مقاصد السنة النبوية - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 183 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28422 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60027 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 812 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-01-2021, 07:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد السنة النبوية

مقاصد السُّنة النبوية (1)


















حِفْظ الدِّين





د. محمود بن أحمد الدوسري




إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.







أمَّا بعد:



الدِّين في حياة الأمم والشعوب هوالمُحرِّك الرئيس، والعنصر الفاعل، وبدونه تفقد الأممُ قُدرتَها على الاستمرار والعطاء، وليست التجربة الاشتراكية عنَّا ببعيد؛ إذ فَقَدَ أبناؤها كلَّ دافعٍ لهم في الحياة، ممَّا أدَّى في النهاية إلى سقوط الفكر الاشتراكي الشيوعي. فالدِّين هوالذي يدفع الأممَ إلى التَّقدُّم والرُّقي، ويدفع الأفرادَ إلى الإنجاز والعطاء، ويبقى الفارقُ بين أُمَّةٍ وأُخرى هوموافقتها للحق، واعتناقها الدِّينَ الخالص الصواب.







والدِّينُ الإسلامي هوالدِّين الخاتم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده؛ من أصحاب الدِّيانات السَّماوية السابقة أوحتى من أصحاب الدِّيانات الوضعية الوثنية، وهوالدِّين الذي لا ينجوإلاَّ مَن اعتنقه واتَّبعه، وعمل بمقتضاه، وقد تضافرت الأدلةُ على ذلك من القرآن والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوفِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)[1]، وهذه الأدلَّة وغيرها قطعيةُ الثبوت، قطعيةُ الدلالة لا مجال فيها للعقل أوالفكر.







ونظرًا لأهمية الدِّين وكونِه المحور الذي تدور حوله حياة الأمم والأفراد، بل وآخرتهم فقد ضَمِنَت السُّنة النبوية حِفْظَ الدِّين، ونقصد بالدِّين يقينًا الدِّين الإسلامي؛ إذ أنَّ ما عداه لا يُعتد به، ولا يُأبه له، فحِفظُ الدِّين مقصدٌ عظيم من مقاصد السنة النبوية، بل هوأوَّل مقاصِدِها، فوَضَعت السُّنةُ القواعدَ والتدابيرَ التي به يتمُّ حفظ الدِّين، ولم تترك هذا الأمر للاجتهاد أوللبشر، وإنما ضمنت حِمايته وصيانته، واتَّخذت الوسائلَ والتدابيرَ المناسبة لذلك ابتداءً، دون انتظارٍ لتطوُّر الزمان أوتغيُّر الأحوال وما يصاحبهما من ظروفٍ وملابسات، وهذا من كمال السُّنة النبوية وعظمتها.







والمقصود من حفظ الدِّين أشار إليه وبيَّنه الشاطبي - رحمه الله - بقوله: (فإنَّ حِفْظَ الدِّين حاصله في ثلاثة معانٍ: وهي: الإسلام، والإيمان والإحسان، فأصلُها في الكتاب، وبيانُها في السُّنة، ومُكَمِّلُه ثلاثة أشياء: وهي: الدعاء إليه بالترغيب والترهيب، وجهادُ مَنْ عانَدَه أورامَ إفسادَه، وتلافي النُّقصان الطارئ في أصله، وأصلُ هذه في الكتاب، وبيانُها في السُّنة على الكمال)[2]، فالكتاب والسُّنة هما مصدر التشريع، منهما تُستَمَدُّ الأدلة، وتُسْتَخرَج الأحكام، وتُستنبط المسائل، وتُستخلص المقاصد، دون تفريقٍ بينهما، وفي هذا دليلٌ على عظمة السُّنة ومكانتِها في التشريع.







المقصود بالدِّين: والمقصود بالدِّين هنا ثلاثة معان:



الأول: الدِّين بمعنى الوحي الإلهي الذي ينزل على الرسل.



الثاني: الدِّين بمعنى الإيمان بالله وبالرسل واليوم الآخر. الثالث: الدِّين بمعنى الأحكام المشروعة التي تحكم ظواهر الناس.







وهذه المعاني الثلاثة يُقصد منها ما يلي:



1- كون الدِّين هووحي الله تعالى، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا مجال للتحريف أوالخطأ، فعندما يُرسِلُ اللهُ وحيَه إلى نبيِّه ورسوله، فهذا النبيُّ هوالمقصود بعينه دون غيره، وما أُرسل إليه هوعينُ ما أراده الله تعالى، وهذا فيه أبلغ ردٍّ على بعض الفِرق الضالة والمنحرفة التي تُشكِّك في الدِّين من جهة الوحي، ومن كونه أخطأ القصد أوالهدف، فهذا مردودٌ عليه بحفظ الله تعالى لدينه، ولا حِفظ للدِّين إلاَّ بحفظ الوسيلة وهي الوحي، ومن ثَمَّ كان أمينُ الوحي جبريلُ (شديد القوى) كما وصفه ربُّه تبارك وتعالى.







2- كون الدِّين عقيدة وعبادة؛ فالعقيدةُ مُتمثِّلةٌ في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكلِّ ما يقتضيه الإيمانُ وتتطلَّبه العقيدةُ الصحيحة، والعبادةُ مُتمثِّلةٌ في شرائعه وأحكامه وآدابه ومعاملاته، وهذا يقتضي البيان والإيصال والحفظ، فضَمِنَ اللهُ بيانَ دينه وإيصالَ رسالته إلى جميع خلقه، وحِفْظَه من التحريف أوالتأويل أوالضياع.







ونظرًا لتلك الأسباب كلِّها كان الدينُ ضرورةَ حياةٍ بالنسبة للإنسان، قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِهِ) الحديث[3]. قال ابن القيم - رحمه الله: (حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كلِّ شيءٍ، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطِّب إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالَم يعيشون بغير طبيب)[4].







وسائل المحافظة على الدِّين في السُّنة:



نظرًا للاعتبارات المُتقدِّمة فقد حافظت السُّنة النبوية على الدِّين، سواء من حيث غرسِه في النفوس وتعميقِه فيها ابتداءً، أومن حيث تدعيمِ أصلِه وتعهُّدِه بما يُنمِّيه ويحفظ بقاءه استمرارًا ودوامًا، وشَرَعت لذلك الوسائل التالية:







أ- وسائل حفظ الدِّين من "جانب الوجود": من وسائل غرس الدِّين في النفوس ابتداء في السُّنة النبوية الوسائل التالية:



1- ترسيخ اليقين بأصول الإيمان وأركانه، وهي الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ وقد جاء في حديث جبريل المشهور في تعريف الإيمان: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)[5].







2- إقامة هذا الإيمان على البرهان العقلي والحجة العلمية، ومن هنا كانت دعوة السُّنة النبوية إلى النظر والتدبر؛ يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 190]. الآيَةَ كُلَّهَا[6].







3- القيام بأصول العبادات، وأركان الإسلام؛ من صلاة وزكاة وصوم وحج، بعد النطق بالشهادتين، فهذه العبادات من أهمِّ أسرارِها وحِكَمِها أنها تصل العبد بربه، وتُوَثِّق صلته به، مما يُرسِّخ أصل الإيمان في نفسه ويُجدِّده؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: (وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وما يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ) الحديث[7]. وقال صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ على خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لاَّ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[8].







4- إيجاب الدعوة إلى الله، وحمايتها، وتوفير أسباب الأمن لحَمَلَتِها؛ ومن الأحاديث الحاثة على الدعوة إلى الله تعالى، قوله صلى الله عليه وسلم: (نَضَّرَ الله امْرًَا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيسَ بِفَقِيهٍ)[9]، وما وصَّى به أُمَّته قائلًا: (فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)[10].







وهذا المنهج النبوي في حِفظ الدِّين من جانب الوجود، فيه عدَّة دلالات:



الأوَّل: البيان: وذلك من خلال تعليم الناس أمور دينهم، وبيانِها وتوضيحِها، فلا يختلط بالدِّين ما ليس منه، ولا يخرج من الدِّين ما هومنه، وقد قامت السُّنة بهذه الوظيفة على أكملِ وجهٍ وأتمِّه، فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ وقد بلَّغ الدِّين بتمامه، ومصداقُ ذلك قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].







الثاني: التَّطبيق العملي: وذلك من خلال الممارسة العملية للشعائر الدِّينية والعبادات الإسلامية، وقد مارسها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمليًّا ونقلها عنه أصحابه - رضي الله عنهم، فكانت أوقعَ في النفس، وأدعى إلى المتابعة عليها، والتَّأسِّي بها.







الثالث: احترام عقلية المُتلقِّي: فالشرائع الإسلامية والعقيدة الإيمانية كلُّها مُتَّسقة مع العقل، فلا تُخالفه، ولا تحيد عنه قيد أنملة، وقد دعت إلى إعمالِ العقلِ والتَّفكُّر والتَّأمُّل، والحُكْمِ على الأمور والأشياء؛ لأنها تُدرك هذا الاتِّساق والتَّناغم والتَّناسب مع الفطرة، والعقلِ السليم.







ب - وسائل المحافظة على الدِّين من "جانب البقاء":



والمقصود بها الوسائل التي انتهجتها السُّنة النبوية في المحافظة على الدِّين بعد حصوله؛ لصيانته، وإزالة العوائق من طريقه، وتزكيته في النفوس، ومن أهم الوسائل:



1- كفالة حرية العقيدة والتَّدين وحمايتها، فالإسلام لا يُكره أحدًا على اعتناقه، ويسمح بتعايش مختلف الأديان داخل دياره وفي رحاب دولته، ويترك الحرية لأهل الأديان في عقائدهم وممارستهم التعبدية وتصرفاتهم المدنية، بل إنَّ من أهداف الجهاد الإسلامي تأمين حرية الاعتقاد والتدين؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فيها الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا؛ فإنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا)[11].







ومن خلال رسم صورة متكاملة من السنة النبوية حول تعامل النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع أصحاب الدِّيانات المخالفة، وما بثَّه في السنة من أقوالٍ ووصايا حول نفس الموضوع، نلاحظ عدَّة أمور:



ضمان حرية العقيدة، فلا يُجبر أحدٌ على تبديل دينه أو تغييره.







إعلاءُ القيم الإنسانية وتغليبُها، فيتأثَّر صلى الله عليه وسلم لموت يهودي، ويذهب لعيادة مرضاهم، ويُواسي مُصابَهم.







ضمان الحقوق والممتلكات والخاصة، فلا يجور عليهم أحدٌ، ولا يظلمهم، ومَنْ فَعَلَ ذلك فإنَّ خصمه يوم القيامة هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفسُه.







اندماجهم في المجتمع، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وهذه الصورة تتَّسع لتشمل محاورَ عدَّة، يضيق عنها المقام.







وقد رسَّخَ مبدأ حريةِ العقيدة إلى احترام الناس، والتَّعايش السِّلمي، والاعتراف بالآخَرِ دون إنكارٍ عليه، ودون تدخُّلٍ في شؤونه، ممَّا أدَّى إلى تحقيق مُجتمعاتٍ آمنة لا توجد فيها مظاهر للطائفية أو العنف ضِدَّ أقلِّيَّةٍ مُعيَّنة، فدخلت بلادٌ بأكملها في الإسلام من هذا الجانب فاصطبغت بصبغة الإسلام عقيدةً وعبادة، واتَّخذت اللغةَ العربية لها لغة، ولم يمضِ على فتحها سنون معدودة، ممَّا ضمن البقاءَ لهذا الدِّين.







2- تشريع الجهاد؛ تمكينًا للدِّين، ودرءًا للعدوان، وحمايةً للاعتقاد؛ ولقد (كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّرَ أَمِيرًا على جَيْشٍ أو سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ معه من الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. ثُمَّ قال: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، في سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تَمْثُلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ من الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلى ثَلاَثِ خِصَالٍ "أو خِلاَلٍ" فَأَيَّتُهُنَّ ما أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ منهم وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإِسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ منهم وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ من دَارِهِمْ إلى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذلك، فَلَهُمْ ما لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ ما عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا منها، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عليهم حُكْمُ اللَّهِ الذي يَجْرِي على الْمُؤْمِنِينَ، ولا يَكُونُ لهم في الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مع الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ منهم وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ)[12]. وكان يقول صلى الله عليه وسلم كذلك: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإذا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)[13]، ولمَّا سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قال: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قال: (الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ) قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قال: (حَجٌّ مَبْرُورٌ)[14].







3- الالتزام بتعاليم الدِّين وتطبيقها، وبذلك يظل للدِّين حيويته في النفوس، وأثره على الجوارح، ومن هنا قُرِن الإيمان والعمل الصالح في كثير من نصوص القرآن، إذْ كثيرًا ما يرد في القرآن: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [يونس: 9]، وجاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية العمل بالكتاب والسُّنة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يوم الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ) الحديث[15]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالأُتْرُجَّةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ. وَالْمُؤْمِنُ الذي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا) الحديث[16].







4- تشريع عقوبة الرِّدَّة؛ حماية لحرمةِ الدِّين وجدية الاعتقاد، وحتى لا يُقدم على الإسلام إلاَّ بعد قناعةٍ تامة، فالإسلام لا يُكرِه أحدًا على اعتناقه، والارتداد قد يكون ذريعةً إلى إدخال الخلل في صفوف المسلمين، وفي تفكُّك جبهتهم الداخلية، وفي ذلك فساد كبير وشر مستطير؛ لأنَّ أخطر شيء على حياة الأمم وكيانها الفوضى في الاعتقاد، والاضطراب الفكري وعدم الثقة بما يُظِلُّها من نظام، ومن هنا كان انتشار الأفكار الإلحادية التي جاست خلال ديار المسلمين، أخطر على الإسلام من الكفر الصريح الخارج عن نطاق بلاد الإسلام، فالشك في النظام والتفكُّك في صفوف الجبهة الداخلية قد يكون من العوامل الأساسية في نصر الأعداء، ولذا لم يترك الإسلام للمرتد الحرية في الارتداد مع احترامه الشديد لحرية الاعتقاد بالنسبة للكافر الأصلي.







ثم إنَّ المرتد بعد أنْ أُتيحت له فرصة الاطلاع على الأدلة والبراهين التي جعلته يؤمن بالإسلام ويدخل فيه بمحض اختياره، ليس له عذر؛ ومن أجل ذلك شُرِعت عقوبة الرِّدة على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)[17].







فكان ممَّا انفردت السنة النبوية بتشريعه؛ إذْ لم يرِدْ لعقوبة الرِّدَّة ذِكرٌ في القرآن، وهذا ممَّا يؤكِّد على عظمةِ السنة النبوية وحمايتِها لدينِ الله تعالى. أمَّا الكافر الأصلي الذي قد لا يتمكَّن من الاطلاع على تلك الأدلة فمعذور؛ لأنه يُرجى منه أن يطَّلع عليها، أو اطلع عليها ولكن لم يحصل اقتناع بها. فَيُرجى منه أيضًا أن يصل إلى الاقتناع[18].







والرِّدَّة تكون بصريح القول؛ كقوله: كفرَ أو أشركَ أو ألْحَدَ، أو بلفظٍ يقتضي الكفر؛ كجحده ما عُلِمَ من الدِّين بالضَّرورة؛ كوجوب الصلاة والزكاة، وحرمة الزنا والقتل بغير حق، أو بفعلٍ يستلزم الكفر التزامًا بيِّنًا؛ كإلقاء مصحفٍ أو جزء منه، ولو آيةً في القذر، ولو كان المستقذر طاهرًا شرعًا؛ كالبصاق ونحوه، وكلُّ فعلٍ يُقصد به الاستخفاف بكلماته، وشريعته[19].







5- محاربة الابتداع في الدِّين، ومقاومة المبتدعين، والبدعة: (طريقة في الدين مُخْتَرَعة تُضاهي الشرعية، يُقصد بالسُّلوك عليها المبالغة في التَّعبد لله سبحانه)[20]. والنبي صلى الله عليه وسلم هوأول مَنْ حارب الابتداع في الدِّين بقوله: (خَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)[21]. وفي رواية: (أَحْسَنُ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ)[22]. وفي رواية: (مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بها وَعَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)[23].







ومن هنا نعلم: أنَّ الابتداع في الدِّين هو أخطر مِعولٍ لهدمه والانحراف بمقاصده تبعًا للخيال أو الهوى، أو ثقةً بالعقل والاغترار به، والخروج به عن دائرة ما حدَّ الشرع.







ولم يرد حدٌّ معيَّن في عقوبة الابتداع، واتفق العلماء: على معاقبة المُبتدع إنْ كان في بدعته خطر على الدِّين، وتكون هذه العقوبة بالتعزير، ولكنهم اختلفوا: في مقدار ما تصل إليه العقوبة: هل يُتجاوز بها مقدار أدنى حدٍّ من الحدود أم لا؟ وبعض العلماء: يجعل العقوبة تبعًا لما تتركه البدعة من مفاسد، متعدِّية أو قاصرة، وبذلك تختلف بتفاوت مراتب المبتدعين بحسب الإسرار والإعلان، والمُعلِن قد يكون داعيةً إلى بدعته وقد لا يكون، والداعي قد تصل به الحالة إلى درجة الخروج على الأئمة والولاة العادلين، وقد لا تصل إلى هذه الدرجة، وقد يُحاول الاستعانة بولاة الأمر لنشر بدعته، وقد لا يحاول، إلى غير ذلك، وهذا أوجُه الآراء وأقربها إلى مبادئ الشرع ومقاصده؛ لأن العقوبة تتبع ما يترتَّب على الفعل من المفاسد والمضار، وكلَّما كان الضَّررُ أعمَّ وأشمل كانت العقوبة أشدَّ وأعظم[24].







6- تحريم المعاصي ومعاقبة مَنْ يقترفونها حدًا أو تعزيرًا، حيث نهى الله تعالى عن المعاصي؛ الكبائر منها، والصغائر، ورتَّب على بعض الكبائر عقوبات محدَّدة، أو غير محدَّدة. وأوعَد مَنْ يتعدَّى حدودَه بعذاب أليم في الآخرة، زيادةً على عقاب الدنيا.







ومن أعظم مبادئ ومميِّزات الأُمَّة المحمدية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وصف الله تعالى أتباعَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمَّة أُخرجت للناس؛ إذا قاموا بهذا الواجب المُقدَّس، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب تغيير المنكر حسب الاستطاعة بقوله: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)[25]. والمقصود بذلك: محاربة المعاصي والمنكرات، وعدم إقرارها بين المسلمين؛ حفاظًا للدِّين، وطهارةً لقلوب المؤمنين من دَنَسِ المعاصي الذي يحجب نور الإيمان عن قلوب العصاة.







وباستقراء الأحاديث الواردة في السُّنة النبوية نلحظ أنها: جاءت بتحريم قتل النفس بغير حق، وتحريم الزنا، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، والسرقة، وترتَّب على كلِّ فِعلٍ منها عقوبة محدَّدة. وكذا جاء النهي عن عقوق الوالدين، وخيانة الأمانة، ونقض العهود وخُلْف المواعيد، وأكل الربا، وتحريم الميسر، وشهادة الزور، وكل ما يرجع إلى هذه الأنواع من قريب أو بعيد مما يدخل تحت معنى المنكر.







ومن هنا جاء تكليف ولاة الأمور بحراسة الشريعة وحمايتها؛ بإقامة الزواجر لردع الخارجين على حدود الله تعالى وأحكامه وقواعد دِنيه ومبادئه[26].







7- إقامة سياجٍ من الحاجيات والتحسينات؛ كأداء الصلاة جماعة، وكنوافل العبادات المختلفة، وبكل هذه التشريعات يتأصل الدِّين، ويرسخ في نفس المسلم والمسلمة، وفي المجتمع، مما يحقق الأنس والسكينة، والخير للفرد والمجتمع.







[1] رواه مسلم، (1/ 76)، (ح403).




[2] الموافقات، (4/ 27).




[3] رواه البخاري، (1/ 456)، (ح1292)؛ ومسلم، (4/ 2048)، (ح2658).




[4] مفتاح دار السعادة، (2/ 2).




[5] رواه مسلم، (1/ 37)، (ح8).




[6] رواه ابن حبان في (صحيحه)، (2/ 386)، (ح620)؛ وصححه الألباني في (السلسة الصحيحة)، (1/ 147)، (ح68).




[7] رواه البخاري، (5/ 2384)، (ح6137).




[8] رواه البخاري، (1/ 12)، (ح8)؛ ومسلم، (1/ 45)، (ح16).




[9] رواه أبو داود، (3/ 322)، (ح3660)، وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 411)، (ح3660).




[10] رواه البخاري، (2/ 619)، (ح1652)؛ ومسلم، (3/ 1306)، (ح1679).




[11] رواه مسلم، (4/ 1970)، (ح2543).




[12] رواه مسلم، (3/ 1357)، (ح1731).




[13] رواه البخاري، (1/ 17)، (ح25)؛ ومسلم، (1/ 52)، (ح21).




[14] رواه البخاري، (1/ 18)، (ح26)؛ ومسلم، (1/ 88)، (ح83).




[15] رواه مسلم، (1/ 554)، (ح805).




[16] رواه البخاري، (4/ 1928)، (ح4772).




[17] رواه البخاري، (3/ 1098)، (ح2854).




[18] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالِم (ص262).




[19] انظر: الشرح الكبير، للدرديري (4/ 301).




[20] الاعتصام، (1/ 37).




[21] رواه مسلم، (2/ 592)، (ح867).




