رضية الدين ؟ السلطانة الدَّمَوِيَّةُ التي لا يعرفها أحد ؟!
هي تلك المرأة التي أفاض الله عليها مِنْ نَعْمَائه : الشيئَ الكثير ، وساق إليها من أبكار كرائمه : كلَّ خيرٍ وفير .
فوهبها جمالًا ووقارًا : جعل أعناق الخُطَّاب تميل إزائَها من كل جانب !
ورزقها صَبَاحةً ومَلاَحةً : ترنوا إليها أحداق الراغبين من المشارق والمغارب !
فكانتْ إذا تكلَّمتْ : نَثَرَتِ الجواهر والدُّرر ! وإذا أسْفَرتْ : كَشَفَتْ عن قَمَر !
بل كانتْ طلْعتُها : كالبدر التَّمَام ، ورُؤْيتُها : تِرْياقٌ نافعٌ لهاتيك الأدْوَاءِ والأسقام !
هذا : مع بلاغةِ مَنْطِقٍ : تقِفُ أمامها ألسنةُ البُلَغاء متعَجِّبة !
وحلاوةِ لسانٍ : تظلُّ شمس الجمال من حُسْنها مُتَحَجِّبة !
ناهيك عما حبَاها الله مِنْ : إِقْدَامٍ جعلها تُناهضُ به فحولَ الفرسان في ميدان الأبطال !
و شجاعةٍ : صارتْ تخوض بها في مسْتنقعات معارك الموت وهي تشاهد سيوف المنايا تحْصدُ رءوس شجعان الرجال !
هذا كله : مع بصيرةٍ وقَّادة كالشمس حين يشرق نورها على صفحات الدنيا فَيُضيئَ مُرُوجَها ومَبَانيها !
وقريحةٍ نفَّاذةٍ : ظلّتْ تسير بها حيث سارتْ شموسُ أيامها وبدورُ لياليها !
وذكاءٍ ودهاءٍ : لم تُعْرفُ به امرأةٌ قبلها ! ولا ضاهتْها في ذلك مَلِكةٌ ممنْ جاءتْ بعدها!
لكنها : سَرْعانَ ما أنكرتْ أفضال خالقها ومولاها ! وتنكَّبتْ عن الخنوع والخضوع للَّذي خلقها فسوَّاها !
فلم تقُمْ بشكر ما أنعم الله به عليها ! ولا تقدَّمتْ بين يديه بحمده على تلك الخيرات التي ساقَتْهَا ركائبُ أقْدَاره إليها !
بل تغَافَلتْ عن كل ذلك ! وتَعَامَتْ عما هنالك ! ورفَعَتْ ألْوِيَةَ العدوان على كلِّ مَنْ نَابَذَها من المسلمين ! ونَصَبتْ أعلامَ السُّخط على سائر الناصحين لها من الموحدين !
فَرَكِبَتْ جواد الكبرياء ، وظنَّتْ أنها سلطانةُ الأرض وملكةُ السماء ! وخاضتْ بجيوشها في أوْدية تلك الدماء التي سُفِكَتْ – بأمرها - تحتْ قدميْها ! وجعلتْ تَسْبَحَ في بحور هاتيك المصائب التي أوقدت نيرانها بين يديها !
ليس هذا فحسب ! بل اتخذَتْ من جمالها سهامًا : جعلتْ ترمي بها في نحور المفتُونين بِسمْتِها و حُسْنِها!
وَصَيَّرتْ مِنْ رُمُوشِ جفونها نِبَالًا : ظلتْ تَرْشُقُ بها أنظارَ المغرمين بِطَرْفِهَا ولَحْظِهَا !
وما بَرِحَتْ تُؤلِّب بالوقيعة بين الراغبين في وِصالها ! وتُؤرِّجُ بالخديعة بين المأسورين بسلطان جمالها ! حتى أطلّتْ أعناقُ الفتن برءوسها في تلك الممالك من ديار الإسلام ! وخَطَبتْ السيوف على منابر رقابِ الضعفاء والمساكين من الأنام ! إلى أن أصبح الدين من هؤلاء في أنِين ! وأكثر الناس منهم في بلاء مبين .
