الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 16 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          دروس رمضانية السيد مراد سلامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 340 )           »          جدول لآحلى الأكلات والوصفات على سفرتك يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 725 )           »          منيو إفطار 18رمضان.. طريقة عمل كبسة اللحم وسلطة الدقوس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          5 ألوان لخزائن المطبخ عفا عليها الزمان.. بلاش منها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          5 طرق لتنظيف الأرضيات الرخامية بشكل صحيح.. عشان تلمع من تانى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 349 )           »          إشراق الصيام وانطلاق القيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى حراس الفضيلة

ملتقى حراس الفضيلة قسم يهتم ببناء القيم والفضيلة بمجتمعنا الاسلامي بين الشباب المسلم , معاً لإزالة الصدأ عن القلوب ولننعم بعيشة هنية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 08-02-2020, 01:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (21) الأرواح جنـــود مجنـــدة


د.وليد خالد الربيع



يجد الإنسان نفسه - أحياناً - متوافقا مع بعض الناس، منسجما معهم، مرتاحا لهم، أفكارهم متشابهة، وأسلوبهم متماثل. في حين أنه يجد نفسه مع آخرين منقبضا عنهم ، مجانبا لهم، مبغضا للاجتماع معهم، حتى إنه ليؤثر الانفراد على الاختلاط بهم، ويفضل الوحدة على صحبتهم، من غير سبب يذكر، ولا عيب يظهر، وإذا سئل عن سبب اعتزاله لأولئك الرهط، ومفارقته لذلك المجلس أجاب معللا ذلك بقوله: «الأرواح جنود مجندة؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأصل هذه المقولة حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ ر ضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ[ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وأخرجه مسلم مسندا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله[ قال: «الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وفي لفظ آخر: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: «قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد, وأن الخيِّر من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر, فإذا اتفقت تعارفت, وإذا اختلفت تناكرت.
ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام, وكانت تلتقي فتتشاءم, فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.
وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين, ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
قلت -القائل ابن حجر-: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي, فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء.
وقوله: «جنود مجندة» أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة, قال ابن الجوزي: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم, وكذلك القول في عكسه».

وقال القرطبي: «الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها, فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمع فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة؛ ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر , وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها .»اهـ كلام ابن حجر .
وقال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة»: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها، وتناسبها في شيمها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة، ثم فرقت في أجسادها؛ فمن وافق بشيمه ألفه، ومن باعده نافره وخالفه.
وقال الخطابي وغيره : تآلفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم «اهـ.
ويعلل أبو حاتم البستي في (روضة العقلاء)سبب ائتلاف الناس وافتراقهم بعد القضاء السابق بأنه تعارف الروحين، وتناكر الروحين، فإذا تعارف الروحان وجدت الألفة بين نفسيهما، وإذا تناكر الروحان وجدت الفرقة بين جسميهما.
ونقل عن مجاهد قال: رأى ابن عباس رضي الله عنها رجلا فقال: «إن هذا ليحبني» قالوا: وما علمك؟ قال: «إني لأحبه، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
وذكر عن قتادة في قوله عز وجل: {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، قال: «للرحمة والطاعة، فأما أهل طاعة الله فقلوبهم وأهواؤهم مجتمعة، وإن تفرقت ديارهم، وأهل معصية الله قلوبهم مختلفة ، وإن اجتمعت ديارهم».

ويبين أبو حاتم خطورة هذا التماثل والتقارب بين المتشابهين من الناس وأثر ذلك على دين الشخص وسلوكه فيقول: «إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه، هو الاعتبار بمن يحادثه ويوده؛ لأن المرء على دين خليله، وطير السماء على أشكالها تقع، وما رأيت شيئا أدل على شيء، ولا الدخان على النار، مثل الصاحب على الصاحب، ونقل عن هبيرة أنه قال: اعتبر الناس بأخدانهم، أي: قس الناس بأصدقائهم، وذكر عن الإمام مالك أنه قال: «الناس أشكال كأجناس الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، وكل إنسان مع شكله».
قال أبو حاتم: «العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه، ويفارق صحبة المتهم في دينه؛ لأن من صحب قوما عرف بهم، ومن عاشر امرأ نسب إليه، والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله، فإذا لم يجد المرء بدا من صحبة الناس تحرّى من زانه إذا صحبه، ولم يشنه إذا عرف به».
ويقرر أبو حاتم أن ما قد يجده المرء في نفسه من اتفاق أو افتراق قد يؤكده الواقع بعد حينٍ حينَ تنجلي الأمور وتتكشف الحقائق فيقول: «إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به، وإذا ازداد به علما ازداد به عجبا، ومنهم من يبغضه حين يراه، ثم لا يزداد به علما إلا ازداد له مقتا ، فاتفاقهما باتفاق الروحين قديما، وافتراقهما يكون بافتراقهما».

وأخيرا، مع تسليمنا بدلالة هذا الحديث إلا أن الشرع يؤكد على ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الفجار، فكون المرء يميل إلى الأشرار ويبغض الأخيار ليس مبررا لما يتبع ذلك من مخالفات شرعية؛ لأنه مأمور بالصبر على صحبة الأخيار كما قال عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 15-09-2020, 06:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (22)العطاء شرف والأخذ ألم

د.وليد خالد الربيع




هذه المقولة الموجزة تقرر واقعا ثابتا، وتوضح جانبا اجتماعيا يلاحظه المتأمل في أحوال الناس، فبعض الناس جبل على العطاء، وحبب إليه البذل، فهو كثير الأيادي، جمّ الإفضال؛ لذا فهو محبوب عند الناس، ذو شرف ومنزلة عندهم، كما قال علي ]: «من آتاه الله منكم مالا فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك فيه العاني والأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء وليصبر فيه على النائبة؛ فإنه بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة»، وقال أبو حاتم البستي: «أجود الجود من جاد بماله، وصان نفسه عن مال غيره، ومن جاد ساد، كما أن من بخل رذل».

ومصداق هذا قوله [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال المناوي: «يعني المنفقة أفضل من الآخذة، أي ما لم تشتد حاجته»، وسئل الحسن عن معنى الحديث فقال: «يد المعطي خير من يد المانع».

وفي المقابل يوجد في بعض الناس شره إلى المكاسب، وتشوف إلى ما في أيدي الناس، فتراه واسع الأطماع، كثير المراغب، لم يقنع بما رزقه الله تعالى، ولم يرض بما أعطاه مولاه، تجاوز طموحه حدود قدراته، وأراد الغنى على حساب غيره، فيعمل على الإثراء بالسؤال والاستجداء، دون أن يسعى في حرفة أو يتعاطى صنعة، وهذا مخالف لما تقرره الشريعة الغراء من ضرورة العمل والاكتساب، وحرمة المسألة والتكثر بغير حق.

