مداواة النفوس عند ابن حزم - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 39 )           »          تعظيم خطاب الله عزوجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          رسـائـل الإصـلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-10-2020, 12:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي مداواة النفوس عند ابن حزم

مداواة النفوس عند ابن حزم


سعيد إسماعيل علي






ليس ابن حزم بغريب على المهتمين بالدراسات الإسلامية، ولد عام 384هــ، وتوفي 456هــ، وإذا كانت شهرته كمفكر إسلامي عملاق من أهل قرطبة قد تركزت بصفة أساسية في مجال الفقه والفلسفة، فإن الكتابات التي تناولَتْه مربيًّا لا تتوازن للأسف مع حجمه وعلو شأنه، مما قد يوحي بقلة جهده، وضعف إسهاماته في مجال الدراسات النفسية والتربوية، ونرجو أن نُوَفَّق في هذا المقال إلى عرض نماذج من إسهاماته في مجال الدراسات النفسية والتربوية، ونرجو أن نوفق في هذا المقال إلى عرض نماذج من إسهاماته الممتازة في هذا الشأن.

استخدام ابن حزم رحمه الله القياس المنطقي الدقيق الذي تتابع فيه المقدمات والنتائج للتدليل على صحة الآراء التي يسوقها، وللبرهنة على وجوب العمل بنظراته التربوية لتقويم النفس الإنسانية.

الاشتغال بالعلم:
ونقطة البداية عند ابن حزم، في نقطة البداية السليمة في أي فلسفة للتربية، تلك هي أن يحدد المربي أولاً الغاية أو الهدف الذي يرجوه من العمل التربوي، وهنا يبادر ابن حزم بتأكيده على إعطاء الأولوية للاشتغال بالعلم دون سائر الأعمال، فالعلم نتيجته ومحصلته الحكمة، وأداته: العقل، والمشتغل به: هو العالم العاقل الحكيم، وهي ليست مجرد صفات ثلاث مترادفة يمكن أن يُرَصَّ بعضها بجوار بعض بلا ترتيب، وإنما هي مستويات ومدارج، فمجرد تحصيل المعرفة، أيًا كانت، تجعل منك عالمًا، لكنك إذ تفهم معانيها ودلالاتها وآثارها والعلاقات التي تربط بين جزئياتها وأطرافها تغدو عاقلاً، فإذا ما وظَّفْتَها ووجَّهْتَها الوجهة السليمة التي ينبغي أن تكون، واستخدمتَها في حياتك الخاصة والعامة، فقد بلغْتَ بالتالي مرتبة يصح عندها أن تكون حكيمًا.

الهدف إذن هو الوجهة والوظيفة التي من أجلها تُطلب المعرفة، وهنا لا بد أن نقف لنتساءل عن الوجهة أو الوظيفة التي يراها ابن حزم؟ وهو لكي يجيبنا على هذا التساؤل يطرح تساؤلاً أوليًّا لا بد من الإجابة عنه، وهو: ما الغرض الأساسي لكل إنسان في أي مجتمع وفي أي عصر؟
الإجابة هي: إزالة الهم، يقول ابن حزم: "تطلبْتُ غرضًا يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه، فلم أجده إلا واحدًا، وهو طرد الهم، فلما تدبرته علمْتُ أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتبايُن هممهم وإراداتهم، لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم، فمن مُخطئ وجْهَ سبيله، ومن مُقارِبٍ للخطأ، ومن مصيبٍ - وهو الأقل من الناس - في الأقل من أموره، فَطَرْدُ الهَمِّ مَذْهَبٌ قد اتفقت الأمم كلها - منذ خَلَقَ الله تعالى العالم إلى أن يتناهى عالم الابتداء ويعقبه عالم الحساب - على ألا يعمدوا بسعيهم شيئًا سواه..." كتابه: (الأخلاق والسير في مداواة النفوس)، دار الآفاق الجديدة - بيروت، 1980م، ص 14.

