صحيح البخاري... ديوان السنة ومفخرة الأمة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         عقد مودة ورحمة بين زوجين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          16طريقة تجلب بها البركة لبيتك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          ألا تشعرين بالحر ؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          المرأة عند الإغريق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          القاضي الفارس الفرج بن كنانة وأسد بن الفرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          مجموع الأثبات الحديثية لآل الكزبري الدمشقيين وسيرهم وإجازاتهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          من مواعظ الإمام سفيان الثوري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          أولادنا... هل نستوعبهم؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          الشَّبَابُ وَرَمَضَان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          هل في الشر خير؟ دروس من قصة الإفك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 05-12-2019, 03:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,965
الدولة : Egypt
افتراضي صحيح البخاري... ديوان السنة ومفخرة الأمة

صحيح البخاري... ديوان السنة ومفخرة الأمة



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسَلين، نبينا محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنّ الله سبحانه جعل رسالة محمّد ﷺ الرسالةَ الخاتمةَ لكلّ دين، وجعل كتابَه مهيمنًا على ما تقدّمه من الكُتُب والوحي، واختصّه بأكمل شريعة، وأعظمِ منهاج، فدينُ الإسلام هو آخر الأديان، والناسخ لكلّ ما سواه، ولأجل هذا فقد وَعَد بحفظه من أن تندثر معالمُه، أو تُحرَّف نصوصُه أو تُبَدّل أصولُه، قال جلّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وهذا وعدٌ مؤكّدٌ متحقّقُ الوقوع، والذّكرُ اسمٌ يتناول الدين كلَّه، فالقرآن ذكرٌ، والسّنّة ذكرٌ؛ إذ كان كلاهما وحيًا من عند الله، نزل به جبريل على نبينا محمد ﷺ، قال تعالى عن نبيه ﷺ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} والحكمةُ: السّنّة([1])، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} قال السمعاني في تفسير الآية: «وقد كان الرّسول مبينًا للوحي، وقد قال أهل العلم: إنّ بيانَ الكتاب في السّنّة»([2]) وقال القرطبيّ: «{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول ﷺ مُبينٌ عن الله عز وجلّ مرادَه، مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفَصّلْه»([3]) فحفظُ الله للقرآن شاملٌ لحفظ بيانه وهو السّنّة النبوية.
وقد تحقق وعد الله بحفظ الكتاب والسّنّة منذ عصر النّبوّة إلى يومنا هذا، وسيبقى إلى أن تقوم الساعة، وكما هيّأ الله لحفظ كتابه: القراءَ والحفّاظَ؛ هيّأ لحفظ سنّة نبيه ﷺ علماء الحديث، فحفظوا ألفاظه ومعانيَه، وكتبوه وأدَّوه إلى مَن بعدَهم، ونفَوْا عنه الكذب والخطأ، وصانوه عن عبثَ العابثين، وتحريفَ المبطلين، ولقد صار علمُ الحديث بدقّة مناهجه، ورسوخ قواعده؛ مفخرةً لهذه الأمّة، إذ لم يكن لغيرها إسنادٌ تَنقُل به موروثَها من العلم والدّين، وبلغ المحدّثون الغايةَ في البحث والتّنقيب، والتّدقيق في جمع الحديث، وتمييزِ صحيحه من سقيمه، وبيانِ أحوال نقَلَته في كلّ طبقةٍ من طبقات الرّواة، ونَقَلة الأخبار.
قال الخطيب البغداديّ مبيناً شرف أصحاب الحديث: «فقد جعل ربّ العالمين الطّائفةَ المنصورة حرّاسَ الدّين، وصرف عنهم كيد المعاندين؛ لتمسّكهم بالشّرع المتين، واقتفائهم آثارَ الصّحابة والتّابعين.
