مظاهر الاعتصام بغير الله تعالى - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12603 - عددالزوار : 220489 )           »          إذا كانت الملائكة لا تقرب جيفة الكافر فكيف ستسأله في القبر ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 130 - عددالزوار : 15820 )           »          حرف القاف (نشيد للأطفال) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          نوادر الفقهاء في مدح سيد الشفعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          الجامع في أحكام صفة الصلاة 4 كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3959 - عددالزوار : 398591 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4428 - عددالزوار : 864970 )           »          أنماط من الرجال لا يصلحون أزواجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          أيها الأب صدر موعظتك بكلمة حب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-04-2024, 04:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,346
الدولة : Egypt
افتراضي مظاهر الاعتصام بغير الله تعالى

مظاهر الاعتصام بغير الله تعالى

إبراهيم الدميجي


الحمد لله رب العالمين؛ أما بعد:
فإن الاعتصام بغير الله داءٌ قاتل، وسُمٌّ ناقع، يَثْلِم الدين، ويهدم الإيمان، ويقطع الطريق بين العبد ورحمة ربه تعالى.

وقد يَبْتَدِئ الأمر بضعف يسير، ثم يزداد مع المدى حتى ينتهي إلى الخروج من رِبْقَةِ الدين، فأصل الشرك التفاتُ القلب واعتصامه بغير الله تعالى، والتوحيد يعصِف بالشرك، ويقطع جذوره من القلب والجوارح، وعليه فتعزيز توحيد المعرفة والإثبات، والقصد والطلب في القلب، في الغاية من الأهمية، فهي المطلب الأسمى، والهدف الأشرف، والغاية الخالدة.

ولكل داء أعراضٌ تُشير إليه، وأسباب تدعو إليه، ولكل باطن مظاهرُ دالة عليه، ومن مظاهر الاعتصام بغير الله تعالى:
1 ــ الجهل بالله تعالى:
فالجهل أبو الخَيباتِ، وسرداب الضَّيعاتِ، ودِهْلِيزُ الهلكات؛ لذلك كانت أول آية في القرآن هي: ﴿ اقْرَأْ ﴾ [العلق: 1]، فالقرآن منبع العلم النافع الدافع للجهل، والرافع لآفاته.

وكثير من الخلائق قد أتَوا من ركن جهلهم، فالعلم سلاح المؤمن، وأشرف العلوم بإطلاق هو العلم بالله تعالى بأسمائه وصفاته، وأفعاله وآلائه، وبما يستحق من الحمد والتقديس، والتسبيح والذكر، ثم العلم بدينه وشرعه الذي ارتضاه صراطًا مستقيمًا، وطريقًا قويمًا للوصول إلى حبه ومرضاته وجنته.

2 ــ التعلق بالمخلوق:
لا بأس من معاملة الناس والإفادة منهم، والانتفاع منهم، شريطة أن يكون تعلُّق الْمُضْغَةِ فقط بمن فَطَرَها، وسوَّاها، وقدَّر لها سَيرها ومرساها، فكل شيء هالك إلا وجهه، وكل حبل منقطع إلا من جهته، وكل شأن مضمحلٌّ إلا من قِبله، فبه ومنه وإليه تُرجَع الأمور، وتتصرف الأشياء سبحانه وبحمده.

ومتى تعلَّق المرء بمخلوق ناقص ضعيف، فقير فانٍ، فلا تَسَلْ عن خيبته وخساره من جهة مأموله ومطلوبه، أبَتْ سُنَّةُ الخلَّاق القدير الحكيم تعالى، إلا أن يكون النقص بقدر خطأ وجهة التعلق.

فكلما تعلَّق القلب بربِّه تنزَّلت عليه الْمِنَحُ والألطاف، وانهمرت على دَرْبِهِ أسباب التوفيق والسعادة، وكلما ضعُف تعلقه، انقطعت عنه الأسباب بحسبه، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا؛ ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]؛ أي: تركهم وَوَكَلَهم لأنفسهم.

عن عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت له: حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوْجِزْ، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: "يا داود؛ أمَا وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبيدي دون خلقي، أعرف ذلك من نيَّته فتَكِيدُه السماوات السبع ومن فيهن، والأرَضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجًا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبيدي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسَخْتُ الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي وادٍ هَلَكَ"[1].