وإذا قارنَّا هذا الهدف بغيره من الأهداف، فسوف نجد أن بعضهم ارتضوا الهدف (أ) وسوف نجد غيرهم يرتضون الهدف (ب) وهكذا؛ إذ في الناس من لا دين له، فلا يعلم للآخرة، وفي الناس مِنْ أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق، وفي الناس من يُؤْثِر الخمول بهواه وإرادته على بُعد الصيت، وفي الناس من لا يريد المال ويؤْثِر عدمه على وجوده ككثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن سار على دربهم من الزهَّاد والفلاسفة والمصلحين، وفي الناس من يبغض اللذات بطبعه، ويستنقص طالبها كمن أشرنا إليه من المؤْثِرين فَقْدَ المال على اقتنائه، وفي الناس من يؤْثِر الجهل على العِلْم كأكثر من نرى من عوام الناس.

العمل للآخرة يريح من الهم:
وعلى العكس من ذلك، لا نجد أحدًا من الناس يستحسن (الهَمَّ) ولا يريد التخلص منه، فإذا استقر الأمر على ذلك، يبرز لنا السؤال الرئيس وهو: ما السبيل إذن إلى التخلص من (الهم

إنه عند ابن حزم: (التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة).
والحق أن ابن حزم ليس فريدًا في ذلك، فالجمهرة الكبرى من المفكرين الإسلاميين تشاركه هذا الرأي سواء من السابقين عليه، أو من اللاحقين، ونحن أيضًا نرى مثل ما يرى على أن يلحق بهذا ضرورة الإقرار بأن "الدنيا مزرعة الآخرة"، والترجمة العملية لهذا، استقامة السلوك في الحياة الدنيا، وإحسان العمل فيها، وهذا لا يتأتى إلا بالمغالبة والمواجهة والممارسة، مغالبة الصعاب، ومواجهة المشكلات والتحديات، وممارسة الأعمال الإنتاجية والاجتماعية.

ويقارن ابن حزم بين العمل لغرض دنيوي بحت، وبين العمل للآخرة، فطلاب المال إنما يطلبونه ليطردوا به هَمَّ الفقر عن أنفسهم، وطلاب الشهرة وعلو المقام والمركز، إنما يسعون إلى ذلك ليطردوا هَمَّ الاستعلاء عليهم، والذي يطلب مجرد العلم، فهو إنما يفعل ذلك ليطرد عن نفسه هَمَّ الجهل، والذي يسعى إلى تَسَقُّط أخبار الناس ومحادثتهم، فإنما يفعل ذلك إبعادًا لِهَمِّ الوَحدة عن نفسه...، وهكذا نجد أن من يأكل أو يشرب، أو ينكح أو يركب إلى غير ذلك من أفعال وأعمال على الطريق نفسه، إنما يفعل ذلك ليبعد عن نفسه هموم أضدادها، مع ذلك فإن الساعي على هذا الطريق سوف تهجم عليه بالضرورة هموم أخرى حادثة وطارئة؛ نتيجة تعذر تحقيق بعضها، أو ضياع ما يوجد منها، والعجز عن الاستمتاع ببعضها لأسباب لا قِبَل له بها، وأيضا نتائج سيئة قد تترتب على حصول ما سعى للحصول عليه من كل ذلك، من خوف مُنَافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب... إلخ.

أما الذي يعلم للآخرة، فلن يجد شيئًا من هذه الاحتمالات بحيث بمكن التأكيد وبكل ثقة أنه سينجح إلى أقصى حد يمكن أن يتصوره إنسان في التخلص من (الهَمِّ) كلية بحيث يستمتع بصحة نفسية سوية حقًّا.

إن الذي يعمل للآخرة، لا يجفل عادة بما يمتحن به من خطوب.. إنه لا يشعر بهمٍّ وإنما بسرور، ذلك أن شوقه إلى جَنْي ثمرات سلوكه يعينه من غير شك على تجاوز مثل هذه الخطوب، فإذا ما عاقه عائق لم يهتم، لا لشيء إلا لأنه لا يؤاخذ بذلك، إنه إذا نُكِب لا يحزن، وإن تعب فيما سلك سُرَّ، فهو في سرور متصل أبدًا، وغيره بخلاف ذلك أبدًا.

