مقاصد الشريعة.. المفهوم والدلالة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4408 - عددالزوار : 847666 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3938 - عددالزوار : 384656 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 163 - عددالزوار : 59469 )           »          المستشرقون.. طلائع وعيون للنهب الاستعماري الحلقة الثالثة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 591 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          أبواب الجنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          المتسولون (صناعة النصب والاحتيال) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          إلى كل فتاة.. رمضان بوابة للمبادرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          أســـرار الصـــوم ودرجات الصائمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-11-2019, 07:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,300
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد الشريعة.. المفهوم والدلالة

عندما طرح أئمة المقاصد نظريات للمقاصد منذ الترمذي الحكيم (ت 296هـ) والقفال الكبير (ت 365هـ) والعامري الفيلسوف (ت 381هـ)، مرورًا بالجويني (ت 478هـ) والغزالي (ت 505هـ) والشاطبي (ت 790هـ)، وانتهاء بابن عاشور (ت 1379هـ/ 1973م) (1) والفاسي (ت 1380هـ/ 1974م)، كانت نظرياتهم تصنيفات لنصوص الشريعة حسبما تصوروا من غاياتها والمعاني التي شرعت من أجلها، ولكن قبل الشروع فيما يلي من محاولة لتحليل هذه التصنيفات حسب مفهوم رؤية العالم، وجب القول إن هدف هذا التحليل هو فهم آليات التجديد والإبداع في هذا العلم- علم المقاصد الشرعية- والاستفادة منها في البحث المعاصر، وليس الهدف من هذا التحليل الدعوة إلى نبذ نظريات المقاصد بدعوى عدم مناسبتها للعصر كما قد يتسنى لبعض «التفكيكين» المعاصرين ممن يتبنون فلسفات ما بعد الحداثة، مما سيأتي ذكره في مبحث لاحق، فقناعتي أن المقاصد والمقاصديين أمل كبير من آمال هذه الأمة في تجديد أصيل ومبدع ليس في علومها الشرعية فقط وإنما في علومها الاجتماعية والإنسانية على حد سواء، ولكن هذا التجديد لابد له- فيما يبدو لي- من فهم لقابليات التجديد في نظريات المقاصد نفسها حتى تفعل هذه القابليات التفعيل الصحيح دون إفراط تضيع معه الثوابت الإسلامية أو جمود تتحول فيه المعاني الاجتهادية إلى ثوابت مقدسة.


مقاصد الشريعة.. المفهوم والدلالة
د. جاسر عودة

وقد يسأل: كيف يكون المعنى الواحد نتيجة لرؤية العالم عند المجتهد وفي الوقت نفسه مقصودًا للشارع تعالى؟ والجواب هو أنه لا تناقض بين هذا وذاك، فالمقصد من النصوص الشرعية إما أن ينص الشارع عليه صراحة- كالعدل مثلًا- وإما أن يستقرأ مثل حفظ النسل، فأما المعنى المنصوص عليه صراحة فليس لرؤية العالم دخل في تصور معناه المجرد، ولكن في تصور تطبيقه في الواقع الاجتماعي، فقد تختلف الإجراءات المطلوبة لتحقيق مقصد العدل مثلًا من مجتمع لمجتمع، وهذا مثل ما يسمى عند الفقهاء بمراعاة العرف في تحقيق المناط.

وأما المعنى الذي يستقرأ فلا يتناقض استقراؤه مع كونه مقصودًا للشارع تعالى حسب غلبة الظن عند المجتهد، فإنما الأعمال بالنيات ولا يكلف الله تعالى العباد إلا بما تصل إليه عقولهم بعد بذل الوسع ويغلب على ظنهم الصواب، والله أعلم بمراده في جميع الأحوال، من ذا الذي يدعي أنه أصاب باستقراء أو استنباط قصد الله تعالى على القطع؟ إنما هو الظن والتكلف، ولكنه ظن كلما بني على باع في العلم واستقصاء في البحث اقترب من يقين واستحق به التكليف، فإذا غلب على ظن المجتهد أن معنى معينًا مقصودًا للشارع وجب عليه مراعاته ولزمه ذلك.
والمباحث التالية تضرب أمثلة على الاجتهاد الذي حدث عبر أجيال المقاصديين في مصطلحات الضرورات من المقاصد، وتحاول تحليل رؤية العالم على تطور هذه المصطلحات.
