شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836892 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379405 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191257 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2666 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 661 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 947 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1099 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 854 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-05-2022, 03:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 73الى صــ 87
(1)

كِتَابُ الْحَجِّ.
جِمَاعُ مَعْنَى الْحَجِّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: قَصْدُ الشَّيْءِ وَإِتْيَانُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّرِيقُ مَحَجَّةً لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَيُسَمَّى مَا يَقْصِدُ الْخَصْمُ حُجَّةً لِأَنَّهُ يَأْتَمُّهُ وَيَنْتَحِيهِ، وَمِنْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ الْحَاجَةُ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ وَيُطْلَبُ لِلْمَنْفَعَةِ بِهِ سَوَاءٌ قَصَدَهُ الْقَاصِدُ لِمَصْلَحَتِهِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةً فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ".
وَقَوْلُ فِي حَاجَةِ اللَّهِ، وَحَاجَةِ رَسُولِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْصَدُ وَيُؤْتَى: مَا يُعَظَّمُ وَيُعْتَقَدُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَإِذَا كَانَ كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه
فكذلك يقول بعض أهل اللغة: الحج القصد، ويقول بعضهم: هو القصد إلى من يعظم، ويقول بعضهم: كثرة القصد إلى من يعظمه. ورجل محجوج، ومكان محجوج، أي مقصود مأتي. ومنه قوله:

وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السكيت: يق
ول يكثرون الاختلاف إليه.
وقوله:
قالت تغيرتم بعدي فقلت لها ... لا والذي بيته يا سلم محجوج
ثم غلب في الاستعمال الشرعي، والعرفي على حج بيت الله - سبحانه وتعالى - وإتيانه. فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة
: 196] وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] وقال سبحانه: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196] وقد بين المحجوج في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وقوله تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فإن اللام في قوله {البيت} [البقرة: 158] لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الآخر.
وفيه لغتان قد قرئ بهما. الحج، والحج، والحجة بفتح الحاء وكسرها. ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت، فإذا أطلق الاسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة ; إما في الحج الأكبر، أو الأصغر.


[مسألة وجوب الحج والعمرة مرة في العمر]
مسألة:

(يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر).
في هذا الكلام فصول: -
أحدها: أن الحج واجب في الجملة، وهو أحد مباني الإسلام الخمس، وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة وتناقلته خلفا عن سلف، والأصل فيه قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]، وحرف على للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق فقيل: لفلان على فلان، وقد أتبعه بقوله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر، وأنه إنما وضع البيت وأوجب حجه ليشهدوا منافع لهم لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه، لأن الله غني عن العالمين،وكذلك قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] على أحد التأويلين، وقوله: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا} [الحج: 27] فأذن فيهم: "إن لربكم بيتا فحجوه ".
وأما السنة: فما روى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج
البيت» " متفق عليه.
وفي حديث جبريل في رواية عمر - رضي الله عنه - «أنه قال للنبي- صلى الله عليه وسلم ما الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» "رواه مسلم. وليس ذكر الحج في حديث أبي هريرة المتفق عليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى قوله: " «إن الله فرض عليكم الحج فحجوا» " رواه مسلم وغيره وأحاديث كثيرة في هذا المعنى.
وعن شريك بن أبي نمر، عن أنس بن مالك قال: «بينما نحن جلوس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد إذ دخل رجل على جمل ثم أناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ بين ظهرانيهم فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد أجبتك " فقال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال: "سل عما بدا لك " فقال: أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى
الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله آلله أمر أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم " قال: أنشدك الله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم " قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم نعم " فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر»، رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي عن إسماعيل، وعلي بن عبد الحميد، وقال: رواه سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي-صلى الله عليه وسلم- مثله، وروى مسلم وأحمد والترمذي، والنسائي من حديث ثابت عن أنس قال: «نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: "صدق " قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله " قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله " قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: "الله " قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال:


"نعم " قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا، وليلتنا؟ قال: "صدق " قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم " قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال: "صدق" قال: فبالذي أ
رسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم" قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: " صدق " قال: ثم ولى وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن صدق ليدخلن الجنة".»
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في أصحابه في المسجد وكان ضمام بن ثعلبة رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين قال: فأقبل حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا ابن عبد المطلب " قال: أمحمد؟ قال: نعم، قال: يا ابن عبد المطلب إني سائلك، ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن في نفسك، فقال: "لا أجد في نفسي سل عما بدا لك" قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: "اللهم نعم" قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: "اللهم نعم" قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، قال: ثم انصرف إلى بعيره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة
" قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: ما بئست اللات والعزى؟ قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله ما يضران، وما ينفعان، وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته من رجل ولا امرأة إلا مسلما». قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قط كان أفضل من ضمام بن ثعلبة، ورواه أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق وهذا لفظ المغازي واختلف في سنة قدومه. فقيل: كان ذلك في سنة خمس قاله محمد بن حبيب وغيره وروى عن شريك عن كريب عن ابن عباس -رضي الله عنهما- حديث ابن عباس وفيه - «بعث بنو سعد ضماما في رجب سنة خمس، وقيل: في سنة سبع، وقيل: في سنة تسع» " ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة، وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب البصري المعروف بالحاكم في تاريخه: لوامع الأمور وحوادث الدهور. وزعم ابن عبد البر أن هذا هو الأعرابي الثائر الرأس الذي من أهل نجد الذي يروي حديثه أبو طلحة ويروي نحوا منه أبو هريرة. وهذا فيه نظر لأن ذاك -أولا- أعرابي، وهذا من بني سعد بن بكر، ثم ذاك رجل ثائر الرأس، وهذا رجل له عقيصتان، ثم ذاك رجل يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، وهذا رجل عاقل جلد، ثم ذاك ليس في حديثه إلا التوحيد، والصلاة والزكاة والصوم. فإن كان هذا هو ذاك: فليس ذكر الحج إلا في بعض رواياته. والذي في الصحيحين ليس فيه شيء من هذا ولا يسعهم أن يتركوه - وهو يقول لا أزيد ولا أنقص فإن كانت سعد هذه سعد بن بكر بن هوازن أظآر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء كانوا مشركين يوم حنين - وكانت حنين في أواخر سنة ثمان من الهجرة وقدم وفد هوازن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منصرفه - وهو بالجعرانة - عن حصار الطائف فأسلموا، ومن النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيهم - والقصة مشهورة. فتكون بنو بكر بن سعد بن بكر قد أوفدت ضماما في سنة تسع، وفيها أسلمت ثقيف أيضا، وهذه السنة هي سنة الوفود.
وقد أجمع المسلمون -في الجملة- على أن الحج فرض لازم






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-05-2022, 03:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 88الى صــ 101
(2)

(الفصل الثاني)
أن العمرة أيضا - واجبة، نص عليه أحمد في مواضع فقال: - في رواية الأثرم، وبكر بن محمد، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي طالب وحرب والفضل: العمرة واجبة، والعمرة فريضة. وذكر بعض أصحابنا عنه رواية أخرى: أنها سنة لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] ولم يذكر العمرة. ولو كانت واجبة لذكرها، كما ذكرها لما أمر بإتما
مها وبالسعي فيها في قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وقوله سبحانه - {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] وكذلك أمر خليله - عليه السلام - بدعاء الناس إلى الحج بقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا} [الحج: 27]- إلى قوله:


{ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج: 28] والاختصاص بأيام معلومات هو للحج فقط دون العمرة، فعلم أنه لم يأمرهم
بالعمرة، وإن كانت حسنة مستحبة لأنه -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر معاني الإسلام قال: " «وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» " وقال في حديث جبريل: " «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» "، ولم يذكر العمرة - وسأله ضمام بن ثعلبة عن فرائض الإسلام - إلى أن قال: " «وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا "؟ قال: "صدق "، ثم ولى، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن صدق ليدخلن الجنة» ". ولو كانت العمرة واجبة لأنكر قوله: لا أزيد عليهن ولم يضمن له الجنة - مع ترك أحد فرائض الإسلام. ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حج حجة الوداع كان معه من المسلمين ما لا يحصيهم إلا الله - تعالى - وكل قد جاء يؤدي فرض الله - تعالى - عليه فلما قضى أيام منى بات بالمحصب بعد النفر، وخرج من الغد قافلا إلى المدينة ولم يعتمر بعد ذلك، ولم يأمر من معه بالعمرة، ولا بأن يسافروا لها سفرة أخرى، وقد كان فيهم المفرد، والقارن، وهم لا يرون أنه قد بقي عليهم فريضة أخرى، بل قد سمعوا منه أن الحج لا يجب إلا في عام واحد، وقد فعلوه، فلو كانت العمرة واجبة كالحج لبين لهم ذلك أو لأقام ريثما أن يعتمر من لم يكن اعتمر.

وعن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرابي فقال: «أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا وإن تعتمر خير لك» " رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الدارقطني من غير طريق الحجاج.

وعن أبي هريرة موقوفا، ومرفوعا، أنه قال: " «العمرة تطوع» " قال الدارقطني: والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة.
وعن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " «الحج جهاد، والعمرة تطوع» " رواه ابن ماجه، وفي طريقه الحسن بن يحيى الخشني عن عمر بن قيس، أخبرني طلحة بن يحيى عن عمه إسحاق بن طلحة،
عن طلحة بن عبيد الله.
وعن أبي صالح الحنفي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " «الحج جهاد، والعمرة تطوع» " رواه الشافعي، وسعيد.
وربما احتج بعضهم بقوله: " «دخلت العمرة في الحج " وليس بشيء».
ولأن العمرة بعض الحج فلم تجب على الانفراد كالطواف، وهذا لأن الحج لم يجب على وجه التكرار، وإنما وجب مرة واحدة، فلو وجبت العمرة لكان قد وجب على الإنسان حجتان صغرى، وكبرى، فلم يجز، كما لم يجب عليه حج وطواف، وكل ما يفعله المعتمر فقد دخل في الحج فليس في العمرة شيء يقتضي إفراده بالإيجاب لكن جعل الله المناسك على ثلاث درجات أتمها هو الح
ج المشتمل على الإحرام والوقوف والطواف والسعي والرمي والإحلال.
وبعده العمرة المشتملة على الإحرام، والطواف والسعي والإحلال. وبعده الطواف المجرد. . . ولأنها نسك غير مؤقت الابتداء والانتهاء، فلم تجب كالطواف.
ولأنها عبادة غير مؤقتة من جنسها فرض مؤقت، فلم تجب كصلاة النافلة وهذا لأن العبادات المحضة إذا وجبت وقتت كما وقتت الصلاة والصيام والحج. فإذا شرعت في جميع الأوقات علم أنها شرعت رحمة وتوسعة للتقرب إلى الله - تعالى - بأنواع شتى من العبادة، وسبل متعددة لئلا يمتنع الناس من التقرب إلى الله - تعالى - في غالب الأوقات.
ووجه الأول: ما احتج به بعضهم من قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196].

«وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، ولا الظعن، فقال: "حج عن أبيك واعتمر» " رواه الخمسة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي رواية لأحمد: " إن «أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير» " فأمره بفعلهما عن أبيه،
ولولا وجوبهما على الأب لما أمره بفعلهما عنه. لكن يمكن أن يقال: إنما سأله عن جواز الحج والعمرة عن أبيه ; لأن الابن لا يجب ذلك عليه وفاقا.
«وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله: هل على النساء جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني بإسناد شرط الصحيح، لكن في لفظ أحمد والنسائي " «ألا نخرج فنجاهد معك» " وكلمة على تقتضي الإيجاب لا سيما وقد سألته عما يجب على النساء من الجهاد. فجعله جهادهن. كما روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " «الحج جهاد كل ضعيف» " رواه أحمد وابن ماجه.
واحتج أحمد بحديث أبي رزين، وبحديث ذكره عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد
الله عن نافع عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أوصني، فقال: "تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر» ".
قال: وعن ابن عباس وابن عمر: أنها واجبة، وهذا أمر والأمر للإيجاب لا سيما، وه
و إنما أمره بمباني الإسلام ودعائمه. قال جابر بن عبد الله: " «ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وعليه عمرة واجبة» " ذكره ابن أبي موسى.
وفي حديث عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: - يعني جبريل عليه السلام - لما جاء في صورة الأعرابي -: «يا محمد ما الإسلام؟ فقال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم
الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان» رواه الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين، والدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد.
وهذه الزيادة وإن لم تكن في أكثر الروايات فإنها ليست مخالفة لها، لكن هي مفسرة لما أجمل في بقية الروايات، فإن الحج يدخل فيه الحج الأكبر والأصغر، كما أن الصلاة يدخل فيها الوضوء والغسل، وإنما ذكر ذلك بالاسم الخاص تبيينا خشية أن يظن أنه ليس داخلا في الأول. وقد روى الدارقطني بإسناد ضعيف عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» ". وروى القاضي بإسناده عن قتيبة، عن ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «الحج والعمرة فريضتان واجبتان» ".


وروى سعيد بن أبي عروبة - في المناسك - عن قتادة أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " «إنما هي حجة وعمرة، فمن قضاهما فقد قضى الفريضة، ومن أصاب بعد ذلك فهو تطوع» ". وعن قتادة أن عمر بن الخطاب - رحمه الله - قال: " «يا أيها الناس كتب عليكم الحج، يا أيها الناس كتب عليكم العمرة، يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم من ماله فيبتغي به من فضل الله فإن فيه الغنى والتصديق، وأيم الله لأن أموت وأنا أبتغي بما لي في الأرض من فضل الله عز وجل أحب إلي من أن أموت على فراشي» " وأيضا فإن العمرة هي الحج الأصغر بدليل قوله - سبحانه -: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} [التوبة: 3] فإن الص
فة إذا لم تكن مبينة لحال الموصوف فإنها تكون مقيدة له ومميزة له عما يشاركه في الاسم. فلما قال: {يوم الحج الأكبر} [التوبة: 3] علم أن هناك حجا أصغر لا يختص بذلك اليوم. لأن الحج الأكبر له وقت واحد لا يصح في غيره، والحج الأصغر لا يختص بوقت. وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال: " «الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر العمرة» ".
وأيضا ففي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن: " «وأن العمرة الحج الأصغر» " رواه الدارقطني من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-05-2022, 07:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 102الى صــ 115
(3)

وهذا الكتاب: ذكر هذا فيه مشهور مستفيض عند أهل العلم. وهو عند كثير منهم أبلغ من
خبر الواحد العدل المتصل، وهو صحيح بإجماعهم.
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين أنها الحج الأصغر كما دل عليه كتاب الله عز وجل: علم أنها واجبة، لأن قوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وسائر الأحاديث التي فيها ذكر فرض الحج إما أن يعم الحجين الأكبر والأصغر كما أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- " «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» " يعم نوعي الطهور الأكبر والأصغر، وإما أن تكون مطلقة ولا يجوز أن يكون المفروض مطلق الحج، لأن ذلك يحصل بوجود الأكبر أو الأصغر فيلزم أن تكفيه العمرة فقط وذلك غير صحيح. فيجب أن يكون عاما ولا يجوز أن يعني الحج الأكبر فقط ; لأنه يكون تخصيصا للعام، وتقييدا للمطلق، وذلك لا يجوز إلا
بدليل. ولو أريد ذلك لقيد كما قيد في قوله: {يوم الحج الأكبر} [التوبة: 3] بل الناس إلى التقييد هنا أحوج لأن هذا ذكر للمفروض الواجب، والاسم يشملها، وذاك أمر بالنداء يوم الحج الأكبر، والنداء لا يمكن إلا في المجتمع، والاجتماع العام إنما يقع في الحج الأكبر لا سيما وقوله: (يوم) والحج الأصغر لا يختص به. وبهذا يجاب عن كل موضع أطلق فيه ذكر الحج. وأما المواضع التي عطف فيها فللبيان والتفسير وقطع الشبهة لئلا يتوهم متوهم أن حكم العمرة مخالف لحكم الحج، وأنها خارجة عنه في هذا الموضع لأنها كثيرا ما تذكر بالاسم الخاص، وكثيرا ما يكون لفظ الحج لا يتناولها.
وأما الأحاديث فضعيفة.


وأما كونها لا تختص بوقت، وكونها بعض الحج فلا يمنع الوجوب. وأيضا فإنها عبادة تلزم بالشروع، ويجب المضي في فاسدها فوجبت بالشرع كالحج، وعكس ذلك الطواف (فصل)
وقد أطلق أحمد القول بأن العمرة واجبة، وأن العمرة فريضة في رواية جماعة منهم أبو طالب والفضل وحرب، وكذلك أطلقه كثير من أصحابه، منهم ابن أبي موسى، وقال في رواية الأثرم - وقد سئل عن أهل مكة - فقال: أهل مكة ليس عليهم عمرة إنما قال: الله تعالى -: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196] فقيل له: إنما ذاك في الهد
ي في المتعة فقال: كان ابن عباس يرى المتعة واجبة، ويقول: "يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت ". قيل له: كأن إقامتهم بمكة يجزيهم من العمرة؟ فقال: نعم. وكذلك قال في رواية ابن الحكم: ليس على أهل مكة عمرة لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم، أو تجاوز الحرم. وقال - في رواية الميموني -: ليس على أهل مكة عمرة، وإنما العمرة لغيرهم، قال: الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196] إلا أن ابن عباس قال: " يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه، وبينها بطن محسر ". وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل وأدناه التنعيم، ولأصحابنا في هذا ثلاثة طرق: -
أحدها: أن المسألة رواية واحدة بوجوبها على المكي وغيره، وأن قوله ليس عليهم متعة يعني في زمن الحج لأن أهل الأمصار غالبا إنما يعتمرون أيام الموسم، وأهل مكة يعتمرون في غير ذلك الوقت، قاله القا
ضي قديما قال: لأنه قال: لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت. وهذه طريقة ضعيفة.
الثانية: أن في وجوبها على أهل مكة روايتين: لأنه أوجبها مطلقا، في رواية واستثنى أهل مكة في أخرى، وهذه طريقة القاضي أخيرا، وابن عقيل، وجدي وغيرهم.

والثالثة: أن المسألة رواية واحدة أنها لا تجب على أهل مكة وأن مطلق كلامه محمول على مقيده ومجمله على مفسره وهذه طريقة أبي بكر وأبي محمد صاحب الكتاب وهؤلاء يختارون وجوبها على أهل مكة.
ووجه عدم وجوبها ما روى عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "يا أهل مكة ليس عليكم عمرة " وعن عمرو بن كيسان قال: سمعت ابن عباس يقول: "لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا، فإن أبيتم فاج
علوا بينكم وبين الحرم بطن واد ".
وعن عطاء أنه كان يقول: " يا أهل مكة إنما عمرتكم الطواف بالبيت، فإن كنتم لا بد فاعلين فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد " رواهن سعيد، هذا مع قوله: إن العمرة واجبة. ولا يعرف له مخالف من الصحابة.
ولأن الله - سبحانه - قال: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196] فجعل التمتع بالعمرة إلى الحج الموجب لهدي أو صيام لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، فإذا كان حاضر المسجد الحرام يفارق غيره في حكم المتعة وواجباتها مفارقة في وجوب العمرة، وأيضا فإن العمرة هي زيارة البيت وقصده، وأهل مكة مجاوروه وعامروه بالمقام عنده فأغناهم ذلك عن زيارته من مكان بعيد فإن الزيارة للشيء إنما تكون للأجنبي منه البعيد عنه، وأما المقيم عنده فهو زائر دائما، فإن مقصود العمرة إنما هو الطواف، وأهل مكة يطوفون في كل وقت.
وهؤلاء الذين لا تجب عليهم العمرة هم الذين ليس عليهم هد
ي متعة على ظاهر كلامه في رواية الأثرم، والميموني في استدلاله بقوله تعالى -: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة: 196] وظاهر قوله في رواية ابن الحكم والأثرم أيضا - أنها إنما تسقط عن أهل مكة وهم أهل الحرم ; لأنهم هم المقيمون بمكة، والطوافون بالبيت. فأما المجاور بالبيت فقال عطاء: هو بمنزلة أهل مكة الفصل الثالث
أنهما إنما يجبان مرة في العمر بإيجاب الشرع، فأما إيجاب المرء على نفسه فيجب في الذمة بالنذر، ويجب القضاء لما لم يتمه كما يذكر إن شاء الله تعالى، ويجب إتمامها بعد الشروع.


وقد أجمعت الأمة على أن الواجب بأصل الشرع: مرة واحدة، والأصل في ذلك ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: «خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم» " رواه أحمد ومسلم، والنسائي.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «خطبنا رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس كتب عليكم الحج " فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: "لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها. الحج مرة فمن زاد فهو تطوع» " رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، ولفظهما: أن الأقرع بن حابس سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله الحج في كل سنة، أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة فمن زاد فهو تطوع» ".
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] قال المؤمنون: يا رسول الله أفي كل عام مرتين [فسكت، ثم قالوا يا رسول الله أفي كل عام مرتين] فقال: لا ولو قلت نعم لوجبت " فأنزل الله عز وجل: {ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي، وقال غريب من هذا الوجه سمعت محمدا يقول: " أبو البختري لم يدرك عليا " وقد احتج ب
ه أحمد.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج " فقال رجل من أهل البادية -: يا نبي الله أكل عام؟ فسكت عنه نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: يا نبي الله أكل عام؟ فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده لو قلت نعم لوجبت، ولو و
جبت لكفرتم، ولما استطعتم فإذا أمرتكم بأمر فاتبعوه، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم، وكثرة سؤالهم. ألا وإنما هي حجة وعمرة، فمن قضاهما فقد قضى الفريضة فما أصاب بعد ذلك فهو تطوع» ". رواه سعيد بن أبي عروبة في مناسكه عنه. اهـ.


(الفصل الرابع)
أنه لا يجب الوجوب المقتضي للفعل وصحته إلا على مسلم لأن الله - سبحانه - قال: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] فنهاهم أن يقربوه، ومنعهم منه. فاستحال أن يؤمروا بحجه، ولأنه لا يصح الحج منهم، ومحال أن يجب ما لا يصح لما «روى أبو هريرة أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعثه في الحجة التي أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس "ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» " متفق عليه وكان هذا النداء بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، ويقطع العهود التي بي
نه وبين المشركين وينهاهم عن الحج، وبعث عليا - رضي الله عنه - يقرأ سورة براءة وينبذ إلى المشركين.
«وعن زيد بن أثيع، ويقال يثيع قال: سألت عليا بأي شيء بعثت، قال: "بأربع
لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-عهد فعهده إلى مدته، ومن لا مدة له فأربعة أشهر» " رواه أحمد والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وقد منع الله - سبحانه - المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم من سكنى جزيرة العرب مبالغة في نفيهم عن مجاورة البيت.
ومن عرف بالكفر، ثم حج حكم بإسلامه في أصح الوجهين.
فأما وجوبه عليهم بمعنى أنهم يؤمرون به بشرطه، وأن الله يعاقبهم على تركه فهو ظاهر المذهب عندنا لأن الله - تعالى - قال: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] فعم ولم يخص وروى أحمد عن عكرمة قال: لما نزلت: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85] قالت اليهود: فنحن المسلمون، فقال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وس
لم-: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] فحجوا، فأبوا فأنزل الله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] من أهل الملل، وفي رواية لما نزلت: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85] قالت الملل: فنحن المسلمون، فأنزل الله: تعالى -: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] فحج المسلمون وقعد الكفار.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-05-2022, 08:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 116الى صــ 130
(4)



ملك في حال كفره زادا وراحلة، ثم أسلم وهو معدم فلا شيء عليه لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] وأما إذا وجب على المسلم فلم يفعله حتى ارتد ثم أسلم فهو باق في ذمته سواء كان قادرا، أو عاجزا في المشهور من المذهب.
وإن حج ثم ارتد ثم أسلم فهل عليه أن يحج؟ على روايتين: إحداهما: عليه أن ي
حج نص عليه في رواية ابن منصور، وهذا اختيار القاضي.
والثانية: لا حج عليه.

ولا يصح الحج من كافر، فلو أحرم وهو كافر لم ينعقد إحرامه ولو ارتد بعد الإحرام بطل إحرامه (الفصل الخامس)
أنه لا حج على مجنون كسائر العبادات.

قال أبو عبد الله: لا حج على مجنون إلا أن يفيق لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث علي وعائشة -رضي الله عنهما- وغيرهما " «رفع القلم عن المجنون حتى يفيق» " وهو حديث حسن مشهور.
ولأن المجنون ليس من أهل الخطاب والتكليف، لعدم العقل والتمييز. فلو كان موسرا في حال جنونه، فلم يفق إلا وقد أعسر لم يكن في ذمته شيء.
وأما الذي يفيق أحيانا. . . .وهل يصح أن يحج بالمجنون كما يحج بالصبي غير المميز،
فيعقد له الإحرام وليه؟ على وجهين: أحدهما يصح، قال أبو بكر: فإن حج الصبي، أو العبد أو الأعرابي والمعتوه إن ماتوا قبل البلوغ وإن ماتوا فعليهم كما قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
والثاني: لا يصح وهو المشهور.
(الفصل السادس)

أنه لا حج على الصبي قبل البلوغ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- " «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم " وفي لفظ: "حتى يشب» ".
ولأن الحج عبادة تحتاج إلى قطع مسافة فلم تجب على الصبي كالجهاد، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحج جهاد كل ضعيف، وجهاد النساء.

