|
|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود
نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود (1) د. محمد بن سعد الدبل إذا ذُكرت كلمة "الفن"، أو أُلقيت على الأسماع عبارة "الفن الأدبي" أو "الفنون الأدبية"، انصرف الذهن إلى ألوان الأدب شعرًا ونثرًا؛ مِن قصيدة أو أنشودة أو مقطوعة أو ملحمة، ومِن خُطبة إلى قصَّة وأقصوصة، وخاطرة ومقالة ومسرحية، إلى غير ذلك مما يؤديه فنُّ العبارة؛ كالأسطورة، واللغز، والأُحجية، والذي يسبق هذه الألوان في ميدان الأدب والنقد هو مَعرِفة القيَم الفنيَّة التي بها يقوم العمل الأدبي أيًّا كان نوعه. ولعلَّ أقرب المقاييس الفنية التي يوزَن بها اللون الأدبي هو مِقياس "الصنعة". فلقد درس النقاد القدماء صناعة الأدب من خلال البناء اللفظي والمعنوي، وقامت على تلك النظرة النقدية دراساتٌ وسعتْ خصائص الألفاظ والتراكيب وخصائص المعاني للنصِّ الأدبي، وما يتبع هذه الخصائص من جزئيات تُقاس بمعيار الذَّوق والنظرة الشاملة. فهذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يقرِّر الصنعة في الأدب، ويرى أنها مِهنة الأديب المطبوع، شاعرًا كان أو ناثرًا، وفي ذلك يقول: "الأدب جنس مِن الصناعة، وضرب مِن التصوير"، ويُسمي أبو هلال العسكري كتابه في نقد الأدب بـ: "الصناعتين"؛ يعنى الشعر والنثر، ويدرس عبدالقاهر الجُرجاني القيم الفنية لألفاظ ومعاني الأدب حتى يبلغ الشوط إلى مداه، فيُقرِّر مزيَّة النص في النَّظْم، لا في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده. ويدرس ابن سنان الخفاجي خصائص اللفظة المُفرَدة، فيوصلها إلى ثمانية أوصاف. ويَبني ابن الأثير كتابه: "المثَل السائر" على مقدِّمتَين؛ أولاهما في الصناعة اللفظية، وثانيتهما في الصناعة المعنوية[1]. وقبل أن ندرس - بالتفصيل - فنون الأدب الإسلامي مِن خطبة وقِصَّة وشِعر، يَحسن أن نسوق بعض الشواهد من النصوص الإسلامية؛ لنقف على شيء مِن خصائصها. إليك مِن كلام العرب ما يَقرع الخصم، ويقطع الحُجَّة، ويُثبت العقل، ويستثير الحماس، ويُمتع العواطف، ويُلهب المشاعر، ويَفيض بسحر البيان وأَسرِ الجنان. قال الخليفة المعتصم في كتاب له إلى عبدالله بن طاهر، وكانت في نفس المعتصم عليه حزازة: "أما بعد، عافانا الله وإياك، قد كانت في قلبي منك هنَات غفَرها الاقتدار، وبقيَت حزازات أخاف منها عليك عند نظري إليك، فإن أتاك ألفُ كتابٍ منِّي أستقدمك في كل واحد، فلا تقدم، وحسبك معرفة بما أنا منطوٍ لك عليه إطلاعي إياك على ما في ضميري منك، والسلام". وطلب الحَجاج إلى المُهلَّب بن أبي صفرة أن اكتب لي عن خبر الوقيعة في خراسان، واشرح لي القصة كأني أشاهدها، وعن خبر بني المُهلَّب وأيهم أشجع، فأرسل المُهلَّب إلى الحجاج كعبَ بن معدان الأشعري، فجاء مِن كلامه: "أما بنو المهلب، فالمُغيرة سيِّدهم، وكفاك بيزيدَ فارسًا، وما لقي الأبطالُ مثل حبيب، وما يستحيي شجاع أن يفرَّ مِن مدرك، وعبدالملك موت زعاف وسمٌّ ناقع، وحسبك بالمفضل في النجدة، واستجهز قبيصة، ومحمد ليثُ غابٍ"، فقال الحجاج: ما أراك فضلت منهم واحدًا عليهم، فأيُّهم أشجَع مِن أخيه؟ قال كعب: هم كالحلقة المُفرغة لا يُدرى أين طرفاها، قال الحجاج: فأخبرني عن رضا الجند على المُهلَّب، ورِضا المهلب على الجند. قال كعب: أعزَّ الله الأمير، للمُهلَّب على جنده شفقة الوالد، ولهم به بِرُّ الولد. وبعد، فهذا غيض مِن فيض مِن كلام السادة والقادة، فكيف بكلام أرباب اللسن والفصاحة وعلماء البيان وصُنَّاع الكلام، وبخاصَّة مَن كان مِن فنِّ الشعر، فهو أقدر على التصوير؟ إليك هذه المُذهبة العينيَّة لشاعر الإسلام الصحابي المجاهد كعب بن مالك الأنصاري، أبيات جديرة بالدراسة والنظرة الفاحِصة، إنها قصيدة لشاعر أحبَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِما له مِن مواقفَ تشهَد بصدقِ إيمانه، ورسوخ العقيدة في نفسه، هذه القصيدة نظمها كعب في الرد على عبدالله بن الزِّبَعْرَى، اشتملَت وحدتها العضوية على صورٍ أدبية فنيَّة، صاغها كعب - رضي الله عنه - بريشة الشاعر المُبدِع، فجاءت قصيدته خطابًا للعقل والعاطفة، متَّسمة بالواقعية والتاريخ والصِّدق الشعوري، وهذه الخصائص مجتمعة تؤكِّد ثُبوت الشِّعر الإسلامي وقوته وتفاعله وأثره وتأثيره، وإنَّ ما يراه بعض النقاد - قدماء ومعاصرين - مِن أن الشِّعر الذي نظمه شعراء الإسلام مِن الرعيل الأول فقَدَ بعض السمات الفنية مِن توهُّج العواطِف، والإبداع في الصور، وسعة الخيال، وتميَّز بخصائص أخرى كفتور العاطفة، ونضوب الصورة، وضيق الخيال - ليس على إطلاقه، والحكم العدل فيما ذهب إليه هؤلاء النقاد أن نُطلَّ على شيء من قصيدة كعب؛ فهي البرهان على خلاف ما يَرمي إليه هؤلاء. يقول - رضي الله عنه وأرضاه -: ألا هل أتى غسَّانَ عنا ودونهم مِن الأرض خَرقٌ سَيْرُه مُتنَعنِعُ صَحارٍ وأعلامٌ كأنَّ قَتامَها مِن البعدِ نقْعٌ هامدٌ مُتقطِّعُ مجالدنا عن ديننا كل فَخمةٍ مذرَّبةٍ فيها القوانسُ تلمَعُ ولكن ببدرٍ سائِلوا مَن لقيتمُ مِن الناسِ، والأنباءُ بالغيبِ تنفَعُ وإنَّا بأرضِ الخوفِ لو كان أهلُها سِوانا لقد أَجلَوْا بليلٍ فأقْشَعوا إذا جاء مِنا راكبٌ كان قولُه أعدُّوا لما يُزجِي ابنُ حربٍ ويَجمَعُ نُجالد لا تَبقى علينا قَبيلةٌ مِن الناس إلا أن يَهابوا ويفظعوا وقال رسول الله لما بدَوا لنا إذا ما اشتهى أنا نُطيع ونسمَع فلمَّا تلاقَيْنا ودارَتْ بِنا الرَّحى وليس لأمرٍ حمَّه اللهُ مدفَعُ ضَربْناهمُ حتى تركْنا سَراتَهم كأنهمُ بالقاعِ خشبٌ مُصرَّعُ يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود
نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود (1) د. محمد بن سعد الدبل ونحن أناسٌ لا نرى القتلَ سُبَّةً على كل مَن يَحمي الذِّمارَ ويمنَعُ بنو الحربِ لا نَعيا بشيءٍ نقولُه ولا نحن مما جرَّتِ الحربُ نَجزعُ إلى آخر ما قال كعب - رضي الله عنه - في هذه الرائعة الحَماسية، التي تُقارب أبياتها خمسين بيتًا، كل بيت يُعبِّر عن معنًى سامٍ شريف تتلاحَق فيه الصور؛ حتى كأن السامع يُشاهد المعركة الإسلامية عيانًا، ولنقف على شيء مِن هذه الصور في عدد مِن أبيات هذه القصيدة. في مطلع القصيدة تناول الشاعر تصوير المسافات التي قطعها الجيش الإسلامي انتصارًا لدين الإسلام ونشره والدعوة إليه. وقد أبدع كعب في تصوير الأرض المُوحِشة التي قطعها الجيش المجاهد؛ "فهي في شِعره مصيدة لأقوى الجِمال، فلا يقدر على اجتيازها أيُّ مُسافر مهما بلغت راحلته من الصبر والتمرُّس على الأسفار، موحشة، لا أنيس فيها ولا رفيق". ولكن سرعان ما يَرسم في تعبيره صورة أخرى لهذه الأرض الموحشة؛ إنها مرتع خِصب للظباء الخالصة البياض، ولأسراب النعام والطيور البرية؛ فقد جمع "كعب" في تصويره الشاعريِّ بين نقيضَين لصورة هذه الصحراء الواسعة المُوحِشة، فهناك حياة الصمت الرهيب الذي لا يقطعه إلا دلاج في السير، وهناك الشعاب المُتناثِرة التي لا يسكنها راجل أو راحل، وبجانب هذه الصورة تجد صورة الحياة تعجُّ بالحركة الدائبة التي تمتِّع النظر؛ فهناك الظباء والطيور، وأعداد مِن حيوانات البرِّ تسرَح وتمرَح وترتَع في مواطن الكلأ ورياض السهل والوعر. به العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خلفة وبَيضُ نَعَامٍ قَيضُه يَتقلَّعُ وشبيه قول كعب في هذا البيت "به العين والآرام يمشين خلفة" بقول زهير بن أبي سلمى: بِها العينُ وَالآرآمُ يَمشينَ خلفَة وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مجثمِ ومعلوم أنه يَبقى لزهير فضْل السَّبق إلى هذه الصورة النابضة بالحياة والحركة. يقول الدكتور/ زكريا صيام - حول الصور التي رسَمها كعب في قصيدته تلك -: "ولا أدري كيف تسَنَّى لشاعر المدينة حيث الحضارة والاستقرار أن يأتي بصور بدوية، بل موغِلة في البداوة والغرابة، لكنه خيال الشعراء الذي لا يحدُّ أفقَه شيء"[2]. ويمكننا أن نأخذ مِن ملاحظة الدكتور/ صيام معنى قدرة الشاعر المسلم على الإبداع في التصوير على حسب ما تقع عليه حاسته، وعلى حسب ما يراه في ذهنه مِن مواقف ومشاهد. فكعب في هذه القصيدة يُقوي لفظَه في رسم الصورة التي تتطلَّب منزع القوة؛ كهَول الصحراء وسعتها ووحشتها، وحين يرتبط شعوره بمشاهد الحضارة واللين نراه سهل اللفظ وواضح المعنى، حتى لكأنَّ القارئ يُحسُّ أن مطلع القصيدة لونٌ خاصٌّ بعيد عن وسطها وآخرها، فهل تُحسُّ بصلابة أو غرابة أو وحشية في قوله من هذه القصيدة؟ وفينا رسول الله نتبَع أمره إذا قال فينا القول لا نتطلَّع نُشاوره فيما نريد وكلنا إذا ما دعا - حتمًا - نُطيع ونسمع وقال رسول الله لما بدَوا لنا ذَروا عنكمُ هول المنيات واطمَعوا وكونوا كمن يَشري الحياة تقرُّبًا إلى ملك يُحيا لديه ويُرجَع فتأمَّل هل تجد في هذه الأبيات مِن قصيدة كعب لفظًا غريبًا، أو حرفًا متنافرًا، أو معنًى غامضًا؟! إن هذه الأبيات جميعها تدل - في إطارها ومضمونها - على سعة قاموس لغة الشاعر، وخصوصًا شاعر مثل كعب بن زهير، ذلك الصحابي الذي تخرَّج في مدرسة المسلمين، مدرسة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، مدرسة الرعيل الأول من المسلمين، ومَن حذا حذوهم مِن أدباء ومفكِّري الإسلام إلى اليوم. إن هذه الخصائص، التي تجمع بين سهولة اللفظ وعذوبته، وفخامته وقوته، وبين وضوح المعنى وعُمقِه، خصائص تَصدُق على الشعر الذي نبَت وأينَع في رياض الفِكر الإسلامي. وقامت عليه دراسات أدبية ونقدية قديمة وحديثة أولئك الأدباء، فكْر أدبيٌّ زخرت به أمهات المصادر من مثل كتاب "الأغاني"؛ لأبي الفرج الأصفهاني، و"البيان والتبيين"؛ للجاحظ، و"العقد الفريد"؛ لابن عبدربه، و"يتيمة الدهر"؛ للثعالبي، و"زهر الآداب"؛ للحصري، و"المثل السائر"؛ لابن الأثير، و"صبح الأعشى في صناعة الإنشا"؛ للقلقشندي، و"الطراز"؛ للعلوي، وكان ذلك الشِّعر قِبلة النحاة في شواهدهم، ومحط أنظار البلغاء في كلامهم، والبلاغيين في بحوثهم، واللغويين في آثارهم، والنُّقاد في آرائهم. [1] انظر هذه القضية وتفصيلاتها في: البيان والتبيين؛ للجاحظ جـ1، والصناعتين؛ لأبي هلال العسكري، في باب النظم، وأسرار البلاغة؛ لعبدالقاهر الجرجاني، شرح فكرة النظم، وسر الفصاحة؛ لابن سنان الخفاجي، والمثل السائر؛ لابن الأثير. [2] الأدب العربي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، ص: 143، د. زكريا عبدالرحمن صيام.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود
نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود (2) د. محمد بن سعد الدبل إذا كان الاستدلال يُغري بذكر الكثير مِن عطاء الأدباء، فهذه عبارات مِن جيِّد المنظوم والمنثور مِن كلام العرب أوردها الحصري في كتابه: "زهر الآداب وثمر الألباب".قال أبو إسحاق: أهدى الكِنديُّ إلى بعض إخوانه سيفًا صقيلاً فكتب إليه: "الحمد لله الذي خصَّك بمنافعَ كمنافع ما أهديتَ، وجعلك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم، وتمضي في الأمور مضاء حِدَّة المأثور، وتصون عِرضك بالأرفاد، كما تُصان السيوف بالأغماد، ويطَّرد ماء الحياة في صفحات خدِّك المشوف كما يشفُّ الرَّونق في صفائح السيوف، وتَصقُل شرفك بالعَطيَّات كما تصقل متون المشرفيات"[1]. هذه العبارات التي ساقها أبو إسحاق الحصري من كلام أحد الأدباء تتميز بخصائص فنية ثلاث: أولها: تَراوُح الفقرات بين الطول والقصر. وثانيها: اعتماد هذا الكتاب على أسلوب السجع الذي تبدو عليه مسحَة مِن تكلُّف. وثالثها: أن طوَّع هذا الكاتب مباني كلماته لمعاني الغرض الذي يقصد إليه، وهذا مِن الخصائص الفنية التي يَكاد كلام العرب ألا يَحيد عنها في أغلب الظروف والأحوال. وثمة خصوصية أخرى تميَّز بها كلام ذلك الأديب: أنها أسلوب الحقيقة، وهذا يعني أن الصور الأدبية تكتسب رُواءها مِن أسلوب الحقيقة بقدر ما تكتسبها من أسلوب المجاز، ويعود تحقُّق هذه الخصوصية إلى قدرة الأديب على تطويع كلماته وَفْق معانيها. وانظر إلى ما جرى مِن وفد الشام بين يدَي المنصور، واستمع إلى كلام الحارث بن عبدالرحمن الغِفاري أحد الوافدين، فلسوف يتبيَّن لك قدرة الأديب على تخيُّر الكلمات لما يمكن أن تحمله من معنى. يقول الحارث: "يا أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة استخفَّت حليمَنا، فنحن بما قدمنا معترفون، وبما سلف منا معتذرون، فإن تُعاقبْنا فبما أجرمْنا، وإن تعفُ عنا فطالما أحسنت إلى مَن أساء"، قال أبو إسحاق: فقال له المنصور: أنت خطيب القوم، وردَّ عليه ضياعه بالغوطة"[2]. هذه العبارات شفعت لصاحبها ولمستمعيها مِن وفد الشام، شفعت لهم عند السلطان بطيب ألفاظها وتوفيق معانيها، وسِحر بيانها، الذي أخذ بمجامع القلوب، فصار إلى قَبول توبة التائبين أنصفَ في حقِّ المُعتذِرين. قال أبو إسحاق: "ومِن المواقف التي أنصفَت صاحبها موقف تميم بن جميل عند الخليفة المعتصم، حدث أن قام تميم بن جميل بشاطئ الفرات، واجتمع إليه كثير من الأعراب فعَظُم أمره، وبَعُد ذِكرُه، فكتب المعتصم إلى مالك بن طوق في النهوض إليه، فتبدَّد جَمعُه، وظفر به موثقًا إلى المعتصم، فقال أحد رجال الخليفة: ما رأيتُ رجلاً عايَن الموت فما هاله ولا شغله عما كان يجب عليه أن يفعله مثل تميم بن جميل، فإنه لما مثل بين يدي المعتصم وأُحضر السيف والنطع ووقف بينهما تأمله المعتصم - وكان جميلاً وسيمًا - فأحبَّ أن يعلم أين لسانه مِن منظره، فقال له: تكلم يا تميم، فقال تميم للخليفة: أما إذ أذنتَ - يا أمير المؤمنين - فأنا أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، يا أمير المؤمنين، جبَر الله بك صدعَ الدِّين، ولمَّ بك شعث المسلمين، وأوضحَ بك سبُل الحق، وأخمدَ بك فتنة الباطل، إن الذنوب تُخرس الألسن الفصيحة، وتُثقِل الأفئدة الصحيحة، ولقد عَظُمت الجريرة، وانقطعَت الحُجَّة، وساء الظنُّ، فلم يبقَ إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربَهما مني وأسرعهما إليَّ أشبههما بك وأولاهما بكرمك، ثم أنشد: أرى الموت بين السيف والنِّطْع كامنًا يُلاحِظني مِن حيثما أتلفَّت وأكبر ظنِّي أنك اليوم قاتلي وأيُّ امرئ مما قضى الله يفلت وأيُّ امرئ يأتي بعذر وحُجَّة وسيف المنايا بين عينَيه مُصلَت وما جزعي مِن أن أموت، وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقَّت ولكنَّ خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم مِن حسرة تتفتَّت كأني أراهم حين أُنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوَّتوا فإن عشتُ عاشوا سالِمين بغِبطة أذود الردى عنهم وإن متُّ موتوا يعزُّ على الأوس بن خزرج موقِف يُسلُّ عليَّ السيف فيه وأَسكُت وكم قائلٍ لا يبعد الله روحه وآخر جذلان يسرُّ ويشمَت قال أبو إسحاق: فتبسَّم المُعتصِم، وقال: يا جميل، قد وهبتُك للصِّبية، وغفرتُ لك الصَّبوة، ثم أمر بفك قيوده، وخلَع عليه، وعقد له على شاطئ الفرات[3]. ومِن خلال هذه النصوص يتبيَّن لنا أن أهم فنون الأدب الإسلامي منذ عهد النبوة وما وليه من عصور الأدب إلى عصر النهضة الحديثة، لا يتجاوز الكلام المنثور والمنظوم في إطار ألوانٍ أدبية معيَّنة مِن خطبة، ووصية، وعهد، وميثاق، ورسالة، وقصة، وتوقيعات، وشِعر. أما المسرحية فلونٌ شاع وكَثُر في العصر الحديث، والقصة ويتبَع المسرحية ألوان أخرى؛ كالأقصوصة، والخاطرة، والأسطورة، والمقالة، والقصة القصيرة. ولم تُعرَف هذه الألوان الأخيرة وبخاصة فن المسرحية في حياة العرب الأدبية، ولم تنشأ أثناء نقلتهم الإسلامية إلا في العصر الحديث، غير أن القصة بمفهومها الأدبي وفوارقها الفنية التي تميِّزها عن الخَطابة كانت مِن أهمِّ فنون الأدب بعامة، والأدب الإسلامي بخاصة، ويكفي - دليلاً - على ذلك اشتمال الأدب النبوي على طائفة مِن القصص، مما سنتحدَّث عنه بالتفصيل في موضع آخَر مِن هذه الدراسة. وإذا كانت الخطابة والقصة والشعر هي أرحَب ميدان لاستيعاب أغراض الأدب الإسلامي وموضوعاته، فسنقصر الدراسة على هذه الألوان الثلاثة، مُبتدئين بفنِّ الخَطابة؛ فهي مِن أخطر فنون الأدب الإسلامي في حياة المسلمين منذ فجر الدعوة الإسلامية على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى اليوم، مُشيرين - باختصار شديد - إلى بعض الألوان الأدبية الأخرى؛ كالرسائل، والوصايا، والعهود. وإذا كانت الخَطابة العربية أسبق في الظهور مِن الشعر جاهلية وإسلامًا فما أهم وبلاغتها، وما الخصائص الفنية التي تميَّزت بها في ألفاظها وجُمَلها وتراكيبها ومعانيها وبلاغتها، وما قيمتها الفنية في معايير النقد الأدبي؟ ذلك ما سندرسه في الصفحات التالية، وقبل أن نتحدث عن هذه القضايا يَحسن أن نلمَّ بشيء عن تاريخ الخطابة عند العرب قبل الإسلام، وما كان لهذا الفنِّ مِن أثر في حياتهم الاجتماعية والأدبية. كانت الدوافع والأغراض لفن الخطابة عند الجاهليين تكاد لا تتجاوز الموضوعات التالية: "النعرة والحمية الجاهلية، وشن الغارة مدافعة عن النفس والمال والعِرض، أو للتحريض على السطو والسلب. ومِن أهم موضوعاتها عندهم: "المُفاخَرة بالشِّعر والنسَب والحسب، وقوة العصبية إلى جانب عدد من الخِصال الحميدة؛ كالشجاعة والكرم والنجدة والإيثار وحماية الجار وإباء الضيم"[4]، وقد سارت الخطابة عند العرب في جاهليتهم سَير الشِّعر في كثير مِن الأغراض والموضوعات، غير أن عِنايتهم في أول الأمر كانت خاصة بالشِّعر دون الخَطابة؛ لصعوبة حفظ النثر وسهولة حفظ المنظوم، ولأن الخَطابة فنٌّ قضَت به طبيعة حياتهم المعيشية، ودعَت إليه حالتهم الاجتماعية، فتفتَّقت بها ألسنتهم صيانةً لعزِّها، وحِفظًا لمَجدِها، وتخليدًا لمآثرها، وتأييدًا لمفاخرها[5]. وعلى الرغم مِن قِدَم عنايتهم بالشعر دون الخطابة فإنه قد نزَل مُستوى الشِّعر عندهم وعلا شأن الخطابة لما اتَّجه الشعراء إلى موضوعاتٍ تُقلِّل مِن قيمتهم؛ حيث استعملوا الشِّعر في ثلب الأنساب والطعن في الحرُمات، وهتْك الأعراض، وإثارة الضغائن، واتخذوه وسيلة للعيش والتكسُّب. مِن أجل ذلك اتجه الخطباء بخُطبِهم في ذلك العصر إلى موضوعات ذات قيَم إنسانية رفيعة بخلاف ما كان عليه الشعر، فاستُعمِلت الخطابة في تكريم الأشراف وتأبين العظماء، والصُّلح بين الفريقَين. [1] زهر الآداب وثمر الألباب للحصري جـ3 ص 828، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، شرح: زكي مبارك. [2] المصدر السابق للحصري ص 828. [3] المصدر السابق للحصري ص 829 وما بعدها. [4] الخطابة لعلي محفوظ ص 18، ط الرابعة. [5] المصدر السابق ص 18.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود
نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل (4) د. محمد بن سعد الدبل لنَعِش مع نموذج مِن بدائع الخطب الإسلامية، وحيث البيان الرائع في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن خطبته في حجة الوداع، تلك الخطبة الإسلامية التي لم يزل يَستقي منها البلغاء والعلماء في تثبيت معانيهم اقتباسًا وتضمينًا؛ يقول - صلوات الله وسلامه عليه -: ((الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونَستغفِره ونتوب إليه، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يَهدِ الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثُّكم على طاعته، وأَستفتِح بالذي هو خير، أما بعد، فأيها الناس، اسمعوا مني أُبيِّن لكم؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمِّي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة والسقاية، والعَمْد قَودٌ، وشِبه العمد ما قتَل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمَن زاد فهو مِن أهل الجاهلية. أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم. أيها الناس: إن النسيء زيادة في الكفر، يُضلُّ به الذين كفروا، يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليُواطؤوا عدة ما حرم الله[1]، فيحلوا ما حرم الله تعالى، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله -تعالى- السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله -تعالى- يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم، ورجب الذي بين جُمادى وشعبان، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد. أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهنَّ حقًّا؛ لكم عليهنَّ ألا يُوطِئنَ فرُشَكم غيركم، ولا يُدخلنَ أحدًا تَكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يَأتين فاحِشةً مُبينة، فإن فعلْنَ فإن الله قد أَذِن لكم أن تَعضلوهن وتَهجُروهن في المضاجع وتضربوهنَّ ضربًا غير مُبرِّح، فإن انتهَين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ألا وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنَّ شيئًا؛ أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفارًا يَضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تَضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي، اللهم هل بلغتُ؟ اللهم اشهد. أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم مِن تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد)). قالوا: نعم، قال: (فليبلغ الشاهد الغائب)). أيها الناس: إن الله - تعالى - قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، مَن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته))[2]. وبعد: فما يقول الناظر في هذا النص الشريف على طوله ووجازته، وتوسُّطه واعتدال فِقَرِه، لقد جمع بين طرفَي نقيض مِن الإطناب غير الممل والإيجاز غير المُخلِّ، حتى طابقت ألفاظه معانيه، ولم يسلك به - صلى الله عليه وسلم - مسلك صناع الكلام، على الرغم من كثرة المعاني السامية الشريفة التي تخلَّلت جزيئاته، وهذه المعاني كثيرًا ما تكون بحاجة ماسَّة إلى كثير مِن زخرف القول؛ لتأكيد هذا المعنى، ونفيهذا المعنى، وتفصيل هذا المعنى، واختصار هذا دون ذاك، لكنها العناية الربانية التي تمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوده بالمعارف التامة، فحاشاه مِن زخرف القول، وتكلُّف الصنعة؛ فإنه لا ينطق عن الهوى، وإنما هو وحي يوحى، يقول ابن قيم الجوزية في سرد خصائص كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان أفصح خلق الله، وأعذبهم كلامًا، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقًا، وحتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويَسبي الأرواح، ويَشهد له بذلك أعداؤه، وكان إذا تكلَّم بكلام مفصَّل مبيَّن يَعدُّه العادُّ، ليس بهذا مسرعًا لا يُحفظ، ولا منقطعًا تتخلَّله السكتات بين إفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهَدي. ويقول ابن قيم الجوزية في هدي خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَخطب خطبة إلا بدأها بحمد الله والثناء عليه، وكان يختمها بالاستغفار، وكان كثيرًا ما يَخطب بالقرآن، بل كان مدار خطبه - صلى الله عليه وسلم - على حمد الله -تعالى- والثناء عليه بآلائه، وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيُّن موارد غضبه، ومواقع رضاه، وكان يقصر خطبته أحيانًا، ويُطيلها بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة[3]. ولا شك أن كلام ابن قيم الجوزية وكلام غيره ممن سبقه وممن جاء بعده قول فصل في وصف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يستطيع أديبٌ ولا متأدِّب أن يُحصي الخصائص الفنية لجميع كلامه الشريف، وحسْبُنا أن نتلمَّس تلك الخصائص التي تميِّز كلامه في كل لون مِن ألوان النصوص النبوية من حديثٍ إلى خطبة إلى رسالة إلى وصية إلى موعظة، خصائص تنأى بكلامه الشريف وترتفع به عن كلام المُتفاصِحين والبُلَغاء والأدباء صُنَّاع الكلام. إن أول خصوصية في هذا النصِّ تلك الرابطة الوثيقة بين معاني هذه الخطبة وتدرُّجها في أسلوب الأمر والنَّهي، والتحذير، وترتيب النتائج، وحسْن الربط بين البدء والختام بما لا مزيد عليه. والبناء في تركيب الجمل ضِمن الألفاظ المُفرَدة تراه يشعُّ بالرَّونق والطلاوة مِن غير تكلُّف في تخيُّر الألفاظ وانتقائها؛ لأن المعنى هو الذي يَطلب اللفظ، فلا تكلُّف ولا صنعة، إنما هي عبارة جزلة فخمَة في موضع التفخيم ليِّنة سهلة في موضع اللين والسهولة، تُطاوع كلُّ لفظة أختَها في أداء المعنى وإقراره. وفي ثنايا هذه الخطبة الشريفة عدد مِن المُقابلات العجيبة، التي تحقَّق مِن خلالها ما ساعد على وضوح الفكرة؛ لأن استعمال الكلمات المتقابِلة المُتضادَّة مما يزيد في البيان، ويوضِّح خواصه، على أن يخلو هذا اللون من الأسلوب مما يُفضي به إلى الغلو، حتى لا يعود صنعة بديعيَّة تُفسد الأسلوب[4]. وقد عريت هذه الخطبة الشريفة مِن هذه الصفات ذات الصنعة؛ فإن أسلوب التقابل والتضاد قد جاء عفويًّا مِن غير قصد إليه. من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن يهدِ الله فلا مُضلَّ له))، ((يُحلونه عامًا ويُحرِّمونه عامًا))، ((السموات والأرض))، ((ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى))، ((فليبلغ الشاهد الغائب)). إنها عبارات فنية عجيبة، لم تُتصيَّد، ولم تُتخيَّر بالبحث والاستقصاء، وإنما سلك بها مسلك الطبع الفِطريِّ الذي لا تكلُّف فيه ولا تعمُّل، ولم يأتِ أيُّ أسلوب مِن هذه المقابلات إلا لأنه نوع "مِن التحدي بين المعاني والمنافَسة في ظهور الغرض، وهذه قوة المعاني"[5]، وإذا تأملنا معاني هذه الخطبة ألفَينا أنماطًا من القيم الخلقية الإنسانية الرفيعة، فهي تدعو إلى التقوى، وإلى الأخوة، وإلى العدل في الحقوق الإنسانية، كما يُحدِّد ذلك ويُفصح عنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثُّكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير))، وعن تقرير مبدأ الأخوة يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه))، بل تقترن الأخوة بالتقوى في أسلوب هذه الخطبة، فهما جناحا النجاة؛ حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم مِن تراب))، وهذا جناح الأخوة يلتحم مباشرة مع جناح التقوى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى))[6]. ونلحظ تدرُّج هذه الخطبة في عَرضِ موضوعاتها مبتدأة مِن أدنى الحقوق الإنسانية والقيم الخلقية إلى أعلاها، فحين تتحدَّث عن نصيب الإرث تَنتقِل إلى الحديث عن حق النسب من قوله - صلى الله عليه وسلم -(أيها الناس، إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثرَ من الثلث))، ثم يقول عن حقوق النسب: ((والولد للفراش، وللعاهر الحجَر، فهنا عدل في حق اجتماعي وآخَر قضائي، وهذا منتهى السمو في مدارج البلاغة العربية الذي يشفُّ عنه إلهام النبوة وقدرتها على التصرف في فنون القول))؛ إذ لم يكن الإسلام الذي يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - ويوطِّد دعائمه دينًا جمودًا فيقف عند المطالب الأُخرويَّة شأن ما سبقه من الأديان، بل جاوَزها إلى تحقيق المصالح الدُّنيوية، فكان لا بد للشارع الحكيم من أن يتعرَّض لكل ما به تصلح أمور البشرية في العقيدة والتشريع والمعاملات، والحُكم والسياسة، والاجتماع والأخلاق والفكر[7] إلى ما هو أدق وأخطر؛ كمبدأ الصِّلة والتقارُب والتحابِّ بين الأفراد والجماعات، سواء كان هؤلاء الأفراد والجماعات مِن ذوي القربى