وهكذا : ظلَّلتْ تلك المرأة هائمةً في فيافي كبريائها ! وحائمةً فوق أعلام غرورها ! ومستمسكةً بسلاح جمالها ! وطامعةً في مناطحة الجوزاء في عَلْيائها !حتى جرَّتْها الدنيا بسلاسل قيودها المُرْصَدة ، وأغْلَقتْ عليها أبواب جحيمها المؤْصَدة ! ورفع الله عنها ستره الجميل ، وأمسك عليها ما كان أولاها من النعيم الجليل ، وتركها تسقط من حيث قامت ! وتغرق في بحور جناياتها حتى تلاشتْ أنفاسها وغابتْ ! ويوم القيامة سوف يُحْصِي عليها ويُعيد ! [وما ربك بظلاَّم للعبيد ]
اسمها ونسبها :
تلك المرأة : هي السلطانة رضيَّةُ الدين بنـــتُ السلطان شمس الدين لَلْمِـــش ، سلطانة الهند في منتصف القرن السابع الهجري ، وأول من حكم مدينة دهلي [دلهي] سنة 626 / هجرية / 1229/ ميلاديًا.
أبوها :
وأبوها : هو السلطان شمس الدين لَلْمِـــش ، أحد مماليك السلطان قطب الدين أيبك, الذي كان مُقدَّمالجيوش لدى السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سام الغوري سلطان غزنةوبلاد خراسان, بعد تغَلُّبه على ملوك وأمراء سلالة السلطان المجاهد محمود بن سُبُكْتُكِين, الذي كان من أول قاد الجيوش لتلك الفتوح الإسلامية فيشبه القارة الهندية.
وبعد وفاة السلطان قطب الدين أيبك : جلس شمس الدين لَلْمِـــش على عرش البلاد الهندية : عام (614هـ= 1216م).
وكان سلطانا عادلا عاملا ، له مآثر حسنة ، ومناقب مشهورة ، ويُعدُّ من أوائل الذين أسَّسوا دولة المماليك بشبه القارة الهندية .
وكان شمس الدين هذا : مواليا للخلافة الإسلامية في عصره ، وقد بعث له الخليفة "المستنصر بالله" العباسي بتقليده ملكًا للبلادوحاكمًا عليها سنة (626هـ = 1229م) .
وقد اشتهر بإنصاف الضعفاء والمظلومين ، ونشر العدل في ربوع مملكته قاطبة ،ويُحْكى عنه في الصدد حكايات ونوادر !
منها : أنه كان قد أصدر مرسومًا :بأن يلبس كل مظلوم في مملكته ثيابًا مُلَوَّنة [وكان أهل مملكته الهندية جميعًا يرتدونالثياب البيضاء]، وكان يخرج بنفسه ليتفقد أحوال رعيته, فإذا رأى أحدًا يرتدي ثوبًاملونًا, نظر في قضيته فورًا ! وأنصفه ممن ظَلَمه, وكذلك كان يفعل إذا عقد مجلسه للحكم.
ومنها : أن ابن بطوطة قد حكى في « رحلته » أن السلطان لَلْمِـــش بلغ من عدله أنه قال ذات مرة : إن بعض الناس تجري عليهم المظالم بالليل، وأريد تعجيل إنصافهم؛ فجعل على باب قصره : أسدين مُصَوَّرين من الرخام ،موضوعيْن على بُرْجَيْن هنالك[ كأنه لم يبلغه النهي عن التصوير والتماثيل!]، وفي أعناقهما : سلسلتان من الحديد فيهما جرس كبير، فكان المظلوم يأتي ليلاً فيُحرِّك الجرس،؛ فيسمعه السلطان وينظر في أمره للحين ، ويقوم بإنصافه من فوره .
ولا ريب : أن الله شاكرُه على هذا العدل بين الناس إنْ ثبت عنه حقًا !
وكان لهذا السلطان العادل : أربعة من الأولاد فقط ! ثلاثة من الذكور ، وهم : ركن الدين ، ومعز الدين، وناصر الدين .
وأما ابنتُه الوحيدة : فكانت هي : رضية الدين . تلك الأميرة الجميلة التي أشقاها جمالها ! وأضرَّ بها حُسْنُها !