من حفظ النسل إلى بناء الأسرة
ذكر أبوالحسن العامري الفيلسوف «مزجرة هتك الستر» التي شرع لها حد الزنا في سياق إرهاصته المبكرة بالضرورات الخمس في كتابه «الإعلام بمناقب الإسلام»، ثم ورد التعبير الذي اختاره إمام الحرمين الجويني في برهانه وهو «عصمة الفروج»، ثم استخدم تلميذ الجويني أبوحامد الغزالي في مستصفاه تعبير «حفظ النسل»، وهو التعبير الذي تبناه الشاطبي- معلم المقاصد الأول- في موافقاته، أما المعلم الثاني- الطاهر بن عاشور- فقد قدم إبداعًا نوعيًّا حين كتب عن النظام الاجتماعي في الإسلام في إطار غايات الشريعة وأهدافها وكان رائدًا في هذا المقام للمعاصرين من أمثال الشيخ محمد الغزالي ود.يوسف القرضاوي وغيرهم.
وهذا التطور الذي دخل على هذا المصطلح عبر الأجيال كان موازيًا للتطور الذي حدث لثقافة التصورات في مجتمع المسلمين ورؤية العالم عند هؤلاء الأئمة الذين تفاعلوا مع الواقع فيما طرحوه من أطروحات. فـ«مزجرة هتك الستر» اقتصرت على بيان حكمة الحدود الشرعية في هذا الباب، كما ذكر العامري، وهو تعبير يصور مجتمعًا يسعى لسلامته وأمنه بردع المجرمين وهاتكي الأستار فيه، ولكن «عصمة الفروج»- وهو تعبير الجويني- لا يتعلق فقط بردع الجريمة في هذا الباب وإنما يعبر أيضًا عن مبدأ يمتد ليشمل خلقًا منشودًا وحقًّا من حقوق الفرد والمجتمع في عصمة فروجهم، أما «حفظ النسل» فهو أوسع من المفهومين السابقين لأنه يشمل درء المفاسد ودعم المبادئ المذكورة بالإضافة إلى مصلحة الفرد في حفظ فلذة كبده، بل يلقي تعبير حفظ النسل ظلالًا على مصلحة الأمة في حفظ الأجيال الناشئة، وهو مفهوم حضاري أوسع من قضية الزجر عن هتك الستر أو الحفاظ على عصمة الفروج.

ثم لما أدرج الشيخ القرضاوي «تكوين الأسرة الصالحة» (2) في مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل مباشر، عكس ذلك المصطلح رؤية للمجتمع تظهر فيها الأسرة كوحدة بنائه الأساسية، وهي رؤية تختلف عن الرؤية التقليدية، وهذا لا يعني أن تلغى «مزجرة هتك الستر» أو تسقط «عصمة الفروج» أو يتناسى «حفظ النسل» وإنما يعني أن يكون تحقيق هذه المصالح الفردية والجماعية جزءًا ونتيجة لبناء الأسرة وفي إطارها، وهو أولى، ولا يخفى أن إعطاء هذه الأولوية لمصلحة الأسرة يعزز من حقوق المرأة- التي تحتاج إلى دعم إذا ما استقرأنا الواقع المعاصر- وحقوق الأولاد الذين هم عماد مستقبل المجتمع والأمة، وحمايتهم جميعًا من التعسف والبخس، وبهذه المرونة في تطوير المصطلح المقاصدي توظف الشريعة الإسلامية في خدمة قضايا الأمة ومصالحها المعاصرة.