قال عز وجل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.

قال ابن كثير: أَيْ: لا يُلِحُّونَ فِي الْمَسْأَلَة وَيُكَلِّفُونَ النَّاس مَا لا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغنِيه عَنْ الْمَسْأَلَة فَقَدْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَة ، وفي حديث قبيصة ابن المخارق ] أن النبي [ قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا»، أخرجه مسلم.

وعن أبي كبشة الأنماري ] أنه سمع النبي [ يقول: «ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه» قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»، أخرجه الترمذي.

قال المباركفوري: «(ولا فتح) أي على نفسه (باب مسألة) أي سؤال للناس (إلا فتح الله عليه باب فقر) أي: باب احتياج آخر وهلم، أو يكون سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة كما هو مشاهد»، اهـ.

عن حكيم بن حزام ] قال: سألت النبي [ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، أخرجه مسلم.

قال النووي: «قال العلماء: إشراف النفس: تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه، وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين:

أظهرهما: أنه عائد إلى الآخذ، ومعناه: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف وتطلع بورك له فيه، والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس، لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع.

وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة، والرضا بما تيسر في عفاف وإن كان قليلا، والإجمال في الكسب، وأنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه»، اهـ.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» متفق عليه، قال النووي: «المزعة بضم الميم وإسكان الزاي: أي قطعة، قال القاضي: قيل معناه: يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله، وقيل هو على ظاهره، يحشر ووجهه لا لحم عليه عقوبة له وعلامة بذنبه حين طلب وسأل بوجهه، كما جاءت الأحاديث الأخرى بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالا منهيا وأكثر منه، كما في الرواية الأخرى: «من سأل تكثرا».

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أخرجه مسلم، قال النووي: «قال القاضي: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى به، كما ثبت في مانع الزكاة».

وسمع عمر ] سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه: عشّ الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال: ألم أقل لك عشّ الرجل؟ قال: قد عشيته. فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، فقال: لست سائلا ولكنك تاجر. ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة وقال: «لا تعد».

وقال أبو حاتم البستي في «روضة العقلاء»: «العاقل لا يسأل الناس شيئا فيردوه، ولا يلحف في المسألة فيحرموه، ويلزم التعفف والتكرم، ولا يطلب الأمر مدبرا، ولا يتركه مقبلا؛ لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وإن من يسأل غير المستحق حاجة حطّ لنفسه مرتبتين، ورفع المسؤول فوق قدره».


والخلاصة أن البذل والعطاء شرف ورفعة، وهذا ما دل عليه اللغة والسنة، ففي اللغة الشرف هو المكان العالي، قال ابن فارس: «الشرف: العلو، والشريف: الرجل العالي»، اهـ.


وفي الحديث قال [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، فيفهم منه أن اليد المعطية يد شريفة عالية؛ فحري بالمسلم أن يحرص على هذا الفضل بأن تكون يده عليا بالخير.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 02-10-2023, 12:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (23)

ومـا أكـثـر النـــــاس ولــو حرصـت بمؤمنيـن


هذه الآية الكريمة من سورة يوسف عليه السلام تقرر حقيقة شرعية، وسنة إلهية وهي أن أهل الحق أقل من أهل الباطل، وأن الغالب على الناس الجحود والكفر، والقليل منهم من يهتدي للحق ويقوم به، قال الشاطبي: «وهذه سنة الله في الخلق; أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل؛ لقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ، وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، ولينجز الله ما وعد به نبيه [ من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف، كما كان أولا يقام على أهل البدعة»اهـ.
وقال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى لنبيه محمد [ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع، بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا».اهـ.
ومن الآيات المقررة لهذه الحقيقة قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}، قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ حَال أَكْثَر أَهْل الْأَرْض مِنْ بَنِي آدَم أَنَّهُ الضَّلال كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ} وَهُمْ فِي ضَلَالهمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِين مِنْ أَمْرهمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُون كَاذِبَة وَحُسْبَان بَاطِل {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فَإِنَّ الْخَرْص هُوَ الْحَزْر وَمِنْهُ خَرْص النَّخْل وَهُوَ حَزْر مَا عَلَيْهَا مِنْ التَّمْر وَذَلِكَ كُلّه عَنْ قَدَر اللَّه وَمَشِيئَته .
قال الشيخ ابن سعدي:» يقول تعالى لنبيه محمد [، محذرا من طاعة أكثر الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم. فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ويتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يحذِّر الله منه عبادَه، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا – وإن كان خطابا للنبي [ - فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام، التي ليست من خصائصه.
ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله، ولا تدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك؛ فإن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون -عند الله- قدرا وأجرا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه».اهـ.
وقد جاء في الحديث قوله «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء «أخرجه مسلم، قال النووي:»قال القاضي: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ» اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فوائد هذا الحديث: «لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه - والعياذ بالله - بل الأمر كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث:»فطوبى للغرباء {وطوبى من الطيب، قال تعالى: «طوبى لهم وحسن مآب}، فإنه سيكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا، وهو أسعد الناس، أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام، وأما في الدنيا فقد قال تعالى: {يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي:إن الله حسبك وحسب متبعك».
وقال: «وكما أن الله نهى نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام أول الأمر، فكذلك في آخره، فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر {إن وعد الله حق} وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار».
قال:»وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ، قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} إلى غير ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام.»اهـ.
ويوضح الإمام ابن القيم الغربة الممدوحة بأنها: «غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله [ أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ «غريبا» وأنه»سيعود غريبا كما بدأ» وأن «أهله يصيرون غرباء «.
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه»الغربة»هم أهل الله حقا؛ فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله [، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
ومن صفات هؤلاء الغرباء: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم «اهـ.
ويقسم ابن رجب الغرباء الممدوحين إلى قسمين: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، قال: «وهو أعلى القسمين».