أو من غيرهم؛ وذلك لخطورة هذه القيم وصلتها الوثيقة بحماية الفرد والمجتمع، فنرى تلك الخطبة قد تنقلت بواسطة هذه الموضوعات من معلم إلى معلَم، ومن غرض إلى غرض، وكل فكرة تحملها ذات طابع فني جميل. فقد أتى - صلى الله عليه وسلم - في مطلع خطبته بمقدمة مثيرة للانتباه إلى ما بعدها، ثم انتهى منها إلى قوله: ((أيها الناس))، وأخذ يبيِّن معالم الدين وحدوده، ويحضُّ سامعيه في أمر دينهم ودنياهم؛ إذ يقول: ((إن لنسائكم عليكم، حقًّا، ولكم عليهن حقًّا))، وفي هذا انتقال مِن الكلام عن الأمور العامة إلى الكلام عن الشؤون الخاصة، ومن المسائل الجماعية إلى المسائل الشخصية، وبهذا وذاك يسعد المجتمع، وتتهيأ أسباب الحياة الصالحة للناس كافة. وتلك الموضوعات المُندرِجة في ثنايا تلك الخطبة، ذات معانٍ شريفة سامية، تأخذ بلُباب السامع والقارئ؛ لأنها مِن إلهام النبوة، ونِتاج الحِكمة وغاية العقل، فلننظر إلى خصائص الأسلوب الذي أُديَت به تلك المعاني. إنه بأدنى نظرة فاحصة تتبدى لنا فنية الكلمة التي تأخذ مكانها في مِعيار الفصاحة، فلئن كانت الفصاحة راجعة إلى حسْن الملائمة بين الحروف باعتبار أصواتها ومخارجها، حتى تستوي في تأليفها على مذاهب الإيقاع اللغوي، فهذا أمر لم يتمَّ إلا لمُحمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقد تهيأ له مِن إحكام الضبط وإتقان الأداء لفظ مُشبَع، لسان بليل، وتجويد فخم، ومنطق عذب ونظم مُتساوق[8]، فكل جملة أخذت مكانها، وأدَّت معناها الذي سيقَت له، وَفْق إحكام بديع، تزينه كناية لطيفة، مِن مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما النساء عندكم عوان))؛ فلفظة ((عوان)) كناية عن ضعفِ المرأة. ولكن لِم قال - صلى الله عليه وسلم - هنا: ((اتقوا الله في النساء))، وقال في خطبة أخرى: ((فاتقوا النساء))؟ لا خلاف بين القولَين، ولا تناقض في الوصيتين؛ فإن في النساء لخطرًا يخشى قد تضعف الرجال حياله، فجاء التركيب هناك بجملة ((فاتقوا النساء))، وإن في النساء لضعفًا يُرحم قد تصول الرجال إزاءه، فجاء التركيب منتظمًا من خلال قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فاتقوا الله في النساء))، وتأمل هذا المجاز من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع))؛ فهو تعبير تذهب فيه الكلمة كل مذهب، وتبقى النفس إزاءه متشعِّبة، لكن سرعان ما تهدأ وقد علمت أنه مجاز المراد به إذلال أمر الجاهلية، وحطُّ أعلامها، ونقض أحكامها، كما يذل الشيء الموطوء الذي تدوسه الأَخامص الساعية، والأقدام الواطئة، فلا يبقى منه مرفوع إلا وضع، ولا قائم إلا صُرع[9]. وانظر إلى وجازة هذا المثل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))؛ فهو من الفرائد التي اختص بها النبي الكريم، ومعناه لا حق له في نسب الولد"[10]. وأمعن النظر في التركيب مراعيًا ذلك "الختام الموسيقى للصوت" يلتزمه - صلى الله عليه وسلم - آخِر كل مقطع مِن مقاطع هذه الخطبة، تلك العبارة الجميلة ذات الإيقاع الصوتي العذب، والنغم الممتد: ((ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد))، إنها الفطرة السليمة، والذوق الرفيع يَهديان عفوًا إلى مَن تقصر دونه بلاغة البلغاء مِن كل صاحب صنعة، وفن مجلوب، بل هذه هي اللازمة التي ردَّدها - صلى الله عليه وسلم - عبر هذه الخطبة، وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها ومعناها؛ لأنها لخَّصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات، فما كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها بعملها وقولها وحركتها وسكونها إلا حياة تبليغ وبلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد))[11]. وإذا كان الموضوع هو الغرض الأساس الذي من أجله يُقصد العمل الأدبي فتلقى الخطبة، أو تنشأ الرسالة، أو تنظم القصيدة، وإذا كانت الأعمال الأدبية في بيئة ما إنما هي صدى دقيق لما يتردَّد في هذه البيئة من أحداث، وما يجري فيها من أمور، فلا بدَّ أن يسلك الأديب طريقة فذَّة في التعبير، تملك إلى قوة التأثير واستثارة العواطف تحريك العقول؛ طلبًا للامتثال، فلا يَجنح الأديب في تعبيره إلى إحكام الصنعة متناسيًا تحقيق المعنى في صورة متلائمة، وتلك الخاصية نلحظها في تعبير النبيِّ الكريم؛ فهو لا يَحفل بصياغة القوالب، بقدر ما يحفل بالمعنى وتبليغه أذهان السامعين، وشاهد ذلك ما لمسناه في خطبته تلك؛ فقد تناسقت ألفاظها، وتلاءمت تراكيبها، فجات أنماطًا مِن التعبير المبتكر. وآية ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما النساء عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا))، ((الولد للفراش، وللعاهر الحجر))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد)). المعنى هو المقصود من تلك التراكيب طلبًا للامتثال، وقد حرك الشعور واستشعار العقل دون تكلف في الصناعة اللفظية. ومن أروع خصائص التعبير في هذا النص الكريم: اكتمال الوحدة الموضوعية؛ فعلى الرغم من تناول عدد من الموضوعات في هذا النص فإننا نلحظ بناءه على الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتزهيد في الدنيا، والغضِّ مِن قيمتها، والتحبيب في الآخِرة والعمل لها، فكأنما هذا النص قد نُظم في خيط واحد، لا اختلال في عقده، ولا عيب يلحَق مبناه ومعناه. وخلاصة القول: إن أسلوب هذه الخطبة، وأسلوب غيرها من الكلام النبوي الشريف لا يملك أي ناظر إلا أن يقول فيه: "إن الجمال الفني في بلاغة محمد - صلى الله عليه وسلم - أثر على الكلام من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها؛ فكلامه - صلى الله عليه وسلم - يجري مجرى عمله، كلُّه دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة، فيه روح الشريعة ونظامها وعزيمتها في نسق هادئ هدوء اليقين من روح نبي مُصلِح رحيم"[12]، ولا يُستعذَب التكرار وطول الاستشهاد بهذه الدرر من روائع الأدب الإسلامي في الخطابة، ولا نص أجمل ولا أجود من خطبه - صلى الله عليه وسلم - وخطب صحابته الأجلاء، ومنهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، وقد سبق أن درسنا نصًّا خطابيًّا للخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه. [1] نص الآية قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 37]. [2] الخطبة في البيان والتبيين للجاحظ، جـ2 ص 31 وما بعدها، وفي العقد الفريد لابن عبد ربه جـ4 ص 57، 58، شرح وتصحيح: أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري. [3] زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية، ص 182، 188، 191، تحقيق وتخريج وتعليق: شعيب الأرناؤوط، جـ1، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت. [4] الأسلوب لأحمد الشايب، ص 189، الطبعة السادسة 1966م، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. [5] المصدر السابق ص 197. [6] القيم الخلُقية في الخطابة العربية ص 73، د. سعيد حسين منصور، الطبعة الثانية 1399هـ. [7] الخطابة في صدر الإسلام د. طاهر درويش ص 138، 215، 216. [8] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي ص 367، 384، 386. [9] المجازات النبوية للشريف الرضي ص 102، شرح: طه عبدالرؤوف سعد، مطبعة الحلبي، مصر 1391هـ. [10] العقد الفريد لابن عبد ربه جـ1 ص 5، تحقيق: محمد سعيد العريان. [11] الخطابة في صدر الإسلام للدكتور محمد طاهر درويش، ص 217، وموسوعة العقاد الإسلامية ص 83، المجلد 2، نشر دار الكتاب العربي، بيروت. [12] وحي القلم للرافعي ص 6، 10 جـ3، دار الكتاب العربي ببيروت.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود
نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل (5) د. محمد بن سعد الدبل الخصائص الفنية للقصة الإسلامية إذا أراد باحث أن يَدرس القصة الإسلامية، سواء على مستوى القصة الأدبية أو الأقصوصة، أو الأدب ذي القصص الروائي، فإن هذا العمل يَعني بالضرورة الوقوف على معرفة القضايا الجزئية والكلية، ومعرفة المقاييس والقيَم التعبيريَّة المُتمثِّلة في استجلاء المسائل التالية: أولاً: العنصر القصصي في الأدب العربي القديم. ثانيًا: أثر الإسلام في المسار الأدبي وتوجيهه. ثالثًا: الفنون النثرية الإسلامية بعامة، والقصة الإسلامية بخاصة. رابعًا: البِنيَة العامة للقصة الإسلامية. خامسًا: نسج القصة الإسلامية "البناء الفني - اللفظ والمعنى". سادسًا: العناصر الفنية "القيم التصويرية - أو البناء الشعوري". سابعًا: أنواع القصة الإسلامية. ثامنًا: موضوعات القصة الإسلامية. تاسعًا: أغراض القصة الإسلامية. عاشرًا: الإسلامية في منهج القصة الفني[1]. ومعلوم أن استقصاء هذه الموضوعات يتطلب بحثًا مُستقلاًّ، فلنقتصر على العنصر القصصي في الأدب العربي القديم، وهذا يعني قضيَّة وسعها البحث العِلمي درسًا، ووسعها النقد الحديث ما بين إفراط وتفريط؛ ففريق قد وقف مِن هذه القضية موقف المُنكِر المتشدِّد؛ حيث حكم بعدم وجود القصة في أدب العرب. ورأى "فَقْر ذلك الأدب من الناحية القصصية قد بلغ حدًّا كبيرًا؛ لأن العرب - في نظر هذا الفريق - لم يعرفوا القصة، ولم يمارسوها في ماضيهم، وقد أشاع هذه المسألة المُستشرِق الفرنسي "أرنست رنان" الذي يرى تعرية الأدب العربي القديم من العنصر القصصي، ومثله المستشرق "ديبور"، وقد اتجه هذا الاتجاه فريق مِن الباحثين العرب مؤيدين فكرة القول عند المُستشرقين الذين ينادون بخلو الأدب العربي القديم من القصة. وهذا يعنى أن الفريق المُستشرِق لم يدرس تلك القضية دراسة فاحصة عميقة تقف الباحث على الحكم المنصِف قبل أن يطلقه، وإنما أطلق حكمه لغرض فِكريٍّ، الهدف منه تنقُّص الفكر العربي والإسلامي، ورميه بالضحالة والتقصير. وإن الفريق الثاني - وهم العرب الباحثون الذين ساروا في اتجاه هؤلاء المستشرقين - قد غفلوا عن الهدف الاستشراقي من وراء ذلك الافتراء الذي ينزع إلى رمي التراث العربي بالنقائص، وأنه عالة على غيره مِن فكر الأمم الأخرى وحضارتهم، وكان الأولى بالفريقَين أن يتفحَّصوا - بدقة - تراث الأمة العربية، ولكل فريق - بعد العناية الفاحصة - أن يُصدر ما يراه موضوعيًّا في نقد التراث مِن خلال هذا الجانب. والحق أن العرب قد عرفوا القصة منذ أقدم العصور، وتراثهم حافل بالألوان القصصية المختلفة التي تدلُّ على وجود فِطرة تُنشئ القصة وتتذوقها، وقد شهد بذلك بعض المستشرقين في آرائهم المنصِفة من مثل: "كارل بروكلمان" الذي يقول في حديثه عن أولية النثر: "لم يكن الشاعر وحده هو الذي تهفو إليه الأعين عند عرب الجاهلية، بل كان القاص يقوم - أيضًا - مقامًا هامًّا إلى جانب الشعر في سمَر الليل، بين مَضارِب الخيام لقبائل البدو المُتنقِّلة، وفي مجالس أهل القرى والحضَر"[2]، وهذا "جوستاف لوبون" يقول عن العرب في إحدى رحلاته إلى الشرق: "أتيح لي في إحدى الليالي أن أشاهد جمعًا عربيًّا من الحمَّالين والنواتي