نشأتها وبعض صفاتها :
نشأتِ الأميرة رضية الدين مُدَلَّلةً في حِجْر أبيها ،ترفُلُ في حُلَلِ البهاء المقيم ، وتَتَقلَّب في غمرات لذَّات النعيم ! وكان أبوها يحبها – دون إخوتها – حبا شديدا ، لما كان يتوسَّمُه فيها من الصلاح والذكاء والدهاء والعقل والحكمة ، وعهد إلى الفقهاء والمعلمين بتعليمها وتهذيب شمائلها ، كما عهد إلى غيرهم : بتدريبها على فنون الحرب والقتال ! وحمْلِ السلاح ومبارزة الرجال ! بحيث لم تكن تقل شأنًا في العلم والسياسة و قواعد الحكم : عن سائر إخوتها ! بل تفوقت عليهم جميعا في هذا الأمر كله !
وبلغ مِنْ تعلُّق أبيها بها : أنه كان يُسْند إليها بعض المهام السياسية ، حتى حُكِي عنه : أنه قد فكّر في أن يجعلها "وليّة للعهد" من بعده دون إخونهاالذكور الذين لم ير فيهم أباهم أهْلِيَةً للقيام بمهامِّ المملكة من بعده !
وكانت رضيةً الدين : تجعل من أبيها قدوتها المُثْلَى ، وتتخذ منه : مَثَلَها الأعْلى ، فكانت مغرمة بحبه كما كانت هي إليه مُحَبَّبة ، ولا غرو في هذا : « إذْ كلُّ فتاةٍ بأبيها مُعْجَبة! » .
وكان الله قد وهبها : جمال منظرٍ : يسرُّ الناظرين ، وبهاء مَطْلَعٍ : تطيرُ له قلوبُ الراغبين ! قد أخذتْ بزِمام الحُسْنِ والجمال ، وتَبَوَّأَتْ عرش الأنَفَةِ والدَّلال ! حتى رغب في وصْلِها الأمراءُ والأقَيْال ، وحُمِلَتْ إليها عجائبُ الهدايا ونفائس الأموال ! وهي راغبة عن الخُطَّاب ! شامخة بأنْفِ كِبْريائها إلى السحاب ! لا تدري أحدا لها كُفْؤًا ، ولا تعلم لمثيلها نِدَّاً !
وكيف لا : وهي لا ترى امرأة تجري معها في ميدان الجمال ! ولا تعرف فتاةً من بنات جنْسها قد سَجَدَتْ لها – دونها - قلوبُ مغاوير الرجال !
ومع تفَرُّدِها بتلك المحاسن والشمائل : فقد كانت أعجوبة في حصافة الرأي والذكاء ، وفريدةً في معرفة صنوف المكر والدهاء !
بل كانت إذا كَشَرَتْ الحربُ الضَّرُوس عن أنيابها : كانت هي التي تَدْرأُ بِرُمْحِها في مَقَاتِل الشجعان ! وتَكِرُّ وتَفِرُّ في أتُون لهيب المعارك بالضَّرب والطِّعان ! فكانتْ في الإقدام و الشجاعة : كلمةَ إجماع ! وفي الجُرْأة والبَسَالة : حديثَ الرُّكْبَان في سائر البقاع !
تَوَلِّيْها عرشَ البلاد ، وسَلْطَنة العباد :
ولما توفي أبوها شمس الدين لَلْمِـش : تولَّى بعده ابنه الأكبر : ركن الدين فيروز شاه ، فأساء وتعدَّى وظلم ! ولم يَنْهَج نهج أبيه في العدل بين الناس وإنصاف الضعفاء ! بل كان سيئ الأخلاق ، لئيم الطباع ، ضعيف الاستقلال بالملك ! ولما أحسَّ أن هناك مؤامرة تقوم ضده بزعامة أخيه عز الدين ! قام من فوره وحشد الحشود ، ثم قبض على أخيه ومن معه ، ثم أعمل فيهم سيفه ! وشفى منهم غيظه ! وذبح أخاه بيده ! وكان هو الذي تولَّى كِبْر مقتله ! فكرهه الناس وبغضوه ، وتمنُّوا لو أزالوا دولته وقتلوه ! لكنهم لم يكونوا يجرءون على ذلك ! لما يخشونه من بطش ذلك السلطان الغاشم !