فشأنُهم: حفظُ الآثار، وقطعُ المفاوز والقفار، وركوبُ البراريّ والبحار، في اقتباس ما شرع الرّسول المصطفى، لا يعرّجون عنه إلى رأيٍ ولا هوًى، قبِلوا شريعتَه قولًا وفعلًا، وحرسوا سنّته حفظًا ونقلًا، حتّى ثبّتوا بذلك أصلَها، وكانوا أحقّ بها وأهلَها. وكم من ملحدٍ يَروم أن يَخِلط بالشّريعة ما ليس منها! واللّهُ تعالى يذبّ بأصحاب الحديث عنها؛ فهم الحفّاظ لأركانها، والقوّامون بأمرها وشأنها، إذا صُدِف عن الدّفاع عنها فهم دونها يناضلون، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ([4]).
ومما شاع في الأمّة -عامّها وخاصّها- وذاع: أنّ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري –رحمه الله- جمع كتابه الذي اشتهر بــ«صحيح البخاريّ» من صحيح سنة رسول الله ﷺ([5])، وكان عملُ البخاريّ في هذا الكتاب العظيم: تطبيقَ قواعد المحدّثين بأعلى درجات الدّقّة، فانتقى أصولَ الأحاديث النبوية التي نُقِلت عن رسول الله ﷺ نقلاً صحيحاً، وصار كتابُه أهمَّ وأعظمَ كتابٍ في الحديث، لشدّة تحرّيه فيه، وحُسن تصنيفه وترتيبِه، ووَسَمت الأمّةُ كلُّها هذا الكتاب بأنه: أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله جل وعلا.
وهذه المنزلةُ العظيمة لهذا الكتاب ليست محلَّ شكٍّ ولا نزاع أو اختلاف بين الأمّة؛ لأنها منزلةٌ مبنيّةٌ على مقدِّماتٍ قاطعةٍ يُستفاد منها أنّ هذا الكتابَ هو ديوانُ الأمّة الأوّل لمعرفة سنّة نبيها ﷺ، وهذه المقدّمات يطول تفصيل القول فيها، فلأجل ذلك نذكر في هذا المقال جوامعَ القول فيها، فمن هذه المقدّمات:
أولاً: منزلةُ الإمام البخاريّ -رحمه الله- العلميّة، وتميُّزه الفائقُ وحِذْقُه في علم الحديث.
إنّ البخاريّ -رحمه الله- لم يكن من آحاد العلماء المجتهدين في علم الحديث فقط، بل كان من أفذاذ الأمّة وأفراد العالم مطلقاً، في معرفته العميقة بعلم الحديث، وحدّة ذكائه وقوّة حفظه، ومداومته على الطلب والكتابة والرحلة في تحصيل الحديث، وخبرته التامة برواة الحديث من كل طبقة، ومعرفتِه الدقيقة بخفايا عِلَلِ الحديث وأوهام الثّقات، فضلاً عن أخطاء الضعفاء وأوهام المخلّطين، إضافة إلى ما حباه الله به من الـمُكْنة العجيبة في اللُّغة والفقه وأصوله، مع الورع التام والصّدق وعفّة اللسان، وإنّ القارئ في سيرة هذه الإمام لا يتردد في أنه كان عزيزّ المثال، وأنّه هبةٌ من الله لهذه الأمة.
لقد بلغ البخاريّ منزلةً بين علماء الحديث سابقِهم ولاحقهم تجعله بمنزلة واسطة العِقْد بين فحول المحدّثين، ومن طالع ترجمة البخاريّ وجد الثناء البالغَ عليه من مشايخه يجاوزُ كلَّ ما قاله شيخٌ في تلميذه، حتى لقد فضّله كثيرٌ منهم على أنفسهم.
وإذا كان ثناءُ شيوخه عليه بلغ هذه الدرجةَ فإنّ ثناء أقرانه وتلاميذه ومن جاء بعدهم؛ يزيد على ذلك بدرجات، ويفوقه بأضعاف.
قال النووي –رحمه الله-: «واعلم أن وصف البخاري -رحمه الله- بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران؛ متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان، ويكفي في فضله أّن مُعظمَ من أثنى عليه ونَشَر مناقبَه: شيوخُه الأعلامُ المبرّزون، والحذّاق المتقنون»([6]).
وسنختار هنا من ترجمته ما يحصل به المقصود من بيان منزلته الفائقة في علم الحديث([7]).