من حفظ المال
إلى التنمية الاقتصادية
تكلم العامري الفيلسوف عن مقصد سماه «مزجرة أخذ المال» التي شرعت لها حدود السرقة والحرابة، وذلك أيضا في سياق إرهاصته المبكرة بالضرورات الخمس، ثم كان تعبير إمام الحرمين في نفس المعنى عن مفهوم آخر من مفاهيم العصمة، وهو «عصمة الأموال» ثم طور أبوحامد الغزالي ذلك المعنى في مستصفاه إلى جزء من نظرية الحفظ عنده وسماه «حفظ المال»، وأصل الشاطبي لنفس المعنى في موافقاته، والمال مذكور في مواضع كثيرة من القرآن، وهو قوام حياة الناس، وأهمية كون المال من طيب الكسب ومكرمة الجود به وعار البخل به كلها مفاهيم أصيلة في ثقافة العرب وتصوراتهم. قال حاتم الطائي مثلا:
إذا كان بعض المال ربا لأهله
فإني بحمد الله مالي معبد
يفك به العاني ويؤكل طيبًا
ويعطى إذا منّ البخيل المطرد
أما في العصر الحديث، فقد توسع مفهوم المال ليشمل مفهوم الثروة والقيمة التي ترتبط بالاقتصاد المحلي والدولي، وعبرت عن هذا التطور نظريات «الاقتصاد الإسلامي» التي زاد البحث العلمي الجاد فيها خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة بعد ظهور مشاريع البنوك الإسلامية، ثم حدث تطور نوعي في تناول مقصد حفظ المال عند بعض المعاصرين، وأصبح مفهومًا اقتصاديًّا استقرأ السيد هادي خسروشاهي- مثلا- من أجله من نصوص الكتاب والسنة ما يلزم الدولة بتحقيق التكافل والتعادل والتقريب بين الطبقات بالإضافة إلى ما يحفظ أموال الأفراد من الاعتداء والغصب- وهو المفهوم الأساس (3).
وقد فسر بعض الباحثين المعاصرين حفظ المال بالازدهار الاقتصادي بل والتنمية، فمثلًا، كتب د.أبويعرب المرزوقي (4) (على الرغم من نقده لعلم المقاصد نفسه على أساس «عدم قطعيته»- ويناقش ذلك مبحث قادم): «إنما حفظه (أي المال) يكون بتحقيق شروط تكوينه السوي وأولها الدولة العادلة وشروط توزيعه المناسب للجهد والعدل بحسب ما فرضه الإسلام من معايير، فيكون الحفظ هنا تحقيق شروط المكافأة العادلة التي هي شرط شروط الازدهار الاقتصادي»، وكتب د.سيف عبدالفتاح: «المقاصد الكلية ليست إلا صياغة لمفهوم متكامل للتنمية من منظور حضاري» (5). وهذه الإضافات القيمة بحاجة إلى بحث وتأصيل حتى تربط بالنصوص الشرعية وتفسر من خلالها مصطلحات المقاصد تفسيرًا جديدًا أو لعلها تكون سبيلًا لتقديم مصطلحات مقاصدية جديدة في هذا الباب أقرب لرؤية العالم اليوم فيما يصلح الناس، وهذه آلية لتفعيل المقاصد تفعيلًا يمس مشكلات الناس ويتعامل مع واقعهم، فحسب تقارير الأمم المتحدة في الأعوام الأخيرة، تقع غالبية الدول الإسلامية (وتحتوي على نحو 90? من المسلمين) في مستوى أقل من المتوسط في مقياس التنمية البشرية، والذي هو مفهوم أوسع من التنمية الاقتصادية، تقيسه لجنة التنمية بالأمم المتحدة بناء على عدة مقاييس لمستويات الصحة ومحو الأمية والمشاركة السياسية وتفعيل دور المرأة وسلامة البيئة، بالإضافة إلى مستوى المعيشة».
وبناء على هذه المرونة التي يتمتع بها مصطلح المقاصد، فإنه يمكن صياغة مقصد «للتنمية البشرية» يكون له تميزه بإضافة مقاييس إسلامية تعبر عن قيم الإسلام الأصيلة، فمثلًا، محو الأمية واجب إسلامي، ولكن الإسلام لا يكتفي بمحو الأمية أو التعليم الأساسي لقياس مستوى التعليم في المجتمع كما هو الحال في مقياس التنمية البشرية الحالي، إذ يجعل الإسلام من طلب العلم فريضة دون تحديد حد أعلى لذلك ويجعل من التفوق في كل علم أيا كان فرضًا كفائيًّا إسلاميًّا، والمشاركة السياسية في مفهوم الإسلام لا تقاس فقط بنسبة التصويت في الانتخابات أو عدد الوزراء من طائفة أو أقلية ما، كما هو الحال في مقياس التنمية البشرية الحالي، وإنما المشاركة في صنع القرار السياسي على كل المستويات مسؤولية إسلامية على كل مسلم، سماها الرسول "صلى الله عليه وسلم" «النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم» (6).
