السنن الربانية في الاقتصاد - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الاكتفاء بسماع أذكار الصباح والمساء عند قولها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الفرق بين صلاة التراويح وصلاة القيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          قراءة القرآن بصوت مرتفع في المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الفرصة الأخيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ترزقوا وتنصروا وتجبروا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          لا سمَرَ إلَّا لِمُصَلٍّ ، أوْ مُسافِرٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          على أبواب العشر الأواخر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          رمضان شهر الإقبال على مجالس العلم والعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          التغيير الشامل في رمضان .. هل هو ممكن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          تاريخ غزوة بدر .. الميلاد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-04-2020, 05:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي السنن الربانية في الاقتصاد

السنن الربانية في الاقتصاد


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




ضرورة فهم السنن الربانية


الحمد لله رب العالمين، وخالق الناس أجمعين؛ زين السماء بالنجوم ورفعها، ووضع الأرض للبشر وذللها، ودلهم على أرزاقها وخيراتها، وسخر لهم ما فيها {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يقع شيء في الأرض إلا بأمره، ولا يقضى شأن إلا بعلمه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحمن: 29] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى لنا هاديا ومعلما، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أقاموا دين الله تعالى في أنفسهم وأمتهم، فصلحت لهم أمور الدين والدنيا، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وجعل دار الخلد مأواهم، والتابعين لهم بإحسان.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فما أحوجنا لتقوى الله تعالى في زمن فاضت علينا النعم والخيرات حتى اعتدناها، وأحاطت بنا المخاطر والأزمات حتى خفناها، ولا نجاة إلا بالله تعالى، ولا مخرج من المضايق إلا بتقواه {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق: 2-3].


أيها الناس: من المتقرر عند المسلم أن الله تعالى وهب الناس حياتهم، وكتب أرزاقهم، وسخر الأرض وما فيها لهم {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وفي آية أخرى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].


وهذا الهبات الربانية، والتسخير الإلهي له سنن جعلها الله تعالى للناس في الأرض؛ فمن عقلها وأخذ بها؛ نال بحبوحة العيش، وأَمِن من الجوع وزوال الرزق.


وقد دعانا ربنا جل جلاله للنظر في هذه السنن وفهمها، والعمل بمقتضاها؛ ليكتمل لنا عيشنا، ولئلا يصيبنا ما يكدره أو يقلبه إلى خوف وجوع وقلة {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] وهؤلاء المكذبون لم يعقلوا سنن الله تعالى في الأرض فحادوا عنها فكان الهلاك عاقبتهم، وقوم شعيب عليه السلام كان من أسباب عذابهم حيدتهم عن سنن الله تعالى في الاقتصاد والمعاملات، وغشهم في البيع والشراء.


والسنن الربانية هي طريقة الله تعالى وقانونه في معاملة البشر، وهي سنن مضطردة لا تتخلف ولا تتبدل ولا تتحول ولو اختلف الزمان والمكان؛ ولذلك أحال الله تعالى عليها في كثير من الآيات القرآنية {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77] وفي آية أخرى {سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] وفي آية ثالثة {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].


وهذه السنن الربانية تدل على اختيار الإنسان ومسئوليته، وأن العذاب لا يصيبه إلا بما اقترفت يده، وأن نجاته تكون بتعلم هذه السنن وفقهها وموافقتها، والبعد عن معارضتها، ومن رحمة الله تعالى بنا أنه ما أخفاها عنا، بل كشفها لنا في وحيه المنزل لنقرأها ونفقهها ونعمل على وفقها.


إنها سنن تستجيب لمن يوافقها ولو كان ضعيفا، وتستعصي على من يعارضها ولو كان قويا جبارا.


ومن العجيب أن انقياد السنن لمن يأخذ بها ويوافقها هو أيضا سنةٌ من سنن الله تعالى في عباده، كما أن استعصاء سنة الله تعالى على من يعارضها ويخالفها سنة من سننه عز وجل.


والقواعد الاقتصادية المبثوثة في القرآن والسنة هي من سنن الله تعالى القطعية في هذا المجال المهم، والقوانين البشرية الاقتصادية هي احتمالية؛ لأنها من نتاج العقل البشري، فإذا عارضت هذه القوانين البشرية سنن الله تعالى فهي فاشلة؛ لأن القطعي أقوى من الاحتمالي.