فإذا كان له مال، فلم يدرك إلا وقد نفد فلا حج عليه.
وإذا أدرك بالسن ; وهو استكمال خمس عشرة سنة أو بإنبات شعر العانة ال
خشن، ولم يحتلم فهل يجب عليه الحج.
(الفصل السابع)
أنه لا يجب إلا على حر كامل الحرية، فأما العبد القن، والمعتق بعضه، والمكاتب، والمدبر، وأم الولد فلا يجب عليهم الحج لأنها عبادة يتعلق وجوبها بملك المال. والعبد لا مال له فلم يجب عليه شيء كالزكاة ولأنها عبادة تفتقر إلى قطع المسافة البعيدة فلم تجب على العبد كالجهاد.
وهذا لأن الحج عبادة تطول مدتها، وتتعلق بقطع مسافة وتحتاج إلى مال، والعبد مشغو
ل بحقوق سيده ففي الإيجاب عليه إبطال لحق سيده.
وهذه الطريقة مستقيمة إذ
ا لم يأذن له السيد، وفيها نظر.
ولأن العبد ناقص بالرق وقد اجتمع عليه حق لله تعالى وحق لسيده، فلو وجب عليه ما يجب على الحر لشق عليه، أو عجز عنه. والحج كمال الدين وآخر الفرائض، ولهذا قال تعالى - لما وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفة {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] فلا يجب إلا على كامل مطلق، والعبد ناقص الأحكام أسير لغيره.

فصل
فقد انقسمت شروط الوجوب هذه إلى ما يشترط لصحة الحج وإلى ما لا يشترط لصحته، وكلها شرط للإجزاء عن حجة الإسلام.
وأما الاستطاعة فهي شرط في الوجوب: وليست شرطا في الإجزاء. فصارت الشروط ثلاثة أقسام - كما قلنا في شروط وجوب الجمعة -: منها ما هو شرط في وجوبها بنفسه وبغيره، ومنها ما هو شرط في وجوبه بنفسه. ثم منها ما ه
و شرط في صحة الجمعة مطلقا ومنها ما هو شرط في صحتها أصلا لا تبعا، ومنها ما ليس شرطا في صحتها لا أصلا، ولا تبعا.
[مسألة تفسير الاستطاعة في الحج
]
مسألة: إذا استطاع إليه سبيلا وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتها مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء ديونه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام.
في هذا الكلام فصول: -
(أحدها):
أن الحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا بنص القرآن والسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين ومعنى قوله: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] واستطاعة السبيل عند أبي عبد الله وأصحابه: ملك الزاد والراحلة فمناط الوجو
ب: وجود المال ; فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه، ومن لم يجد المال: لم يجب عليه الحج، وإن كان قادرا ببدنه قال: في رواية صالح - إذا وجد الرجل الزاد والراحلة وجب الحج.
وسئل - أيضا - في رواية أبي داود: على من يجب الحج؟ فقال: إذا وجد زادا وراحلة وقال - في رواية حنبل -: وليس على الرجل الحج إلا أن يجد الزاد والراحلة.
فإن حج راجلا تجزيه من حجة الإسلام، ويكون قد تطوع بنفسه وذلك لما روى إبراهيم بن
يزيد الخوزي المكي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة " قال: يا رسول الله: فما الحاج؟ قال: "الشعث التفل " وقام آخر فقال: يا رسول الله: ما الحج؟ قال: "العج والثج " قال وكيع: يعني بالعج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن».

رواه ابن ماجه، والترمذي وقال حديث حسن، وإبراهيم بن يزيد قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه.
وعن ابن جريج قال: وأخبرنيه أن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عل
يه وسلم- قال: «الزاد والراحلة» " يعني قوله: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]رواه ابن ماجه.
وعن أنس قال: «سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما السبيل إليه؟ قال: "الزاد والراحلة» رواه ابن مردويه والدارقطني من طرق متعددة لا بأس ببعضها وروي هذا المعنى من حديث ابن مسعود، وعائش
ة وجابر وغيرهم.
وعن الحسن قال: لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] قال: «قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة» رواه أحمد، وأبو داود في مراسيله وغيرهما، وهو صحيح عن الحسن، وقد أفتى به، وهذا يدل على ثبوته عنده، واحتج به أحمد.
وعن ابن عباس قال: «من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج، وحرم عليه نكاح الإماء» رواه أحمد وأيضا قوله: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا».
فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب: وجود ال
زاد والراحلة مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم- بأن كثيرا من الناس يقدرون على المشي.
وأيضا فإن قول الله - سبحانه - في الحج: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] إما أ
ن يعني به القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة، أو قدرا زائدا على ذلك. فإن كان المعتبر هو الأول، لم يحتج إلى هذا التقييد، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد على ذلك، وليس هو إلا المال.
وأيضا فإن الحج عبادة تفتقر إلى مسافة، فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد.
ودليل الأصل قوله - تعالى -: {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} [التوبة: 91] إلى ق
وله - تعالى -: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92] الآية. وأيضا فإن المشي في المسافة البعيدة مظنة المشقة العظيمة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-05-2022, 08:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 131الى صــ 144
(5)




(الفصل الثاني)
إنه لا يجب عليه - فيما ذكره أصحابنا - حتى يملك الزاد والراحلة، أو ثمنهما، فأما إن كان قادر
ا على تحصيله بصنعة، أو قبول هبة، أو وصية، أو مسألة، أو أخذ من صدقة، أو بيت المال: لم يجب عليه ذلك سواء قدر على ذلك في مصره، أو في طريق مكة لما تقدم من قوله: (يوجب الحج الزاد والراحلة) يعني: وجودهما، وقوله: (من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله) فعلق الوعيد بملك الزاد والراحلة.
ولأن الزاد والراحلة شرط الوجوب، وما كان شرطا للوجوب لم يجب على المكلف تحصي
له لأن الوجوب منتف عند عدمه.
ولأن كل عبادة اعتبر فيها المال: فإن المعتبر ملكه لا القدرة على ملكه. أصله العتق، والهدي في الكفارات، وثمن الماء والسترة في الصلاة.
(فصل)

وينبني على ذلك أنه إذا بذل له ابنه أو غيره مالا يحج به، أو بذل له ابنه أو غيره طاعته في الحج عنه، وكان المبذول له معضوبا، أو غير معضوب لم يلزمه عند أكثر أصحابنا مثل ابن حامد والقاضي وأصحابه، وهو مقتضى كلام أحمد، فإنه علق الوجوب بوجود الزاد والراحلة.
وقال القاضي أبو يعلى الصغير ابن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى: قياس المذهب أن الاستطاعة تثبت ببذل الابن الطاعة أو المال، ولا تثبت ببذل غيره المال، وهل تثبت ببذل غيره الطاعة؟ خرجها على وجهين؛ لأن من أصلنا أن الاستطاعة على ضربين: تارة بنفسه، وتارة بنائبه، والمال الذي يأخذه النائب ليس أجرة عندنا في أشهر الروايتين، وإنما هو نفقة، فيكون قد بذل عمله للمستنيب، وقد قال أحمد - في رواية حنبل -: لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل متبرعا بحج
عن أبيه، عن أمه، عن أخيه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم- للذي سأله: «(إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم)». 50 والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف، إنما الحج عمن له زاد وراحلة ولا يسرف، ولا يقتر، ولا يمشي إذا كان ورثته صغارا.
وقال - في رواية أبي طالب -: إذا كان شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه. فقد بين أن النائب متبرع بعمله عن الميت، مع أن الحج واجب على الميت.

وأيضا من أصلنا أن مال الابن مباح للأب يأخذ منه ما شاء، مع عدم الحاجة، فإذا بذل له الابن فقد يؤكد الأخذ.
وقول أحمد: إذا وجد الزاد والراحلة: يجوز أن يراد بالموجود المملوك والمباح، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} [المائدة: 6] ولعل كلامه فيمن يجب عليه الحج بنفسه.
قال القاضي أبو يعلى: وأصل هذا أن الاستطاعة تحصل بالمال المباح، كما تحصل بالمال الممل
وك، قال: ولو بذل له الرقبة في الكفارة: لم يجز له الصيام، فعلى هذا لو وجد كنزا عاديا ونحوه وجب عليه أن يأخذ منه ما يحج به، ولو عرض عليه السلطان حقه من بيت المال
ولو لم يبذل له الابن فهل يجب عليه أن يأخذ من ماله ما يحج؟ فإن الجواز لا شك
فيه عندنا، وذلك لما روى عبد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس «أن امرأة من خثعم قالت: (يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير، عليه فريضة الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: فحجي عنه») رواه الجماعة، إلا أبا داود، والترمذي وهو ... .
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «وقف النبي - صلى الله عليه وسلم- بعرفة، وذكر الحديث إلى أن قال: ثم أتته امرأة شابة من خثعم، فقالت: (إن أبي شيخ كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزي أن أحج عنه؟ قال: نعم، فأدي عن أبيك)، قال: ولوى عنق الفضل، فقال له العباس: يا رسول الله، ما لك لويت عنق ابن عمك؟ قال:
رأيت شابا وشابة فخفت الشيطان عليهما، وفي لفظ: (فهل يجزي عنه أن أؤدي عنه؟ قال: نعم، فأدي عن أبيك») وفي لفظ: («إن أبي كبير وقد أفند، وأدركته فريضة الله في الحج، ولا يستطيع أداءها فيجزي عنه أن أؤديها؟ قال: نعم».) رواه في حديث طويل أحمد،والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه، وقد روى بعض الحديث الطويل أبو داود، وابن ماجه، وقد تقدم أيضا حديث أبي رزين العقيلي لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: («إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن أبيك واعتمر»). رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وقد احتج به أحمد وغيره على وجوب العمرة.
وعن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: «جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، أكان ذلك يجزي عنه؟ قال: نعم، قال: فحج عنه»). رواه أحمد، والنسائي.
فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء السؤال على أن المعضوب عليه فريضة الله في الحج، وأمر
هم النبي - صلى الله عليه وسلم- بفعلها عنه، وشبهها بالدين، ولم يستفصل هل له مال يحج به أو ليس له مال، وترك الاستفصال دليل على عموم الجواب لا سيما والأصل عدم المال، بل أوجب الحج بمجرد بذل الولد أن يحج، فدل ذلك على أن بذل الابن موجب، وإنما أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإخبار بفرض الحج على المعضوب لما رأى الولد قد بذل الحج.

وأيضا فإن الاستطاعة تحصل بالمباح كما تحصل بالمملوك، ويحصل به الوجوب، كما يحصل بالمملوك بدليل أن الوضوء يجب بالماء المبذول والمباح، والصلاة تجب في السترة المعارة، فيجب أن يحصل الحج أيضا - بالاستطاعة المبذولة من مال أو عمل. نعم ما عليه فيه منة لا يبذل بذلا مطلقا، لكن الغالب أنه لا بد أن يطلب منه باذله نوع عوض، ولو بالثناء أو الدعاء، ويحصل
عليه به منة فلا يجب عليه قبوله، كما لو بذلت السترة ملكا، أو بذل له أجنبي مالا يحج به، أو يكفر به.
وبذل الابن ليس فيه منة، ولا عوض بل هو من كسبه وعمله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: («إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»).
وقال: («أنت ومالك لأبيك»)، وكذلك دعاء الابن بعد موته من جملة عمله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: («إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»). فكيف لا يجب عليه أن يحج مع بذل الابن له ذلك؟ ولا مؤنة عليه فيه أصلا. وطرد هذا أنه يجب على الأب أن يقبل من مال ابنه ما يؤدي به دينه، بل ينبغي أن يكون هذا مسلما بلا خلاف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين، فعلى هذا يشترط في الباذل ... .
ووجه الأول: أن الله - سبحانه - قال: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - السبيل: بأنه الزاد والراحلة، وفي لفظ: «سئل: ما يوجب الحج؟ قال: (الزاد والراحلة»)، وفي لفظ: («من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله - تعالى - ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصران
يا)». فعلم بذلك أن الحج لا يوجبه إلا ملك الزاد والراحلة.
فإن قيل: قوله: (ما يوجب الحج؟) يعني: حج المرء بنفسه، ولم يتعرض لحج غيره عنه، ولم يفرق في الزاد والراحلة بين أن تكون مملوكة أو مباحة، وإنما قال: (الزاد والراحلة) أي: وجود ذلك يعم ما وجد مباحا ومملوكا بدليل قوله في آية الوضوء: {فلم تجدوا ماء} [المائدة: 6].
وأيضا فإن الاستطاعة صفة المستطيع، فلا بد أن يكون قادرا على الحج، وهو لا يصير قادرا ببذل غيره لجواز أن يرجع الباذل، وذلك أن شرط وجوب العبادة لا بد أن يستمر إلى حين انقضائها، فإن أوجب على الباذل التزام ما بذل: صار الوعد فر
ضا، وإن لم يجب فكيف يجب فرع لم يجب أصله؟
وأيضا فإن في إيجاب قبول بذل الغير عليه ضررا عليه؛ لأن ذلك قد يفضي إلى المنة عليه، وطلب العوض منه، وإن كان الباذل ولدا فإنه قد يقول الولد: أنا لا يجب علي أن أحج عنك، ولا أن أعطيك ما تحج به، ومن فعل مع غيره من الإحسان ما لا يجب عليه فإنه في مظنة أن يمن به عليه، وأيضا ... .
وأما حديث الخثعمية، وأبي رزين ونحوهما: فهو صريح بأن الوجوب كان قد ثبت واستقر قبل استفتاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستفتاؤه متقدم على بذل الولد الطاعة في الحج؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون أن الحج يجزئ عن العاجز
حتى استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يبذلون الحج عن الغير وهم لا يعلمون جواز ذلك؟ فإذا كانوا إنما بذلوا الحج عن الوالد بعد الفتوى، والوجوب متقدم على الفتوى: علم أن هذا البذل لم يكن هو الموجب للحج، ولا شرط في وجوبه؛ لأن الشرط لا يتأخر عن حكمه، وصار هذا كما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: (نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»). رواه البخاري. وكذلك حديث بريدة في التي قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: («إن أمي كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها»). رواه مسلم إلى غير ذلك. وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين، ولم يكن البذل هو المقرر للوجوب.
وأيضا فإن القوم إنما سألوه عن إجزاء الحج عن المعضوب، وعنه وقع الجواب، ولم يتعرض للوجوب بنفي ولا إثبات. وباتفاق لا يجب على الباذل أن يحج.

