«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 42 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ما جاء في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          دقة الإمام البخاري في إيراد ألفاظ الحديث: دراسة تحليلية لحديث في النياحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          تخريج حديث: لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          صاحب القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          تفسير سورة الضحى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          عصاة الموحدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          ونخوفهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          إحياء سنة النبي في الحياة اليومية: بين النصوص والتطبيقات المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          كن كالبلسم الشافي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أحاديث الإمام مالك في الموطأ: منهجه وأسباب تركه العمل ببعضها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #411  
قديم 09-10-2024, 11:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ... ﴾

قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253].

1- علو مقام الرسل ورفعة منزلتهم عند الله عز وجل؛ لأنه تعالى أشار إليهم بإشارة البعيد ﴿ تِلْكَ ﴾؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ ﴾.

2- إثبات الله عز وجل العظمة لنفسه، تارة بضمير العظمة، وتارة بلفظ الجلالة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَضَّلْنَا ﴾، وقوله: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾، وقوله: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ ﴾، وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ ﴾، وقوله: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ﴾.

3- تفضيل الله عز وجل لبعض الرسل على بعض، ففضلهم كلهم على جميع الخلق، وفضل بعضهم على بعض، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾.

فأفضلهم أولو العزم: محمد، وإبراهيم، وموسى، ونوح وعيسى عليهم الصلاة والسلام.

وأفضل أولي العزم: محمد ثم إبراهيم، ثم موسى عليهم الصلاة والسلام، ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفاضلوا بين الأنبياء»[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى»[2].

فإن هذا النهي فيما إذا كانت المفاضلة بينهم على سبيل التعالي والافتخار بأن يتعالى ويفتخر كل قوم بنبيهم، فهذا لا يجوز، أما على سبيل الإخبار وبيان الواقع فلا بأس بذلك.

4- إثبات الكلام لله عز وجل بحروف وأصوات مسموعة مفهومة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾، أي: من كلمه الله عز وجل.

والكلام من صفات الله عز وجل الذاتية الثابتة له عز وجل، ومن صفاته الفعلية المتعلقة بمشيئته، فهو يتكلم إذا شاء بما شاء- سبحانه وتعالى، وفي هذا رد على من نفى اتصافه عز وجل بالكلام، كالجهمية والمعطلة، ونحوهم، وعلى من زعم أن كلامه عز وجل هو المعنى القائم بالنفس كالأشاعرة، ونحوهم.

5- أن مما فضل الله به بعض الرسل تكليمه عز وجل لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ كموسى عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164].

6- أن مما فضل الله به بعض الرسل على بعض أن رفع بعضهم درجات حسية ومعنوية في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾.

7- إثبات نبوة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وإعطائه الآيات البينات الشرعية في الإنجيل، والكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾، وفي هذا رد على اليهود الذين أنكروا رسالته عليه السلام.

8- تأييد الله عز وجل وتقويته لعيسى ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- بجبريل عليه السلام قوله تعالى: ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾.

9- إبطال تأليه النصارى لعيسى ابن مريم وعبادتهم له من دون الله؛ لأنه لو كان ربًا وإلهًا ما احتاج إلى تأييد وتقوية لا بجبريل عليه السلام ولا بغيره.

10- قوة جبريل عليه السلام ومكانته عند الله تعالى، وفضله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ [التكوير: 19 - 22].

11- أنه لا يقع شيء في هذا الكون من خير أو شر إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾.

فأفعال العباد ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29].

وفي هذا رد على القدرية الذين يزعمون أن العباد يستقلون بخلق أفعالهم وأنها ليست مرتبطة بمشيئة الله تعالى[3].

12- أن قتال الكفار للمؤمنين كان بعد بيان الحق لهم بالآيات البينات وقيام الحجة عليهم، والإعذار منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾.

13- اختلاف الناس وانقسامهم تجاه دعوة الحق إلى مؤمن وكافر، ولله الحكمة في ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [التغابن: 2].

14- أن الاختلاف شر يجب الحذر منه.

15- إثبات الاختيار للعبد، وأنه ليس مجبورًا على فعله، كما تزعم الجبرية؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾.

[1] أخرجه البخاري في الخصومات (2412)، ومسلم في الفضائل (2374)، وأبو داود في السنة (4668) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[2] أخرجه البخاري في الخصومات – ما يذكر في الأشخاص والخصومة (2411)، وفي الفضائل- من فضائل موسى (2373)، وأخرجه مسلم في الفضائل (2373)، وأبو داود في السنة (4671) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] انظر: «شرح الطحاوية» (2/ 641).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #412  
قديم 09-10-2024, 11:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ... ﴾


قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 254، 255].

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ سبق الكلام عليه.

﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ الإنفاق: بذل المال، والمراد به هنا: بذل المال في طاعة الله تعالى من النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على من تلزم النفقة عليه من الأهل والأولاد ونحوهم، وكذا النفقات المستحبة كالصدقة والهدية ونحو ذلك، وحذف المعمول ليعم الإنفاق جميع طرق الخير.

﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ «من»: تبعيضية، و«ما»: موصولة، أو مصدرية، أي: أنفقوا بعض الذي رزقناكموه، أو بعض رزقنا لكم، والرزق: العطاء.

ويحتمل أن تكون «من» بيانية، وعلى هذا فيجوز إنفاق جميع المال.

﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ «أن» والفعل «يأتي» في محل جر مضاف إليه، أي: من قبل إتيان يوم، والمراد به يوم القيامة.

﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ هذه الجملة المنفية في محل رفع صفة لـ«يوم».

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالبناء على الفتح بدون تنوين: «لا بيعَ»، «ولا خلةَ» «ولا شفاعةَ»، على اعتبار «لا»: عاملة عمل «إنَّ»، لكن بالبناء على الفتح، لا بالتنوين.

وقرأ الباقون بالضم فيها كلها مع التنوين على اعتبار «لا» ملغاة: ﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾.

﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ ﴾ «لا»: نافية، أي: لا بيع موجود أو كائن فيه.

والبيع: عقد المعاوضات التي يطلب بها الأرباح، ويراد به هنا- والله أعلم- ما هو أعم من ذلك وهو تبادل المنافع.

﴿ وَلَا خُلَّةٌ ﴾، أي: ولا خلة موجودة أو كائنة فيه، والخلة: أعلى المودة والصداقة والمحبة.

ومما يدل على أن الخلة أعلى المحبة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا»[1]، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «ولكن صاحبكم خليل الله»[2].

بينما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة»، قيل: من الرجال؟ قال: «أبوها»[3]، فاتخذ صلى الله عليه وسلم أبا بكر حبيبًا ولم يتخذه خليلًا، كما كان يقال لأسامة بن زيد رضي الله عنه: «حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم»[4].

فالخلة أعلى وأخص من المحبة؛ لأنها تتخلل شغاف القلب والأعضاء.

قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني
وبذا سُميَ الخليل خليلًا[5]






﴿ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ أي: ولا شفاعة موجودة أو كائنة فيه. والشفاعة: الوساطة للغير بجلب نفع أو دفع ضرٍ.

والمراد ﴿ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ لأهل الكفر مطلقًا، ولا لغيرهم إلا بعد إذن الله تعالى للشافع ورضاه عن المشفوع، كما سيأتي بيانه.

فانتفت في ذلك اليوم- يوم القيامة- جميع وسائل الانتفاع التي كانت بين الناس في الدنيا من المعاوضة وتبادل المنافع بينهم، أو نفع الخليل لخليله والصديق والقريب، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].

وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33]، فكلٌ منشغل بنفسه، قال كعب بن زهير[6]:
وقال كل خليل كنت آمله
لا ألهينك إني عنك مشغول




كما انتفت في ذلك اليوم الشفاعة والوساطة، كما قال تعالى: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]، وكما يقول أهل النار: ﴿ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [الشعراء: 100، 101]، والناس في الدنيا يتبادلون المنافع بيعًا وشراءً وغير ذلك، وينتصر بعضهم لبعض، كما قال قائلهم:
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بدون سلاح[7]




كما يشفع بعضهم لبعض فيشفع القوي للضعيف وذو الجاه لغيره وهكذا.

أما في ذلك اليوم، يوم القيامة، فلا بيع ولا خلة ولا شفاعة، ولا ينفع المرء في ذلك اليوم إلا العمل الصالح بإذن الله عز وجل وما كان في الله، ولله، كما قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37].

﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ الواو: استئنافية، والكافرون جمع «كافر» والكفر: الإنكار والجحود والتكذيب.

﴿ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، أي: هم الظالمون حقًا، الذين بلغوا في الظلم غايته، فالكافرون الذين أنكروا وجود الله وجحدوا ربوبيته وألوهيته وأسماءه وصفاته وشرعه ورسله، وكذبوا بذلك أو بشيء منه، ومن ذلك جحد ما أوجبه الله تعالى من النفقات كالزكاة ونحو ذلك، أو منعها على قول بعض أهل العلم.

﴿ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ «هم» ضمير منفصل يفيد التأكيد، و﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ جمع «ظالم»، والظلم: النقص كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33].

وهو أيضًا: وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان.

والظلم قسمان: ظلم للنفس بإقحامها الكفر والموبقات وتعريضها لعذاب الله، وظلم للغير وهو أيضًا من ظلم النفس؛ لأن وبال ذلك عليها.

وقد أكد عز وجل وصف الكافرين بالظلم وحصره فيهم بكون الجملة اسمية مُعَرَّفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم»؛ وذلك لعظم ظلمهم، حيث صرفوا حق الله عز وجل الذي هو أعظم الحقوق، وهو عبادته وحده لا شريك له، صرفوا ذلك لغيره وهو سبحانه الذي خلقهم ورزقهم وعافاهم، ولهذا كان الشرك أعظم الظلم، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

وقال صلى الله عليه وسلم، وقد سئل: أي الذنب أكبر؟ فقال: «أن تجعل لله ندًا وقد خلقك»[8].

وكل كفر ظلم، وليس كل ظلم كفرًا، ولهذا قال عطاء بن دينار رحمه الله: «الحمد لله الذي قال: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ولم يقل: «والظالمون هم الكافرون»»[9].

قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾.

هذه الآية أعظم آية في كتاب الله عز وجل، وهي مشتملة على عشر جمل خبرية مستقلة، فيها إثبات عدد من صفات الله عز وجل العظيمة، منها: كمال ألوهيته ووحدانيته، وحياته وقيوميته، وعموم ملكه، وقوة سلطانه، وسعة علمه، وسعة كرسيه وقوته وقدرته وعلوه وكمال عظمته.

عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله، فقال: «أي آية في كتاب الله أعظم؟» قال: آية الكرسي. فضرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: «ليهنك العلم أبا المنذر»[10].

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه حين وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان قال: فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فلا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح»[11].

قوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ «الله»: مبتدأ، وجملة ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ في محل رفع خبره.

و«الله» علم على الرب تبارك وتعالى، وهو أصل الأعلام، وأعرف المعارف، وهو أصل أسماء الله عز وجل، وتأتي أسماء الله تعالى كلها تابعة له، كما في قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر: 22].

وقد يأتي تابعًا كما في قوله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1]، فلفظ الجلالة (الله) أتى بعد اسمه تعالى (الحميد)، لكنه لا يعرب صفة، وإنما يعرب بدلًا أو عطف بيان.

ومعنى (الله) أي: المألوه المعبود بحق محبة وتعظيمًا، أي: الذي له وحده جميع معاني الألوهية.

﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ «لا»: نافية للجنس تعمل عمل «إنَّ»، تفيد العموم والاستغراق في النفي لجميع أفراده، ﴿ إِلَهَ ﴾: اسم «لا» مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، تقديره: حق، أي: لا إله حق إلا هو، أي: لا معبود حق سواه- سبحانه وتعالى.

وكل ما يعبد من دونه فهو باطل، ولا ينفع ولا يضر، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾ [هود: 101].

و﴿ الحي ﴾: خبر ثان، أو صفة للفظ الجلالة «الله»، وقيل غير ذلك.

و«أل» فيه للاستغراق، يدل على أنه عز وجل ذو الحياة الكاملة الدائمة الباقية أزلًا وأبدًا والتي لا يعتريها نقص، ولم يسبقها عدم، ولا يلحقها فناء أو زوال، والتي هي أصل جميع الصفات، قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، فقوله: ﴿ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ من الصفات المنفية التي تتضمن إثبات كمال ضدها، وهو الحياة الجامعة لكمال الأوصاف، كمال السمع والبصر والعلم والقدرة، والإرادة والقوة والرحمة والعفو والمغفرة وغيرها من الصفات الذاتية، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27]، وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [النمل: 60].

﴿ القيوم ﴾: خبر ثالث، أو صفة ثانية للفظ الجلالة «الله»، وقيل غير ذلك.

و﴿ القيوم ﴾: اسم من أسماء الله عز وجل، و«أل» فيه للاستغراق، يدل على أنه عز وجل ذو القيومية التامة، والدال على كمال جميع صفاته الفعلية، القائم بنفسه الغني عما سواه، المقيم لغيره من الخلق، القائم عليهم، المدبر لهم.

فكل المخلوقات لا قوام لها إلا به- سبحانه وتعالى- كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ [الروم: 25]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [الرعد: 33].

وفي «الحي»: كمال صفاته عز وجل، وفي «القيوم»: كمال أفعاله، وفي اجتماعهما: كمال ذاته عز وجل.

﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾: تأكيد لقوله: ﴿ الحي القيوم ﴾.

والسِّنَةُ: النعاس، وهو مقدمة النوم، أي: لا يعتريه نعاس ﴿ وَلَا نَوْمٌ ﴾ ولا سهو ولا غفلة؛ لكمال حياته وقيوميَّته وعلمه.

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: «إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»[12].

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ «له»: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ مبتدأ مؤخر، و«ما» في الموضوعين: اسم موصول يفيد العموم.

واللام في قوله: ﴿ لَهُ ﴾ مع تقديم الخبر للدلالة على الحصر والاختصاص، أي: له وحده جميع الذي في السموات والذي في الأرض، خلقًا وملكًا وتدبيرًا، وكلهم عبيده، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 93 - 95].

وفي هذا دلالة على كمال وعموم قيوميته.

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ هذه الجملة مقررة لمضمون جملة: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾.

أي: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي ﴾ من الخلق، من الأنبياء والملائكة والإنس والجن وغيرهم ﴿ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾.

و«من»: اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، و«ذا»: زائدة من حيث الإعراب، جيء بها لتحسين اللفظ وتأكيد المعنى، أو خبر «من» الاستفهامية.

﴿ الذي ﴾ اسم موصول مبني في محل رفع خبر «من»، أو بدل من «ذا».

والاستفهام هنا للإنكار والنفي بدليل الإثبات بعده بقوله: ﴿ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ أي: لا أحد يشفع عند الله عز وجل إلا بإذنه؛ لكمال ملكه وعظيم سلطانه، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الزمر: 44].

﴿ يشفع ﴾: صلة الموصول، والشفاعة في اللغة: مأخوذة من الشفع ضد الوتر؛ لأن المشفوع له بعد أن كان وترًا صار شفعًا بانضمام الشافع إليه.

والشفاعة في الاصطلاح: الوساطة لجلب نفع أو دفع ضرٍّ.

وفي الحديث: «هذا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع»[13].

فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضى بينهم بعدما يشتد بهم الحال من الشفاعة في دفع الضر، وشفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوها من الشفاعة في جلب النفع.

﴿ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ «إلا»: أداة حصر، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ متعلق بمحذوف حال، أي: من ذا الذي يشفع عنده في أي حال من الأحوال إلا في حال إذنه، أي: إلا مأذونًا له، ونحو ذلك.

وإذن الله عز وجل قسمان: إذن كوني كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102] وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 145].

وإذن شرعي، كما في قوله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 21]، وقوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39].

والمعنى هنا: من ذا الذي يشفع عنده إلا بعد إذنه، أي: إلا بعد أن يأذن ويرخص له في الشفاعة ويبيح له ذلك؛ لعظمته سبحانه وجلاله وكبريائه، كما قال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26] وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28].

حتى ولو كان الشافع سيد الخلق، وأفضل الرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يعتذر جميع الأنبياء عن الشفاعة في أهل الموقف كل منهم يقول: نفسي، نفسي إلى أن يأتي الناس إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: «أنا لها» فيسجد تحت العرش تعظيمًا لله عز وجل، ويفتح الله عليه من المحامد والدعوات حتى يقال له: «ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع».[14].

﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة طه: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [النمل: 74].

قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ «ما»: اسم موصول يفيد العموم، والضمير «هم» يعود إلى ما في السموات والأرض، بتغليب العقلاء، أي: يعلم الذي بين أيديهم، أي: الحاضر والمستقبل، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أي: ويعلم الذي خلفهم، وهو الماضي، كقوله تعالى إخبارًا عن الملائكة: ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64].

وقال بعض السلف: «﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ ما مضى من الدنيا، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ ما بعدهم من الدنيا والآخرة».

فعلم الله عز وجل محيط بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، محيط بالأشياء كلها في أطوارها الثلاثة؛ قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم.

سُئل موسى عليه الصلاة والسلام عن القرون الأولى، فقال: ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 126].

بل إن علمه عز وجل متعلق حتى بالمستحيل، كما قال تعالى عن السموات والأرض: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22]، وقال تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 91].

والعلم في الأصل: إدراك الأشياء على ما هي عليه إدراكًا جازمًا، فمن قال مثلًا: عدد الرسل في القرآن الكريم خمسة وعشرون رسولًا، فهو عالم يعني بالنسبة لهذه المسألة.

ومن قال: لا أدري كم عددهم، فهذا جاهل جهلًا بسيطًا، لا يدري ويدري أنه لا يدري.

ومن قال: بل هم ثلاثون، فهذا جاهل جهلًا مركبًا لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري.

﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ الإحاطة بالشيء معناها: معرفته والإلمام به، و«شيء»: نكرة في سياق النفي فتعم أيَّ شيء مهما قل أو صغر، قل أو كثر.

﴿ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ يجوز أن يكون الضمير في ﴿ علْمِهِ ﴾ مضافًا إلى الفاعل، فالمعنى: ولا يحيطون بشيء من علم الله عز وجل، أي: من علم نفسه وذاته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، كما قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110].

ويجوز أن يكون الضمير في «علمه» مضافًا إلى المفعول، فالمعنى: ولا يحيطون بشيء من معلوم الله عز وجل، وهو علمه عز وجل ما بين أيديهم وما خلفهم، الشامل للحاضر والمستقبل والماضي.

ولا مانع من حمل الآية على الوجهين، بل إن الوجه الثاني يستلزم الأول، من غير عكس، لأنهم إذا لم يحيطوا ببعض معلوماته المتعلقة بهم فعدم إحاطتهم علمًا به- سبحانه- من باب أولى.

﴿ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ «إلا»: أداة استثناء، «ما»: موصولة، أي: إلا بالذي شاء الله أن يعلمهم إياه ويطلعهم عليه من علم نفسه، أو من معلومه، من الأمور الشرعية والقدرية.

كما قالت الملائكة: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 25 - 27].

وذلك قليل جدًّا بالنسبة لعلمه عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].

﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، و«الكرسي»: موضع قدمي الله عز وجل»، كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن جمع من السلف، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره»[15].

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل»[16].

وكذا روي عن جمع من السلف، أن الكرسي موضع القدمين[17].

وهو من سعته وعظمته يسع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من الأفلاك والمخلوقات والعوالم.

ورُويَ عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة في الأرض»[18].

﴿ وَلَا يَئُودُهُ ﴾، أي: ولا يثقله ولا يشق عليه، ولا يجهده.

﴿ حِفْظُهُمَا ﴾ أي: حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، وقال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].

﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]؛ أي: وهو ذو العلو المطلق، علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو القهر.

قال السعدي[19]: «وهو العلي بذاته على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب».

﴿ الْعَظِيمُ ﴾، أي: ذو العظمة التامة في ذاته وصفاته وسلطانه، أي: الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته»[20].

[1] أخرجه البخاري في الصلاة، الخوخة والممر في المسجد (466)، ومسلم في فضائل الصحابة، من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2382)، والترمذي في المناقب (3660) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في الموضع السابق (2383)، والترمذي (3655)، وابن ماجه في المقدمة (93).

[3] أخرجه البخاري في المناقب (3662)، ومسلم في فضائل الصحابة، فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2384)، والترمذي في المناقب (3885)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

[4] أخرجه البخاري في الحدود (6788)، ومسلم في الحدود (1688)، وأبو داود في الحدود (4373)، والنسائي في قطع السارق (4899)، والترمذي في الحدود (1430)، وابن ماجه في الحدود (2547) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[5] البيت لبشار بن برد. انظر: «ديوانه» (ص182).

[6] انظر: «ديوانه» (ص19).

[7] البيت لمسكين الدارمي. انظر: «ديوانه» (ص29).

[8] أخرجه البخاري في التفسير (4761)، ومسلم في الإيمان (86)، وأبو داود في الطلاق (2310)، والنسائي في تحريم الدم (4013)، والترمذي في التفسير (3182) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[9] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (4/ 526).

[10] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، فضل سورة الكهف وآية الكرسي (810)، وأبو داود في الصلاة (1460).

[11] أخرجه البخاري معلقًا في فضائل القرآن (5010).

[12] أخرجه مسلم في الإيمان (179).

[13] أخرجه البخاري في النكاح (5091)، وابن ماجه في الزهد (4120)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

[14] سبق تخريجه.

[15] أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (12/ 93)، حديث (12404)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 326): «رجاله رجال الصحيح»، وأخرجه الحاكم في التفسير (2/ 282)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وانظر «تفسير ابن كثير» (1/ 457)، وهذا هو المحفوظ والأصح عن ابن عباس رضي الله عنهما بتفسير الكرسي بموضع القدمين. وروي عنه أنه قال: «كرسيه علمه»، انظر «جامع البيان» (5/ 401)، تحقيق محمود شاكر، وشرح العقيدة الطحاوية (371).

[16] أخرجه عن أبي موسى عبد الله بن أحمد في «السنة» (588)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 538).

[17] انظر: «جامع البيان» (4/ 538)، «تفسير ابن أبي حاتم» (2/ 491).

[18] سيأتي تخريجه.

[19] في «تيسير الكريم الرحمن» (1/ 315).

[20] أخرجه مسلم في البر والصلة (2620)، وأبو داود في اللباس (4090)، وابن ماجه في الزهد (4174) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #413  
قديم 09-10-2024, 11:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


فوائد وأحكام من قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 254، 255]

1- تصدير خطاب المؤمنين بالنداء، ونداؤهم بوصف الإيمان للعناية والاهتمام والتشريف والتكريم لهم، وأن الإنفاق من رزق الله تعالى من مقتضيات الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾.

2- مشروعية الإنفاق من رزق الله تعالى: وجوبًا بإخراج الزكاة والنفقة على الأهل والأولاد ومن تلزم نفقته ونحو ذلك، واستحبابًا بالصدقة والهدية ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾.

3- أخذ بعض أهل العلم من قوله تعالى: ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ على اعتبار أن «من» في قوله: ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ بيانية جواز إنفاق جميع المال، لكن هذا مشروط بأن لا يبقى الإنسان عالة على الآخرين، فإن هذا لا يجوز.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا»[1].

4- الامتنان على العباد وتذكيرهم بأن الرزق منه- سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾.

وفي هذا حث وترغيب في الإنفاق؛ لأن الرزق من الله والمال مال الله فلا ينبغي البخل فيه.

5- عدم الاعتماد على الأسباب في طلب الرزق، ووجوب الجمع بين فعل السبب والتوكل على الله وسؤاله؛ لأن الأرزاق بيده- سبحانه وتعالى.

6- أن الإنسان لا ينتفع من ماله في الآخرة إلا بما أنفقه قبل موته؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ الآية.

ومن ذلك ما كان الإنسان سببًا فيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[2].

7- أن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾.

8- أن من مات فقد قامت قيامته، كما قال بعض أهل العلم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ الآية.

9- الترغيب والإغراء بالاستعداد للآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ الآية.

10- انقطاع تبادل المنافع والصداقات والشفاعات الدنيوية بين الناس يوم القيامة، فلا شيء ينفع في ذلك اليوم إلا ما كان في طاعة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾.

11- أن الكفر أعظم الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، فأكد عز وجل الظلم وحصره في الكافرين بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين وبضمير الفصل «هم»، أي: والكافرون هم الظالمون حقًّا.

12- الإشارة إلى عظم منع النفقات الواجبة وبخاصة الزكاة؛ لأن الله تعالى أمر بالإنفاق، ثم ختم الآية بقوله: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.
فإن كان منع الزكاة جحدًا لوجوبها فهذا كفر بالإجماع، وإن كان منعها بخلًا، فقد قيل بكفره، والجمهور على أنه لا يكفر بذلك.

13- أن حق الله عز وجل وهو عبادته وحده لا شريك له أعظم الحقوق؛ ولهذا كان أظلم الظلم وأعظمه الكفر به- سبحانه، وصرف حقه لغيره بالإشراك به، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

14- أن اسم «الله» عز وجل من أعظم أسمائه- سبحانه وتعالى- وأصلها وتأتي بقية أسمائه تعالى تابعة لهذا الاسم؛ لأن الله عز وجل قدمه في الآية وأتبعه ببقية الأسماء؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾.

وقد قال طائفة من أهل العلم: إنه اسم الله الأعظم.

15- إثبات الألوهية لله وحده لا إله غيره، وإبطال الشرك بجميع أنواعه وصوره؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾.

16- إثبات اسم الله عز وجل «الحي» وصفة الحياة الكاملة التامة له سبحانه أزلًا وأبدًا، التي لم تُسبق بعدم ولا يلحقها زوال؛ لقوله تعالى: ﴿ الْحَيُّ ﴾.

كما قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3].

17- إثبات اسم الله عز وجل «القيوم» وصفة القيومية؛ لقوله تعالى: ﴿ القيوم ﴾، فهو سبحانه القائم بذاته بنفسه، الغني عما سواه، القيوم على كل شيء، فكل شيء محتاج إليه سبحانه، كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [الرعد: 33] وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].

18- في هذين الاسمين: ﴿ الحي القيُّوم ﴾ اسم الله الأعظم عند كثير من أهل العلم لتضمنهما جميع أسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العليا، الذاتية والفعلية، الدالة على كمال ألوهيته ووحدانيته واستحقاقه العبادة دون من سواه.

كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42].
وقد ذكر الله عز وجل هذين الاسمين مقترنين في ثلاثة مواضع من القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقوله تعالى: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾ [طه: 111].

19- تنزه الله عز وجل عن السِّنة والنوم، والنقص، والعجز، وجميع الآفات؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾، وهذه من الصفات المنفية التي تتضمن إثبات كمال ضدها، فتدل على كمال حياته وقيُّوميته على كل شيء، فلا يعتريه سنة ولا نوم ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، ولا يغيب عنه أو يخفى عليه شيء.

20- أن السنة والنوم نقص، ولهذا نفاها الله عز وجل عن نفسه.

21- سعة ملك الله تعالى وكماله وعظمته، وأن له خاصة جميع ما في السموات والأرض، خلقًا وملكًا وتدبيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾، وفي هذا تقرير لانفراده تعالى بالألوهية، وتعليل لاتصافه بالقيومية.

22- كمال سلطان الله عز وجل وعظمته ووحدانيته في ملكه، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾.

وفي هذا رد على المشركين الذين يشركون مع الله غيره ويقولون: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 3].

23- إثبات الشفاعة بإذن الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ وشرطاها: إذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له.

كما قال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26]، وقال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28].

24- في إطلاق الشفاعة في قوله: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ رد على الخوارج والمعتزلة الذين ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر.

25- سعة علم الله عز وجل وإحاطته بعلم الماضي والحاضر والمستقبل وبكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾.
وفي هذا رد على القدرية الذين ينفون علم الله عز وجل بأفعال العباد قبل وقوعها.

26- عدم إحاطة الخلق بشيء من علم الله عز وجل، لا من علم نفسه وأسمائه وصفاته، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بهِ عِلمًا﴾ [طه: 110]، ولا من معلومه، إلا بما شاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾.

وفي هذا رد على من يقول على الله تعالى بغير حق سواء كان ذلك فيما يتعلق بذاته عز وجل وصفاته كما يفعل أهل البدع من المعطلة والمشبهة وأهل التكييف ونحوهم، أو كان ذلك مما يتعلق بعلمه الكوني والشرعي.

27- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾.

28- سعة كرسيه عز وجل وعظمته وأنه يسع السموات والأرض التي هي من أكبر وأعظم المخلوقات، فهو أكبر وأعظم منها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، والعرش أكبر من الكرسي بأضعاف مضاعفة لا يعلمها إلا الله عز وجل.

ورُوي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض»[3].

29- كمال قوة الله عز وجل وقدرته وعلمه ورحمته وتمام حفظه للسموات والأرض، فلا يثقله أو يشق عليه حفظهما؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾.

لأن له عز وجل الكمال المطلق، فلا يعتريه نقص، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38].

30- حاجة السموات والأرض وجميع المخلوقات إلى حفظ الله عز وجل لها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41]، وقال تعالى في حفظ الإنسان: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].

31- إثبات اسم الله عز وجل «العلي» وصفة العلو المطلق لله عز وجل، علو الذات وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو القهر؛ لقوله تعالى: ﴿ وهو العلي ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الروم: 27].

وفي هذا رد على أهل الحلول الذين يقولون: إنه حال في كل مكان، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.

كما أن فيه ردًا على نفاة علو الله تعالى، الذين يقولون إنه لا يوصف لا بعلو ولا سفل، ولا يمين ولا شمال، ولا اتصال ولا انفصال تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.

32- إثبات اسم الله تعالى «العظيم» وصفة العظمة التامة له عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ العظيم ﴾.

33- في اجتماع صفة العلو والعظمة زيادة كماله عز وجل إلى كمال.

[1] أخرجه أبو داود في الزكاة (1678)، والترمذي في المناقب (675).

[2] أخرجه مسلم في الوصية – ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والنسائي في الوصايا (3651)، والترمذي في الأحكام (1376) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (1/ 287) (362)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 539)، وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (1/ 11): «أول الحديث مرسل؛ وعن أبي ذر منقطع وقد روي عنه من طرق أخرى موصولًا»، وانظر: «فتح المجيد» ص (616).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #414  
قديم 02-11-2024, 08:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...



قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 256، 257].


قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

سبب النزول:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كانت المرأة تكون مقلاة أي: لا يعيش لها ولد فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾»[1].

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ قال: «نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف، يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك»[2].

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- كما هو معلوم.

قوله: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ «لا»: نافية، ويحتمل أن يكون النفي على معناه، أي: لن يدخل أحد في دين الإسلام مكرهًا، بل عن اختيار، كما قال تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].

ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، أي: لا تكرهوا أحدًا على الدين.

كما روي عن أُسَق قال: كنت مملوكًا نصرانيًّا لعمر بن الخطاب فكان يعرض عليَّ الإسلام، فآبى، فيقول: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾، ويقول: «يا أُسَق، لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين»[3].

قال ابن كثير[4]: «أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بيِّنٌ واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا».

ولا مانع من حمل الآية على المعنيين.

والإكراه: الإلزام والإرغام ضد الاختيار، و«أل» في «الدين» للعهد الذهني، أي: في الدين المعهود، دين الإسلام، أي: لا إكراه على الدخول في دين الإسلام.

﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾: هذه الجملة فيها معنى التعليل للجملة التي قبلها، أي: لا إكراه في الدين؛ لأنه ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾، و«قد»: للتحقيق، و﴿ تَبَيَّنَ ﴾؛ أي: تميز الرشد من الحق.

﴿ الرُّشْدُ ﴾ في الأصل: الاهتداء إلى طرق الخير وحسن التصرف، وهو بالنسبة لكل شيء بحسبه، فالرشد في الدين الاهتداء إلى الإسلام وطريق الحق، والرشد في المال حسن التصرف في المال، والرشد في الولاية حسن التصرف فيها.. وهكذا.

والمراد بالرشد هنا: الرشد بالدين، وهو سلوك طريق الحق والهدى والإسلام، والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.

و﴿ الْغَيِّ ﴾: سلوك طريق الباطل والضلال والكفر، والشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة.

والمراد: قد تميز الرشد من الغي، والهدى من الضلال، والحق من الباطل، بما أنزل الله تعالى من الوحي في كتابه العزيز وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بما فيه إقامة الحجة وإيضاح المحجة، كما قال تعالى: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3].

وقد ترك صلى الله عليه وسلم أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم مخاطبًا الناس في حجة الوداع: «ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت»، قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد»[5].

﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾.
هذا تفسير وبيان للرشد والغي في الجملة السابقة، فالرشد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والغي: خلاف ذلك، وهو أيضًا: مقتضى معنى «لا إله إلا الله»؛ ولهذا قال: ﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾.

كما قال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله»[6].

قوله: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ الفاء: عاطفة، و«من»: شرطية، و﴿ يَكْفُرْ ﴾: فعل الشرط، و﴿ الطَّاغُوت ﴾ في اللغة: مأخوذ من الطغيان وهو تجاوز الحد، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ [الحاقة: 11]؛ أي: لما جاوز الماء حده وعلا وارتفع.

«الطاغوت» في الشرع: الشيطان، وكل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره، أي: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

«من معبود» كالأصنام والأوثان التي تُعبد من دون الله، وهي لا تنفع ولا تضر، كما قال تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ [الفرقان: 55]، وقال تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس: 18].

«أو متبوع» كالأحبار والرهبان الذين يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله، كما قال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، وفي حديث عدي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟» قال: نعم. قال: «فتلك عبادتهم»[7].

«أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله» كأمراء السوء الذين يأمرون بمعصية الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله تعالى، فإن أمر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة»[8].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة بالمعروف»[9].

ويدل على أن الطاغوت عام في كل ما ذكر أن الله عز وجل قابل في هذه الآية بين الكفر بالطاغوت والإيمان، فكل ما عبد من دون الله وهو راضٍ فهو طاغوت.

ومعنى ﴿ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾، أي: يجحده وينكره ويتبرأ من كل معبود سوى الله تعالى.

﴿ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾، والعطف بالواو يقتضي الجمع، فلا بد من الجمع بين الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.

وقدم الكفر بالطاغوت؛ لأن التخلية قبل التحلية، إذ لا يجتمع الإيمان بالله مع عدم الكفر بالطاغوت.

والإيمان بالله يتضمن أمورًا أربعة: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.

ومعنى ذلك أنه سبحانه واجب الوجود، متفرد بالربوبية والألوهية، وكمال الأسماء والصفات.

والإيمان بالله يستلزم القبول بتصديق الخبر، والانقياد بامتثال الطلب، فعلًا للمأمور وتركًا للمحظور.

﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾: جواب الشرط «من»، وقرن بالفاء لاتصاله بـ«قد» التي تفيد التحقيق.

﴿ اسْتَمْسَكَ ﴾ السين والتاء للتأكيد، و«استمسك» أبلغ من «تمسك»؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبًا، أي: فقد تمسك بقوة بالعروة الوثقى.

﴿ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ عروة الشيء: مقبضه، كعروة الدلو، وعروة الكوز، ونحو ذلك، وعروة الحبل شد طرفه إلى بعضه، وعقده فيصير مثل الحلقة يتمسك به.

و﴿ الْوُثْقَى ﴾: القوية المبرمة المحكمة الشد، التي هي أوثق العرى، وأقوى سبب للنجاة، وهي لا إله إلا الله، وهي عروة الإيمان والإسلام والقرآن، كما قال تعالى: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43].

عن قيس بن عباد قال: «كنت جالسًا في مسجد المدينة فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد، قالوا: هذا رجل من أهل الجنة. قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لِـم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، رأيت كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها، وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارق، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل له: استمسك، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت»، والرجل عبد الله بن سلام»[10].

﴿ لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾ هذه الجملة في محل نصب حال من «العروة»، أي: حال كونها لا انفصام لها، أي: لا انفكاك ولا انقطاع لها لشدة إحكامها وقوتها، والمراد أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد استمسك بحبل النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة ودخول الجنة والزحزحة عن النار.

﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سبق الكلام عليه.
قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.

قوله: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ (الله): مبتدأ ﴿ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾: خبره.

أي: متولي الذين آمنوا بولايته الخاصة، ولاية التوفيق والحفظ والنصر والتسديد لهم على الدوام دون الكافرين، كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ هذا تفسير لولاية الله تعالى للمؤمنين، فيه أعظم ثمرات ولاية الله تعالى لهم، وهي إخراجه لهم من ظلمات الجهل والضلال والكفر والشك والنفاق.

﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ أي: إلى نور العلم والهدى والإيمان والقرآن، نسأل الله تعالى التوفيق، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122].

وقال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، وقال تعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8].

وجمع «الظلمات»، وهي: طرق الباطل والضلال والغي؛ لكثرتها واختلافها وتشعبها، وأفرد «النور»؛ لأن طريق الحق واحد، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ «الطاغوت»: اسم جنس فيعم جميع أنواعه؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ يُخْرِجُونَهُمْ ﴾ بضمير الجمع «الواو».

﴿ أَوْلِيَاؤُهُمُ ﴾؛ أي: نظراؤهم والذين يتولونهم، وجمع ﴿ أَوْلِيَاؤُهُمُ ﴾ لكثرتهم وتعددهم، كما قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29]؛ أي: لا يستوي المشرك الذين يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فشتان بين هذا وهذا.

وقدم عز وجل في قوله: ﴿ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ اسمه؛ تعظيمًا لنفسه وتبركًا بالبداءة باسمه عز وجل، وإظهارًا لمنته على المؤمنين في توليه لهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

بينما قال في الجملة الثانية: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾، فقدم ذكر الذين كفروا إسراعًا في ذمهم، وأخر ذكر اسم الطاغوت تحقيرًا له من أن يكون في مقابلة اسم الله أو أن يبتدأ به.

﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾؛ أي: يخرجونهم من نور الإيمان، ومن نور الفطرة التي فطر الله الناس عليها ﴿ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ أي: إلى ظلمات الجهل والكفر.

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»[11].

وأيضًا يخرجون من آمن ﴿ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ بتزيين الردة والكفر له، فالآية تشمل هذا وهذا، قال ابن القيم[12]: «وهذا يتضمن إخراج الشياطين لهم من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر والشرك، ومن النور الذي جاءت به الرسل من الهدى والعلم إلى ظلمات الجهل والضلال».

﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ الإشارة للذين كفروا وأوليائهم من الطواغيت وشياطين الإنس والجن، وأشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك» تحقيرًا لهم.

﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾؛ أي: ساكنو النار وملازموها.
﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ قدم الجار والمجرور ﴿ فِيهَا ﴾ لإفادة الحصر مع مراعاة الفواصل، أي: هم فيها مقيمون إقامة أبدية، لا يخرجون مها، ولا ينفكون عنها».

[1] أخرجه أبو داود في الجهاد، في الأسير يكره على الإسلام (2682)، والنسائي في «السنن الكبرى» في تفسير قوله تعالى: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، (11048، 11049)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 546)، والواحدي في «أسباب النزول» ص (52)، وإسناده صحيح.

[2] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (4/ 548)، وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 459)، من رواية ابن إسحاق.

[3] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 493).

[4] في «تفسيره» (1/ 459).

[5] أخرجه البخاري في الحج (1741)، ومسلم في القسامة (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (23) من حديث أبي مالك عن أبيه رضي الله عنه.