وتعلُّق القلب بالله مستلزم لإخلاص الدين له، ولا يكفي العلم بقدرته تعالى، بل لا بد من العمل بمقتضاها من تجريد الاعتصام والعبادة؛ قال الدهلوي رحمه الله: "إن الكفار في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يَرَون لله عديلًا يساويه في الألوهية والقدرة وفي الخَلْقِ، ولكنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم والأصنام التي كانوا يعبدونها هم وكلاؤهم عند الله، وبذلك كفروا.

فمن أثبت في عصرنا هذا لمخلوقٍ التصرفَ في العالم، واعتقد أنه وكيله عند الله، ثبت عليه الشرك ولو لم يَعْدِلْه بالله، ولم يثبت له قدرة تساوي قدرة الله"[2].

ومن رام الوصول لِمِنَحِ الكريم العلَّام، فَلْيَلْزَمْ عتبةَ الاعتصام.

وإذا تولَّاه امرؤ دون الورى
طرًّا تولَّاه العظيم الشأن



وبالاعتصام بالله والاعتماد عليه، وإنزال الحوائج به دون غيره، يبطل كيد الكائدين، ويندفع عدوان المعتدين، وشر الحاسدين، من الإنس والجن والشياطين، وإذا ابتُلِيَ الإنسان بتعلُّقٍ بغير الله، فالواجب عليه الفزع إلى الله تعالى، والاعتصام والاستعاذة به، والتوبة والالتجاء إليه، ورجاؤه وحسن الظن به، والتوكل عليه، والتوجه إليه بقلبه وقالبه، وتفويض الأمور بحذافيرها للطفه ورحمته وحكمته، فإن هذا هو السبب المنجِّي من الشرور؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، وقال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه.

3 ــ التهالك على الدنيا، وإيثارها على الآخرة:
حب الدنيا مغروز في نفوس البشر، لأجل سَيرورة استخلافهم ليقوموا بمصالحهم، ويُتابعوا معيشتهم وتناسلهم، لإقامة امتحان صلاحيتهم لقرب الله تعالى في جنته، ولا يُلامون على حب الدنيا ابتداءً، فليس حبها بعيب ولا ذنب، ولكن يكون كذلك إذا طغى على حب الآخرة، أو زاحمها، أو ألهى عنها، أو قسا القلب لأجلها، فحينها يكون حبًّا مذمومًا.

وقد نبَّهنا الله تعالى لذلك في سورة الزهد؛ فقال: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 1 - 8]؛ أي: شغلكم حبُّ الدنيا ونعيمها وزهرتُها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك، حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها؟!

قال الحسن البصري: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1] في الأموال والأولاد، وعن أُبَيِّ بن كعب قال: "كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]؛ يعني: لو كان لابن آدمَ وادٍ من ذهب".

وعن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن أبيه قال: ((انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ[التكاثر: 1] يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ؟ أو لبِستَ فأبليتَ؟ أو تصدقت فأمضيت؟))[3].

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَتْبَعُ الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد؛ يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله))[4].

وعن أنس أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يهرَمُ ابنُ آدم وتبقى منه اثنتان: الحرص والأمل))[5].

ورأى الأحنف بن قيس في يد رجل درهمًا فقال: لمن هذا الدرهم؟ فقال الرجل: لي، فقال: إنما هو لك إذا أنفقته في أجر، أو ابتغاء شكر؛ ثم أنشد الأحنف متمِّثلًا قول الشاعر:
أنت للمال إذا أمسكته
فإذا أنفقته فالمال لك



وقال قتادة: "﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 1، 2]، كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ونحن أعَدُّ من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم".

والمراد بقوله: ﴿ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 2]؛ أي: صِرْتُم إليها، ودُفِنْتُم فيها؛ كما جاء في الصحيح: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأعراب يعوده، فقال: لا بأس، طَهُور إن شاء الله، فقال: قلت: طَهُور؟! بل هي حُمَّى تفور، على شيخ كبير، تُزِيره القبور، قال: فنعم إذًا))[6].