ونحن إنما استدللنا بحديث أبي رزين على وجوب العمرة؛ لأنه استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أداء ما وجب على أبيه؛ لتبرأ ذمة الأب، فأمره أن يحج عنه ويعتمر، فعلم أن كلاهما كان واجبا على الأب، وإلا لم يحتج أن يأمره [به كما لم يأمره] بتكرار الحج والطواف، فعند هذا يكون قول السائل: عليه فريضة الله في الحج إذا أدركته فريضة الله، ونحو ذلك كان لملكه الزاد والراحلة، وقد بلغ هؤلاء أن من ملك الزاد والراحلة فعليه فريضة الله في الحج، ولم يعلموا حكم العاجز عن الركوب أيسق
ط عنه أم يتجشم المشاق، وإن أضر به وهلك في الطريق، أم يستخلف من يحج عنه؟ ولهذا جزمت السائلة فقالت: إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وقال الآخر: أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، ولن يقول هذا إلا من قد علم أنه مكتوب عليه وواجب. فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج عن الآباء، ولم يستفصلهم هل ملكوا مالا أم لا لوجهين:
أحدهما: أنهم إنما سألوه عن جواز النيابة وإسقاطها فرض حجة الإسلام، وهذا لا يختلف الحال فيه بين الو
اجد والمعدم، فلم يكن للاستفصال وجه. وكل معضوب إذا حج عنه غيره بإذنه أسقط عنه الفرض، حتى لو ملك بعد هذا مالا لم يجب عليه حجة أخرى، وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين في جواز الأداء عن الغير. فإن من عليه دين وهو قادر على وفائه من ماله، أو عاجز عنه إذا أداه غيره عنه بإذنه جاز، كذلك الحج.
والثاني: أن يكون قد علم أن الحج وجب على الآباء بملك المال، إما بعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأن أماكن أولئك السوال قريبة، وأن غالب العرب لا يعدم أحدهم بعيرا يركبه، وزادا يبلغه، أو لأنه رأى جزم السائلين بالوجوب، مخصصين لهؤلاء من دون غيرهم من المسلمين، فعلم أنهم إنما جزموا لوجود المال الذي تقدم بيانه أنه هو السبيل، أو لغير ذلك
من الأسباب.
ويجوز أن يكون السوال عنوا بقوله: - أدركته فريضة الله في الحج، وعليه فريضة الله في الحج، والحج مكتوب عليه -: الوجوب العام، وهو أن الحج أحد أركان الإسلام وقد أوجبه الله - سبحانه - على كل مسلم حر عاقل بالغ، وهو مخاطب به سواء كان قادرا أو عاجزا، ولهذا لو فعله، أو فعل عنه أجزأه ذلك من حجة الإسلام، وإنما سقط عن غير المستطيع السير للعذر، لا لكونه ليس من أهل الوجوب، بخلاف الصبي والعبد والمجنون، فإنهم ليسوا من أهل الوجوب؛ ولهذا يفرق في الجمعة والحج وغيرهما بين أهل الأعذار في كونهم من أهل وجوب هذه العبادة، وإنما سقط عنهم السعي إليها للمشقة والعذر؛ ولهذا إذا حضروا وجبت عليهم، وانعقدت بهم، وبين العبد والمسافر والمرأة ونحوهم في كونهم ليسوا من أهل الوجوب؛ ولهذا إذا حضروا لم تج
ب عليهم، ولا تنعقد بهم.
وسبب الفرق بين القسمين: أن الوجوب يعتمد كمال الفاعل الذي به يستعد لحمل الأمانة، ويعتمد إمكان الفعل الذي به يمكن أداؤها، فإذا لم يكن الإنسان من أهل الكمال لنقص عقله أو سنه أو حريته ونحو ذلك لم يخاطب بذلك الوجوب أصلا، وليس عليه أن ينظر هل يفعل أو لا يفعل، ولو فعل لم يحصل به المقصود، وإذا كان كاملا تأهل للخطاب، وكان عليه أن يعزم على الأداء إذا قدر، وأن ينظر في نفسه هل هو قادر أو عاجز، ولو تجشم وفعل لحصل المقصود، فالمعضوب من هذا القسم.
فقول السائل: أدركته فريضة الله في الحج: يجوز أن يعني به أنه حر عاقل بالغ من أهل الوجوب، لكن هو عاجز عن الأداء، فإن استناب فهل يقوم فعل النائب مقام فعله، بحيث يكون بمنزلة من فعل أم لا يصح ذلك، فيبقى غير فاعل؟ و
هذه طريقة مشهورة في الكلام.
(فصل)
ومن لم يجد الزاد أو الراحلة: إذا اكتسب حتى حصل زادا وراحلة فقد أحسن بذلك، وكذلك إن كان يعمل صنعته في الطريق، أو يكري نفسه بطعامه وعقبته. ويستحب له الحج على هذا الوجه، ويجزئ عنه، وإن استقرض وكان له وفاء ... .
وإن كان يسأل في المصر، أو في الطريق، فقال أصحابنا: يكره له الحج بالسؤال.
والنصوص عن أحمد أن السؤال لغير ضرورة
حرام.
وإن لم يسأل لكن بذل له مال يحج به، أو بذل له أن يركب ويطعم ... .
وإن حج بغير مال، ومن نيته أن لا يسأل ويتوكل على الله، ويقبل ما يعطاه، فإن وثق باليقين والصبر عن المسألة، والاستشراف إلى الناس، ولم يضيق على الناس ... .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-05-2022, 01:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 145الى صــ 158
(6)



وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَوَكَّلُ ... .
وَإِنْ حَجَّ مَاشِيًا، وَلَهُ زَادٌ مَمْلُوكٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مُكْتَسَبٌ أَوْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِ الْحَجِّ (فَصْلٌ)
وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الرَّاحِلَةُ فِي حَقِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا الْقَرِيبُ وَالْمَكِّيُّ
وَنَحْوُهُمَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ: فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ. فَإِنْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ: لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُجَّ حَبْوًا.
وَأَمَّا الزَّادُ فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَجِدَ الزَّادَ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يَأْكُلُهُ، وَلَوْ بِكَسْبِهِ، فَإِنْ كَانَ مَتَى تَشَاغَلَ بِالْحَجِّ انْقَطَعَ كَسْبُهُ وَتَعَذَّرَ الزَّادُ عَلَيْهِ: لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ.
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى السُّؤَالِ ... .(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَجِدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ بِالْآلَةِ الَّتِي تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ مِنَ الْغَرَائِرِ، وَأَوْعِيَةِ الْمَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّادُ مِمَّا يَقْتَاتُهُ مِثْلُهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ طَعَامًا وَأُدْمًا، وَأَنْ تَكُونَ آلَاتُ الرَّاحِلَةِ مِمَّا تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الرُّكُوبُ إِلَّا فِي مَحْمِلٍ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ يَخَافُ السُّقُوطَ اعْتُبِرَ وُجُودُ الْمَحْمِلِ،
وَإِنْ كَانَ يَكْفِيهِ الرَّحْلُ وَالْقَتَبُ بِحَيْثُ لَا يَخْشَى السُّقُوطَ أَجْزَأَهُ وُجُودُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ عَادَتُهُ السَّفَرَ فِي الْمَحَامِلِ، أَوْ عَلَى الْأَقْتَابِ وَالزَّوَامِلِ وَالرِّحَالِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِي مِنَ الرُّكُوبِ عَلَى الزَّوَامِلِ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالْأَغْنِيَاءِ ... .
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ عَلَى الرَّحْلِ وَالزَّامِلَةِ دُونَ الْمَحْمِلِ إِذَا أَمْكَنَ، لِمَا رَوَى عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ
قَالَ: («حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ»). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالزَّامِلَةُ: هِيَ الْبَعِيرُ الَّذِي يَحْمِلُ مَتَاعَ الرَّجُلِ وَطَعَامَهُ، وَازْدَمَلَهُ: احْتَمَلَهُ، وَالزَّمِيلُ: الرَّدِيفُ، وَالْمُزَامَلَةُ: الْمُعَادَلَةُ عَلَى بَعِيرٍ.
وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: («حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ لَا تُسَاوِي، ثُمَّ قَالَاللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةَ»). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِمَا كَلَامٌ.

وَهَلْ يُكْرَهُ الْحَجُّ فِي الْمَحْمِلِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: لَا يُكْرَهُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: وَالْمَحَامِلُ قَدْ رَكِبَهَا الْعُلَمَاءُ وَرُخِّصَ فِيهَا.
وَالثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: عَطَاءٌ كَانَ يَكْرَهُ الْمَحَامِلَ لِلرَّجُلِ وَلَا يَرَى بِهَا لِلنِّسَاءِ بَأْسًا، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْقِبَابُ عَلَى الْمَحَامِلِ بِدْعَةٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهُ فِي رُكُوبِهِ وَطَعَامِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: اعْتُبِرَتِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ بِكِرَاءٍ، أَوْ شِرَاءٍ، وَيُعْتَبَرُ
أَنْ يَجِدَهُمَا فِي مِلْكِهِ، أَوْ هُمَا بِكِرَاءٍ، أَوْ شِرَاءٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عِوَضَ مِثْلِهِمَا فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهُوَ وَاجِدٌ لَهُ.
وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى عِوَضِ الْمِثْلِ لَزِمَهُ الشِّرَاءُ وَالْكِرَاءُ. وَإِنْ كَانَتْ كَ
ثِيرَةً تُجْحِفُ بِمَالِهِ: لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُجْحِفُ بِمَالِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
وَإِنْ كَانَ السِّعْرُ غَالِيًا فِي ذَلِكَ الْعَامِ غَلَاءً خَارِجًا عَنِ الْأَمْرِ الْغَالِبِ فَقِيلَ: يُعْتَبَرُ ثَمَنُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا يُمْكِنُهُ اقْتِضَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ بَاذِلٍ، أَوْ غَائِبٍ يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ يَجِدُ الزَّادَ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ، أَوْ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ: لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ مِنْ مِصْرِهِ، بَلْ عَلَيْهِ حَمْلُهُ مِنْ مَوْضِعِ وُجُودِهِ إِلَى مَوْضِعِ وُجُودِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ حَمْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ، أَوْ لَا.
وَأَمَّا الْمَاءُ لَهُ وَلِدَوَابِّهِ وَعَلَفُ الرَّوَاحِلِ، فَمِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ فَعَلَيْهِ حَمْلُهُ مِنْ مَوْضِعِ وُجُودِهِ عَلَى مَا جَ
رَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الطَّرِيقِ مَاءٌ وَلَا عَلَفٌ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ حَمْلُهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَا مِنْ أَقْرَبِ الْأَمْصَارِ إِلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَشُقُّ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حَمْلِ الْمَاءِ لِبَهَائِ
مِهِ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ ... .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: حُكْمُ عَلَفِ الْبَهَائِمِ: حُكْمٌ زَادَهُ فِي وُجُوبِ حَمْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الطَّرِيقِ.
(الْفَصْلُ الرَّابِعُ)

