومتطلَّبات البشر, وأنَّ ما عداهما من نُظم وقوانين تُخالف شرع الله تِيهٌ وضلال، وكُفر بالله، ومُنازَعة له في حكمه.

نسأل الله تعالى أن يثبِّتَنا على الدِّين، وأن يُرِيَنا الحقَّ حقًّا، والباطل باطلاً، كما نسأله أن يجنِّبَنا الفِتَن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يعصمنا من الزيغ، إنَّه سميعٌ قريب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالَمين.
[1] "لسان العرب", (2/ 202).

[2] "التجديد في الفكر الإسلامي", ص 19.

[3] البخاري, 3271 و 3196.

[4] "المستدرك على الصحيحين" (4/ 522).

[5] البخاري, 419.

[6] ابن ماجه, (4048)، وصحَّحه الألباني.

[7] "صحيح مسلم", 2673.

[8] "صحيح مسلم", 145.

[9] "مجموع الفتاوى" (19/ 194).

[10] ابن ماجه.

[11] أبو داود, 4607 وصححه الألباني.

[12] الترمذي, 2641 وصححه الألباني.

[13] "الحِلْية" (8/ 255).

[14] "الحجة في بيان المحجَّة" 2/ 437.

[15] "الموافَقات", (1/ 87).

[16] "الرسالة", ص 457 - 458.

[17] الكفاية في علم الرِّواية, ص 48.

[18] "مقدمة الجَرْح والتعديل" (1/ 2).

[19] "المورد" قاموس إنكليزي عربي, منير بعلبكي, ص 586.

[20] "تيارات الفكر الإسلامي", ص 70, 71.

[21] "الحريات العامة في الإسلام", ص 97.

[22] "التديُّن المنقوص", ص 189.

[23] "الحريات العامة في الإسلام", 241.

[24] "جريدة اسفير" 8/ 5/ 1997, مقال: "أفكار من أجل تحديث النَّظر إلى الإسلام"، ص 21.

[25] "الفقه الإسلامي في طريق التجديد", 49.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 90.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 87.96 كيلو بايت... تم توفير 2.24 كيلو بايت...بمعدل (2.48%)]