كان الإمام الكبير عليّ بن المدينيّ من أفذاذ علم الحديث، وكان شيخاً للبخاري، وقد ثبت عن البخاريّ أنه قال: «ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلّا عند عليّ بن المدينيّ، وربما كنت أغرب عليه» فلمّا ذكر أحدهم هذا الكلام لعليّ بن المدينيّ قال له: «دع قولَه، هو ما رأى مثل نفسه».
ومن شيوخ البخاري المشاهير الأثبات: قتيبةُ بن سعيد، وكان له في البخاري من القول الحسن، والثناء الكبير ما يُتعجّب منه.
قال قتيبة بن سعيد: «جالست الفقهاء والزهاد والعبّاد؛ فما رأيت منذ عقلت مثل محمّد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصّحابة» وقال: «لو كان محمّد بن إسماعيل في الصّحابة لكان آية».
بل جعله قتيبة حاوياً لعلم أئمة العلم في زمانه؛ كأحمد ابن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق ابن راهويه؛ فقد سئل قتيبة عن طلاق السّكران فدخل محمّد بن إسماعيل البخاريّ، فقال قتيبة للسّائل: «هذا أحمد ابن حنبل وإسحاق ابن راهويه وعلي بن المدينيّ قد ساقهم الله إليك» وأشار إلى البخاريّ.
وفضّله بعضهم في علم الحديث على أمثال أحمد ابن حنبل إمام أهل السنة، وهو الإمام العلَم الذي لا يجارى في معرفة الحديث وعلله.
قال حاشد بن إسماعيل قال: قال لي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزّهريّ: «محمّد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث من أحمد ابن حنبل».
وقال خلف الخيّام: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر الخفاف يقول: «محمد بن إسماعيل أعلم بالحديث من إسحاق ابن راهويه، وأحمد ابن حنبل وغيرهما بعشرين درجة».
وهذا يحيى بن معين الإمام المقدّم في الحديث وعلله ورجاله؛ كان يستفيد من البخاري وينقاد له، قال مِهْيار لما ذكر قتيبة بن سعيد: «أنا رأيته –أي قتيبة- مع يحيى بن معين وهما جميعًا يختلفان إلى محمّد بن إسماعيل، فرأيت يحيى منقاداً له في المعرفة».
وقال إبراهيم بن محمّد بن سلام: «كان الرُّتُوتُ([8]) من أصحاب الحديث -مثل سعيد بن أبي مريم، وحجاج بن منهال، وإسماعيل بن أبي أويس، والحميدي ونعيم بن حمّاد، والعدني، والخلال، ومحمّد بن ميمون، وإبراهيم بن المنذر، وأبي كريب محمّد بن العلاء، وأبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج، وإبراهيم بن موسى، وأمثالهم- يَقْضون لمحمد بن إسماعيل على أنفسهم في النّظر والمعرفة».
ومن أشهر أئمة الحديث والدراية برجاله، وعلله: إماما الرّيّ؛ أبي زرعة وأبي حاتم –رحمة الله عليهما، ومع ذلك فضّله العلماء عليهما، بل فضّلوه على شيخه محمد بن يحيى الذهليّ الإمام الكبير.
يقول العجليّ: «رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إليه، وكان أمّةً من الأمم، ديّنًا فاضلا يحسن كلَّ شيء، وكان أعلمَ من محمّد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا».
وقال إبراهيم الخّواص: «رأيت أبا زرعة كالصّبيّ جالسًا بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث».
وأمّا تفضيلُ العلماء له بإطلاق فكثيرٌ.
قال عبدُ الله بن عبد الرّحمن الدّارميّ: «قد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشّام والعراق؛ فما رأيت فيهم أجمع من محمّد بن إسماعيل».
وقال أبو سهل محمود بن النّضر الفقيه: «دخلت البصرة والشّام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها؛ فكلما جرى ذكر محمّد بن إسماعيل فضّلوه على أنفسهم».
وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: «فإن المشايخ قاطبةً أجمعوا على قدمه، وقدّموه على أنفسهم في عنفوان شبابه»([9]).
ونصّ الأكابر على تفرّده بالحفظ التامّ والمعرفة الدقيقة بالحديث وعلومه.