أَنْ يَجِدَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَمُؤْنَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ.
فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ بَعْدَ وُجُوبِهِ، أَوْ حِينَ وُجُوبِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ دَيْنِهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، ثُمَّ لَزِمَهُ الدَّيْنُ بَعْدَ ذَلِكَ ... . [وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا، أَوْ مَتْرُوكًا.
]
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ وَعَلَيْ
هِ دَيْنٌ ... .
فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ: قَدَّمَ الْحَجَّ. قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَحُجَّ قَطُّ فَإِنَّهُ يَقْضِي دَيْنَهُ، وَلَا يَحُجُّ، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ فَلْيَحُجَّ الْفَرِيضَةَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ يَقْضِي دَيْنَ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ لَمْ يَحُجَّ دَفَعَ إِلَى أَبِيهِ حَتَّى يَحُجَّ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْحَجُّ، إِذْ كَانَ مَعَهُ نَفَقَةٌ تُبَلِّغُهُ إِلَى مَكَّةَ وَيَرْجِعُ، وَيُخَلِّفُ نَفَقَتَهُ لِأَهْلِهِ مَا يَكْفِيهِمْ حَتَّى يَرْجِعَ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: السَّبِيلُ فِي الطَّرِيقِ السَّالِكَةِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ الْمُبَلِّغَا
نِ إِلَى مَكَّةَ، وَإِلَى الْعَوْدِ إِلَى مَنْزِلِهِ، مَعَ نَفَقَةِ عِيَالِهِ لِمُدَّةِ سَفَرِهِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ وُجُودُ مَا يُنْفِقُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ وَابْنَ أَبِي مُوسَى صَرَّحَا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْمَنَازِلِ الَّتِي يُؤَجِّرُهَا لِكِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا يَفْضُلُ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَتْرُكَ لِعَائِلَتِهِ - الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ - مَا يَكْفِيهِمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ بِخِلَافِ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: («كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ - بِعَيْنِهِ - نَفَقَتُهُ لَكِنْ يَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ كَيَتِيمٍ وَأَرْمَلَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ... .
وَلَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى كِفَايَةٍ لَهُ، وَلِعِيَالِهِ عَلَى الدَّوَامِ إِمَّا رِبْحِ تِجَارَةٍ، أَوْ صِنَاعَةٍ، أَوْ أُجُورِ عَقَارٍ، وَدَوَابَّ، أَوْ رَيْعٍ وُقِفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ ... .
فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَقْفِ الْفُقَرَاءِ، أَوِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ ... .
وَالْمُرَادُ بِالْكِفَايَةِ: مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ مَسْكَنٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ
السُّكْنَى، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَسْكَنَهُ، ثُمَّ يَسْكُنَ بِأَجْرٍ، أَوْ فِي وَقْفٍ.
لَكِنْ إِنْ كَانَ وَاسِعًا يُمْكِنُهُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِمَا دُونَهُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِالتَّفَاوُتِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ كُتُبُ عِلْمٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
عِلْمُهَا فَرْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْعَالِمِ إِلَى عِلْمِهِ ... .
فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، أَوْ كَانَ لَهُ بِكِتَابٍ نُسْخَتَانِ يَسْتَغْنِي عَنْ إِحْدَاهُمَا: بَاعَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ كُتُبَ عِلْمٍ، أَوْ يُنْفِقَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ مَلَكَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ رَجُلٌ جَاهِلٌ، أَيَحُجُّ بِهَا أَمْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ؟ فَقَالَ: يَحُجُّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ فَرِيضَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هَذَا لَمْ يَتَعَلَّمْ فَالِابْتِدَاءُ بِفَرْضِ الْعَيْنِ قَبْلَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَوِ النَّافِلَةِ: مُتَعَيِّنٌ، وَالْأَوَّلُ قَدْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ، فَفِي بَيْعِ كُتُبِهِ إِخْلَالٌ بِمَا قَدْ عَلِمَهُ مِنْ عِلْمِهِ.
وَإِذَا كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَحْتَاجُ إِلَى خِدْمَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ بَيْعُهَا. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ وَالشَّيْءُ الَّ
ذِي لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ كِفَايَةٌ لِأَهْلِهِ: فَلَا يُبَاعُ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَمُؤْنَةِ عِيَالِهِ: يُبَاعُ.
وَإِذَا كَانَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى النِّكَاحِ فَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ -: إِذَا كَانَ مَ
عَ الرَّجُلِ مَالٌ فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فَضْلٌ، وَإِنْ حَجَّ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْرٌ عَنِ التَّزْوِيجِ: تَزَوَّجَ، وَتَرَكَ الْحَجَّ. وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ إِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ قَدَّمَ النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَا غِنًى بِهِ عَنْهُ فَهُوَ كَالنَّفَقَةِ.

وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَجِّ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ، وَلَمْ يَحُجَّ، وَأَبَوَاهُ يَأْمُرَانِهِ بِالتَّزْوِيجِ، قَالَ: يَحُجُّ وَلَا يُطِيعُهُمَا فِي ذَلِكَ، هَكَذَا ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ، ثُمَّ فَصَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ بِوُجُودِ السَّبِيلِ إِلَيْهِ.
وَالْعَنَتُ الْمَخُوفُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَهُوَ نَادِرٌ، وَالْغَالِبُ عَلَى الطِّبَاعِ خِلَافُ ذَلِكَ، فَلَا يُفَرِّطُ فِيمَا تَيَقَّنَ وُجُوبَهُ بِمَا يَ
شُكُّ فِيهِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ: قَدَّمَ الْحَجَّ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّكَاحَ وَاجِبٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَيْعُهَا، وَاسْتِبْدَالُ مَا هُوَ دُونَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِيَسْتَفْضِلَ نَفَقَتَهَا.
(فَصْلٌ)
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الْمَسِيرِ بِأَنْ يَكُونَ يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِلسَّيْرِ وَالْأَدَاءِ. فَلَوْ وَجَدَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّحْرِ بِأَيَّامٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ شَهْرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ لِلْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَّا السَّيْرَ الْمُعْتَادَ وَمَا يُقَارِبُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَسِيرَ سَيْرًا يُجَاوِزُ الْعَادَةَ، أَوْ يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ تَحْصِيلِ آلَةِ السَّفَرِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا يَجِبُ مَعَهَا مِثْلُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ خَالِيًا مِنَ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ يَصُدُّهُ عَنِ الْحَجِّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ كَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْقَوَافِلِ، أَوْ كُفَّارٍ، أَوْ بُغَاةٍ: لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَى الْحَجِّ. فَإِنْ
أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ ... .
وَإِنْ أَمْكَنَ بَذْلُ خُفَارَةٍ لَهُمْ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجِبُ بَذْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رِشْوَةٌ فَلَا يَلْزَمُ بَذْلُهَا فِي الْعِبَادَةِ كَالْكَثِيرَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمَنُونَ مَعَ أَخْذِهَا، فَإِنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مِنْ وَفْدِ اللَّهِ: لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى اسْتِحْلَالِ قَتْلِهِمْ، أَوْ نَهْبِهِمْ، أَوْ سَرِقَتِهِمْ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ بَذْلُ الْخُفَارَةِ الْيَسِيرَةِ، قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ يَقِفُ إِمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا، فَلَمْ يَمْتَنِعِ الْوُجُوبُ مَعَ إِمْكَانِ بَذْلِهَا كَالْأَثْمَانِ وَالْأَكْرِيَةِ، وَقَدْ بَذَلَ صُهَيْبٌ لِلْكُفَّارِ جَمِيعَ مَالِهِ الَّذِي بِمَكَّةَ حَتَّى خَلَّوْهُ يُهَاجِرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْ
رِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ لَوِ احْتَاجَ أَنْ يَرْشُوَ الْوُلَاةَ لِتَخْلِيَتِهِ، أَوْ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِهِ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 19-05-2022, 12:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 159الى صــ 172
(7)



وَلَوِ احْتَاجَ أَنْ يَبْذُلَ مَالًا لِمَنْ يَخْرُجُ مَعَهُ لِيَحْرُسَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِرِشْوَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جُعَالَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ مَعَهُ وَحِفْظُهُ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ: أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَفَقَةُ مَحْرَمِهَا؛ لِأَنَّهُ الْحَافِظُ لَهَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ مَنْ يَحْفَظُ رَحْلَهُ مِنَ السُّرَّاقِ.
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الطَّرِيقُ قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً يَبْقَى فِيهَا سِنِينَ ... .
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الطَّرِيقُ بَرًّا أَوْ بَحْرًا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّلَامَةَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْبَحْرِ الْهَلَاكَ: لَمْ يَجِبِ السَّعْيُ إِلَى الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ يَسْلَمُ قَوْمٌ وَيَتْلَفُ قَوْمٌ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ سُلُوكُهُ.
(فَصْلٌ)
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الرُّكُوبِ، فَمَتَى قَدَرَ عَلَى الرُّكُوبِ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَزِمَهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لِمَرَضٍ، أَوْ كِبَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُخْشَى مِنْ رُكُوبِهِ سُقُوطُهُ، أَوْ مَرَضٌ، أَوْ زِيَادَةُ مَرَضٍ، أَوْ تَبَاطُؤُ بُرْءٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ تَوَهُّمًا وَجُبْنًا، أَوْ مَرَّةً يَعْتَرِيهِ أَحْيَانًا، وَيَقْدِرُ أَنْ يَسْتَطِبَّ ... .
ثُمَّ إِنْ كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَإِنَّهُ يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ -: يَحُجُّ الرَّجُلُ عَنِ الرَّجُلِ وَهُوَ حَيٌّ وَعَنِ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ يَحُجُّ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةً ثَقِيلَةً لَا يَقْدِرُ مِثْلُهَا يَرْكَبُ، وَالْمَرِيضُ الَّذِي قَدْ أُويِسَ مِنْهُ أَنْ يَبْرَأَ: فَيَحُجُّ عَنْهُمْ وَلِيُّهُمْ، «وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ»).

فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْحَجِّ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْحَجُّ: حَجَّ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا.
وَإِحْجَاجُهُ عَنْ نَفْسِهِ: وَاجِبٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَوَاءٌ بَلَغَ وَهُوَ مَعْضُوبٌ، أَوْ عُضِبَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَالِ، أَوْ بَعْدَ وُجُودِ الْمَالِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى: أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُوسَى ذَكَرَ أَنَّ شُرُوطَ الْوُجُوبِ: الْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالصِّحَّةُ، وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَالْمَحْرَمُ لِلْمَرْأَةِ، وَخُلُوُّ الطَّرِيقِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَالصِّحَّةِ. وَعَلَى الْمَرْأَةِ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ: الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ، وَالصِّحَّةُ، وَالْمَحْرَمُ.
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ وَغَيْرَهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا قَدْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَقَرَّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ الْمَقْضِيِّ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحَجَّ قَدْ وَجَبَ عَلَى هَذَا الْمَعْضُوبِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ ... .
وَأَيْضًا: «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ») وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَادِرِ بِنَفْسِهِ وَالْعَاجِزِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ إِذَا قَدَرَ أَنْ يَفْعَلَهَا بِأَصْلٍ أَوْ بَدَلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا يَجِبُ بَدَلُ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ، وَبَدَلُ الْكَفَّارَاتِ، وَبَدَلُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ الْحَجَّةُ تُجْزِئُ عَنْهُ، وَيَسْقُطُ بِهَا عَنْهُ فَرْضُ الْإِسْلَامِ، بِنَصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَمْكَنَتْهُ الِاسْتِنَابَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فِي دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ إِنْ كَانَ أَجِيرًا فَلَا ضَرَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ يَقَعُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالِاسْتِيجَارِ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ. وَإِنْ كَانَ نَائِبًا مَحْضًا فَإِنَّ النَّفَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي مَالِ الْمُسْتَنِيبِ، فَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، يَبْقَى عَمَلُ النَّائِبِ فَقَطْ وَذَلِكَ لَا مِنَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ عِوَضًا صَحِيحًا فِي شُهُودِ الْمَشَاعِرِ، وَعَمَلِ الْمَنَاسِكِ، وَحُضُورِ الْمَوْسِمِ، وَلَهُ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ غَيْرُ إِبْرَاءِ ذِمَّةِ الْمُنِيبِ مِنْ حَجِّ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا بَلَغَ ذَلِكَ بِمَالِ الْمُسْتَنِيبِ فَيَصِيرَانِ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى إِقَامَةِ الْحَجِّ، هَذَا بِمَالِهِ، وَهَذَا بِبَدَنِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مِنَّةٌ عَلَى الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَجَّ عَنْهُ بِمَالِ نَفْسِهِ.

لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَاجُّ وَلِيَّهُ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ صِلَةً لِرَحِمِهِ، وَقَضَاءً لِحَقِّهِ، كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَقْلِ عَنْهُ، وَوِلَايَتِهِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَإِذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ عُوفِيَ.
قَالَ - فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي طَالِبٍ -: إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَجِّ فَحُجُّوا عَنْهُ، ثُمَّ صَحَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدَرَ: فَقَدْ قُضِيَ عَنْهُ الْحَجُّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَصْحَابِنَا.
فَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَاقَهُ عَائِقٌ، أَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ هَلْ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ الْعَاجِزُ عَنِ الْحَجِّ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ كَالْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ، وَمَنْ قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ، أَوْ مَنَعَهُ سُلْطَانٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ: لَمْ تَجُزْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي فَرْضِ الْحَجِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، كَمَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَذِنَ فِي النِّيَابَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَنْ فِي مَعْنَاهُ. وَالَّذِي يُرْجَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْحَجِّ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِوُجُوهٍ: -
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَاكَ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ فَقَطْ، وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ بِكُلِّ حَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ بِكُلِّ حَالٍ انْتَقَلَ إِلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ عَجَزَ فِي الْحَالِ فَقَطْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِقَالُ إِلَى الْبَدَلِ، وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ إِذَا قَدَرَ. فَالْحَجُّ مِثْلُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُحَجَّ عَنِ الْفَقِيرِ، فَتَسْقُطَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْوُجُوبِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ دَوَامُ الْعَائِقِ جَازَ أَنْ يُخَاطَبَ فِيمَا بَعْدُ، وَجَازَ أَنْ لَا يُخَاطَبَ، فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ ... .

(فَصْلٌ)
إِمْكَانُ الْمَسِيرِ وَالْأَدَاءِ بِسَعَةِ الْوَقْتِ، وَخُلُوِّ الطَّرِيقِ، وَالصِّحَّةِ: هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، أَوْ لِلُزُومِ الْأَدَاءِ فَقَطْ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.
فَأَمَّا الْعَائِقُ الْخَاصُّ، مِثْلُ الْحَبْسِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَمَنْعِ السُّلْطَانِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَعَاقَةِ الطَّرِيقِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِذَا عَرَضَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِدْيَةٌ، فَإِذَا قُلْنَا: هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ فَمَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، أَوْ أَنْفَقَ مَالَهُ، أَوْ هَلَكَ: لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ السَّعْيِ فَإِنَّ الْحَجَّ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا أَنْفَقَ الْمَالَ فِيمَا بَعْدُ بَقِيَ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ. [وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لَكِنْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ] وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ مَعَ إِمْكَانِ إِبْقَائِهِ لِلْحَجِّ. وَإِذَا اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمَكِّنُهُ مِنَ اكْتِسَابٍ مَالٍ، أَوْ مَشْيٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: هُمَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] بَلْ هُوَ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَشْيِ وَاكْتِسَابِ الْمَالِ، وَأَعْجَزُ مِنَ الْمَعْضُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَحُجَّ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِنَائِبِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَكَيْفَ يَبْقَى الْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ؟! وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعِبَادَةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَا أُطْلِقَ وُجُوبُهُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ.
فَأَمَّا الْحَجُّ: فَقَدْ خَصَّ وُجُوبَهُ بِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَامْتَنَعَ إِيجَابُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ السَّبِيلَ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الطَّرِيقُ وَالسَّبَبُ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى الشَّيْءِ فَهُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ وَسَبَبٌ فِيهِ، فَالتَّقْدِيرُ: مَنِ اسْتَطَاعَ التَّسَبُّبَ وَالتَّوَصُّلَ إِلَيْهِ، أَوْ مَنِ اسْتَطَاعَ فِعْلَ سَبِيلٍ، أَوْ سُلُوكَ سَبِيلٍ، وَيَخْتَصُّ الْوُجُوبُ بِمَنْ كَانَ السَّبِيلُ مُسْتَطَاعًا لَهُ أَوْ مَقْدُورًا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَيُقِيمُونَ الْمَوْسِمَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ فِعْلِهِ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَطَرْدِ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ قُدْرَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. فَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يُحَجَّ عَمَّنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ مِنْهُمْ، وَلَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوبَ ذَلِكَ فِي تَرِكَاتِهِمْ، أَوْ سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، كَمَا سَأَلُوهُ عَمَّنْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ وَهُوَ مَعْضُوبٌ.
وَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ قَدْ تَأَخَّرَتْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ، أَوْ عَشْرٍ فَإِنَّمَا سَبَبُ تَأْخِيرِهَا صَدُّ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْبَيْتِ، وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ تَمَكُّنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِقَامَتِهِ، فَامْتَنَعَ أَصْلُ إِيجَابِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ فَهُوَ بِالْمَنْعِ فِي حَقِّ الْخَاصَّةِ أَوْلَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِتْمَامُ الْحَجِّ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي ذِمَّتِهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّ إِتْمَامَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ أَوْكَدُ مِنَ ابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ فِيهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ. فَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ فِي ذِمَّةِ الْمَصْدُودِ عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَأَنْ لَا يَجِبَ الْأَدَاءُ فِي ذِمَّةِ الْمَصْدُودِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْلَى.
وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُ ... .
فَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ: مَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ)» وَفَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يُعْلَمُ أَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَجِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْحَالِ، أَوْ فِي الْمَآلِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَائِبِهِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ. وَهَذَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ الْحَجُّ لِيَفْعَلَهُ فِيمَا بَعْدُ بِنَفْسِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا بِنَائِبِهِ كَالْمَعْضُوبِ. حَتَّى لَوْ فُرِضَ مَنْ لَا يُمْكِنُ الْحَجُّ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ آخِرِ سَنَةٍ يَحُجُّ النَّاسُ فِيهَا لَمْ يَجِبْ فِي ذِمَّتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَعْضُوبِ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْضُوبَ يُمْكِنُهُ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْمَصْدُودِ.
وَالتَّمَكُّنُ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ إِذًا لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ، لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِنَا الْمَشْهُورِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ. فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَمْكَنَهُ قَضَاءُ الْعِبَادَةِ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ إِذَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا.
وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الشَّهْرِ فِي رَمَضَانَ، وَبِمَنْزِلَةِ حُؤُولِ الْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، فَمَنْ مَلَكَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَ فِعْلُ الْحَجِّ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً وَجَبَ عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَةٌ وجوب المحرم في سفر المرأة]



مَسْأَلَةٌ:
(وَيُعْتَبَرُ لِلْمَرْأَةِ وُجُودُ مَحْرَمِهَا، وَهُوَ زَوْجُهَا، وَمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ، أَوْ سَبَبٍ مُبَاحٍ).
فِي هَذَا الْكَلَامِ فَصْلَانِ: -
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُسَافِرَ لِلْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ إِلَّا مَعَ زَوْجٍ، أَوْ ذِي مَحْرَمٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [(«لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا إِلَّا مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ]: («لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»). وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («نَهَى أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ، أَوْ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيَّ: («لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إِلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوِ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا»).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19-05-2022, 12:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد



شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 173الى صــ 186
(8)



وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: («لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: («مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»). وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: («لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا»). وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: (بَرِيدًا).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: («لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَانْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: («لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلْ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنِّي أُرِيدُ جَيْشَ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ، قَالَ: اخْرُجْ مَعَهَا»).

فَهَذِهِ نُصُوصٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَحْرِيمِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَمْ يُخَصِّصْ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ، مَعَ أَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ مِنْ أَشْهَرِهَا وَأَكْثَرِهَا. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُغْفِلَهُ، وَيُهْمِلَهُ وَيَسْتَثْنِيَهُ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، بَلْ قَدْ فَهِمَ الصَّحَابَةُ مِنْهُ دُخُولَ سَفَرِ الْحَجِّ فِي ذَلِكَ لَمَّا سَأَلَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَنْ سَفَرِ الْحَجِّ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ،وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَافِرَ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَيَتْرُكَ الْجِهَادَ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِنْفَارِ فِيهِ، وَلَوْلَا وُجُوبُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرُ الْحَجِّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَهُوَ أَغْلَبُ أَسْفَارِ النِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُسَافِرُ فِي الْجِهَادِ، وَلَا فِي التِّجَارَةِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا تُسَافِرُ فِي الْحَجِّ، وَلِهَذَا
جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِهَادَهُنَّ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ يُؤْمَنُ فِيهِ الْبَلَاءُ، ثُمَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا ا
عْتَقَدَهُ حَافِظًا لَهَا وَصَايِنًا،كَنِسْوَةٍ ثِقَاتٍ، وَرِجَالٍ مَأْمُونِينَ، وَمَنَعَهَا أَنْ تُسَافِرَ بِدُونِ ذَلِكَ.
فَاشْتِرَاطُ مَا اشْتَرَطَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ، وَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ النِّسَاءَ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إِلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ، وَالْمَرْأَةُ مُعَرَّضَةٌ فِي السَّفَرِ لِلصُّعُودِ وَالنُّزُولِ وَالْبُرُوزِ، مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَنْ يُعَالِجُهَا، وَيَمَسُّ بَدَنَهَا، تَحْتَاجُ هِيَ وَمَنْ مَعَهَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَى قَيِّمٍ يَقُومُ عَلَيْهِنَّ، وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ لَا يُؤْمَنُ وَلَوْ كَانَ أَتْقَى النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ سَرِيعَةُ التَّقَلُّبِ، وَالشَّيْطَانَ بِالْمِرْصَادِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («مَا خَلَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا»). قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: «لَا تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ».

وَلَيْسَ يُشْبِهُ أَمْرُ الْحَجِّ الْحُقُوقَ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَازِمَةٌ وَاجِبَةٌ مِثْلُ الْحُدُودِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَأَمْرُ النِّسَاءِ صَعْبٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يُذَبُّ عَنْهُ، وَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَحُجَّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؟ فَكَيْفَ بِالضَّيْعَةِ وَمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَوَادِثِ؟!
وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ إِلَّا فِي الْهِجْرَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَهْرُبُ مِنْهُ شَرٌّ مِنَ الَّذِي تَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَقَدْ خَرَجَتْ أُمُّ كُلْثُ
ومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَفِي حُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَضِيعَ حَقُّ الْمُدَّعِي، وَفِي التَّغْرِيبِ لِأَنَّهُ حَدٌّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا.
فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ... .
وَالْعَجُوزُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى ... .
وَهَلِ الْمَحْرَمُ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلُّزُومِ وَالْأَدَاءِ
؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى قَالَ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ -: الْمَحْرَمُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ السَّبِيلِ ... .
(الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمَحْرَمِ).
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ: هُوَ زَوْجُهَا وَمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ، أَوْ سَبَبٍ مُبَاحٍ.

وَتَسْمِيَةُ الزَّوْجِ مَحْرَمًا تَمَسُّكٌ بِقَوْلِهِ: («لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ»). وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ (ذُو مَحْرَمٍ). وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا تُسَافِرُ مَعَ الزَّوْجِ، فَيَتَنَاوَلُهُ اسْمُ مَحْرَمٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يُسَمَّ مَحْرَمًا عَلَى مَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ: (إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا).
وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ الْمَحْرَمَ إِمَّا صِفَةٌ أَوْ مَصْدَرٌ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ إِمَّا مِنَ التَّحْرِيمِ، أَوْ مِنَ الْحُرْمَةِ. . فَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ
، فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، أَوْ مُحَرَّمَةً وَهُوَ مُحَلٌّ، أَوْ هُمَا مُحَرَّمَانِ قَدْ وَجَبَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا؛ لِكَوْنِهِمَا فِي قَضَاءِ حَجٍّ فَاسِدٍ، وَفِي مَعْنَاهُ سَيِّدُ الْأَمَةِ، فَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا عَلَيْهِ ... .
وَأَمَّا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالنَّسَبِ مِنْ وَلَدِهَا وَآبَائِهَا، وَأُخْوَتِهَا، وَبَنِي أُخْوَتِهَا، وَأَعْمَامِهَا، وَأَخْوَالِهَا فَكُلُّهُمْ مَحَارِمُ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ
سَبَبُ النَّسَبِ نِكَاحًا صَحِيحًا، أَوْ فَاسِدًا، أَوْ وَطْءَ شُبْهَةٍ؛ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْأَنْسَابِ الثَّابِتَةَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ سَوَاءٌ فِي الْأَحْكَامِ.
فَأَمَّا بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَا وَأُخْتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا - وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ - فَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا فِي الْمَنْصُوصِ بِخِلَافِ أُمِّهِ. وَكَذَلِكَ ابْنَتُهُ الَّتِي لَاعَنَ عَلَيْهَا لَيْسَ هُوَ مَحْرَمًا لَهَا، وَلَا ابْنُهُ، وَلَا أَبُوهُ.
وَأَمَّا السَّبَبُ فَقِسْمَانِ: صِهْرٌ، وَرَضَاعٌ، أَمَّا الصِّهْرُ فَأَرْبَعٌ: زَوْجُ أُمِّهَا،
وَابْنَتُهَا، وَأَبُو زَوْجِهَا، وَابْنُهُ.
وَأَمَّا الرَّضَاعُ: فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَحَارِمُ.
وَأَمَّا مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا تَحْرِيمًا عَارِضًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَأُخْتِ امْرَأَتِهِ وَسُرِّيَّتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَلَيْسَ هُوَ مَحْرَمًا لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْرَمًا لَهُنَّ: لَكَانَ مَنْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا قَدْ صَارَ مَحْرَمًا لِجَمِيعِ بَنَاتِ آدَمَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إِذَا حَرُمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ يَئِسَتِ النَّفْسُ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا طَمَعٌ فِي أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهَا نَظَرَ
شَهْوَةٍ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَآلِ، بِخِلَافِ مَنْ تَحْرُمُ فِي الْحَالِ فَقَطْ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ حِلِّهَا بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ تُطْمِعُ النَّفْسَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَيَصِيرُ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ التَّحْرِيمِ كَافِيًا فِي ذَلِكَ لَكَانَ مَحْرَمًا لِسَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ، بَلْ لِسَائِرِ النِّسَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: وَلَوْ حَجَّتِ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ أَجْزَأَتْهَا الْحَجَّةُ عَنْ حَجَّةِ الْفَرْضِ مَعَ مَعْصِيَتِهَا، وَعَظِيمِ الْإِثْمِ عَلَيْهَا.
[مَسْأَلَةٌ وجوب الحج على من فرط فيه حتى مات]

