«عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله - الصفحة 44 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 323 - عددالزوار : 116064 )           »          قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          التحذير من فتنة المال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 108 )           »          زاد الداعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 632 )           »          كن مفتاح خير مغلاق شر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 105 )           »          آفاق التنمية والتطوير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 21 - عددالزوار : 10850 )           »          عقيدة الرافضة في الأئمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 117 )           »          هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بالشيء) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 171 )           »          فجاءتْ كسِنِّ الظَّبْيِ، لم أَرَ مِثْلَها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 181 )           »          كتاب “الإسلام والإعاقة: نظرات في العقيدة والفقه” (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 193 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #431  
قديم 03-11-2024, 12:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله



والجملة في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، أي: يقولون، وجملة الفعل المقدر «يقولون» في محل نصب على الحال.

وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم، للتنبيه إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، أي: لا نفرق بين أحد من رسله، بل نؤمن ونصدق بهم جميعًا، وبما جاؤوا به من عند الله، من الكتب والرسالات، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 152].

وهذا بخلاف الذين قال الله عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 150].

ولم يذكر الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، وهي من أركان الإيمان وأصوله الستة؛ لأن الإيمان بها مما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومما جاء في كتبه وعلى ألسنة رسله.

﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾؛ أي: وقال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: ﴿ سَمِعْنَا ﴾ أي: سمعنا ما أمرتنا به، وما نهيتنا عنه، بآذاننا، وفهمناه ووعيناه بقلوبنا.

﴿ وَأَطَعْنَا ﴾؛ أي: وانقدنا لذلك بجوارحنا، فعلًا للمأمورات، وتركًا للمحظورات، فجمعوا بين الإيمان والتصديق بالقلب واللسان، والانقياد بالجوارح. كما قال تعالى عنهم: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51]، وقال عنهم: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].

بخلاف المكذبين من اليهود وغيرهم الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [البقرة: 93]، وقال تعالى عنهم: ﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ [النساء: 46]، وقال تعالى محذرًا المؤمنين منهم ومن مسلكهم: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 21].

قال ابن تيمية في كلامه على قوله تعالى ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾: «فهذا إقرار منهم بركني الإيمان اللذين لا يقوم إلا بهما، وهما: السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك، المشترك بين المؤمنين والكفار، بل سمع الفهم والقبول. و«الثاني» الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر»[19].

﴿ غُفْرَانَكَ﴾ مفعول لفعل محذوف، أي: نسألك غفرانك، أو نرجو غفرانك، والغفران والمغفرة: ستر الذنب، والتجاوز عنه.

﴿ رَبَّنَا﴾؛ أي: يا ربنا. وحذفت ياء النداء اختصارًا، وتبركًا وتيمنًا بالبداءة باسم الرب عز وجل.

﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ قُدِّم الخبر ﴿ وَإِلَيْكَ ﴾ لإفادة الحصر، أي: وإليك وحدك دون غيرك المرجع والمآل يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

كما أن إليك وحدك مرجع الأمور والأحكام كلها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210].

وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، وقال تعالى: ﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [النساء: 141].

فجمعوا بين الإيمان والسمع والطاعة، وبين الخوف من ذنوبهم، والافتقار إلى الله، وسؤاله المغفرة، ولم يدلِّوا على الله بعملهم، إذ لا غنى لأحد عن مغفرته- عز وجل- ورحمته، والاعتراف بأن مصيرهم ومردهم إليه.

ولهذا قال الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»[20].

قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.

قوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ﴿ لَا ﴾ نافية، و﴿ يُكَلِّفُ﴾ بمعنى يُلزم، والتكليف: الإلزام بما فيه كلفة، أي: مشقة.

و﴿ نَفْسًا﴾ نكرة في سياق النفي، فتعم، أي: لا يلزم الله أيَّ نفس ﴿ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، ﴿ إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿ وُسْعَهَا﴾ أي: طاقتها وما تستطيعه وما يسعها، بلا حرج ولا ضيق، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، وقال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»[21].

وهذه الآية مزيلة لما فهمه الصحابة- رضوان الله عليهم- من تكليفهم ما لا يطيقون بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284].

فبين الله- عز وجل- في هذه الآية أنه لا يؤاخذ الإنسان ولا يكلفه بما لا يستطيع دفعه من وسوسة النفس وحديثها.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله- عز وجل- أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل»[22].

وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: «فَتُجوِّزَ لهم من حديث النفس، وأخذوا بالأعمال»[23].

﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ ذكر عز وجل أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ثم أتبع ذلك بقوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ بيانًا منه أن ثمرة هذا التكليف ومنفعته عائدة إليهم، وهو غني عنهم وعن أعمالهم؛ أي: لها ما عملت من خيرٍ لا ينقص منه شيء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112].

﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾؛ أي: وعليها ما عملت من سوء لا يحمله غيرها، ولا يزاد فيه أو ينقص.

كما قال: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [فاطر: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164].

وقدم الخبر في الجملتين في قوله: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ لتأكيد الحصر واختصاص كل نفس بجزاء عملها.

و«اكتسبت» أبلغ من «كسبت»؛ لأن زيادة المبنى تدل- غالبًا- على زيادة المعنى.

﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ هذه الجملة، وما عطف عليها إلى قوله: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، تقديره: «قولوا»، أي: قولوا: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ﴾، فهو تعليم من الله، وإرشاد لهم أن يدعوه بهذا الدعاء.

ويحتمل أن التقدير: «وقالوا ربنا» فيكون معطوفًا على الدعاء السابق: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾.

وقوله: ﴿ رَبَّنَا ﴾؛ أي: يا ربنا ﴿ لَا تُؤَاخِذْنَا ﴾ المؤاخذة مشتقة من الأخذ، بمعنى العقوبة، كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]؛ أي: إذا عاقب القرى وهي ظالمة إن عقابه أليم شديد.

﴿ إِنْ نَسِينَا ﴾ النسيان: ذهول القلب عن شيء معلوم.

﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ الخطأ: الوقوع في المخالفة من غير قصد، إما لجهل، أو غير ذلك.

والمعنى: ربنا لا تعاقبنا، إن تركنا واجبًا، أو ارتكبنا منهيًا نسيانًا وذهولًا منا، أو خطأً وجهلًا منا، بلا قصد.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «قال الله: نعم». وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قال الله: قد فعلت»[24].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»[25].

﴿ ربنا ﴾ أي: يا ربنا، وكرر النداء تبركًا بهذا الاسم الكريم.

﴿ وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ﴾ الواو: عاطفة، والجملة معطوفة على ما قبلها.

﴿ إِصْرًا ﴾ ثقلًا، و«الإصر» و«الإصار» في الأصل: ما تربط وتعقد وتشد به الأشياء.

والمراد به الشيء الثقيل الشاق الذي يعجز الإنسان عن تحمله من الأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

أي: وأخذتم على ذلكم عهدي بالإيمان بالرسول ونصرته. ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].

كما يطلق «الإصر» على ما يعجز الإنسان عن تحمله من العقوبات والمصائب الكونية.

والمراد بقول المؤمنين هنا: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾؛ أي: ما نَعجِز عنه من التكاليف الشرعية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية[26]: «أي: لا تكلفنا من الآصار التي يثقل حملها ما كلفته من قبلنا، فإنا أضعف أجسادًا، وأقل احتمالًا، وهذا في الأمر والنهي والتكليف».

ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿ إِصْرًا ﴾ ما يشمل التكاليف الشرعية، والعقوبات والمصائب الكونية.

﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ «الكاف»: للتشبيه، بمعنى: «مثل»، و«ما»: موصولة أي: مثل الذي حملته على الذين من قبلنا، من اليهود والنصارى وغيرهم، من الآصار والأغلال.

من ذلك أن الله جعل من شروط قبول توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، أي: قتل بعضهم بعضًا، حتى إن الرجل يقتل أخاه وابنه وأباه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54].

ومن ذلك التشديد عليهم بصفات البقرة التي أمروا بذبحها؛ وذلك بسبب عنادهم ومخالفتهم أمر الله - عز وجل - وتشديدهم على أنفسهم، فشدد الله عليهم.

وقد وضع الله - عز وجل - هذه الآصار والأغلال عن هذه الأمة بما أنزله على نبي الرحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «بُعثت بالحنيفية السمحة»[27].

والحكمة من قوله تعالى: ﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ تذكير الأمة بعظيم فضل الله عليها، وما ميَّزها به من بين الأمم، وبضدها تتميز الأشياء.

﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾؛ أي: لا تحملنا ما لا نطيقه، ولا قدرة لنا على تحمله من المصائب والأقدار الكونية ولا تبتلنا بما لا قبل لنا به، وعافنا من بلاء الدنيا والآخرة- كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»[28].

قال ابن تيمية[29]: «ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم، كما أنهم غير منفكين عما يأمرهم به وينهاهم عنه سألوه التخفيف في قضائه وقدره، كما سألوه التخفيف في أمره ونهيه، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، فهذا في القدر والقضاء والمصائب، وقولهم: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ في الأمر والنهي والتكاليف. فسألوه التخفيف في النوعين».

ويحتمل أن المراد بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ ما يشمل الأحكام الكونية والأحكام الشرعية.

﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾؛ أي: تجاوز عما قصرنا وفرطنا فيه من الواجبات.

﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾؛ أي: تجاوز عما ارتكبنا من المنهيات.

وقد يكون المعنى ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ أي: تجاوز عن ذنوبنا ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ أي: استرها عن الخلق.

﴿ وَارْحَمْنَا﴾؛ أي: وارحمنا برحمتك الواسعة فيما يستقبل، فلا نُفَرِّط في الواجبات، أو نرتكب المحرمات، قال ابن زيد في قوله: ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ قال: «اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك، مما أمرتنا به، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه، ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ قال: «يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا نترك ما نهيتنا عنه، إلا برحمتك. قال: ولم ينج أحد إلا برحمتك»[30].

قال ابن كثير[31]: «﴿ وَارْحَمْنَا﴾ أي: فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو ﷲ عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره».

﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ كما بدؤوا دعاءهم بالتوسل بربوبية الله- عز وجل- لهم ختموه بالتوسل بولايته عز وجل لهم، فقالوا: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾؛ أي: أنت وحدك ولينا وناصرنا، لا مولى لنا سواك.

والمراد بالولاية هنا: الولاية الخاصة، وهي ولاية الله - عز وجل - للمؤمنين؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 257]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 11].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم- كما حكى الله عنه: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196].

ولما قال أبو سفيان يوم أحد: «لنا العزى، ولا عزى لكم»، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ألا تجيبونه»؟ قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم»[32].

وهناك الولاية العامة لجميع الخلق؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾؛ أي: فأظهرنا على أهل الكفر كلهم من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين وغيرهم، بإظهار ما نحن عليه من حق بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.

ونعم المولى - عز وجل - ونعم النصير لمن عبده، وتوكل عليه واعتصم به ولاذ بحماه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40]، وقال تعالى: ﴿ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 150].

وتقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجثوا على الركب، فأنزل الله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، قال: نعم»[33].

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما فأنزل الله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال: قد فعلت، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾، قال: قد فعلت. ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ قال: قد فعلت»[34].

وقد روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من هذه السورة ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، قال: «آمين»[35].

وقد أعطى الله - عز وجل - هذه الأمة وتفضل عليها بما لم يعطه أحدًا من الأمم قبلها، فلم يؤاخذها بالنسيان والخطأ، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، ولم يحملها ما لا طاقة لها به، وعفا عنها وغفر لها ورحمها ونصرها على الكافرين، وأيَّدها عليهم، ومكن لها دينها، واستخلفها في الأرض يوم أن كانت قائمة بأمر الله عز وجل.

وما أصاب الأمة ما أصابها من الضعف وتسلُّط الأعداء إلا بعد أن بعدت عن دينها، ولن يعود لها مجدها وعزها إلا بالعودة الصحيحة إلى دينها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وصدق الله العظيم: ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 40، 41].

[1] أخرجه البخاري في المظالم- إثم من ظلم شيئًا من الأرض (2453)، ومسلم في البيوع- تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1612)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] أخرجه البخاري (2454)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[3] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 249).

[4] سيأتي قريبًا تخريجه بتمامه.

[5] أخرجه البخاري في التفسير (4685)، ومسلم في التوبة- قبول توبة القاتل (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183)، وأحمد (2/ 74).

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (125)، وأحمد (2/ 412).

[7] أخرجه مسلم في الإيمان (126)، والترمذي في التفسير (2992)، وأحمد (1/ 233، 332).

[8] أخرجه ابن أبي شيبة في الزهد (14/ 7)، والطبري مطولًا ومختصرًا في «جامع البيان» (5/ 132- 134)، والحاكم في التفسير (2/ 287)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن الجوزي في «نواسخ القرآن» (ص 229).

[9] أخرجه البخاري في «فضائل القرآن» (5010)، ومسلم في صلاة المسافرين (807)، وأبو داود في الصلاة (1397)، والترمذي في فضائل القرآن (2881) وابن ماجه في إقامة الصلاة (1368).

[10] أخرجه أحمد (5/ 151)، والطبراني في «المعجم الكبير» (3/ 169)، حديث (3025)، وأبو داود الطيالسي في «مسنده» ص(56) وإسناده صحيح.

[11] أخرجه أحمد (4/ 147)- وقال ابن كثير في «تفسيره» (1/ 506): «هذا إسناد حسن، ولم يخرجوه في كتبهم».

[12] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين- فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة (806)، والنسائي في الافتتاح- فضل فاتحة الكتاب (912).

[13] أخرجه البخاري في الأطعمة - الرطب والتمر، وقول الله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].

[14] كما في حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه البخاري في التفسير- قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، (4837)، ومسلم في صفات المنافقين- الإكثار من الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820).

[15] أخرج حديث عمر رضي الله عنه مسلم في الإيمان (8)، وأخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 10)، والنسائي في الإيمان (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64).

[16] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[17] انظر: «جوهرة التوحيد» (ص185).

[18] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (2/ 422-426) من رواية ابن مردويه، ومن رواية الآجرُّي. وأخرجه أحمد (5/ 265-266) بنحوه من حديث طويل عن أبي أمامة رضي الله عنه. وفيه عدد الرسل ثلاث مئة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا.

[19] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 251).

[20] أخرجه البخاري في المرضى (5673)، ومسلم في صفة القيامة (2816)، وابن ماجه في الزهد (4201)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[21] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج (1337)، والنسائي في مناسك الحج (2619)، والترمذي في العلم (2679)، وابن ماجه في المقدمة- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[22] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 132).

[23] أخرجها أحمد (1/ 332)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 133).

[24] سبق تخريجهما.

[25] سيأتي تخريجه.

[26] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[27] أخرجه أحمد (5/ 266)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضًا (6/ 116)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[28] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2966)، ومسلم في الجهاد والسير (1742)، وأبو داود في الجهاد (2631)، من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه.

[29] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[30] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 164- 165).

[31] في «تفسيره» (1/ 506).

[32] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3039)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

[33] سبق تخريجه.

[34] سبق تخريجه.

[35] أخرجه أبوعبيد في «فضائل القرآن» (ص 125)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 426)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 169).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #432  
قديم 03-11-2024, 03:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

فوائـد وأحكـام من قوله تعالى:﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.... ﴾

[البقرة: 284 - 286]



من قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 284 - 286].

1- إثبات أن لله - عز وجل - وحده بلا شريك جميع ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وتفرده بالربوبية خلقًا وملكًا وتدبيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .


2- وجوب إخلاص العبادة لله وحده؛ لأنه الإله المعبود وحده بحق، ولتفرده- عز وجل- بكمال الربوبية؛ الخلق والملك والتدبير، وهذا يستلزم إفراده بالألوهية؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .


3- عموم ملك الله- عز وجل- وسعته وعظمته، مما يدل على عظمة ربوبية الله- عز وجل- وألوهيته، وكمال صفاته.


4- اختيار القرآن الكريم لأحسن التعابير، وأعلاها؛ لقوله تعالى ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بذكر السماوات بالجمع والأرض بالإفراد.


وهكذا جاء في القرآن كله- والحكمة - وﷲ أعلم - للثقل في جمع أرض وهو «أرضين» وإلا فهي سبع أرضين، كما دلت عليه الأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.


5- إحاطة علم الله- عز وجل- بجميع أعمال العباد، ما أظهروه منها، وما أضمروه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ؛ أي: يعلمه ويحاسبكم عليه فمن لازم محاسبته لهم أن يكون عالمًا بأعمالهم.


6- وجوب مراقبة الله- عز وجل- والحذر من مخالفته في السر والعلن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية، وهذه الآية محكمة غير منسوخة؛ لأنها خبر من الله، والأخبار لا تنسخ.


7- محاسبة العباد على ما يبدون مما في أنفسهم أو يخفونه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ .


ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»[1].


أما ما أبدوه وأظهروه مما في أنفسهم بقول أو بفعل، فلا إشكال في محاسبتهم عليه.


وأما ما أخفوه فله حالان:
الحالة الأولى: أن يكون من حديث النفس ووساوسها التي لا يستطيع الإنسان لها دفعًا، بل هي خارجة عن الاستطاعة والوسع، فهذا لا يحاسب عليه، وإن حوسب عليه فلا يؤاخذ به، وليس داخلًا تحت قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ؛ لأن الله لا يكلف الإنسان ما لا يستطيع، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وقال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وجدتموه»؟ قال: «ذاك صريح الإيمان»[2].


وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان»[3].


وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»[4].


والحالة الثانية: أن يهم الإنسان بالمعصية، ويعزم عليها، ثم يتركها، وهذا هو المحاسب، والمثاب أو المعاقب.


فإن تركها لله - عز وجل - فهو مثاب مغفور له، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»[5].


وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي»[6].


وإن تركها لعجزه عنها، وعدم وصوله إليها، مع الحرص عليها، والعزم على فعلها وتمنيها، فهو معاقب بقدر ما وقع في نفسه، ما لم يعف الله عنه.


كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»[7].


وكما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء»[8].


وإن تركها لا لله، ولا لعجزه عنها، وإنما لعزوف نفسه عنها، فهذا لا يثاب ولا يعاقب؛ لأن الأعمال بالنيات كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى»[9].


وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال الله: إذاهمَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا»[10].


وفي رواية: «قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة»[11].

وعلى هذا أيضًا يحمل ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تكلم، أو تعمل»[12].


فهذا محمول على ما حدثت به الأنفس مما لم يحصل العزم عليه، فهذا لا مؤاخذة عليه، ما لم يتكلم به أو يعمل.


وبهذا يتضح أن الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ محكمة غير منسوخة، وأنها فيما هم به الإنسان وعزم عليه- كما سبق.


وليست في حديث النفس، فتكون منسوخة - كما قيل - بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا؛ لأن حديث النفس لا يدخل تحت وسع الإنسان وطاقته فلا يرد التكليف به.


وما جاء من الأحاديث والآثار في نسخها[13] فهو محمول على إزالة ما وقع في فهم بعض الصحابة رضي الله عنهم أن في الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ تكليف ما لا يطاق، وهو المؤاخذة بحديث النفس، فأنزل الله الآية: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لإزالة هذا المفهوم، وليس ذلك بنسخ للآية.


وأيضًا لبيان أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة، عن علي بن أبي طلحة- عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فإنها لم تنسخ، لكن إذا اجتمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وهو قوله: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 225]؛ أي: من الشك والنفاق»[14].


قال شيخ الإسلام ابن تيمية[15]: «فإن قوله: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الآية، إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس، لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس».


وقال ابن القيم: «وللنسخ معنى آخر وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده، ولا دل اللفظ عليه، وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284]، قالوا: نسخها قوله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]، فهذا نسخ من الفهم، لا نسخ للحكم الثابت، فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة، ولا في الدنيا أيضًا، ولهذا عمهم بالمحاسبة، ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ففهم المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها، فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] »[16].


قال ابن كثير[17]: «أي: هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان».


8- أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ.


9- مغفرة الله - عز وجل - لمن يشاء بفضله، ما دون الشرك، وتعذيبه من يشاء بعدله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ.


10- إثبات المشيئة التامة لله- عز وجل- المقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ .


11- إثبات قدرة الله- عز وجل- التامة على كل شيء، وتأكيد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .


وفي هذا رد على من أخرج شيئًا من المقدورات عن خلقه وقدرته كالفلاسفة والقدرية المجوسية وغيرهم.


12- ثناء الله- عز وجل- على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وشهادته- عز وجل- له ولهم بإيمانهم بما أنزل الله إليه، وبه وبملائكته وكتبه ورسله، وعدم تفريقهم بين أحد من رسله، وسمعهم وطاعتهم، وسؤالهم مغفرته وإقرارهم بأن إليه- عز وجل- وحده المصير؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ الآية.


13- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه مكلف كغيره من أفراد الأمة، بالإيمان بما أنزل إليه من ربه، والعمل به، مع تبليغه؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، وهذا يتضمن الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالإيمان وصدق الرسالة.


14- أن القرآن كلام الله - عز وجل - أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة: 80].


وفي هذا كله رد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن.


15- أن السنة منزلة من عند الله؛ لأن قوله: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ يشمل القرآن والسنة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 113].


16- إثبات علو الله عز وجل؛ لأن الإنزال يكون من أعلى؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، فله - عز وجل - علو الذات، وعلو الصفات.


17- تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم- وتكريمه بإضافة اسم الرب إلى ضميره، وربوبيته - عز وجل - له الربوبية الخاصة، بل خاصة الخاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّهِ .


18- أن من شرط صحة الإيمان متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ أي: والمؤمنون آمنوا اتباعًا له صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»[18].


19- وجوب الإيمان بالله، وبما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبكل ما أخبر الله - عز وجل - به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ومن ذلك الإيمان باليوم الآخر، والقدر وغير ذلك من الغيبيات؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.


20- تشريف الله - عز وجل - لملائكته وكتبه ورسله بإضافتهم إليه- عز وجل- بقوله ﴿ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.


21- لا يجوز التفريق في الإيمان بين أحد من رسل الله- عز وجل- بل يجب الإيمان بهم جميعًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ومن فرق بينهم فليس بمؤمن، بل هو كافر.


كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 150، 151].


22- أن من صفات المؤمنين حقًا السمع والطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، فجمعوا بين التصديق بالقلب واللسان، والانقياد بالجوارح، بين الإيمان الظاهر والباطن.


23- جمع المؤمنين حقًّا بين الإحسان بالإيمان والعمل الصالح، وبين الخوف من الله- عز وجل- وطلب مغفرته والافتقار إليه؛ لقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا .


24- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وتوسلهم بها بقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ، وقولهم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.


25- إثبات أن إلى الله - عز وجل - وحده المصير والمرجع يوم القيامة، كما أن إليه- عز وجل- مرجع الأمور والأحكام كلها في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.


26- رحمة الله- عز وجل- بعباده، حيث لا يكلف نفسًا فوق وسعها وطاقتها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الآية (284) من هذه السورة، وتقدم بيان أن هذه الآية محكمة؛ لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، وإنما غاية ما في ذلك أن بعض الصحابة فهموا من الآية ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية محاسبتهم على حديث النفس، مما لا يستطيع الإنسان له دفعًا. فنسخ الله- عز وجل- وأزال هذا المفهوم بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[19].


27- سماحة الدين الإسلامي، ويسر أحكامه ومراعاته أحوال المكلفين، فلا يوجب على المريض ما يوجبه على الصحيح، ولا يوجب على المسافر ما يوجبه على المقيم، ولا يوجب على العاجز ما يوجبه على القادر، وهكذا.


28- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية: أنه لا واجب مع العجز؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .


فإذا عجز الإنسان عن الواجب وليس له بدل سقط عنه، فمثلًا الحج واجب، بل ركن من أركان الإسلام على المستطيع، فإذا عجز الإنسان عن الحج ببدنه وماله سقط عنه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97].


وإن كان الواجب له بدل وجب الانتقال إلى بدله، فإن عجز عن بدله سقط، فمثلًا كفارة الجماع في نهار رمضان عتق رقبة، فإذا لم يجد، فعليه صيام شهرين متتابعين، فإذا لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينًا، فإن لم يستطع سقطت؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: «مالك»؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها»؟ قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين»؟ قال: لا، قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا»؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر- والعَرَق: المكتل، قال: «أين السائل»؟ فقال: أنا، قال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه لأهلك»[20].


29- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية «أنه لا محرم مع الضرورة، وأن الضرورات تبيح المحظورات»، فالميتة مثلًا محرمة؛ كما قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3]، لكنها تباح عند الضرورة كما إذا لم يجد الإنسان ما يسد به رمقَه غيرها؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3].


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #433  
قديم 03-11-2024, 03:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله




30- إثبات الاختيار للإنسان فيما يفعل ويكتسب، وأنه ليس مجبورًا على فعله؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.


وفي هذا رد على الجبرية الذين يزعمون أن لا اختيار للإنسان[21].


31- أن منفعة التكليف وثمرته للمكلفين، رحمة من الله لهم، وهو سبحانه غني عنهم وعن كسبهم وأعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ.


32- أن لكل نفس ثواب وجزاء عملها لا ينقص منه شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39].


ومن ذلك ما كان الإنسان سببًا في كسبه وسعيه كدعاء ولده له ونحو ذلك؛ لأن ولده من كسبه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أولادكم من كسبكم»[22].


ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[23].


وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء»[24].


وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»[25].


كما أن دعاء المسلمين له وتصدقهم عنه داخل ضمن ما كان هو سببًا فيه؛ لأنه بإيمانه صار منهم، فشمله دعاؤهم وصدقاتهم.


33- أن على كل نفس ما عملت من سوء وشر، ولا تحمل نفس وزر أخرى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]، لكن الإنسان يؤاخذ بما كان سببًا في فعله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء»[26].


34- أن كسب الخير غنم للنفس؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ، وأن اكتساب الشر غرم عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .


كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9، 10].


وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فمعتق نفسه أو موبقها»[27].


35- كمال عدل الله - عز وجل - حيث يحاسب كل نفس بما كسبت.


36- الترغيب بكسب الحسنات، والترهيب من اكتساب السيئات.


37- الرد على الخوارج ومن تبعهم القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، ولم يجعل اكتسابه مبطلًا لكسبه- كما يقولون[28].


38- أن من أعظم ما يتوسل به في الدعاء من صفات الله- عز وجل- الربوبية؛ لهذا توسل المؤمنون بقولهم: ﴿ ربنا في ثلاثة مواضع في هذه الآية، وهكذا كان جل دعاء الرسل عليهم السلام وأتباعهم بالتوسل بها.


39- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين؛ لقولهم: ﴿ ربنا .


40- إرشاد الله عز وجل للمؤمنين للدعاء بهذه الدعوات الجامعة واستجابته لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.


ولهذا قال عز وجل كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قد فعلت» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «نعم».


41- عدم المؤاخذة والمعاقبة في النسيان والخطأ والجهل؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه قال- عز وجل: «قد فعلت»، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نعم».


فإذا ترك الإنسان واجبًا أو ارتكب محظورًا نسيانًا أو خطأ أو جهلًا فلا عقوبة عليه ولا إثم. وفي الحديث: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»[29].


فإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ارتكاب محظور فلا عقوبة عليه ولا تبعة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»[30].


ومثل هذا لو ارتكب الإنسان أي محظور كان، ناسيًا أو مخطئًا وجاهلًا، كمحظورات الإحرام وغيرها فلا شيء عليه.


وإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ترك واجب فلا عقوبة عليه، لكن عليه فعل هذا الواجب ما دام في وقته، أو قضاؤه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»[31].


ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يعذر المسيء في صلاته لجهله، بل قال له عدة مرات: «ارجع فصل فإنك لم تصل»[32].


فإن فات وقت الواجب، ولا يمكن قضاؤه لزم تقديم فديته إن كان له فدية، كمن ترك المبيت بمزدلفة، أو بمنى، أو رمي الجمار- وفات وقته لزمته الفدية.


أما حقوق الخلق فإنها لا تسقط بالنسيان والخطأ والجهل.


كما يلزم أيضًا في قتل الخطأ دفع الكفارة حقًا لله عز وجل.


42- فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة المحمدية برفع الآصار والأغلال عنها، وعدم تحميلها ما لا تطيق من الأحكام الكونية والشرعية، فلم يؤاخذهم بحديث النفس، والنسيان، والخطأ، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.


وفي الحديث القدسي: «قال الله: قد فعلت»، وفي لفظ: «قال: نعم»[33].


43- تكليف من قبلنا من الأمم- وبخاصة أهل الكتاب بالآصار والأغلال والتكاليف الثقيلة؛ بسبب تكذيبهم وعنادهم وتشديدهم على أنفسهم؛ لقوله تعالى: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).


44- تميز الأشياء بضدها، فبمقارنة ما خص الله به هذه الأمة من التيسير والتخفيف بما حمله على من قبلها من الآصار والأغلال يظهر عظم فضل الله عليها؛ ولهذا قال: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).


45- ينبغي سؤال الله- عز وجل- العافية، وأن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ فالعافية لا يعدلها شيء.


وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية».


46- ينبغي سؤال الله - عز وجل - العفو والتجاوز عما يحصل منا من تقصير وتفريط بحقوقه- عز وجل- وسؤاله المغفرة والتجاوز عما اقترفناه من الذنوب، وأن يرحمنا برحمته الواسعة، فيما يستقبل، فيحفظنا من التفريط في حقه، ومن المعاصي والذنوب.


47- ضعف الإنسان وشدة حاجته إلى ربه في أمور دينه ودنياه، فطاقته وقدرته محدودة، وهو معرّض للنسيان والخطأ والجهل، وهو أحوج ما يكون إلى عفو الله- عز وجل- عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، ورحمته له، مما يوجب عليه التعلق بربه، والالتجاء إليه على الدوام.


48- إثبات ولاية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وأنه لا مولى لهم سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا.


49- جمع المؤمنين بين التوسل بربوبية الله - عز وجل - لهم في أول دعائهم بقولهم: ﴿ رَبَّنَا ، والتوسل بولايته لهم في آخر دعائهم بقولهم: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا وهذا من أعظم أسباب الاستجابة.


50- يجب على المؤمنين الاستعانة بالله، وطلب النصر منه على الكافرين، مع بذل الأسباب بالجهاد بالحجة والقلم واللسان، والسيف والسنان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.


51- فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم قبلها حيث خصها الله بالحنيفية السمحة، ورفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، وعفا عنها، وغفر لها، ورحمها، ونصرها.

[1] ذكره الترمذي في صفة القيامة- حديث الكيس من دان نفسه- بعد الحديث (2459)، وأخرجه ابن أبي شيبة في الزهد- كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (8/ 115)- حديث (3448).

[2] أخرجه مسلم في الإيمان- باب الوسوسة من الإيمان (132)، وأبو داود في الأدب (5111).

[3] أخرجه مسلم في الإيمان (133).

[4] أخرجه أبو داود في الأدب- رد الوسوسة (5112).

[5] أخرجه البخاري في الرقاق- باب من هم بحسنة أو سيئة (6491)، ومسلم في الإيمان (131).

[6] أخرجه مسلم في الإيمان (129).

[7] أخرجه البخاري في الإيمان- {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] (31)، ومسلم في الفتن- إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (2888)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4268)، والنسائي في تحريم الدم (4120)، وابن ماجه في الفتن (3965).

[8] أخرجه الترمذي في الزهد- الدنيا سجن المؤمن (2325)، وابن ماجه في الزهد – النية (4228)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

[9] أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والنسائي في الطهارة (75)، وابن ماجه في الزهد (4227)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

[10] أخرجه البخاري في الإيمان (42)، ومسلم في الإيمان (128)، والترمذي في التفسير (3073)..

[11] أخرجها البخاري في التوحيد (7501)، ومسلم في الإيمان (128).

[12] أخرجه البخاري في الطلاق (5269)، ومسلم في الإيمان (127)، وأبو داود في الطلاق (2209)، والنسائي في الطلاق (3433)، والترمذي في الطلاق (1183)، وابن ماجه في الطلاق (2040).

[13] سبق ذكر بعض هذه الأحاديث والآثار في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286]، وانظر في ذكر هذه الآثار والخلاف في نسخ هذه الآية «جامع البيان» (5/ 132- 134)، «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (2/ 118- 124).

[14] ذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 504).

[15] انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 101).

[16] انظر: «بدائع التفسير» (3/ 217- 218).

[17] في «تفسيره» (1/ 508).

[18] أخرجه المقدسي في كتاب «الحجة على تارك المحجة» بإسناد صحيح، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد؛ قال النووي: «حديث رويناه في الحجة بإسناد صحيح»، وقال في «فتح المجيد»: «رواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار»؛ انظر: «فتح المجيد» ص (331- 332).

[19] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 231، 232، 234، 235، 250، 252).

[20] أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111)، وأبو داود في الصوم (2390)، والترمذي في الصوم (724)، وابن ماجه في الصيام (1671).

[21] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[22] أخرجه أبو داود في البيوع (3528)، والنسائي في البيوع (4449)، والترمذي في الأحكام (1358)، وابن ماجه في التجارات (2137)، وأحمد (6/ 31)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: «حسن صحيح».

[23] أخرجه مسلم في الوصية- ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والنسائي في الوصايا (3651)، والترمذي في الأحكام (1376)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[24] أخرجه مسلم في العلم (1087)، والنسائي في الزكاة (2554)، وابن ماجه في المقدمة (203)..

[25] أخرجه مسلم في العلم (2674)، وأبو داود في السنة (4609)، والترمذي في العلم (2674)، وأحمد (2/ 380، 397).

[26] هذا بقية حديث جرير بن عبدالله- وقد سبق تخريجه قريبًا.

[27] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

[28] انظر: «دقائق التفسير» (1/ 253).

[29] أخرجه ابن ماجه في الطلاق (2043)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

[30] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام- أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1115)، وأبو داود في الصوم (2398)، والترمذي في الصوم (721)، وابن ماجه في الصيام (1673)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[31] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة- من نسي صلاة فليصلها (597)، ومسلم في المساجد- قضاء الصلاة الفائتة (684)، وأبو داود في الصلاة (442)، والنسائي في المواقيت (614)، والترمذي في الصلاة (178)، وابن ماجه في الصلاة (695)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[32] أخرجه البخاري في الأذان- وجوب القراءة للإمام والمأموم (757)، ومسلم في الصلاة- وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (397)، وأبو داود في الصلاة (856)، والنسائي في الافتتاح (884)، والترمذي في الصلاة (303)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1060)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[33] سبق تخريجه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #434  
قديم يوم أمس, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




سورة: آل عمران
تفسير قوله تعالى: ﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.... ﴾

قوله تعالى: ﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾[آل عمران: 1 - 4].

تقدم الكلام على البسملة في أول هذا التفسير، وتقدم الكلام على الحروف المقطعة في مطلع سورة البقرة وناسب - والله أعلم - افتتاحها بهذه الحروف أن آيات عِدة منها نزلت في قضية مجادلة نصارى نجران حين قدموا إلى المدينة، وبيان فضل الإسلام على النصرانية، وإظهار عظمة القرآن والتحدي به.

قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾: ﴿ الله ﴾ مبتدأ، وخبره جملة: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾، و﴿ لَا: نافية للجنس، و﴿ إِلَهَ ﴾: اسمها، وخبرها محذوف تقديره: «حق»، أي: لا إله حق إلا هو.

و﴿ الله : علم على الرب تبارك وتعالى خاص به، وهو أصل الأعلام، وأعرف المعارف، وأصل أسماء الله - عز وجل - وتأتي أسماء الله كلها تابعة له، ومعناه: المألوه المعبود بحق محبة وتعظيمًا، أي: لا إله حق إلا هو.

﴿ الْحَيُّ ﴾: خبر ثانٍ لقوله: ﴿ الله ﴾، أي: الكامل الحياة من جميع الوجوه، فلا ينال حياته نقص، ولم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال أو فناء، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3].

﴿ الْقَيُّومُ ﴾: خبر ثالث، أي: الكامل القيومية، القائم بنفسه، الغني عما سواه، القائم على غيره المقيم له: خلقًا وملكًا وتدبيرًا وحفظًا، وغير ذلك، فكل شيء محتاج ومفتقر إليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ [الروم: 25]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [الرعد: 33].

وفي الحي كمال الصفات، وفي القيوم كمال الأفعال، وفيهما جميعًا كمال الذات.

قوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل ﴾ [آل عمران: 3].

قوله: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾: الجملة في محل رفع خبر رابع للمبتدأ: (الله)، و«التنزيل» و«الإنزال» يكون من أعلى إلى أسفل، والتنزيل قد يدل على التدرج، أي: نزل عليك الكتاب مفرقًا منجمًا في ثلاث وعشرين سنة؛ تعظيمًا لهذا الكتاب، ورحمةً بهذه الأمة، وتيسيرًا عليها، وتثبيتًا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32]، وهذا مما خص الله - عز وجل - به هذا الكتاب العظيم عند أكثر أهل العلم.

والخطاب في قوله: ﴿ عَلَيْكَ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تشريف وتعظيم له صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير بـ(على) دون (إلى) في قوله: ﴿ عَلَيْكَ : زيادة في تشريفه صلى الله عليه وسلم ورفع شأنه، وإعلاء مقامه.

و﴿ ﴾: القرآن، و«أل» فيه للعهد، أي: الكتاب المعهود المعلوم المعروف، والذي هو أعظم الكتب، وأفضل كتب الله على الإطلاق، وإذا أطلق الكتاب فالمراد به القرآن الكريم.

و﴿ الْكِتَابَ ﴾: «فِعال» بمعنى مفعول أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴾ [الواقعة: 77، 78]؛ أي: في اللوح المحفوظ على الصحيح من أقوال أهل العلم.

وهو مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة؛ كما قال تعالى: ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَة ﴾ [عبس: 13 - 16].

وهو مكتوب بأيدي المؤمنين في المصاحف.

﴿ بالحقِّ ﴾: الباء للملابسة؛ أي: متلبسًا بالحق، و«الحق»: الأمر الثابت، فالقرآن حق وصدق في نفسه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [الأنعام: 66]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19].

وطريق وصوله وإسناده حق وصدق محفوظ عن التبديل والتغيير؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 192 - 194].

وقال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 34]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

وهو مشتمل على الحق، فأخباره صدق، وأحكامه عدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]، وقال تعالى: ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الإسراء: 105].

﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾: ﴿ مُصَدِّقًا﴾: حال من الكتاب؛ أي: حال كونه مصدقًا، ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ؛أي: لما سبقه من كتب الله - عز وجل - وجعل السابق ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ؛ لأنه يجيء قبله، فكأنه يمشي أمامه.

ومعنى كونه مصدقًا لما سبقه من كتب الله تعالى، أي: مخبرًا بصدقها، وأنها حق من عند الله تعالى، وأيضًا: مصدقًا لها بكونه مصداق ما أخبرت به وبشرت به، فمجيئه تصديق لها، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].

وأيضًا: مصدقًا لها لاشتماله على ما دعت إليه من أصول الشرائع ومحاسن الأخلاق والآداب، والحاكم بصدق ذلك كله وصحته، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48].

﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ﴾: أي وأنزل عز وجل التوراة على نبيه موسى بن عمران عليه السلام، وهي المذكورة - والله أعلم - بصحف موسى في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19].

وهي أعظم كتب الله تعالى وأفضلها بعد القرآن الكريم، وأشملها وأعمها وأهداها، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [القصص: 49].

كتبها الله تعالى بيده؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145].

وفي الحديث في حجاج آدم وموسى: «وكتب لك التوراة بيده»[1].

أنزلها الله تعالى جملةً واحدة بألواح، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ [الأعراف: 154]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150].

وقد حصل فيها تحريف وكتمان لكثيرٍ منها، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91].

﴿ وَالْإِنْجِيل ﴾: أي وأنزل عز وجل الإنجيل على نبيه عيسى ابن مريم عليه السلام.

وهو متمم لشريعة موسى عليه السلام وللتوراة.

قوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران: 4].

قوله ﴿ مِنْ قَبْلُ﴾: أي من قبل وقت تنزيل هذا القرآن، والتصريح بهذا للمبالغة في البيان، وإشارة إلى أن إنزالهما متضمن الإرهاص لبعثته صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن الكريم، وأنهما لمقدمات لذلك، وقدَّم ﴿ مِنْ قَبْلُ﴾ على ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ؛ لئلا يتوهم أن هدى التوراة والإنجيل مستمر بعد نزول القرآن.

﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾: مفعول لأجله، والعامل فيه «أنزل»، أو حال من التوراة والإنجيل؛ أي: وأنزل التوراة والإنجيل من قبل؛ لأجل هداية الناس، أو حال كونهما هدى للناس.

ويجوز أن يكون العامل فيه «نزَّل» و«أنزل» أي: نزلعليك الكتاب.. وأنزل التوراة والإنجيل من قبل كل ذلك من أجل هداية الناس، وأن يكون حالًا من الكتب الثلاثة، أي: حال كون الكتاب والتوراة والإنجيل هدىً للناس.

والمراد بالهداية هنا: هداية الدلالة والبيان والعلم، أي: لأجل دلالة الناس، وبيان طريق الحق لهم من طريق الباطل، وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرهم، و«الناس» هم بنو آدم.

﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾: «الفرقان» ما يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والخير والشر.

والتفريق بين خير الخيرين وشر الشرين، وبين أهل كل منهما، وغير ذلك.

قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41].

وهو ما أنزله الله تعالى من الوحي الذي فيه بيان الحق من الباطل في القرآن والتوراة والإنجيل وغيرها من كتبه - عز وجل - وفي هذا تعظيم لما جاء في هذه الكتب.

ويُحتمل أن المراد بـ ﴿ الْفُرْقَانِ ﴾ القرآن الكريم خاصةً؛ لأن «الفرقان» من أسماء القرآن، وفي هذا تعظيم للقرآن الكريم، وأنه أفضل كتب الله - عز وجل - وأعظمها هداية وتفريقًا بين الحق والباطل.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾: بعدما امتن - عز وجل - على الناس بتنزيل القرآن وإنزال التوراة والإنجيل، وما في هذه الكتب العظيمة من الهداية، وبيان الفرق بين الحق والباطل، مما لا يبقى معه عذر أو حجة لأحد، أتبع ذلك بالوعيد للذين كفروا بآيات الله، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾.

(الكفر) في اللغة: الستر والتغطية.

ومعنى ﴿ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّه ﴾: أي جحدوها وأنكروها وكذبوا بها من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم.

و«آيات»: جمع آية، وهي في اللغة: (العلامة)؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 248]؛ أي: علامة ملكه، وقال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]؛ أي: العلامات والدلائل على أنه الحق. وآيات الله - عز وجل - قسمان:
آيات كونية، منها: الليل والنهار والشمس والقمر، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]، وكل ما في الكون من المخلوقات هو من آيات الله تعالى الكونية، كما قال الشاعر:
فو اعجبًا كيف يُعصى الإل
ه أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحدُ[2]


وسميت المخلوقات آيات لدلالتها على وجود الخالق وعظمته وكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته واستحقاقه العبادة دون سواه؛ لأن الخلق كلهم لو اجتمعوا لا يستطيعون إيجاد شيء من هذه المخلوقات، كما قال تعالى مخاطبًا المشركين: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73].

والقسم الثاني من آيات الله: آياته الشرعية، وهو الوحي الذي أنزله على رسله في الكتب السماوية، وبخاصة آيات القرآن الكريم.

وسمى ما أوحاه الله - عز وجل - إلى رسله آيات لما فيه من الدلالة على صدقهم، ولما فيه من هداية الناس وإصلاحهم، وصلاح أمور دينهم ودنياهم وأخراهم، مما يدل على أنه من عند الله تعالى العظيم المستحق للعبادة وحده دون سواه، العالِم بالخلق وما يصلحهم مما لا يستطيع الخلق كلهم لو اجتمعوا الإتيان عليه، كما قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، وقال تعالى عن القرآن الكريم: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وقال تعالى عنه: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].

والفرق بين القسمين:
أن الآيات الكونية محسوسة مشاهدة؛ ولهذا عامة الناس يؤمنون بها ويقرون بتوحيد الربوبية حتى المشركون؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 63].

وهذا حال كثير من الناس أرباب حس ومشاهدة كالأنعام بل هم أضل، لا يؤمنون إلا بالمحسوس.

وما ضل مَن ضل من الخلق وكفر أو ابتدع في الدين إلا بسبب تحكيم الحس دون الشرع والعقل.

وأما الآيات الشرعية فهي معقولة لا يدركها إلا أصحاب العقول السليمة والنظرة المستقيمة، وكثير من الخلق لا يدركونها.

﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾: قدم الخبر ﴿ لَهُمْ ﴾لتخصيصهم بذلك وتأكيده، ونُكِّر ﴿ عَذَابٌ ﴾للتفخيم، و«العذاب»: العقاب أو العقوبة، و«الشديد»: القوي، أي: ولهم عقاب قوي، فيه أنواع الشدة والقوة من حيث نوعه وكيفه وكمه، عذاب حسي للأبدان، ومعنوي للقلوب، لا يقل عن العذاب الحسي بل هو أشد منه- من التقريع والتوبيخ والتبكيت والتيئيس من الخروج من النار، وتحطيم المعنويات.

كما في قوله تعالى: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 130]، وقال تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر: 71]، وقال تعالى: ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [الزخرف: 77، 78]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾ [الهمزة: 4 - 7]؛ أي: لَيُنبذن في النار التي تحطم كل شيء فيها، وتشرف على القلوب فتحطم المعنويات.

﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ أي: ذو العزة التامة بأنواعها الثلاثة: عزة الامتناع، فيمتنع أن يناله سوء أو نقص أو مكروه، وعزة القهر والغلبة، كما قال تعالى: ﴿ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الزمر: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ص: 23]؛ أي: غلبني، وعزة القوة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40] [3].

﴿ ذُو انْتِقَامٍ ؛ أي: صاحب انتقام ممن كذب بآياته وعصاه وخالف رسله، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ [السجدة: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [المائدة: 95]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]، وقال تعالى: ﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾ [الروم: 47].

والانتقام من الصفات الفعلية الاختيارية، وليس من صفات الله المطلقة، وليس من أسمائه - عز وجل - «المنتقم»، وإنما يوصف سبحانه به مقيدًا، فيُقال: المنتقم من المجرمين، ومن الظالمين، ومن الكافرين، ونحو ذلك.

[1] أخرجه البخاري في تفسير سورة (طه) (4736)، ومسلم في القدر (2652)، والترمذي في القدر (2135)، وابن ماجه في «المقدمة» *، وأحمد (2/ 268، 392)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] البيتان لأبي العتاهية. انظر: «ديوانه» (ص104).

[3] راجع ما سبق في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #435  
قديم يوم أمس, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ... ﴾ [آل عمران: 5 - 9]






قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾[آل عمران: 5 - 9].

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ﴾: ﴿ إِنَّ ﴾: حرف توكيد ونصب، واسمها لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾، وخبرها جملة النفي: ﴿ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ﴾، وهي جملة منفية تدل على ثبوت ضدها وهو ظهور كل شيء له سبحانه وتعالى، وكمال علمه وإحاطته؛ لأن الخفاء يقابله ويضاده الظهور.

و﴿ شيء ﴾: نكرة في سياق النفي، فيعم كل شيء أيًّا كان، صغيرًا أو كبيرًا، قليلًا أو كثيرًا.

﴿ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾: متعلق بـ ﴿ يَخْفَى ﴾؛ أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا يخفى عليه شيء في السماء.

والمراد جنس الأرض وجنس السماء؛ أي: لا يخفى عليه شيء في الكون كله، ومن ذلك إيمان مَن آمن، وكُفر مَن كفر، وغير ذلك؛ لكمال علم الله - عز وجل - الدال على كمال حياته.

وفي هذا وعد لمن آمن بآيات الله، ووعيد لمن كفر بها، وترغيب في الثواب، وترهيب من العقاب.

قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
هذا من الأدلة على كمال ربوبيته وقيوميَّته - عز وجل - وتقرير علمه.

قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ ﴾: ﴿ هُوَ ﴾ يعود إلى «الله»؛ أي: الله الذي ﴿ يُصَوِّرُكُمْ ﴾؛أي: يجعلكم على صور معينة في أرحام أمهاتكم.

﴿ فِي الْأَرْحَامِ ﴾: حال من ضمير الخطاب « الكاف »، أي: يصوركم حال كونكم في الأرحام.

و﴿ الْأَرْحَامِ ﴾: جمع رحم، وهو موضع تكون الجنين في بطن أمه، وهو القرار المكين، كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [المرسلات: 20 - 22].

﴿ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾: حال من فاعل ﴿ يُصَوِّرُكُمْ ﴾؛ أي: يصوركم في أرحام أمهاتكم، ويخلقكم على أي كيفية أراد كونًا، نطفًا، ثم علقًا، ثم مُضغًا، ثم تنفخ فيه الروح.

هذا شقي وهذا سعيد، هذا ذكر وهذه أنثى، هذا طويل وهذا قصير، هذا أبيض وهذا أسود، هذا جميل وهذا قبيح، هذا مكتمل الخلقة وهذا ناقص الخلقة.

هذا يشبه أباه وهذا يشبه أمه، وهذا يشبههما وهذا لا يشبه واحدًا منهما، وهذا يشبه جده أو جدته، وهذا يشبه عمه أو خاله، ونحو ذلك، وهذا لا يشبه أحدًا من أقاربه، وهذا يشبه بعض الأبعدين، وهذا لا يشبه أحدًا.

ولا تنافي بين كونه تعالى يُصور الجنين كيف يشاء، وبين كونه يشبه أباه أو أمه أو نحو ذلك؛ لأن الله - عز وجل - قد جعل لكل شيءٍ سببًا، وربط المسببات بأسبابها؛ ولهذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود- كأنه يُعرِّض بزوجته[1]- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟»، قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟» قال: حمر، قال: «فهل فيها من أورق؟» قال: نعم، قال: «أنى لها ذلك؟»، قال: لعله نزعه عرق، فقال صلى الله عليه وسلم: «فلذلك ابنك لعله نزعه عرق»[2].

﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أي: لا معبود حق إلا هو، وقد كرر هذا؛ لتوكيد تفرده - عز وجل - بالألوهية، والمبالغة في الرد على النصارى الذين ادَّعوا إلهية عيسى عليه السلام، وعلى غيرهم من المشركين. وقد قرن فيما سبق بتقرير ألوهيته وكمال حياته وقيومته وإنزاله الكتب السماوية.

وقرن هنا بذكر تصويره الخلق في الأرحام كيف يشاء وخلقهم، وكمال عزته، وكمال حكمه وحكمته، وهذا وذاك مما يوجب إفراده بالعبادة دون سواه.

﴿ الْعَزِيزُ ﴾: اسم من أسماء الله - عز وجل - على وزن «فعيل» يدل على أنه سبحانه ذو العزة التامة.

﴿ الْحَكِيمُ ﴾: اسم من أسماء الله - عز وجل - على وزن «فعيل» يدل على أنه الحاكم ذو الحكم التام بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني، والحكم الشرعي، والحكم الجزئي، وعلى أنه المحكم المتقن ذو الحكمة البالغة بقسميها: الحكمة الغائية، والحكمة الصورية.


قال ابن كثير: «وهذه الآية فيها تعريض، بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهًا - كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله، وقد تقلب في الأحشاء، وتنقَّل من حالٍ إلى حال، كما قال تعالى: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [الزمر: 6].

قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.
ذكر عز وجل في الآية السابقة نعمته على العباد بتصويرهم في الأرحام وخلقهم، ثم أتبع ذلك بما هو أعظم، وهو نعمته عليهم بإنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم لهدايتهم.

قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ تأكيدٌ لقوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران: 3]، وتمهيد لقوله: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾ الآية.

وفي قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى، وإبطال لزعم المشركين أنه إنما يعلمه بشر، أو أساطير الأولين.

﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾: أي من هذا الكتاب آيات، و﴿ آيَاتٌ ﴾ جمع آية، وهي في اللغة: العلامة، وفى الشرع: القطعة من كلام الله تعالى ذات بداية ونهاية معلومة.

﴿ مُحْكَمَاتٌ ﴾: الإحكام: الإتقان؛ أي: منه آيات متقنات معلومات واضحات المعنى والدلالة، لا اشتباه فيهن ولا التباس، وجُل القرآن على هذا؛ كما قال تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1].

﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾: الجملة في محل نصب حال من ﴿ آيَاتٌ ﴾، أو في محل رفع صفة لـ﴿ آيَاتٌ ﴾، والضمير ﴿ هنَّ ﴾ يعود إلى قوله: ﴿ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾.

وأم الشيء أصله ومعظمه ومرجعه، أي: هن أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه.

قال تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]؛ أي: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل شيء، وهو مرجع وأصل كل الكتب.

ومنه سُمِّيت الفاتحة «أم الكتاب»؛ لأنها أصل القرآن الكريم وابتداؤه، ومشتملة على جميع معاينه[3].

ومنه سُمِّيت خريطة الرأس الجامعة له «أم الرأس» وهي الدماغ، وسُمِّيت الراية «الأم»؛ لأن الجيش ينضوى إليها، كما قال ذو الرمة[4]:
على رأسه أم لنا نقتدي بها
جماع أمور لا نعاصي لها أمرًا




قال الطبري[5]: «يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق الحاجة إليه من أمر دينهم، وما كُلِّفوا من الفرائض والحدود وسائر ما يحتاجون إليه في عاجلهم وآجلهم».

﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾: أي وآيات أُخر متشابهات، و«أُخر» ممنوع من الصرف؛ لأنه وصف معدول عن الآخر.

ومعنى ﴿ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾؛أي: فيهن اشتباه من حيث عدم وضوح المعنى والدلالة، أو لكونهن مما استأثر الله تعالى بعلمه، كحقائق صفات الله وكيفياتها؛ فهذه لا يعلمها إلا الله، وما يتعلق بعلم الغيب، كقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158]، وكقيام الساعة، فهذا مما لا يعلمه إلا الله، وعدَّ بعض أهل العلم من هذا الحروف المقطعة في أوائل بعض السور.

وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: «المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به»[6].

فأما قوله تعالى في سورة (الزمر): ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، فليس المراد بقوله: ﴿ مُتَشَابِهًا ﴾ التشابه الذي هو هذا الإحكام، وإنما المراد أنه يشبه بعضه بعضًا في الكمال والحسن والبلاغة، وما فيه من الهدى والبيان والمواعظ والحكم والأحكام والدعوة إلى الخير، والتحذير من الشر والوعد والوعيد... ونحو ذلك.

﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾: الفاء: استئنافية، و«أما» حرف شرط وتفصيل، أي: فأما الناس الذين في قلوبهم زيغ، و«القلوب» جمع قلب، وهو محل الإدراك وهو العقل، و«الزيغ»: الميل والانحراف عن القصد، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]؛ أي: ما مال البصر وما انحرف عن المقصود، ويُقال: «زاغت الشمس»؛ أي: مالت وزالت عن كبد السماء.

والمعنى: فأما الناس الذين في قلوبهم ميل عن الحق وقصد للباطل، كما هو حال كثير من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم من أهل البدع والأهواء من الرافضة المجوسية والخوارج والقدرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم.

﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ « ما »: موصولة، أي: فيتبعون الذي تشابه منه، ويأخذون به، ويحملون المحكم على المتشابه، ويضربون الآيات بعضها ببعض.

وقد كنت أكتب في تفسير هذه الآية جوار بيت الله الحرام يوم الثلاثاء 11/ 8/ 1432هـ، فخرجت لصلاة الظهر في الحرم، وبعد صلاة الظهر جلس بجواري أحد الإخوة، فسألته: من أين أنت؟ فقال: أنا إيراني شيعي، وأخذ يُثني على الشيعة، فقلت له: الشيعة فيهم أناس طيبون، وفيهم غُلاة يزعمون أن القرآن مُـحرَّف، وأن الأئمة يدبرون الكون مع الله، ويُكَفِّرون كثيرًا من الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم- فقام وأحضر مصحفًا، وفتح على قول الله تعالى في سورة (الرعد): ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]، وأشار بأصبعه إلى قوله: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ ﴾، وقال: «كل المفسرين من أهل السنة يقولون: المراد بهذا علي بن أبي طالب، قلت: ليس هذا بصحيح، فلا أحد من أهل السنة يقول بهذا، وإنما يقولون: الضمير يعود إلى الله تعالى؛ أي: قل كفى بالله شهيدًا على رسالتي، وهو الذي عنده علم الكتاب، أي: علم اللوح المحفوظ.

وقال بعض المفسرين: المراد بالضمير في قوله: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ ﴾: عبدالله بن سلام، والمراد بالكتاب: التوراة، فهو شهيد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة التوراة بذلك، فأخذ يقلِّب في المصحف، فأخرج الآية في سورة التوبة ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ ﴾ [التوبة: 40]، فقال: «من صاحبه؟» قلت: أبوبكر - رضي الله عنه - فقال: «كيف يحزن؟!»، كأنه يريد أن ينتقص من أبي بكر- رضي الله عنه - قلت له: الحزن ليس عيبًا، وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127]، وقال تعالى: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [فاطر: 7]، فخرج من الموضوع وقال: «كيف تسلمون في المدينة على أبي بكر وعمر، وتمنعوننا أن نسلم على بعض الصحابة في البقيع؟»، فقلت له: لأنكم نجس تتبولون على قبور بعض الصحابة كما فعل بعضكم عند قبر عثمان - رضي الله عنه - فقام وانصرف منهزمًا، فقلت: يا سبحان الله، صدق الله العظيم: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾.