إن القياس المنطقي الذي يبني عليه ابن حزم هو أن الإنسان العاقل على الأصالة هو الذي لا يبذل نفسه إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل في دعاء إلى حق، في حماية الحريم، في دفع هوان لم يوجبه عليه خالقه تعالى، في نصر مظلوم "وباذل نفسه في عرض دنيا، كبائع الياقوت بالحصى".

من مظاهر التعقل:
وبعد أن يحدد ابن حزم الغاية والهدف، وهي الظَّفَر برضا الله عز وجل، يبدأ في ضرب بعض الأمثلة لمواقف سلوكية من شأنها أن تساعد المؤمن على الاقتراب من تحقيقها والتخلص من الأوجاع النفسية، وفي مقدمة ذلك "اطِّرَاح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل"، ويتبني على هذا مُسَلَّمة أساسية، وهي أن الذي يتوهم أنه يمكن أن يَسْلَم من طعن الناس ونقدهم مخطئ غاية الخطأ، إلى الدرجة التي تجعل ابن حزم يصف ذلك بأنه (جنون)!!

وعلى طريقة ابن حزم في التدليل على صحة ما يسوقه من آراء، والبرهنة على وجوب العمل بها، يستخدم القياس المنطقي الدقيق الذي تتتابع فيه المقدمات لتسلمك إلى نتائج ترى أنْ لا مناص لك من التسليم بصحتها، من ذلك على سبيل المثال عرضه للاحتمالات المختلفة التي يمكن أن تترتب على تعرض الإنسان لـ (كلام الناس)، وكيف أنها جميعًا خيرًا كانت أم شرًّا يؤدي الاهتمام بها إلى أضرار بليغة.

فإذا وصلك مديح الناس إياك وكان بحق، فإنه يمكن أن يؤدي بك إلى الزهو والعُجْب بنفسك، ومن ثم فإن أمرًا كهذا يعتبر ظِلاًّ من الظلال التي قد تفسد فضائلك، وإن كان المدح على غير حق، وسررت به، عُدَّ هذا أدخَلَ في باب سوء الخُلُق؛ لأنه سرور بالكذب!! لكنْ ذمُّ الناس إيَّاه، إذا وصله وكان بحق، فلربما ساعده ذلك على أن يتجنب ما قد عِيبَ عليه، وهذا حظ عظيم من غير شك، والذي يرغب عنه، إنما يدل بذلك على ضعف الوعي وقلة البصيرة، وإن كان الذم الذي وصله مبنيًّا على غير أساس - ومع ذلك تحمَّل وصبر ولم ينفعل أو يُثَر - فإنه يكتسب بذلك فضلاً زائدًا، واعتبر هو الغانم الحقيقي؛ لأن الله سيعطيه حسناتِ مَنْ ذمَّه بغير حق، ومثل هذا النوع من الجزاء في الدار الآخرة لا يزهد فيه إلا مجنون، وذلك لأنه من أعمال لم يتعب فيها ولا تكلفها.

أما الذي لا يبلغه مدح الناس إياه فسوف يستوي كلامهم وسكوتهم، وليس كذلك ذمهم إياه؛ لأنه غانم للأجر على كل حال، بلغه ذمهم، أو لم يبلغه.

واتساقًا مع ما سبق أن قرره ابن حزم من ضرورة ألا يبذل المرء نفسه إلا فيما هو أعلى منها، يقرر أنَّ طالبَ الآخرة لِيفُوزَ في الآخرة مُتَشَبِّهٌ بالملائكة، وطالب الشر متشبِّهٌ بالشياطين، وطالب الشهرة والغلبة متشبه بالسباع، وطالب اللذات متشبه بالبهائم، وطالب المال لِذَاته لا من أجل أن ينفقه في الواجبات المحمودة أسقط وأرذل من أن يكون له في شيء من الحيوان شَبَهٌ.