[22] رواه النسائي، (3/ 188)، (ح1578)؛ وابن خزيمة في (صحيحه)، (3/ 143)، (ح1785). وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي)، (1/ 512)، (ح1577).




[23] رواه أبو داود، (4/ 200)، (ح4607)، وابن ماجه، (1/ 15)، (ح42). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 118)، (ح4607).




[24] انظر: الاعتصام، (1/ 216-222)؛ شفاء الغليل، أبو حامد الغزالي (ص142)؛ المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص267).




[25] رواه مسلم، (1/ 69)، (ح49).




[26] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص269).










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-01-2021, 07:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

مقاصد السُّنة النبوية (2)

د. محمود بن أحمد الدوسري



حِفْظ النَّفس




الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:

أعلى الإسلامُ من شأن النفس الإنسانية ورَفَعَ قدرَها، وحافَظَ عليها أيًّا ما كان دينُها وعقيدتُها، فالنفس محترمةٌ في ذاتها ولذاتها بصرف النَّظرِ عن معتقدها ومذهبها ودينها؛ لأنَّ الذي خَلَقَها وبَرَأها إنما هو الله ربُّ العالمين، وقد أكَّد الله سبحانه على عظمةِ النفس وعظمةِ حُرمتها، فأقسم بها سبحانه قائلًا: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس: 7]، وبيَّن عظمةَ الجُرم في التَّعدِّي عليها، قائلًا: ﴿ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].



وقد جعلت السنة النبوية حِفظَ النفس من أهمِّ مقاصدها، فكان حِفظُ النفسِ هو المقصد الثاني للسنة النبوية بعد حِفظ الدِّين، وذلك لكون حفظ النفس من ضروريات الحياة الإنسانية وبقائها.



تعريف حِفْظ النفس: سبق الإسلامُ التشريعاتِ الدولية إلى تعريف حفظ النفس، وقد جاء تعريف العلماء له جامعًا مانعًا، مُتَّخِذًا عدَّة مستويات تدور كلُّها حول تحقيق هدفٍ واحد، وهو حفظ النفس من الهلاك، ولعلَّ أجمعَ تعريفٍ لها ما أورده الشاطبي رحمه الله بقوله: (وحِفظُ النفسِ حاصِلُه في ثلاثة معانٍ: وهي: إقامةُ أصلِه بشرعية التناسل، وحِفظُ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب؛ وذلك ما يحفظه من داخل، والملبس والمسكن؛ وذلك ما يحفظه من خارج، وجميع هذا مذكورٌ أصلُه في القرآن، ومُبَيَّن في السُّنة، ومُكَمِّلُه ثلاثة أشياء: وذلك حِفْظُه عن وضعه في حرامٍ كالزِّنا؛ وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، ويُلحق به كلُّ ما هو من متعلقاته كالطلاق والخُلع واللِّعان وغيرها. وحِفظُ ما يتغذَّى به أن يكون ممَّا لا يضر أو يقتل أو يفسد، وإقامةُ ما لا تقوم هذه الأمور إلاَّ به من الذبائحِ والصيد، وشرعية الحد، والقصاص، ومراعاة العوارض اللاحقة، وأشباه ذلك. وقد دخل حِفظُ النسل في هذا القِسم، وأصولُه في القرآن، والسُّنةُ بَيَّنَتْها)[1].



درجات المحافظة على النَّفس: المحافظة على النفس لها ثلاث حالات:

الحالة الأُولى: موقع السَّعة واليُسر، فإذا كان الإنسان في مِثْلِ هذه الحالة العادية التي يُطبَّق فيها التَّشريع العام، فليقتصر على ما أُبيح له من أشياء وتصرُّفات كسبًا وتداولًا، ويقوم بكلِّ ما عليه من واجبات، ولا يجوز له أنْ يتعدَّى ذلك، وفي مِثلِ هذه الحالة العادية أباح الله تعالى له جميع أنواع الحلال الطيب ما لم يثبت إضراره به؛ من طرق الكسب الحلال؛ كالزراعة والتجارة، والصناعة وأنواع الحِرَف، ولو كان الكسب قد وصل إليه بطريق الخلافة؛ كالميراث والوصِيَّة[2]، وكذا المعاملات الخالية من الأضرار؛ كالبيع والشراء، والقرض، الإجارة، والمساقاة، والمزارعة، والجعالة، والشركة، والوكالة، والهدايا، والهبات، والوصايا والصدقات، والزكوات ونحو ذلك.



وطَلَبَ منه أن يقوم بجميع الواجبات العبادية، وحرَّم عليه الميتة والدَّم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به، ونحو ذلك، مما حرَّم تحريمًا صريحًا بأدلة شرعية؛ كشرب الخمر، وأكل الربا.



الحالة الثانية: موقع الحاجة، كأن يكون الإنسان في ضيق وحرج وعُسر، ولكنه لم يبلغ حدَّ الضرورة؛ كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يَهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقَّة. في هذه الحالة خفَّف الله عنه ببعض الرُّخص، والرُّخصة: ما شرعه الله تعالى من الأحكام تخفيفًا في حالاتٍ خاصة تقتضي هذا التَّخفيف، وأمَّا العزيمة: فهي ما شرعه الله أصالةً من الأحكام العامة التي لا تختصُّ بحالٍ دون حال، ولا بمكلفٍ دون مكلف كما هو الشأن في الحالة الأولى[3].



الحالة الثالثة: موقع الضَّرورة، وخلاصة القول في تعريف الضرورة: أنْ تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة؛ بحث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو طرف من الأطراف أو بالعِرْضِ أو بالعقلِ، فيتعيَّن أو يُباح له عندئذٍ الانتقال من الحالتين؛ الأُولى والثانية إلى الحالة الثالثة، وذلك بِفِعل ما كان مُحرَّمًا، أو بتركِ ما كان واجبًا، أو تأخيره عن وقته؛ دفعًا للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضمن قيود الشرع ومبادئه[4].



وهذا يشمل ضرورة الغذاء والدَّواء والانتفاع بمال الغير، والقيام بفعلٍ أو الامتناع عنه تحت تأثير الرَّهبة أو الإكراه، والدفاع عن النفس، وترك الواجبات الشرعية المفروضة أو تأخيرها عن وقتها، وهذا هو المعنى العام للضرورة[5].




وهذه الحالات الثلاثة قد استغرقت كلَّ أحوال الإنسان وتقلُّباتها وتماشت معها بما يضمن بقاء الإنسان وحفظ وجوده، ووضعت الشريعة أحكامًا خاصة بكلِّ حالة، وربطت بينها ارتباط المُسبِّب بالسَّبب، فإذا وُجِدَ السَّبب وُجِدَ المُسبِّب، وإذا انتفى السَّبب انتفى المُسبِّب، وهذا دليلٌ على مرونة الشريعة الإسلامية ومطاوعتِها لما يُحقِّق مصلحةَ الإنسان ويضمن بقاءَه.



وسائل المحافظة على النَّفس في السُّنة: هناك عدة وسائل للمحافظة على النفس، ورد ذِكرها في السُّنة النبوية، وهي على النحو التالي:

أوَّلًا: وسائل المحافظة على النَّفس من "جانب الوجود":

1- الحث على التَّكاثر والتَّناسل: وإيجاد النفوس لِتَعْمُرَ العالَم، وتُشَكِّل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف، فشُرِع الزواج على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ)[6]، وقد نوَّه الإسلامُ بالعلاقة المُقدسة بين الزوجين واعتبرها آيةً من آيات الله، في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].



2- تحديد مسؤولية الآباء عن الأبناء: فقد وضع الله تعالى للإنسان تشريعات تكفل له وجودًا سليمًا، فحدَّد مسؤولية الآباء عن الأبناء، وذلك بمشروعية عقد النِّكاح، وتحريم الزنا، وبمقتضى هذا العقد يلتزم الآباء القيام على شؤون الأولاد، من نفقة ورعاية وعناية حتى يبلغوا أشدَّهم ويتلوا شؤونهم، وقد أجمع العلماء: على وجوب نفقة الأب على أولاده الصغار الذين لا مال لهم، استدلالًا بحديث هند بنت عتبة، لمَّا شكت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، فقال لها: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)[7].



ولولا عقد النكاح واختصاص كلِّ رجلٍ بامرأةٍ لَمَا وثق الآباء بنسبة الأبناء إليهم، وسيؤدي ذلك إلى فتور العاطفة الأبوية، والتهرب من المسؤولية[8].



3- بيان الحلال والحرام: فعند استقراءِ الأحكام الشرعية وفحْصِها نجد أنها جميعها شُرِعتْ لتحقيق مصلحة الإنسان، إما بجلب النفع له، وإما بدفع الضُّر عنه.



والعقول ليست لها صلاحيةُ الاستقلال بإدراك المصالح، ولا بتقدير المنافع والمَضار؛ لذا ليس للإنسان أن يُحرِّمَ شيئًا ولا يُحِلَّه إلاَّ اعتمادًا على أحكام الشرع وقواعده؛ والتحليلُ والتحريم هو تقدير المصالح والمفاسد، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (لا يُعْبَدُ اللهُ تعالى إلاَّ بِمَا شَرَعَهُ على أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فإنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ على عِبَادِهِ، وَحَقُّهُ الذي أَحَقَّهُ هو وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَعَهُ، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلاتُ فَهِيَ عَفْوٌ حتى يُحَرِّمَهَا، وَلِهَذَا نَعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ على الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ؛ وهو تَحْرِيمُ ما لم يُحَرِّمْهُ، وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِمَا لم يُشَرِّعْهُ)[9].




ثم إنَّ الحلال والحرام مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بمصالح الآخرة ومفاسدها من ثواب وعقاب، فالإثم يترتَّب على المُحرَّم، والبِرُّ يترتَّب على الحلال، ومصالح الآخرة مُجمعٌ على أنَّ العقل لا يستطيع إدراكها بدون هداية الشرع الحكيم.



ومِمَّا يدلُّ على أنَّ التحليل والتحريم من حقِّ الشارع الحكيم، ما جاء عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أنَّه قال: (كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ، وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ؛ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ؛ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَا حَرَّمَ؛ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ عَفْوٌ)[10]؛ لذا كان السلف الصالح يتورَّعون في فتياهم من نسبة التحليل والتحريم إليهم، وربما قال بعضهم: أكره ذلك أو أستحبه، أو لا يعجبني، ونحو ذلك[11].



وقد بيَّن الله تعالى على لسان نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم الحلالَ المحض؛ الذي نفعُه بَيِّن، والحرامَ المحض؛ الذي ضررُه بيِّن ليكون معلومًا للناس بالضَّرورة، وجعل بينهما أمورًا مشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)[12].



وقد يسأل سائل: ما العلاقة بين التحليل والتحريم وبين حِفظِ النفس؟ والجواب واضِحٌ لا لَبْسَ فيه، فالعلاقة بينهما من جانبين:

أمَّا الجانب الأوَّل، فهو الجانب الدنيوي؛ إذ نظَّمت الشريعة حركة الحياة، ويسَّرت سُبل المعيشة، وسهَّلت على الإنسان حياته، بأنْ بيَّنت له الحلالَ من الحرام، فإذا سار وفق هذا المنهج فقد ضمن لنفسه حياةً سعيدةً، بعيدةً عن الفتن والمشاكل والتي قد تودي بحياته.



وأمَّا الجانب الثاني، فهو الجانب الأُخروي، إذْ بيَّنت الشريعة مصير الإنسان في الآخرة، فإمَّا إلى الهلاك والبوار في قعر جهنم، وإمَّا إلى الجنة والنعيم، وهذا البيان فيه حِفظٌ لحياة الإنسان، وصيانةٌ له من نار جهنم. وهكذا ارتبطَ تشريع الحلال والحرام بحفظ النفس في الدنيا وفي الآخرة، ممَّا يدُّلنا على الارتباط الوثيق والعلاقة الوطيدة بين التحليل والتحريم وبين حفظ النفس.



ثانيًا: وسائل المحافظة على النَّفس من "جانب العدم":

وأمَّا من جهة الاستمرار والدوام: فقد شُرِعَتْ عِدَّة وسائل لحفظ النفس، ومن أهمها:

1- أَوجَب على الإنسان أنْ يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته؛ من تناولٍ للطعام والشراب، وتوفير اللباس، والمسكن، فيحرم على المسلم أن يمتنع عن هذه الضَّروريات إلى الحدِّ الذي يهدد بقاء حياته.



كما اعتبر الحصول على هذه الضروريات هو الحد الأدنى الذي يلزم المجتمع مُمثَّلًا في الأفراد من جهة، بما أوجبه عليهم من حقٍّ معلومٍ في أموالهم يُرَدُّ على فقرائهم، وفي الدولة من جهةٍ أُخرى مُمثَّلةً في أجهزتها وأنظمتها بتوفير هذا الحدِّ الأدنى الضروري للأفراد العاجزين عن توفيره لأنفسهم، بل أوجب على الإنسان - إذا وجد نفسه مُهدَّدة - أنْ يَدفع عن نفسه الهلاك بأكل مال غيره بقدر الضرورة.



2- أَوجَب على الدولة إقامة الأجهزة الكفيلة بتوفير الأمن العام للأفراد؛ من قضاءٍ، وشرطة وغيرها، مما يحقق الأمن للمجتمع.



3- أَوجَب المحافظة على كرامة الآدمي بمنع القذف والسَّب، ومما جاء فيه، قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ)[13]؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا)[14]. ومنع الحد من نشاط الإنسان من غير مبرر، وبهذا حَمَى حريات الفكر والعمل والرأي والإقامة والتنقل وكفلها.



والإسلام هنا أشار إلى جريمة قتلٍ من نوعٍ جديد، ربما لم يتنبَّه إليها أحدٌ حتى في عصرنا هذا، فلَعْنُ المؤمنِ وقذْفُه والتَّشنيعُ عليه هو بمثابة القتل، إذْ قد يَضْطَرُّ هذا المقذوفُ إلى عدم مواجهة المجتمع والخروج إليهم لِمَا مَسَّ شرفَه وعِرضَه وكرامتَه، فيُحْرَمُ المجتمعُ من رجلٍ ربما لديه كفاءات تفيد المجتمع، ويُحرم الشخصُّ نفسُه من ممارسة حياته التي منحها الله له بشكل طبيعي، فيكون ذلك بمثابة القتل، فما أعظمَ نبيَّ الإسلام حينما أشار إلى ذلك، وعبَّر عن تلك القيمة التي افتقدناها في حياتنا المعاصرة.



4- تشريع الرُّخص بسبب المشقة التي تلحق النفس، فينشأ منها ضرر عليها، ومن ذلك: رُخص الفطر في رمضان؛ بسبب المرض والسفر، وقصر الصلاة في السفر.



5- حرَّم الإسلام قتلَ النفس سواء قَتَل الإنسانُ نفسَه أو غيرَه، وفي ذلك يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم (لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ؛ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، والمُفَاِرُق لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ)[15]، والوعيد الأخروي يشمل قتل الإنسان نفسَه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهَا في نَارِ جَهَنَّمَ)[16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم - فيمَنْ قتل معاهَدًا: (مَن ْقَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)[17].



وتحريم قتل النفس في الإسلام مرتبطٌ بقضية غايةٍ في الخطورة، وهي حُرمة الخالق سبحانه وتعالى؛ إذ أنَّ هذه النَّفسَ مُلْكٌ لخالقها، وهو الله تعالى الذي خلقها ووهبها الحياة، فله سبحانه وحده الحقُّ في إبقائها أو موتها، مهما كانت هذه النفس، فهي مُحترمةٌ لِحُرْمَةِ خالقها، مُعظَّمةٌ لِعَظَمَةِ باريها، فالعبرة هنا بمَنْ خَلَقَ وليس بما خَلَقَ، ولو كانت العبرة بالمخلوق، لَمَا استحقَّ أنْ يعيش مَنْ يعبدُ غيرَ الله على وجه الأرض بعدما بلغته رسالةُ ربِّه لحظةً واحدة، وعندما توجد الأسباب الداعية إلى إزهاقها وقتلها، فهذه الأسباب إنما الذي يُحدِّدها هو الله وحده، ولا دخل لأحدٍ كائنًا مَنْ كان في هذا الأمر.



6- أَوجَب القصاصَ في القتل العمد، والدِّيةَ والكفارةَ في القتل خطأ، عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ (أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بين حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لها: مَنْ فَعَلَ بِكِ هذا؟ أَفُلاَنٌ، أَفُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ)[18]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ)[19]. وجه الدلالة: مشروعية القصاص والعفو والدية.



قال ابن العربي رحمه الله: (لم يخلُ زمانُ آدم ولا زمَنٌ بعده من شرعٍ، وأهم قواعد الشرائع حماية الدِّماء عن الاعتداء، وحِياطَتُه بالقصاص كفًّا ورَدْعًا للظالمين والجائرين، وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع والأصول التي لا تختلف فيها المِلل)[20].



وتشريعُ العفوِ والدِّيةِ فيه حفظٌ للنفس أيضًا، فإذا كانت هناك نفسٌ قد أُزهِقَت، فقد جعل الخالقُ سبحانه مخرجًا لنفس القاتل ألاَّ تُزهق؛ بشرط الرضا من قِبَلِ وليِّ المقتول، وهذا التشريعُ فيه سعةٌ ويُسر، وجبرٌ لخاطر أهل المقتول، وحقنٌ للدماء، وحِفظٌ للأنفس، وصِيانةٌ لها من الموت والهلاك.



7- إعلان الجهاد؛ حِفظًا للنفوس، وحماية للمستضعفين؛ عن أنسٍ رضي الله عنه قال: (خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْخَنْدَقِ، فإذا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ في غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فلم يَكُنْ لهم عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذلك لَهُم، فَلَمَّا رَأَى ما بِهِمْ من النَّصَبِ وَالْجُوعِ قال: اللهم إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخرة فَاغْفِرْ لِلْلأَنْصَارِ والمهاجرة.



فَقَالُوا مُجِيبِينَ له: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا على الْجِهَادِ ما بَقِينَا أَبَدَا)[21].



8- أَوجَب على المسلم إنقاذ مَنْ يتعرَّض للقتل ظُلمًا، أو يتعرض لخطرٍ إن استطاع أن ينقذه. والتضحية بالنفس في سبيل نصرة الإسلام، أو جلبِ منفعةٍ عامة للمسلمين جائزة؛ لأنَّ مصلحة الدِّين مُقدَّمة على مصلحة النفس، بل يُعدُّ الإقدامُ على الموتِ دفاعًا عن الدِّين، ومصلحةِ المسلمين مقامَ شرفٍ ومدحٍ عند الله تعالى، وعند الناس.



ومع ذلك فإنَّ المسلم إذا علم أنَّ إقدامه على الموت لا يُحقق مصلحةَ المسلمين مع هلاكه، فلا يُستحسن إقدامه على التهلكة، قال العز بن عبدالسلام: (التَّولِّي يوم الزَّحف مفسدة كبيرة، لكنه واجبٌ إذا عَلِمَ أنه يُقتل من غير نكايةٍ في الكفار؛ لأنَّ التعزير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحةِ إعزاز الدِّين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام. وقد صار الثبوت ها هنا مفسدة محضة ليس في طيِّها مصلحة)[22].



وهذا الانهزام الذي يحفظ دماء المسلمين له هدفٌ آخَر غايةٌ في الأهمية، وهو توحيدُ الصَّف من جديد، وتجميعُ القوة وشحذُها، والانطلاقُ من جديد إلى الجهاد، وفي إقدامِ هذه الأنفس مع اليقين بموتها وانهزامِها تفويتٌ لمصلحة عظيمة، وهي إعادة الكَرَّة والتَّجمُّع والاستعداد للحرب مرة أُخرى.



9- شُرِعَ للإنسان أن يُدافع عن نفسه إذا هاجمه مَنْ يُريد الاعتداء عليه، دون تحمُّل أيَّة مسؤولية إذا مات المُهاجم، أو أصابه أذى، وثبت أنه كان يريد الاعتداء عليه؛ ويدل عليه:

أ - ما جاء عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قال: قَاتَلَ يَعْلَى بنُ مُنْيَةَ أو ابنُ أُمَيَّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَاخْتَصَمَا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: (أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لاَ دِيَةَ لَهُ)[23].



ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ)[24]. وفي رواية: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ)[25]. وفي رواية: (مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فَقُتِلَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ دَمِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ)[26].



والخلاصة: أنَّ هناك تشريعات حكيمة جاءت مُفصَّلة ومُبيَّنة في السنة النبوية؛ للمحافظة على أنفس الناس وأطرافهم من الاعتداء عليها، فجَعَلتْ عقاب مَنْ يقتل نفسَه مُتعمِّدًا، بأنْ ينال عقابًا شديدًا في الآخرة؛ وهو أنْ يُعيدَ قتلَ نفسِه في النار بنفس الطريقة؛ إمعانًا في تعذيبه، وتشديدًا في عقابه، كما جَعَلتْ جزاءَ مَنْ قتل غيرَه بغير وجهِ حقٍّ متعمِّدًا في أعلى درجات الجزاء؛ وهو القتل، وجَعَلتْ لوليِّ المقتول حقَّ العفو بدون مقابل، أو على بدل من المال، ورتَّبتْ على قتل الخطأ بعض العقوبات التي تجعل الإنسان يُراعي في تصرفاته وأفعاله الحِكمةَ واليقظة، ويترفَّعَ عن التساهل وعدم الحيطة؛ حتى لا يؤدِّي إهمالُه إلى إتلاف نفوس الناس أو أعضائهم. وهذه التشريعات ضَمِنَتْ بشكلٍ مباشر حِفْظَ النفس في الشريعة الإسلامية وصيانتها.