قوله: ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾: مفعول لأجله، أي: لأجل الفتنة ولأجل تأويله، أي: طلب الفتنة وطلب تأويله، فاتبعوا ما تشابه منه لأجل هذين الغرضين الفاسدين.

والضمير في ﴿ تَأْوِيلِهِ ﴾ يعود إلى المتشابه، والفتنة: الصد عن دين الله والشرك، أي: طلب فتنة الناس وصدهم عن دينهم، وإيقاعهم في الكفر والشرك والشك والإلحاد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 191]، وقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]، وقوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10].

﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾: أي وطلب تأويله التأويل المذموم، وتحريفه تبعًا لأهوائهم المنحرفة، وإيهام أتباعهم أنهم يحتجون بالقرآن نظرًا لتشابهه، بخلاف المحكم فلا يتبعونه لأنه دامغ لهم، وحجة عليهم لوضوحه وعدم احتماله للتأويل.

عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم»[7].

﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ﴾ الواو: حالية، و«ما»: نافية، والضمير في ﴿ تَأْوِيلَهُ ﴾ يعود إلى ما تشابه من القرآن، والحال أنه لا يعلم تأويل المتشابه من القرآن، ﴿ إِلَّا اللَّهُ ﴾: أداة حصر، أي: وما يعلم تأويله إلا الله وحده، أي: لا يعلم حقيقته وما يؤول إليه إلا الله وحده.

والتأويل يأتي بمعنى التفسير، والتعبير، وبيان الشيء، كما قال أحد صاحبي السجن ليوسف عليه السلام: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ [يوسف: 36]؛ أي: بتفسير وتعبير الرؤيا التي رأى كل منهما.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: «اللهم فقِّهه في الدين وعلمه التأويل»[8]؛ أي: تأويل القرآن وتفسيره.

ويأتي التأويل بمعنى العاقبة والغاية التي يؤول إليها الشيء، والتي لا يعلمها إلا الله، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأعراف: 53].

فالمراد بـ﴿ تَأْوِيلِهِ ﴾ في الموضعين: عاقبته وما يؤول إليه، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 39]، عاقبته وما يؤول إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [يوسف: 100]، وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 39] ؛ أي: أحسن مآلًا وعاقبة.

﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ الواو: استئنافية، والوقف عند أكثر السلف على قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾؛ أي: لا يعلم عاقبته وما يؤول إليه إلا الله.

﴿ وَالرَّاسِخُونَ ﴾: مبتدأ، وخبره جملة ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾، والراسخون: جمع راسخ، والرسوخ بمعنى الثبات والتمكن، فالراسخون في العلم هم الثابتون فيه، المتمكنون منه، العارفون بدقائقه.

﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾: الضمير في ﴿ بِهِ ﴾ يعود إلى قوله: ﴿ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾؛ أي: إلى المتشابه، أي: صدقنا به وإن لم نعلم تأويله، ورددنا علم هذا المتشابه إلى المحكم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #436  
قديم يوم أمس, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله


ويحتمل عود الضمير إلى ﴿ الْكِتَابِ ﴾، والأول أظهر؛ لقولهم بعده: ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾؛ أي: كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا، فالمحكم صدَّقنا به وعلِمناه، والمتشابه صدقنا به ورددناه إلى المحكم، ووكَلنا علمَه إلى الله، وكل ذلك حق وصدق، لا تناقض فيه ولا اختلاف، كما قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

وبعض السلف يصلون قوله: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾، بقوله: ﴿ إِلَّا اللَّهُ ﴾، فتكون الواو عاطفة، وقوله: ﴿ إِلَّا اللَّهُ ﴾ معطوف على لفظ الجلالة ﴿ الله ﴾، وفي هذا تشريف لهم، كما في قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].

وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويله، أي: تفسيره، كما قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس- رضي الله عنهما-: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»، ولهذا رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «أنا ممن يعلم تأويله»[9]، وتكون جملة ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ على هذا القول في محل نصب على الحال.

ولا تعارض بين القولين، فإن حُمِلَ معنى «التأويل» في قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ على التفسير كان الوصل أولى، وإن حُمِلَ معنى «التأويل» على عاقبة الشيء وغايته وما يؤول إليه، ونحو ذلك فالوقف أَولى.

وقد رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «التفسير على أربعة أنحاء؛ فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل»[10].

ومراده بالذي (لا يعلمه إلا الله): هو ما يتعلق بالأمور الغيبية وحقائق الأشياء ومآلاتها.

وعلى هذا فتأويل القرآن كله بمعنى تفسيره مما يعلمه الراسخون في العلم؛ لأنهم إذا كانوا يعلمون تفسير المتشابه، فعلمهم بتفسير المحكم أَولى.

وقد فسر السلف - رضي الله عنهم - من الصحابة والتابعين وتابعيهم القرآن كله وفهموا معانيه.

قال مجاهد: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية، وأساله عن تفسيرها»[11].

قال ابن تيمية: «وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها، حتى لا تشتبه بغيرها، وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا، فتكون محتملة للمعنيين، ولم يقل في المتشابه: «لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله» وإنما قال: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾، وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع، فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو، والوقف هنا على ما دلت عليه أدلة كثيرة، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين وجماهير الأمة، ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر، وقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، ولم يستثن شيئًا منه نُهِيَ عن تدبره، والله ورسوله إنما ذمَّا من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمر الله، وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه»[12].

﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ «الواو»: استئنافية، و«ما»: نافية، و﴿ يَذَّكَّرُ ﴾ أصلها «يتذكر» قُلِبَت التاء ذالًا وأُدغِمت في الذال الأخرى، والمعنى: وما يتعظ بالقرآن وما فيه من الهدى والمواعظ والبيان، ويفهم ويعقل ويتدبر ذلك وينتفع به ﴿ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.

﴿ إِلَّا ﴾: أداة حصر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، و﴿ أُولُو ﴾ بمعنى أصحاب، و﴿ الْأَلْبَابِ ﴾: جمع «لُب» وهو العقل؛ لأنه مجمع الخير والشر عند الإنسان، والمعنى: وما يتعظ بالقرآن وينتفع بما فيه من الهدى والبيان إلا أصحاب العقول السليمة، الذين تهديهم عقولهم إلى الحق والخير، وتمنعهم من الباطل والشر، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ [الفجر: 5]؛ أي: الذي له لُب وعقل يهديه عقله إلى الخير ويحجره ويمنعه من الشر، وليس المراد بالألباب العقول التي بها مجرد الإدراك ضد الجنون، فهذه لا يمتدح بها، بل لا يكلف الإنسان إلا بوجود هذا العقل.

وإنما المراد بالألباب العقول التي بها حسن التصرف وفعل الخير وترك الشر، والتي هي مناط المدح أو الذم.

قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.
هذا الدعاء- والله أعلم- من تتمة كلام الراسخين في العلم.

قوله: ﴿ رَبَّنَا ﴾: أي يا ربنا، وحُذِفت ياء النداء للتخفيف، والتبرك والتيمن بالبداءة باسم الله عز وجل.

﴿ لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا ﴾: ﴿ لَا ﴾في الأصل للنهي، وهي هنا للدعاء؛ لأن النهي والطلب إذا جاء من أدنى إلى أعلى كان معناه الدعاء.

وإزاغة القلوب إمالتها عن الهدى والحق، أي: يا ربنا لا تمل قلوبنا عن الهدى والحق، وثبتنا على الصراط المستقيم.

وإنما خصُّوا القلوب؛ لأن عليها مدار صلاح الأعمال وفسادها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»[13].

وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

وعن أنس- رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء»[14].

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلب ابن آدم على أُصبعين من أصابع الجبار - عز وجل - إذا شاء أن يقلِّبه قلَّبه»، فكان يُكثِر أن يقول: «يا مصرف القلوب»[15].

وذلك لأنها محل العقل؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

فالعقل يكون بالقلوب، والقلوب في الصدور- كما ذكر الله - عز وجل - ولا ينافي هذا ارتباط العقل بين القلب والمخ- كما ذكر أهل العلم.

﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾: أي بعد إذ مننت علينا بدلالتنا وتوفيقنا إلى الحق، وذلك أعظم مِنة، وأفضل نعمة، كما في قول المؤمنين: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، فهم يتوسلون إلى الله - عز وجل - بنعمته السابقة، وهي هدايته لهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الخندق:
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
ن الأُُلَى قد بغوا علينا
وإن أرادوا فتنة أبينا[16]


﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ أي: وأعطنا، والهبة: العطية بلا عوض ولا مِنّة.

﴿ مِنْ لَدُنْكَ ﴾؛ أي: من عندك؛ لأنك ذو المن والعطاء الجزيل، والفضل العظيم، أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، ولئلا يكون لأحد سواك مِنة علينا.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»[17].

وعلَّم صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئًا حتى كان يسقط سوط أحدهم وهو على الدابة فينزل فيأخذه، ولا يسأل أحدًا يناوله إياه [18].

﴿ رحمة ﴾: رحمة الله - عز وجل - تنقسم إلى قسمين: رحمة ذاتية ثابتة له - عز وجل - كما قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الكهف: 58].

ورحمة فعلية يوصلها إلى من شاء من خلقه؛ كما قال تعالى: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴾ [العنكبوت: 21].

ومعنى ﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾؛ أي: وأعطنا من عندك رحمة من رحمتك الواسعة تثبتنا بها على الهداية، وتزيدنا هدى وإيمانًا، وتُدخِلنا بها الجنة، فكل ذلك من آثار رحمة الله تعالى، ولهذا سمى الله الجنة رحمة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 107]، وقال - عز وجل - في الحديث القدسي: «أنت الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء»[19].

كما سمى عز وجل إنزال الغيث رحمة، فقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].

فسألوا الله تعالى زوال المرهوب بالتثبيت على الهداية، والسلامة من الميل عن الحق، وحصول المطلوب بالرحمة.

﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾: الجملة استئنافية للتعليل والتوسل، وقد أُكِّدت هذه الجملة بـ«إنَّ» وبكونها اسمية، وبضمير الفصل ﴿ أنت ﴾ الذي يفيد القصر.

و﴿ الوهاب ﴾ اسم من أسماء الله - عز وجل - على وزن «فعَّال» يدل على سعة عطائه - عز وجل - وفضله وإنعامه؛ أي: إننا إنما طلبنا منك هبة الرحمة لأنك أنت وحدك الوهاب ذو العطاء الجزيل، والفضل العظيم، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].

وفي الحديث: «يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض، فإنه لم يغض ما في يده»[20].

قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.
هذا من تتمة مقالة الراسخين يدل على قوة إيمانهم، وتمام يقينهم بالبعث والجزاء، وأنهم أحوج ما يكونوا إلى رحمة الله في هذا، كما قال إبراهيم عليه السلام في دعائه: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].

قوله ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ﴾؛ أي: يا ربنا إنك جامع الناس.

﴿ ليومٍ ﴾؛ أي: ليوم القيامة، واللام فيه للتوقيت، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الواقعة: 49، 50]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 103].

﴿ لا رَيْبَ ﴾ ﴿ لا ﴾: نافية للجنس، و﴿ رَيْبَ ﴾: اسمها منصوب، و﴿ فيه ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبرها؛ أي: لا ريب حاصل فيه، أو نحو ذلك، والمعنى: لا شك فيه، أي: لا ينبغي أن يرتاب ويشك فيه.

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾: تعليل وتأكيد لما قبله، أي: لجمعه - عز وجل - الناس ليومٍ لا ريب فيه، أي: لأن الله لا يخلف الميعاد.

وهذا- والله أعلم- من تتمة كلام الراسخين، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة لتنبيه المخاطب، ولتعظيم الله؛ لأن مجيء الكلام بصيغة الغائب أبلغ في التعظيم كأنه سبحانه يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب تعظيمًا وتفخيمًا.

ويُحتمل أن يكون هذا مستأنفًا، وهو من كلام الله تعالى؛ لأن الأصل عدم الالتفات؛ لأنه خروج بالكلام عن المألوف.

والمعنى: إن الله لا يخلف ما وعد به من مجيء هذا اليوم العظيم، وما وعد به من حساب الخلائق ومجازاتهم فيه بأعمالهم، وغير ذلك.

وهذا من الصفات المنفية الدالة على كمال ضدها، وهو وفاؤه - عز وجل - بوعده، كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [إبراهيم: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 6].

وذلك لأن إخلاف الميعاد إنما يكون بسبب كذب الواحد أو عجزه عن الوفاء بوعده، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد لكمال صدقه، فهو أصدق القائلين، ولكمال قدرته، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].

[1] أي: بأنها زانية، وأن الولد ليس منه؛ ولهذا قال رؤبة بن العجاج:
بأبه اقتدى عدي في الكرم
ومن يشابه أبه فما ظلم




أي: ومن يشابه أباه فما ظلم أمه؛ حيث أراحها من ألسنة المتقولين على المحصنات بالباطل. انظر: «ديوان رؤبة» (ص182).

[2] أخرجه البخاري في الطلاق- إذا عرض بنفي الولد (5305)، ومسلم في اللعان (1500)، وأبو داود في الطلاق (2206)، والنسائي في الطلاق (3478)، والترمذي في الولاء والهبة (2128)، وابن ماجه في النكاح (2002)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3] انظر الكلام على أسماء الفاتحة «أم الكتاب».

[4] انظر: «ديوانه» (3 / 1455- 1446).

[5] في «جامع البيان» (5/ 189).

[6] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 193)، وابن أبي حاتم في «تفسيره » (2/ 592-593).

[7] أخرجه البخاري في «التفسير» (4547)، ومسلم في «العلم» (2665)، وأبو داود في «السنة» (4598)، والترمذي في «التفسير» (2994).

[8] أخرجه أحمد (1/ 266)، وإسناده صحيح.

[9] انظر: «روح المعاني» (2/ 82 ).

[10] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (1/ 70 )، وفي إسناده انقطاع، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 18).

[11] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (1/ 85 )، وأبو نُعيم في «الحلية» (3/ 279).

[12] انظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 275 ).

[13] أخرجه البخاري في الإيمان فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم في المساقاة أخذ الحلال وترك الحرام (1599)، وابن ماجه في الفتن (3984)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

[14] أخرجه الترمذي في القدر (2140) وقال: «حديث حسن» وقد رُوِيَ نحوه عن عائشة رضي الله عنها.

[15] أخرجه أحمد (2/ 173).