[7] أخرجه الترمذي في التفسير (3095)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (7/ 106)، والطبري في «جامع البيان» (11/ 417)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/ 1784)، وقال الترمذي: «حديث غريب».

[8] أخرجه البخاري في الأحكام (7144)، ومسلم في الإمارة (1839)، وأبو داود في الجهاد (2626)، والترمذي في الجهاد (1707)، وابن ماجه في الجهاد (2864) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري في الأحكام (7145)، ومسلم في الإمارة (1840)، وأبو داود في الجهاد (2625)، والنسائي في البيعة (4205) من حديث علي رضي الله عنه.

[10] أخرجه البخاري في المناقب (3813)، ومسلم في فضائل الصحابة (2484).

[11] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658)، وأبو داود في السنة (4714)، والترمذي في القدر (2138).

[12] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 415).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #415  
قديم 02-11-2024, 08:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم


فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

1- أنه لا إكراه لأحد على الدخول في الدين، ولا ينبغي أن يكره أحد على ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾.

وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل جيوشه إلى الأمصار أوصاهم بثلاث: أولًا: دعوتهم إلى الإسلام، فإن أبَوْا أخذوا منهم الجزية، فإن أبوا قاتلوهم[1].

فلا يُكره أحدٌ على الدخول في الدين، سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم من الكفار، وهذا هو الثابت من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في سلمه وغزواته وحروبه، يسالم من يسالمه، ويهادن من يهادنه، ويحارب من يحاربه، ولم يكره أحدًا على دينه قط، وهذا واضح جلي لمن تأمل سيرته صلى الله عليه وسلم.

2- إقامة الحجة على الخلق، وبيان المحجة لهم ببيان الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾، وليس ثمة غير هذين الطريقين، كما قال تعالى: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24].

فمن أطاع الله رشد في دنياه وأخراه، ومن عصى الله فقد غوى في دنياه وأخراه، وقد أحسن القائل:
الموتُ بابٌ وكلُّ الناس داخلُه
يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بما
يرضي الله وإن فرطت فالنار
هما محلان ما للناس غيرهما
فاختر لنفسك ماذا أنت تختار[2]



3- أن الدين الإسلامي دين العقل والعلم ودين الفطرة والحكمة ودين الحق والرشد، لا يحتاج إلى إكراه لكماله وبيان آياته، ووضوح براهينه.

4- أن الدخول في دين الله يستلزم أمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.

أي يستلزم نفي الشرك، وإخلاص العبودية لله تعالى وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ، وذلك معنى: «لا إله إلا الله».

5- أن النجاة كل النجاة بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله تعالى، فلا نجاة إلا بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾.

6- أن التخلية قبل التحلية؛ لتقديم الكفر بالطاغوت في الآية على الإيمان بالله.

7- الإغراء بالتمسك بعروة الدين والإيمان والإسلام؛ لأنها العروة التي لا تنفصم وفيها الضمان والأمان والسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة.

8- أن من آمن بالطاغوت وكفر بالله، أو كفر بالله وإن لم يؤمن بالطاغوت فهو هالك خاسر، لمفهوم قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾ الآية.

9- إثبات صفة السمع لله عز وجل الذي وسع جميع الأصوات؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾.

10- إثبات صفة العلم الواسع لله عز وجل الذي وسع كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾.

11- إثبات ولاية الله تعالى الخاصة بالمؤمنين، ولاية التوفيق والحفظ والتسديد والنصر؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.

وهناك النوع الثاني من الولاية، وهي ولايته عز وجل لجميع الخلق بما فيهم الكفار، كما قال تعالى: ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30].
فهو عز وجل ولي جميع الخلق خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم.

12- براءة الله عز وجل من الذين كفروا وحرمانهم ولايته الخاصة؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

13- فضل الإيمان والترغيب فيه؛ لأن به تحصل ولاية الله تعالى الخاصة للعبد.

14- أن أعظم ثمرات ولاية الله عز وجل للمؤمنين إخراجهم بالإيمان من الظلمات إلى النور؛ لأن الله أعقب ذكر ولايته لهم بقوله: ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾.

15- الإشارة إلى أن طرق الباطل كثيرة متعددة، وأن طريق الحق واحد؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ بجمع الظلمات وإفراد النور.

16- أن الكافرين أولياؤهم الطاغوت؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾، وبئست الولاية.

17- سوء عاقبة ولاية الشيطان للذين كفروا لإخراجه لهم بالكفر من النور إلى الظلمات؛ لقوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾؛ أي: من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر والجهل.

18- تفرُّده عز وجل وحده بولاية المؤمنين، وكثرة أولياء الكافرين وتعددهم؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالإفراد، بينما قال: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ بالجمع.

19- إثبات وجود النار؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 131].

وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السماء، كما عرضت عليه في صلاة الكسوف، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء»[3].

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيَّب السوائب»[4].

20- ملازمة الكفار للنار وخلودهم فيها خلودًا أبديًا؛ لقوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.

21- أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، للحصر في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، وعلى هذا فمن دخل النار من أهل المعاصي من المؤمنين فإنه لا يخلد فيها، بل يعذب بقدر ذنبه ثم يخرج منها، وقد يعفو الله عز وجل عنه فلا يدخلها.

[1] كما جاء في حديث بريدة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1731)، وأبو داود في الجهاد (2612)، والترمذي في السير (1617)، وابن ماجه في الجهاد (2858).

[2] الأبيات لأبي العتاهية؛ انظر: «ديوانه» (ص 141).

[3] أخرجه البخاري في الإيمان (29)، ومسلم في الكسوف (907)، والنسائي في الكسوف (1493).

[4] أخرجه البخاري في المناقب، قصة خزاعة (3521)، ومسلم في الجنة، النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (3856).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #416  
قديم 02-11-2024, 08:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 258، 260].

قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.

في هذه الآية إثبات ربوبية الله تعالى وألوهيته ووحدانيته وإبطال ألوهية غيره.

قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الهمزة: للاستفهام، والاستفهام إذا دخل على النفي صار معناه التقرير، أو التقرير والتعجب كما في هذه الآية، والمعنى: ألم تر بقلبك، أي: ألم تعلم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو له ولكل من يصلح له الخطاب.

﴿ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ ضمير الهاء في «ربه» يعود إلى إبراهيم، وقيل: يعود إلى «الذي حاج إبراهيم» قيل: هو ملك بابل النمروذ، وقيل غير ذلك.

والمحاجة: المخاصمة والمجادلة بين اثنين أو طائفتين بحيث يورد كل منهما ما لديه من حجج وبراهين وأدلة على ما يقول.

أي: ألم تر يا محمد إلى الذي خاصم وجادل إبراهيم، ﴿ في ربه ﴾ أي: في وجود ربه وألوهيته، فإبراهيم عليه السلام يؤمن بالله، أي يؤمن بوجود الله وربوبيته وألوهيته، ويدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا المحاج لإبراهيم ينكر وجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته.

﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ «أن أتاه الله»: مفعول لأجله، أي: لأن آتاه، أي: بسبب أن أعطاه الله الملك التام الذي لا ينازعه فيه أحد.

فبدل أن يشكر الله تعالى على ذلك كفر وطغى وتكبر وعلا وتجبر وأنكر وجود الرب المعبود جل وعلا، كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].

وقد قيل:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم[1]




﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ هذا وما بعده بيان للمحاجة.

﴿ إذ ﴾: ظرف بمعنى «حين»، أي: حين ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، ويظهر من السياق- والله أعلم- أن هذا المحاج سأل إبراهيم: من ربك الذي تدين له وتدعونا إليه؟ فقال: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾.

كما قال فرعون لموسى عليه السلام: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]، فأجاب موسى بقوله: ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 24].

ومعنى: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي: الذي يحيى من يشاء بعد موته وعدمه، ويميت من يشاء بعد إحيائه، أي: المتفرد بالخلق والتدبير والموت والحياة، الفاعل المختار.

قال تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9]، وقال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ [النجم: 44]، وقال تعالى: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾ [عبس: 19 - 22].

﴿ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ هذا بيان لقوله: (حاج)؛ أي: قال هذا المعاند: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾؛ أي: إن كان ربك يا إبراهيم يحيى ويميت فأنا أحيي وأميت.

فادعى الربوبية والألوهية، كما قال فرعون: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38].

قيل: إن هذا المحاج أتى برجلين فقتل أحدهما، وقال: أنا أمَتُّ هذا، وأبقى الآخر، وقال: أنا أحييت هذا تمويهًا منه ومغالطة، والحقيقة أنه ما أحيا ولا أمات، فاستبقاؤه لأحدهما ليس إحياءً له، وقتله للآخر إنما هو فعل ما يكون به الموت.

وقيل: إنه قال هذا مكابرة منه، فإنه يعلم أنه لا يحيى ولا يميت ولو اجتمع معه جميع الخلق.

كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73].

﴿ قَالَ ﴾؛ أي: قال إبراهيم عليه السلام متحديًا هذا المعاند بما لا يقبل التمويه والتزوير والمغالطة: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾.

الفاء في قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ ﴾ جواب شرط مقدر، أي: قال إبراهيم: فإن زعمت أو موهت بأنك تحيي وتميت ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾.

قال ابن القيم[2]: «فهو جعل نفسه ندًّا لله يحيى ويميت- بزعمه- كما يحيى الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالًا كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزامًا على طرد الدليل إن كان حقًّا».

وقال أيضًا: «فإن إبراهيم لما أجاب المحاج له في الله بأنه الذي يحيى ويميت، أخذ عدو الله معارضته بضرب من المغالطة، وهو أنه يقتل من يريد، ويستبقي من يريد، فقد أحيا هذا وأمات هذا؛ فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها إذا كان بزعمه قد ساوى الله في الإحياء والإماتة، فإن كان صادقًا فليتصرف في الشمس تصرفًا تصح به دعواه، وليس هذا انتقالًا من حجة إلى حجة أوضح منها كما زعم بعض النظار، وإنما هو إلزام للمدعي بطرد حجته إن كان صحيحة».

﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ أظهر في مقام الإضمار فلم يقل: «فبهت»، أو «فبهت هذا المحاج»، بل قال: ﴿ الَّذِي كَفَرَ ﴾ للدلالة على أن كل من أنكر وجحد وجود الرب فهو كافر، أي: فتحير واندهش الذي كفر، فلم يجد جوابًا، وانقطع وبطلت حجته، فغلبه إبراهيم عليه السلام، وأفحمه وأسكته.

﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: والله لا يوفق القوم الظالمين، بسبب ظلمهم وكفرهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].

قوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

قرر عز وجل في الآية السابقة تفرده بالربوبية والألوهية، ثم أتبع ذلك بتقرير إثبات تمام قدرته على البعث في هذه الآية والتي بعدها، والذي لا ينكره إلا مشرك.

قوله: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾ «أو»: عاطفة تفيد التنويع أو التخيير في التشبيه، والعطف على «الذي» في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ ﴾، و«الكاف» للتشبيه، فهي اسم معنى «مثل»، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى مثل الذي مر على قرية.

ويحتمل كون «الكاف» زائدة من حيث الإعراب مؤكدة من حيث المعنى، والتقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم، أو إلى الذي مر على قرية.

ويجوز أن تكون «الكاف» في محل نصب لفعل محذوف تقديره: أرأيت مثل الذي مر على قرية.

والقرية اسم للبلد الذي يجمع أناسًا كثيرين، مأخوذ من «القري» وهو الجمع، ومنه سمي «القرو» مجمع الماء.

وقد سمى الله عز وجل بذلك مكة، وهي أم القرى وأكثرها ساكنًا وقت نزول القرآن، فقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13].

وقد اختلف في تعيين هذا المار، فقيل: هو عزير، وقيل غير ذلك، كما اختلف في تعيين القرية، فقيل: هي بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها وقيل غير ذلك، ولا دليل على شيء من هذه الأقوال ولا فائدة من ذكرها؛ لأن المقصود من القصة وأخذ العبرة منها لا يتوقف على ذلك.

﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ الواو: حالية، أي: حال كونها خاوية على عروشها، ومعنى ﴿ خَاوِيَةٌ ﴾ أي: خالية من السكان، ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ العروش: جمع عرش، وهو السقف، أي: ساقطة سقفها وجدرانها على عرصاتها.

﴿ قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ «أنى»: في محل نصب على الحال، وهي اسم استفهام للاستبعاد، أي: كيف يحيى الله هذه الأرض بعد موتها؟

فاستبعد حسب تصوره ونظره القاصر أن يحيى الله هذه القرية، وأكّد هذا الاستبعاد بتقديم المفعول «هذه» على الفاعل عز وجل «الله».

وقيل: ﴿ أَنَّى﴾: ظرف بمعنى «متى» للاستعجال والتمني، أي: متى يحيى هذه الله بعد موتها؟ أي: متى يعيد الله هذه إلى ما كانت عليه قبل موتها؟

﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي: بعد أن ماتت وخوت وخربت.

﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ الفاء: استئنافية، و«أماته» أي: قبض روحه مائة عام، أي: مائة سنة.

﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ أي: ثم أحياه، ولم يقل: «ثم أحياه» ليقابل «أماته»، لما في التعبير بقوله: ﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ من الدلالة على سرعة واكتمال حياته وانبعاثه، كما ينبعث البعير بفك عقاله.

﴿ قَالَ ﴾ أي: قال الله له بعد أن بعثه: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ ﴾، «كم» اسم استفهام، وهذا استفهام يراد به الاختبار، لا الاستعلام؛ لأنه تعالى يعلم كم لبث، ولا يخفى عليه شيء، والمعنى: كم مدة، أو كم وقتًا لبثت؟

﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا ﴾ أي: يومًا واحدًا ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ «أو» بمعنى «بل» للإضراب الإبطالي، أي: بل بعض يوم.

وإنما قال: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾؛ لأن الله تعالى أماته في أول النهار وأحياه في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾.

وقيل: إن «أو» للشك.

(قال) الله له: ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾: «بل» للإضراب الإبطال، أي: لم تلبث يومًا أو بعض يوم، ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾.

﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ قرأ حمزة والكسائي: «يتسنَّ» بحذف الهاء من ﴿ يَتَسَنَّهْ ﴾ في حال الوصل، وقرأ الباقون بإثباتها وصلًا ووقفًا.

﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ ﴾ أي: فانظر بعينك وبصرك إلى طعامك الذي تأكل منه، وشرابك الذي تشرب منه.

والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل، والشراب: اسم لكل ما يشرب، ولا دليل على ما قيل في تحديد نوع طعامه وشرابه.

﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ أي: لم يتغير بمرور السنين الكثيرة عليه.

﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾، أي: وانظر بعينك وبصرك إلى حمارك، فنظر إلى حماره تلوح عظامه ليس عليها لحم ولا عصب ولا جلد.

فطعامه وشرابه لم يتغير مع مكثه مائة عام، وهذا أمر خارق للعادة خارج عن السنن الكونية المعتادة، وحماره قد صار عظامًا تلوح لا لحم عليها لمرور مائة عام عليه بعد موته، وفقًا للسنن الكونية، فسبحان من جمع بين الأضداد والمتناقضات! وقد أحسن القائل:
من ظاهر النعم الكبرى وباطنها
هذا السحاب به ماء به نار
لا ينكر الله إلا جاهلٌ نزق
غر بليد سفيه الرأي ختار[3]


﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ الواو: عاطفة.

والمعطوف عليه محذوف دل عليه السياق، والتقدير: لتعلم قدرة الله ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾، واللام في ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ﴾: للتعليل، أي: ولأجل أن نجعلك ﴿ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾.

و«جعل» هنا بمعنى «صير» تنصب مفعولين؛ الأول: «كاف المخاطب»، والثاني قوله: «آية للناس»، والجعل هنا كوني، أي: ولنجعلك علامة كونية للناس على قدرتنا التامة على بعث الموتى.

﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ﴾، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «ننشرها» بالراء، أي: نحييها بعد ما يبست ونخرت وصارت رميمًا، وقرأ الباقون: ﴿ نُنْشِزُهَا﴾ بالزاي، أي: نركب بعضها على بعض، ونربط بعضها ببعض بالعصب.

﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾ أي: ثم نسترها باللحم تقوية ووقاية لها.

﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ أي: فلما اتضح وظهر له قدرة الله تعالى التامة على إحياء الموتى، وعلى كل شيء، بعد أن عرَّفَهُ الله بما جرى له، ونظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير مع طول المكث، ونظر إلى حماره وقد صار عظامًا، ثم أحياه الله تعالى، فاجتمع عنده آيتان: إبقاء ما يتغير وهو طعامه وشرابه، وإحياء ما كان ميتًا وهو حماره، ولهذا قال:
﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ قرأ حمزة والكسائي بهمزة الوصل على أنه فعل أمر «اعلمْ» فالجملة إنشائية طلبية، أي: قال الله له: «اعلمْ أن الله على كل شيء قدير»، أي: اعلم أيها المخاطب علمًا جازمًا ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

وقرأ الباقون بفتح الهمزة على أنه فعل مضارع: ﴿ أَعْلَمُ ﴾، فالجملة خبرية، أي: قال هذا الرجل الذي أماته الله مائة عام: ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، أي: أعلم علمًا جازمًا ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

ويستفاد من القراءتين أنه أُمر أن يعلم، فَعِلم وأقر بالعلم.

﴿ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ قدّم المتعلِّق؛ لتأكيد شمول قدرته عز وجل لكل شيء، و﴿ قَدِيرٌ ﴾ على وزن «فعيل» صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة يدل على أنه عز وجل ذو القدرة التامة على كل شيء، يفعل ما يريد.

كما قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 107]، ولا يعجزه شيء لكمال علمه وقدرته، كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].

ولهذا قال تعالى مثنيًا على نفسه: ﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [المرسلات: 23].

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

قرر الله عز وجل في الآية السابقة قدرته تعالى التامة على إحياء الموتى، ثم ذكر في هذه الآية كيفية إحيائه للموتى؛ تأكيدًا لكمال قدرته على ذلك.

قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﴾ الواو: عاطفة، و«إذا»: ظرف بمعنى «حين» متعلق بمحذوف تقديره: اذكر.

﴿ رَبِّ أَرِنِي ﴾، قرأ ابن كثير ويعقوب بإسكان الراء: «أرْني»، وقرأ الباقون بكسرها: ﴿ أَرِنِي ﴾ أي: يا رب أرني، وحذف حرف النداء؛ لأنه معلوم، وللبداءة باسم «الرب» سبحانه والتبرك والتيمن به.

والرؤية هنا بصرية تنصب مفعولًا واحدًا، لكن لما دخلت عليه همزة التعدية نصب مفعولين؛ الأول: «الياء»، والثاني: جملة: ﴿ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾.

«كيف»: اسم استفهام، وهذا استفهام من إبراهيم معناه: الاستعلام من ربه عن كيفية إحيائه عز وجل الموتى، أي: اجعلني أنظر وأشاهد بعيني كيف تحيى الموتى، وليس سؤالًا عن إمكانية الإحياء ولا عن معناه؛ لأن إبراهيم عليه السلام لم يشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، كما أن معنى الإحياء معلوم عنده، وإنما أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين؛ لأن الخبر ليس كالعيان، بل العيان أقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة»[4].

﴿ قال ﴾ أي: قال الله عز وجل لإبراهيم: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾، الهمزة: للاستفهام، والواو: عاطفة، وقدمت الهمزة؛ لأن لها الصدارة، ومحلها في الأصل بعد الواو، والتقدير: «وألم تؤمن»، وقيل: هي داخلة على مقدر عطف عليها قوله: «ولم تؤمن»، والأول أولى وأقرب.

والاستفهام إذا دخل على النفي كان معناه التقرير والإثبات، فمعنى ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ أي: ألست قد آمنت، ففي الآية تقرير إيمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإزالة الشبهة عنه.

﴿ قَالَ بَلَى ﴾ أي: قال إبراهيم: بلى، أي: قد آمنت، و«بلى»: حرف يجاب بها النفي المقرون بالاستفهام لإثباته، كما يجاب عن الاستفهام المجرد عن النفي بـ«نعم».

فمثلًا: قدم عليك ضيف فقيل لك: ألم يقدم الضيف؟ فتجيب بقولك: «بلى»، وإن قيل لك: هل قدم الضيف؟ فتجيب بقولك: «نعم».

﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، اللام: للتعليل، أي: ولكن لأجل أن يطمئن قلبي، والطمأنينة هي السكون والاستقرار، وفي الحديث: «.. ثم اركع حتى تطمئن راكعًا.. ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا»[5]. أي: حتى تستقر وتسكن.

والمعنى: ولكن لأجل أن يزداد قلبي طمأنينة، فأترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وذلك لأن اليقين ثلاث درجات:
الأولى: علم اليقين، وهو العلم اليقيني القطعي المتواتر، وأعلى ذلك ما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، قال تعالى: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ [التكاثر: 5، 6].

والثانية: عين اليقين، وهو أن الإنسان يرى الشيء بعينه، وهو أقوى من علم اليقين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة»، ومن هذا قول تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 7]، ومن هذا سؤال إبراهيم عليه السلام في قوله: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.

والدرجة الثالثة: حق اليقين؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [الواقعة: 95].

﴿ قَالَ ﴾، أي: قال الله إجابة لدعوة إبراهيم:
﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ قرأ أبو جعفر وحمزة وخلف ورويس عن يعقوب: «فصِرهن» بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها: ﴿ فَصُرْهُنَّ ﴾.

وقد اختلف في جنس هذه الطيور، فقيل: ديك، وطاووس، وغراب، وحمام، وقيل غير ذلك، ولا دليل عل شيء منها، ولا فائدة تتعلق بمعرفته.

وتعدادها أدل على كمال قدرة الله تعالى من لو كانت طيرًا واحدًا، وجعلها أربعة لحكمة يعلمها الله تعالى.

ومعنى: ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: أمسكهن واضممهن إليك وأوثقهن واذبحهن وقطِّعهن، ﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ﴾؛ أي: ثم صير وألق على كل جبل من الجبال حولك، ولم يذكر عدد هذه الجبال وأسماءها، إذ لا فائدة من ذلك.

﴿ منهنَّ ﴾ أي: من مجموع أجزائهن بعد خلطهن.

﴿ جُزْءًا ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بضم الزاي: «جُزُءًا»، وقرأ الباقون بإسكانها: ﴿ جزءًا ﴾، والجزء: البعض والقطعة من الشيء.

وتوزيع أجزائهن على أكثر من جبل يكون أظهر وأدل على كمال قدرة الله تعالى.

﴿ ثُمَّ ادْعُهُنَّ ﴾، أي: ثم نادهن، ﴿ يَأْتِينَكَ ﴾ جواب الأمر: «ادعهن».

«سعيًا»: مصدر في موضع الحال، أي: ساعيات سعيًا، وقيل: مصدر لفعل محذوف، أي: يسعين سعيًا.

والمعنى: ﴿ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ﴾، أي: طيرانًا؛ لأن سعي الطيور هو الطيران.

وقيل المراد بالسعي المشي بسرعة على الأرجل، والأول أولى؛ لأنه أدل على حياتهن حياة كاملة بجميع جوارحهن، وهذا أدل وأظهر على كمال قدرة الله تعالى.

﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ الخطاب لإبراهيم عليه السلام، أي: واعلم أن الله ذو العزة التامة، عزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وعزة القوة.

﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي: ذو الحكم التام: الكوني والشرعي والجزائي، وذو الحكمة البالغة: الغائية والصورية.

[1] البيت لأبي تمام؛ انظر: «ديوانه» (ص577).

[2] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 415- 416).

[3] هذان البيتان للشاعر العراقي وليد الأعظمي في ديوانه: «الزوابع»، انظر: «المجموعة الكاملة» (ص135).

[4] أخرجه أحمد (1/ 215)، والحاكم في التفسير (2/ 380)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي.

[5] أخرجه البخاري في الآذان، وجوب القراءة للإمام والمأموم (757)، ومسلم في الصلاة، وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397)، وأبو داود في الصلاة (856)، والنسائي في الافتتاح (884)، والترمذي في الصلاة (303)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1060)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #417  
قديم 02-11-2024, 08:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 258، 260].

1- تقرير وإثبات ما جرى من المحاجة لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- في ربه والتعجيب من ذلك.
وفي ذلك تقرير وإثبات ربوبية الله عز وجل، ووحدانيته، وألوهيته؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ الآية.

2- التنويه بفضل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- ودعوته.

3- إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة لإبراهيم وتشريفه بإضافة اسم «الرب» عز وجل إلى ضميره؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي رَبِّهِ ﴾.

4- أن الملك كله لله عز وجل، يؤتيه من ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾، كما قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

5- أن الملك والمال والجاه والمنصب ونحو ذلك قد يكون سببًا للكفر والطغيان؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [التوبة: 75].

6- جواز المجادلة والمناظرة لإثبات العقائد، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، بل قد يندب ذلك، وقد يجب؛ لأن إبراهيم عليه السلام ناظر هذا المحاج، فهذا من مقامات الرسل عليهم الصلاة والسلام.

7- اعتزاز إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- بأعظم ما يعتز به المخلوق وهو ربوبية الله عز وجل له؛ لقوله تعالى: ﴿ قال إبراهيم ربي ﴾.

8- إثبات صفتي الإحياء والإماتة لله عز وجل، وأن ذلك بيده عز وجل وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾، وقوله: ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾، وقوله: ﴿ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾.
كما قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آل عمران: 156]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يونس: 56].

وفي هذا إثبات صفات الأفعال الاختيارية لله عز وجل والرد على منكريها من أهل البدع.

9- أن الإحياء والإماتة من أعظم صفات الربوبية، لهذا خصها إبراهيم عليه السلام بالذكر، وذلك لما في ذلك من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى، وما يحمل على قوة التعلق بالله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه وحده عز وجل.

10- شدة مكابرة هذا المحاج لإبراهيم، وجرأته في إنكار الحق، وادعاء الباطل، مما يدل على أن الإنسان قد يرتكس بسبب الكفر والغرور، ويصل إلى غاية لا تتصور من الطغيان، حيث بلغ الحال بهذا المحاج أن يقول: ﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ وهو يعلم أنه كاذب.

11- قوة إبراهيم عليه السلام في المناظرة وحكمته، حيث فرع على الحجة السابقة ما هو أقطع لحجة هذا المغالط المعاند بعد أن زعم أنه يحيى ويميت، فجعل نفسه ندًا لله تعالى، ولهذا ألزمه إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾.

12- قدرة الله عز وجل التامة على تصريف هذا الكون وتدبير الشمس وغيرها من الأفلاك.

13- إثبات حركة الشمس وجريانها في فلكها، خلافًا لمن زعم أنها ثابتة.

14- حيرة هذا المحاج وانبهاته وانقطاعه أمام حجة إبراهيم الدامغة، لما قال له: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾.

15- أن الباطل لا يثبت أمام الحق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، وقال تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18].

16- أن من أنكر وجحد وجود الرب الخالق الملك المدبر، أو ادعى أنه يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الرب تعالى، كالإحياء والإماتة، فهو كافر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾.

17- حرمان الظالمين من هداية الله تعالى الخاصة، وهي هداية التوفيق بسبب ظلمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.

18- التحذير من الظلم، وأن من أعظم الظلم المحاجة بالباطل، وجحود الرب والكفر به تعالى.

19- إثبات هداية التوفيق لله تعالى وأنه يهدي من أقر بربوبيته وآمن واتبع الحق؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.

20- إثبات قدرة الله عز وجل التامة على إحياء الموتى والبعث والجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ الآية.

21- عناية القرآن الكريم في تقرير وبيان وإثبات قدرة الله عز وجل التامة على إحياء الموتى بتعداد وتنويع الأدلة والبراهين عليها، كما في هذه الآية، والتي بعدها.

22- جهل الإنسان، وأنه قد يستبعد بسبب ذلك ما ليس بمستبعد على الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾.

23- حكمة الله تعالى ورحمته في جعله لهذا الرجل دليلًا في نفسه؛ ليتبين له تمام قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، حيث أماته عز وجل مائة عام، ثم بعثه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾.

24- إثبات القول والكلام لله عز وجل بحروف وأصوات مسموعة؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ ، وقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾، وقوله تعالى في الآية الأخرى لإبراهيم: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر ﴾ الآية.

25- في سؤال الله عز وجل هذا الرجل بعد بعثه: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ﴾ امتحان له وتقرير وبيان لجهله مدة لبثه.

26- جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه، وأنه إذا خالف الواقع لا يعد مخطئًا؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾.

27- عدم تعنيف الجاهل، وتعليمه برفق؛ لقوله تعالى: ﴿ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ، ولم يقل له: «أخطأت».

28- التوجيه إلى النظر والتأمل في آيات الله تعالى الكونية، مما يزيد العبد إيمانًا ويقينًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾.

29- إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾، فأضاف إليه هذه الأشياء إضافة تملك.

30- إثبات الكرامات وخوارق العادات، لبيان كمال قدرة الله تعالى، وتكريمه عز وجل لمن وقعت له هذه الكرامة وتأييد الحق.

حيث بقي هذا الرجل وشرابه مائة عام لم يتغير، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى على إجراء ما يخالف بعض السنن الكونية المعتادة، لكن هذا لا يبرر الدعاء بما يخالف السنن الكونية؛ كقول بعضهم في الدعاء على الأعداء من الكفار: «اللهم جمِّد الدماء في عروقهم»، ونحو ذلك مما لم تجر به سنن الله الكونية، فهذا من الاعتداء في الدعاء، وإن كان الله عز وجل لا يعجزه شيء.

31- تأكيد قدرة الله تعالى التامة الكاملة لهذا الرجل حيث جمع الله له في هذه الآيات الكونية بين الشيء وضده، فطعامه وشرابه لم يتغير مدة مائة عام، وحماره قد صار رفاتًا وعظامًا.

32- جواز الانتفاع بالحُمُرِ، وامتلاكها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾.

33- جعل الله عز وجل هذا الرجل وما حصل له آية للناس على قدرة الله تعالى التامة على إحياء الموتى، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾.

كما قال تعالى في مريم وابنها عيسى عليهما السلام: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91].

34- الحث على التدقيق في النظر والتأمل في آيات الله على وجه التفصيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾.

35- حكمة الله تعالى في كسو العظام باللحم تقوية ووقاية لها؛ لأن الضرر في العظام أشد من الضرر في اللحم؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ [المؤمنون: 14].

36- فضل التدبر والنظر في آيات الله وعظيم ثمرته، إذ به يتبين الحق، ويحصل العلم واليقين، وتنجلي غشاوة الغفلة والجهل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهذا بعد النظر والتدبر.

37- عموم قدرة الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ولهذا قدم المتعلِّق تأكيدًا لعموم وشمول قدرته عز وجل لكل شيء.
وفي هذا رد على المعتزلة القدرية الذين يعتقدون أن الخلق يستقلون بخلق أفعالهم، وأنها خارجة عن قدرة الله تعالى، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.

38- وجوب العلم بأن الله على كل شيء قدير؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، على قراءة من قرأ «اعلم» على أنها فعل أمر.

39- تذكير هذه الأمة بسؤال إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه كيف يحيى الموتى ليطمئن قلبه، وبيان الله عز وجل له ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ الآية.

40- فضل إبراهيم وشرفه وعظم مكانته عند الله تعالى، حيث كلم ربه، ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾، وكلمه ربه بقوله: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾.
فأجاب إبراهيم بقوله: ﴿ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾، فأجابه ربه بقوله: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ﴾ الآية.

41- أن من أعظم ما يدعى ويتوسل به إلى الله عز وجل ربوبيته، والتي معناها الخلق والملك والتدبير؛ ولهذا كان أكثر دعاء الأنبياء عليهم السلام باسم «الرب» وصفة «الربوبية»؛ وذلك؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.

42- رغبة إبراهيم عليه السلام أن يجمع الله له مع «علم اليقين» في إحياء الله عز وجل الموتى «عين اليقين»، فيرى كيفية إحيائه عز وجل للموتى؛ لأن «عين اليقين» أقوى، ولهذا قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.

43- تقرير وإثبات إيمان إبراهيم عليه السلام بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى﴾.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»[1].

أي: أن إبراهيم عليه السلام لم يشك في قدرة الله على إحياء الموتى، ولو شك لكنا أحق وأولى بالشك منه، مع أننا لم نشك في ذلك، فإذا انتفى الشك في حقنا، فانتفاؤه في حق إبراهيم أحق وأولى.

وليس في هذا دلالة على أن إيمان إبراهيم أكمل من إيمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا على سبيل التواضع، وللتأكيد على نفي الشك من إبراهيم- عليه الصلاة والسلام.

44- إثبات زيادة الإيمان في القلب؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ﴾ [المدثر: 31]، وقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [التوبة: 124].

45- استجابة الله عز وجل لسؤال إبراهيم عليه السلام كرامة له ورحمة بالعباد، حيث أراه كيف يحيى الموتى؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ﴾، وبهذا جمع الله لإبراهيم عليه السلام بين علم اليقين وعين اليقين.

46- تمام قدرة الله تعالى على إحياء الموتى.

47- عناية القرآن الكريم بذكر مضمون القصص والمقصود منها دون ذكر أصحاب القصة ومكان وقوعها وزمانه وغير ذلك من التفاصيل التي لا فائدة في ذكرها.

فلم يذكر في القصة الأولى اسم الذي حاج إبراهيم في ربه، ولم يذكر في القصة الثانية اسم الذي مر على القرية، ولا اسم القرية، ولا نوع طعامه وشرابه، ونحو ذلك.

ولم يذكر في القصة الثالثة أسماء الطيور التي أحياها لإبراهيم، ولا أسماء الجبال التي وضع عليها أجزاءهن. وكل هذا يدل على أن المقصود التأمل في القصص وأخذ العظة والعبرة منها، دون الانشغال بما سوى ذلك مما طوي ذكره.

48- وجوب العلم بأن الله عزيز حكيم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

49- إثبات صفة العزة التامة لله تعالى؛ عزة الامتناع، وعزة القوة، وعزة القهر والغلبة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾.

50- إثبات صفة الحكم التام لله تعالى: الحكم الكوني، والشرعي، والجزائي، والحكمة البالغة: الغائية والصورية؛ لقوله تعالى: ﴿ حَكِيمٌ﴾.

[1] أخرجه البخاري في الأنبياء (3372)، ومسلم في الإيمان (151)، وابن ماجه في الفتن (4026) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #418  
قديم 02-11-2024, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 264، 266].

قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.

هذه الآية أشبه بالتفسير والبيان للمضاعفة المذكورة في قوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، وفيها مع الآيات بعدها عود على الحض على الإنفاق في سبيل الله، كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 254].

قوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، «المثل» يطلق على «الشبه» ويطلق على «الصفة»، فإن ذُكر المماثِل فالمراد به الشبه، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾ [البقرة: 17]، وقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِر ﴾ [آل عمران: 117].

وإن لم يذكر المماثِل فالمراد به الصفة، كما في قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ [محمد: 15].

وفي قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الآية، تقدير إما في المبتدأ وهو المشبه، فيكون التقدير: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة.

وإما في الخبر وهو المشبه به، فيكون التقدير: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل باذر حبة؛ ليطابق الممثَّلُ الممثَّل به، وفي هذا الطيِّ دليل على بلاغة القرآن الكريم ليكون المثل صالحًا للتمثيل بالمنفق وبالنفقة.

ومعنى ﴿ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، أي: يبذلونها ويخرجونها، والأموال جمع مال، وهو كل ما يتمول من النقود والأعيان والمنافع.

﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ «سبيل الله»: شرعه وصراطه وطريقه المؤدي إليه وإلى مرضاته، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الحجر: 41].

والمعنى: مثل الذين ينفقون أموالهم طاعة لله تعالى، خالصة لوجهه، وفقًا لشرعه، بكونها من الطيب الحلال، وفي مواضعها التي شرع الله تعالى الإنفاق فيها كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك من سبل الخير، من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].

﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ﴾ الكاف للتشبيه، والمثل: الشبه، أي: كشبه حبة، و«الحبة» واحدة الحَبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات كالبر ونحوه.

﴿ أَنْبَتَتْ ؛ أي: بذرت فأنبتت وأخرجت ﴿ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾، أي: تشعب منها سبعة سيقان في كل ساق سنبلة، فصارت سبع سنابل.

و«سنابل» جمع «سُنْبلة» وجمعت على «سنابل» جمع كثرة؛ لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، بينما جمعت جمع قلة في قوله تعالى: ﴿ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْر ﴾ [يوسف: 43]؛ لأن السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير.

﴿ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾؛ أي: في كل سنبلة من هذه السنابل مائة حبة، فيكون مجموع حبوب هذه السنابل السبع سبعمائة حبة، وهكذا ثواب الإنفاق في سبيل الله ينميه اللهُ عز وجل ويضاعفه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به..».

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة»[1].

﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالتشديد مع حذف الألف هنا وفي جميع القرآن: «يُضَعِّفُ»، وقرأ الباقون بالإثبات والتخفيف ﴿ يُضَاعِفُ ﴾.

والمضاعفة الزيادة، أي: والله يضاعف لمن يشاء هذه المضاعفة إلى سبعمائة، وما هو فوق ذلك، إلى أضعاف كثيرة، حسب حكمته عز وجل، وحسب إخلاص المنفق في عمله وغير ذلك.

﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي: واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، واسع في جميع صفاته.

﴿ عَلِيمٌ؛ أي: ذو علم واسع محيط بكل شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].

ومن سعة علمه أنه يعلم من يستحق هذه المضاعفة، وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها.

قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.

بيَّن عز وجل في الآية السابقة مضاعفة أجر المنفقين في سبيله إلى سبعمائة ضعف، ثم أتبع ذلك بالتعريض بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى مؤكدًا ما للمنفقين من الأجر عند ربهم وانتفاء الخوف والحزن عنهم.

قوله: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، كرر هذا تأكيدًا لوجوب الإخلاص في الإنفاق في سبيل الله، وأن تكون النفقة مما شرع الله تعالى، وفيما شرع عز وجل.

وأيضًا ليبني عليه ما بعده، وهو قوله: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾.

«ثم»: للتراخي تدل على أن «المنّ» والأذى له أثره في إبطال الصدقة حتى ولو تراخى عن الصدقة، و«ما»: موصولة، أو مصدرية، أي: ثم لا يتبعون الذي أنفقوه، أو ثم لا يتبعون إنفاقهم.

﴿ مَنًّا ﴾: نكرة في سياق النفي، فتعم كل مَنٍّ، أي: لا يتبعون ما أنفقوا، أي شيء من المن قل أو كثر على من أنفقوا عليه.

و«المن» الاعتداد بالإحسان، وإظهار الترفع على المنفَق عليه، كأن يقول له: أما أعطيتك كذا وكذا، أو يعدد عليه أياديه.

وقد يكون المنُّ بالقلب بأن يعتقد المنفِق بأن له فضلًا على المنفَق عليه دون أن يصرح بذلك.

فكل هذا لا يجوز والفضل لله عز وجل، وما يخرجه الإنسان من ماله من نفقة واجبة أو مستحبة، فهو من حقوق المنفَق عليه، لا منة فيها للمنفِق ولا فضل، بل الفضل والمنة في ذلك لله وحده.

﴿ وَلَا أَذًى ﴾؛ أي: ولا أذى لمن أنفقوا عليه كأن يذكر المنفِق ذلك عند الناس، فيقول مثلًا: أنفقت على فلان كذا، وأعطيته كذا، أو يريد من المنفَق عليه أن يكافئه كأنه عمل إليه معروفًا، ونحو ذلك، أو يفعل معه مكروهًا يحبط ما سلف منه من إحسان، وقدَّم «المن»؛ لأنه أكثر.

﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ الأجر: ما يُعطاه العامل مقابل عمله، والمعنى هنا: لهم ثواب إنفاقهم وعملهم.

وقدم الخبر «لهم»: وسمى ثوابهم أجرًا؛ لضمانه عز وجل له وتكفله به، وأنه لا يضيع عنده.

كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30]، وقال تعالى: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171].

وجرد الخبر «لهم» من الفاء؛ لبيان أنهم المستحقون لهذا الأجر، دون غيرهم ممن ينفقون رياءً أو يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى.

﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ أي: عند ربهم في الجنة، وفي كون هذا الأجر عند ربهم، خالقهم ومالكهم ومدبرهم، دليل على عنايته عز وجل بهم، وأنهم بجواره، ودليل على عظمة هذا الأجر؛ لأنه من ربهم العظيم، والأجر والعطاء على قدر المعطي، وكما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم




﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ مما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة.

﴿ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما خلفوا ولا على ما مضى وما فاتهم من الدنيا؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير من ذلك.

فاجتمع للمنفقين في سبيل الله تعالى المضاعفة إلى سبعمائة ضعف، والثواب العظيم عند ربهم، مع انتفاء الخوف مما يستقبلهم والحزن على ما مضى وفاتهم، نسأل الله تعالى من فضله.

قوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾، عرَّض عز وجل في الآية السابقة بمن يُتبعون ما أنفقوا بالمَن والأذى، ثم أتبع ذلك ببيان أن القول المعروف والمغفرة خير من صدقة يتبعها أذى.

قوله: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ قول: مبتدأ، وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه وصف بقوله: ﴿ مَعْرُوفٌ ﴾ أي: قول طيب، ووعد حسن واعتذار جميل، أو دعاء لمن سأل النفقة بقوله: «الله يرزقك وييسر أمرك»، ونحو ذلك مما يجبر خاطر السائل.

ونكر ﴿ قَوْلٌ ﴾ للتقليل، أي: قول معروف وإن قل.

﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ لمن أساء بالستر عليه والتجاوز عنه، سواء كان سائلًا أو غيره ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].

و﴿ خَيْرٌ ﴾: خبر المبتدأ ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾، أي: خير مطلقًا للمسؤول وللسائل ﴿ مِنْ صَدَقَةٍ ﴾: الصدقة: ما يبذل تقربًا إلى الله تعالى من مال وغيره، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»[2].

والمراد بالصدقة في الآية - والله أعلم - الصدقة بإنفاق المال بدلالة السياق.

والمعنى أن القول الطيب المعروف شرعًا وعرفًا من الاعتذار للمحتاج وتطييب خاطره ونحو ذلك ﴿ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾.

وقوله: ﴿ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾ في محل جر صفة لـ«صدقة»، أي: يتبعها أذى من المتصدِّق للمتصدق عليه؛ لأن ذلك يحبطها ويبطل أجرها، ويصير الإحسان إساءة.

ولم يذكر «المنّ»؛ لأن الأذى يشمله، فإذا لم تحصل الصدقة إلا مع الأذى، فالقول المعروف الطيب الحسن، والمغفرة بالستر لذنب من أساء والتجاوز عنه خير من تلك الصدقة.

بل إن القول المعروف يقوم مقام الصدقة عند عدم القدرة عليها، كما قيل:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال[3]




قال ابن القيم: «فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة، فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى، حسنة مقرونة بما يبطلها، ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة»[4].

﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ أي: والله غني بذاته غنًى مطلقًا، من جميع الوجوه عن جميع خلقه، لا يحتاج إلى أحد منهم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6].

والصدقة لا تناله ولا تنفعه، وإنما ينتفع بها صاحبها، كما قال تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37].

وقال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها»[5].

﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي: لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله ولا يهمله، ويفسح له لعله يتوب، قال ابن القيم[6]:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده
بعقوبة ليتوب من عصيان




ومن حلمه عز وجل ألا يعاجل من عصاه بإتباع الإنفاق بالمن والأذى ونحو ذلك بالعقوبة، فهو عز وجل غني عن خلقه، ويغني من أنفق وتصدق، وهو سبحانه حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بمنع النفقة أو المن فيها أو الأذى، ويحب الحلم من عباده بالمغفرة والعفو عمن أساء.

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾.

عرَّض عز وجل في الآية السابقة بالذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى، ثم أتبع ذلك بالتصريح بنهي المؤمنين عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى، وتشبيه من يفعل ذلك بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، وتشبيه هذا بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.

قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾.

الإبطال للشيء إزالته وإذهابه بعد وجوده، قال تعالى: ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 118].

قال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل




و(الصدقات) جمع صدقة، وهي ما يبذله الإنسان من النفقات الواجبة والمستحبة، قيل: سميت صدقات؛ لدلالتها على صدق إيمان باذلها، وفي الحديث: «والصدقة برهان»[7]، أي: برهان على صدق صاحبها وإيمانه.

﴿ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾ الباء للسببية، أي: بسبب المن على من تصدقوا عليه بالترفع والتعالي عليه، وإظهار أن لهم المنة والفضل عليه، علمًا أن الفضل لله عز وجل وحده، ولو كان هناك شيء من الفضل لأحدهما لكان للمتصدَّق عليه لقبوله الصدقة.

﴿ وَالْأَذَى ﴾ معطوف على «المن» أي: وبسبب الأذى للمتصدَّق عليه بذكر ذلك للناس، أو إلحاق مكروه به ونحو ذلك، فكل واحد من المنَّ والأذى مبطل للصدقة.

﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ الكاف للتشبيه، أي كإبطال الذي ينفقه ماله، فشبه الإبطال بالإبطال، أو لا تكونوا كالذي ينفق له، فشبه المنفق بالمنفق.

﴿ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾ «رئاء»: مفعول لأجله، وهو مصدر راءى يرائي مرآءة ورياءً.

أي: كالذي ينفق ماله لرئاء الناس، أي: لأجل أن يراه الناس فيمدحوه على ذلك، ويصفوه بالكرم والصلاح، ونحو ذلك، وليس ذلك لوجه الله، ورجاء ثوابه وخوف عقابه.

والرياء مبطل للعمل، كما قال تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»[8].

﴿ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ يُنْفِقُ ﴾، أي: ولا يؤمن بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه.

﴿ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ أي: ولا يؤمن باليوم الآخر يوم القيامة الذي هو آخر الأيام وما فيه من البعث والمعاد والحساب والجزاء.

وكثيرًا ما يقرن الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله تعالى؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل ويحفز على العمل؛ لما فيه من الحساب والجزاء.

فشبه عز وجل المبطل لصدقته بالمن والأذى بالمنافق الذي ينفق ماله ليراه الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو ينفق وهو كاره ولا تنفعه نفقته، قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #419  
قديم 02-11-2024, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



﴿ فَمَثَلُهُ ؛ أي: كمثل هذا المنفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾، أي: كمثل حجر أملس ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾ يؤمل أن ينبت ﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾؛ أي: مطر غزير، شديد الوقع، سريع التتابع.

﴿ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾، أي: فترك الوابل هذا الصفوان «صلدًا»، أي: أجرد أملسًا لا شيء عليه من تراب ولا نبات ولا غير ذلك.

فشبه عز وجل الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في بطلان عمله وزواله وذهابه بحجر أملس، ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ، فأصابه مطر شديد فأزال هذا التراب، فلم يُنبت شيئًا بل ذهب بذره ضائعًا لعدم إيمانه وإخلاصه.

وقد أحسن القائل:
ثوب الرياء يشف عما تحته
فإذا اكتسيت به فإنك عاري[9]




﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾ واو الجماعة في «يقدرون» تعود على «الذي»؛ لأنه اسم موصول يفيد العموم، فلفظه مفرد ومعناه الجمع.

و«شيء»: نكرة في سياق النفي، فيعم أيّ شيء، مهما قل أو كثر صغر أو كبر.

و«ما» في قوله: ﴿ مما ﴾: موصولة أو مصدرية، أي: من الذي كسبوه وعملوه، أو من كسبهم وعملهم، أي: من ثوابه لبطلانه وزواله.

فشبه الله عز وجل المبطل صدقته بالمن والأذى بالمنافق المنفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، في عدم انتفاعه بما أنفق، ومثَّله بصفوان عليه تراب فأصابه مطر شديد، فتركه صلدًا أملسَ لا شيء عليه.

ووجه الشبه في هذا هو عدم قدرة المُتْبع صدقته بالمن والأذى والمنفق رياء مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر على شيء من ثواب ما عملوه؛ لبطلانه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].

وقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39].

﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، أي: لا يوفق الله تعالى الكافرين بسبب كفرهم، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97].

قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.

ذكر عز وجل في الآية السابقة مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس مع عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم أتبعه بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم بالإخلاص والصدق.

قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ هذه الآية كقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

قوله: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ «ابتغاء»: مفعول لأجله، أي: طلب مرضاة الله تعالى، وإخلاصًا لله، أو حال، أي: طالبين بذلك مرضاة الله ومخلصين له.

﴿ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ معطوف على «ابتغاء»، أي: تصديقًا وتيقنًا من أنفسهم بأن الله تعالى شرع ذلك ويجازي عليه، ودليلًا على صدق إيمانهم.

كما في الحديث: «الصدقة برهان»، أي: برهان على إيمان وصدق مخرجها.

وأيضًا: احتسابًا من أنفسهم ذلك عند الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»[10].

قال ابن القيم[11]: «فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان، إن نجا منهما كان مثله ما ذكر في هذه الآية، أحدهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين، الآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها، هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله تعالى، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها».

﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا ﴾، أي: كمثل بستان كثير الأشجار، ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾.

قرأ عاصم وابن عامر بفتح الراء: ﴿ بِرَبْوَةٍ ﴾، وقرأ الباقون بضمها: «برُبوة».

أي: بمكان مرتفع تأخذ نصيبها من الشمس والهواء الطلق، و«الربوة»: المكان المرتفع، يقال ربا الشيء إذا زاد، كما قال تعالى: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].

﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ أي: أصاب هذه الجنة وابل، و«الوابل»: المطر الغزير الكثير.

﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «أُكْلَها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وقرأ الباقون بضمهما معًا: ﴿ أُكُلَهَا ﴾.

أي: أعطت وأنتجت ﴿ أُكُلَهَا ﴾: ثمرها، قال تعالى: ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ﴾ [الرعد: 35]؛ أي: ثمرها الذي يؤكل.

﴿ ضِعْفَيْنِ؛ أي: ضعفي ما كان يؤتي غيرها، أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ارتفاعها ونزول الوابل عليها، والمعنى: فآتت أكلها مثلين؛ كما قال تعالى: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31].


والمعنى: ومثل الذين ينفقون أموالهم طلب مرضاة الله تعالى وتثبيتًا من أنفسهم في مضاعفة ثواب نفقاتهم كمثل جنة بمكان مرتفع من الأرض بارزة للشمس والهواء نزل عليها مطر غزير كثير فجاء أكلها وثمرها ضعفين.

قال ابن القيم[12]: «فهذا حال السابقين المقربين»، فعمل هؤلاء المنفقين ضوعف بسبب صدقهم في طلب مرضاة الله تعالى والتثبيت، وأُكُل تلك الجنة وثمرها جاء مضاعفًا؛ لكونها في مكان مرتفع تأخذ كفايتها من الشمس والهواء، مع نزول المطر الغزير عليها».

﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ أي: فإن لم يصب هذه الجنة وينزل عليها ﴿ وَابِلٌ ﴾ أي: مطر كثير غزير ﴿ فَطَلٌّ ﴾: جواب الشرط «إن»، و«الطل»: المطر الخفيف.

والمعنى ﴿ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ؛ أي: فطل يصيبها أو فيصيبها طل، ويكفيها عن الوابل الكثير في إخراج بركتها.

لارتفاع مكانها وكرم منبتها وطيب مغرسها، وهكذا نفقات الذين ينفقون إخلاصًا لله تعالى وصدقًا يضاعفها الله تعالى لهم حتى وإن قلت.

قال ابن القيم: «وهذا حال الأبرار والمقتصدين في النفقة».

﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ «ما»: موصولة أو مصدرية، أي: والله بالذي تعملون، أو بعملكم بصير، أي: مطلع عليه لا تخفى عليه منه خافية؛ لأنه عز وجل مطلع على كل شيء لا تخفى عليه منه خافية، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5].

فهو عز وجل يعلم المنفق المتبع نفقته بالمن والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، وسيحصي ذلك ويحاسبهم ويجازيهم عليه.

قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾.

شبه عز وجل حال من يبطل صدقته بالمن والأذى بمن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، ثم شبهه ثانيًا بحال صاحب جنة من نخيل وأعناب له فيها من كل الثمرات وقد أدركه الكبر وله ذرية ضعفاء، فأصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت مع شدة حاجته وذريته إليها، فماذا يكون حاله؟ تكون الدنيا عليه أضيق ما يكون ويتحسر على جنته أشد الحسرة، وفي هذا من التنفير من إتباع الصدقة بالمن والأذى ما لا يخفى.