كما أنَّ الشريعة جعلتْ أحكامًا ورتَّبتها، من شأنها أن تحفظ النفس وتصونها بشكلٍ غير مباشر، ومنها: الحثُّ على التزاوج والتناسل، وتحقيقُ قدرٍ من التكافل الذي يضمن الحدَّ الذي تقوم به الحياة؛ من مأكلٍ ومشرب وملبس ومسكن، ومداواة، ثم جعلتْ حقَّ الدِّفاع، وحماية الضعفاء والمساكين والنساء واجبًا شرعيًا ضد الأعداء، وشرعتْ الجهاد في وجه أعداء الدِّين والمعتدين؛ صيانةً للنفوس، وحِفظًا للأرواح.





[1] الموافقات، (4/ 27، 28).




[2] انظر: تنقيح الفصول في الأصول، لشهاب الدين القرافي (ص205).




[3] انظر: أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف (ص78).




[4] انظر: مغني المحتاج، (4/ 326)؛ نظرية الضرورة الشرعية، وهبة الزحيلي (ص65).




[5] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالِم (ص291).




[6] رواه أبو داود، (2/ 220)، (ح2050). وقال الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (1/ 574)، (ح2050): (حسن صحيح).




[7] رواه البخاري، (5/ 2052)، (ح5049).




[8] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص272).




[9] إعلام الموقعين، (1/ 344).




[10] رواه أبو داود، (3/ 354)، (ح3800). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي دواد)، (2/ 448)، (ح3800).




[11] انظر: تفسير القرطبي، (10/ 180)؛ المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص279).




[12] رواه البخاري، (1/ 28)، (ح52)؛ ومسلم، واللفظ له، (3/ 1219)، (ح1599).




[13] رواه البخاري، (5/ 2247)، (ح5700).




[14] رواه البخاري، (5/ 2247)، (ح5696).




[15] رواه البخاري، (6/ 2521)، (ح6484).




[16] رواه البخاري، (1/ 459)، (ح1297).




[17] رواه البخاري، (3/ 1155)، (ح2995).




[18] رواه البخاري، (6/ 2524)، (ح6490).




[19] رواه البخاري، (6/ 2522)، (ح6486)؛ ومسلم، واللفظ له، (2/ 988).




[20] أحكام القرآن، (2/ 88).




[21] رواه البخاري، (3/ 1043)، (ح2679).





[22] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/ 95).




[23] رواه مسلم، (3/ 1300)، (ح1673).




[24] رواه البخاري، (1/ 466)، (ح2520)؛ ومسلم، (1/ 71)، (ح64).




[25] رواه الترمذي، (1/ 383)، (ح1485) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/ 113)، (ح1421).




[26] رواه النسائي، (2/ 675)، (ح4111). وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي)، (3/ 101)، (ح4105).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 18-01-2021, 07:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

مقاصد السُّنة النبوية (3)

د. محمود بن أحمد الدوسري





حِفْظ العَقْل




إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

للعقل في الإسلام أهميةٌ كبرى فهو مناط المسؤولية، وبه كرَّم الله تعالى الإنسانَ وفضَّله على سائر المخلوقات، وتهيَّأ للقيام بالخلافة في الأرض، وسخَّر له ما في البرِّ والبحر، قال الزمخشري: (كرَّمه اللهُ تعالى بالعقل، والنُّطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة، والقامة المُعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد)[1]. وكلَّفه بعبادته، وطاعته وتحمُّل الأمانة اعتمادًا على وجود العقل، وتحقق مصالح الدنيا والآخرة يحتاج إلى الشرع، والشرعُ لا يقوم إلاَّ على العقل؛ لأنه أساس التكليف.



قال القرطبي: (إنَّ التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عُمدة التكليف، وبه يُعرف اللهُ ويُفهم كلامُه، ويُوصل إلى نعيمه، وتصديق رسلِه، إلاَّ أنه لَمَّا لم ينهض بكلِّ المراد من العبد بُعِثت الرسل، وأُنزِلت الكتب؛ فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فُتحت وكانت سليمةً رأت الشمس، وأدركت تفاصيلَ الأشياء)[2].



ووصفَ الغزَّالي العقلَ بأنه (آلة الفهم، وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف، وملاك أمور الدِّين والدنيا، وبأنه أشرف صفات الإنسان)[3].



ولأهمية العقل في الإسلام؛ فقد جعلتْ الشريعة المقصد الثالث من مقاصدها حفظ العقل، بعد حفظ الدِّين وحفظ النفس، وهذا الترتيب يُبيِّن لنا مدى احتفاء الشريعة بالعقل، فالدِّين أوَّلاً؛ لكونه الغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الخلق، والنفس ثانياً؛ لكونها الوعاء الذي يضمُّ الجوارح والقلب والعقل، وجاء العقل في المرتبة الثالثة؛ لكونه وسيلةَ التَّلقِّي والفهم، فيتلقَّى عن الله تعالى بواسطة الأنبياء الشريعة، ويفهم عنهم المراد والمقصد.



والملاحظ على أحكام الشريعة الإسلامية، سواء ما ورد منها في القرآن الكريم أو السنة النبوية أنها خلت من ذِكر أحكامٍ خاصة بالعقل، فليس في الشريعة بابٌ اسمه باب العقل مثلاً، ورغم ذلك فإنَّ المتتبع للعديد من الآيات القرآنية يجد أنها قد احتفت بالعقل ومكانته، وحثَّت على إعماله، واستثمار قدراته، وكذلك السنة النبوية وتوجيهاتها إلى العلم والتَّعلُّم والتدبُّر، والذي لا يوصل إليه إلاَّ باستثمار طاقات العقل وقدراته، ممَّا يدلُّ على مكانة العقل، كما يُلاحظ ارتباط كثيرٍ من الأحكام بالعقل، ممَّا يستنبط منها ضرورة حفظِ العقل وصيانتِه.



قال الشاطبي: (وحفظ العقل يتناول ما لا يُفسده، وهو في القرآن، ومُكَمِّلُه شرعيَّة الحدِّ أو الزَّجر، وليس في القرآن له أصلٌ على الخصوص، فلم يكن له في السُّنة حُكم على الخصوص أيضاً، فبقي الحكمُ فيه إلى اجتهاد الأُمَّة)[4]، وهذا الاجتهاد مُستفادٌ من أصول الشريعة العامة، ونصوص القرآن والسنة، وقد فطن العلماء إلى ذلك، فجعلوه المقصدَ الثالث من المقاصد التي جاءت الشريعة لتحقيقها.



تعريف العقل: العقل قوة في نفس الإنسان يُدرك من خلالها العلوم، ويُحصِّل المعارف، وله إطلاقات مختلفة عند العلماء والحكماء والعامة. والمقصود بالعقل هنا: (هو القوة الإدراكية التي تلي قوة الحواس، وفي مجال يفوق مجال الحواس، ودون الوحي الإلهي الذي يأتي عن طريق الرُّسل لهداية العقل الإنساني إلى سواء السبيل، ويُجَنِّبه الزَّلل والضلال، ويُخرجه من الظلمات إلى النور)[5].



علاقة العقل بالحواس: الإنسان مُكوَّن من عقلٍ وحواس ظاهرة؛ كالسمعِ والبصرِ، والشَّمِّ، والذَّوقِ، واللَّمسِ، والعقلُ والحواسُّ وسيلتان من وسائل الإدراك، لكنَّ الحواسَ بمثابة المُقدِّمات للعقل، تُعاوِنه وتُساعده في الوصول إلى العلوم والمعارف، والعقل بمثابة الحاكم يتصرف فيما أتت به الحواس من معارف فيمحِّصها، ويَقْبَل ما كان حقًّا، ويردُّ ما كان باطلاً، والعقل بدون الحواس لا قيمةَ له، كما أنَّ الحواس بدون العقل لا قيمةَ لها في حياة الإنسان المُكرَّم المُفضَّل.



وسائل المحافظة على العقل: لهذه الأهمية الخاصة حافظ الإسلامُ على العقل وسَنَّ من التشريعات ما يضمن سلامته وحيويَّته وذلك من خلال وسائل أساسية، وأخرى مُساعدة:

أولاً: "الوسائل الأساسية" لحفظ العقل:

الوسيلة الأولى: أهمية التعليم للمحافظة على العقل، فالتعليم من الأمور المطلوبة من كل رجلٍ وامرأة، وجعل العلماء هم أفضل الناس، وحث على طلب العلم، وفائدة التعليم هي تمرين العقل وصقله على سرعة الإدراك وربط الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات، فالعقل البشري كما يحتاج في نموه وبقائه إلى الغذاء فإنه يحتاج أيضاً إلى العلم والمعرفة، وهو كالمرآة كلما زاد الاهتمام بتنظيفها من الغبار والأدران كانت أحسن حالاً في تأدية وظيفتها.



ونسبةً لقيمة التعليم وأثره في تقويم العقول حرص الإسلام على أن يجعله فريضة على كلِّ مسلمٍ ومسلمة، في قوله صلى الله عليه وسلم: (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلُّ مُسْلِمٍ)[6]. وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم التعليم؛ محافظةً على العقول؛ لأنه لا قيمةَ لعقل جاهل يكون عُرضةً لكلِّ ما يخطر عليه من الأوهام والخرافات، فمثل هذا العقل لا يُدرك المصالح الدُّنيوية فضلاً عن الحقائق الدِّينية، فيصير فريسةً للبدع، والخرافات، والانحرافات الفِكرية، وربَّما يصل به الحال إلى الشرك بالله تعالى من حيث لا يعلم؛ بسبب جهله المُركَّب[7].



الوسيلة الثانية: تحريم المُسكراتِ والمخدِّرات، وتحريم كلِّ ما من شأنه أنْ يؤثِّرَ على العقل، ويَضُرَّ به، أو يُعَطِّلَ طاقتَه؛ كالخمر والحشيش وغيرِها، قال النووي: (وأمَّا الخمر فقد أجمع المسلمون: على تحريم شُرب الخمر، وأجمعوا: على وجوب الحدِّ على شاربها، سواءٌ شَرِبَ قليلاً أو كثيراً)[8].



والأحاديث في ذلك كثيرة ومتوافرة، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ)[9]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاَةِ فَهُوَ حَرَامٌ)[11]. قال النووي: (فيه تصريحٌ بتحريم جميع الأنبذة المُسكرة، وأنها كلَّها تُسمَّى خمراً، وسواء في ذلك الفضيخ[12]، ونبيذ التمر، والرطب والبسر، والزبيب، والشعير، والذرة، والعسل، وغيرها، وكلُّها مُحرَّمة، وتُسمَّى خمراً، هذا مذهبنا، وبه قال مالكٌ وأحمدُ والجماهيرُ من السلف والخلف)[13].



ويستوي قليلُ الخمر وكثيرُه في الحرمة؛ لأنَّ الكثير مُسكر، والقليل داعيةٌ إلى الإسكار، ولا يتمُّ المقصود الشرعي إلاَّ بتحريمه، فأُلحِق بالكثير؛ سدًّا للذَّريعة، وإتماماً للمقصود الشرعي، وفي ذلك يقول ابن القيم: (وَمَنَعَ قَلِيلَ الْخَمْرِ، وَإِنْ كان لا يُسْكِرُ إذْ قَلِيلُهُ دَاعٍ إلَى كَثِيرِهِ، وَلِهَذَا كان مَنْ أَبَاحَ من نَبِيذِ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ الْقَدْرَ الذي لاَ يُسْكِرُ خَارِجًا عن مَحْضِ الْقِيَاسِ، وَالْحِكْمَةِ، وَمُوجِبِ النُّصُوصِ)[14].



والتحريم يشمل كلَّ ما من شأنه أنْ يُذهب العقلَ من أنواع المخدِّرات والأقراص المُستحدثة؛ من البانجو والهروين والمَرَوانة، والكَبْتاجون ونحوها من الأقراص المخدِّرة التي تخلُّ بالإدراك وتُذهب العقل، إذ أنَّ العلَّة من تحريم الخمر المنصوص عليها صراحة في القرآن والسنة هي ذهاب العقل، ومن ثَمَّ فإنَّ العلَّة نفسَها إذا وُجدت مع نوعٍ آخَرَ غيرِ منصوصٍ عليه أَخَذَ حُكْمَ المنصوصِ عليه، باعتبار العلَّة.



الحِكمة من تحريم الخمر والمُخدِّرات: المحافظة على نعمة العقل والإدراك هي الحكمة الأساسية والغاية العظمى التي من أجلها شُرِعَ تحريمُ الخمر، وما يُلحق بها من المُسْكِرات والمخدِّرات، وقد قرَّر العلماءُ ذلك في العديد من أقوالهم، ومما جاء في ذلك:

أ- قول الرازي: (إنَّ عقل الإنسان أشرفُ صفاته، والخمرُ عدوُّ العقل، وكلُّ ما كان عدوَّ الأشرف فهو أخس، فيلزم أنْ يكون شربُ الخمر أخس الأمور. وتقريره: أنَّ العقل إنما سُمِّي عقلاً؛ لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فِعلٍ قبيح، كان عقلُه مانعاً له من الإقدام عليه، فإذا شَرِبَ الخمرَ بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل المانعِ منها. وذَكَرَ ابنُ أبي الدنيا: أنه مَرَّ على سكران، وهو يبول في يده، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلامَ نوراً، والماء طهوراً)[15].



والفطرة السليمة ترفضُ بما أودعه الله فيها شُربَ الخمر؛ وذلك لأنَّ شرب الخمر يُنافي المروءة والأخلاق القويمة؛ لذا وُجِدَ من أهل الجاهلية مَنْ لم يشرب الخمرَ لما دلَّه عليه طبيعته وفطرته من خُبثها وعدمِ فائدتها، (فعن العباس بن مرداس: أنه قيل له في الجاهلية: لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذٍ جهلي بيدي، فأدخله جوفي، ولا أرضى أنْ أُصبِح سيِّدَ قومٍ وأُمسي سفيهَهم)[16].



ب- وقال الغزَّالي: (حَرَّمَ الشرعُ شربَ الخمر؛ لأنه يُزيل العقل، وبقاء العقل مقصود للشرع، لأنه آلة الفهم، وحامل الأمانة ومحل الخطاب والتكليف، فالعقل ملاك أمور الدِّين والدنيا فبقاؤه مقصود)[17].



ج- وقال الألوسي: (لو لم يكن فيها سِوى إزالة العقل والخروج عن حد الاستقامة لكفى، فإنه إذا أختلَّ العقل حصلت الخبائث بأسرها)[18]. ولذا أسماها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ الخبائث، وأُمَّ الفواحش.



الأضرار المُترتِّبة على شُرب المُسكر: إنَّ تحريم المسكرات والمخدِّرات في الشريعة الإسلامية جاء في المقام الأَوَّل لحفظ العقل وصيانته، كما جاء لتجنُّب ما يُسبِّبه غياب العقل من مفاسد ومضار مُتحقِّقة الوقوع بغيابه، وهذه المفاسد وتلك المضار متعدِّدة الجوانب ومتعدِّية الأثر، فمنها ما يلحق الشخص المدمن نفسَه، ومنها ما يلحق المحيطين به أفراداً ومجتمعات، ومن ثَمَّ الأمة بأسرها، ومن ذلك ما يلي:

الأضرار والمفاسد القاصرة: التي تعود على شارب الخمر في شخصه ودِينه وعقله وبدنه وماله ومكانته بين الناس: فقد أشار القرآن الكريم إلى مفاسد الخمر وأضرارها، وأنَّ ضررها أكبر من نفعها، وأنها تُورث العداوة والبغضاء، وتصدُّ عن ذِكْرِ اللهِ، وعن الصلاة، وجاء في السُّنة: أنها أمُّ الفواحش وأكبرُ الكبائر، وأنها أُمُّ الخَبائِثِ، ومَنْ شَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ صَلاَتُهُ أَرْبَعِينَ يَوماً، وأنَّها ملعونة وشاربها، وأنه يُسقى عرق أهل النار يوم القيامة، وبيان ذلك يأتي فيما بعد.



وأما الأضرار البدنية: فهناك أضرار سلبية تؤثر على الجهاز العصبي بسبب تعاطي المسكرات، وثبت أنَّ 30% من المجانين الذين يُعالَجون في مستشفيات الأمراض العقلية كان جنونهم ناشئاً عن تعاطي المسكرات، مما حدا ببعض الأطباء الألمان أن يقول: (اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والملاجئ والسجون)[19].



بل إنَّ للمسكرات أثراً خطيراً على أجهزة الجسم؛ كالأوعية الدموية، والكليتين، والرئتين، يقول الأطباء: إنَّ المسكر لا يتحول إلى دم كما تتحول سائر الأغذية بعد الهضم، بل يبقى على حاله فيزحم الدمَ في مجاريه فتسرع حركة الدم، وتخرج عن وضعها الطبيعي، لأنَّ الأساس في الخمر مادة الكحول، فزيادتها في الجسم بتعاطي الخمور لمدة طويلة يُحدث التهاباً مُزمِناً في الأعصاب، وفي الكلى، وتصلُّباً في الشرايين، وتحجُّراً في الكبد، وضعفاً في القلب، ويكون موت السكران مُحقَّقاً إذا بلغت نسبة الكُحول في دمه ستة في الألف[20].



وأما إضاعة المال: فهو ضرر ظاهر لا يحتاج إلى برهان؛ كما قال ابن أبي الدنيا: (بلغني أنَّ قيس بن عاصم قيل له في الجاهلية: تركتَ الشرابَ؟! قال: لأني رأيتُه مَتلفةً للمال، داعيةً إلى شرِّ المقال، مَذهبةً بمروءات الرجال)[21]، فإنَّ مدمن الخمر لا يستطيع التخلي عن شربها، وربما أدى به الحال إلى التخلي عن الضروريات أو الحاجيات بسبب تبذير المال في شرب الخمر، فيفسد بذلك عقله ودينه ودنياه.



ووصف ابنُ القيمِ الخمرَ بأنها: (تُورِثُ الخزيَ والندامةَ والفضيحة، وتُلحِق شاربها بأنقصِ نوع الإنسان؛ وهم المجانين، وتُسلِبه أحسنَ الأسماء والسِّمات، وتَكسوه أقبحَ الأسماء والصِّفات، وتُسهِّل قتلَ النفس، وإفشاءَ السِّر الذي في إفشائه مضرَّتُه أو هلاكُه، ومؤاخاةَ الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياماً له... وتُهوِّن ارتكابَ القبائح والمأثم، وتُخْرِج من القلب تعظيمَ المحارم، ومُدمِنُها كعابد وثنٍ، وكم أهاجت من حرب، وأفقرت من غنيٍّ، وأذلَّت من عزيز، ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة، وجلبت من نقمة، وفسخت من مودَّة، ونسجت من عداوة، وكم فرَّقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه، وراحت بِلُبِّه، وكم أورثت من حسرة، وأجْرَت من عبرة، وكم أغلقت في وجه شاربها باباً من الخير، وفتحت له باباً من الشر، وكم أوقعت في بلية، وعجَّلت من مَنيَّته، وكم أورثت من خِزية... فهي جِماعُ الإثم، ومِفتاحُ الشر، وسَلاَّبةُ النِّعم، وجلاَّبةُ النِّقم)[22].



وأما الأضرار المتعدية: فهناك مفاسد في محيط الأسرة حيث يُقصِّر شارب الخمر في حقوق زوجته وأولاده بإهمال شؤونهم في الرعاية والعناية، وكذا في الجانب المالي بإضاعته في هذه السُّموم، والمفاسد الاجتماعية لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ لأنَّ مُتعاطي الخمر تتأثَّر قواه العقلية، ويخرج بذلك عن تصرُّفات العقلاء، وحدود الشرع وقيود العادة والطبع، ويكون مستعدًّا لإحداث كلِّ رذيلة اجتماعية، ولمقارفة كلِّ جريمة؛ كالقتل والزنا والسرقة ونحوها.



وأما الأضرار المتعدية إلى محيط الأمة: فإنَّ كلَّ أمةٍ انتشر فيها داء المسكرات والمخدِّرات تصاب بالوهن والتفكك في روابطها وعلاقاتها، وتنتشر ضَّغائن العداوة والبغضاء بين أفرادها؛ بسبب ما يقع من جرائم على النفس، والعرض، والمال، وتضعف كذلك القوة الإنتاجية؛ بسبب تأثير المسكرات على القوة العاملة، والقوة المدافعة عن حرماتها ومقدساتها، وربما نتج من ذلك إفشاء أسرار الدولة إلى الأعداء بسبب سيطرة الشهوات على أفرادها فلا تفلح في حياة الدنيا ولا في الآخرة[23].



الوسيلة الثالثة: العقوبةَ الرادعة على تناول المسكرات؛ وذلك لخطورتها وأثرها البالغ الضرر على الفرد والمجتمع، وسلك في ذلك مسلكين:

المسلك الأول: الوازع الدِّيني: ببيانِ حُكمِ المسكرات، وبيان المضار والمفاسد المترتبة على شربها، وبيان عقوبة الآخرة، ومن ذلك:

أ- قولُه صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ؛ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! وما طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قال: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أو عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ)[24].



ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ في الدُّنْيَا فَمَاتَ وهو يُدْمِنُهَا[25]، لم يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ)[26].



ج- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الخَمْرُ أُمُّ الخَبائِثِ، فَمَنْ شَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ صَلاَتُهُ أَرْبَعِينَ يَوماً، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ فِي بَطْنِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)[27].



د- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ، وَخَالَتِهِ، وَعَمَّتِهِ)[28].



هـ- وقوله صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ)[29].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18-01-2021, 07:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

المسلك الآخَر: الوازع السلطاني: المُتمثِّل في العقوبة البدنية في الدنيا، فهو بذلك يمنع التظاهر بالجريمة، ويزجر المُجرم من معاودة الإجرام، وهذا المسلك مُتمِّم ومُكمِّل للأول، وقد شُرِعَتْ عقوبةُ الخمر، وهي الجلد في السنة النبوية، وذلك فيما يلي:


أ- عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه؛ (أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قد شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ). قال: وَفَعَلَهُ أبو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه اسْتَشَارَ النَّاسَ فقال عبدُ الرحمنِ بنُ عوفِ رضي الله عنه: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ[30]، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ[31].



ب- وفي حديث عليٍّ رضي الله عنه؛ أنَّه جَلَدَ أربعين، ثم قال للجَلاَّدِ: (أَمْسِكْ، ثُمَّ قال: جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أبو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ[32]، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ[33])[34].



ج- وعن السَّائِبِ بن يَزِيدَ رضي الله عنه قال: (كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمْرَةِ أبي بَكْرٍ وَصَدْرًا من خِلاَفَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إليه بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا، حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إذا عَتَوْا[35] وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ)[36]. قال الترمذي: (وَالْعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ حَدَّ السَّكْرَانِ ثَمَانُونَ)[37].



وقال النووي: (اختلف العلماء في قدر حدِّ الخمر:

1- فقال الشافعي، وأبو ثور، وداود، وأهل الظاهر، وآخرون: حدُّه أربعون. قال الشافعي: وللإمام أن يبلغ به ثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات، على تسببه في إزالة عقله، وفي تَعَرُّضِه للقذف، والقتل، وأنواع الإيذاء، وترك الصلاة، وغير ذلك.



2- ونقل القاضي عن الجمهور من السلف والفقهاء؛ منهم مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق - رحمهم الله تعالى، أنهم قالوا: حدُّه ثمانون، واحتجوا: بأنه الذي استقرَّ عليه إجماعُ الصحابة، وأنَّ فِعْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يكن للتحديد، ولهذا قال في الرواية الأُولى: (نَحْوَ أَرْبَعِينَ)[38].



وحُجَّة الشافعي وموافقيه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما جَلَدَ أربعين، كما صرَّح به في الرواية الثانية[39]، وأما زيادة عمر: فهي تعزيراتٌ، والتعزير إلى رأي الإمام؛ إنْ شاء فَعَلَه، وإنْ شاء تَرَكَه، بحسب المصلحة في فِعلِه وتركِه، فرآه عمرُ، ففَعَلَه، ولم يره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكرٍ رضي الله عنه، ولا عليٌّ رضي الله عنه، فتركوه، وهكذا يقول الشافعي: إنَّ الزيادة؛ إلى رأي الإمام، وأما الأربعون؛ فهي الحدُّ المُقَدَّر الذي لا بدَّ منه، ولو كانت الزيادة حدًّا لم يتركْها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ رضي الله عنه، ولم يتركْها عليٌّ رضي الله عنه بعد فِعْلِ عمر؛ ولهذا قال عليٌّ رضي الله عنه: "وَكُلٌّ سُنَّةٌ"، معناه: الاقتصار على الأربعين، وبلوغ الثمانين، فهذا الذي قاله الشافعي هو الظاهر الذي تقتضيه هذه الأحاديث، ولا يُشكل شيءٌ منها)[40].



وهذه العقوبات المُقرَّرة في حقِّ شارب الخمر بنوعيها (الحد - التعزير) يُناط بها ردعُ شارب الخمر وزجرُه عن المعاودة؛ حفاظاً لعقله الذي به تُصان الأعراض، وتُحرم الحرمات، وتُحفظ المجتمعات، وتُحمى من التَّعدِّي والخروج على النسق العام والآداب العامة التي أقرَّها الإسلام، ووافقها الطبع والعُرف.



ثانياً: "الوسائل المساعدة" لحفظ العقل:

1- تربية العقل على روح الاستقلال في الفهم والنظر، واتباع البرهان، ونبذ التقليد غير القائم على الحجة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 24]، وقوله سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [المؤمنون: 117]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111].



2- الدعوة إلى تنمية العقل ماديًّا ومعنويًّا؛ ماديًّا: بالغذاء الجيِّد الذي يُقوِّي الجسم ويُنشِّط الذِّهن، ومن هنا كُرِه للقاضي أن يقضي وهو جائع، وفُضِّلَ تقديمُ الطعام على الصلاة إذا حضرا معًا. أما معنويًّا: فبالتأكيد على طلب العلم واعتباره أساس الإيمان، وإتاحة التعليم للجميع، وجعله حقًّا مُشاعًا بين أفراد المجتمع، بل هناك حدٌّ أدنى منه واجبٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة، وليس أدل على اعتبار السنة النبوية لمكانة العقل وقيمته من أنها جَعلت فكاك الأسرى؛ أسرى بدر بأن يقوم كلُّ واحدٍ منهم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، فجَعَلَ القراءةَ والكتابة، وهما بابُ العلم ومفتاحُ التدبُّر جَعَلَهما مُعادلاً للحرية، إذ أنَّ تحرير العقل من قيد الجهل يعادل فكاك الأسير من الأسر ونيله الحرية، وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم لَدَليل دامِغٌ على أهمية العقل في الإسلام والسنة النبوية.



3- رَفْعُ مكانةِ العقل، وتكريمُ أُولي العقول؛ ففي أكثر من آيةٍ من القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18]، ويقول سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، ويقول تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].



4- تحرير العقل من سلطان الخرافة، وإطلاقه من إسار الأوهام، ومن هنا حَرَّم الإسلامُ السِّحر والكِهانة والشَّعوذة وغيرَها من أساليب الدَّجل والخرافة، كما أنه مَنَع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطانٍ أو علمٍ يأتيه من الوحي المُنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبر ذلك سبباً رئيساً في هدر طاقته من غير طائل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [غافر: 56].



5- تدريب العقل على الاستدلال المثمر، والتعرف على الحقيقة، من خلال وسيلتين:

أ- وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي المفيد لليقين، ومن هنا جاءت الدعوة إلى التَّثبُّت قبل الاعتقاد، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]، وذكر الله تعالى عن أهل الكهف أنهم قالوا: ﴿ هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 15].



ب- الدعوة إلى التدبُّر في نواميس الكون لاستكشافها، وتأمُّل ما فيها من دقة وترابط، والاستقراء والتمحيص الدقيق للوصول إلى اليقين.



6- توجيه الطاقة العقلية إلى استخلاص حِكَمِ التشريع وأسراره، ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].



7- استخلاص الطاقات المادية في الكون والاستفادة منها، في بناء الحضارة ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [الملك: 15].



8- فتح باب الاجتهاد في التشريع، فيما لا نصَّ فيه، ويتمثل ذلك في أمرين:

أ- استخلاص المقاصد والأهداف من النصوص والأحكام الشرعية.



ب- استنباط الأحكام والتشريعات لما يُستجد من حوادث، وهو مجال واسع يستند إلى مبادئ عدة؛ كالقياس، والمصلحة، والاستحسان، وغيرها[41].



الخلاصة: نخلص مما سبق إلى أنَّ العقل في الإسلام يحتل مكانةً سامية؛ لكونه وسيلةَ التَّلقي للنصوص، فهو الباب الأول للإيمان؛ لذا رُفِعَ التكليف عن المجنون لفقدانه هذه الوسيلة، وقد أعلى الإسلام من شأنه ورَفَع من قدره واتَّخذ من الوسائل والتَّدابير الحافظة والداعمة لتنميته وتطويره ما يُمَكِّنُه من تحقيق الهدف المنوط به، وهو تعقُّل الأمور والتمييز بين الحسن والقبيح والذي يترتَّب عليه مدى قدرة الإنسان وكفاءته في تحقيق الخلافة على وجه الأرض.





[1] الكشاف، (2/ 635).




[2] الجامع لأحكام القرآن، (10/ 294).




[3] شفاء الغليل، (ص103)؛ وانظر: المستصفى، (ص3).




[4] الموافقات، (4/ 29).




[5] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص328).




[6] رواه ابن ماجه، (1/ 81)، (ح224). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (1/ 92)، (ح184).




[7] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص366).




[8] شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 217).




[9] رواه البخاري، (1/ 95)، (ح239)؛ ومسلم، (3/ 1585)، (ح2001).




[10] رواه مسلم، (3/ 1587)، (ح2003).




[11] رواه مسلم، (3/ 1586)، (ح1733).




[12] الفضيخ: شرابٌ يُتَّخذ من البسر المفضوخ: أي المشدوخ. انظر: النهاية، (3/ 453).




[13] شرح النووي على صحيح مسلم، (13/ 148).




[14] إعلام الموقعين، (2/ 103).




[15] التفسير الكبير، (6/ 40).




[16] التفسير الكبير، (6/ 40).




[17] شفاء الغليل، (ص103).




[18] روح المعاني، (2/ 114).




[19] انظر: مجلد الهداية الإسلامية، (4/ 214)؛ تفسير المنار، (326).




[20] انظر: روح الدين الإسلامي، (ص409).




[21] ذم المسكر، (ص74).




[22] حادي الأرواح، (ص122).




[23] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص378، 382).




[24] رواه مسلم، (3/ 1587)، (ح2002).




[25] أي: يُداوم على شُربها، بأنْ لم يتب عنها حتى مات على ذلك. انظر: تحفة الأحوذي، (5/ 486).




[26] رواه مسلم، (3/ 1587)، (ح2003).




[27] رواه الطبراني في (الأوسط)، (4/ 81)، (ح3667). وحسنه الألباني في (صحيح الجامع الصغير)، (1/ 631)، (ح3344).




[28] رواه الطبراني في (الكبير)، (11/ 164)، (ح11372). وحسنه الألباني في (صحيح الجامع الصغير)، (1/ 631)، (ح3345).




[29] رواه أبو داود، (3/ 326)، (ح3674). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 417)، (ح3674).




[30] (أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ): بنصب أخف، وهو منصوبٌ بفِعْلٍ محذوفٍ، أي: اجلِدْهُ كأخَفِّ الحدود، أو اجعَلْه كأخَفِّ الحدود، والمقصودُ بقوله: (أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ) يعني: المنصوصَ عليها في القرآن، وهي: حدُّ السرقة بقطع اليد، وحدُّ الزنا جلد مائة، وحدُّ القذف ثمانين، فاجعلها ثمانين كأخفِّ هذه الحدود، وفي هذا: جوازُ القياس، واستحبابُ مشاورة القاضي والمفتي أصحابَه، وحاضري مَجلسِه في الأحكام. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 216).




[31] رواه مسلم، (3/ 1330)، (ح1706).




[32] (وَكُلٌّ سُنَّةٌ): معناه: أنَّ فِعْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ رضي الله عنه سُنَّةٌ يُعمل بها، وكذا فِعْلُ عُمَرَ رضي الله عنه، ولكنْ فِعْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ رضي الله عنه أحَبُّ إِلَيَّ. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 217).




[33] (وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ): إشارة إلى الأربعين التي كان جَلَدَها وقال للجَلاَّدِ: (أَمْسِكْ). ومعناه: هذا الذي قد جلدتَه، وهو الأربعون، أحبُّ إليِّ من الثمانين، وفيه: أنَّ فِعْلَ الصحابي سُنَّةٌ يُعمل بها، وهو مُوافِقٌ لقولِه صلى الله عليه وسلم: (فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) رواه الترمذي، (5/ 44)، (ح2676) وقال: (حسن صحيح). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (3/ 70)، (ح2676). انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 217).




[34] رواه مسلم، (3/ 1331)، (ح1707).




[35] (عَتَوْا): العتو: المبالغة في ركوب المعاصي، والعاتي: هو الذي لا يؤثر عنده الوعظ والزجر. انظر: كشف المشكل، لابن الجوزي (1/ 81).




[36] رواه البخاري، (6/ 2488)، (ح6397).




[37] سنن الترمذي، (4/ 84).




[38] رواه مسلم، (3/ 1330)، (ح1706).




[39] رواه مسلم، (3/ 1331)، (ح1706).




[40] شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 217، 218).




[41] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، (ص20).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18-01-2021, 07:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

مقاصد السُّنة النبوية (4)

د. محمود بن أحمد الدوسري



حِفْظ النَّسل


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

معنى النَّسْل في اللغة:
الولد، ونَسَلَ نَسْلاً من باب ضرب: كثر نَسْلُه، وتناسلوا: توالدوا[1]، ويراد به في الشَّرع: الولد والذُّرية التي تعقب الآباء وتخلفهم.

وحِفظُ النوع الإنساني على الأرض بواسطة التناسل؛ لذا جعل الله تعالى الزواج سنةً في عباده، وآيةً من آياته العظيمة الدالة على عظمته، وقد وضع الله تعالى في الذَّكر والأنثى دوافعَ طبيعية ونوازعَ فِطرية تكفل للنوع الإنساني البقاء والاستمرار، منذ عهد آدم وحواء إلى وقتنا الحاضر، بل إلى أن يأذن الله سبحانه بفناء العالَم، ويرث الأرض ومَنْ عليها، وعزَّز تلك الدوافع والنوازع بضوابط وقواعد تكفل للنَّسل أحسن السُّبل، وأسلم الطُّرق، وأكرمها في الوجود والاستمرار.

وحب البقاء، والشوق إلى دوام الحياة فِطرةٌ بشرية تجعل النفوسَ نزَّاعة إلى الخلف؛ لأنها ترى فيه امتداداً لحياتها، وقد كفلت الشريعة الإسلامية حفظ النسل، وجعلت حفظ النسل مقصداً من مقاصدها التي يُراد تحقيقها بتطبيقها، إذ أنَّ حفظ النسل قد أُحيط بسياجٍ من تشريعاتٍ متعددةٍ ومتنوعة، تَقصد جميعها إلى تحقيق هذا المقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.

أمَّا عن ترتيبه في جملة المقاصد، فهو يمثِّل المقصد الرابع بعد حفظ الدِّين والنفس والعقل، وبذلك يحتل درجةً رفيعة ومنزلةً متقدِّمة حيث إنَّ حفظ الدِّين هو المقصد الأوَّل الذي من أجله خلق الله الخلق، ثمَّ حفظ النفس وهي الوعاء، ثمَّ حفظ العقل، وهو جزءٌ لا يتجزَّأ عن النفس، ثمَّ حفظ النسل، وهو نتاج المقصد الثاني والثالث، فبدون تحقُّق هذين المقصدين لا يمكن بأيِّ حال تحقيق مقصدِ حِفْظِ النفس.

والإسلام حرص كلَّ الحرص على الإنسان، ذلك الكائن الكريمُ على الله تعالى، الذي خلقه وكرَّمه، وأودع فيه من آياته، ومن أجله خلق الكونَ وما فيه وسخَّره له؛ لذا قدَّمته الشريعة الإسلامية الإلهية على الماديات، فكانت المقاصد الأربعة، وآخِرُها حفظ النسل متمركزة حول الإنسان، ثمَّ جاء مقصد حفظ المال وما في معناه من الممتلكات المختلفة تالياً، وهكذا يتقدَّم مقصد حفظ النسل على المادة والمال، فتتَّضح مكانته وتبرز أهميته في الشريعة الإسلامية.

وسائل المحافظة على النَّسْل:
من أجل تحقيق هذا المقصد العظيم، شرع الإسلامُ المبادئ والتشريعات التالية:
الوسيلة الأولى: الإيجاد وتحقيق المصالح:
فحفظ النسل في الشريعة الإسلامية مرتبط بقضية جوهرية وأساسية، وهي قضية وجود هذا النسل، حيث وضعت الشريعة الإسلامية منهجاً واضحاً ومحدَّداً، يتمثَّل في نظام النكاح الإسلامي؛ ليكون الطريقَ الشرعي الوحيد الذي يوجد منه النسل، وهذا المنهج يتضمَّن عدة محاور، وهي:
أوَّلاً: مشروعية النِّكاح: شرع الإسلامُ النِّكاح، ورغَّب فيه، واعتبره الطريقَ الفِطري النظيف، الذي يلتقي فيه الرجل بالمرأة، لا بدوافع غرِيزيَّة محضة، ولكن بالإضافة إلى تلك الدوافع، يلتقيان من أجل تحقيق هدف سامٍ نبيل؛ هو حفظ النوع الإنساني، وابتغاء الذرية الصالحة التي تعمر العالَم، وتبني الحياة الإنسانية، وتتسلَّم أعباء الخلافة في الأرض؛ لتسلمها إلى مَنْ يخلُف بعدها حتى يستمر العطاء الإنساني، وتزدهر الحضارة الإنسانية، في ظِلِّ المبادئ النبيلة، والقيم الفاضلة.

والنِّكاح: هو (عَقْدٌ بين الزَّوْجَيْنِ يَحِلُّ بِهِ الْوَطْءُ)[2]، واتَّفق العلماء: على أنَّ النكاح في حالة التَّوَقان والخوف من الوقوع في الحرام واجب، وأما في حالة الاعتدال فقال الجمهور: بأنه مندوب[3].

مقاصد الزواج الأصلية والتَّبعِيَّة: الزواج له مقصد أصلي، ومقاصد أخرى تبعيَّة مُكمِّلة للمقصد الأصلي، وهي على النحو التالي:

المقصد الأصلي للزواج: المحافظة على النَّسل، وحِفْظُه من الانقطاع:
الله تعالى خلق الشهوة في الرجل والمرأة كقوَّةٍ دافِعة، وقاهرة في كِلا الطَّرفين؛ كي تكون سبباً تجعل كُلاًّ منهما يتطلع إلى لقاء الآخَر بوازع طبيعي قاهر، ولا يختلف عن وازع الأكل والشرب إلاَّ بالاعتبار، والمصلحة الأصلية لمشروعية الزواج هي المحافظة على النسل إيجاداً وإبقاءً، لذا أجمع العلماء: على أنَّ المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية الخمسة، وعلى هذا فإنَّ فكرة تحديد النسل، ومحاربة تعدد الزوجات، تُناقِضُ قصد الشارع الحكيم إنْ كانت مبدأً عاماً لحياة الأمة الإسلامية، وأما في حالة الضرورة الخاصة فإنَّ ذلك يُقدَّر بقدرها، ويخضع لأحكامها.

التوصل إلى الولد بالزواج يكون قُربةً من أربعة أوجه:
1- موافقة محبَّة الله بالسعي في تحصيل الولد؛ لإبقاء جنس الإنسان.

2- نيل محبة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير أُمَّته من بين الأمم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ)[4].

3- الانتفاع بدعاء الولد الصالح بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ؛ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)[5].

4- حصول الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم - للنساء: (مَا مِنْكُنَّ مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ بين يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاَّ كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ)، فقالت امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ)[6].

المقاصد التَّبعيَّة للزواج أربعة[7]:
الأول: التَّحصُّن من الشيطان، ودَفْعُ غوائلِ الشهوة، وغَضُّ البصر، وحِفظُ الفرج؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (يا مَعْشَرَ الشَّبَاب! مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لُهُ وِجَاءٌ)[8]، والنِّكاح بقصد دفع غَائلة الشهوة مُهِمٌّ في الدِّين؛ لأنَّ الشهوة إذا غلبت، ولم تُقاومها قوى التَّقوى جرَّت إلى اقتحام الفواحش.

الثاني: النكاح بقصد ترويح النفس وإيناسها، بالمجالسة، والنظر والملاعبة؛ إراحةً للقلب، وتقويةً له على العبادة؛ لما جاء عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ - رضي الله عنه -؛ أنَّه تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يا جَابِرُ! تَزَوَّجْتَ؟) قال: قلتُ: نَعَمْ، قال: (فَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟) قال: قلتُ: بَلْ ثَيِّبٌ، يا رَسُولَ اللَّهِ! قال: (فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ)، أو قال: (تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ)[9]. والنفس - بطبعها - ملول، وهي عن الحق نفور؛ لأنه على خلاف طبعها، فلو كُلِّفَتْ المداومة بالإكراه على ما يُخالفها جمحت وثابت، وإذا رُوِّحَتْ باللَّذات في بعض الأوقات قوِيت ونشَطَت، وفي الاستئناس بالنِّساء من الاستراحة، ما يزيل الكربَ، ويُرَوِّح القلب.

الثالث: النكاح بقصد تفريغ القلب عن مشاغل تدبير المنزل، والتكلف بشغل الطبخ، والكنس، وتنظيف الأواني ونحو ذلك من الأعمال المنزلية، والمرأة الصالحة لزوجها المُصلِحة لبيتها عونٌ على الدِّين، ومتاع في الدنيا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)[10].

الرابع: النكاح بقصد مجاهدة النفس، ورياضتها بالرعاية والقيام بحقوق الزوجة، والصبر على أخلاق النساء، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهنَّ وإرشادهنَّ، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهنَّ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[11]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لم يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ)[12]. (والمعنى: أوصيكم بهنَّ خيراً، فاقبلوا وصِيَّتي فيهنَّ؛ فإنهنَّ خُلِقْنَ من ضِلَعٍ، واستُعير الضِلَع للعِوَج أي: خُلِقْنَ خَلْقًا فيه اعوجاج، فكأنهنَّ خُلِقن من أصلٍ مُعْوَجٍّ، فلا يتهيأ الانتفاع بهنَّ إلاَّ بِمُداراتهنَّ، والصَّبر على اعوجاجهنَّ)[13].