مَسْأَلَةٌ: (فَمَنْ فَرَّطَ حَتَّى مَاتَ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ حَجَّةٌ، وَعُمْرَةٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، أَوْ نَائِبِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَفَرَّطَ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَلَهُ تَرِكَةٌ: وَجَبَ أَنْ تُخْرَجَ مِنْ مَالِهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفَرِّطْ؛ وَهُوَ مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا، أَوْ مَمْنُوعًا، أَوْ كَانَ بِطَرِيقَةٍ عَاقَةٍ، أَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِمْ، وَيَكُونُ هَذَا الْحَجُّ دَيْنًا عَلَيْهِ يُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَ
صَايَا وَالْمَوَارِيثِ. هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، نَصَّ عَلَيْهِ - فِي مَوْضِعٍ - وَأَصْحَابِهِ، كَمَا قُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ دَيْنٌ مِنَ الدُّيُونِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْهُ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: («أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ حَمَلْتُهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وَإِنْ رَبَطْتُهَا خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْ أُمِّكَ»). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ مِنَ الْفَضْلِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: («أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاحْجُجْ عَنْ أَبِيكَ»). وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْفَضْلِ إِنَّمَا سَأَلَتْ عَنْ أُمِّهَا، وَبِدَلِيلِ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَإِذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ دَخَلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - عَمَّ بِقَوْ
لِهِ: {أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فَإِنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ مَعْنَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمِيرَاثُ بَعْدَ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ، وَلَمْ يُخَصِّصْ دَيْنَ الْآدَمِيِّ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ -، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ قَدْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ: أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ صُلْبِ الْمَالِ.
وَأَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ قَالَ: («بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ: وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صُومِي عَنْهَا، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا»)؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: (إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: («أَمَرَتِ امْرَأَةٌ سِنَانَ بْنَ سَلَمَةَ الْجُهَنِيَّ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِئُ أُمَّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا؟ فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا»). وَعَنْهُ أَيْضًا: («أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهَا مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، قَالَ: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ»). وَعَنْهُ قَالَ: («قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»). رَوَاهُنَّ النَّسَائِيُّ.

فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ وُجُوهٍ: -
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِفِعْلِ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْحِجَّةِ الْمَنْذُورَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهَا تُؤَدَّى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 30-05-2022, 12:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 187الى صــ 200
(9)


وَكُلُّ مَا يَبْقَى مِنَ الْحُقُوقِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُؤَدَّى بَعْدَ الْمَوْتِ: فَإِنَّهُ يَجِبُ فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذَا كَانَ لَهُ مَا يَفْعَلُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ: لَا يَجِبْ فِعْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يَزْعُمُ أَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ قَدْ سَقَطَتْ بِالْمَوْتِ، وَأَنَّ الَّذِي يُفْعَلُ عَنْهُ حَجُّ تَطَوُّعٍ لَهُ أَجْرُهُ، وَثَوَابُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ - زَعْمٌ - لَا يُفْعَلُ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ فَإِنَّ الَّذِي يُوصَى بِهِ لَيْسَ هُوَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَ الْوَاجِبِ هُوَ الَّذِي يُقْضَى عَنْهُ.


وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ الْحَجَّ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَكُلُّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: («اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»). وَقَوْلُهُ: فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنِ الصَّوْمِ («فَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ»): إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ اللَّهِ أَوْجَبُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ أَوْكَدُ،وَأَثْبَتُ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ آكَدُ مِنْ وُجُوبِ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَبَانِي ا
لْإِسْلَامِ مَعَ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: («فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ») فَعَلَى هَذَا إِذَا وَجَبَ قَضَاءُ دَيْنِ الْآدَمِيِّ مِنْ تَرِكَتِهِ فَأَنْ يَجِبَ قَضَاءُ دَيْنِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِذَا كَانَ قَضَاءُ دَيْنِ الْآدَمِيِّ يُجْزِئُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُجْزِئَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرِيمٌ جَوَادٌ، وَمَنْ يَكُونُ أَحْرَى بِقَبُولِ الْقَضَاءِ: فَحَقُّهُ أَوْلَى أَنْ يُقْضَى؛ لِأَنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يَحْصُلَ بِقَضَائِهِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ عَنِ الْمَيِّتِ لَا عَنْ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا وَجَبَ فِعْلُ الدَّيْنِ عَنْهُ لِبَقَائِهِ وَكَوْنِهِ يُجْزِئُ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، [وَجَبَ قَضَاءُ الْحَجِّ وَنَحْوِهِ عَنْهُ لِبَقَائِهِ، وَكَوْنُهُ يُجْزِئُ بَعْدَ الْمَوْتِ] لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِ الْحَجِّ الْمَفْرُوضِ عَنِ الْمَيِّتِ، سَوَاءٌ وَصَّى بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُوصِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ تَرِكَةٍ خَلَّفُوهَا، وَتَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ، وَيُؤَدِّي عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ بِعَيْنِهَا أَحْكَامُ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الْوَلِيَّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُ
وبَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَبَّهَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي يَجِبُ قَضَاؤُهُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الدَّيْنُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ إِنْ كَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَأَيْضًا: فَقَدْ تَقَدَّمَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عَنْهُ، كَمَا يُطْعِمُ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَإِذَا وَجَبَ الْإِطْعَامُ فِي تَرِكَتِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْحَجُّ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا فَرْقَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَجَّ حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ فِي حَيَاتِهِ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَدْ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]- إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]، وَقَوْلِهِ:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَ
الِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100]؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَاتَ عَاصِيًا عَلَى كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، بَلْ تُخُوِّفَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، كَمَا يُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْفَوْرِ، فَلَوْ كَانَ الْحَجُّ يَجِبُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ - بَعْدَ مَوْتِهِ - وَيُجْزِؤُهُ كَمَا يُجْزِؤُهُ لَوْ فَعَلَهُ فِي حَيَاتِهِ لَكَانَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَهُ.


وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ ابْتِلَاءٌ لِلْعَبْدِ وَامْتِحَانٌ لَهُ، وَأَمْرٌ لَهُ بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ يَقْصِدَ الْعِبَادَةَ وَيَفْعَلَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْمُرَ مَنْ يَفْعَلُهَا. وَبِالْمَوْتِ قَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ حَجَّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ دَيْنِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَيَصِحُّ بِدُونِ إِذْنِهِ، لَوْ أَدَّاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَازَ وَلَوِ اقْتَضَاهُ الْغَرِيمُ مِنْ مَالِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَحُجُّوا، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْحَجُّ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَمْلِكُوا زَادًا وَرَاحِلَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ لَكِنْ لَهُمْ ثَوَابُ وَأَجْرُ مَا يُفْعَلُ عَنْهُمْ لَا أَنَّ الْوَاجِبَ نَفْسَهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا لَمْ يَسْقُطِ الْوَاجِبُ: لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْءٌ.
قُلْنَا: لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَاصِيًا مُعَرَّضًا لِلْوَعِيدِ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْهُ، وَعَدَمَ صِحَّتِهِ، وَوُجُوبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ كَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَامِدًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا،أَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَأَجْزَأَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَطَلَ الْغُرَمَاءَ بِدُيُونِهِمْ مَعَ الْيَسَارِ حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِهَذَا الْمَطْلِ وَالتَّأْخِيرِ، وَيُؤَدَّى عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيُجْزِؤُهُ، بَلْ عِنْدَنَا لَوْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ أَجْزَأَ عَنْهُ، وَأَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ. وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَيَصُومَ، وَأَنْ يَفْعَلَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فِي وَقْتِهِمَا، فَمَتَى تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ: لَمْ يَسْقُطِ الْوَاجِبُ الْآخَرُ وَهُوَ مُطْلَقُ الْحَجِّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَسْقُطْ نَفْسُ الْفِعْلِ، بَلْ يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَقْتِ.
فَهَذَا الَّذِي أَخَّرَ الْحَجَّ حَتَّى مَاتَ: إِنْ لَمْ يُفْعَلْ عَنْهُ لَحِقَهُ وَعِيدُ تَرْكِ الْحَجِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ فُعِلَ عَنْهُ أَجْزَأَ عَنْهُ نَفْسُ الْحَجِّ، وَبَقِيَ إِثْمُ تَأْخِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ فِيهِ، وَتَرْكِ فِعْلِهِ، كَمَا يَبْقَى عَلَى مَنْ يَقْضِي الدَّيْنَ إِثْمُ الْمَطْلِ وَأَشَدُّ. وَسُؤَالُهُ الرُّجْعَةَ، [وَكَوْنُهُ يُخَافُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ: حَقٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَرْكِهِ] الْحَجَّ بِنَفْسِهِ وَتَفْرِيطِهِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ مُتَعَمِّدًا حَبِطَ عَمَلُهُ وَإِنْ قَضَاهَا، وَكَمَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، وَإِنْ صَلَّوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ. وَهُنَا قَدْ قَضَوْهَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْضِي عَنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلِأَنَّ هَذَا النَّكَالَ وَهَذَا الْخَطَرَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ يَكُونُ [حِينَ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ]، فَإِذَا حُجَّ عَنْهُ خَفَّفَ عَنْهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ ... .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مَاتَ يُحَجُّ عَنْهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُخْلِفُ مَالًا، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَهَاوَنُ الْوَرَثَةُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْهُ، فَمَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ يَكُونُ أَمْرُهُ أَخَفَّ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْفَرَائِضِ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا إِلَّا بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ بِدُونِ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَذَلِكَ فِيمَا وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَوْ حَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا مَاتَ صَارَ الْمُخَاطَبُ بِالْوُجُوبِ غَيْرَهُ، وَهُمُ الْوَرَثَةُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ أَقَامَ فِعْلَهُمْ عَنْهُ مَقَامَ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي التَّأْخِيرِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَإِنْ كَانَ فَرَّطَ قَامَ مَقَامَهُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ، وَبَقِيَ إِثْمُ التَّرْكِ عَلَيْهِ هُوَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَا وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْوِيَهُ غَيْرُهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى غَيْرِهِ مِثْلُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا هُوَ الْوَلِيُّ.