من حفظ النفس والعرض إلى حفظ حقوق الإنسان
وحفظ النفس، وحفظ العرض أيضًا من المصطلحات التي عبرت عن تصور لقيم أساسية عبرت عنها كل أجيال المقاصديين، والمصطلحات التي استخدمت في هذا الباب هي: «حفظ النفس» و«مزجرة قتل النفس» و«حفظ العرض» و«مزجرة ثلب العرض» و«حفظ النسل» عند من ضم حفظ العرض إلى حفظ النسل في التقسيم مثل الجويني والغزالي والشاطبي، وتعبير النفس قد ورد بوضوح في القرآن الكريم، ولكن لم يرد فيه تعبير العرض، إلا أنه ورد في حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مثل: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله»، و«إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم» (7)، والعرض مكون أساسي من تصور الإنسان وعلاقاته الاجتماعية عند العرب- شاع في أشعارهم وأدبياتهم على مدار العصور، لعل من أشهرها الأمثلة التالية:
قال عنترة:
ولقد خشيتُ بأن أموت ولم تدر
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم ألقهما دَمي
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
سأمنح مالي كل من جاء طالبًا
وأجعله وقفًا على القرض والفرض
فإما كريم صنت بالمال عرضه
وإما لئيم صنت عن لؤمه عرضي
وقال حسان بن ثابت "رضي الله عنه" في المعنى نفسه:
أصون عرضي بمالي لا أدنسهُ
لا بارك الله بعد العرض في المال
وأما المعاصرون فقد شاع بينهم- في معرض الحديث عن حفظ النفس والعرض- مصطلح «حفظ الكرامة» أو «حفظ الكرامة البشرية» كنوع من التجديد أو التفسير لهذين المصطلحين (8)، ومفهوم الكرامة البشرية لصيق بمفهوم «حقوق الإنسان» الذي تصوره أيضا كثير من المعاصرين في تنظيرهم للمقاصد الشرعية في السياق نفسه (9)، وهذه آلية أخرى لتفعيل المقاصد تفعيلًا يمس مشكلات الناس ويتعامل مع واقعهم.
إلا أنني أرى أنه من الضروري أن تبحث مسألة حقوق الإنسان بشكل مفصل قبل إدماجها بالمقاصد الشرعية حتى يفرق بين ما يدعو إليه الإسلام من حقوق للإنسان تتفق فعلًا مع المبادئ (الأساسية) لحقوق الإنسان العالمية، وبين بعض التفسيرات والإلحاقات لهذه الحقوق في بعض المجتمعات والتي قد تختلف جذريًّا مع ثوابت الرؤية الإسلامية، فمفهوم الحرية التي اعتبرها الطاهر ابن عاشور وعدد من المعاصرين من مقاصد الشريعة الإسلامية- واستدلوا على ذلك باستقراء الكتاب والسنة- يختلف عن مفهوم الحرية عند كثير من الأوروبيين مثلًا، والذي قد تتعدى فيه حرية التعبير إلى حرية الإهانة والسخرية، وحرية اختيار الأزواج إلى حرية الشذوذ أو الخيانة، وحرية التصرف في البدن إلى حرية قتل المرء نفسه أو تعاطي المخدرات، وعليه فالأمر يحتاج إلى تحقيق حتى لا تفسر مفاهيم حقوق الإنسان بما يتناقض مع معايير الإسلام وثوابته، وحتى لا يطلق «مقصد حفظ حقوق الإنسان» على عواهنه ويساء استغلاله.
من حفظ العقل إلى
نماء الملكات العقلية والفكرية
مر حفظ العقل بتطور مماثل على مدار الأجيال من التركيز على حد الخمر فقط لكونها مذهبة للعقل إلى توسيع ذلك المفهوم حتى يشمل كل ما يتصل بالعقل من علم وفكر، فمثلًا، كتب د.يوسف القرضاوي: «أرى أن حفظ العقل يتم في الإسلام بوسائل وأمور كثيرة، منها: فرض طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، والرحلة في طلب العلم، والاستمرار في طلب العلم من المهد إلى اللحد، وفرض كل علم تحتاج إليه الأمة في دينها أو دنياها فرض كفاية، وإنشاء العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض اتباع الظن أو اتباع الهوى، كما ترفض التقليد للآباء وللسادة الكبراء، أو لعوام الناس، شأن «الإمعة»، والدعوة إلى النظر والتفكير في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء إلى آخر ما فصلناه في كتابنا «العقل والعلم في القرآن الكريم» (10).