ثانياً: تحريم قطع النسل وقتل الولد: حرَّمت الشريعة الإسلامية قطع النسل، والتبتُّل، والاختصاء وغيرها من طرق قطع النسل، ومن أدلة ذلك: ما جاء عن سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: (رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ[14]، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا[15])[16]. كما حرَّمت الشريعة الإسلامية الاعتداء على النسل في مراحله المختلفة، بدءاً بمرحلة الجنين وحتى يمكنه الدفاع عن نفسه وإدراك ما يضرُّه وما ينفعه، ومن أدلة ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31].

ثالثاً: تحقيق مصالح هذا النسل: إذ أنَّ مقصد حفظ النسل يُناط به عمارة الأرض، وبناء الحضارة، وقيام النهضة، ومن ثَمَّ فيجب رعاية هذا النسل والحفاظ عليه، وتعهُّده بما يُحقِّق مصلحته من توفير مطالبه الأساسية من المأكل والملبس والمشرب وتوفير الرعاية الصحية اللازمة له، ومن أدلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)[17]. وكذلك تعليمه وتأديبه ليكون عضواً نافعاً لأمَّته، ومن أدلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)[18].

الوسيلة الثانية: المحافظة على النسل بدفع المفاسد:
كلُّ شرعٍ حكيم إذا فتح باباً لجلب مصلحة، لا بدَّ له من أنْ يسدَّ بقية الأبواب التي تُعارِض هذا الباب، وقد مضى في الوسيلة الأُولى: وهو (مشروعية النكاح) الذي جعله الله تعالى وسيلةً لإنجاب النسل، ووسيلة صالحة لرعايته، والقيام بتربيته تربيةً صالحة، فكان لا بدَّ من قفل جميع الاتجاهات التي تُناقضه أو تُعارضه، لذا حرَّم الله تعالى الزنا تحريماً مؤبَّداً مع وصفه بأنه أسوأ سبيل؛ لأنه يُعارض السبيل المستقيم، وأوعد فاعليه بالعقاب الأليم في الآخرة، وشرع له أشدَّ الزواجر بالرجم أو الجلد مائة جلدة[19]، قال ابن القيم - رحمه الله: (وَلَمَّا كان الزِّنا من أُمَّهَاتِ الْجَرَائِمِ وكبائرِ الْمَعَاصِي؛ لِمَا فيه من اختلاط الأنْسَابِ الذي يَبْطُلُ معه التَّعَارُفُ وَالتَّنَاصُرُ على إحْيَاءِ الدِّينِ، وفي هذا هَلاَكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، فَشَاكَلَ في مَعَانِيهِ أو في أَكْثَرِهَا الْقَتْلَ، الذي فيه هَلاَكُ ذلك، فَزُجِرَ عنه بِالْقِصَاصِ لِيَرْتَدِعَ عن مِثْلِ فِعْلِهِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ، فَيَعُودُ ذلك بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَصَلاَحِ الْعَالَمِ، الْمُوَصِّلِ إلَى إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ، الْمُوَصِّلَةِ إلَى نَعِيمِ الآخِرَةِ)[20].

وجريمة الزِّنا لا يقوم عليها المؤمن إلاَّ في حالة ضعفٍ شديدٍ في الإيمان؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...)[21]. قال النووي - رحمه الله: (هذا الحديث مما اختلف العلماءُ في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المُحقِّقون: أنَّ معناه: لا يفعل هذه المعاصي، وهو كاملُ الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تُطلق على نفيِ الشيء، ويراد نفيُ كمالِه)[22].

المقصود الأصلي من تحريم الزِّنا المحافظة على النسل: إنَّ المقصود الأساس من تحريم الزِّنى هو المحافظة على النَّسْل، والذي يُعتبر من المصالح الضرورية التي لم تُفرِّط فيها شريعة من الشرائع، وأمَّا تحريم القذف وما يترتب على فِعله من حدٍّ فهو من باب حماية الأعراض، وحرصاً من الشارع الحكيم على عدم إشاعة الفاحشة على ألسنة الناس.

ولا خلاف بين العلماء: في تحريم الزِّنا، وأنه من الكبائر، وحرمته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع؛ (لأنَّ المُزاحة على الأبضاع تُفضي إلى اختلاط الأنساب، المُفضي إلى انقطاع التعهُّد من الآباء، المُفضي إلى انقطاع النسل، وارتفاع النوع الإنساني من الوجود)[23].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18-01-2021, 07:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

عقوبة الزنا في الدنيا والآخرة:

جعل الشارع الحكيم لكل جريمة خطيرة عقوبتين: عقوبة دنيوية، وعقوبة أخروية.

عقوبة الزنا في الدنيا: مما جاء في عقوبة الزنا في الدنيا: حدُّ الزِّنا، والحدُّ لغة: هو المنع، وسُمِّيت عقوبات المعاصي حدوداً؛ لأنها تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب. وعُرِّف الحدُّ اصطلاحاً: بأنه عقوبة مُقدَّرة لأجل حقِّ الله تعالى، فيخرج التعزير؛ لعدم تقديره، والقصاص؛ لأنه حقُّ الآدمي[24]. وحكمة الحدود: زجر النفوس، وصيانة الأرواح، والأعراض، والأموال، والعقول[25]. وعقوبة الزنا في الدنيا: إمَّا أن تكون رجماً بالحجارة، أو جلداً بالسوط؛ لأنَّ الزاني إمَّا أن يكون ثيِّباً مُحصَناً[26]، أو بكراً غير مُحصَن[27].

الأدلة:
1- قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2].

2- قوله صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ)[28].

3- قوله صلى الله عليه وسلم: (وَاغْدُ يا أُنَيْسُ! على امْرَأَةِ هذا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا)[29]. وجه الدلالة: أوجب الله تعالى العقوبةَ على الزناة من غيرِ أنْ تأخذ وُلاةَ الأمر رأفةٌ في دين الله، وهو حدُّ الزنا بأنْ يُرجم الزاني المُحْصن بالحجارة حتى يموت، وغير المُحصن يُجلد مائة جلدة، ويُغرَّب عاماً عند الجمهور[30].

حكمة التفريق بين عقوبة "البِكر" و"الثيب": قال ابن القيم - رحمه الله - في حكمة التفريق بين عقوبة البكر والثَّيب: (إنَّ لِلزَّانِي حَالَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا قد تَزَوَّجَ، فَعَلِمَ ما يَقَعُ بِهِ من الْعَفَافِ عن الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عنها، وَأَحْرَزَ نَفْسَهُ عن التَّعَرُّضِ لِحَدِّ الزِّنا، فَزَالَ عُذْرُهُ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ في تَخَطِّي ذلك إلَى مُوَاقَعَةِ الْحَرَامِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِكْرًا لم يَعْلَمْ ما عَلِمَهُ الْمُحْصَنُ، ولاَ عَمِلَ ما عَمِلَهُ فحصل له من الْعُذْرِ بَعْضَ ما أَوْجَبَ له التَّخْفِيفَ فَحُقِنَ دَمُهُ، وَزُجِرَ بِإِيلامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ، بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْجَلْدِ رَدْعًا على الْمُعَاوَدَةِ لِلاسْتِمْتَاعِ بِالْحَرَامِ، وَبَعْثًا له على الْقَنَعِ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ من الْحَلالِ. وَهَذَا في غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ جَامِعٌ لِلتَّخْفِيفِ في مَوْضِعِهِ، وَالتَّغْلِيظُ في مَوْضِعِهِ)[31].

عقوبة الزنا في الآخرة: مِمَّا جاء في عقوبة الزنا في الآخرة: حديث سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - في الرؤيا الطويلة التي رآها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والشاهد منها: ما جاء في عقوبة الزناة والزواني، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا على مِثْلِ التَّنُّورِ، فإذا فيه لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، قال: فَاطَّلَعْنَا فيه، فإذا فيه رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وإذا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فإذا أَتَاهُمْ ذلك اللَّهَبُ ضَوْضَوْا[32]... وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ في مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ؛ فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي)[33].

وفي رواية: (فَانْطَلَقْنَا إلى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ، وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فإذا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا، حتى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فإذا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيْهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ... وَالَّذِي رَأَيْتَهُ في الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ)[34].

الوسيلة الثالثة: المبادئ الخُلقية المُتمِّمة:
لا بدَّ من إحاطة العلاقة بين الذكر والأنثى بمجموعة من المبادئ والآداب الأخلاقية، والتي تضمن تحقيق الأهداف السامية لهذه العلاقة، وتستبعد الممارسات الفوضوية للعلاقات بين الجنسين؛ رفعاً لدواعي الزنا، وحمايةً للأعراض، وستراً للعورات، وهذه المبادئ تُعتَبر مكمِّلة لتحريم الزِّنا، وسدًّا للتَّذرُّع إليه، ومما حرمته الشريعة لذلك:
1- تحريم الدُّخول على الناس في بيوتهم بدون استئذان: فالبيوت في الإسلام لها حرمة عظيمة؛ حيث لا يجوز دخولها دون استئذان أصحابها، والسلام عليهم: قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الاسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلاَّ فَارْجِعْ)[35].

2- تحريم الاختلاء بالمرأة الأجنبية: وإنْ كانت ملتزمة باللِّباس الساتر، إلاَّ بوجود أحد محارمها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ)[36]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ)[37]. وفي غير حالات الضرورة القصوى؛ يحرم على الرجل الاختلاء بالمرأة الأجنبية.

3- وجوب غضِّ الأبصار: فعن طريق إيجاب غَضِّ بصرِ الذَّكر عن الأنثى، والأنثى عن الذكر، يقطع الإسلامُ الطريقَ على وسائل الإثارة في النفس البشرية، وفيه عدَّة أحاديث، منها:
أ- عن جَرِيرِ بنِ عبدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قال: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي)[38].

ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (يَا عَلِيُّ! لاَ تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ)[39]. والمعنى: (لا تجعلْ نظرتَك إلى الأجنبية تابعة لنظرتك الأُولى التي تقع بغتةً، وليست لك النَّظرة الآخِرة؛ لأنَّها تكون عن قَصْدٍ واختيارٍ؛ فتأثم بها، أو تُعاقب)[40].

ج- عن سَهْلِ بن سَعْدٍ - رضي الله عنه - قال: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى[41] يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فقال: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ؛ إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ)[42]. قال ابن الجوزي - رحمه الله: الحديث يدل على أنَّ مَن اطَّلع في بيتِ إنسانٍ؛ بحيث ينظر إلى عورته أو حرمته، فله أنْ يرمي عينه، فإنْ فقأها؛ فلا ضمانَ عليه)[43]. ويشهد له: قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ؛ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ)[44].

4- تحريم التَّبرُّج بالقول أو الفِعل: نهى الله تعالى عن إبداء المرأة زينتها لغير زوجها ومحارمها، وحرَّم التَّبرُّجَ، سواء كان في القول أو الفعل؛ لأنَّ فيه إثارةً وإغراءً للرجال ولفتاً لأنظارهم، وفيه عدة آيات كريمات، منها:
أ- قوله تعالى: ﴿ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ إلى قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ﴾ [النور: 31]. فالآية الكريمة تنهى عن إبداء الزينة لغير الأزواج والمحارم وما يُلحق بهما، ودلَّت على وجوب ستر المرأة لجميع بدنها، ما عدا الوجه والكفَّين على خلافٍ مشهورٍ بين العلماء، ودلَّت على نهي النساء عن التبرُّج بالفِعل؛ بضرب الأرجُل؛ ليُعلم ما يُخفين من الزينة.

ب- قوله تعالى: ﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]؛ لأنَّ اللِّين بالقول قد يكون سبباً في طَمَعِ مرضى القلوب بِدَاءِ الفواحش.

ج- قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]. فهذه الآية الكريمة وإنْ نزلتْ في نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب. والتَّبرُّج: هو إظهار الزِّينة؛ ليُنظَر إليهنَّ، فإنَّ ذلك من أقبح الأمور. قال مَعْمَرُ بنُ المُثنَّى - رحمه الله: (التَّبَرُّجُ: أَنْ تُخْرِجَ مَحَاسِنَهَا)[45].

د- قوله تعالى: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ [النور: 60]. فبإيجاب اللِّباس الساتر بمواصفاتٍ خاصة يُحارِب التشريعُ أسبابَ الفتنه.


[1] انظر: المصباح المنير، (2/ 604).

[2] نيل الأوطار، (6/ 227).

[3] انظر: بدائع الصنائع، (2/ 228)؛ العناية شرح الهداية، (4/ 314).

[4] رواه أبو داود، (2/ 220)، (ح2050). وقال الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (1/ 574)، (ح2050): (حسن صحيح).

[5] رواه مسلم، (3/ 1255)، (ح1631).

[6] رواه مسلم، (4/ 2028)، (ح2633).

[7] انظر: إحياء علوم الدِّين، (2/ 27ـ31).

[8] رواه البخاري، (5/ 1950)، (ح4778)؛ ومسلم، (2/ 1018)، (ح1400).

[9] رواه مسلم، (2/ 1087)، (ح715).

[10] رواه مسلم، (2/ 1090)، (ح1467).

[11] رواه البخاري، (1/ 304)، (ح853)؛ ومسلم، (3/ 1459)، (ح1829).

[12] رواه البخاري، (3/ 1212)، (ح3153)، ومسلم، (2/ 1091)، (ح1468).

[13] عمدة القاري، (20/ 166).

[14] التَّبَتُّلَ: هو الانقطاع عن النساء، وترك النكاح؛ للانقطاع إلى عبادة الله تعالى.

[15] لاَخْتَصَيْنَا: الاختصاء من خصيت الفحل إذا سللت خصيتيه. شرح النووي على صحيح
مسلم، (9/ 176).

[16] رواه البخاري، (3/ 1064)، (ح5129)؛ ومسلم، (1/ 569)، (ح3470).

[17] رواه أبو داود، (1/ 290)، (ح1694). وحسنه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)،
(1/ 469)، (ح1692).

[18] رواه البخاري، (1/ 304)، (ح1829)؛ ومسلم، (3/ 1459)، (ح1829).

[19] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص445).

[20] إعلام الموقعين، (2/ 126).

[21] رواه البخاري، (2/ 875)، (ح2343)؛ ومسلم، (1/ 76)، (ح57).

[22] شرح النووي على صحيح مسلم، (2/ 41).

[23] التقرير والتحرير في علم الأصول، لابن أمير الحاج (3/ 191).

[24] انظر: بدائع الصنائع، (7/ 33)؛ الهداية شرح البداية، (2/ 94)؛ نيل الأوطار، (7/ 250).

[25] انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول، (3/ 822).

[26] (المُحصَن): مَنْ وطأ وهو حُرٌّ مُكلَّف لمَنْ تزوَّجها نكاحاً صحيحاً في قُبُلِها ولو مرة
واحدة. انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (28/ 334).

[27] (غير المُحصَن): مَنْ لم يحصل منه وطء بالقيود السابقة للمُحصَن.

[28] رواه مسلم، (3/ 1316)، (ح1690).

[29] رواه البخاري، واللفظ له، (6/ 2502)، (ح6440)؛ ومسلم، (3/ 1325)، (ح1697).

[30] انظر: مجموع الفتاوى، (28/ 333).

[31] إعلام الموقعين، (2/ 126، 127).

[32] (ضَوْضَوْا): أي: ضَجُّوا وصاحوا بما لا يُفهم منه إلاَّ الاستغاثة مِمَّا هم فيه، والضوضاة - بغير همز: هي أصوات الناس وضجيجهم. انظر: كشف المشكل، (2/ 36).

[33] رواه البخاري، (6/ 2585)، (ح6640).

[34] رواه البخاري، (1/ 466)، (ح1320).

[35] رواه مسلم، (3/ 1694)، (ح2153).

[36] رواه مسلم، (2/ 978)، (ح1341).

[37] رواه الترمذي، (4/ 465)، (ح2165). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/ 457)، 0ح2165).

[38] رواه مسلم، (3/ 1699)، (ح2159).

[39] رواه أحمد في (المسند)، (5/ 351)؛ وأبو داود، (2/ 246)، (ح2149). وحسَّنه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (1/ 598)، (ح2149).

[40] عمدة القاري، (20/ 119).

[41] (مِدْرًى): المِدْرَى: شيء مُحدَّد الطَّرف كالمسلة، من الحديد أو غيره، فهو كبعض أسنان المشط إلاَّ أنه أطول. والمِدْرَى يَرفع عن الشعر تَلَبُّدَه واشتِباكَه وما يقف في أصوله من أذًى.
انظر: كشف المشكل، (2/ 266).

[42] رواه البخاري، (5/ 2304)، (ح5887).

[43] كشف المشكل، (2/ 266).

[44] رواه البخاري، (6/ 2530)، (ح6506).

[45] صحيح البخاري، (4/ 1796).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 13-02-2021, 02:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

مقاصد السُّنة النبوية (5)

د. محمود بن أحمد الدوسري




حفظ المال


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أمَّا بعد:
كما هو شأن الإسلام دائمًا مع النزعات الفطرية للإنسان حيث يُبيح إشباعَها، ويُلبِّي مَطالبَها ضِمن الحدود المعقولة، مع التهذيب والترشيد حتى تستقيم حياته، ويتحقَّق الخيرُ له، ويبتعد عن الشر، كان هذا شأنه مع نزعَةِ حُبِّ التَّمَلُّك الأصلية في الإنسان، فقد أباح المُلكيةَ الفردية وشَرَع في ذات الوقت من النُّظم والتدابير ما يَتدارك الآثارَ الضَّارة التي قد تنجم عن طُغيان هذه النَّزعة من فقدانٍ للتوازن الاجتماعي، وتداولٍ للمال بين فئة قليلة من المجتمع، ومن النُّظم التي وضَعَها لأجل ذلك نُظُم الزكاة، والإرث، والضَّمان الاجتماعي، ومن ثم اعتَبَر الإسلامُ المالَ ضرورةً من ضروريات حياة الإنسان، لا غِنى له عنها، في قُوتِه، ولِباسِه، ومسكَنِه؛ فبالمال يُشبِعُ حاجاته الضَّرورية والحاجية والتحسينية، ومن أجل ذلك شَرَع من التشريعات والتوجيهات ما يُشجِّع على اكتسابه وتحصيله، ويَكفل صِيانتَه وحِفظَه وتنميتَه.

وقد حرصت السنة النبوية على المال وما في معناه أشدَّ الحرص، حتى جعلت حمايتَه وحفظَه وصيانتَه من مقاصدها العليا وأهدافها الأساسية، وذلك لما للمال من أهمية في حياة الفرد والمجتمع، فهو عمادٌ للحياة ومقوِّم من مقوماتها، ووسيلةٌ من وسائل العيش فيها، والمتتبِّع لأبواب الفقه وما تضمَّنته من أحكام في فقه المعاملات من عقودٍ وبيوعٍ ورهنٍ وغيرها، وكذا ما يرتبط بالمال من أحكام كالزكاة والميراث وغيرها يتبيَّن مدى اهتمام السنة النبوية بتحقيق هذا المقصد الضروري في حياة الإنسان بما يضمن استقراره وسعادته وأمنه، وقد أفاضت السنة النبوية في هذا الجانب إفاضة بالغة، حيث تضمَّنت الأحكام الخاصة بالأموال وبيَّنتها بصورة شاملة ومُستوعِبَة لكلِّ التَّفاصيل والجزئيات، ممَّا يدل على عظمة السنة النبوية في تعاطيها وتعاملها مع القضايا الجوهرية والمُلِحَّة في حياة الناس.

تعريف المال:
لم يُحدِّد الشارع الحكيم معنًى خاصًّا للمال، كما حدَّد معاني غيره من الألفاظ؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، والرِّبا، والنِّكاح، بل تركه لعُرف الناس، ومن أحسن ما قيل في تعريف المال: "هو كلُّ ما مَلَكْتَه من جميع الأشياء، فكلُّ ما يقبَل المُلكَ فهو مالٌ سواء كان عَينًا أو منفَعَة"[1]. والمال في الإسلام مرتبط بأمرين؛ إمَّا بتحقيق مصالحَ نافعةٍ وجالبةٍ للخير، وإمَّا بجلب مفاسدَ ومضارٍّ تجرُّ إلى الشَّر، وذلك كما يلي:
أوَّلًا: المصالح المرتبطة بالمال:
تتعدَّد المصالح المرتبطة بالمال وتختلف باختلاف الزمان والمكان حسب احتياجات الناس ومطالبهم، ولكنها في كلِّ مظاهرها لا بد أن يُراعى فيها موافقتها للشرع الحكيم، وتبقى المصلحةُ العظمى والمقصودةُ من المال مرتبطةٌ بما يحقِّق لصاحبه السعادة في الآخرة، وهذا ما نريد أنْ نؤكِّدَ عليه ونُبيِّنَه، حيث إنَّ المصالح الدنيوية نسبية، فما يراه البعضُ مصلحة، قد يراه الآخرون مفسدة، أمَّا فيما يتعلَّق بالمصالح الأخروية، فهي ثابتة وواضحة، والمصالح الأخروية للمال تنحصر في ثلاثة أنواع[2]:
1- أنْ يُنفق على النَّفس في العبادة، أو في الاستعانة على العبادة؛ كالحج والعمرة، والجهاد، ونحو ذلك.

2- ما يَصرفه الإنسان على الناس، وهو أربعة أقسام: الصدقة، والمروءة[3]، ووِقاية العِرض[4]، وأُجرة الاستخدام.