والأُجَراء يستمعون إلى إحدى القصص، وإني لأشك في أن يُصيب قاص مثل ذلك النجاح لو أنشد جماعة مِن فلاحي فرنسا شيئًا من أدب "لامارتين" أو "شانو بريان"؛ فالجمهور العربي ذو حيوية وتصور يتمثَّل ما يسمعه كأنما هو يراه[3]". وهذه الآراء السابقة القائلة بخلو الأدب العربي القديم من جوانب القصة الأدبية لا اعتماد عليها؛ لأنها تخلو من الحُجَّة والدليل؛ إذ نفتْ هذا اللون من الأدب نفيًا مجملاً عامًّا، أما لو كان النفي مُسلَّطًا على القيم الفنية في نصوص التراث الأدبي التي حفظت لنا ألوانًا مُتباينة الطعوم، تحكي المواقف الإنسانية والطُّرَف التي هي مِن قبيل القصة والأقصوصة، لو كان هذا هو ما يعنيه هؤلاء النقاد لأمكن أن يكون ما تناقلوه من آراء وأثاروه من نقد مثار جدل وأخذ وعطاء؛ لأن القصَّة في الأدب العربي القديم نشأت كغيرها مِن فنون الأدب، لم تَستقِم لها معالم الفنية إلا عند ظهور الإسلام، حين كان مِن أدوات بسطِه ونَشرِه الدعوةُ إليه بكلِّ بيانٍ، وشاهدُ ذلك القصص القرآني الفريد والقصص النبوي الشريف. غير أن هذَين اللونَين مِن ألوان القصص الأدبي، كلاهما لا يَخضع في معالمِه الفنيَّة لأوهام القصاصين وأخيلتِهم. إذ اللون الأول مِن كلام الله - تعالى - الذي: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، والثاني من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي: ﴿ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]. وهناك أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن هؤلاء القائلين بنفي القصة من الأدب العربي القديم سواء من النقاد المستشرقين أو من نقاد العرب الذين ساروا في هذا الاتجاه لم يحدِّدوا جميعهم الفترة الزمنية المعنيَّة "بالأدب القديم"؛ فبعضهم فصل في قوله، وأراد بالفترة الزمنية "العصر الجاهلي"، ويقال لمن أراد أدب تلك الفترة: إن الأمر ليس على إطلاقه؛ لأن كتب التراث الأدبي حافلة بألوان مِن القصص - كما أسلفنا - غير أن هذه القصص ينقصها شيء مِن معالم الفنيَّة التي يتطلبها الأسلوب القصصي. وبعضهم أجمل الفترة الزمنية، ولم يحدد قِدَمها بفترة معيَّنة أو عصر معيَّن، يقال لهؤلاء: إن تاريخ الأدب العربي حين مرَّ بمراحل نضجه وبلغ أوج كماله في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي والعصر العباسي الذي يعدُّه النقاد عصر ازدهار العربية في علومها وآدابها، إن تاريخ الأدب العربي عبر تلك العصور - قد حفل بألوان من القصص الأدبي الفريد، الذي مهَّد للدراسة الأدبية والنقدية في هذا الجانب، ويَكفي في ذلك فنُّ "المقامات". بل أين نضع تلك القصص ذات المواقف والطرف مما حفل به الأدب العربي عبر عصوره المُتطاولة من العصر الجاهلي إلى أواخر العصر العباسي وأوائل عصر النهضة الحديثة، مما نجده قارًّا في مصادر التراث، وبخاصة مصادر التراجم والسِّيَر؟ فإن القارئ لا يعدم وجود قصة تَحكي موقف هذا الحاكم، أو هذا القائد، أو هذا البطل، أو هذا الشاعر، أو هذا العالِم، وللعرب في أدبهم منذ جاهليتهم إلى آخر العصر العباسي وأوائل عصر النهضة الحديث عددٌ كبير مِن القصص التي تَحكي حياتهم الفكرية والأدبية والاجتماعية، ومن جملة ذلك اللون القصصي: "قصص تشرح ما أُثر عنهم مِن عادات وشمائل في الأسباب الدائرة بينهم وبين ما انتهجوه في مواسمهم وأعيادهم وأفراحهم وأعراسهم، مما يمثِّل حياتهم الاجتماعية أصدق تمثيل. وقصص تَصِف أحوال المرأة العربية، وما تجري عليه تربية أطفالها، ومعاشرتها زوجها، ومعاونتها له في الحياتَين الاجتماعية والمادية؛ بالسعي في سبيل الرزق، والاشتراك في خوض معامع الحروب، والأخذ بقسط من الثقافة الأدبية السائدة في عهودهم القديمة، ولهم قصص تمثِّل ذلاقة ألسنتهم، وحكمة منطقهم، ما يضاف إلى ذلك من فصاحة اللفظ، وبلاغة المعنى، وجمال الأسلوب، وحسن التصرف في الإبانة والتعبير. ولهم قصص تَسرُد بارع مُلَحهم، ورائع طُرَفهم، في جواباتهم المُسكِتة، وتصرُّفاتهم الحكيمة، وتخلُّصاتهم اللَّبِقة، مما يدل على حضور الذهن، وسرعه البديهة، وشدة العارضة[4]. بل نجد في أدبهم وبخاصة فنِّ الشعر قصصًا شِعريَّةً تَحكي أروع المواقف الاجتماعية والبطولية؛ كقصة الحُطيئة مع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين سجنه فلم يجد بدًّا مِن الشِّعر يستعطف به عمر - رضي الله عنه. وكقصته مع الضيف الطارق والسيد والزوجة مع بنيها في شعبهم إبان فقر وقُرٍّ، وكموقف تميم بن جميل مع الخليفة العباسي المعتصم، وغير ذلك كثير مما حفلت به كتب التراجم والتاريخ والسير، والذي ينبغي أن يقال: إن القصة في الأدب العربي فنٌّ تكامَل نضجه في عصر النهضة الحديثة؛ فقد كان إبان عصور الأدب الأولى مِن العهد الجاهلي إلى العهد الأموي في الأندلس، وفي عصور الانحطاط وما بعدها بقليل قد كان فنُّ القصة وليدًا لم يستطع السير على قدميه؛ حيث لم يوجد له مِن هواة القصة مَن يأخذ بيده ويُهذِّبه ليعطي كغيره من فنون الأدب الأخرى. [1] القصص في الحديث النبوي ص 33 وما بعدها؛ د. محمد بن حسن الزير، الطبعة الأولى. [2] تاريخ الأدب العربي بروكلمان ص128 دار المعارف ط3. [3] القصص في أدب العرب لمحمود تيمور ص24، والقصص في الحديث النبوي الشريف د/ محمد بن حسن الزير ص33 وما بعدها. [4] قصص العرب، المجلد الثاني ص 441 وما بعدها، تأليف أبي الفضل إبراهيم ومحمد جاد المولى، وعلي البيجاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |