تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         لماذا نغضب من أفعال أطفالنا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          مناقب أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          حكم الاختلاط على ضوء قاعدة سد الذرائع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          السلفيون وحفــــــظ الأوطــــــان:الـمنــهـــج والـتـطـبـيــق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          من شبهات اليهود وأباطيلهم-إن لليهود حقا تاريخيا في المسجد الأقصى والقدس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          عوامل النسيان ومهارات تحسين الذاكرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 53 - عددالزوار : 3482 )           »          كيف تربي طفلا سليم العقيدة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          شهر شعبان… دروس مستفادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          دعـــــوة أهـــــل الســـنـــة تـتنــفــــس فــي هــــــدوء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #31  
قديم 20-03-2023, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
من صــ 299 الى صــ 306
الحلقة (300)


قُلْتُ : اللَّفْظُ يَعُمُّهُ ، وَفِي التَّنْزِيلِ : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ، وَالْأَرْضُ هُنَا اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَإِفْرَادُهَا فِي اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ جَمْعِهَا ، وَكَذَلِكَ وَالنُّورُ وَمِثْلُهُ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا وَقَالَ الشَّاعِرُ :

[ ص: 299 ]
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ
وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ .

قُلْتُ : وَعَلَيْهِ يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ ، فَيَكُونُ الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ ، وَالْمُفْرَدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ ، فَيَتَجَانَسُ اللَّفْظُ وَتَظْهَرُ الْفَصَاحَةُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقِيلَ : جَمَعَ الظُّلُمَاتِ وَوَحَّدَ النُّورَ لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا تَتَعَدَّى وَالنُّورَ يَتَعَدَّى ، وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَعَانِي قَالَ : جَعَلَ هُنَا زَائِدَةً وَالْعَرَبُ تَزِيدُ " جَعَلَ " فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :


وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةً وَالْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَرُ
قَالَ النَّحَّاسُ : جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى ، وَمَحَامِلُ ( جَعَلَ ) فِي " الْبَقَرَةِ " مُسْتَوْفًى .

الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ ، وَالْمَعْنَى : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَدْلًا وَشَرِيكًا ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَحْدَهُ ، قَالَابْنُ عَطِيَّةَ : فَ ( ثُمَّ ) دَالَّةٌ عَلَى قُبْحِ فِعْلِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى : أَنَّ خَلْقَهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاتَهُ قَدْ سَطَعَتْ ، وَإِنْعَامَهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ ، فَهَذَا كَمَا تَقُولُ : يَا فُلَانُ ، أَعْطَيْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ثُمَّ تَشْتُمُنِي ، وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَلْزَمِ التَّوْبِيخُ كَلُزُومِهِ بِثُمَّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قوله تعالى : هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون

قوله تعالى : هو الذي خلقكم من طين الآية خبر وفي معناه قولان : أحدهما : وهو الأشهر ، وعليه من الخلق الأكثر ، أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله ، والفرع يضاف إلى أصله ، فلذلك قال : خلقكم بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده ; هذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن أبي نجيح ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد وغيرهم ، الثاني : أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ، ذكره النحاس .

قلت : وبالجملة فلما ذكر جل وعز خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان ، وجعل فيه ما في العالم الكبير ، على ما بيناه في " البقرة " في آية التوحيد ، والله أعلم ، [ ص: 300 ] والحمد لله وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة ، عن ابن مسعود ، أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ، ثم يقول : يا رب ، مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال مخلقة ، قال : يا رب ، ما الرزق ، ما الأثر ، ما الأجل ؟ فيقول : انظر في أم الكتاب ، فينظر في اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ، ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته ، فذلك قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم . وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته .

قلت : وعلى هذا يكون كل إنسان مخلوقا من طين وماء مهين ، كما أخبر جل وعز في سورة " المؤمنون " فتنتظم الآيات والأحاديث ، ويرتفع الإشكال والتعارض ، والله أعلم ، وأما الإخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في ( البقرة ) ذكره واشتقاقه ، ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنه ووفاته ، ذكر ابن سعد في " الطبقات " عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس ولد آدم وآدم من التراب وعن سعيد بن جبير قال : خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء ، قال الحسن : وخلق جؤجؤه من ضرية ، قال الجوهري : ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب ، وعن ابن مسعود ، قال : إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر ، وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار ، وإن كان ابن تقي فمن ثم قال إبليس أأسجد لمن خلقت طينا لأنه جاء بالطينة فسمي آدم ; لأنه خلق من أديم الأرض ، وعن عبد الله بن سلام قال : خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة ، وعن ابن عباس قال : لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء ، قال فوطده إلى الأرض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا ، وعن أبي بن كعب ، قال : كان آدم عليه السلام طوالا جعدا كأنه نخلة سحوق ، وعن ابن عباس في حديث فيه طول وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه ، وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء ، فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طوله دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ، ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا ، وتوفي على ذروة الجبل الذي أنزل عليه ، فقال شيث لجبريل عليهما السلام : " صل على آدم " فقال له جبريل عليه السلام : تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة ، فأما خمس فهي الصلاة ، وخمس وعشرون تفضيلا لآدم . وقيل : كبر عليه أربعا ، فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا [ ص: 301 ] يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث ، وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة . ويقال : هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد ؟ الجواب : نعم لأنه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما ، جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر ، لتسوية العقل بين ذلك في الحكم ، وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية .

قوله تعالى : ثم قضى أجلا مفعول . وأجل مسمى عنده ابتداء وخبر ، قال الضحاك : أجلا في الموت وأجل مسمى عنده أجل القيامة فالمعنى على هذا : حكم أجلا ، وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ، ولم يعلمكم بأجل القيامة . وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة ، وهذا لفظ الحسن : قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت وأجل مسمى عنده يعني الآخرة . وقيل : قضى أجلا ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، وأجل مسمى من الآخرة ، وقيل : قضى أجلا مما نعرفه من أوقات الأهلة والزرع وما أشبههما ، وأجل مسمى أجل الموت ، لا يعلم الإنسان متى يموت ، وقال ابن عباس ومجاهد : معنى الآية قضى أجلا بقضاء الدنيا ، وأجل مسمى عنده لابتداء الآخرة . وقيل : الأول قبض الأرواح في النوم ، والثاني قبض الروح عند الموت ، عن ابن عباس أيضا .

قوله تعالى : ثم أنتم تمترون ابتداء وخبر : أي : تشكون في أنه إله واحد ، وقيل : تمارون في ذلك أي : تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك ، ومنه قوله تعالى : أفتمارونه على ما يرى .
قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون

قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يقال ما عامل الإعراب في الظرف [ ص: 302 ] من في السماوات وفي الأرض ؟ ففيه أجوبة : أحدها : أي : وهو الله المعظم أو المعبود في السماوات وفي الأرض ; كما تقول : زيد الخليفة في الشرق والغرب أي : حكمه ، ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض ; كما تقول : هو في حاجات الناس وفي الصلاة ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ويكون المعنى : وهو الله في السماوات وهو الله في الأرض . وقيل : المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض فلا يخفى عليه شيء ; قالالنحاس : وهذا من أحسن ما قيل فيه ، وقال محمد بن جرير : وهو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض ، ( فيعلم ) مقدم في الوجهين ، والأول أسلم وأبعد من الإشكال ، وقيل غير هذا ، والقاعدة تنزيهه جل وعز عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة . ويعلم ما تكسبون أي : من خير وشر ، والكسب الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ، ولهذا لا يقال لفعل الله كسب .

قوله تعالى : وما تأتيهم من آية أي : علامة كانشقاق القمر ونحوها . و ( من ) لاستغراق الجنس ; تقول : ما في الدار من أحد . من آيات ربهم من الثانية للتبعيض . إلا كانوا عنها معرضين خبر كانوا . والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله جل وعز من خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وأنه يرجع إلى قديم حي غني عن جميع الأشياء قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء من المعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم ; ليستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به .

قوله تعالى : فقد كذبوا يعني مشركي مكة . بالحق يعني القرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم . فسوف يأتيهم أي : يحل بهم العقاب ; وأراد الأنباء - وهي الأخبار - العذاب ; كقولك : اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب ; والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه . وقيل : يوم القيامة .
قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين

قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن كم في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله ألم يروا لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإنما يعمل فيه ما بعده ، من [ ص: 303 ] أجل أن له صدر الكلام . والمعنى : ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم ، أي ألم يعرفوا ذلك ، والقرن الأمة من الناس . والجمع القرون ; قال الشاعر :


إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب
فالقرن كله عالم في عصره مأخوذ من الاقتران ، أي : عالم مقترن به بعضهم إلى بعض ; وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير الناس قرني - يعني أصحابي - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم هذا أصح ما قيل فيه . وقيل : المعنى من أهل قرن فحذف كقوله : واسأل القرية . فالقرن على هذا مدة من الزمان ; قيل : ستون عاما وقيل سبعون ، وقيل : ثمانون ; وقيل : مائة ; وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة ; واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر : تعيش قرنا فعاش مائة سنة ; ذكره النحاس . وأصل القرن الشيء الطالع كقرن ما له قرن من الحيوان . مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم خروج من الغيبة إلى الخطاب ; عكسه حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة . وقال أهل البصرة أخبر عنهم بقوله ألم يروا وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه ; ثم خاطبهم معهم ; والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه : وقلت لعبد الله ما أكرمك ; ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال : ما لم نمكن لهم . ويجوز مكنه ومكن له ; فجاء باللغتين جميعا ; أي : أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا . وأرسلنا السماء عليهم مدرارا يريد المطر الكثير ; عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل ; ومنه قول الشاعر : ( وهو معاوية بن مالك )


إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
مدرارا بناء دال على التكثير ; كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ; ومئناث للمرأة التي تلد الإناث ; يقال : در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة . وانتصب مدرارا على الحال . وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم أي : من تحت أشجارهم ومنازلهم ; ومنه قول فرعون : وهذه الأنهار تجري من تحتي والمعنى : وسعنا عليهم النعم فكفروها . [ ص: 304 ] فأهلكناهم بذنوبهم أي : بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم . وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين أي : أوجدنا ; فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا .
قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس الآية . المعنى : ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا في قرطاس وعن ابن عباس : كتابا معلقا بين السماء والأرض ، وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين ; أحدهما : على معنى نزل عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به . والآخر : ولو نزلنا كتابا في قرطاس يمسكه الله بين السماء والأرض ; وقال : نزلنا على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والأرض ، والكتاب مصدر بمعنى الكتابة ، فبين أن الكتابة في قرطاس ; لأنه غير معقول كتابة إلا في قرطاس ، أي : في صحيفة والقرطاس الصحيفة ; ويقال : قرطاس بالضم ; وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف . فلمسوه بأيديهم أي : فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ، ليرتفع كل ارتياب ، ويزول عنهم كل إشكال ، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم ، وقالوا : سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا ; وهذه الآية جواب لقولهم : حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به . قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية ، ونوفل بن خويلد ، قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الآية .
قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون

[ ص: 305 ] قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك اقترحوا هذا أيضا و ( لولا ) بمعنى هلا . ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر قال ابن عباس : لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته . مجاهد وعكرمة : لقامت الساعة . قال الحسن وقتادة : لأهلكوا بعذاب الاستئصال ; لأن الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال . ثم لا ينظرون أي : لا يمهلون ولا يؤخرون .

قوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أي : لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة ; لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ; فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ، ولما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه ، ويمنعهم عن سؤاله ، فلا تعم المصلحة ; ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا : لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم . وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر ، فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين ، وأتى جبريل النبي عليهما الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي ، أي : لو أنزل ملكا لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء ، ولو نزل على عادته لم يروه ; فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون : هذا ساحر مثلك . وقال الزجاج : المعنى وللبسنا عليهم ما يلبسون أي : على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم ، وكانوا يقولون لهم : إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم ; فأعلمهم الله عز وجل أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون . واللبس الخلط ; يقال : لبست عليه الأمر ألبسه لبسا أي : خلطته ; وأصله التستر بالثوب ونحوه ، وقال : لبسنا بالإضافة إلى نفسه على جهة الخلق ، وقال ما يلبسون فأضاف إليهم على جهة الاكتساب . ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق أي : نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم . حاق بالشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل ; قال الله تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . و ( ما ) في قوله : ما كانوا بمعنى الذي ، وقيل : بمعنى المصدر ، أي : حاق بهم عاقبة استهزائهم .
[ ص: 306 ] قوله تعالى : قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

قوله تعالى : قل سيروا في الأرض أي : قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين : سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب ، وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم ، وأهل الديار ، والعاقبة آخر الأمر . والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل .

قوله تعالى : قل لمن ما في السماوات والأرض هذا أيضا احتجاج عليهم ; المعنى قل لهم يا محمد : لمن ما في السماوات والأرض فإن قالوا لمن هو ؟ فقل هو لله المعنى : إذا ثبت أن له ما في السماوات والأرض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم ، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ، ويبعثهم بعد الموت . ولكنه كتب على نفسه الرحمة أي : وعد بها فضلا منه وكرما ، فلذلك أمهل ، وذكر النفس هنا عبارة عن وجوده ، وتأكيد وعده ، وارتفاع الوسائط دونه ; ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه ، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإنابة والتوبة . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي أي : لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ - أو فيما شاءه - مقتضاه خبر حق ووعد صدق إن رحمتي تغلب غضبي أي : تسبقه وتزيد عليه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 1,545.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 1,544.20 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (0.11%)]