3- ما يُصرف في أنواع الخيرات، فلا يختصُّ بإنسانٍ مُعيَّن؛ كبناء المساجد، والقناطر، والرباطات، والمستشفيات، ونحو ذلك من أنواع الخيرات.

ثانيًا: مفاسد المال ومضارُّه:
وكما تعدَّدت المصالح المرتبطة بالمال، تتعدَّد كذلك المفاسد والمضار المرتبطة به؛ ليصبح المال سلاحًا ذا حدَّين؛ حدٌّ نافع، وآخر ضار، ويصبح المال أكثر ضررًا وأكثر فسادًا إذا ارتبط بمفاسد تضرُّ الإنسان في آخرته؛ حيث إنَّ آفات المال ومضارَّه تنحصر كذلك في ثلاثة أمور[5]:
1- أنْ يجُرَّ إلى المعاصي، فإنَّ الشهوات مُتفاضلة، والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، والمال نوع من القُدرة يُحرِّك داعية المعاصي، ونوازع الشهوة، وارتكاب الفجور، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

2- أن يجُرَّ إلى التَّنعُّم في المباحات، فيصير التَّنعُّم مألوفًا عنده، ومحبوبًا لا يصبر عنه، ويجرُّه إلى اقتحام الشُّبهات.

3- أنْ يُلهي إصلاحُ المال عن ذِكرِ الله تعالى، وكلُّ ما شغل العبدَ عن الله تعالى فهو خُسران؛ كما قال سبحانه: ï´؟ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ï´¾ [التكاثر: 1].

أسباب الحصول على المال: أسباب الحصول على الأموال تأتي من طريقين[6]:

الأول: المُصادفة والعَرض؛ كالمواريث عن الآباء والأقارب، والعرب تُسمِّيه المال التَّليد، ويُطلِق عليه الفقهاء: خلافة الشخص لغيره في المُلكية، ومنه الوصية.

الثاني: القصد والطلب، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- ما يؤخذ من يد الغير عن طريق المُغالبة والاقتدار عليه، على قانونٍ مُتعارف، ويُسمَّى مَغرمًا وجِباية، وهذا شأن الإمارة.

2- أنواع الاحتيال في الاكتساب، وهي أربعة أقسام: الفلاحة، والصناعة، والتجارة، وتربية الحيوان.

3- الاستيلاء على الأشياء المُباحة، وهي أربعة أنواع[7]:
أ- إحياء الموات.
ب- الاستيلاء على المعادن والكنوز، والحشيش والحطب، والأحجار، وسائر الجواهر في المعادن والبحار.
ج- الاستيلاء على الصيد.
د- حِيازة الأشياء المُباحة.

فالإسلام يُحِلُّ جميعَ أنواع الصناعات والحِرف الشريفة، ويُحل جميع أنواع التجارة واستثمار الأموال، ويُحل ما ينتج عن هذا كلِّه من ربح، ويجعله مُلكًا خالصًا لصاحب المال المستثمَر؛ بشرط أنْ يُخرِج الزكاة الواجبة شرعًا.

وإذا مَنَعَ الإسلامُ عملًا من وسائل الكسب يمنعه؛ لأنه يؤدي إلى الضَّرر حتمًا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ)[8]، وبناءً عليه: حرَّم الإسلام التجارةَ في الخمر، والخنزير، ومَنَعَ التعامل بالربا، والمعاملات التي تنطوي على غشٍّ، أو رشوة، أو أكل أموال الناس بالباطل، واحتكار ضروريات الناس للتحكم في الأسعار[9].

مقاصد السُّنة النبوية في الأموال:
السنة النبوية لها مقاصد كثيرة في الأموال، وأهمُّ هذه المقاصد: الحث على تداول المال، والوضوح في التعامل المالي، والمحافظة على المال من الاعتداء. قال الشاطبي - رحمه الله: (وحِفظُ المالِ راجعٌ إلى مراعاة دخوله في الأملاك، وكتنميته أن لا يفي ومُكَمِّلُه دفعُ العوارض، وتلافي الأصل بالزَّجر، والحدِّ، والضَّمان، وهو في القرآن والسُّنة)[10].

المقصد الأول: الحثُّ على تداول المال. التَّداول في اللغة هو: التَّناقل، وتداولوا الشيء بينهم، أي: تناقلوه وقلَّبوه بين أيديهم وتناوبوه[11].

والمقصود به في الاصطلاح: أن يكون المال مُتداوَلًا بين أيدي الناس جميعًا ومُتحرِّكًا في شكل استهلاكٍ، أو استثمار، وبناء عليه: يكون المال حقًّا عامًّا للأمة عائدًا عليها بالغِنى عن الغير، فمِن شأن الشارع الحكيم أن يُنظِّم إدارته بأسلوب يحفظه مُوزَّعًا بين الأمة بقدر المُستطاع[12].

"الوسائل التَّشريعية" المُحقِّقة لمقصد التداول: الوسائل التَّشريعية التي شُرِعت لتحقيق هذا المقصد المهم، تفوق جميعَ ما أتت به النُّظم والمذاهب الاقتصادية في هذا الشأن، ومن أهمِّ الوسائل التشريعية: مَنْعُ كنز الأموال، ومنع التعامل بالربا، ومنع الاحتكار، ومنع المَيسِر، وبيانها كالآتي[13]:
الوسيلة الأُولى: مَنْع اكتناز الأموال: مَنَعَ الإسلامُ من اكتناز الأموال وتجميدها؛ لأنَّه يؤدِّي إلى إفساد التوازن المالي والتجاري والاقتصادي عامة، ويفسد معه التوازن الاجتماعي، ويجرُّ إلى مُحرَّمات ومحظورات، وقد ورد تحريم اكتناز الأموال في الكتاب والسنة؛ كما في قوله تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ولاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ï´¾ [التوبة: 34، 35]. ولا ريب أنه وعيدٌ شديدٌ ومُروِّع للكانزين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ؛ إِلاَّ أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ؛ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)[14]. قال الطبري - رحمه الله: (الكنز في كلام العرب: كلُّ شيءٍ مجموعٌ بعضُه على بعض، في بطنِ الأرض كان، أو على ظهرِها)[15]. وقال النووي - رحمه الله: (واختلف السَّلف في المراد بالكنز المذكور، في القرآن والحديث؛ فقال أكثرهم: هو كلُّ مالٍ وجَبَتْ فيه الزكاة، فلم تُؤََدَّ، فأمَّا مالٌ أُخْرِجَت زكاتُه فليس بكنز)[16].

وافتراض الزكاة على المال فيه حثٌّ لصاحبه على تداوله واستثماره، إذ لو لم يفعل لكان المال في تناقص، والنقصان ينافي الحكمة من ادِّخاره، ومن ثَمَّ يكون صاحب المال بين ثلاثة أمور:
أوَّلها: أن يكنز المال ويدفع زكاته، ممَّا يؤدِّي إلى نقصانه والقضاء عليه، وهو في ذلك لا إثم عليه، ولكن يلحقه ضرر مُحقَّق، وهو نقصان ماله.

ثانيها: أنْ يكنز المال ولا يدفع زكاته، ومن ثَمَّ يتعرَّض للوعيد الشديد في حقِّ مانعي الزكاة في الدنيا والآخرة.

ثالثها: أن يستثمر المال في وجوهه المباحة، فيضمن زيادتَه ونماءه، فيتحقق مقصد الشريعة من تداول المال واستثماره، ثمَّ يدفع زكاته دون خوف من نقصان ماله. وهكذا تتَّضح لنا حِكْمةٌ بالغة من الزكاة بالإضافة إلى حِكَمِها الكثيرة والتي لا يعلمها كثير من الناس، تلك الحكمة هي الحث على استثمار المال الاستثمار الأمثل الذي يعود بالنفع على الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.

الوسيلة الثانية: مَنْع التعامل بالرِّبا: من وسائل التشريع الإسلامي لتحقيق مقصد تداول الأموال تحريم التعامل بالرِّبا؛ لأنه يقتل مشاعر الشَّفقة والرحمة في قلب المُرابي؛ لأنه جعل نُصبَ عينيه تحصيل الأموال الطائلة، ولو أدَّى به الحال إلى قطع التَّواد والتَّراحم والإخاء والإيثار المأمور به شرعًا، وجاء تحريم الرِّبا صريحًا؛ كما في قوله تعالى: ï´؟ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ï´¾ [البقرة: 275]، وعن جَابِرٍ - رضي الله عنه - قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَاَل: هُمْ سَوَاءٌ)[17]. قال النووي - رحمه الله: (هذا تصريحٌ بتحريم كتابة المُبايعةِ بين المُترابيين، والشَّهادةِ عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل)[18]. وحُرمة الرِّبا مُجمع عليها عند جميع العلماء، وإن اختلفوا فيما بينهم في حقيقته، أو عِلَّته، أو في جزئياته، وهو راجع إلى الاختلاف فيما ينطبق عليه النَّص المُحرَّم من الكتاب والسنة[19].

ومن الحكمة في تحريم الربا: أن له مضارًا أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية ليس هذا مجال الاستطراد في بيانها، ومن أهم أخطار الربا: أنه يقتل حاسة العطف والتراحم والتعاون بين أفراد الأمة، ويفضي التعامل بالربا إلى ترك الزراعة والصناعة التي هي أصول المكاسب، وميادين الإنتاج، والاستثمار.

ويُكبَّل المُتعامِلُ به فلا يستطيع التَّقدُّم في مجال عمله؛ لأنه يجني على كلِّ فائدة مرجوة من وراء العمل، ومن ثَمَّ يصبح هذا الذي تعامل بالربا في حقيقة الأمر عبدًا عند المُرابي، يعمل له بلا أجر، فيؤثِّر على الأعمال ويُفضي إلى انهيارها، ومن ثَمَّ انهيار النظام الاقتصادي بكامله.

الوسيلة الثالثة: مَنْع الاحتكار: ربما يترك الناس التعامل بالربا، ويتَّجهون إلى ميادين الإنتاج المختلفة؛ في الزارعة والصناعة والتجارة، ولكن قد يجنح البعض منهم إلى حَبْسِ هذه المحاصيل أو السِّلع أو المصنوعات ومَنْعِها عن الأسواق؛ رغبةً في ارتفاع أسعارها، وهذا هو الاحتكار الممنوع شرعًا، والمُعَوِّق لمقصد التداول، ووصولِ منافع الأموال إلى الناس؛ لسدِّ ضرورياتهم، وحاجاتهم من الأمور المعيشية، بل قال ابن القيم - رحمه الله - عن هذا السُّلوك المشين: (هذا من البَغْي في الأرضِ، والفسادِ، والظلمِ الذي يُحْبَسُ به قَطْرُ السَّماء)[20].

ومن أجل ذلك حرَّم الإسلام احتكار السلع مِثْلَمَا حرم اكتناز الأموال، وشدَّد في منعه بالنسبة لأقوات الناس، والضروريات اللازمة لحياتهم. ومما جاء في تحريم الاحتكار:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ[21] [22]، وفي رواية: (لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ)[23].

2- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ)[24]. قال النووي - رحمه الله: (الحديث صريحٌ في تحريم الاحتكار، قال أصحابُنا: الاحتكار المُحَرَّم: هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أنْ يشتري الطعامَ في وقتِ الغَلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يدَّخِرُه؛ لِيَغْلو ثمنُه، فأمَّا إذا جاء من قريته أو اشتراه في وقتِ الرُّخص وادَّخره أو ابتاعه في وقتِ الغلاء لحاجته إلى أكلِه أو ابتاعَه ليبيعه في وقتِه، فليس باحتكارٍ، ولا تحريمَ فيه، وأمَّا غيرُ الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكلِّ حالٍ، هذا تفصيلُ مذهبِنا. قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار: دَفْعُ الضَّرَر عن عامَّة الناس، كما أجمع العلماءُ: على أنه لو كان عند إنسانٍ طعامٌ، واضطُّر الناسُ إليه، ولم يَجِدوا غيرَه، أُجْبِرَ على بيعه؛ دفْعًا للضَّرر عن الناس)[25].


الوسيلة الرابعة: مَنْع المَيْسِر: حرَّم الله تعالى المَيسِر[26]، ومما جاء في تحريمه في القرآن:
1- قوله تعالى: ï´؟ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ï´¾ [البقرة: 219]. وجه الدلالة: جعل الله تحريم المَيسر مقرونًا بتحريم الخمر، وبيَّن مضارَّهما ومفاسدهما. والمَيسر في الآية هو القِمار[27]؛ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (المَيْسِرُ: القِمَارُ)[28].


وممَّا ورد في سبب نزول الآية: عن أبي هُرَيْرَةَ قال: (حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ؛ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ï´؟ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... ï´¾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ)[29].

2- قوله سبحانه: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [المائدة: 90]. وجه الدلالة: مسمَّى الرجس واقع على الأربعة المذكورة، فكان الأمر للاجتناب مُتناولًا للكل.

3- قوله تعالى: ï´؟ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ï´¾ [المائدة: 91]. وجه الدلالة: أنَّ الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس، يُفضِيان إلى أحوال مذمومة؛ كالهرج والمرج والفتن، وهذا مضادٌّ لمصالح الناس ومقاصد الشرع[30].

ومما ورد في تحريم المَيسر في السُّنة:
1- عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما؛ (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَالْكُوبَةِ[31]، وَالْغُبَيْرَاءِ[32])[33].

2- عن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ[34] فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ)[35].

3- عن أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ - رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ[36]؛ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[37].

والخلاصة: أنَّ المَيسِرَ سُحتٌ باطل؛ لأنَّه اختطافٌ لأموال الناس بغير حقٍّ، وهو مُعتمِدٌ على اتِّباع الجهل، والحرص الشديد، وهو أُمنية باطلة، وركوب للغرر، وليس له دخل في التَّمدن والتَّطوُّر، فضلًا عن التَّآزر والتعاون، فإنْ سكتَ المغبون سكتَ على غيظٍ وخَيبة، وإنْ خاصَمَ خاصم فيما التزمه بنفسه، واقتحمَ فيه بقصده، والغابِنُ يَستلِذُّه المَيسِرُ، ويدعوه قليلُه إلى كثيرِه، ولا يدعه حِرصُه أنْ يُقلع عنه، وعمَّا قليلٍ تكون التِّرَةُ عليه، وتدور الدَّائرةُ عليه، وهل رأيتَ من أهل القِمار إلاَّ ما ذكرناه[38].

وبِمَنع المَيسر أُغلِق البابُ الذي تُبدَّد فيه الطاقات، وتُعطَّل فيه الأموال والأعمال، وتُجلب فيه العداوات والبغضاء، ويُصدُّ فيه عن ذِكر الله وعن الصلاة، وبتحريم المَيسر وجَّه الإسلامُ الطاقاتِ والأموالَ إلى أحسن طريقٍ ونِظامٍ لمصلحة الأفراد ومنافع الأمة[39].

المقصد الثاني: الوضوح في التعامل المالي:
المراد بالوضوح في التعامل المالي: أن تكون الأموال بعيدة عن مواطن المُنازعات، والخصومات، ولحوق الضَّرر بالناس، وفيه تسهيل لحفظها من الجحود، والنُّكران، ثم الضَّياع.

ولتحقيق هذا المقصد حث الإسلام على توثيق العقود، والمعاملات المالية؛ بالكتابة، والإشهاد، والرَّهن، ونحوها، والأمر بالكتابة والشهود أصله قديم قِدَم الإنسان على الأرض، أقرَّه الدِّين الحنيف منذ آدم - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء سيِّدنا ونبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن آدم - عليه السلام - لمَّا أتاه مَلَكُ الموتِ، وحان أجلُه، قال: (...فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فقال له آدَمُ: قَدْ عَجَّلْتَ؛ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ؟! قال: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لاِبْنِكِ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ؛ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ؛ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ - قال: فَمِنْ يَوْمِئِذٍ؛ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ)[40]، وفيما يلي بيانٌ لِمَا أمَرَ به الإسلام من أهمية الوضوح في التعامل المالي:
أولًا: التَّوثيق بالكتابة:

الأدلة من القرآن: جاءت مشروعية توثيق الأموال بالكتابة في قوله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ï´¾ [البقرة: 282]، فهذا إرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجَّلة أنْ يكتبوها؛ ليكون ذلك أحفظَ لمقدارِها، وميقاتها، وأضبطَ للشاهد فيها.


وأُكِّد الأمر بالكتابة في قوله سبحانه: ï´؟ ولاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ï´¾ [البقرة: 282]. وهذا أيضًا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحقِّ صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال سبحانه: ï´؟ ولاَ تَسْأَمُوا ï´¾ أي: لا تمَلُّوا أنْ تكتبوا الحقَّ على أيِّ حالٍ كان من القِلَّة والكثرة إلى أجله.

ثم بَيَّن تبارك وتعالى الفائدةَ المرجوَّة من التَّوثيق بالكتابة فقال سبحانه: ï´؟ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ï´¾ [البقرة: 282]. أي: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحقِّ إذا كان مُؤجَّلًا هو أقسط عند الله، أي: أعدل وأقوم للشهادة، أي: أثبت للشاهد إذا وضَعَ خَطَّه ثم رآه تذَكَّر به الشهادةَ، لاحتمال أنه لو لم يكتبْه أنْ ينساه كما هو الواقع غالبًا، ولهذا قال سبحانه: ï´؟ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ï´¾ أي: وأقرب إلى عدم الرِّيبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا رِيبة[41].

الأدلة من السُّنة: عن ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فقال: (مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ؛ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) [42].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: (أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّه اللهُ فِي كِتابِه، وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ َقَرَأَ: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ï´¾)[43].

استحباب الكتابة:
الأمر بالكتابة في قوله تعالى: ï´؟ فَاكْتُبُوهُ ï´¾ محمول عند الجمهور على الإرشاد والنَّدب، لا على الوجوب[44]؛ بدليل: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اشترى فَرَسًا من أعرابيٍّ إلى أجل مُسمًّى، ولم يكتبه[45]. وعَنْ الشعبي قال فِي هَذِهِ الآيَةِ: (ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ï´¾ [البقرة: 282]، حَتَّى بَلَغَ هَذَا الْمَكَانَ: ï´؟ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ï´¾ [البقرة:283] قَالَ: رَخَّصَ فِي ذَلِكَ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَأْتَمِنَ صَاحِبَهُ فَلْيَأْتَمِنْهُ[46].

ثانيًا: التَّوثيق بالإشهاد:
قال الله تعالى: ï´؟ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ï´¾ [البقرة: 282]، وقال سبحانه: ï´؟ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ï´¾ [البقرة: 282]. اتفق أهل العلم على قبول شهادة الرجال والنساء في المال، وما يُقصد به المال؛ كالأعيان، الدُّيون، والعقود المالية، ونحوها[47].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-02-2021, 02:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

واشترط جمهور العلماء شرطين لقبول شهادة النساء في الأموال[48]:

1- عدم قبول شهادتهنَّ منفرادت، مهما بلغ عددهنَّ.
2- شهادة امرأتين تُقابل شهادةَ رجلٍ واحد.

يقول القرطبي - رحمه الله - معلِّلًا حِكمة قبول شهادة النساء مع الرجال في الأموال خاصة، دون سواها؛ من الحدود والقصاص، وغيرها ممَّا يطَّلع عليه الرجال غالبًا: (وإنَّما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأنَّ الأموال كَثَّرَ اللهُ أسبابَ توثيقِها؛ لكثرة جهات تحصيلها، وعموم البلوى بها وتكرُّرِها؛ فجعل فيها التَّوَثُّقَ تارةً بالكتْبَة، وتارةً بالإشهاد، وتارةً بالرَّهن، وتارةً بالضَّمان، وأدخل في جميع ذلك شهادةَ النِّساء مع الرجال)[49].


والشاهد: أنَّ الله تعالى شرع الإِشهاد؛ للمحافظة على حقوق الناس المالية، وحث عليه، وشَرَطَ فيه العدالة والرضا، وهذا ما يضمن وضوح المعاملات المالية، والبُعد بها عن مواطن الجحود والنكران، أو العوارض والنسيان.

ثالثًا: التَّوثيق بالرَّهن: الرَّهن: هو (احتباس العين وثيقةً بالحق؛ لِيُسْتَوفى الحقُّ من ثمَنِها أو من ثمَنِ منافعها عند تعذُّر أخذِه من الغريم)[50]. وأصل مشروعيَّته في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ [البقرة: 283].

والمعنى: (إنْ كنتم مسافرين، ﴿ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا ﴾ يكتب بينكم، ويَحْصُل به التَّوثيق، ﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ أي: يقبضها صاحِبُ الحق، وتكون وثيقةً عنده حتى يأتيه حقُّه، ودلَّ هذا على أنَّ الرهن غيرُ المقبوضة لا يحصل منها التوثيق)[51].

والواقع العملي من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملاته المالية يُترجِم أيضًا مشروعيَّة الرَّهن؛ عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها (أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا من يَهُودِيٍّ إلى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا من حَدِيدٍ)[52]، وفي روايةٍ قالت عَائِشَةُ - رضي الله عنها: (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)[53].

والخلاصة: أنَّ كثيرًا من الناس تنطوي نفوسهم على حُبِّ ظلم الآخرين إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، ومن أجلِ سدِّ هذه الذريعة؛ جعل الله تعالى لصاحب المال حقَّ الكتابة، والإشهاد، وطلب الرَّهن، فهذه الإجراءات فيها صيانة لأموال الناس من الضياع، ولأخلاقهم من الفساد، ولدينهم من النقصان والخسران.