ومن الجيل الجديد من المقاصديين، كتب د.سيف عبدالفتاح: «حفظ العقل ضرورة من ضرورات العمران- إن نسل كثير ونفوس لا تتمتع بالرشد والعقل إنما يعبر عن كم مهمل أو هو في أحسن الأحوال إضافة سلبية تتحرك ضد مقصود العمران- حفظ العقل باعتباره مناط التكليف وقاعدة حمل الأمانة وأساس لقيمة الاختيار، إن حفظ العقل من كل ما يسلبه من أفكار وتسميم وغسل مخ، وحفظه من كل ما يذهبه لهو تعبير عن الحفظ الأساسي اللازم لأن يمارس العقل وظيفته وفاعليته في تحرك إمكانات تسكين عناصر متعددة ضمن حياتنا المعاصرة (هجرة العقول- عقلية القطيع والعوام- غزو العقول- استلاب العقول...) (11). و«كتب د.أبويعرب المرزوقي: «القصد بحفظ العقل إن قلنا بنظرية المقاصد وسلمنا بوظيفة الحفظ لا التنمية ليس هو ما فهم الفقهاء كتحريم الخمر أو المخدرات، فمفسدات العقل من حيث هو ملكة طبيعية حرمت نصًّا ولا يحتاج فيها الناس إلى تعليل بمقصد حفظ العقل، إنما المقصود إن صحت نظرية المقاصد تحقيق شروط نماء الملكات العقلية بتحقيق شروط عملها بحرية» (12).
فمن هذه الأمثلة- وغيرها- يظهر التطور الذي يحدث لمصطلح حفظ العقل تبعًا لتغير رؤية العالم لدى المقاصديين، فظهر مثلا تأثير السياسة والاقتصاد في مفهوم «هجرة العقول» الذي ذكره د.سيف، وتأثير الأعراف الاجتماعية والعلمية على مفهوم «العقلية العلمية» الذي ذكره الشيخ القرضاوي، وقس على ذلك.
وهذا التطور في المقاصد سواء وقع من باب إعادة التفسير مع الإبقاء على المصطلح الأصلي (حفظ العقل)- وإعادة التفسير على أي حال سمة عامة في الاتجاهات الفكرية الإسلامية المعاصرة- أو وقع من باب إعادة نحت المصطلح نفسه مثل «مقصد نماء الملكات العقلية والفكرية»، فتوظيف مصطلح المقاصد في التنمية الفكرية والعلمية لا تخفى فوائده.
من حفظ الدين إلى كفالة الحريات الدينية
والمثال الأخير الذي يوضح أثر رؤية العالم على المصطلح المقاصدي هو مفهوم حفظ الدين، الذي بدأ بدوره معبرًا، عن «مزجرة خلع البيضة» بتعبير العامري الذي ارتبط بما يسمى بحد الردة، وانتهى بمصطلح «حفظ الدين» عند كل العلماء الذين كتبوا عن المقاصد من بعد، ليس فقط مستندين إلى ما يسمى بحد الردة ولكن بناء على حفظ العقائد والعبادات وغيرها من شرائع الإسلام.
ثم حدث تطور نوعي مشابه لما مر في تفسير هذا المفهوم، أمثِّل عليه مرة أخرى مما كتب د.سيف عبدالفتاح «لا إكراه في الدين: حفظ الدين في إطار يشمل حركة من الفرد إلى الجماعة إلى الأمة ومن الذات إلى الغير حتى مع اختلاف الأديان» (13). أي إن حفظ الدين يشمل كل الديانات بناء على مبدأ لا إكراه في الدين، وهذا مثال على مدى التغير الذي قد يحدث في مصطلح شرعي حين يعاد تأويله في ضوء رؤية عالم مختلفة، فقد تحول حفظ الدين من مبدأ يقوم عليه «حد الردة» إلى مبدأ يضمن كفالة الحريات الدينية بالمعنى المعاصر.