وبناء على ذلك فإن العاقل هو الذي يسعى إلى اكتساب الصفات التي لا يفوقه فيها سَبُع أو بهيمة أو جماد، وهي التعقل والحكمة، فمن سُرَّ بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل، فليعْلَمْ أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه، ومن سُرَّ بقوة جسمه، فلْيعلمْ أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسمًا، ومن سُرَّ بحمله الأثقال فليعلم أن الحمار أحْمَلُ منه، ومن سُرَّ بسرعة عَدْوِهِ فلْيعلمْ أن الكلب والأرنب أسرع عدوًا منه، ومن سُرَّ بحسن صوته، فليعلَمْ أن كثيرًا من الطير أحسن صوتًا منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته، فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه، لكنْ مَنْ قَوِيَ تمييزه، واتسع علمه، وحَسُن علمه، فليغتبطْ بذلك، فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس".

قضية الزمان في صرف الهم:
ولابن حزم في هذا الشأن نص آخر لا بد من الوقوف أمامه؛ لأنه يمكن أن يؤدي إلى سوء فهم إذا اكتفينا منه بالنظرة العاجلة، فهو يقول: "إذا حققْتَ مدة الدنيا، لم تجدها إلا الآن (أي اللحظة الحاضرة) الذي هو فصل الزمانين فقط، وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان، كما لم يكن، فمن أضلُّ ممن يبيع باقيًا خالدًا بمدة هي أقل من كَرِّ الطرف".

إن ذلك النص قد يوحي بأن ابن حزم يطلب من الإنسان المؤمن ألاَّ يفكر إلا في اللحظة الراهنة بصفة عامة ومطلقة، وهذا لا يمكن أن يكون قصده لأن مطالبته المؤمن بأن يجعل الدار الآخرة هدفَهُ حثٌّ على التفكير المستقبلي، وضرورة الاستعداد له وتدبير الأمور من أجل اليوم الأعظم، فلا يبقى من احتمال إذن إلا أن يكون الرغبة في صرف (الهم) عن اليوم الذي مضى، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار العظاتِ التي يمكن أن تستخلص من تجربته، وكذلك الأمر بالنسبة للمستقبل، نستعد له دون العيش في تقدير ما يحزن ويؤلم؛ (المرجع السابق: ص 20).

ويختم ابن حزم هذا الجزء بقوله:
"من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم، ومن كافأ من أساء منهم إليه فهو مثلهم، ومن لم يكافئهم بإساءتهم فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم"؛ ص 20.

قيمة العلم ومبادئ طلبه:
وقضية العلم هي الأنموذج الثاني الذي نسوقه لبيان نظرات ابن حزم التربوية، خاصة تلك التي تسعى إلى تقويم النفس الإنسانية وشفائها، وهو يتناول هذه القضية من ناحيتين، الأولى تتصل بتقدير العلم وأهميته وضرورة الاشتغال به، والثانية تتصل ببعض الأسس والمبادئ التي لا بد من مراعاتها أثناء الاشتغال بالعلم.

فمن الناحية الأولى نجد أنه لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابون صاحبه ويُجِلُّونه، وأن العلماء يحبونه ويكرمونه، لكان ذلك سببًا إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة؟ ولو لم يكن من نقص الجهل، إلا أن صاحبه يَحْسُد العلماء، ويغبط نظراءه من الجهال، لكان ذلك سببًا إلى وجوب التخلص منه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة؟

ولو تدبر العالم في ساعات يومه المختلفة كم كفاه العلم من الذل بتسلط الجهال، ومن الهم بغياب الحقائق عنه، ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره، لزاد حمدًا لله عز وجل وغبطة بما لديه من العلم، ورغبة في المزيد منه!.

وبعد أن يؤكد ابن حزم على هذا النهج قيمة العلم وأهمية طلبه، يسوق من الناحية الثانية عددًا من المبادئ الهامة من الناحيتين التربوية والنفسية، منها:
1- لما كانت العلوم المختلفة تتفاوت في قيمتها وفي مستواها، كان من الضروري ألا يترك الدارس الاشتغال بأعلاها مع قدرته على ذلك ليشتغل بأدناها، إنه إن فعل ذلك كان كزارع الذُّرَة في الأرض التي يجود فيها البُرُّ (القمح)، وكغارس الشعْراء حيث يزكو النخل والزيتون".