قوله: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ الاستفهام للإنكار والنفي، و«يود» يحب، والمعنى: لا يود أحدكم هذا.

﴿ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ؛ أي: بستان كثير الأشجار والثمار، وجاء ﴿ أَيَوَدُّ ﴾ بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار والنفي العام، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من لو قال: «أتودون».

و﴿ أَيَوَدُّ ﴾ أبلغ في الإنكار والنفي من لو قيل: «أيريد»؛ لأن محبة هذه الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.

﴿ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ: النخيل والأعناب من أفضل وأنفع الأشجار، وثمرها من أنفع الثمار، قوتًا وغذاءً، وفاكهةً وحلوى وشرابًا ودواءً، يؤكل رطبًا ويابسًا.

قيل: النخيل أنفع وأفضل ولهذا قدَّمه، وقيل: العنب، وقيل: كل منهما في أرضه وموضعه أفضل من الآخر.

﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾؛ أي: تجري من تحت أشجارها الأنهار العذبة، وهذا أكمل لها وأعظم في قدرها.

﴿ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ أي: من جودة هذه الجنة ونخيلها وأعنابها إنتاجها لصاحبها من كل الثمرات المتنوعة الأشكال والألوان والطعوم من النخيل والأعناب وغيرها، كما قال تعالى في سورة الكهف: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33].

قوله تعالى: ﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ الواو: حالية، أو عاطفة، أي: وأصاب صاحب هذه الجنة الكبر، فعجز عن القيام عليها مع شدة حاجته إليها وتعلق قلبه بها.

﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ ﴾ لا يستطيعون القيام عليها لصغرهم وعجزهم.
والذرية: هم أولاد الرجل وأولاد بنيه وإن نزلوا بمحض الذكور.

وإنما جعل الله عز وجل «عيسى ابن مريم» من ذرية إبراهيم في قوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 84، 85]، وهو ابن بنت؛ لأنه لا أب له، وأمه بمنزلة أبيه.

قال ابن القيم[13]: «وأصابه الكبر» هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه: أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها، الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه، الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته، الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كل عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم، الخامس: أن نفقتهم عليه؛ لضعفهم وعجزهم.

وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة؛ لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته لها، فإذا تصورت هذا الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار».

قوله: ﴿ فَأَصَابَهَا﴾ أي: فأصاب هذه الجنة ﴿ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ، وهو الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيها نار، وقيل: هي الريح الشديدة السموم.

﴿ فاحترقت؛ أي: فاحترقت هذه الجنة، وتساقطت أوراقها وثمارها وصارت رمادًا، كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117]، وقال تعالى: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾ [الكهف: 42، 43].

عن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيم ترون هذه الآية نزلت: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي، قل، ولا تحقر بنفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلًا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله»[14].

وعن الحسن قال: «هذا مثل قل والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا»[15].

﴿ كَذَلِكَ ﴾؛ أي: مثل ذلك البيان ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات؛ أي: يوضح ويفصل لكم الآيات الكونية والشرعية، ﴿ لعلكم تتفكرون ﴾ «لعل»: للتعليل، أي: لأجل أن تتفكروا، والتفكر: إعمال الفكر والعقل والنظر في آيات الله الكونية والشرعية، والحذر من مبطلات الأعمال، ومن إبطال الصدقات بالمن والأذى، فيخسرها المنفق أحوج ما يكون إليها كصاحب هذه الجنة.

[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1892)، والنسائي في الجهاد (3187).

[2] أخرجه البخاري في الأذان- من جلس في المسجد ينتظر الصلاة (660)، ومسلم في الزكاة- فضل إخفاء الصدقة (1031)، وأبو داود في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391).

[3] البيت للمتنبي؛ انظر: «ديوانه» بشرح العكبري» (2/ 276).

[4] انظر: «بدائع الفوائد» (1/ 420).

[5]أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

[6]«النونية» (ص148).

[7] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

[8] سبق تخريجه.

[9] البيت للتهامي؛ انظر «ديوانه» (ص47).

[10] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760)، وأبو داود في الصلاة (1372)، والنسائي في الصيام (2203)، والترمذي في الصوم (683) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[11]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 423).

[12] انظر: بدائع التفسير (1/ 423- 424).

[13] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 427).

[14] أخرجه البخاري في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ (4538)، والطبري في «جامع البيان» (4/ 183 – 184)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 522).

[15]انظر: «بدائع التفسير» (1/ 425).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #420  
قديم 02-11-2024, 08:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 145,700
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾. [البقرة: 261 - 266].

1- ضرب الأمثال في القرآن الكريم بتشبيه المعقول بالمحسوس؛ لتقريب المعاني، وهو وسيلة من وسائل الإيضاح والبيان، ومن دلائل إعجاز القرآن الكريم وبلاغته؛ لقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا، وقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ الآية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، وفي هذا دلالة على إثبات القياس.

2- إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ﴾، فالإنفاق إنما يكون مما يملك الإنسان وهو ملك نسبي إضافي؛ لأن الإنسان وما ملك، ملك لله تعالى.

3- أن المعتبر من الإنفاق والأعمال ما كان خالصًا لله تعالى موافقًا لشرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾.

4- وجوب معرفة سبيل الله وشرعه ليكون العمل موافقًا له.

5- سعة فضل الله تعالى وكرمه وجوده حيث يُنمي للمنفق نفقته وثوابها إلى سبعمائة ضعف أو أكثر.

6- قدرة الله تعالى التامة ونعمته العظيمة على العباد بجعل هذه الحبة تنتج سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فتكون سبعمائة حبة أو أكثر.

7- مضاعفة الله عز وجل ثواب الإنفاق بلا حد لمن يشاء من عباده؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وذلك حسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان والإخلاص التام، وحسب نفقته ونفعها.

8- فضل الإنفاق في سبيل الله والإغراء فيه، والثناء على المنفقين ترغيبًا فيه وحثًّا عليه.

9- إثبات المشيئة وهي الإرادة الكونية لله عز وجل المقترنة بالعلم والحكمة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ﴾[البقرة: 269]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 272]؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30].

10- سعة الله عز وجل، وسعة صفاته، فهو سبحانه واسع الفضل والجود والعطاء، واسع المغفرة والعفو والرحمة واسع الحلم، واسع الصفات جميعًا؛ لقوله: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.

11- إثبات أن الله عز وجل ذو العلم الواسع لكل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98].

12- تأكيد الترغيب في الإنفاق خالصًا لله تعالى ووفق شرعه؛ لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.

13- التعريض بذم إتباع الإنفاق بالمن والأذى؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾.

14- عظم أجر المنفقين في سبيل الله؛ لأنه عند ربهم العظيم ذي الفضل العظيم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾.

15- تكفل الله عز وجل وضمانه لثواب المنفقين، وتأكيد ذلك بتقديم الخبر في قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ وتسميته «أجرًا» وكونه عنده.

16- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة للمنفقين أموالهم في سبيله بلا من ولا أذى، وتشريفهم بإضافة اسم «الرب» إلى ضميرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾.

17- سلامة المنفقين من الخوف مما يستقبلهم والحزن على ما مضى وفاتهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.

18- أن من أتبع نفقته بالمن والأذى لا أجر له، وهو عرضة للخوف والحزن؛ لمفهوم قوله: ﴿ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ﴾.

19- لا بد لقبول الصدقة من توفر الشروط السابقة وهي: الإخلاص والمتابعة، والسلامة من المبطلات اللاحقة، وهي المن والأذى.

20- أن الإحسان بالقول المعروف الطيب، والمغفرة والعفو عمن أساء خير من صدقة يتبعها أذى؛ لقوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾.

21- فضل قول المعروف من الاعتذار للسائل بما يطيب خاطره، أو وعده وعدًا حسنًا، ونحو ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾.

22- فضل المغفرة والعفو عمن أساء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

23- إثبات تفاضل الأعمال الصالحة؛ لقوله تعالى: ﴿ خَيْرٌ ﴾، وهذا دليلٌ على زيادة الإيمان ونقصانه.

24- إثبات اتصاف الله تعالى بالغنى بذاته، غنى مطلقًا، من جميع الوجوه، عن جميع خلقه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267].

فهو سبحانه الغني عن خلقه المغني لمن أنفق وتصدق، المخلف عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39].

25- إثبات حلم الله عز وجل الواسع؛ لقوله تعالى: ﴿ حَلِيمٌ ﴾، فهو- سبحانه وتعالى- حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله لعله يتوب.

كما أنه تعالى يحب من عباده أن يتصفوا بالحلم والمغفرة والعفو عمن أساء إليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾.

26- العناية والاهتمام بخطاب المؤمنين وتشريفهم وتكريمهم بندائهم بوصف الإيمان، والحث على الاتصاف بهذا الوصف وأن عدم المن والأذى بالصدقات من مقتضيات الإيمان، والمن والأذى بها نقص في الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾[البقرة: 267].

27- تحريم اتباع الصدقات بالمن والأذى، وأن ذلك يبطلها ويحبط ثوابها؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»[1].

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر»[2].

وفي هذا دلالة أن الحسنة قد تحبط بالسيئة، كما قال تعالى في سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].

28- بلاغة القرآن الكريم، وبلوغه الغاية في التنفير عما يريد التنفير عنه حيث شبه من يُتبع صدقته بالمن والأذى بمن ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل حجر أملس عليه تراب فأصابه مطر غزير فصار صلدًا أملس؛ لقوله تعالى: ﴿ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ﴾.

وفي هذا بيان شدة خطر المن والأذى بالصدقة حيث شبه من يفعل ذلك بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر.

29- ذم الرياء وتحريمه وخطره، وأنه مبطل للعمل وينبئ عن النفاق، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ﴾ الآية.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر». فسئل عنه فقال: «الرياء»[3].

وقال عز وجل في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»[4].

30- إثبات اليوم الآخر يوم القيامة، وأن الإيمان به من أعظم أركان الإيمان، ولهذا يقرن كثيرًا في القرآن الكريم بالإيمان بالله تعالى.

31- عدم قدرة من يتبع الصدقة بالمن والأذى، ومن ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر على شيء مما كسبوه سوى الخسران والحسرات؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾.

32- حرمان الكافرين بسبب كفرهم من هداية الله تعالى؛ هداية التوفيق؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾.

33- هداية الله وتوفيقه للمؤمنين؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾.

34- تأكيد عظم فضل الإنفاق والإغراء فيه والحث عليه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ الآية.

35- إثبات صفة الرضا لله عز وجل وهي من الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئته عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.

36- ينبغي أن يكون الإنفاق عن طيب نفس، واطمئنان ورضا وثقة بالخلف من الله وبرهان على قوة الإيمان؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾.

37-أنه كلما كانت الجنة والبستان في ربوة ومكان مرتفع كان ثمرها أكثر وأجود حيث تأخذ نصيبها من جودة التربة والشمس والهواء؛ لقوله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ؛ كما قال تعالى في سورة النور: ﴿ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ﴾ [النور: 35].

فإن أصابها «وابل» وهو المطر الغزير آتت أكلها ضعفين، وكذا إن أصابها «طل» وهو دون الوابل؛ لأنها بسبب جودة أرضها ومكانها المرتفع تعوض ما نقص من الماء وتأتي ثمرتها كاملة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾.

38- بركة المطر وعظيم نفعه وآثاره؛ لقوله تعالى: ﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾.

كما قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 9 - 11]، وقال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 50].

39- علم الله عز وجل واطلاعه على جميع ما يعمل الخلق، وعلى كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، وفي هذا وعد لمن أطاع الله، ووعيد لمن خالف أمر الله؛ لأن مقتضى علمه عز وجل أن يحصي على العباد أعمالهم ويحاسبهم ويجازيهم عليها، خيرها وشرها.

40- تأكيد التنفير من المن بالصدقة بتشبيه المان بها بحال من كانت له جنة من نخيل وأعناب له فيها من كل الثمرات وقد كبر وذريته ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، وهو في حال لا يستطيع القيام عليها؛ لكبره ولا ذريته لضعفهم فخسرها أحوج ما كان إليها، ولم يبق لديه إلا الحسرات عليها، وهذا حال المان بالصدقة؛ لقوله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾.

فكما أن الإنسان لا يود أن تكون له هذه الجنة والتي تنتهي بهذه النهاية المرة، فكيف يتبع الإنسان صدقته بالمن والأذى فتحبط فتكون نهايته الخسران والحسرة.

41- مدى ضعف الإنسان إذا كبر وله ذرية ضعفاء، فلا هو قادر على القيام بما يصلحهم، ولا هم قادرون على القيام بمصالحه.

42- إقامة الحجة على الخلق ببيان الآيات وتفصيلها وإيضاحها؛ لقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾.

43- الحث والترغيب في التفكر في آيات الله تعالى الكونية والشرعية؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾؛ أي: لأجل أن تتفكروا.

44- إثبات التعليل لأحكام الله تعالى وأفعاله، وأن ذلك كله لحكمة.

[1] أخرجه مسلم في الإيمان (106)، وأبو داود في اللباس (4087)، والنسائي في الزكاة (2563)، والترمذي في البيوع (1211)، وابن ماجه في التجارات (2208).

[2] أخرجه النسائي في الأشربة (5672).

[3] أخرجه أحمد (5/ 429) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه.

[4] سبق تخريجه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 326.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 320.22 كيلو بايت... تم توفير 5.80 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]