هل للمقاصد المتصورة حد معلوم أو هيكل نمطي محدود؟
الإجابة المطروحة على هذا السؤال تتعلق أيضًا بقضية الطبيعة التصورية للمقاصد، فإذا اتفقنا على أن المقاصد تصورات نظرية في أذهان المجتهدين، فكذلك المسمى والهيكل- اللذان يمثلان جزءًا من ذلك التصور- قد يتغيران حسب العقول ويتغير الزمان والمكان، ولا يعني ذلك أن الشارع- عز وجل- لم يرتب المقاصد ترتيبًا معينا تنظم فيه، فالترتيب والتنظيم والإبداع في خلق كل شيء وفي تشريع كل شيء نؤمن به عقيدة، ولكن إدراك هذا الترتيب المنتظم- الذي قد يكون أعقد بكثير من أنساقنا الأولية البسيطة- ليس بلازم، ومثلا ذلك الكون المرئي وقد خلقه الباري تعالى بإبداع ونظام وإحكام وتوازن وما له من فطور، وكل مسلم يؤمن بذلك، ولكن محاولاتنا- نحن البشر- لاكتشاف هذا النظام وسبر أغواره كلها ناقصة، وهذا ما تثبته الأيام، فعلى مدار التاريخ كلما تصور علماء الطبية نظامًا في مجال ما نتيجة اكتشاف ما، جاء بعد ذلك بزمن- طال أو قصر- اكتشاف آخر ليعلمنا أن ما سبق كان صحيحًا جزئيًّا فقط وأن درجة أكبر من التعقيد قد تقترب بنا من «حقيقة» النظام الكوني، ولكن ما أدراك ما حقيقة النظام الكوني؟! ويبدو لي أن المقاصد لا تخرج عن هذا المثال، نعم، لابد للمقاصد من حصر وهيكل ونسق، ولكن ما تصل إليه عقول المقاصديين هو اجتهاد يقبل التطور دائما ولا يلزم أن يكون هو الحقيقة كلها.
فمثلًا، قسم العلماء المعاصرون المقاصد إلى مستويات ثلاثة: عامة وخاصة وجزئية (14)، فالمقاصد العامة هي المعاني التي لوحظت في جميع أحوال التشريع أو أنواع كثيرة منها، كمقاصد السماحة والتيسير والعدل والحرية (15).
وتشمل المقاصد العامة الضرورات المعروفة التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، مثل حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والعرض، والمقاصد الشرعية الخاصة هي المعاني التي لوحظت في باب من أبواب التشريع المخصوصة، مثل مقصد عدم الإضرار بالمرأة في باب الأسرة، ومقصد الردع في باب العقوبات، ومقصد منع الغرر في باب المعاملات المالية، وهكذا... والمقاصد الجزئية عرفت بمعنى الحكم والأسرار التي راعاها الشارع في حكم بعينه متعلق بالجزئيات (16)، كمقصد توخي الصدق والضبط في مسألة عدد الشهود وأوصافهم، أو مقصد رفع المشقة والحرج في الترخيص بالفطر لمن لا يطيق الصوم، أو مقصد التكافل بين المسلمين أي عدم إمساك لحوم الأضاحي، وهكذا.
وهناك نسق آخر لتصنيف المقاصد في هرم منتظم من الأهداف في قاعدته الضرورات ثم تتلوها الحاجيات ثم التحسينيات (وهو الهرم الذي يدرس الآن- بحذافيره- في علوم الإدارة الحديثة تحت مسميات مثل هرم الحوافز البشرية وغيرها من دون ذكر ولا إشارة لأي من علماء المقاصد المسلمين الذين استحدثوه استحداثا).
ولكن يبدو لي أنه رغم أهمية مسألة الأولويات نظريًّا وعمليًّا إلا أنه يصعب استقراء مقاصد الشريعة كلها واستقصائها في مستويات هرمية صارمة، فضلا عن أن يُبنى على هذه الهرمية نتائج فقهية بشكل آلي، وهو ما حاوله بعض العلماء الأعلام، فأبوحامد الغزالي مثلا قد رتب الضرورات الشرعية ترتيبا اشتهر بعد ذلك وتابعه عليه كثير من الفقهاء، وهو حفظ الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال (17)، ثم بنى على ذلك الترتيب نتائج فقهية فقال: «عند تعارض مصلحتين ومقصودين، يجب ترجيح الأقوى»، ومثل لذلك بإباحة شرب الخمر تحت الإكراه، وهو متوافق مع تقديم حفظ النفس على حفظ العقل (18)، ولكن أبا حامد ناقض الترتيب حين لم يفت بإباحة الزنا تحت الإكراه، رغم أن النسل متأخر عن النفس في ترتيبه المذكور، والآمدي قد وضع بعض الأولويات الفقهية العملية مثل تقديمه لحفظ الدين على النفس، رغم أن هذا مناقض- مثلا- لإباحة النطق بكلمة الكفر تحت الإكراه، وتأخيره لمقصد حفظ المال عما سواه رغم أن «من قتل دون ماله فهو شهيد»، ولعل هذه الإشكالات هي التي أدت إلى عدم تصريح كثير من العلماء بترتيب محدد في مسألة المقاصد الضرورية مثل الشاطبي، والرازي والقرافي وابن تيمية.