وعن ميمون بن مهران قال: "كنت جالسًا عند عمر بن عبدالعزيز، فقرأ: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 1، 2] فلَبِثَ هُنَيْهَةً، فقال: يا ميمونُ، ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بدٌّ من أن يرجع إلى منزله".

وقوله: ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 3، 4]؛ قال الحسن البصري: هذا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، وقوله: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 5]؛ أي: لو علمتم حقَّ العلم، لَما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة، حتى صِرْتُم إلى المقابر.

ثم قال: ﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 6، 7]، هذا تفسير الوعيد المتقدم، وهو قوله: ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 3، 4] توعَّدهم بهذا الحال، وهي رؤية النار التي إذا زَفَرَتْ زفرة خَرَّ كلُّ مَلَكٍ مقرَّب ونبيٍّ مُرْسَل على ركبتيه من المهابة والعظمة، ومعاينة الأهوال، على ما جاء به الأثر المرويِّ في ذلك.

وقوله: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]؛ أي: ثم لتسألن يومئذٍ عن شُكْرِ ما أنعم الله به عليكم؛ من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما إذا قابلتم به نِعَمِهِ من شكره وعبادته.

وعن أبي هريرة قال: ((بينما أبو بكر وعمر جالسان، إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أجلسكما ها هنا؟ قالا: والذي بعثك بالحقِّ، ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع، قال: والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيرُه، فانطلقوا حتى أتَوا بيتَ رجلٍ من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قِرْبته، فقال: مرحبًا، ما زار العباد شيء أفضل من شيء زارني اليوم.

فعلَّق قربته بكرب نخلة، وانطلق فجاءهم بعَذْقٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألَا كنتَ اجتنيتَ؟ فقال: أحببتُ أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم.

ثم أخذ الشفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إياك والحَلُوب، فذبح لهم يومئذٍ، فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لتسألُنَّ عن هذا يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا، فهذا من النعيم))[7].

وعن محمود بن الربيع قال: "لما نزلت: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]، فقرأ حتى بلغ: ﴿ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]، قالوا: يا رسول الله، عن أي نعيم نُسأل، وإنما هما الأسودان الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدوُّ حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: أمَا إن ذلك سيكون))[8].

وعن معاذ بن عبدالله بن حبيب، عن أبيه، عن عمه قال: ((كنا في مجلس فَطَلَعَ علينا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء، فقلنا: يا رسول الله، نراك طيِّبَ النفس، قال: أجل، قال: ثم خاض الناس في ذكر الغِنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس بالغِنى لمن اتقى الله، والصحة لمن اتقى الله خيرٌ من الغِنى، وطِيبُ النفس من النعيم))[9].

وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يُسأل عنه - يعني يوم القيامة - العبدُ من النعيم أن يُقال له: ألم نُصِحَّ لك جسمك، ونَرْوِك من الماء البارد؟))[10].

وقال سعيد بن جبير: حتى عن شربة عسل، وقال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا، وقال الحسن البصري: نعيم الغداء والعشاء، وقال أبو قلابة: من النعيم أكل العسل والسمن بالخبز النقي، وقول مجاهد هذا أشمل هذه الأقوال.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]، قال: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله العباد فيما استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم؛ وهو قوله تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))[11] ، ومعنى هذا: أنهم مُقصِّرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه، فهو مغبون[12].

4- ضعف اليقين:
اليقين: هو قوة الإيمان والثبات، حتى كأن الإنسان يرى بعينه ما أخبر الله به ورسوله من شدة يقينه، وعلى قدر اليقين يكون رسوخ الثقة في الموعود الإلهي، وما أجمله وأبهاه وأحلاه! ومن الخُطُوب ما لا يداويه سوى موعود الآخرة.

واليقين من أكبر أسباب الثبات عند الزعازع والنوازع، والرَّزايا والبلايا؛ عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: ((قلَّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم اقْسِمْ لنا من خَشْيَتِك ما تَحُول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهَوِّن علينا مصائب الدنيا، اللهم مَتِّعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقُوَّتِنا ما أحَيَيْتَنا، واجعله الوارث منا[13]، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ عِلْمِنا، ولا تُسلِّط علينا من لا يرحمنا))[14].

وفي وصية رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الشهيرة لابن عباس رضي الله عنه: ((احفظ الله يحفظك... فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا))[15].