قال عمرو بن عليّ الفلاس: «حديث لا يعرفه محمّد بن إسماعيل ليس بحديث».
وقال له مسلم بن الحجاج: «أشهد أنه ليس في الدّنيا مثلك» وسمّاه: «أستاذ الأستاذين، وطبيب الحديث في علله».
وقال أبو عيسى التّرمذيّ: «لم أر أعلم بالعلل والأسانيد من محمّد بن إسماعيل البخاريّ».
وقال إمام الأئمّة أبو بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة: «ما تحت أديم السّماء أعلم بالحديث من محمّد بن إسماعيل».
ولأجل ما في ترجمة هذا الإمام من العَجَب والأخبار الباهرة؛ استطال العلماء الكلام فيها، وأفردوها بمصنفات مستقلة لطول ما فيها وحُسنه.
قال النووي بعد أن ذكر شيئاً من ترجمة البخاري: «ومناقبه لا تُستَقصى؛ لخروجها عن أن تحصى، وهي منقسمة إلى حفظ، ودراية، واجتهاد في التحصيل، ورواية، ونسك، وإفادة، وورع، وزهادة، وتحقيق، وإتقان، وتمكّن، وعرفان، وأحوال، وكرامات، وغيرها من أنواع المكرمات، ويوضح ذلك ما أشرت إليه من أقوال أعلام المسلمين أولي الفضل والورع والدين، والحفاظ والنقاد المتقنين، الذين لا يجازفون في العبارات، بل يتأملونها ويحررونها، ويحافظون على صيانتها أشد المحافظات، وأقاويلهم بنحو ما ذكرته غير منحصرة»([10]).
وقال الحافظ الذهبي: «قد أفردتُ مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيها العجب»([11]).
وقال ابن كثير: «ولو ذهبنا نسطّر ما أثنى عليه الأئمّة في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وتبحّره؛ لطال علينا»([12]).
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر طرفاً من ثناء أعلام الأمّة المتقدّمين على الإمام البخاري: «ولو فتحتُ باب ثناء الأئمّة عليه ممّن تأخّر عن عصره؛ لفني القرطاس، ونفِدت الأنفاس»([13]).

ثانياً: شروط الحديث الصحيح التي اعتمدها البخاري في جمع كتابه وتحريره؛ شروطٌ متفقٌ عليها بين العلماء، فليست صحّةُ أحاديث كتابه مأخوذةً من تسميته لها بالصّحة تسميةً مجرّدة! بل لأنه طبّق عليها قواعدَ النقد، وأصولَ التصحيح والتضعيف بدقّةٍ متناهية، وهي قواعد مأخوذة في أصلها من الكتاب والسنة.
قال أبو بكر الإسماعيليّ -وقد ذكر كتب الحديث التي اعتنت بانتقاء الأحاديث الصحيحة-: «وكلٌّ قصَد الخيرَ وما هو الصّواب عنده، غير أنّ أحدًا منهم لم يبلغ من التّشديد مبلغ أبي عبد اللّه»([14]).
وقال الحافظ ابن الصلاح عن الشيخين: «وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه العزيز...ثمّ إنّ كتاب البخاريّ أصحّ الكتابين صحيحًا، وأكثرهما فوائد»([15]).
وإذا كان الحديث الضعيف يتفاوت في درجة الضعف؛ فإن الحديث الصحيح يتفاوت في درجات الصحة أيضاً، وكان منهج البخاري في كتابه: انتقاءَ أصحّ الصحيح، ولذلك جعل العلماءُ أحاديثه في أعلى درجات الصحة.
قال ابن كثير: «وشرطُه في صحيحه هذا أعزُّ من شرط كلّ كتابٍ صنّف في الصّحيح، لا يوازيه فيه غيره؛ لا صحيح مسلمٍ ولا غيره»([16]).
وذكر ابن الصلاح ومن تبعه من علماء مصطلح الحديث أقسامَ الحديث الصحيح، ورتّبوها هكذا([17]): أوّلها: صحيحٌ أخرجه البخاريّ ومسلمٌ جميعًا. الثّاني: صحيحٌ انفرد به البخاريّ عن مسلمٍ. الثّالث: صحيحٌ انفرد به مسلمٌ عن البخاريّ. الرّابع: صحيحٌ على شرطهما لم يخرجاه. الخامس: صحيحٌ على شرط البخاريّ لم يخرجه. السّادس: صحيحٌ على شرط مسلمٍ لم يخرجه. السّابع: صحيحٌ عند غيرهما، وليس على شرط واحدٍ منهما.
قال ابن الصلاح: «هذه أمّهات أقسامه، وأعلاها: الأوّل»([18]).
فما أخرجه البخاري هو الأعلى صحةً بعد المتفق عليه، كما هو ظاهر من هذا الترتيب.
وقال السخاوي: «وخُصّ ما أسنده في صحيحه بالتّرجيح على سائر الصّحاح»([19]).
وقال السيوطي: «وأرفع الصحيح ما اتفقا على إخراجه في صحيحيهما، وذلك بالإجماع»([20]).
والمقصود أن أحاديث البخاري لم تكن صحيحةً لمجرّد وجودها في كتاب البخاريّ، بل لأن شروط الحديث عند كافة العلماء منطبقةٌ عليها، ولا يمكن لأحد أن يدّعِي خلاف ذلك، فشروط صحّة الحديث شروطٌ وُجوديّةٌ، أي أنّه يلزم وجودُها مِن تَصوُّر معنى الحديث الصحيح، وهي موجودةٌ بأعلى درجاتها وأكمل حالاتها في صحيح البخاريّ.

ثالثاً: عَرَض البخاريّ –رحمه الله- كتابَه على بعض أشهر علماء عصره، فنظروا فيه نَظَر فحصٍ ونقد وتتبّعٍ، فلم يجدوا فيه شيئاً يُنتقَد عليه، بل أقرّوا له بدقّته المتناهية في عمله، سوى بعض الأحاديث اليسيرة التي كان لهم فيها رأيٌ غيرُ رأيِه.
قال أبو جعفر العُقَيليّ: «لما ألَّف البخاريّ كتابَ الصّحيح عَرَضَه على: أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وعليّ بن المدينيّ وغيرهم؛ وكلُّهم قال له: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث» قال العقيليّ: «والقول فيها قول البخاريّ وهي صحيحة»([21]).
وهؤلاء الثلاثة الأئمة المذكورون هم رؤوس هذا العلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- عن الصحيحين: «وكذلك في عصرهما، وكذلك بعدهما، قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه، إلا مواضع يسيرة»([22]).

رابعاً: لقد أبرز البخاريُّ كتابَه للناس، وسماه صحيحاً، وقرأه خلائقُ من علماء عصره لا يحصيهم إلا الله، بل أخذه عنه من التلاميذ المشتغلين بالحديث: أممٌ كثيرة يُعدّون بالآلاف، ولم يُحفظ عن أحٍد منهم إنكارُ صَنيع البخاريّ، أو مناقشتُه في صحّة أحاديثه، سوى أحاديث يسيرة انتقدها بعض العلماء كما تقدّم ذكرُ ذلك.
قال الفِرَبْرِيُّ تلميذ البخاري وراويةُ كتابه: «سمع كتابَ (الصّحيح) لمحمّد بن إسماعيل تسعون ألف رجلٍ»([23]).
وقال علامة الظاهرية أبو محمّد ابن حزم –رحمه الله-: «ما وجدنا للبخاريّ ومسلم في كتابيهما شيئاً لا يحتمل مخرجاً إلّا حديثين؛ لكل واحد منهما حديث تمّ عليه في تخريجه الوهم، مع اتصافهما وحفظهما وصحّة معرفتهما»([24]).
وأشهر من أُثِرَ عنه تعقُّب البخاري ومسلم في بعض ما أورداه من أحاديث: الحافظُ الإمام الدراقطني، ولم يَذكر –بعد التتبع- سوى أحاديثَ يسيرةٍ، والصواب في أكثر ما انتقده على البخاري إنما هو مع البخاريّ، وكثيرٌ مما انتقده لا يرجع إلى أصل الحديث ولا إلى متنه، بل هو راجع إلى بعض الأسانيد والرجال، وسيأتي زيادة بيان لذلك.

خامسًا: لم ينفرد البخاريّ ولا مسلمٌ برواية حديثٍ واحد من أحاديث كتابيهما ولا بتصحيحه، فكلُّ ما في كتابَيهما من الأحاديث رواه قبلهما وبعدهما خلقٌ كثيرٌ من الرواة، وهي أحاديث صحيحةٌ مشهورة معروفة عند العلماء قبلهم، فليس للبخاريّ ومسلم فيها إلا الجمعُ والانتقاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية متعقّباً بعض من غمز في صحّة بعض ما في الصحيحين: «ومثلُ هؤلاء الجهّال يظنّون أن الأحاديثَ التي في البخاريّ ومسلم إنما أُخِذت عن البخاريّ ومسلم، وأن البخاريَّ ومسلماً كان الغلطُ يَروج عليهما، أو كانا يتعمّدان الكذبَ، ولا يعلمون أن قولنا: (رواه البخاري ومسلم) علامةٌ لنا على ثبوت صحّته، لا أنه كان صحيحاً بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرُهما من العلماء والمحدّثين مَن لا يحصي عددَه إلا الله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف، ولو لم يُخلق البخاريُّ ومسلمُ لم ينقص من الدين شيء، وكانت تلك الأحاديث موجودةً بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود.
وإنما قولنا: (رواه البخاري ومسلم) كقولنا: (قرأه القراء السبعة) والقرآن منقول بالتواتر، لم يختصَ هؤلاء السبعة بنقل شيء منه، وكذلك التصحيحُ؛ لم يقلّدْ أئمةُ الحديث فيه البخاريَّ ومسلمًا، بل جمهور ما صحَّحاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقًى بالقبول...
والمقصود أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح»([25]).

سادساً: أجمع العلماء المعتدّ بأقوالهم على صحّة أحاديث البخاريّ ومسلم إجماعاً صحيحاً معلوماً، وتلقّوا كتابَيهما بالقبول العامّ، وهذا الأمرُ من أهمّ ما يجب معرفته والعناية به، لأنّ الإجماع حجّة شرعيّة لا يجوز مخالفتها، ومخالفها مبتدع.
وهذا الإجماع والتلقي بالقبول يؤخذ من وجوه:
أولها: النّصُّ الصّريح من العلماء على ذلك، وقد نصّ على ذلك جمع كبيرٌ من العلماء؛ منهم من صرّح بلفظ الإجماع أو الاتّفاق، ومنهم من نصّ على ثبوت تلقّيهما بالقَبول، وهو من صُوَر الإجماع، ونذكر هنا بعض هؤلاء العلماء:
قال الحافظ أبو نصرٍ السّجزيّ: «أجمع أهل العلم -الفقهاءُ وغيرهم- على أنّ رجلًا لو حلف بالطّلاق أنّ جميع ما في كتاب البخاريّ ممّا روي عن النّبيّ ﷺ قد صحّ عنه، ورسول اللّه ﷺ قاله لا شكّ فيه؛ أنّه لا يحنث، والمرأة بحالها في حبالته»([26]).
وقال أبو إسحاق الإسفرائيني: «أهل الصّنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوعٌ بها عن صاحب الشرع، وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها»([27]).
ورد عن الجوينيّ أنه قال قريباً من مقالة السجزيّ المتقدّمة، فقد نُقِل عنه أنه قال: «لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ ما في كتاب البخاري ومسلم -مما حكم بصحته- من قول النبي ﷺ؛ لما ألزمته الطلاق ولا حنّثتُه؛ لإجماع علماء المسلمين على صحتهما»([28]).
وقال محمد بن طاهر المقدسي: «أجمع المسلمون على ما أُخرِج فيهما أو ما كان على شرطهما»([29]).
أطال الحافظ ابن الصلاح في مواضع من كتبه في تقرير تلقّي الأمة للصحيحين بالقبول، وبيان أن ذلك يقتضي إجماعهم في الجملة على صحّة ما فيهما، وصار كلامه أصلاً مشهوراً في هذه المسألة، يتناقله العلماء ويَبْنون عليه.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 125.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 123.16 كيلو بايت... تم توفير 1.94 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]