وهنا : قامت رضية الدين في وجه أخيها ! وظلتْ تعظه وتحذَّرُه من عاقبة تلك السياسة الدَّمَويَّة التي أرْدَتْ بقتل أخيها ! لكن السلطان ركن الدين : لم يعبأ بكلام أخته ! ولا كاد يُنْصتْ لها أصلا ! بل كاد أن يبطش بها هي الأخرى ! حتى يتمَّ له أمرُه ، ويسْتَتِبَّ مُلْكُه وحكمُه !
فََخَشيتْ رضية الدين على نفسها ! وعَمَدتْ إلى مفاجأة أخيها الظالم بتقاليد تلك العدالة التي كان أرساها أبوهما في حياته ؟ فمكثتْ حتى حان وقت صلاة الجمعة في أحد الأيام, وقد أجمعتِ العزم على أن تُذيق أخاها القاتل مِنْ تلك الكأس التي شرب منها أخوهما المقتول! فصعدتْ إلى سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم في مدينة دهلي [دلهي]، وهي تَرْتدي ثيابًا ملونة؛ لكي يعرف الناس أنهامظلومة مقهورة, واستوقفتِ الناس وخاطبتْهم من مكانها أعلى السطح وهي ترفع عقيرتها وتقول : « إن أخي قتلأخاه, وهو يريد قتلي معه !! » وجعلتْ تُذكِّر الناس بأيام أبيها, ومآثره, وما فعله من أجلرعاياه من الإحسان إليهم ، والرفق بهم، وكأنها تنادي : وا أبَتَاه ! وا أبتاه ! أخي قتل أخاه ! فأين أنت يا أبتاه ؟!
فحرَّكتْ كلماتُ الأميرة المظلومة الخائفة : جماهيرَ المصلين،وأقْلَقتْ ما بين جنوبهم ، وكأنها طعنتْ برماح صراخها في أكبادهم ! فثاروا من فورهم ، وتوجَّهوا إلى السلطان ركن الدين وقبضوا عليه وهو يرتجف خوفًا ! ثم ساقوه إلى أخته التي كانت شراراتُ الغضب تتطاير من تحت جفون عينيها ! فنادت فيهم قائلة : « : القاتل يُقْتَل »! فامتثل الجميع لأمرها ، وقاموا بقتل السلطان قصاصًا كما قتل أخاه ، ثم نظر الناس في من يتولَّى زِمام المملكة بعد ذلك السلطان المقتول ؟ فعمدوا إلى أخيه الأصغر « ناصر الدين » فوجدوه طفلا صغيرا لا يحسن تدبير أمر نفسه! فكيف بأمور المسلمين ؟ ثم اتفق الرؤساء منهم على مبايعة رضية الدين سلطانة عليهم!
ونسوا أن رسولهم r قد قال فيما أخرجه البخاري في « صحيحه » عنه : « لن يُفلِح قومٌ وَلَّوْا أمْرَهُم امرأة »! ولكن : كان قضاء الله أمرًا مقدورًا.
فارتفعتْ رضيةُ الدين على عرش البلاد في عام : [ 634 / هجريا / الموافق : 1236/ميلاديا ] .
وكان يوم تتويجها سلطانة : يوما مشهودا بين الناس ! إذ لم يعرف التاريخ الإسلامي : أن امرأة حكمت الهند قبلها !
وظلت تحكم البلاد حتى عام : [ 637 / هجريا / الموافق :1369/ ميلاديا ] .
وكانت في أول أمرها : تمشي على سيرة أبيها في نشر العدل بين الناس ، ورفع الظلم ، وفتوح البلدان ، وإرساء قواعد الأمن والسلام في جنبات مملكتها . حتى أثنى عليها بعض المؤرخين بتلك المآثر الشريفة التي أحْيتْ مواتها بعد أبيها العادل : شمس الدين لَلْمِـش القائد السلطان المملوكي الشهير .