وهذا هو أهم سبب لإخفاق النظريتين الاقتصاديتين الاشتراكية والرأسمالية، ونجاح النظام الإسلامي الاقتصادي، حتى صار أعداؤه من الغربيين ينادون بتطبيقه في هذا الظرف الاقتصادي الحرج، ولم ينادوا بالنظام الاشتراكي لثبوت فشله أيضا، ولا يُعرف في التاريخ فشل للنظام الاقتصادي الإسلامي مع أنه أقدم من النظامين الرأسمالي والاشتراكي بقرون كثيرة.


إن فهم هذه السنن الربانية في الاقتصاد والمال هو أهم ما يعين على معرفة أسباب الانتكاسة المالية العالمية في الفكر الرأسمالي؛ وإلا فإن التحليلات المادية، والحلول البشرية لن تجدي شيئا أمام سنة ربانية عارضوها، ومهما بلغت الحلول العاجلة والإسعافات الطارئة فلن تكون إلا مجرد حبال بالية قد مُدَّت لغريق يصارع الموت في لجة محيط مضطرب لا تلبث إلا يسيرا فتنقطع ويغرق.


إن من تدبير الله تعالى في الرزق أن الله سبحانه لما خلق الأرض وأسكنها البشر قدَّر فيها ما يحتاجونه من كل شيء: من هواء وماء وطعام ولباس ونار وغير ذلك {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وفي آية أخرى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]. وبخصوص الرزق في الأرض قال الله سبحانه {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصِّلت: 10] فقدر تعالى في الأرض من الرزق ما يستوعب البشر كلهم مهما بلغت كثرتهم، وعظم استهلاكهم ، فهو سبحانه خالقهم ورازقهم.


فكان من الأوامر الإلهية للبشر لاستمرار الرزق والأمن إقامةُ العدل، واجتناب الظلم؛ لأن الظلم قد ينشأ عن اعتقاد كثرة البشر، وقلة الرزق، فيظنون أنه لا ظفر بالرزق إلا بالقوة وسحق الضعفاء؛ لئلا يشاركوا الأغنياء في أرزاق الأرض، فيكون هذا المعتقد الخاطئ هو سببَ الظلم والبغي والفساد في الأرض، وهو ما وقع فيه البشر لما حادوا عن هدى الله تعالى وشريعته.


وكان من سنة الله تعالى في ذلك إهلاكُ الأقوياء إذا ظلموا، وإصابتهم بالقوارع والكوارث إذا اعتدوا على الفقراء، وهو ما وقع من الدول الرأسمالية على غيرها من الدول، بل وقع في الدولة الرأسمالية الواحدة حين انتهب أغنياؤهم أموال فقرائهم بالربا والتأمين والغش والاحتكار {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] وفي آية أخرى {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} [الأنبياء: 11] وفي آية ثالثة {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ} [الحج: 48].


وما قرره الله تعالى في القرآن الكريم من أن أرزاق الأرض مقدرة على عدد البشر، وأن خيراته سبحانه تكفيهم مهما بلغت كثرتهم؛ يبطل نظرية مالتُس وأتباعه التي كان لها أثر كبير في الفكر الرأسمالي المتسلط، وملخصها: أن ما في الأرض من موارد لن يكفي البشر، ولا بد من التخلص من بعضهم ليعيش البعض الآخر، فكانت الحروب تُفتعل في دول العالم الثالث لأجل ذلك، فتنهب ثرواتهم، وتستعمر بلدانهم، ويقتل بشرهم، وتجوع أسرهم؛ لضمان رفاهية الدول الرأسمالية وشعوبها، وهذا الظلم العظيم كان مبناه على هذه النظرية الباطلة، وكان فيه معارضة لسنة الله تعالى الثابتة في أخذ الظالمين.


ومن العجيب أن هذا الفكر المنحرف، وتلك النظرية الخبيثة عارض بها كثير من المسلمين سنن الله تعالى، فغرتهم قوة الرأسماليين، وبنو اقتصادهم على وفق منهجه الفاسد، وظهرت نتائج ذلك للعيان، ويُخشى من أزمة جارفة لا تبقي ولا تذر، وصدق الله تعالى، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذب الرأسماليون ونظرياتهم {وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126].