[16] أخرجه البخاري في المغازي (4104)، ومسلم في الجهاد والسير (1803)، من حديث البراء
رضي الله عنه.


[17] أخرجه البخاري في الأذان (834)، ومسلم في الذكر والدعاء (2705)، والنسائي في السهو (1302)، والترمذي في الدعوات (3531)، وابن ماجه في الدعاء (3835) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.

[18] أخرجه مسلم في الزكاة (1043)، وأبو داود في الزكاة (1642)، وابن ماجه في الجهاد (2867)، من حديث أبي مالك الأشجعى رضي الله عنه.

[19] أخرجه البخاري في التفسير باب: (وتقول: هل من مزيد) (4850)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2846)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[20] أخرجه البخاري في التفسير (4684)، ومسلم في الزكاة الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (993)، والترمذي في التفسير (3045)، وابن ماجه في «المقدمة» (197)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #437  
قديم يوم أمس, 08:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾.

1- إثبات إعجاز القرآن الكريم، وتحدي العرب بذلك، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان؛ لقوله تعالى: ﴿ الم ﴾ [آل عمران: 1].

2- إثبات ألوهية الله - عز وجل - وأنه وحده المنفرد بالألوهية، فلا معبود بحقٍ سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 2].

3- إثبات اسم الله - عز وجل - «الحي» وصفة الحياة التامة له، وأنه الكامل الحياة من جميع الوجوه، لا يتطرق لحياته نقص، ولم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال أو فناء.


4- إثبات اسم الله - عز وجل - «القيوم» وصفة القيومية الكاملة له سبحانه وتعالى، وأنه - عز وجل - القائم بنفسه، الغني عما سواه، وكل شيء محتاج ومفتقر إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2].

5- في وصفه - عز وجل - بـ «الحي، والقيوم» كمال ذاته وصفاته وأفعاله، ففي «الحي» كمال صفاته، وفي «القيوم» كمال أفعاله، وفي اقترانهما واجتماعهما كمال ذاته.


6- إثبات علو الله - عز وجل - لقوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ و﴿ وأنزل، والتنزيل والإنزال يكون من أعلى إلى أسفل، فهو - عز وجل - عالٍ على خلقه، بائن منهم، له العلو المطلق عليهم: علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو القهر.


7- إثبات أن القرآن الكريم منزل من عند الله وكلامه وصفة من صفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾, والرد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن.

8- الامتنان على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بتنزيل القرآن عليه منجمًا مفرقًا؛ لقوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ رحمة بهذه الأمة.


9- تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم وتكريمه بإنزال القرآن عليه، وخطابه - عز وجل - له؛ لقوله تعالى: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾، وفي هذا تضعيف لقول من قال: إن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقًا بعد ذلك وأن للقرآن تَنَزُّلَيْن. والصحيح أن جبريل عليه السلام ينزل به من عند الله - عز وجل - إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ونزوله مرة واحدة.

10- تعظيم القرآن الكريم، وأنه أفضل كتب الله على الإطلاق، فإذا أطلق الكتاب فالمراد به القرآن الكريم؛ لقوله تعالى: ﴿ الْكِتَابَ ﴾.

11- أن القرآن الكريم نزله الله تعالى بالحق، فهو حق وصدق، وطريق وصوله حق، أوحاه الله - عز وجل - إلى جبريل عليه السلام، وأوحاه جبريل إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل على الحق فيما جاء به ودعا إليه؛ لقوله تعالى: ﴿ بِالْحَقِّ ﴾.

12- تصديق القرآن الكريم للكتب السابقة، فهو مخبر بصدقها وأنها حق، وهو مصداق ما أخبرت به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، ومصدق لها باشتماله على ما دعت إليه من أصول الشرائع ومحاسن الأخلاق والآداب، والحاكم بصدق ذلك كله وصحته؛ لقوله تعالى: ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾.

13- أن التوراة والإنجيل منزلة من عند الله - عز وجل - جملةً واحدة، نزلت التوراة، ثم الإنجيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ ﴾.

14- أن المقصود من إنزال الكتب والنبوات هداية الناس ودلالتهم إلى طريق الحق، رحمةً من الله - عز وجل - بالعباد وعنايةً بهم؛ لقوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾.

15- إثبات الحكمة لله تعالى في أفعاله وأحكامه الكونية والشرعية؛ لقوله تعالى: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾.

16- امتنان الله على العباد بإنزال الكتب السماوية التي تشتمل على الفرقان، وبيان الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والإيمان من الكفر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾، وفي هذا أيضًا تعظيم لكتبه عز وجل وبخاصة القرآن الكريم أفضل كتب الله عز وجل.

17- أن «الفرقان» من أسماء القرآن الكريم وهذا على القول بأن المراد بقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران:٤] القرآن خاصة؛ كما قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

وفي هذا التخصيص للقرآن تعظيم له، وتأكيد على فضله على سائر كتب الله - عز وجل - وتفريقه بين الحق والباطل.

18- الوعيد الأكيد للذين كفروا بآيات الله بعد بيانها بإنزال الكتب التي فيها الفرقان بين الهدى والضلال، والإيمان والكفر بالعذاب الشديد؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾، ويفهم من هذا أن الذين آمنوا بآيات الله لهم الثواب العظيم.

19- إثبات صفة العزة لله - عز وجل - عزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وعزة القوة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾.

20- التحذير من انتقام الله - عز وجل - ممن عصاه وخالف أمره؛ لقوله تعالى: ﴿ ذُو انْتِقَامٍ ؛ أي: صاحب انتقام ممن عصاه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ [السجدة: 22].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #438  
قديم يوم أمس, 08:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 5 - 9].

1- سعة علم الله - عز وجل - واطِّلاعه التام على كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ .


وهذا من الصفات المنفية التي تدل على كمال ضدها وهو سعة علمه - عز وجل - واطِّلاعه على كل شيء صغيرًا كان أو كبيرًا، قليلًا كان أو كثيرًا، وفي هذا دلالة على كمال حياته عز وجل.


2- الوعد لمن آمن بالله، والوعيد لمن كفر به؛ لأنه سبحانه مُطِّلع على كل شيء، ومن ذلك أعمال العباد وسيحاسبهم ويجازيهم عليها.


3- الرد على القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم بأعمال العباد حتى تقع منهم تعالى الله عن ذلك.


4- قدرة الله تعالى التامة حيث يصور بني آدم في الأرحام كيف يشاء، وينقلهم فيها من حال إلى حال؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ، وفي هذا دلالة على كمال قيوميته - عز وجل - وكمال علمه، وكمال ربوبيته.


5- عناية الله - عز وجل - ببني آدم حيث يصورهم في بطون أمهاتهم منتقلين فيها من حال إلى حال، ورحمته لهم، ومنته عليهم حيث صورهم وأحسن صورهم، كما قال تعالى: ﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ [غافر: 64]، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 - 8].

ولكونه - عز وجل - خلق الإنسان على أحسن صورة؛ نهى الشرع عن التجميل الذي يكون فيه تغيير خلق الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، والمغيرات خلق الله»[1].

أما ما كان من إزالة العيب في أصل الخِلقة فلا بأس به، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قُطِعَ أنفه أن يتخذ أنفًا من ورق، فأنتن، فأذن له أن يتخذ أنفًا من ذهب[2].

6- في اختلاف صور بني آدم نعمة أخرى في طي نعمة تصويرهم وخلقهم، وهي اختلاف صورهم وأشكالهم وألوانهم ليتعارفوا ويتمايزوا، كما أن في ذلك ابتلاء لهم ليعلم الله من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يجزع.

7- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية، وأن ما شاء الله تعالى وأراده كونًا لابد كائن لا محالة؛ لقوله تعالى: ﴿ كيف يشاء ﴾.

8- الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية بقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾.

9- إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية، فلا معبود بحق سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾.

10- أن كل ما يُعبد من دون الله فهو باطل؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أي: لا إله حق إلا هو.

11- إثبات اسم الله «العزيز» وما يدل عليه من إثبات صفة العزة التامة لله تعالى؛ عزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وعزة القوة؛ لقوله تعالى: ﴿ العزيز ﴾.

12- إثبات اسم الله تعالى «الحكيم» وما يدل عليه من إثبات صفة الحكم التام والحكمة البالغة لله - عز وجل - الحكم الكوني، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، والحكمة الغائية، والحكمة الصورية؛ لقوله تعالى: ﴿ الحكيم ﴾.

13- في اقتران «العزيز» و«الحكيم» واجتماعهما في حقه - عز وجل - زيادة كماله إلى كمال.

ولله المثل الأعلى، فمع أن المخلوق قد يوصف بالعزة والحكمة المحدودة، لكن قلَّ أن تجتمع في شخص هاتان الصفتان، فإن وُجِدَ عنده عِزة صاحبها الطيش والخفة والسفه وعدم الحكمة، فصار ضرر هذه العزة أكبر من نفعها، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 206]، وإن وُجِدَ عنده حكمة صاحبها الضعف وعدم القدرة، فلم تنفعه حكمته؛ لأن الناس لا يحترمون إلا الأقوياء، ولا مكان للضعفاء عندهم، وكما قال زهير[3]:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم




وظلم الناس لا يجوز، لكن لابد من قوة تردع المعتدي، وتمنع من الاعتداء والظلم، كما قال الآخر:
فلا منعت دار ولا عز أهلها
من الناس إلا بالقنا والقنابل[4]




وقد أحسن النابغة الجعدي في قوله[5]:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا


14- إثبات أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مُنزَّل غير مخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾، وقول الراسخين في العلم: ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾، وفي هذا الرد على من زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختلقه وافتراه من عند نفسه، وعلى من زعموا أن القرآن مخلوق.

15- إثبات علو الله - عز وجل - على خلقه، فله - عز وجل - العلو المطلق: علو الذات، وعلو الصفات؛ لأن الإنزال يكون من أعلى إلى أسفل؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾.

16- تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بخطاب الله تعالى له، وإنزال الكتاب عليه, وإثبات رسالته صلى الله عليه وسلم.

17- تعظيم القرآن الكريم؛ لقوله تعالى: ﴿ الْكِتَابَ؛ أي: الكتاب الذي هو أعظم الكتب وأفضلها، ويكفيه عظمة أنه مُنزَّل من الله تعالى وكلامه.

18- أن القرآن الكريم منه ما هو محكم واضح المعنى والدلالة، وهو أصل الكتاب ومرجعه وجله، ومنه ما هو متشابه غير واضح المعنى والدلالة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾.

19- وجوب إرجاع المتشابه من القرآن إلى المحكم منه؛ لقوله تعالى: ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾؛ أي: هي أصله ومرجعه الذي ينبغي أن يُرجع إليه عند الاشتباه، ولهذا قال الراسخون في العلم: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾.

20- ابتلاء العباد يجعل القرآن الكريم منه محكم ومتشابه؛ ليتميز أهل الزيغ من أهل العلم والإيمان، فمن ردَّ ما اشتبه منه إلى ما وضح منه، وحكم بمحكمه على متشابهه اهتدى، ومن عكس ضل.

21- اتباع الذين في قلوبهم زيغ ما تشابه من القرآن؛ لفتنة الناس وصدهم عن دينهم وإيقاعهم في الشك والكفر، ولتأويل هذا المتشابه تأويلًا مذمومًا، وتحريفه ليوافق أهواءهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾.

22- أن مدار فساد الأعمال وصلاحها على القلوب؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾.

ومفهوم هذا: أن من كانت قلوبهم سليمة لا يتبعون ما تشابه منه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾، وقول الراسخين في العلم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾.

23- التحذير من زيغ القلب وميله عن الحق، ووجوب علاجه والعمل على إصلاحه؛ لأن الله ذم أهل الزيغ وفضحهم، وبيَّن سوء قصدهم وسوء عملهم.

24- أن حقيقة الفتنة هي الفتنة في الدين بالشرك، والصد عن سبيل الله؛ لقوله تعالى: ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾.

25- أن تأويل المتشابه بمعنى معرفة عاقبته وما يؤول إليه لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾، على قراءة الوقف على قوله: ﴿ إِلَّا اللَّهُ ﴾.

26- أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه ومعناه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ على قراءة الوصل.

27- فضل الرسوخ في العلم والتأصيل والثبات فيه، والثناء على أهله؛ لأنه سبب لعلم تأويل القرآن وتفسيره والإيمان به، ورد المتشابه منه إلى المحكم، والخوف من زيغ القلوب، وسؤال الله الثبات على الهدى والرحمة، والإقرار بالبعث والمعاد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.

28- أن القرآن كله من عند الله - عز وجل - يجب الإيمان به، محكمه ومتشابه؛ فهو حق لاشك فيه، ولا اختلاف.

29- إثبات ربوبية الله تعالى الخاصة بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾.

30- إنه لا يتذكر ولا يتعظ بمواعظ القرآن وغيرها إلا أصحاب العقول، الذين تهديهم عقولهم إلى ما ينفعهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾.

31- فضل العقل الذي ينتفع به صاحبه، وهو عقل الرشد وحسن التصرف؛ لأنه سبب للتذكر، ولهذا أثنى الله على أولي الألباب وحصر التذكر فيهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾، وفي هذا تعريض بذم الذين لا يعقلون.

32- امتحان العباد في وجود المتشابه في القرآن الذي لا يعلم تأويله إلا الله، هل يتأدبون مع الله ويقفون عند حد ما تدركه عقولهم، ويعلمون أن فوق كل ذي علمٍ عليم، أو يتجرؤون على القول على الله بغير علم؟

33- أن مدار صلاح الأعمال والهداية على القلوب مما يوجب الخوف من زيغ القلوب، وسؤال الله الثبات والاستقامة على الهدى، وأن لا يغتر المرء بما هو عليه من الهدى والصلاح؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾.

وفي الحديث: «قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقلب قلب عبده قلبه»[6]. ومن الذي يأمن- والحالة هذه- إلا مغرور؟!. وقد قيل: «ما أمن النفاق إلا منافق».

34- تصدير الدعاء باسم «الرب» - عز وجل - فذلك أقرب إلى الإجابة؛ لأن الرب هو الذي بيده الخلق والملك والتدبير، فكأن السائل يقول: يا من له الخلق والملك والتدبير لا تُزِغ قلبي، وهب لي من لدنك رحمة؛ ولهذا صدر الراسخون في العلم دعاءهم بهذا الاسم، وبه كان دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين.

35- التوسل لله - عز وجل - بقبول الدعاء بالاعتراف بنعمه، والثناء عليه بها؛ لقول الراسخين في العلم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾.