لكنها : سرعان ما أنساها الحكم أنها لا تزال امرأة ! فحدَّثتْها نفسها بعزائم الرجال ! ورَاودَها الشيطانُ بالانسلاخ من جِلْدِ أنوثتها والتَحَلِّي بشكيمة الأبطال !حتى تستطيع أن ترْدَعَ كلَّ من يحاول تهديد أنْظمة حكمها ؛ ظانًا أن مَلِيْكَته : أنثى ضعيفةَ الركن كأكثر النساء ! وحتى يعلم الرائح والغادي : أن السلطانة لا تقل قوة وصلابة عن سائر الملوك من حيث الحزم والبأس بين الرعية .
فإذا بها : تخلع حجاب أُنوثتها إلى الأبد ! وتكشف عن وجهها بين الناس بعد أن كانت تلبس نقابَ الحياء وإسدال العِفَّة ! وتُودِّع الملابس النسائية ! وترتدي ملابس الرجال ! وتظهر في صورتهم ! وتُحاكي أقوالهم وحركاتهم ! وصارتْ تتسلَّحُ بالقوس والسهام في مجلس عرشها ! وتلبس القلنسوة على رأسها ! وتخوض الحروب وهي على متون الأفيال العملاقة ! كما كان يفعل ملوك ذلك الزمان في شبه القارة الهندية .
بل حكى بعضهم عنها : أنها عَمَدَتْ إلى شعرها الطويل الناعم فَجَذَّتْه جَذَّاً ! وقصًّتْه قصَّاً ! حتى يكون ذلك هو آخر عهدها بأنوثتها التي فطرها الله عليها !
قال العلامة الأديب علي الطنطاوي : « وحَسِبَتْ – يعني رضية الدين – أنها بهذا التبديل: تستطيع أن تُبَدِّلَ خِلْقةَ الله فيها ! وأن تجعل من نفسها رجلًا ! » .
قلتُ : وكيف غفلتْ تلك المرأة عن أن رسولها r قد صح عنه أنه قال : « لعن الله المتشبِّهات من النساء بالرجال ، و المتشبِّهين من الرجال بالنساء » .
وصح عن ابن عباس أنه قال : « لعن النبي : المخنَّثين من الرجال، والمتَرجِّلات من النساء» .
وصح عن أبي هريرة أنه قال : « لعن رسول الله : الرجل يلبس لُبْسَة المرأة،والمرأة تلبس لُبْسة الرجل» .
وصح عنه أنه قال : « ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : ....» وذََكَر منهم : « والمرأةُ المتَرَجِّلَةُ المتَشبِّهةُ بالرجال » .
فأين كانت رضية الدين عن كل تلك البروق والصواعق التي تقشعر لها فرائصُ أهل الإيمان ! وترتجف منها أبدان العارفين بمقام الخالق وحقيقة الإنسان !؟
لكنها شهوة التَّسَلُّطِ على عروش الحكم و السلطان ! ولذََّةُ التَّرَأُّسِ على دهماء العباد في كل مكان ! والله من وراء الجميع محيط وهو المستعان .
ولم تكن : شعوب الهند في ذلك الزمان لِيتَرَضَى عن تلك الأمور التي تفعلها تلك السلطانة المتمرِّدة ! وشعروا بأنهم قد أخطأوا عندما رفعوها على عرش السلطنة ! وكيف راق لهم أن تحكمهم امرأة ؟ فانطلقت ألسنة الناقمين والطامعين في كل مكان ! وهبَّ الفقهاء والعلماء من مضاجعهم ، وقاموا من غََمْرة غَفْوتهم وغفلتهم ، وجعلوا يُردِّدُون على المنابر قوله r : « لن يُفلِح قومٌ وَلَّوْا أمْرَهُم امرأة»! وبدأت حملات الغضب والتمرّد تُبَيَّتُ للسلطانة بليْلٍ دون شعورها ! واجتمع وزير البلاد مع قادة الأمراء ، ورءوس الفرسان على خَلْع السلطانة ، وتَوْلِيَة أخيها الصغير : ناصر الدين بهرام شاه ، أمورَ الحكم والبلاد !
وفي ليلةٍ ركَدَتْ ريحُها ، وأرِقَتْ نُجومها : انقضَّ الجميع على السلطانة وهي في مخدعها نائمة ! وفي بحور أحلامها هائمة ! فقبضوا عليها ، وساقوا أغلال الهوان إليها ! وزجُّوا بها في غياهب السجون أيامًا ولَيَالْ ، وهى تعاني الآلام وتواجه الأهوال !
لكنَّ السلطانة : لم يكن في صحيفة آمالها : أن تموت وهي ترسُفُ في قيودها ! فَقَدَحَتْ زِناد ذكائها !وأشعلتْ فتيل أفكارها ! ثم اهتدتْ إلى أن تُرْسِل إلى حاكم مدينة : «أود» تستنجده لنصرتها ، وتسْتَعْديه على أخيها وأمراء دولتها ! وكأنها كانت تَعِدُهُ – إنِ استطاع خلاصها – بوصالها ، والزواج منها !
وحينما وصلت الرسالة : إلى حاكم : « أود » لم يتردد كثيرا ! بل جيِّش الجيوش ، وحشد الحشود ، وهبَّ من فوره لتخليص سلطانته من أسرها ، وتأديب قُوَّاد جيشها ! وعَبَرَ نهر : « الكنج » ، فاستقبله السلطان ناصر الدين وأمراء مملكته بجيوشٍ لا قِبَل له بها ! والْتَقَى الجمعان في معركة شرسة تمخَّضَتْ عن عشرات القتْلَى ، ومئات الجرْحَى ! ووقع حاكم : « أود» مِنْ على فرسه أسيرا جريحا ! ولم يلبثْ حتى قضى نحبه ، وطوى الموت كشْحَه !
ولما أُخْبِرَتْ السلطانةُ رضيةُ بذلك : لم يسكن جأشها ! ولم تضعف كواهلها ! بل ما لانتْ لها عزيمة ! ولا خارتْ لها شكيمة ! ولجأتْ إلى استخدام سلاح آخر كانتْ قد أغفلتْه من حسابها ، وأسقطتْه من قائمة أفكارها !
هذا السلاح الممِيتُ : هو سلاح الحُسْن و الجمال ، وسيفُ الغُنْجِ والدَّلاَل ! فجعلتْ تطْعنُ بِسهْم أنُوثتها في قلوب الأمراء ! وظلتْ تحِزُّ بسكين محاسنها رقابَ القُوَّاد والكُبَرَاء ! حتى أجَّجَتْ بينهم نيرانَ العداوة والغضب ! وكلما هدأ لهيب الجحيم أسْرَعتْ إليه بحمل الحَطَب ! حتى قضى أكثرهم على بعض ! وقصفتْ رياح الفتن أغصان أعمارهم بالطول والعرض !
وهنا : قامت السلطانة مِنْ رقدتها ، وأسفرتْ عن بطشها وقوتها ! وأقامتْ المذابح لمن تبقَّى من هؤلاء الذين تآمروا عليها ! ونصبتْ حبائلَ الموت لكل من ساقتْه أقدار جرائمه إليها !
إلا أنها تركت أخاها الصغير ناصر الدين دون أن تصُبَّ عليه سوط عذابها ، لمعرفتها بكونه كان دُمْيةً في تلك الأيادي التي قَطَعَتْ أناملها بِسِنَان رِماحها !
وهكذا : عاد للسلطانة – مرة أخرى – تاجُ هيْمَنَتِها على العباد ، واسْتَتَبَّ لها الأمن والسلام في ربوع البلاد .
وأصبحتْ أشدَّ صرامة ، وأقوى شيكمة ، وأنهض عزيمة ، وأصلب إرادة ، وأقوم صلابة ! وظنتْ أن شمس أيامها قد عادت بعد الغياب ، وأن قمر لياليها قد حطّ رحله من طويل سفره وآب ! فأطلقتْ لنفسها العنانَ في كل ما تريد وترغب من الأمور ! ولا تدري أن كوكب نهايتها – وهي في ذروة نشوتها – أصبح في فلك الآجال يدور !
فوقعتْ واقعة : كانت هي علامة سقوط خاتمة أمر تلك الملِكة ! ونزلتْ حادثة : لأجلها زال نفوذ السلطانة عن سائر ربوع المملكة !
تابع .....................