المقصد الثالث: المحافظة على المال من الاعتداء: هناك وسائل عدة للمحافظة على المال من الاعتداء، ومن أهمها وسيلتان:
1- المحافظة عليه "إيجادًا وتحصيلًا".
2- المحافظة عليه "بقاءً واستمرارا".

أولًا: وسائل المحافظة على المال "إيجادًا وتحصيلًا: للمحافظة على المال من جهة "الإيجاد والتحصيل"؛ شرع الإسلام الوسائل التالية:
1- الحثُّ على السعي لكسب الرِّزق، وتحصيل المعاش، فقد اهتمَّ الإسلام بالعمل وحثَّ عليه في تحصيل المعاش، وتحقيق مصالح الدنيا والآخرة، وحث كذلك على كسب الأموال باعتبارها قوام الحياة الإنسانية، واعتبر السَّعي لكسب المال - إذا توفَّرت النية الصالحة، وكان من الطرق المُباحة - ضربًا من ضروب العبادة، وطريقا للتقرب إلى الله؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [المُلك: 15]، وقوله سبحانه: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10].

وممَّا ورد في السُّنة:
أ- وقوله صلى الله عليه وسلم: (لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)[54].

ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ؛ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ على عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ على دَابَّتِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ على أَصْحَابِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ). قال أبو قِلاَبَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ، ثُمَّ قال أبو قِلاَبَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ على عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ، أو يَنْفَعُهُمْ اللهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ[55].

وكيف له أن يُنفق على عياله وليس لديه مال؟! ومن هنا جاء حثُّ الإسلام على كسب الرِّزق، وتحصيل المال الحلال؛ للإنفاق على الأهل، واعتبر ذلك من أفضل الأموال اكتسابًا وإنفاقًا.

2- رفَعَ منزِلةَ العمل، وأعلى من أقدارِ العُمَّال؛ وممَّا يدل عليه:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عليه السلام - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)[56].

ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ؛ فَهُوَ صَدَقَةٌ)[57].

ج- وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ)[58]، فهنا قرر النبيُّ صلى الله عليه وسلم كرامةَ العامل، وأوجب الوفاءَ بحقوقه المادية والمعنوية.

3- الحث على الاجتهاد والابتكار والإبداع في مجال الأعمال؛ ومن ذلك: ما جاء عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: (أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى: أَنَّ الأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ، وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ)[59].

ثانيًا: وسائل المحافظة على المال "بقاءً واستمرارًا": للمحافظة على المال من جهة "البقاء والاستمرار"؛ شرع الإسلام الوسائل التالية:
1- ضَبَطَ التَّصرف في المال بحدود المصلحة العامة، ومن ثم حرَّم اكتساب المال بالوسائل غير المشروعة والتي تضر بالآخرين، وتخل بالتوازن الاجتماعي، وبكلِّ ما من شأنه يضر بمصالح الناس الدنيوية والأخروية؛ ولذا منع التعامل بالربا بأنواعه، ومنع المَيسر بأنواعه، ومنع الرِّشوة بأنواعه، ومن ذلك ما جاء عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)[60]. وفي روايةٍ: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)[61].

أسباب تحريم الرِّشوة: حُرِّمت الرِّشوة؛ لأمرين:
الأول: أنها داخلة في أكل أموال الناس بالباطل، وأكل أموال الناس بالباطل محرَّم إجماعًا.

الثاني: أنها من أهم العوامل التي تُؤثِّر في مجرى العدل بين الناس، وتُغيِّر موازينه، وتُمهِّد للظلم في الأحكام، وإعطاء الحقوق لغير مستحقِّيها[62].

2- حرَّم الاعتداءَ على مال الغير؛ بالسرقة، أو السطو، أو التحايل؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)[63].

3- مَنَعَ إنفاقَ المال في الوجوه غير المشروعة، وحثَّ على إنفاقه في سبل الخير، وذلك مبني على قاعدة من أهم قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي وهي أن المال مال الله، وأنَّ الفرد مُستخلَف فيه، ووكيل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7]، وقال سبحانه:﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [ النور: 33]. ومن ثم كان على صاحب المال أن يتصرف في ماله في حدود ما رسمه له الشرع، فلا يجوز أن يُفتَن بالمال فيطغى بسببه؛ لأنَّ ذلك عامل فساد ودمار، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]. ولا يجوز له أن يبذر في غير طائل، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الإسراء: 26، 27].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا؛ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)[64]. وفُسِّر إضاعة المال بأنه: إنفاق المال في الحرام. وقيل هو: الإسراف في الإنفاق وإن كان فيما يحل[65]. ولذلك (قال جمهور العلماء: يجب الحَجْر على كلِّ مُضيِّع لماله صغيرًا كان أو كبيرًا)[66].

4- دَعَا إلى تنمية المال واستثماره؛ حتى يؤدِّي وظيفته الاجتماعية، وبناءً عليه: حرَّم الإسلام حبسَ الأموال عن التداول؛ سواء كان ذلك بالاحتكار، أو بالاكتناز، أو بالتداول بين الأغنياء دون الفقراء.

وبهذه التشريعات كلِّها حَفِظَ الإسلامُ المالَ وصانَه عن الفساد؛ حتى يؤدي دورَه كقيمةٍ لا غِنَى عنها في حِفظ نظام الحياة الإنسانية، وتحقيق أهدافها الحضارية والإنسانية. شأنه في ذلك شأن كل المصالح السابقة التي تُمثِّل أساس الوجود الإنساني، وقِوام الحياة الإنسانية، ومركز الحضارة البشرية، والتي بدون مراعاتها وحِفْظِ نظامها يخرب العالم، وتستحيل الحياة الإنسانية، ويقف عطاؤها واستثمارها في هذا الوجود[67].


[1] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص468).

[2] انظر: إحياء علوم الدِّين، (3 / 236).

[3] المقصود بالمروءة: ما يصرفه الإنسان من المال في الضِّيافة، والهدايا، والإعانة، ونحو ذلك، وهو داخل في المصالح الدِّينية إذ به يكسب الأقارب والأصدقاء، وبه ينال صفة السخاء.
[4] المقصود بوِقاية العِرض: بذل المال لدفع شر السفهاء والحمقى، ونحوهم؛ لقطع ألسنتهم.

[5] انظر: إحياء علوم الدِّين، (3/ 237).

[6] انظر: مقدمة ابن خلدون، (ص319)؛ الإشارة في محاسن التجارة، لابن الفضل جعفر بن علي الدمشقي (ص38).

[7] انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (2/ 86)؛ مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور (ص185).

[8] رواه ابن ماجه، (2/ 784)، (ح2340). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 257)، (ح1909).

[9] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص490-493).

[10] الموافقات، (4/ 28).

[11] انظر: معجم مقاييس اللغة، (2/ 314).

[12] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور (ص456).

[13] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص498).

[14] رواه مسلم، (2/ 682)، (ح987).

[15] تفسير الطبري، (10/ 121).

[16] شرح النووي على صحيح مسلم، (7/ 68).

[17] رواه مسلم، (3/ 1219)، (ح1598).

[18] شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 26).

[19] انظر: إعلام الموقعين، (2/ 135).

[20] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، (ص357).

[21] (خَاطِئٌ): الخَاطِئ هو العاصي الآثِم. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 43).

[22] رواه مسلم، (3/ 1227)، (ح1605).

[23] رواه مسلم، (3/ 1228)، (ح1605).

[24] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 351)، (ح8602). وحسَّنه الألباني بشواهده في (السلسلة الصحيحة)، (7/ 1087)، (ح3362).

[25] شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 43).

[26] (المَيسر): هو القِمار، والمَيْسِر مَفْعِل من قولهم: يسر لي الشيء إذا وجب يسرا وميسرا، ويقال للقِمار: ميسر، وللمُقامر: ياسر ويسر.

[27] انظر: تفسير الغوي، (1/ 193)؛ تفسير القرطبي، (3/ 52).

[28] رواه البخاري في (الأدب المفرد)، (ص431)، (رقم1260). وقال الألباني في (صحيح الأدب المفرد)، (ص486)، (رقم953): (صحيح الإسناد موقوف).

[29] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 351)، (ح8605). وقال محققو المسند، (14/ 269)، (ح8620): (حسن لغيره).

[30] انظر: التفسير الكبير، (12/ 67).

[31] (الْكُوبَةِ): الطَّبل الصغير، المُخَصَّر ذو الرأسين. انظر: جامع الأصول، (5/ 97).

[32] (الْغُبَيْرَاءِ): شراب تتَّخِذُه الحبشةُ من الذُّرة يُسْكِر. انظر: جامع الأصول، (5/ 97).

[33] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 158)، (ح6478)؛ وأبو داود، (3/ 328)، (ح3685). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 420)، (ح3685).

[34] (النَّرْدَشِير): هو النَّرد، و(النَّرْدُ): عَجَمِيٌّ مُعَرَّب، و(شِير): بمعنى حلو، وهذا الحديث حجة للجمهور في تحريم اللَّعب بالنَّرد. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (15/ 15).

[35] رواه مسلم، (4/ 1770)، (ح2260).

[36] (النَّرْدِ): لُعبة ذاتُ صندوقٍ وحجارةٍ وفُصَّين، تعتمد على الحظِّ، وتَنْتَقِل فيها الحجارة على حسب ما يأتي به الفُص (الزَّهر)، وتُعرف عند العامَّة بـ(الطَّاولة)، انظر: المعجم الوسيط، (2/ 912).

[37] رواه أبو داود، (4/ 285)، (ح4938). وحسنه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 211)، (ح4938).

[38] انظر: حجة الله البالغة، (ص646).

[39] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص517).

[40] رواه الترمذي، (5/ 453)، (ح3368). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (3/ 381)، (ح3368).

[41] انظر: تفسير ابن كثير، (1/ 335، 337).

[42] رواه البخاري، واللفظ له، (2/ 781)، (ح2125)؛ ومسلم، (3/ 1226)، (ح1604).

[43] رواه الحاكم في (المستدرك)، (2/ 314)، (رقم3130) وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه). وصححه الألباني في (إرواء الغليل)، (5/ 213)، (رقم1369).

[44] انظر: تفسير ابن كثير، (1/ 337).

[45] رواه أبو داود، (32/ 308)، (ح3607). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 399)، (ح3607).

[46] رواه الطبري في (تفسيره)، (5/ 74)، (رقم6367). وإسناده صحيح.

[47] انظر: مغني المحتاج، (4/ 441)؛ المغني، (12/ 9).

[48] انظر: بدائع الصنائع، (7/ 405)؛ روضة الطالبين، (11/ 254).

[49] تفسير القرطبي، (3/ 391).

[50] التلقين في الفقه المالكي، للثعلبي؛ تفسير القرطبي، (3/ 409).

[51] تفسير السعدي، (1/ 119، 120).

[52] رواه البخاري، (2/ 841)؛ (ح2256)؛ ومسلم، (3/ 1226)، (ح1603).

[53] رواه البخاري، (3/ 1068)، (ح2759).

[54] رواه البخاري، (2/ 730)، (ح1968).

[55] رواه مسلم، (2/ 691)، (ح994)

[56] رواه البخاري، (2/ 730)، (ح1966).

[57] رواه ابن ماجه، (2/ 723)، (ح2138). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 206)، (ح1752).

[58] رواه ابن ماجه، (2/ 817)، (ح2443). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 287)، (ح1995).

[59] رواه أبو داود، (2/ 535)، (ح3078). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 267)، (ح3076).


[60] رواه أبو داود، (3/ 300)، (ح3580). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 392)، (ح3580).

[61] رواه ابن ماجه، (2/ 775)، (ح2313). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 250)، (ح1885).

[62] انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، (ص564).


[63] رواه مسلم، (4/ 1986)، (ح2564).

[64] رواه البخاري، واللفظ له، (2/ 537)، (ح1407)؛ ومسلم، (3/ 1340)، (ح1715).

[65] انظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (6/ 528).

[66] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (6/ 529).

[67] مقاصد الشريعة الإسلامية، (ص32).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-02-2021, 02:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد السنة النبوية

مقاصد السُّنة النبوية (6)

د. محمود بن أحمد الدوسري



حِفْظ الأمن


إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
الأمن نعمة من نعم الله تعالى العظمى، وبتحققه يطمئن الإنسان على دينه، ونفسه، وعِرضه، وماله، ولا يمكن حفظ هذه الضروريات إلاَّ بكفِّ كلِّ أشكال الاعتداء عليها، وضبط الأمن بما يكفل حفظها؛ لذا كان الأمن من أهم مقاصد الشريعة المباركة بشقَّيها؛ الكتاب والسنة، وبالأمن يُحفظ النظام العام للأمة؛ ولذا كثرت الأحاديث النبوية التي تؤكد وتنشر ثقافة الأمن ومعانيه السامية في التعامل مع الناس، وتنهى عن الصفات الذميمة الجالبة للعداوة والبغضاء والمناقضة للأمن، وجاء تحريم الاعتداء على الآمنين في جميع الشرائع، فضلًا عن الشريعة الخاتمة، والسنة النبوية أولت موضوع الأمن عناية كبيرة؛ في تحديد مفهومه وأهميته في السِّلم والحرب، بين المسلمين وغير المسلمين، من المُستأمنين وغيرهم[1].

والأمن في الإسلام مقصدٌ هامٌّ من مقاصده؛ إذ بتحقُّقه تُعمَر الأرض، وتُبنى الحضارات، وتزدهر المجتمعات، وعلى مدار التاريخ البشري لم تقم حضارةٌ على الإطلاق إلاَّ في ظلِّ توفير الأمن، وقد جعل اللهُ نِعمةَ الأمن من النعم العظيمة التي يمتنُّ بها على عباده، قال تعالى: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 4]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57].

والأمن لا يتحقَّق إلاَّ بتحقَّق خمسةِ مقاصد (حفظ الدِّين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال)، وقد سبق ذِكرُها مُستقِلَّة؛ إذ أنها تُمثِّل مُجتمِعَةً الوسائلَ والإجراءات التي إذا تمَّ تطبيقُها واقعًا عمليًّا في حياة الناس لكان الأمن نتيجة طبيعية، ذلك لأنَّ جميع الجرائم مَرَدُّها إمَّا إلى الدِّين أو الشهوة أو المال، وقد وضعت الشريعة ما يُمَكِّن من حفظ الدِّين ويحمي حريَّة الاعتقاد، ثمَّ حرَّمت الزنا وغيرَه ممَّا يتعلَّق بالتَّعدِّي على الأنساب والأعراض، ثم حرَّمت التَّعدِّي على الأموال وأكلَها بالباطل، وضَمِنَت حفظَ النفس وصيانتَها من القتل والتَّعدِّي فكان القصاص، ومن ثَمَّ إذا سُدَّت السُّبل والطرق إلى ارتكاب هذه الجرائم لِمَا وضعته الشريعة من إجراءات ورتَّبته من عقوبات في الدنيا والآخرة، فالأمن سوف يتحقَّق لأنَّ الناس سيأمنون على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وكأنَّ هذه المقاصد الخمسة إنما وُضِعَتْ لضمان أمن الناس وسلامتهم، وهذا من عظمة الشريعة الإسلامية وتكاملِها، واتِّساع نظرتِها.

تعريف الأمن:
الأمن لغة: نَقِيضُ الخوف، أو ضِدُّ الخوف؛ لأنهما لا يجتمعان أبدًا.

والأمن مصدر أمِن يأمن، أي: اطمأنَّ وزال خوفُه، وسكن قلبُه، وأمِن البلدُ: اطمأنَّ به أهلُه فهو آمِن وأمين، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾ [الدخان: 51][2].

الأمن اصطلاحًا: مما جاء في تعريفه: (الأمن: عدم توقُّع مكروهٍ في الزمان الآتي)[3]. ولا يخرج تعريف الأمن اصطلاحًا عن معناه اللغوي؛ فيرجع إلى الطمأنينة، والسِّلم، والإجارة، وطلب الحماية، عدم الخيانة، والحفظ، والدِّين، والقوة.

حقيقة الأمن:
يتَّضح من خلال التعريفات السابقة بأن حقيقة الأمن هي طمأنينة النفس، وسكينة القلب، وزوال الخوف، وبالتالي يُصبح له مفهوم شمولي مُتكامل يُحيط بكلِّ جوانب الأمن المختلفة، وصوره المُتعدِّدة، بما يُحقِّق مصالح كلِّ الناس التي يخافون عليها ويحرصون على حِفظها ورعايتها، بجلب النفع وتحقيقه، ودفع الضُّر وإزالته[4].

أهمية الأمن في حياة الناس:
الأمن مهم جدًا في حياة الناس، حيث بدونه يلحق الناس ضرر وحرج، وضيق وألم، وخوف واضطراب، واختلال توازن الحياة عمومًا، وهذا ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)[5]. وجه الدلالة: دل الحديث على أهمية الأمن بأنواعه المختلفة؛ الأمن المادي، والأمن النفسي، والأمن الصِّحي، والأمن الغذائي في حياة الناس، وقدَّم الأمنَ بمعنى عدم الخوف من التَّعدِّي على غيره؛ لأنه أساس لتحقُّق غيره، وما عداه مُرتَّبٌ عليه.

والمراد: أنَّ (مَنْ جَمَعَ الله له بين عافيةِ بَدنِه، وأمْنِ قَلبِه حيث تَوَجَّه، وكفافِ عيشه بِقُوت يومه، وسلامةِ أهلِه، فقد جَمَعَ الله له جميعَ النِّعم التي مَنْ مَلَكَ الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي ألاَّ يستقبل يومَه ذلك إلاَّ بِشُكرِها بأنْ يصرفها في طاعة المُنْعِم، لا في معصيةٍ، ولا يفتر عن ذِكره)[6].

وسائل المحافظة على الأمن في السنة النبوية:
لم تقتصر الشريعة على المقاصد الخمسة العليا التي من شأنها تحقيق الأمن وتوفير الأمان في المجتمع لكافَّة أفراده بصرف النظر عن الدِّين أو اللَّون أو العرق، وإنما زيادةً في الحرص على تحقيق الأمن جاءت السنة النبوية بِعِدَّة وسائل؛ لتحقيق مقصد المحافظة على الأمن، ومن أهم هذه الوسائل:
1- مراعاة حقوق الجيران، وتوفير الأمن لهم؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ). قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قال: (الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ[7])[8]. فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على تحقيق نعمة الأمن والأمان بين الجيران، والأمر يصبح شنيعًا جدًا إذا أصبح الجار لا يأمن على نفسِه، ودينِه، وعرضِه، ومالِه من جاره. قال ابن بطال - رحمه الله: (هذا الحديث شديد في الحض على ترك أذى الجار، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أكَّد ذلك بِقَسَمِه ثلاثَ مرات أنه: "لاَ يُؤْمِنُ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ"، ومعناه: أنه لا يؤمن الإيمان الكامل، ولا يبلغ أعلى درجاته مَنْ كان بهذه الصفة، فينبغي لكلِّ مؤمنٍ أنْ يحذر أذى جاره، ويرغب أن يكون في أعلى درجات الإيمان، وينتهي عمَّا نهاه الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رَضِيَاه وحَضَّا العبادَ عليه)[9].

وقال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)[10]. والحديث يؤكد على أنَّ من علامات ضعف الإيمان إيذاء الجيران. قال النووي - رحمه الله: (وفي معنى: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" جوابان يجريان في كلِّ ما أشبه هذا: أحدهما: أنه محمولٌ على مَنْ يستحلُّ الإيذاءَ مع عِلمه بتحريمه، فهذا كافرٌ لا يدخلها أصلًا. والثاني: معناه جزاؤه ألاَّ يدخلها وقتَ دخول الفائزين إذا فُتِحَتْ أبوابها لهم، بل يؤخَّر، ثم قد يُجازى، وقد يُعفى عنه فيدخلها أوَّلًا، وإنما تأوَّلْنا هذين التأويلين؛ لأنَّا قدَّمنا أنَّ مذهب أهل الحق: أنَّ مَنْ مات على التوحيد مُصِرًّا على الكبائر، فهو إلى الله تعالى؛ إنْ شاء عفا عنه فأدخله الجنة أولًا، وإنْ شاء عاقَبَه، ثم أدخله الجنةَ)[11].

والجار في الإسلام لا يُقصد منه الجار المسلم فقط، وإنما أيضًا غير المسلم؛ إذ جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم للجار حقوقًا، وهكذا أعلى الإسلام من القيمة بصرف النظر عمَّن يستفيد منها، وهذا يؤدِّي إلى تحقيق قدرٍ من الأمن في محيط البيئة الصغيرة التي تشمل الشارع والحي والقرية، والتي يتألف منها المجتمع، فإذا تحقَّق الأمن في مستوياته الدنيا، فمِمَّا لا شكَّ فيه أن يتحقَّق في مستوياته العليا، فيحدث الأمن الاجتماعي التي يشمل المجتمع بأسره، فيتحقَّق مقصد الإسلام من وراء الدعوة إلى حقوق الجار، وكف الأذى عنه.

2- مراعاة حقوق الناس وعدم الاعتداء عليهم وعلى وأموالهم؛ وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)[12]. و(المعنى: إنَّ هذا هو المسلم الكامل[13]، كما تقول العرب: المال الإبل: أي: هي أفضل الأموال. والشِّعر زُهير، والجُود حاتم. والمراد: إنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده فهو الذي قام بحقوق الإسلام؛ لأنَّه عمل بمقتضى ما قال)[14]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)[15]. وفي رواية: (الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)[16].

وهكذا تتَّسع الدَّائرة في التعامل، فتنتقل من الجار إلى غيره من أفراد المجتمع في كلِّ مكان، فكأنَّ الحديث مُوَجَّهٌ إلى المسلم أن يُراعي حرمة الدم والمال والنفس والعِرض لكلِّ أفراد المجتمع، والتعبيرُ بالناس لِيشملَ كلَّ الناس؛ مسلمهم وغير مسلمهم مِمَّن يُشاركونه البلد الذي يعيشون فيه، والوطن الذي ينعمون به، مُحقِّقًا بذلك قِيمَةَ المواطنة التي يتشدَّق بها المتشدِّقون، ولا سيما في الفترة الأخيرة من زمننا الذي نعيش فيه، وهذه الدعوة إلى احترام حقوق الآخَرِين وعدم التعدِّي عليها، يستفيد منها الفرد نفسه؛ إذ أنه مُكلَّفٌ فقط بكفِّ أذاه عن الآخَرين، وفي المقابل كَلَّف الحديثُ ملايين الناس بكفِّ أذاهم عنه، فهي مصلحةٌ مُشتركة يعود نفعها على الفرد والمجتمع، ولعلَّ أبرز ثمرتها وأعظمها هي نعمة الأمن والأمان.

3- التحذير من ترويع الناس، لاعِبًا أو جادًّا؛ ومما جاء في ذلك؛ عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: حدَّثنا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَامَ رَجُلٌ منهم، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إلى حَبْلٍ معه، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)[17]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لاَعِبًا أو جَادًّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ؛ فَلْيَرُدَّهَا)[18]. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)[19]. قال النووي - رحمه الله: (فيه تأكيد حُرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه، وتخويفه، والتَّعَرُّض له بما قد يؤذيه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ" مُبالغةٌ في إيضاح عموم النهي في كلِّ أحدٍ؛ سواء مَنْ يُتَّهم فيه، ومَنْ لا يُتَّهم، وسواء كان هذا هزلًا ولَعِبًا أم لا؛ لأنَّ ترويعَ المسلم حرام بكلِّ حال، ولأنَّه قد يسبقه السِّلاح، كما صرح به في الرواية الأخرى)[20]. ونصُّها: (لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدُكُمْ، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ في يَدِهِ[21]، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ[22])[23].


وهذا النهي النبوي، والتحذير المُبالغ فيه إنما يدلُّ على مدى اعتناء السنة النبوية بمقصد الأمن وبتحقيقه؛ حيث لم تكتفِ السُّنةُ النبوية ببيان العقاب وتحديده، وإنما قَطَعت الطُّرقَ والسُّبلَ الموصلة إليه ابتداءً؛ حسمًا لمادة الشر، ودفعًا لما قد يترتَّب عليه من مضار محتملَة تؤدي إلى ذهاب الأمن، وانتشار الفزع والخوف والفوضى في المجتمع، وما نراه اليوم من مظاهر سلبية تعرضها القنوات والفضائيات من ترويعٍ للآمنين، وتخويف بدعوى المرح والضحك، كلُّه ممَّا يُنافي آداب الإسلام، ويُخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي حَرَّم مجرَّد التخويف والترويع، ولو من باب المزاح والضحك.

كما أنَّ فيه ردًّا بالغًا على مَنْ يُحاولون إلصاقَ تُهمةِ الإرهاب بالإسلام والمسلمين، إذ كيف يدعو إلى الإرهابِ والقتل دِينٌ من مبادئه عدمُ الترويع والتخويفِ، ولو من باب المزاح والضحك؟ إنَّ المفارقةَ كبيرةٌ، والبونَ شاسعٌ، ونحن نرد، لا لِنَمحو تهمةً، وإنما لِنُبَيِّنَ سُخفَ تفكيرهم، وسوءَ نيَّاتهم، وسذاجةَ استدلالهم.

4- التحذير من إيذاء مشاعر الناس بالسب والازدراء، والتحقير؛ وفيه أحاديث كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ[24]، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)[25]. قال النووي - رحمه الله: (سَبُّ المسلم بغير حقٍّ حرامٌ بإجماع الأمة، وفاعِلُه فاسق؛ كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّا قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرًا يخرج به من الملة؛ كما قدمناه في مواضع كثيرة، إلاَّ إذا استحلَّه.

فإذا تقرر هذا؛ فقيل في تأويل الحديث أقوال: أحدها: أنه في المُستَحِل، والثاني: أن المراد كفر الإحسانِ والنِّعمةِ وأخوةِ الإسلام، لا كفر الجحود، والثالث: أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه، والرابع: أنه كفِعل الكفار)[26].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا؛ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا، وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)[27].

قال النووي - رحمه الله: (قوله: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ" فيه تحذيرٌ عظيم من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى لم يحقره، إذ خلَقَه ورَزَقَه، ثم أحسن تقويمَ خَلْقِه، وسخَّر ما في السموات وما في الأرض جميعًا لأجله، وإنْ كان له ولغيره فله من ذلك حصَّة، ثم إنَّ الله سبحانه سمَّاه مسلمًا، ومؤمنًا، وعبدًا، وبلغ من أمره أنْ جعل الرسولَ منه إليه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فمَنْ حقَّر مسلمًا من المسلمين، فقد حقَّر ما عظَّم الله عز وجل وكافِيهِ ذلك؛ فإنَّ من احتقار المسلم للمسلم ألاَّ يُسلِّم عليه إذا مرَّ، ولا يردَّ عليه السلام إذا بدأ به، ومنها: أن يراه دون أن يُدخله اللهُ الجنة، أو يُبْعِدَه من النار.

وأما ما ينقمه العاقلُ على الجاهل، والعدلُ على الفاسق، فليس ذلك احتقارٌ للمسلم، بل لِمَا اتَّصف به الجاهل من الجهل، والفاسق من الفسق، فمتى فارقَ ذلك راجَعَه إلى احتفالِه به، ورفْعِ قَدْرِه)[28].

وهناك أحاديث كثيرة تنشر ثقافة الأمن ومعانيه في التعامل بين الناس، فتدعو إلى إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتبسم في وجوه الناس ومصافحتهم، وتدعو إلى تفريج الكربات، والتيسير على المعسر، ومساعدة المحتاج، والتعاون على الخير، وتدعو إلى التَّحاب، والتراحم، والرفق بالضعيف، والتوقير للكبير، وصلة الأرحام، والتخلُّق بالأخلاق الفاضلة.

وتنهى عن أضداد هذه الصفات؛ من التهاجر، والتحاسد، والفظاظة، والتباغض، وسوء الظن، والغيبة، والنميمة، وتنهى عن كل الأخلاق القبيحة[29].

والمجتمع الذي تسود فيه مشاعر الحب والمودَّة والسلام والتواضع والاحترام وآداب التعامل، وتختفي عنه مظاهر الحقد والبغض والحسد والتفاخر والازدراء، هذا المجتمع بلا شكٍّ مجتمعٌ آمِن، يأمن فيه الفرد على نفسه وماله وعِرضه، ليس بقوة القانون وتشريع العقوبات فقط، وإنما بقوةٍ أُخرى لا تمتلكها الأنظمة المعاصرة، وهي قوة الخُلُق والوازع الدِّيني، فالأخلاق والآداب وما يوجد داخلَ كلِّ فردٍ من أفراد المجتمع من وازعٍ ديني يدفعان صاحبَهما إلى تطبيق هذه الأخلاق واقعًا عمليًّا، فَيُكَوِّن المجتمعَ الآمن، وهذا ليس من قبيل الترف الفكري أو التَّنظير الكلامي أو الكتابي الذي يصطدم مع الواقع، بل إنَّ التاريخ يُثبت صِدْقَ هذا الكلام في عصر النبوة والخلافة الراشدة، فإذا احتجَّ علينا بعضهم؛ بأنَّ هذا العصر هو عصر النبوة والصحابة - رضي الله عنهم -، قلنا لهم: كذلك وُجِدَ هذا المجتمع في عصور الازدهار وسيادة الحكم الإسلامي، وبعودة سريعة إلى كتب التاريخ نجد أنَّ الحدود التي أُقيمت على مدار أربعةِ قرونٍ في دولةٍ متراميةِ الأطراف لم تتجاوز أعدادًا قليلةً بالمقارنة إلى سعة الدولة وترامي أطرافها، وفي هذا دليلٌ على شيوع الأمن والاستقرار المرتبط بالتربية الأخلاقية للمجتمع المسلم.

وعليه؛ فإنَّ الخلل اليوم في المجتمعات الإسلامية سببه غياب الأمن فيها، ومرجعه في المقام الأوَّل يعود إلى ضعف التربية الإيمانية والأخلاقية، وتفلُّت المسلمين من هذا الالتزام الأخلاقي إلاَّ مَنْ رحم ربِّي.

5- تغليظ حرمة الدماء والأعراض والأموال في الإسلام؛ وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)[30]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ؛ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)[31]. و(المعنى: أنه في أيِّ ذنبٍ وقع، كان له في الدِّين والشَّرع مخرجٌ إلاَّ القتل، فإنَّ أمره صعب)[32]. ولذا قال عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: (إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ[33] الأُمُورِ التي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فيها؛ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)[34].

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا)[35]. وهو (محمولٌ على التعذيب بغير حقٍّ، فلا يدخل فيه التعذيب بحقِّ؛ كالقصاص، والحدود، والتَّعزير، ونحو ذلك)[36]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ من قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ)[37].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)[38]؛ وذلك لِعِظَمِ القتل عند الله تعالى وشِدَّته. قال النووي - رحمه الله: (فيه تغليظ أمرِ الدماء، وأنها أوَّل ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة؛ وهذا لِعِظَمِ أمرها، وكثيرِ خطرِها، وليس هذا الحديث مخالفًا للحديث المشهور في السنن: (أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلاَتُهُ)[39]؛ لأنَّ هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى، وأما حديث الباب فهو فيما بين العبادِ)[40].

6- منع الضَّرر والظلم بكل أشكاله وأصنافه؛ حفظًا للأنفس والأموال والأعراض وسائر مصالح الناس، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ)[41]، عدَّ أهل العلم هذا الحديث من قواعد الدِّين العامة التي تدور عليها كثير من الكليات والجزئيات[42]، وفسَّروا الضرر والضِّرار بما يلي[43]:
أ- هما لفظان بمعنى واحد، تكلَّم بهما جميعًا على وجه التأكيد. قال بعضهم: الضرر عند أهل العربية الاسم، والضرار الفعل.

ب- الضَّرر: أنْ تضر غيرَك؛ لتنتفع بذلك، والضِّرار: أنْ تضرَّه من غير أنْ تنتفع.

ج- الضَّرر: هو الابتداء بالأذى، والضِّرار: هو الجزاء على الضرر. ولا ريب أنَّ جميع الاعتداء على الأشخاص والممتلكات العامة والخاصة داخلة في الضرر والضرار الذي حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم منه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ)[44]. (مَنْ ضَارَّ) أي: مَنْ أدخل على مسلم؛ جارًا كان أو غيرَه مَضَرَّةً في ماله، أو نفسِه، أو عِرضِه بغير حق، (أَضَرَّ اللهُ بِهِ) أي: جازاه من جنس فِعله، وأدخل عليه المَضَرَّة (وَمَنْ شَاقَّ) المُشاقة: المُنازعة، أي: مَنْ نازع مُسلمًا ظُلمًا وتعدِّيًا، (شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ) أي: أنزل اللهُ سبحانه عليه المشقةَ جزاءً وفاقًا، والحديث فيه دليل على تحريم الضِّرار على أيِّ صفةٍ كانت[45].

7- مُعاقبة المعتدين على أمن الناس وأبدانهم وأموالهم وأعراضهم؛ فكل مَن تعدَّى على أموال الناس وأبدانهم وأعراضهم وتسبب في زعزعة الأمن؛ يُعاقب بعقوبات رادعة، ومنها:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ)[46]. وجه الدلالة: (وَلِيُّ المقتول بالخيارين؛ إنْ شاء قتل القاتل، وإنْ شاء أخذ فداءَه، وهي الدِّية)[47]. فهذا (حضُّ وندبٌ لأولياء القتيل أنْ ينظروا خَيْرَ نَظرٍ: فإنْ كان القصاص خيرًا من أخذ الدِّية؛ اقتصوا ولم يقبلوا الدِّية، وإنْ كان أخذُ الدِّية أقربَ إلى الألفة، وقطع الضغائن بين المسلمين؛ فُعِلَتْ من غير جَبرِ القاتل على أخذِها منه)[48].

ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ)[49]. وجه الدلالة: أن المسلمين تتساوى دماؤهم في القصاص والديات، لا فرق بين عبد وحر، وذكر وأنثى، ووضيع وشريف؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سوَّى بينهم في الدِّماء، فوجب أن يكون حكمُهم فيما دون الدماء سواء[50].

الخلاصة: جاءت الشريعة الإسلامية مُحقِّقة لمقاصد، بها تنتظم حركةُ الحياة، ويَحدث التوازن والاعتدال في المجتمع، ويتحقَّق الأمن والاستقرار، فتزدهر المجتمعات، وتعمر الأرض على وفق مراد الله ومنهجه.

وجاءت هذه المقاصد مُستوعبة لِمَا يُحقِّق الهدف الأسمى من الحياة، وهو عبادة الله وعمارة الأرض، فكانت مقاصد: حفظ الدِّين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال هي المنوط بها تحقيق هذا الهدف الأسمى، وهذه المقاصد الخمسة يمكن دمجها جميعًا في عنوان جامع وشامل؛ وهو (الأمن)، فالأمن هو النتيجة الحتمية لتحقيقها، كما أنه الهدف الأساس من تشريعها.

والمتتبع لهذه المقاصد وما تضمَّنته من أحكامٍ يجد مدى الترابط والتسلسل المنطقي الذي يجمع بينها، كما يجد مدى استيعابها وشمولها لكلِّ ما يُحقِّق مصلحة الإنسان على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وكذا مصلحة المجتمع الإنساني الذي خلقه الله وكرَّمه، وبيَّن له المنهج والهدف والطريق، وبقي عليه أن يُحَكِّمَ عقلَه، ويفتحَ قلبه لنداء ربِّه، ودعوةِ نبيِّه؛ لِتُنقَذَ البشرية المُعذَّبة في ضَلالها، وبِضَلالِها وغيِّها.

وقد وقفت السنة النبوية شامخةً عالية، مُعلنةً هذه المقاصد، ومناديةً بتحقيقها لبني الإنسان في كلِّ زمان ومكان؛ فَبَسطَت الأحاديثَ التي سلكتْ كلَّ طريقٍ لتحقيق هذه المقاصد؛ فكان طريق الهداية والإرشاد والبيان؛ فبيَّنت المقاصد وأرشدت إليها، وحثَّت عليها، ودعت إليها.

وكان طريق الزجر والرَّدع؛ بأن رتَّبت الأحكام، وشَرَعت العقوبات الرادعة، والتي ينالها مَنْ يتعدَّى على هذه المقاصد، وتلك الحدود. وكان طريق الإغراء ومخاطبة الفطرة السليمة، والقلب العامر بالإيمان؛ بأن يستجيب لِمَا يحقِّق السعادة لنفسه ولبني الإنسان معتمدةً على هذا الرصيد الإيماني الذي امتلأت به قلوب أتباعه صلى الله عليه وسلم ومُحبِّيه.

وكان طريق التربية الخُلقية، والتزام الآداب الإسلامية؛ لتتحوَّل النظريات والمثاليَّات إلى واقعٍ معاش، ولِتُحَوَّلَ الإسلام إلى كائنٍ حيٍّ مُتحرِّك في قلب المجتمعات، فنجده في الشوارع والطرقات وفي المدارس والمستشفيات وفي المحال والوزارات، وفي كل مكان نجد السمت الإسلامي وما يتميَّز به من أدبٍ راقٍ، وخلق رفيع.

وهكذا يتحقَّق الأمن والاستقرار في المجتمعات، وليس هناك من سبيلٍ، ولا من طريقٍ إلاَّ الطريق الإسلامي، مهما شرَّقنا أو غرَّبنا، ومهما استوردنا من حلولٍ واستجلبنا من نظريات، والله غالب على أمره.


[1] انظر: الوسطية في السنة النبوية، (ص183).

[2] انظر: المحكم والمحيط الأعظم، (10/ 492)؛ لسان العرب، (13/ 21).

[3] التعريفات، للجرجاني (ص55).

[4] انظر: الأمن الاجتماعي وأهميته، (ص47).

[5] رواه ابن ماجه، (2/ 1387)، (ح4141). وحسنه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/ 354)، (ح3348).

[6] فيض القدير، (6/ 68).

[7] (بَوَائِقَهُ): البوائق: جمع بائقة، وهي الغائلة، والشر. انظر: كشف المشكل، (3/ 515).

[8] رواه البخاري، (5/ 2240)، (ح5670).

[9] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (9/ 222).

[10] رواه مسلم، (1/ 68)، (ح46).

[11] شرح النووي على صحيح مسلم، (2/ 17).

[12] رواه البخاري، (1/ 13)، (ح10)؛ ومسلم، (1/ 65)، (ح41).

[13] كمالُ الإسلام مُتعلِّق بخصالٍ أُخر كثيرة ليس هذا مجال ذكرها. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (2/ 10).

[14] كشف المشكل، (4/ 117).

[15] رواه ابن ماجه، (2/ 1298)، (ح3934). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/ 288)، (ح3193).

[16] رواه الترمذي، (5/ 17)، (ح2627) وقال: (حسن صحيح)، ووافقه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (3/ 47)، (ح2627).

[17] رواه أبو داود، (4/ 301)، (ح5004). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 229).

[18] رواه الترمذي، (4/ 462)، (ح2160). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/ 455)، (ح2160).

[19] رواه مسلم، (4/ 2020)، (ح2616).

[20] شرح النووي على صحيح مسلم، (16/ 170).

[21] (يَنْزِعُ في يَدِهِ): معناه: يرمي في يده، ويُحَقِّق ضربَتَه ورميَتَه، وجاء في بعض الأحاديث
بالغين (يَنْزِغُ) وهو بمعنى الإغراء، أي: يحمل على تحقيق الضَّرب به، ويُزيِّن ذلك.
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (16/ 17).

[22] (فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ): معناه: إنْ أنفذَ اللهُ تعالى عليه الوعيد، كما هو مذهب أهل
السنة والجماعة. انظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 17).

[23] رواه مسلم، (4/ 2020)، (ح2616).

[24] (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ): السَّب في اللغة: الشَّتم والتكلم في عِرض الإنسان بما يعيبه.
والفسق في اللغة: الخروج، والمراد به في الشرع: الخروج عن الطاعة.
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (2/ 53).

[25] رواه البخاري، (1/ 27)، (ح48)؛ ومسلم، (1/ 81)، (ح46).

[26] شرح النووي على صحيح مسلم، (2/ 54).

[27] رواه مسلم، (4/ 1986)، (ح2564).

[28] شرح الأربعين النووية، (ص30).

[29] انظر: الأمن الفكري في الإسلام، د. جميل بن عبيد القرارعة، ضمن كتاب: (الأمن رسالة
الإسلام) (ص29).

[30] رواه مسلم، (4/ 1986)، (ح2564).

[31] رواه البخاري، (6/ 2517)، (ح6469).

[32] كشف المشكل، (2/ 590).

[33] الوَرَطَات: جمع ورْطَة، وهي كلُّ بلاءٍ لا يكاد صاحبه يتخلَّص منه. يقال: تورَّط
واستورط. انظر: كشف المشكل، (2/ 590).

[34] رواه البخاري، (6/ 2517)، (رقم6470).

[35] رواه مسلم، (4/ 2018)، (ح2613).

[36] شرح النووي على صحيح مسلم، (16/ 167).

[37] رواه ابن ماجه، (2/ 874)، (ح2619).
وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 339)، (ح2138).

[38] رواه البخاري، (6/ 2517)، (ح6471)؛ ومسلم، واللفظ له، (3/ 1304)، (ح1678).

[39] رواه أحمد في (المسند)، (4/ 65)، (ح16665)؛ والبخاري في (التاريخ الكبير)، (2/ 33)،
(ح1593)؛ والنسائي، (1/ 233)، (ح467).
وصححه الألباني في (صحيح سنن النسائي)، (1/ 157)، (ح466).

[40] شرح النووي على صحيح مسلم، (11/ 167).

[41] رواه مالك في (الموطأ)، (2/ 745)، (ح1429)؛ والشافعي في (مسنده)، (ص224)؛
وأحمد في (المسند)، (1/ 313)، (ح2867)؛ وابن ماجه، (2/ 784)، (ح2340).
وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (2/ 257)، (ح1909).

[42] انظر: نيل الأوطار، (5/ 387).

[43] انظر: شرح الأربعين النووية، (ص27)؛ نيل الأوطار، (5/ 387).

[44] رواه أبو داود، (3/ 315)، (ح3635)؛ وابن ماجه، (2/ 785)، (ح2342). وحسنه
الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 404)، (ح3635).

[45] انظر: عون المعبود، (10/ 46).


[46] رواه البخاري، (6/ 2522)، (ح6486)؛ ومسلم، واللفظ له، (2/ 988).

[47] شرح النووي على صحيح مسلم، (9/ 129).

[48] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (8/ 508).

[49] رواه أبو داود، (3/ 80)، (ح2751). وقال الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (حسن صحيح)، (2/ 170)، (ح2751).

[50] شرح مشكل الآثار، للطحاوي (15/ 124)؛ شرح صحيح البخاري، لابن بطال (7/ 244).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 285.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 279.75 كيلو بايت... تم توفير 5.61 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]