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 02-10-2023, 12:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (24)

الخير عادة والشر لجاجة




من القضايا الفلسفية القديمة البحث في النفس البشرية, وهل الأصل فيها الخير والشر طارئ ؟ أم العكس الذي يقول إن الشر متأصل في نفس الإنسان والخير طارئ؟
والذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الإنسان مهيأ لقبول الخير والشر بما خلق الله تعالى فيه من الإرادة والقدرة والاختيار كما قال تعالى:{وهديناه النجدين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال والرشد من الغي»، وقال القاسمي: «أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما، ثم وهبنا له الاختيار، فإليه أن يختار أي الطريقين شاء»اهـ.
وقال: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال القاسمي: «أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، أي: عرّفناه وبينا له ذلك بأدلة العقل والسمع» اهـ.
ومع ذلك فإن الله تعالى من رحمته فطر الإنسان على حب الخير والميل إليه وتفضيله على الشر كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
قال ابن سعدي: «يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي: انصبه ووجّهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها؛ فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة، ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي [: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»اهـ.
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ[ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». أخرجه مسلم
قال النووي: قوله تعالى: {وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ} أي مسلمين، وقيل:طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ» أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل»اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور: «وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنه معرض لوسوسة الشياطين، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في الناس الخير».
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ[: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»متفق عليه.
قال النووي: «والأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي:يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما، فإن كانت سبقت له السعادة أسلم وإلا مات على كفره» اهـ.
والفطرة في اللغة: من فطر بمعنى شق، وانفطر وتفطر: انشق، وتأتي بمعنى خلق يقال: فطر الله الخلق، أي: خلقهم وأنشأهم، والفطرة: الابتداء والاختراع والخلق، ومنه قوله تعالى: {الحمد لله فاطر السموات والأرض}.
قال القرطبي: «الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة».
ومن هنا يأتي هذا الحديث ليؤكد هذا الأصل، ويحث الناس على الاستكثار من الخير والتعود على فعله حتى يصير سجية في النفس وعادة في الطبع، فعن ‏معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-عن رسول الله [ «‏‏إنه قال ‏ ‏الخير ‏ ‏عادة ‏ ‏والشر ‏ ‏لجاجة، ‏ومن يرد الله به خيرا ‏ ‏يفقهه في الدين» أخرجه ابن ماجه، وفي رواية أن معاوية -رضي الله عنه- قال: «عَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الْخَيْرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ[ يَقُولُ: «الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
واللجاجة في اللغة بمعنى التردد وعدم الثبات، قال ابن فارس: «اللام والجيم أصل صحيح يدل على تردد الشيء بعضه على بعض، وترديد الشيء، يقال: لجلج الرجل المضغة في فيه إذا رددها ولم يسغها، ويقولون:في فؤاد فلان لجاجة، وهو أن يخفق لا يسكن من الجوع».
قال السندي في شرحه: «‏أَي الْمُؤْمِن الثَّابِت عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَان وَالتَّقْوَى يَنْشَرِح صَدْره لِلْخَيْرِ فَيَصِير لَهُ عَادَة، وَأَمَّا الشَّرّ فَلَا يَنْشَرِح لَهُ صَدْره فَلَا يَدْخُل فِي قَلْبه إِلَّا بِلَجَاجَةِ الشَّيْطَان وَالنَّفْس الْأَمَارَة،وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِق لِحَدِيثِ: «دَعْ مَا يَرِيبك إِلَى مَا لَا يَرِيبك وَالْإِثْم مَا حَاكَ فِي صَدْرك وَإِنْ أَفْتَاك الْـمَفْتُون». وَالْمُرَاد أَنَّ الْخَيْر مُوَافِق لِلْعَقْلِ السَّلِيم، فَهُوَ لا يَقْبَل إِلا إِيَّاهُ وَلا يَمِيل إِلا إِلَيْهِ، بِخِلافِ الشَّرّ فَإِنَّ الْعَقْل السَّلِيم يَنْفِر عَنْهُ وَيُقَبِّحهُ.
وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالْخَيْرِ وَالشَّرّ الْحَقّ وَالْبَاطِل، وَلِلْحَقِّ نُور فِي الْقَلْب يَتَبَيَّن بِهِ أَنَّهُ الْحَقّ، وَلِلْبَاطِلِ ظُلْمَة يَضِيق بِهَا الْقَلْب عَنْ قَبُوله؛ فَلا يَدْخُل فِيهِ إِلا بِتَرَدُّدٍ وَانْقِبَاض لِلْقَلْبِ عَنْ قَبُوله، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِق لِلْمَثَلِ الْمَشْهُور: «الْحَقّ أَبْلَجُ وَالْبَاطِل لجلج» مِنْ غَيْر أَنْ يَنْفُذ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا بَيَان مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْمُؤْمِن عَلَيْهِ، أَيْ اللَّائِق بِحَالِهِ أَنْ يَكُون الْخَيْر عَادَته وَالشَّرّ مَكْرُوهًا لَا يَدْخُل عَلَيْهِ إِلَّا لِلَّجَاجَةِ»اهـ.
فعلى المسلم أن يتحرى الخيرات ويستكثر منها حتى يعتاد عليها ، ويعرف بها، ويألفها فيموت عليها ويختم له -بإذن الله- بخاتمة السعداء، كما عليه أن ينفر من الشرور والآفات، ويتباعد عنها، حتى يقوى في قلبه إنكارها ويزيد بغضها، ويفر منها ومن أهلها، فيكون كما أراده الله تعالى من عباده المخلِصين المخلـَصين، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 02-10-2023, 12:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (25)

«إذا اشتريت اليوم ما هو كمالي تبيع غدا ما هو ضروري».