يَبْقَى الْحَجُّ عَنِ الْمَعْضُوبِ هَلْ يُجْزِئُ عَنْهُ بِدُونِ إِذْنِهِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا:لَا يُجْزِئُ عَنْهُ بِدُونِ إِذْنِهِ وَيَتَوَجَّهُ ... .
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَا دَامَ إِذْنُهُ مُمْكِنًا فَعِنْدَ تَعَذُّرِ إِذْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِعْلَ غَيْرِهِ قَائِمًا مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ كَمَا قَدْ يَقُومُ فِعْلُ غَيْرِهِ مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، وَحُصُولِ الثَّوَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلْمَوْتَى، وَتَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَ
ذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَأَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْفَعُ غَيْرَ عَامِلِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.
(فَصْلٌ)
يَجِبُ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ وَالْعَاجِزِ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَحُجُّوا عَنْهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي مَلَكَ فِيهِ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ وَطَنَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ مَاتَ فِيهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنْ مَاتَ فِي بَلَدِ الْوُجُوبِ حَجَّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَإِنْ مَاتَ فِي بَلَدٍ أَبْعَدَ عَنْ مَكَّةَ مِنْهُ، أَوْ هُوَ فِي جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ بَلَدِ الْوُجُوبِ: حَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِ الْمَوْتِ، وَإِنْ مَاتَ بِبَلَدٍ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ: وَجَبَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ أَيْضًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ قَاصِدًا الْحَجَّ.
قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ أَيْسَرُ، قِيلَ لَهُ: فَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ خَرَجَ إِلَى خُرَاسَانَ فَأَيْسَرَ، ثُمَّ تَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ أَيْسَرَ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَأَنْكَرَهُ.
قِيلَ لَهُ: فَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ خَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَمَاتَ بِهَا، قَالَ: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ -: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِبَغْدَادَ، وَمَاتَ بِنَيْسَابُورَ نَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَغْدَادَ ... .
وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْحَجَّ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنًا، وَأَمَرَ الْوَارِثَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْهُ كَمَا يُفْعَلُ الدَّيْنُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فَكَذَلِكَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ الَّتِي يُنْشِئُهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَفْضَلُ، وَأَتَمُّ مِنَ الَّتِي يُنْشِ
ئُهَا مِنْ دُونِ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِتْمَامُهَا أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ)، يَعْنِي أَنْ تُنْشِئَ لَهَا سَفَرًا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى صِفَةٍ تَامَّةٍ فَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَفْعَلَهَا بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ وَجَبَ قَطْعُهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَوَجَبَ قَطْعُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَالْمَسَافَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ الْحَجِّ كَافِيًا لَأَجْزَأَ الْحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ تَامَّةٌ.
وَلِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ فِي الْحَجِّ أَمْرٌ مَقْصُودٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ ذَلِكَ جِهَادًا، فَقَالَ: («الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ»). وَقَالَ لِلنِّسَاءِ: («عَلَيْكُنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ؛ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»). وَلِهَذَا كَانَ رُكْنُ الْوُجُوبِ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ: هُوَ الْمَالُ فَيَجِبُ الْحَجُّ بِوُجُودِهِ، وَيَنْتَفِي الْوُجُوبُ بِعَدَمِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَالَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَوَاقِيتِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُعْتَبَرُ لَهُ رَاحِلَةٌ، وَلَا مِلْكُ زَادٍ أَيْضًا، وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»)، وَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُصَلِّي وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَالُ مِنْ خَصَائِصِهِ.
فَلَوْ جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ لَسَقَطَ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ الْمَالُ مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ النَّائِبَ يَجِبُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ حَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ كَالْمَعْضُوبِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَالْمَيِّتُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْمَيِّتُ وَالْمَعْضُوبُ لَوْ قَطَعَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَرَادَ إِنْشَاءَ الْحَجِّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ.


قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُرِيدٍ لِمَكَّةَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ قَصْدُهَا جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ابْتِدَاءً أَنْ يُجَاوِزَ إِلَّا مُحْرِمًا.
وَلِأَنَّ مَنْ حَجَّ بِنَفْسِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِنَفْسِ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ بِخِلَافِ مَنْ حَجَّ مِنْ
غَيْرِهِ.
(فَصْلٌ)
وَمَتَى مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَصَى بِذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا؛ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ حَامِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَنِ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ وَكَانَ مُوسِرًا، وَلَمْ يَحْبِسْهُ عِلَّةٌ وَلَا سَبَبٌ - لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ: إِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ كَانَ مُوسِرًا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلَمْ يَحُجَّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ زَمَانَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَحْبِسُهُ.
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَازِمًا عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ غَيْرَ عَازِمٍ وَلَمْ يَأْمُرِ الْحَاكِمُ بِالِاسْتِفْصَالِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَجِّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي عَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَنْ وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَلِأَنَّ أَحْمَدَ أَوْجَبَ أَنْ نَخْرُجَ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ أَبْعَدَ مِنْهُ أَوْ أَقْرَبَ وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ عَلَى ال
تَّرَاخِي، ذَكَرَهَا ابْنُ حَامِدٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ كَانَ مُوسِرًا قَدْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحُجَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ زَمَانَةٌ، أَوْ أَمْرٌ يَحْبِسُهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَاخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ خَمْسٍ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَأَمَرَ بِإِتْمَامِهِمَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِمَا تَامَّيْنِ وَوُجُوبَ إِتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِتْمَامِ فِعْلُ الشَّيْءِ تَامًّا، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ، ثُمَّ يُتِمَّ، أَوْ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَ الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِمَا إِلَّا لِلدَّاخِلِ فِيهِمَا: فَإِنَّمَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ لِمَا كَانَ وَاجِبًا بِأَصْلِ الشَّرْعِ.
أَمَّا أَنْ يَكُونَ إِتْمَامُ الْعِبَادَةِ وَاجِبًا أَوْ جِنْسُهَا لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ - بَ
لِ الْعِبَادَاتُ اللَّوَاتِي يَجِبُ جِنْسُهُنَّ فِي الشَّرْعِ لَا يَجِبُ إِتْمَامُهُنَّ - فَهَذَا بَعِيدٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا لَا سِيَّمَا شَرْعُ إِبْرَاهِيمَ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 30-05-2022, 12:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد


شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 201الى صــ 214
(10)



فَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، وَبِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] إِلَى قَوْلِهِ: {لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] وَقَوْلِهِ: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]، [وَقَدْ فَسَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ الْحَنِيفَ: بِالْحَاجِّ، وَقَوْلِهِ: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95]] وَبِقَوْلِهِ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ وَالْمَنَاسِكِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ - بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] خُصُوصًا حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ وَحَجَّهَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُبْعَثْ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا بُعِثَ بِتَقْرِيرِهِ وَتَثْبِيتِهِ وَإِحْيَاءِ مَشَاعِرِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدِ اقْتَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا أَمْرَ الْكَعْبَةِ، وَذَكَرَ بِنَائَهَا وَحَجَّهَا وَاسْتِقْبَالَهَا، وَمِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَالْبَيْتَ وَأَمْرَهُ، وَثَلَّثَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ آ
لِ عِمْرَانَ، وَذَكَرَ الْحَجَّ وَأَمْرَهُ، وَسُنَنَهُ وَمِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَنَاسِكَ وَالْحَضَّ عَلَيْهَا وَتَثْبِيتَ أَمْرِهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَسُورَةُ الْحَجِّ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ بِلَا شَكٍّ، وَأَكْثَرُهَا أَوْ بَاقِيهَا مَدَنِيٌّ مُتَقَدِّمٌ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ إِيجَابَ الْحَجِّ وَفَرْضَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحْكَمَةِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ وُجُوبُهُ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهُ مُتَقَدِّمًا وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ تِلْكَ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ أَمِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْمَوْسِمَ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِسُورَةِ (بَرَاءَةٌ)، وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَانَ الْحَجُّ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ لَبَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى فِعْلِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْجَبَهُ إِيجَابًا مُطْلَقًا، وَأَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ زَمَانًا دُونَ
زَمَانٍ فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ فِعْلُهُ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، لَا سِيَّمَا وَالْحَجُّ هُوَ عِبَادَةُ الْعُمُرِ: فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتًا لَهُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةَ وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَقَضَاءَ رَمَضَانَ لَمَّا كَانَ عِبَادَةَ سَنَةٍ مَخْصُوصَةٍ: كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَقْتًا لَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ لَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَضَاءً، كَمَا لَوْ فَعَلَ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا أَخَّرَهُ وَفَعَلَهُ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ إِثْمِ التَّأْخِيرِ فَمَنِ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.

فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ لِجَوَازِ تَأْخِيرِهِ؟ .. .، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُ الْعَجْزِ، وَدَلَائِلُ الْمَوْتِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ فَاتَهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَثِمَ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ آثِمًا؟ ذَكَرَ أَبُو يَعْلَى فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ آثِمًا، كَمَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِهِمَا.
وَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ لِمَسْلَكَيْنِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ.
أَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا لَيْسَ فِي الشَّ
رِيعَةِ إِلَّا وَاجِبٌ مُؤَقَّتٌ، أَوْ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ.
أَمَّا وَاجِبٌ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ مُطْلَقًا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ جَازَ التَّأْخِيرُ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ مَاتَ غَيْرَ عَاصٍ بَطَلَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ جَازَ إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ إِنْ لَمْ يَفْعَ
لْ لَمْ يَجُزْ لِوَجْهَيْنِ: -
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مَظْنُونٍ فَإِنَّ الْمَوْتَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِأَسْبَابِهِ، وَإِذَا نَزَلَتْ أَسْبَابُ الْمَوْتِ مِنَ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ وَنَحْوِهِ تَعَذَّرَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَبْلَ حُصُولِ أَسْبَابِهِ فَإِنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي هَذَا الْعَامِ وَلَوْ بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَ هَذَا الظَّنِّ غَيْرَ عَاصٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَجِبَ الْفِعْلُ عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَمُوتُونَ قَبْلَ هَذَا الظَّنِّ، وَإِنْ عَصَى بِذَلِكَ فَبِأَيِّ ذَنْبٍ يُعَاقَبُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ مَا جَازَ لَهُ، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَ
الَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].
وَأَمَّا الْمَسْلَكُ الْخَاصُّ فَمِنْ وُجُوهٍ: - أَحَدُهَا: مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: («تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يَعْنِي الْفَرِيضَةَ - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَأَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ لَا سِيَّمَا وَاسْتِحْبَابُ التَّعْجِيلِ مَعْلُومُ الضَّرُورَةِ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ. فَلَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي فَائِدَةٌ إِلَّا الْإِيْجَابُ، وَتَوْكِيدُ مَضْمُونِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَعَنْ مِهْرَانَ أَبِي صَفْوَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ»). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْفَضْلِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الرَّاحِلَةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ»). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِيهِ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ.
فَأَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَأَمْرُهُ بِالتَّعْجِيلِ مَنْ أَرَادَهُ لَا يَمْنَعُ الْوُ
جُوبَ، فَإِنَّ إِرَادَةَ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَهُ، وَيَعْزِمَ عَلَيْهِ حِينَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَبِالْإِرَادَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ فِي الْحِينِ الَّذِي يَعْزِمُ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يُؤَخِّرَهُ وَلَا يَتَأَخَّرَ فِعْلُهُ عَنْ حِينِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنْ حَيِّزِ السَّاهِي وَالْغَافِلِ، لَا إِرَادَةُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ لِقَوْلِهِ: («مَنْ أَرَادَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ»).
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِعْلَ الْقَضَاءِ - مِنَ الْحَجِّ - يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ، أَوْ فَاتَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: («مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ») وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ الْقَضَاءُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ: فَأَنْ تَجِبَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ الْأَدَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى الْعَامِ الثَّانِي تَفْوِيتٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُفْعَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِيَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَازَ أَنْ يُدْرِكَ الْعَامَ الثَّانِيَ، وَجَازَ أَنْ لَا يُدْرِكَهُ، وَأَنْ يَمُوتَ أَوْ يَفْتَقِرَ، أَوْ يَمْرَضَ، أَوْ يَعْجَزَ، أَوْ يُحْبَسَ، أَوْ يُقْطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِقِ وَالْمَوَانِعِ: فَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: («فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ») وَقَوْلِهِ: فِي حَدِيثٍ آخَرَ: («يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا»).
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَدْ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ، وَهُوَ مَا رَوَى هِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا»).
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ، وَزَادَ فِيهِ: {«وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» [آل عمران: 97]. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَهِلَالٌ مَجْهُولٌ، وَالْحَارِثُ مُضَعَّفٌ، عَضَّدَهُ مَا رَوَى شَرِيكٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: («مَنْ لَمْ يَحْبِسْهُ
مَرَضٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»). رَوَاهُ ابْنُ الْمُقْرِئِ أَبُو عَرُوبَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنِ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»). وَرَوَاهُ سَعِيدٌ هَكَذَا مُرْسَلًا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ.

وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: («مَنْ كَانَ ذَا مَيْسَرَةٍ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»).
وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَرْزَمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -«مَنْ مَاتَ وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»).
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: («مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْ
يَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا، وَلَوْلَا مَا أَرَى مِنْ سُرْعَةِ النَّاسِ فِي الْحَجِّ لَجَبَرْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِذَا وَضَعْتُمُ الرِّحَالَ فَشُدُّوا السُّرُوجَ، وَإِذَا وَضَعْتُمُ السُّرُوجَ فَشُدُّوا الرِّحَالَ»).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: («مَنْ وَجَدَ إِلَى الْحَجِّ سَبِيلًا سَنَةً ثُمَّ سَنَةً ثُمَّ سَنَةً، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، لَا نَدْرِي مَاتَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا»).
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: (كَانَ لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَارٌ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ، فَقَالَ لَهُ: لَوْ مِتَّ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْكَ). رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ.
وَالْمُرْسَلُ إِذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ صَارَ حُجَّةً بِالِاتِّفَاقِ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 237.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 231.64 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]