واليقين صِمامُ أمانٍ للنجاة غدًا، وفي حديث فتنة القبر: ((وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قيل: على اليقين عِشْتَ وعليه مِتَّ، هذا مقعدك من الجنة))[16].

واليقين خيرُ مطلوبٍ، وأجمل مرغوب؛ فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قام على المنبر ثم بكى، فقال: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أول على المنبر، ثم بكى، فقال: سَلُوا الله العفوَ والعافية، فإن أحدًا لم يُعْطَ - بعد اليقين - خيرًا من العافية))[17].

أما ضعف اليقين فسرابُ خَيبةٍ، وبابُ حَيرة، وبحرُ شكٍّ، وسحابةُ ضلالٍ، فَلْيَعْتَنِ الناصح لنفسه بهذا الباب العظيم، فلليقين شأن ليس كغيره، فهو أساس الدين الذي تُرفع عليه أركانه، ويقوم عليه بنيانه، وهو فرقان الإيمان عن النفاق، فالإيمان يقين، والنفاق رِيبة.

فكيف يعتصم من كان في قلبه قلقٌ من حسن العاقبة للمعتصمين، أو شكٌّ ورِيبة في حقائق الدين؟! إن ضعف اليقين سُمٌّ للروح، وظلام للبصيرة، ودهليز للخِذلان، وزلزال للإيمان، والموفَّق حقًّا والسعيد صدقًا هو من اعتصم بيقينه بموعود ربه تبارك وتعالى، وقد خاب من ولد آدم من حمل شكًّا.

5- الجَزَع:
الجزع ضعف وفشل وانهزام، وهو مَعِيب حتى في الجاهلية؛ كما قال أبو طالب: "لولا أن تعيِّرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقْرَرْتُ بها عينَك))[18] ، وقد عزَّز الإسلام قيمة العزم والحزم والقوة؛ قال خبيب رضي الله عنه لقريش لما أرادوا قتله: "دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جَزَعٌ لَزِدْتُ"[19].

والجزع علامة ومظهر على وَهنِ حبل الاعتصام في قلب العبد، وانحسار حقائق الآخرة عن أطراف بصيرة الفؤاد، فالجزع دهش يُزعج سَكِينة الروح إلى اضطراب وتشويش وشَتاتٍ، فيرميها من علياء يقينها وطمأنينة موارد علمها، إلى صخرات طيش العقل، وانفلات زمام أمر اللُّبِّ الحكيم في مَهَامِهِ الفشل والحسرات؛ وعليه فالجزع رِداءٌ رَدِيء على أكتاف المؤمن، وجُدَرِيٌّ قبيح على مُحيَّا المعتصم بربه، الواثق بمعيته، فعليه من فَورِهِ الوضوءُ بماء التوبة، والتطهُّر بغسل الأوبة من الحَوبة، والله يغفر ويعفو، ويرحم ويكرم، وهل من خير إلا منه كرمًا وفضلًا، وهل من دافع شرٍّ إلا هو عزةً ورحمة واقتدارًا؟

فالمعتصم بالله حقيقةً قويٌّ حازم صابر، غير هيَّاب ولا جزوع ولا قنوط، ومن رأى في نفسه جزعًا، فليراجع اعتصامه بمولاه، فَثَمَّ خَلَلٌ هناك، والله المستعان.

6 - ضعف الصبر:
لما كان الصبر رأس الأعمال كان ضعفه مؤثرًا فيها ضرورة، وعلى قدر ضعف الصبر يكون الانحدار في الخذلان، وما نال العباد خير دنيا ولا آخرة، إلا بركوبهم راحلة الصبر بإذن الله وتوفيقه.

والاعتصام بالله يمد الصبر بمادته، فمن كان بالله مستعصمًا كان من الصابرين.

7- التردد وعدم الثبات:
فالمعتصم ثابت الخُطى، راسخ المبدأ، واثق المسير، نافذ البصيرة، فعنده من العلم بالله ما يهديه سواء السبيل، ومعه من مَدَدِ الله ولطفه ما يحوطه بالتوفيق والثبات.