هذه الكلمة الحكيمة تتناول سلوكا اجتماعيا منتشرا في مجتمعاتنا - وللأسف - وهو الرغبة في الشراء والتملك دون ضوابط شرعية أو معايير اقتصادية؛ مما يعود بالآثار السلبية على الأفراد والأسر والمجتمعات.
فسوء تنظيم الإنسان لأموره المالية، وعدم كبح جماح طموحاته الاجتماعية يدفعانه إلى التمادي في الاستهلاك والاقتراض، وكثير من الآباء والأمهات لا يرفضون لأولادهم طلبا لكيلا يشعروهم بالنقص مع أقرانهم، في حين أنه من أساسيات التربية تنشئة الأبناء على التفريق بين ما يحتاجون إليه وما يريدونه؛ ليميزوا بين الحاجيات والكماليات، وما يلزم تحقيقه وما يمكن تأجيله، ليغرسوا هذا المبدأ في أبنائهم في المستقبل.
كما أن حب التقليد والمحاكاة للطبقات الغنية، من التفاخر والمباهاة بالمقتنيات، وتقييم الإنسان من خلال لباسه وسيارته وبيته وأثاثه وقيمة مقتنياته، والتركيز على المظاهر الجوفاء دون المعاني والقيم والمبادئ من أسباب تفشي هذه الظاهرة.
وللإعلام دور خطير في غرس هذا النمط الاستهلاكي عند الناس، فمن الأصول التسويقية: إن استطعت إقناع الزبون بشراء سلعتك مع أنها أكثر تكلفة من مثيلاتها فأنت مروج ناجح، أما إذا أقنعته بشرائها مع أنه لا يحتاجها فأنت أكثر نجاحا، أما أكثر المروجين نجاحا فهو الذي يقنع عميلا بشراء سلعة أكثر تكلفة وهو لا يحتاجها ولا يملك ثمنها.
أما آثار هذا السلوك فهي عديدة، منها:
1- الذل والهم : الذي يخيم على نفوس كثير من أرباب الأسر بسبب الديون والأقساط، وقد كان النبي[ يستعيذ بالله من الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال؛ لما يترتب على ذلك من آثار نفسية عميقة، ومشكلات صحية وأمراض مزمنة.
2- كثرة السؤال: انتشر بين الناس كثرة السؤال المكروه شرعا كما جاء في الحديث: «وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وقال[: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر» أخرجه مسلم، وقال[: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» قيل: وما الغنى؟ قال:«خمسون درهما أو قيمتها من الذهب»أخرجه أحمد والأربعة.
3- عدم القناعة بما قسم الله عز وجل للعبد من رزق فيتطلع إلى ما ليس في وسعه ولا استطاعته، ويسعى لمحاكاة الآخرين بالديون والأقساط، وقد حثنا الدين على القناعة فقال [: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» أخرجه مسلم.
4- كثرة المشكلة الأسرية: إما بسبب كثرة مطالبات الزوجة والأبناء لرب الأسرة مع ضعف إمكانياته المادية وما يتبع ذلك من مشاحنات وسوء العلاقات الأسرية، وإما بسبب تورط رب الأسرة في الديون والشيكات بغير رصيد وما يتبع ذلك من سجنه وضياع عمله وتشتت أبنائه وانحرافهم لغياب رقابة الأب عليهم.
5- تربية الأبناء على الإسراف والبذخ والتبذير ، والظهور بمظهر الرفاهية المزيفة، فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال[: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور».
ويكمن أساس هذا السلوك الاجتماعي السلبي في غياب الوعي الشرعي بأهمية حفظ المال واستثماره وخطورة الديون وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
فالشارع يقرر أن المال مال الله، ونحن مؤتمنون عليه ومسؤولون عنه كما قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، وقال: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وقال[: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، وقال[ لأبي ذر لما أبصر أحدا: «ما أحب أنه يحول لي ذهباً يمكث عندي مائة دينار فوق ثلاث إلا دينارا أرصده لدين» أخرجه البخاري، وقال[: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» أخرجه الترمذي.
وقد أكد الشارع أهمية الاعتدال والتوسط في الإنفاق دون إسراف ولا بخل، فقال عز وجل: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، قال الجرجاني: «الإسراف هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحد في النفقة»، وقال ابن القيم في تفسير الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهلهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدل خيار، وخير الأمور أوسطها».
وقال عز وجل: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: «هم الذين ينفقون المال في غير حقه».
وقال ابن سعدي معللا اقتران المبذرين بالشياطين: «لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة، فيدعو الإنسان على البخل والإمساك، فإذا عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير، والله تعالى إنما يدعو بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وقال هنا: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}، كناية عن شدة الإمساك والبخل {ولا تبسطها كل البسط}، فتنفق فيما لا ينبغي، وزيادة على ما ينبغي {فتقعد} إن فعلت ذلك {ملوما} أي: تلام على ما فعلت {محسورا} أي: حاسر اليد فارغها، فلا يبقى ما في يدك من المال ولا خلفه مدح ولا ثناء»اهـ.
وقال رسول الله[: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه أحمد، وقال[: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» أخرجه البخاري.
قال الشيخ ابن سعدي: وقوله: «وإضاعة المال» وذلك إما بترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسراق والضياع، وإما بإهمال عمارة عقاره، أو الإنفاق على حيوانه، وإما بإنفاق المال في الأمور الضارة، أو غير النافعة، فكل ذلك داخل في إضاعة المال.قال: «وما كرهه الله لعباده، فهو يحب منهم ضدها» وذكر أنه سبحانه يحب من عباده «أن يحفظوا أموالهم ويدبروها، ويتصرفوا فيها التصرفات النافعة، ويصرفوها في المصارف النافعة»اهـ.
ونختم بوصية نفيسة لابن الجوزي حيث يبين حال العاقل في فقره أو غناه فيقول: «العاقل يدبر بعقله معيشته في الدنيا، فإن كان فقيرا اجتهد في كسب وصناعة تكفّه عن الذل للخلق، وقلّل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليما من منن الناس عزيزا بينهم، وإن كان غنيا فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك - إن أكثر - لإصابته بالعين، وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره».


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 02-10-2023, 12:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (26)