36- أن الاعتراف بنعمة صاحب النعمة والثناء بها عليه قبل السؤال من أسباب الإجابة؛ ولهذا علَّمنا الله - عز وجل - في مطلع سورة (الفاتحة) أن نحمده ونثني عليه ونمجده ثم نسأله، بل إن في الثناء على المنعم ما قد يكفي عن التصريح بالسؤال، كما قيل:

إذا أثنى عليك المرء يومًا
كفاهُ من تعرضه الثناء[7]




37- أن التخلية قبل التحلية؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾، فدعوا بزوال المرهوب، ثم حصول المطلوب.

38- حاجة الإنسان إلى ربه - عز وجل - في دفع الضر والشر، وجلب النفع والخير؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾.

39- أن الهداية والإضلال كونًا بيد الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾.

40- ينبغي الاستغناء بالله - عز وجل - وسؤاله الرحمة من عنده دون الخلق ومِنَّتهم؛ لأنه سبحانه ذو الرحمة الواسعة والعطاء الجزيل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾، فطلبوا الرحمة منه خاصة؛ تعظيمًا له - عز وجل - ومعرفةً منهم بعظيم رحمته وواسع فضله؛ ولهذا قالوا: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .


والعطاء على قدر المعطي، وكما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم[8]




41- إثبات اسم الله تعالى ﴿ الْوَهَّابُ ﴾، وأنه سبحانه يهب ويعطي الرحمة والفضل لمن شاء من خلقه.


42- إثبات يوم القيامة، وأنه آتٍ لا ريب فيه؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾، وأن الناس أحوج ما يكونوا إلى رحمة الله تعالى في هذا اليوم العظيم.


43- قدرة الله تعالى التامة على جمع الناس لهذا اليوم، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، وقال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [النازعات: 13، 14].

44- إثبات الحساب والجزاء على الأعمال؛ لأن هذا هو المقصود من بعث الناس وجمعهم في ذلك اليوم.

45- أن الله - عز وجل - لا يخلف الميعاد، فوعده حق، ولقاؤه حق، وحسابه حق، وجزاؤه حق؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.

وليس في الآية دليل على وجوب عقاب العاصي كما يقول الوعيدية؛ لأن الوعيد مشروط بعدم التوبة، وعدم العفو عما يدخل تحت العفو، وهو ما دون الشرك.


[1] أخرجه البخاري في التفسير (4886)، ومسلم في اللباس والزينة (2125)، وأبو داود في الترجل (4169)، والنسائي في الزينة (5099)، وابن ماجه في النكاح (1989)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[2] أخرجه أبو داود في الخاتم (4232)، والنسائي في الزينة (5161)، والترمذي في اللباس (1770)، من حديث عرفجة بن أسعد رضي الله عنه.

[3] انظر: «ديوانه» (ص35).

[4] البيت لطرماح. انظر: «شرح ديوان الحماسة» (1/ 77).

[5] انظر: «ديوانه» (ص69).

[6] أخرجه مسلم في القدر تصريف الله القلوب حيث شاء (2654)، من حديث عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما.

[7] البيت لأمية بن أبي الصلت. انظر: «ديوانه» (ص17).

[8] البيت للمتنبي. انظر: «ديوانه» (2/ 272).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #439  
قديم يوم أمس, 08:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... ﴾


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [آل عمران: 10 - 13].


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾.

قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ «الكفر» في اللغة الستر، وهو إنكار وجود الله وربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته وشرعه أو شيء من ذلك، أو ترك ما يستلزم الكفر بتركه كالصلاة، وهو أقسام[1].

وهو ضد الإيمان، أي: التكذيب بما أوجب الله الإيمان به، من الإيمان بالله - عز وجل - والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، أو الكفر والتكذيب ببعض ذلك.

والمراد بهم في الآية جنس الكفرة من اليهود والنصارى ومشركي العرب وغيرهم.

﴿ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ﴾؛ أي: لن تنفعهم، وتمنع أو تدفع عنهم ﴿ أَمْوَالُهُمْ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ﴾ [الحاقة: 28]، و﴿ أَمْوَالُهُمْ: كل ما يتمولونه ويملكونه من أنواع المال من نقد أو عين أو منفعة أو غير ذلك.

﴿ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ﴾؛ أي: ولن تغني عنهم أولادهم، والأولاد: جمع «ولد» وهو إذا أطلق يشمل الذكور والإناث من أولاد الشخص وأولاد بنيه وإن نزلوا بمحض الذكور.

﴿ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾؛ أي: من عذابه وعقابه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 17].

والمعنى: لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، فتنجيهم من عذاب الله، بأن تمنع أو تدفع عنهم شيئًا من عذاب الله قبل وقوعه، أو ترفع عنهم شيئًا من عذاب الله بعد وقوعه، بل كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 85]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196، 197].

وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ﴾ [سبأ: 37].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد»[2]؛ أي: ولا ينفع ذا الغنى والحظ منك غناه وحظه، وخص الأموال والأولاد؛ لأن الاستغناء في الدنيا يكون بهما، فبالمال يكون الفداء ودفع الديات والغرامات، وبالأولاد يكون الانتصار والقتال.

وقدَّم الأموال على الأولاد - والله أعلم - لأن الاعتماد على نفع الأموال في الدنيا أكثر من الاعتماد على نفع الأولاد؛ لأن الأولاد أحيانًا قد ينفعون، وأحيانًا كثيرة لا ينفعون، بل قد يضرون، وفي الآية إشارة إلى انشغالهم بأموالهم وأولادهم.

﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾ الواو: عاطفة، وأشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك» تحقيرًا لهم، و﴿ هم ﴾ يحتمل أن يكون مبتدأً، أو ضميرَ فصل.

وفي كون الجملة اسمية دلالة وتأكيد على تحقق الأمر وتقرره، وأن هذا هو حقيقة حالهم ومآلهم.

﴿ وَقُودُ النَّارِ ﴾ «وَقود» بفتح الواو: ما توقد به النار، أي: حطبها الذي توقد وتسجر به، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 98]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6]، فهؤلاء الكفار هم الوقود الذي توقد وتسجر به النار، مع الحجارة.

و﴿ النارِ ﴾ هي الدار التي أُعدت لتعذيب.

قوله تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

قوله: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: دأب هؤلاء الكفار كدأب ﴿ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، والكاف: للتشبيه بمعنى: «مثل» والدأب: العادة والشأن والصنيع.

﴿ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ أتباعه وقومه.

والمعنى: دأب هؤلاء الكفار وشأنهم وحالهم في الكفر والتكذيب، وفي استحقاقهم العقاب كدأب وشأن آل فرعون، وفيه تخويف لهم.

وفرعون هو ملك مصر في عهد موسى عليه الصلاة والسلام، الذي كذَّب موسى وأنكر رسالته، وادَّعى الربوبية والألوهية فقال: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وقال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، وقال مهددًا موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29].

﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾؛ أي: والذين من قبل آل فرعون من الأمم، كقوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط وغيرهم.

﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ تفسير وبيان لدأبهم، أي: كذبوا بآياتنا الكونية والشرعية، وما جاء به الرُّسل من المعجزات.

﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ الفاء: عاطفة، والباء في قوله: ﴿ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ للسببية، و«الذنوب» جمع «ذنب» و«الذنب» في الأصل: التلو والتابع، ثم أطلق على الجريمة؛ لأنها يتلو - أي: يتبع - عقابها فاعلها.

والمعنى: فأهلكهم الله وعاقبهم بسبب ذنوبهم؛ أي: بسبب كفرهم ومعاصيهم التي تلبسوا بها وأصرُّوا عليها من غير توبة، فأهلك فرعون وقومه بالغرق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 39، 40]، وقال تعالى: ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ [الذاريات: 40].

وكان إهلاك فرعون وقومه بالغرق - والله أعلم - لأنه كان يفتخر بالماء والأنهار، كما قال تعالى عنه أنه قال: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51].

كما أهلك الله قوم نوح بالغرق، وأهلك عادًا بالريح الصرصر العاتية، وثمود بالصيحة، قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].

﴿ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، فيها تخويف وتحذير من التكذيب بآيات الله، أي: والله شديد الأخذ، قوي العقاب لمن كذَّب بآياته، لا يُقَدِّر أحد قَدْر شدة عقابه وعذابه، لا كمًّا ولا كيفًا ولا نوعًا، ولا غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

توعَّد عز وجل في الآيتين السابقتين الذين كفروا بالنار وبأخذهم كما أخذ المكذبين من قبلهم، ثم أكد ذلك وقرره بما فيه تحطيم لمعنوياتهم وتبديد لآمالهم بأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم بأنكم ستُغلبون في الدنيا وتحشرون إلى جهنم في الآخرة.

رُويَ عن ابن عباس- رضي الله عنهما- من طريق عكرمة وسعيد بن جبير قال: «لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدر، فقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع، فقال: «يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا». فقالوا: يا محمد، لا تغرَّنَّك نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾»[3].

هكذا أورده أكثر المفسرين وجعلوه سببًا لنزول هاتين الآيتين، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لو صح هذا.

قوله: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي أمره تعالى له صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة زيادة عناية واهتمام بها، كما في أمره صلى الله عليه وسلم أن يقول: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1]، ونحو ذلك. وإلا فهو في الأصل مأمور بتبليغ القرآن كله.

﴿ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ﴾ قرأ حمزة والكسائي وخلف بياء الغيبة: «سيغلبون ويحشرون» وقرأ الباقون بتاء الخطاب: ﴿ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ﴾.

أي: قل يا محمد للذين كفروا وكذبوك فيما جئت به من الحق من اليهود والنصارى والمشركين، وغيرهم من الكفار: ﴿ سَتُغْلَبُونَ ﴾ السين للتقريب، أي: ستغلبون قريبًا، أي: في الدنيا، أي: ستكون للمؤمنين الغلبة والظهور عليكم، والقهر لكم، كما قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].

﴿ وَتُحْشَرُونَ ﴾ أي: في الآخرة، أي: تجمعون وتساقون ﴿ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾ «جهنم» اسم من أسماء النار سميت به لجهمتها وظلمتها وبُعد قعرها وشدة حرها.

والمعنى: وتجمعون وتساقون إلى جهنم وتدخلون فيها.

﴿ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ الواو: استئنافية، و«بئس»: فعل جامد يفيد الذم، ﴿ الْمِهَادُ ﴾ الفراش الذي يفترشونه ويلتحفون به؛ كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 41]، وقال تعالى: ﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 16]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 55].

وهكذا حصل، فخسروا الدنيا والآخرة، غلبوا في الدنيا وسيحشرون إلى جهنم في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].

قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.

أمر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين مخبرًا ومتوعدًا لهم بأنكم ستغلبون، ثم وجههم لأخذ دليل ذلك ومصداقه من الواقع مما شاهدوه أو عايشوه أو سمعوه، وهو غلبة المسلمين في بدر مع قلة عددهم وضعف عدتهم للكافرين مع كثرتهم وقوة عدتهم.

قوله: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾ هذا من جملة مقول القول السابق، ويحتمل أن يكون استئنافًا.

﴿ قَدْ ﴾: للتحقيق، ﴿ لَكُمْ ﴾ الخطاب للذين كفروا من اليهود والمشركين وغيرهم ﴿ آيَةٌ ﴾؛ أي: علامة ودلالة على أنكم ستغلبون وعلى صدق الرسول، وأن ما جاء به حق، وأن النصر والغلبة والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

﴿ فِي فِئَتَيْنِ ﴾، ﴿ فِئَتَيْنِ ﴾: تثنية «فئة»، و«الفئة»: الطائفة والجماعة من الناس، أي: قد كانت لكم علامة ودلالة على صدق الرسول، وعلى صدق ما جاء به وأنكم ستغلبون، في طائفتين، وهما المسلمون والمشركون يوم بدر ﴿ الْتَقَتَا ﴾؛ أي: للقتال؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴾ [الأنفال: 15].

﴿ فِئَةٌ ﴾: مبتدأ، وخبره جملة ﴿ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ وهم المؤمنون، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأن المقام مقام تقسيم وتفصيل، كما في قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نُساء ويوم نُسر[4]




قوله: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: فئة مؤمنة؛ لمقابلتها بقوله تعالى: ﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾، ولقوله تعالى: ﴿ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، فاختار وصفها بهذا الوصف على التصريح بأنها مؤمنة؛ لما فيه من الدلالة على ذلك وأكثر، ففيه الدلالة على أنها مؤمنة؛ لأنه لا يقاتل في سبيل الله إلا المؤمنون، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76].

كما أن فيه الدلالة على أنهم في أعلى درجات الإيمان والإخلاص، وفي هذا امتداح لهم وتعظيم لشأنهم وتنويه بسمو هدفهم.

و«المقاتلة» المفاعلة بين طائفتين.

ومعنى: ﴿ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: تقاتل لإعلاء كلمة الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله»[5].

والمراد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والمؤمنون.

ومعنى ﴿ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: طريقه ودينه، ونصرة شرعه.

ولابد لكون القتال في سبيل الله من شرطين، هما: شرطا صلاح العمل:
الأول: الإخلاص لله تعالى، بأن يكون القصد منه إعلاء كلمة الله تعالى كما في الحديث.

والثاني: أن يكون موافقًا لشرع الله - عز وجل - بحيث يكون القتال عند وجود أسبابه، وتوافر أدواته، وأن يكون القتال تحت راية ولي أمر المسلمين أو من ينيبه، لا تحت راية عمياء، وأن تكون مصلحة المسلمين فيه ظاهرة، كالدفاع عن بلاد المسلمين ومقدساتهم وحرماتهم وخيرات بلادهم، أو نشر الدعوة الإسلامية وإزالة العوائق أمام دعاة الإسلام، ونحو ذلك، وأن لا يكون فيه بغي ولا اعتداء ولا نقض للعهود أو قتل لمن لم يقاتل كالنساء والصبيان وغيرهم.

﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ «أخرى» صفة لمقدر، أي: وفئة أخرى كافرة، وهم المشركون، وكانوا قريبًا من ألف؛ أي: وفئة أخرى كافرة مغترة بكثرتها، مفتخرة بقوتها، تقاتل في غير سبيل الله، بل في سبيل الطاغوت، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ﴾ [النساء: 76].

وفي الآية إيجاز يدل على بلاغة القرآن الكريم، فقد اكتفى بوصف الفئة الأولى بأنها ﴿ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ عن وصف الثانية بأنها تقاتل في سبيل الطاغوت. كما اكتفى بوصف الفئة الثانية بأنها كافرة عن وصف الأولى بأنها مؤمنة، فدل في كل جملة على ما لم يذكر في الجملة الأخرى.

﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾، قرأ نافع ويعقوب بتاء الخطاب: «ترونهم»، وقرأ الباقون بياء الغيبة: ﴿ يَرَوْنَهُمْ ﴾.

فعلى قراءة ﴿ يَرَوْنَهُمْ ﴾ الخطاب للفئة التي تقاتل في سبيل الله، وضمير الغيبة الهاء يعود إلى الفئة الكافرة، أي: تشاهدون أيها المؤمنون الكفار ﴿ مِثْلَيْهِمْ ﴾؛ أي: كثرهم مرتين، أي: كثرهم في الواقع والحقيقة مرتين.

وعلى قراءة: ﴿ يَرَوْنَهُمْ ﴾ بالغيبة، أي: يشاهد كل فريق منهم الفريق الآخر مثليهم أي: كثرهم مرتين، والضمير في ﴿ مِثْلَيْهِمْ ﴾ يعود إلى الفريق الرائي، أي: يرى المشركون المسلمين ﴿ مِثْلَيْهِمْ ﴾؛ أي: كثرهم مرتين مما كان سببًا في دخول الرعب في قلوبهم وهزيمتهم.

وقد يشكل على هذا أن المشركين بعثوا عُمر بن سعد يومئذٍ قبل القتال يحْرز لهم عدد المسلمين، فأخبرهم أنهم ثلاثمائة يزيدون قليلًا أو ينقصون قليلًا، فهم لديهم خبر بعدد المسلمين ولو على وجه التقريب.

ويرى المسلمون المشركين ﴿ مِثْلَيْهِمْ ﴾؛ أي: كثرهم مرتين في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم.

ويشكل على هذا أن المشهور والذي عليه الجمهور أن المشركين ما بين التسعمائة إلى الألف. ففي حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الرجل الذي جيء به إليه، فقال: «كم ينحرون من الجزور؟»، قال: عشرة كل يوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ألف»[6].

وفي حديث عروة بن الزبير أنه سأل الرجلين اللذين جيء بهما إليه، فقال: «كم ينحرون؟»، قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا. قال صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف»[7]، فهم على هذا التقدير ثلاثة أمثال المسلمين.

وقد وجه هذا ابن جرير وجعله صحيحًا كما تقول: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها أي: إلى ألفين معها، أي: أنك محتاج إلى ثلاثة آلاف، وعلى هذا يزول الإشكال[8].

ويحتمل عود الضمير في ﴿ مِثْلَيْهِمْ ﴾ إلى الفريق المرئي، أي: يرى كل فريق منهم عدد عدوه مضاعفًا، والأول أقرب.

﴿ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ ﴿ رَأْيَ ﴾: مصدر مؤكد لقوله: ﴿ يَرَوْنَهُمْ ﴾ أي: مشاهدة العين، أي: يرونهم بعيونهم وأبصارهم.

فالرؤية بصرية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44].

﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾، ﴿ يُؤَيِّدُ ﴾: يقوي، ﴿ نَصْرِهِ ﴾، الباء: للسببية، أي: بسبب نصره.

﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾، ﴿ مَنْ ﴾: موصولة؛ أي: الذي يشاء ويريد كونًا نصره من عباده، ممن تقتضي حكمته نصره.

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ المشار إليه: ما سبق في الآية، من قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ﴾ إلى هنا ﴿ لَعِبْرَةً ﴾؛ أي: اعتبارًا وعظة.

﴿ لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾؛ أي: لأصحاب الأبصار؛ أي: إن في ذلك التقليل والتكثير، وغلبة الفئة القليلة من المسلمين للفئة الكثيرة من الكافرين اعتبارًا وعظة لأصحاب العقول والبصائر، كما أن في ذلك دلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه على الحق، وتحقيق بشارة المؤمنين بالنصر ووعيد الذين كفروا بأنهم المغلوبون، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَا ﴾ [آل عمران: 12].

وهكذا حصل، فقد تم النصر للمسلمين، وغُلب أهل الكفر من اليهود والمشركين وغيرهم، فقتل بنو قريظة، وأجلي بنو النضير، وفتحت خيبر، وأخذت الجزية ممن بقي من اليهود، وتوالت الهزائم على المشركين في معارك الإسلام، وفتحت مكة، وظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا.

[1] سبق ذكر أقسام الكفر في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6].

[2] أخرجه البخاري في الأذان (844)، ومسلم في المساجد (593)، وأبو داود في الصلاة (1505)، والنسائي في السهو (1341)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

[3] أخرجه من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس- أبوداود في الخراج والإمارة والفيء- كيف كان إخراج اليهود من المدينة (3001)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 239)، والبيهقي في «سننه» (9/ 183)، ومحمد بن أبي محمد مولى زيد قال عنه ابن حجر في «التقريب» (6276): «مجهول»، وقال عنه الذهبي في «الميزان» (4/ 26): «لا يعرف». وقد أخرجه الطبري (5/ 239) أيضًا من طريق محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: «لما أصاب الله قريشًا يوم بدر- وذكره بنحوه، وكذا أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 604)، وانظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 47)، وأخرجه الطبري (9/ 240)- مختصرًا من طريق ابن جريج عن عكرمة موقوفًا عليه، وقال ابن حجر في «فتح الباري» (7/ 386): «إسناده حسن».

[4] البيت لنمر بن تولب. انظر: «ديوانه» (ص 347).

[5] سبق تخريجه.

[6] أخرجه أحمد (1/ 117)، وأخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 247-248).

[7] أخرجه ابن إسحاق. انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 616-617)، وأخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 248).

[8] انظر: «جامع البيان» (5/ 250)، «تفسير ابن كثير» (2/ 13).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #440  
قديم يوم أمس, 08:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,351
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



فوائد وأحكام من قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... ﴾


قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 10 - 13].

1- أن الكفار لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، فلن ترفع ما وقع عليهم من عذاب الله تعالى، ولن تمنع عنهم ما لم يقع، ولا تعوضهم ما فقدوا من رحمة الله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾، وهذا بخلاف المؤمنين فإنهم ينتفعون بأموالهم بالصدقة، وبأولادهم بالدعاء ونحو ذلك وتكون من أسباب رحمة الله تعالى بهم.

2- إثبات الملكية الخاصة للكفار؛ لقوله تعالى: ﴿ أَمْوَالُهُمْ ﴾، فلا يجوز استباحة أموالهم إلا إذا كانوا محاربين للمسلمين.

3- أن أولاد الكفار ينسبون إليهم؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْلَادُهُمْ ﴾.

4- إمداد الله للكفار بالأموال والأولاد كغيرهم؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20].

5- قدرة الله تعالى التامة وقوته التي لا تقهر، ونفوذ أمره فلا تغني الكفار أموالهم ولا أولادهم منه شيئًا.

6- الحذر من الانشغال بالأموال والأولاد عن طاعة الله تعالى، ومن الاغترار بها فهي قد تضر ولا تنفع.

7- أن الكفار هم وقود النار؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾.

8- التحذير من الكفر والوعيد للكافرين بالنار.

9- إثبات النار وعذابها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقُودُ النَّارِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾.

10- سلوك الكفار من هذه الأمة مسلك آل فرعون والذين من قبلهم بتكذيب آيات الله؛ لقوله تعالى: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾.

11- تكذيب آل فرعون ومن قبلهم بآيات الله وشدة تكذيب آل فرعون وطغيانهم، للتنصيص عليهم دون غيرهم، كيف؟! وقد ادعى فرعون الربوبية والألوهية.

12- إقامة الله - عز وجل - الحجة على الخلق بما آتاهم من الآيات الكونية والشرعية الدالة على ربوبيته وألوهيته وكمال صفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾.
13- تعظيم الله - عز وجل - لنفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ بضمير العظمة؛ لأنه العظيم سبحانه وتعالى.

14- أخذه - عز وجل - لفرعون وقومه والمكذبين قبلهم بآيات الله، وإهلاكهم بسبب ذنوبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وفي هذا رد على من زعم أن فرعون نجا من العذاب مستدلًا بقوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92].

وليس المراد في هذه الآية أنه نجا من العذاب، وإنما المراد بها أن الله أنجاه ببدنه؛ أي: بجثته فقط؛ حيث رمى بها الموج خارج البحر؛ ليتأكد بنو إسرائيل من هلاكه، فيطمئنوا لأنه قد أرعبهم وأرهبهم بجبروته، فلا يكادون يصدقون بأنه هلك حتى يعاينوا جثته، وليكون آية لمن خلفه، أما روحه فهي في العذاب، كما قال تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46].

15- التهديد والوعيد للمكذبين من هذه الأمة بأخذهم وإهلاكهم بسبب ذنوبهم كالمكذبين من آل فرعون ومن قبلهم.

16- تشابه مواقف المكذبين بآيات الله ورسله، كما قال تعالى: ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 53].

17- أن ما يصيب الناس من عقوبات إنما هو بسبب ذنوبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾، ومفهوم هذا إثبات العدل له - عز وجل - فلا يعاقب أحدًا إلا بذنب، ولا يظلم أحدًا من خلقه.

18- إثبات الأفعال الاختيارية للعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ فأضاف الذنوب إليهم، وقوله تعالى: ﴿ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، فأضاف الفعل إليهم، وفي هذا رد على الجبرية الذين ينفون الاختيار للإنسان، ويقولون: إنه كالسعفة في الهواء ونحو ذلك.

19- شدة وقوة عقاب الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.

20- التحذير من عقاب الله وشدته.

21- أن القرآن من عند الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾، وفي هذا رد على من يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم افترى القرآن وتقوله من عند نفسه.

22- أهمية هذا الخبر الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يبلغه للكافرين؛ لقوله تعالى: ﴿ قل ﴾.

23- تخويف الكافرين وإرعابهم وإرهابهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ﴾.

وفي هذا بشارة للمؤمنين بالغلبة وتقوية لقلوبهم ومعنوياتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]، ووعد الله لا يتخلف إذا صدق المسلمون الله.

24- الوعيد والتهديد للكافرين بجمعهم وحشرهم إلى جهنم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾.

25- الجمع للكافرين بين عقوبة الدنيا والآخرة؛ عقوبة الدنيا بهزيمتهم وغلبة المؤمنين لهم، وعقوبة الآخرة بجمعهم وحشرهم إلى جهنم.

26- شدة ظلمة النار وجهمتها وحرها، وبعد قعرها؛ لهذا سميت جهنم؛ لقوله تعالى: ﴿ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾.

27- ذم جهنم وأنها بئست المهاد والفراش؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾.

28- ضرب الأمثال والتوجيه لأخذ العبر والعظات من الأمور والأحداث الواقعة؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾ الآية.

29- زيادة التصديق والطمأنينة في ربط الخبر والوعيد بحدث وأمر واقع مشاهد محسوس ليجتمع للمخاطب مع علم اليقين- وهو الخبر الصادق- عين اليقين وهو مشاهدة الحدث الواقع؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].

فهو عليه الصلاة والسلام مؤمن مصدق بأن الله يحيي الموتى، ولكنه أراد أن يجمع الله له مع علم اليقين عين اليقين، فيرى ذلك بعينه. وفي الحديث: «ليس الخبر كالعيان»[1].

30- أن القتال المشروع ما كان في سبيل الله، أي في سبيل إعلاء كلمة الله، خالصًا لله تعالى، موافقًا للشرع؛ لقوله تعالى: ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

31- أن الغلبة والنصرة ليس بكثرة العدد والعدة، وإنما ذلك بتأييد الله تعالى ونصره للذين صدقوا الله في القتال في سبيله؛ لقوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

كما قال تعالى: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]، وقال تعالى: ﴿ لَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ﴾ [الحج: 40، 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].

وهكذا كانت الغلبة والنصرة للمؤمنين في عهود الإسلام الزاهرة، وفاءً بوعد الله تعالى بقوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

أيام كان المسلمون أعزة
في دينهم والعود صلب المكسر
أيام كان الدين ملء نفوسهم
وأتوا على كسرى العظيم وقيصر[2]


32- أن ما كان من القتال في غير سبيل الله فهو في سبيل الكفر وأهله، سبيل الطاغوت؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ﴾، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76].

33- أن الله عز وجل قد يُري المقاتلين من كل فئة الفئة الأخرى مثليهم ليكون ذلك من أسباب نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين؛ لقوله تعالى: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾.

ولا يعارض هذا قوله تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44]، فهذا في حال وذاك في حال أخرى.

فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأوهم مثليهم، ليستعد المسلمون ويتوجهوا إلى الله في طلب العون والنصر، وليحصل للكفار الخوف والرعب والوهن، وعندما التحم الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء وهؤلاء في أعين هؤلاء؛ ليقدم كل منهما على الآخر، ويتم ما أراده الله من نصر المسلمين وهزيمة الكافرين، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل.

عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.

قال: هذا يوم بدر؛ قال عبدالله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضعِفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا، وذلك قول الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44] [3].

وقيل: قللوا في أعين بعضهم أولًا ليجترئ كل منهما على الآخر، ثم لما التحم القتال رأى كل فريق الآخر مثليهم.

34- الإشارة إلى أنه ليس الخبر كالعيان؛ لقوله تعالى: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾.

35- تأييد الله تعالى بنصره من يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

36- إثبات الأفعال لله تعالى، والمشيئة، وأنه تعالى يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾[البروج: 16]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1].

37- الترغيب في التوجه إلى الله تعالى وسؤاله النصر، والتوكل عليه مع بذل أسباب النصر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾.

38- أن فيما ذكر من التقاء الفئتين المتقاتلتين، ورؤية إحداهما الأخرى مثليها، وتأييد الله بنصره للفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة عبرة وعظة لأصحاب الأبصار والبصائر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.

39- أنه لا يعتبر بالوقائع والأحداث إلا أصحاب البصائر؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.

40- الترغيب في أخذ العبرة والعظة من الوقائع؛ لأن الله أثنى على أهل البصائر وخصَّهم بالاعتبار، ويفهم من هذا ذم أهل الغفلة وعمي القلوب والبصائر.

[1] أخرجه أحمد (1/ 215)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[2] البيتان للشاعر محمد صادق عرنوس، من قصيدة نشرها في صحيفة الفتح، العدد 207، بتاريخ 14 صفر 1349هـ. انظر: «الوحدة الإسلامية في الشعر العربي الحديث» (ص166). والبيتان فيه بلفظ:
أيام كان المسلمون بحالة
مرهوبة والعود صلب المكسر
أيام كان الدين ملء قلوبهم
فأتوا على كسرى العظيم وقيصر


[3] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (5/ 246)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 606).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 344.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 338.79 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]