نائب مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بمؤسسة قطر


الهوامش
1- تعريف ابن عاشور: المعاني التي قصد الشارع إلى تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه، محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة: محمد الميساوي، دار الفجر (كوالا لامبور)، ودار النفائس (عَمان)، الطبعة الأولى 1999م، ص: 183، التفكيك (deconstruction) هو مصطلح استحدثه جاك دريدا (وهو فيلسوف فرنسي يهودي من أصل جزائري) في الستينيات من القرن العشرين لتفكيك والتخلص- حسب رأيه- من كل تمحور أو مركز حول أي سلطة كانت سواء كانت لنص أو لدين أو لجنس.

{إن الله يأمر بالعدل...} (النحل: 90)، {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (الحديد: 25)، وإدخالي للعدل ضمن منظومة المقاصد أنقله عن كثير من العلماء المعاصرين مثل الطاهر بن عاشور ومحمد الغزالي- رحمهما الله، راجع: جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، المعهد العالي للفكر الإسلامي بفرجينيا ودار الفكر بدمشق، 2001م.
2- في ورقته التي قدمها تحت عنوان «بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، دراسة في فقه مقاصد الشريعة» للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية- مقاصد الشريعة الإسلامية، دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، تحرير: محمد سليم العوا، لندن، 2006، وقد ذكره من قبل في كتابه: كيف نتعامل مع القرآن الكريم- طبعة دار الشروق.
3- في ورقته التي قدمها تحت عنوان «حول علم المقاصد الشرعية، وبعض أمثلتها التطبيقية» في الندوة المذكورة أعلاه.
4- من بحث «محاولة فهم مآزق أصول الفقه بعد بلوغ تأسيسه الأول الغاية»- أبويعرب المرزوقي- أرسله لي مشكورًا عن طريق البريد الإلكتروني- وهو على حد علمي تحت الطبع في سلسلة حوارات لقرن جديد- دار الفكر.
5- ورقة قدمها تحت عنوان «نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي والاجتماعي» للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية- مقاصد الشريعة الإسلامية دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق.
تحرير: محمد سليم العوا، لندن 2006، وقصد بها التنمية البشرية بمفهومها الشامل.
6- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، دار إحياء التراث العربي بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي ج: 1، ص: 75.
7- صحيح مسلم ج: 4، ص: 1986، وصحيح البخاري (الجامع الصحيح المختصر، محمد بن إسماعيل أبوعبدالله البخاري الجعفي، دار ابن كثير، اليمامة- بيروت، 1407- 1987، الطبعة الثالثة، تحقيق: د.مصطفى ديب البغا، ج: 1، ص: 37.
8- يوسف القرضاوي، مدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية، مكتبة وهبة، 1996م، ص: 75، أيضًا: ورقة د.عبدالرحمن الكيلاني «القواعد الأصولية والفقهية، وعلاقتها بمقاصد الشريعة الإسلامية» قدمها للندوة التأسيسية لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية- مقاصد الشريعة الإسلامية: دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق تحرير: محمد العوا، لندن 2006.
9- مثلا: ورقة «بين مقاصد الكلية والنصوص الجزئية» يوسف القرضاوي- مرجع سابق.
10- نفسه.
11- ورقة «نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي والاجتماعي»- سيف عبدالفتاح- مرجع سابق.
12- ورقة «محاولة في فهم مآزق أصول الفقه بعد بلوغ تأسيسه الأول الغاية»- أبويعرب المرزوقي- مرجع سابق.
13- ورقة «نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي»- سيف عبدالفتاح- مرجع سابق.
14- انظر: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 26- 35، وفيه تقسيمات متعددة تبعًا لاعتبارات مختلفة.
15- مقاصد الشريعة الإسلامية- محمد الطاهر بن عاشور ص 183- مرجع سابق.
16- طرق الكشف عن مقاصد الشارع - نعمان جغيم ص: 28 - مرجع سابق.
17- محمد بن محمد الغزالي أبوحامد، المستصفى، تحقيق محمد عبدالسلام عبدالشافي، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى 1413هـ، ج:1، ص: 258.
18- نفسه ص: 265.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 69.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 67.82 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]