لا يكلف الله نفساً إلا وسعها



هذه الآية الكريمة دليل على سعة رحمة الله تعالى بعباده، وكريم فضله وإنعامه عليهم؛ إذ إن التكاليف الشرعية والمطلوبات الدينية موضوعة على حسب القدرة والطاقة، لا تخرج عن الوسع الإنساني والجهد البشري، وذلك لرحمة الله تعالى بعباده، وعلمه بضعفهم وعجزهم، ومن هنا ندرك أن مقصود الشارع الحكيم هو التيسير على المكلفين، وأن ما تشتمل عليه التكاليف الشرعية من مشقة ليس المقصود منها المشقة ذاتها، وإنما المقصود المصالح المترتبة على تلك التكاليف، كمثل الطبيب الماهر يلزم المريض بتناول الدواء المر لا يقصد بذلك إيلامه وإنما يقصد سلامته من المرض.
قال ابن كثير:«قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا} أَي:لا يُكَلَّف أَحَد فَوْق طَاقَته، وَهَذَا مِنْ لُطْفه تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَرَأْفَته بِهِمْ وَإِحْسَانه إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ النَّاسِخَة الرَّافِعَة لِمَا كَانَ أَشْفَقَ مِنْهُ الصَّحَابَة فِي قَوْله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ اللَّه} أَيْ: هُوَ وَإِنْ حَاسَبَ وَسَأَلَ لَكِنْ لَا يُعَذِّب إِلَّا بِمَا يَمْلِك الشَّخْص دَفْعه، فَأَمَّا مَا لَا يَمْلِك دَفْعه مِنْ وَسْوَسَة النَّفْس وَحَدِيثهَا فَهَذَا لَا يُكَلَّف بِهِ الْإِنْسَان »اهـ.
قال الطبري:» يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} فَيَتَعَبَّدهَا إلا بِمَا يَسَعهَا , فَلَا يُضَيِّق عَلَيْهَا , وَلَا يُجْهِدهَا، عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله: {لا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إلَّا وُسْعهَا} قَالَ: هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسِعَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَمْر دِينهمْ , فَقَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج}، وَقَالَ: {يُرِيد اللَّه بِكُمْ الْيُسْر وَلَا يُرِيد بِكُمْ الْعُسْر}، وَقَالَ: {اتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ}»اهـ.
قال ابن سعدي: «لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، فأصل الأوامر والنواهي أنها ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم»اهـ.
من المعلوم أن التكليف: هو إلزام مقتضى خطاب الشرع، وشرطه العلم والقدرة، قال شيخ الإسلام: «من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل؛ فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، فلابد من أمرين ليتحقق التكليف: الأول: التمكن من العلم، والثاني: القدرة على العمل.
ومن الأدلة على الأمر الأول: قوله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال عز وجل: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، قال شيخ الإسلام: بين سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ومن علم أن محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما جاء به الرسول، لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فأنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى. وقال: فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه.
ومن الأدلة على الأمر الثاني: قوله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال عز وجل: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}، قال شيخ الإسلام: «تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وتأمل قوله {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق ولا حرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر عليهم ولا ضيق ولا حرج».
فالذي يظهر لنا أن المشقة التي اشتملت عليها التكاليف الشرعية مشقة معتادة محتملة، كتلك التي يحتملها الناس عند القيام بمصالحهم الحياتية كالدراسة والعمل ونحوهما من مشاق مألوفة معتادة، فمشقة التكاليف الدينية ليست مشقة خارجة عن قدرتهم، ولا هي مشقة عظيمة ترهقهم وتثقل عليهم، فالشارع الحكيم يريد التخفيف عن العباد ورحمتهم والرفق بهم، فمشقة التكاليف معتادة محتملة.
ومن هنا نقرر أنه ليس للمكلف أن يقصد إلى المشقة من حيث هي مشقة يريد أن يرهق نفسه يظن أن الأجر على قدر المشقة لأنه بذلك يخالف مقصود الشارع من تشريع الأحكام التكليفية، ولم يفرق بين المشقة العارضة والمشقة المقصودة، فالمشقة من حيث هي مشقة ليست مقصودة، وإنما إذا عرضت المشقة له أثناء امتثاله فصبر عليها فهنا يقال: الأجر على قدر المشقة، كمن صام رمضان في الصيف الحار، أو توضأ بالماء البارد الذي لا يجد ما يسخنه به، فهنا المشقة عارضة وليست لازمة، بدليل أن رمضان قد يأتي بالشتاء، وماء الوضوء يمكن أن يسخن لدفع برده.
ولهذا كان النبي[ يمنع أصحابه من قصد المشقة لذاتها لأن ذلك ليس مقصودا للشارع، فقد قال [: «عليكم من الأعمال ما تطيقون» فإن الله لا يمل حتى تملوا»، وحين قالت له عائشة رضي الله عنها: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل، فقال [: «لا تنام الليل ! خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا»، وفي حديث أنس قال: دخل رسول الله [ المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: «حلوه! ليصلّ أحدكم نشاطه, فإذا كسل أو فتر قعد»، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَا النَّبيُّ [ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: «أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ».
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنها سأل النبي [ عن أخت له نذرت أن تحج ماشية غير مختمرة، فقال: «مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام» وفي رواية: «إن الله غني عن مشي أختك؛ فلتركب ولتهد بدنة»، وفي رواية أخرى:«إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، لتحج راكبة ثم لتكفر يمينها‏».
وعَنْ أَنَسٍ أن النَّبِيِّ [ رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال‏:‏ «ما بال هذا‏؟»‏ قالوا‏:‏ نذر أن يمشي‏»،‏ قَالَ:» إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ ‏»‏ وأمره أن يركب.
فالخلاصة أن رحمة الله تعالى واسعة تجلت في خلقه وشرعه، فعلى المكلف أن يدرك هذه الرحمة، ويشكر ربه عليها، ويعمل بها وفق المقاصد الشرعية، دون إفراط ولا تفريط، ولا مخالفة لمقاصد الشارع ولا أحكامه، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 07-10-2023, 10:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (27)

رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم



نعمة الكلام والإبانة عن المراد من أجلّ النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده وميزهم بها عن البهائم كما قال تعالى: {الرحمن. علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان}.
قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ فَضْله وَرَحْمَته بِخَلْقِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى عِبَاده الْقُرْآن وَيَسَّرَ حِفْظَهُ وَفَهْمَهُ عَلَى مَنْ رَحِمَهُ، ثم نقل عن الْحَسَن تفسير قوله {علمه البيان} قال: يَعْنِي النُّطْق، وَقَالَ الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا: يَعْنِي الْخَيْر وَالشَّرّ وَقَوْل الْحَسَن هَاهُنَا أَحْسَن وَأَقْوَى لِأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.»اهـ.
ويرى الطبري أن البيان أشمل من مجرد النطق فقال: «وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ مِنْ أَمْر دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْحَلال وَالْحَرَام, وَالْمَعَايِش وَالْمَنْطِق, وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا بِهِ الْحَاجَة إِلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَخْصُصْ بِخَبَرِهِ ذَلِكَ, أَنَّهُ عَلَّمَهُ مِنَ الْبَيَان بَعْضًا دُون بَعْض , بَلْ عَمَّ .»اهـ.
قال الطاهر بن عاشور: «{علمه البيان} خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد، أي علم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيد غيره ويستفيد هو. والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك»اهـ.
ومن يتأمل في أحوال الناس يجد أن في كثير منهم حب الكلام والاستكثار منه فيما ينفع وفيما لا ينفع، فيما يعلم وفيما يجهل فيما يهمه وفيما لا يعنيه ، بل إن بعضهم قد اتصف ببعض الصفات المقيتة كما قيل: فلان متشدق، ثرثار، مهذار، غث المنطق، تافه الكلام، يتمنطق بالهراء، ويتنطع بفضول القول، ويتكثر بلغو المقال، إذا تكلم انصرفت عنه الوجوه، وأعرضت عنه القلوب، وانقبضت منه الصدور، وسئمته النفوس.
ولهذا نجد النصوص الشرعية والآداب الدينية تقرر فضيلتين لا غنى للمسلم عنهما، وهما؛ إما النطق بخير أو الصمت وحفظ اللسان، فعن أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت» متفق عليه.
قال النووي: «معناه: أنه إذا أراد أن يتكلم؛ فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه؛ واجبا أو مندوبا، فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه، مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا، وقد قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.
ونقل عن القشيري أنه قال: «الصمت بسلامة هو الأصل ، والسكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال»اهـ.
وقال [ : «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم, أو سكت عن سوء فسلم» حسنه الألباني، وهو ظاهر الدلالة في تقرير هذا الأصل الكريم في قول الخير أو السكوت والصمت.
والنصوص الشرعية التي تقرر خطر اللسان كثيرة مما يدل على فضل الصمت وقلة الكلام ، منها قول النبي [ : «إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب». متفق عليه، قال النووي: «معناه: لا يتدبرها ويفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كله حث على حفظ اللسان».
عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال [ : «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»، وقال سفيان بن عبد الله:قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال [ :»قل: ربي الله، ثم استقم»، قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:»هذا».
وقد تتابع العلماء من الصحابة ومن بعدهم على الحث على حفظ اللسان والصمت عن السوء، قال أبو الدرداء:» أنصف أذنيك من فيك، فإنما جُعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم»، وقال ابن مسعود: «والله الذي لا إله إلا هو، ليس شيء أحوج إلى طول حبس من لساني»، وكان يقول: «يا لسان قل خيرا تغنم ، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم»، وقال أبو الدرداء: «لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: منصت واع ٍ، أو متكلم عالم»، وقال الأوزاعي: «ما بلي أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه».
وما أحسن نصيحة أبي حاتم البستي حين قال :«الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في حفظ اللسان حتى يستقيم له؛ إذ اللسان هو المورد للمرء موارد العطب، والصمت يكسب المحبة والوقار، ومن حفظ لسانه أراح نفسه، والرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، والصمت منام العقل، والمنطق يقظته»اهـ
ولا يخفى أن الجدل والاعتراض والنقاش العقيم بين الناس سبب لكثير من البغضاء والخصومات ، فبعض الناس هوايته الجدل وإجبار الناس على قبول رأيه ، ومتعته في تسفيه آراء الآخرين، في حين أن الأمر واسع واختلاف وجهات النظر فيما يتسع فيه المجال للتنوع ليس مبررا للخصومة والجدل؛ فاحفظ للجليس كرامته باحترام رأيه وليس من الضرورة أن توافقه، فالصمت في مثل هذه المواضع خير من الجدل العقيم، كما قال البستي:» الواجب على العاقل ألا يغالب الناس على كلامهم ، ولا يعترض عليهم فيه؛ لأن الكلام - وإن كان في وقته - حظوة جليلة فإن الصمت في وقته مرتبة عالية، ومن جهل بالصمت عيّ بالمنطق، والإنسان إنما هو صورة ممثلة أو صالـّة مهملة ، لولا اللسان ، والله جل وعز رفع جارحة اللسان على سائر الجوارح، فليس منها شيء أعظم أجرا منه إذا أطاع ، ولا أعظم ذنبا منه إذا جنى»اهـ.
فما أحوجنا إلى لزوم الصمت والإقلال من الكلام في زمن أصبح فيه الكلام مصدر للرزق، فهناك من يثري من ثرثرة بعضنا، بل ويحثنا على كثرة الكلام ليستنزف أموالنا، واسمع نصيحة البستي حين قال: «الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر من ندم إذا نطق، وأقل من يندم إذا سكت ، وأطول الناس شقاء، وأعظمهم بلاء من ابتلي بلسان مطلق، وفؤاد مطبق».اهـ.



اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 07-10-2023, 10:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (30)

المسلمون على شروطهم




من الصفات التي رسخها الإسلام، ومدحها القرآن، ورتب عليها الجزاء الجزيل والثواب الوفير، الوفاء بالعهود، وأداء الالتزامات، فقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، وقال تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}، وقال تعالى في مدح المؤمنين: {إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق}، وقال تعالى: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}، وغير ذلك من الآيات التي وردت بشأن الوفاء بالعهود والعقود وسائر الالتزامات للخالق سبحانه وللمخلوقين .
والوفاء هو إتمام العهد وإكمال الشرط، وهو ضد الغدر، والعرب تمدح الشخص بهذه الصفة فتقول: فلان برّ، وفيّ، كريم العهد، صادق الوعد، وثيق الذمة، صحيح الموثق، ثابت العقد .
وقد بيـّن الراغب الأصفهاني أن الوفاء من الصفات اللازمة للإنسانية الدال على كمال الشخص ورفعته فيقول: «الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أن الوفاء صدق باللسان والفعل معا، والغدر كذب بهما، وفيه مع الكذب نقض العهد، والوفاء يختص بالإنسان ، فمن فقده فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وجعل الله العهد من الإيمان، وصيره قواما لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفعت المعايش، ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال تعالى: {وأوفوا بعهدي أُوف ِبعهدكم وإياي فارهبون}، وقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}، وقال تعالى: {وثيابك فطهر}أي: نزه نفسك عن الغدر، وقال عز وجل: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} وقال عز وجل: {والذين لأماناتهم وعهدهم راعون} ولقلة وجود ذلك في الناس قال تعالى : {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} اهـ.
ومن الأحاديث الجامعة التي أكدت أهمية الوفاء بالعهود والالتزامات حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: قال النبي [ : «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما» أخرجه أبو داود والترمذي .
ومعنى قوله [ : «المسلمون على شروطهم» أي: ثابتون عليها لا يرجعون عنها، فالمسلم يوفي بما عليه من حقوق وواجبات ولا يتهرب منها، ولا يتحايل لإسقاطها والتملص منها، بل إن دينه وإيمانه يحمله على أداء الحقوق والوفاء بالالتزامات .
فهذا الحديث تناول أحكاماً شرعية عدة؛ منها: وجوب الوفاء بالعهود والالتزامات التي يعقدها الإنسان على نفسه سواء مع الله تعالى بمقتضى إسلامه كالقيام بواجب الإيمان والإخلاص ونبذ الشرك والمعاصي، وكأداء العبادات الواجبة، أو ما يعقده الإنسان مع غيره من المسلمين أو غيرهم من معاملات وتبرعات وغيرها من تصرفات لازمة كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.
أما الحكم الثاني الذي يستفاد من هذا الحديث فهو أن الأصل في الشروط والعقود هو الحل والإباحة إلا ما قام الدليل على بطلانه كما قال شيخ الإسلام: «الأصل في الشروط الجواز والصحة، والتزامها لمن شرطت عليه، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله» اهـ
وقال أيضا: «فالأصل في العقود كالأصل في الأفعال العادية (عدم التحريم)؛ لأنها ليست من العبادات، وقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت تحريمه بعينه ، وانتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم، فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا» اهـ .
أما استدلال بعض العلماء بقوله [ : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» -متفق عليه- على أن الأصل في الشروط الحظر إلا ما دل عليه الدليل النقلي، فالجواب عنه بما قاله ابن بطال أن: «المراد بـ (كتاب الله) هنا حكمه من كتاب الله أو سنة رسوله [ ، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروطا - من أوصافه ومن نجومه - ونحو ذلك فلا يبطل «اهـ.
وقال ابن القيم في بيان المراد بـ (كتاب الله في الحديث): «ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بـ (كتاب الله) حكمه، كقوله: {كتاب الله عليكم} وقول النبي [ : «كتاب الله القصاص»، فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا»اهـ.
أما الحكم الثالث الذي دل عليه الحديث فهو أن الشروط نوعان: شروط صحيحة، وشروط فاسدة، فالشروط الصحيحة لازمة، وأما الشروط الفاسدة فهي لاغية.
قال الخطابي في بيان مورد الحديث: «هذا في الشروط الجائزة في حق الدين دون الشروط الفاسدة، وهو من باب ما أمر الله تعالى من الوفاء بالعقود».
وقال الشيخ ابن سعدي: «إن الشروط في جميع العقود نوعان: صحيحة وباطلة:
فأما الصحيحة: فهي كل شرط اشترطه المتعاقدان لهما، أو لأحدهما فيه مصلحة، وليس فيه محذور من الشارع، قال: فإنها شروط لازمة للمتعاقدين، إذا لم يف أحدهما بما عليه منها كان للآخر الفسخ . ثم ذكر أمثلة من الشروط الصحيحة؛ كأن يشترط المشتري أن الثمن أو بعضه مؤجل بأجل مسمى، أو يبيع الشيء ويشترط البائع أن ينتفع به مدة معلومة، ومثل أن يشترط سكنى البيت أو الدكان مدة معلومة أو يستعمل الإناء مدة معلومة وما أشبه ذلك، وكذلك شروط الرهن والضمان والكفالة هي من الشروط الصحيحة اللازمة، ومثل الشروط التي يشترطها المتشاركان في مضاربة أو شركة، ومثل شروط الواقفين والموصين في أوقافهم ووصاياهم من الشروط المقصودة، وكذلك الشروط بين الزوجين، فكلها صحيحة إلا شروطا تحلل الحرام وعكسه كالتي تعود إلى الجهالة والغرر .
وأما الشروط الباطلة : فهي التي تضمنت إما تحليل حرام أو تحريم حلال، ويدخل فيها جميع الشروط الباطلة في البيع والإجارة والرهن والوقف والنكاح؛ فإنها مشتملة على تحريم الحلال أو تحليل الحرام، ومن تأملها وجدها كذلك «أهـ.
فحري بالمسلم أن يفي بالشروط والحقوق، ويحذر من الغدر والخيانة لأنهما من أسباب ورود النار كما قال [ : «المكر والخديعة والخيانة في النار» حديث حسن(ص.ج.6726)، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 07-10-2023, 10:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (31)

إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخريـن ما يستحقــون


العدل من أهم القيم الإسلامية ، ومن أعظم الأسس التي يقوم عليها التشريع والمجتمع والأخلاق، والعدل يقتضي القيام بحقوق الله تعالى، والقيام بحقوق العباد تامة غير منقوصة ، فبعض الناس - وهم قلة - يطالبون بحقوقهم وزيادة، لكنهم لا يؤدون واجباتهم تجاه الله تعالى ولا تجاه العباد، وهذا ليس من العدل ولا الإنصاف، فميزان القسط يقتضي التوازن بين الحقوق والواجبات، بحيث يؤدي الإنسان ما عليه من واجبات قبل أن يطالب بما له من حقوق، أما العكس فهي أثرة مقيتة وأنانية كريهة، إذا غرست بذورها في الأفراد والمجتمع أنبتت آثارا وخيمة من الفساد والبغضاء والحقد والفوضى والتذمر من ضياع الحقوق واستئثار البعض بالفرص ، وربما تجاوز الأمر القول إلى الفعل بإلحاق الأذى بالآخرين انتقاما منهم وعقوبة لهم .
ولهذا ذم الشرع الأثرة وحذر من آثارها، وأمر بالصبر والمطالبة بالحقوق وفق السبل المشروعة واجتناب الفوضى أو سلوك الطرق غير المشروعة .
فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَلاَ بِرَسُولِ اللهِ [ فَقَالَ: أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا؟ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِيَ أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ [ : «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ».
فمن العدل أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملونك، وذلك بأداء الحقوق والتزام الواجبات ومراعاة الآخرين، ولذا قيل: «إن أردت التنعم بما تستحق هب الآخرين ما يستحقون»، وهذا المبدأ هو ما دلت عليه السنة المطهرة ،فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي [ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» متفق عليه.
قال النووي: «معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: «حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه».
ومن كمال الإيمان أن يحب المسلم لإخوانه ما يحب لنفسه، وأن يبغض لهم ما يبغضه لنفسه، قال ابن رجب: «والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه، وقد روي أن النبي [ قال لأبي هريرة: «أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا» أخرجه الترمذي وهو حسن‏(ص.ج:7833)
ومن النصوص الشرعية التي تؤكد هذا المعنى قوله [ : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم.
قال النووي: «هذا من جوامع كلمه [ وبديع حكمه، وهذه مهمة، فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه».
فالمؤمن صحيح الإيمان يراعي إخوانه المسلمين، فيقوم لهم بما يستحقونه منه، كما يحب منهم أن يقوموا له بما يستحقه عليهم، سواء ما تعلق بالأمور المالية أومالسلوكية، فإذا كنت تحب أن يحترمك الناس فاحترمهم، وإذا كنت تكره منهم أن يغشوك أو يأكلوا مالك بغير حق فلا تفعل ذلك بهم، وإذا كنت تريد منهم أن يحفظوا غيبتك ويحترموا خصوصيتك فابدأ بنفسك واحفظ غيبتهم واحترم خصوصيتهم، وهكذا في كل الأمور، فلو وضع الإنسان نفسه مكان غيره لعرف التصرف الصحيح في كل موقف، إلا أن بعض الناس يظن أنه يعيش في هذه الدنيا منفردا فيفعل ما يريد دون مراعاة لحقوق الآخرين أو مشاعرهم، أو يتوهم أنه مركز الكون فعلى الناس أن يدوروا حوله مؤدين الحقوق والواجبات له، وليس لهم عليه شيء ولا أن يطالبوه بحق ولا أداء واجب، ولاشك أن هذه أنانية مفرطة ونرجسية بغيضة، فالمؤمن يحب لنفسه ما يحب لإخوانه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه .
وقد كان النبي [ يطبق هذا المبدأ عمليا مع أصحابه ، فقد قال لأبي ذر رضي الله عنه : « يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم»، قال ابن رجب:» وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه، وهو يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس لأن الله قواه على ذلك وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم»اهـ.
ويبين ابن رجب أن تحصيل هذه الصفة الطيبة إنما يكون بسلامة الصدر من أمراض القلوب فقال: «وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ويريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه من الخير، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد بها عنهم والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء «اهـ.
وفي الختام، فإن دعوى الأخوة الإيمانية تحتاج إلى دليل عملي يصدقها، ولا أدل على ذلك من حسن الخلق مع المؤمنين كما قال النبي [ : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»، ورأس ذلك أن يقيم المسلم أخوانه مقام نفسه، فيحب لهم ما يحب لها، ويكره لهم ما يكره لها، كما وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله : {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
كما أن المجتمعات تتقدم وتزدهر بالتعاون والتكامل، وأن يقدم كل فرد أحسن ما عنده لخدمة إخوانه ومجتمعه كما أمر الله تعالى عباده فقال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، أما الأنانية والأثرة فباب الفساد والشر، وعنوان العداوة والقطيعة ، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من كل إثم، وبالله التوفيق .



اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 07-10-2023, 10:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,521
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (32)

قل لله العـزة جميعاً



يرسخ الإسلام في أتباعه المؤمنين العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة والقيم الرفيعة، ليكونوا مثالا حيا وصورة واقعية للمسلم الحق الذي يريده لله تعالى، المسلم الذي يخلص دينه لله تعالى، فيتحرر من قيود الوثنية والعبودية لغير الله التي أذلت رقاب الناس للناس، وجعلتهم أسرى للأفكار البشرية والعقائد الشركية، فأذهانهم عليلة، ونفوسهم ذليلة، وأبدانهم أسيرة .
أما المسلم الحق فإنه حر القلب والعقل والبدن، فهو عالي الهمة، عزيز النفس، شريف الطبع، لا يعنو لقهر، ولا يقيم على مذلة، غرس الإسلام فيه معاني الكرامة، وأصول الأنفة، وقواعد العزة، كما قال عمر:» إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله».
والعزة كما يعرفها الأصفهاني: «حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز أي: صلبة، والعزيز: الذي يقهر ولا يُـقهر قال تعالى :{ إنه هو العزيز الحكيم} وقال تعالى:{سبحان ربك رب العزة}، فقد يمدح بالعز تارة كما ترى، ويذم بها تارة كعزة الكفار قال:{ بل الذين كفروا في عزة وشقاق}، ووجه ذلك أن العزة التي لله ولرسوله وللمؤمنين هي الدائمة الباقية التي هي العزة الحقيقية، والعزة التي هي للكافرين هي التعزز، وهو في الحقيقة ذل كما قال عليه الصلاة والسلام: «كل عز ليس بالله فهو ذلّ»، وعلى هذا قوله:{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} أي: ليتمنعوا بهم من العذاب، وقوله :{من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} معناه: من كان يريد أن يعز يحتاج أن يكتسب منه تعالى العزة فإنها به، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة المذمومة وذلك في قوله: {أخذته العزة بالإثم}ـ» اهـ.
وأما ورودها في القرآن الكريم فهو على أوجه كما ذكر ذلك ابن الجوزي في الوجوه والنظائر فقال : «العزة في القرآن على ثلاثة أوجه:
- أحدها : العظمة،ومنه قوله تعالى: {وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}، وقال تعالى:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}.
- والثاني : المنعة، ومنه قوله تعالى :{أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
- والثالث: الحميّـة، ومنه قوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} وقال تعالى: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق}.»اهـ.
وجاءت العزة مضافة لله تعالى في مواضع منها قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }، وقوله تعالى:{سبحان ربك رب العزة عما يصفون}، وقوله تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
وأيضا جاء هذا المعنى في السنة المطهرة فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» مسلم.
والعزيز من أسماء الله تعالى الحسنى ومعناه كما قال ابن كثير: «العزيز الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه».
وهناك فرق دقيق بين العزة والكبر كما بينه الأصفهاني بقوله: «أما العزة فالترفع بالنفس عما يلحقها غضاضة، وأصلها من العزاز وهو الأرض الصلبة، فالمتعزز من حصوله في عزاز لا يلحقه فيه غضاضة، والعزة منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسه، وإكرامها عن الضراعة للأعراض الدنيوية، كما أن الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه وإنزالها فوق منزلتها، وكثير ما يتصور أحدهما بصورة الآخر، كتصور التواضع والتضرع والتذلل بصورة واحدة، وتصور الإسراف بصورة الجود، والبخل بصورة الحزم؛ ولهذا قال الحسن ] لمن قال له : ما أعظمك من نفسك؟ فقال: لست بعظيم ولكنني عزيز قال الله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وقال [: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه».
وسبيل تحصيل العزة المحمودة بلزوم طاعة الله تعالى وامتثال شرعه كما قال إبراهيم بن شيبان : «الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة».
وفي المقابل فإن المعصية تورث الذل والمهانة، قال ابن القيم : «المعصية تورث الذل ولابد، فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله، كان من دعاء بعض السلف :»اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك»، وقال الحسن البصري : «إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه»اهـ
كما أن الصفح والعفو من أسباب تحصيل العزة كما قال النبي [: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا»أخرجه مسلم، يوضح النووي معناه بأنه فيه وجهان:أحدهما : أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب،وزاد عزه وإكرامه، والثاني : أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك»اهـ.
ويبين الشيخ ابن سعدي المناسبة في الآية الكريمة بين العزة والكلم الطيب والعمل الصالح فيقول : «أي: يا من يريد العزة، اطلبها ممن هي بيده؛ فإن العزة بيد اللّه، ولا تنال إلا بطاعته، وقد ذكرها بقوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب، فيرفع إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه على صاحبه بين الملأ الأعلى { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } من أعمال القلوب وأعمال الجوارح {يَرْفَعُهُ } اللّه تعالى إليه أيضا، كالكلم الطيب.»اهـ.
ويؤكد ابن كثير هذا المعنى أيضا فيقول: «وَقَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَلِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا } أَيْ مَنْ كَانَ يُحِبّ أَنْ يَكُون عَزِيزًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَلْيَلْزَمْ طَاعَة اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يَحْصُل لَهُ مَقْصُوده؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَالِك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُ الْعِزَّة جَمِيعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدهمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَا يَحْزُنك قَوْلهمْ إِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا} وَقَالَ جَلَّ جَلَاله : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةَ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} َقَالَ قَتَادَة:{ مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَإِنَّ الْعِزَّة لِلَّهِ جَمِيعًا } أَيْ: فَلْيَتَعَزَّزْ بِطَاعَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ»اهـ.
فالخلاصة أن العزة من صفات الله تعالى؛ فعلى المسلم أن يسأل ربه من فضله، ويسلك طريق طاعته لتحصل له العزة في الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 168.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 162.86 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (3.59%)]