2- ليس الناس سواسية من حيث قدراتهم واستعداداتهم لتلقي مختلف العلوم، فهناك من يقدر على علم ولا يقدر على غيره، ومن هنا فإن نشر العلم عند من ليس من أهله مفسدة لهم، كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى، أو كتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء".

3- الاكتفاء بمجرد تحصيل العلم لا يحقق الخير المطلوب من العلم كما يجب أن يكون، ذلك أنه من الضروري العمل على إذاعته ونشره بين الناس حتى تعم الفائدة؛ لذا فإن "الباخل بالعلم أَلأَمُ من الباخل بالمال؛ لأن الباخل بالمال أشفَقَ مِنْ فَنَاء ما بيده، والباخل بالعلم بَخِل بما لا يفنى على النفقة، ولا يفارقه مع البذل".

4- وإذا كانت العلوم على درجات وطبقات، فإن المعيار في ذلك هو مقدار ما تؤدي إليه بالإنسان إلى القرب من الله واكتساب رضاه.

5- وهناك أمور إذا نظر الطالب إلى من هو دونه فيها قنع وحمد الله على ما هو عليه، ومثال ذلك: المال والحال والصحة، والأمر عكس ذلك في الدين والعلم والفضائل؛ إذ يكون المطلوب من الطالب ألا يقنع بما بين يديه منها، إنه يطالب بالمزيد، ومن هنا كان قول ابن حزم: "انظر في المال والحال والصحة إلى مَنْ دونَك، وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من فوقك".

6- وإذا كانت هناك علوم على درجة كبيرة من التعقيد وعلو المستوى، فمن الخطأ تقديمها إلى ذوي المستويات العقلية الضعيفة؛ إذ إنها تزيدهم شعورًا بالإحباط، على عكس الحال لو علَّمْنَاها لأصحاب المواهب والقدرات العقلية عالية المستوى؛ إذ سوف يعتبر تدريبًا جيدًا لها، وشحذًا لهممهم: "العلوم الغامضة كالدواء القوي، يُصلِح الأجساد القوية، ويُهلك الأجساد الضعيفة، وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفية من كل آفة، وتهلك ذا العقل الضعيف".

7- إياك وأن تَسُرَّ غيرَك بما تسوء به نفسَك فيما لم توجبه عليك شريعة أو فضيلة.

8- وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى أن من علامات يوم القيامة أن يُوَسَّد الأمر إلى غير أهله، فإن مما يرتبط بذلك أيضا ظاهرة الدخلاء على المجالات العلمية المختلفة، ولعل هذا ما يفسر قول ابن حزم: إنه ليس هناك ما هو أضر على العلوم وأهلها من الدُّخَلاء فيها وهم من غير أهلها: "فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويُقَدِّرون أنهم يصلحون".

9- والاشتغال بالعلم يتطلب أنموذجًا سلوكيًا وقدوة يحتذي بها الطالب في خطوات حياته المختلفة، وبالنسبة للطالب المسلم فليس هناك من هو أهل لذلك إلا رسولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم.

10- وإذا رام الطالب فضائل الخُلُقِ فعليه ألا يساير إلا أهلها، ولا يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة، والبر، والصدق، وكرم العشيرة، والصبر، والوفاء، والأمانة، والحلم، وصفاء الضمائر.

11- وأثر العلم في اكتساب الفضائل أمر واضح لا بد أن يسعى إليه من هذا الجانب، فطالبه يعلم حسن الفضائل فيأتيها ولو في الندرة، ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ولو في الندرة.

إن لابن حزم النظرات الذكية القيمة في التربية، تلك العلمية التي عبر عنها بحق بأنها تسعى إلى "مداواة النفوس" نرجو من أهل الاختصاص التوفُّر عليها بمزيد من الدراسة والبحث.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.04 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.77%)]