والعالم بربه شديد الاعتصام به: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ﴾ [الأعراف: 170]؛ أي: يعتصمون به، فقد حفِظهم الله لحفظهم دينه، وعمَلِهم بعلمهم، واستمساكهم بحبله.

فالاعتصام جدار يسند المؤمن ظهره إليه وعليه، فما حال من ضعُف جداره أو سقط؟!

فاشْدُدْ يديك بحبل الله معتصمًا
فإنه الركنُ إن خانَتْكَ أركانُ




8- موالاة أعداء الله تعالى:
ذلك أن المعتصم بالله مُوالٍ لله ولحزبه المؤمنين، فهو لله وبالله ومع الله وإلى الله، يدور مع أمر ربه ومراده، ومحابِّه ومراضيه، يوالي أولياءه ويعادي أعداءه، والله تعالى يحفظه ويحوطه، ويحرُسه ويوفِّقه.

أما من اعتصم بغير مولاه، فقد دخل عليه عدوُّه من أبواب كثيرة واسعة، من أكبرها باب ترك الاعتصام بالله أو ضعفه، فكيف حال مَن وَكَلَهُ الله لنفسه القاصرة أو خَلْقِه العاجزين، بينما أعداؤه قد أحاطت بقلبه وروحه إحاطة السِّوار بالْمِعْصَمِ؟! ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18]، ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33]، ويا خيبةَ الْمُغْتَرِّين!

وبالله التوفيق والعصمة، والحمد لله رب العالمين.

[1] قال الإمام أحمد: حدثنا به هشام بن القاسم، ثنا أبو سعيد المؤدب، ثنا من سمع عطاء؛ [تيسير العزيز الحميد (1/ 139) ورواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 318) بنحوه]، وهو من أخبار وهب بن منبه رحمه الله تعالى، وقد كان من أحبار أهل الكتاب وأسلم وحسن إسلامه، وكثُرت فوائده ومواعظه، ووصاياه وأخباره، ولا بأس بالتحديث عنهم اعتبارًا فيما لا يخالف شرعنا.

[2] رسالة التوحيد، الدهلوي (1/ 80).

[3] المسند (4/ 24)، ومسلم (2958)، وسنن الترمذي (3354)، وسنن النسائي (6/ 238).

[4] البخاري (6514)، وصحيح مسلم (2960).

[5] البخاري (6421)، ومسلم (1047).

[6] البخاري (5662، 5656، 7470).

[7] تفسير الطبري (30/ 185)، وبنحوه في صحيح مسلم (2038).

[8] المسند (5/ 429).

[9] المسند (5/ 372)، وسنن ابن ماجه (2141)، وقال البوصيري في الزوائد (2/ 158): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".

[10] سنن الترمذي (3358)، وصحيح ابن حبان (7320).

[11] البخاري (6412).

[12] تفسير ابن كثير (8/ 473 - 477) مختصرًا.

[13] أي: اجعلنا وارثين لقوانا، فنموت حين نموت ونحن بكامل صحتنا، ولا نفقد منها شيئًا.

[14] رواه الترمذي (3502)، وقال: حديث حسن غريب.

[15] الترمذي ضمن جامع الأصول في أحاديث الرسول (9315) (11/ 685) من رواية رزين، وتمامه: عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه: قال: كنتُ رَدِيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((يا غلام، احفظ الله يَحْفَظْك، احفظ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ - أو قال: أَمَامَكَ - تَعَرَّف إِلى الله في الرَّخاء، يَعْرِفْكَ في الشدة، إِذا سألتَ فاسألِ الله، وإِذا استعنت فاستَعِنْ بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لَكَ لم يَقْدِرُوا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك، جَفَّتِ الأقلام، وطُوِيتِ الصحف، فإن استطعتَ أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وأن مع العسر يسرًا، ولن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَينِ))؛ وبنحوه عند أحمد (1/ 307) قال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه جامع الأصول ١١/‏٦٨٥: "وهو حديث حسن بمجموع طرقه، بعضه عند أحمد، وبعضه عند الترمذي، وبعضه عند غيره".

[16] أخرجه أحمد (6/ 354).

[17] أخرجه أحمد (1/ 3) (5) بسند صحيح.

[18] أخرجه أحمد (2/ 434).

[19] البخاري 5/ 100 (3989).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.19 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.52%)]