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم......





الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأنيبوا إليه، وتوكلوا عليه، وسلِّموا لأمره، واجتنبوا نهيه، وارضوا بقدره {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].


أيها المسلمون: الأمن والشبع نعمتان يطلبهما كل الناس، والخوف والجوع عقوبتان يفرون منهما، والهجرات الجماعية من الدول المضطربة، وترك الناس بيوتهم التي عمروها، ومفارقة ديارهم التي نشئوا فيها، والبحث عن غرباء يؤوونهم، ويتجرعون عندهم كأس الذل والهوان، إنما هو بسبب الفرار من الجوع والخوف، وطلب الأمن والرزق.


والدول الحديثة ليست كالدول القديمة، وشعوب اليوم ليست كشعوب الأمس؛ فالدول القديمة قد تهتز وتسقط ويخلفها غيرها، ولا يتضرر الناس كثيرا بذلك، أما الدول الحديثة فإن أغلبها قد ربطوا اقتصادهم وعملاتهم بالدول الكبرى التي إذا انهار اقتصادها تبعتها في الانهيار والسقوط عشرات الدول، واضطربت الأسعار، وأضحت الأوراق النقدية لا تساوي شيئا وإن امتلأت بها البنوك.


وشعوب الأمس كانت تعيش حالة من القلة والضراء فهي أقدر على تحمل النكسات الاقتصادية من شعوب اليوم المتخمة بالترف والثراء؛ ولأجل ذلك فإن من يستشرفون مستقبل هذه الأزمة المالية الضخمة، ويحللون أبعادها وآثارها من المختصين يحذرون من كوارث بشرية متلاحقة لا يُعلم مداها الذي تنتهي إليه، ولا ما تخلفه من أضرار جسيمة، وعواقب وخيمة.


وواجب على المسلم إن أراد موقفا صحيحا في مثل هذه الكوارث المتوقعة أن يَصْدُرَ عن الكتاب والسنة؛ ففيهما الرشاد للمسترشدين، ودلالة التائهين، ومن أخذ بهما فلن يَضِل أبدا.


إنه لن يحصل شيء كَبُر أو صَغُر إلا بعلم الله تعالى وقدره، فحق على العباد أن يلجئوا إليه سبحانه في كل ما يحاذرونه من كوارث ومشكلات {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63-64] وروى عبد الله بن عَمْرِو رضي الله عنهما قال: سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كَتَبَ الله مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قبل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: وَعَرْشُهُ على الْمَاءِ)) رواه مسلم


وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: ((جاء مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ: يوم يُسْحَبُونَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) رواه مسلم.


ونحمد الله الذي لا إله إلا هو أن مقادير كل شيء بيده، وهو الحكم العدل الرحيم بعباده، ولم يترك ذلك لعباده وهم أهل الجهل والظلم، فلنؤمن بالله تعالى، ولنعلق قلوبنا به سبحانه، ولنتوكل عليه، ولنسلم أمرنا إليه؛ فهو أرحم بنا من الناس.


ولنعلم أن ما أصاب البشر، وما يتوقعونه من نكسات مالية ضخمة يتداعى معها الغنى والأمن، وينتشر الجوع والخوف في الأرض ما هو إلا بسبب ذنوب العباد فكم حاربوا الله تعالى في مشارق الأرض ومغاربها بالربا والظلم، وأنواع الغش والبيوع المحرمة، والمعاملات الفاسدة، وقد كانوا يظنون أنهم في منأىً عن العقوبة الربانية، وقد عارضوا سنن الله تعالى في خلقه، وخالفوا شرعه {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30].


ولا نجاة من العذاب إلا بالتوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها، سرها وعلانيتها كما رفع الله تعالى العذاب عن قوم يونس لما تابوا {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].


وبما أن هذه الأزمة المالية العالمية وما سينتج عنها ما هي إلا من قدر الله تعالى فإننا مأمورون أن نتعوذ بالله تعالى من سوء القدر، وأن نسأله أن يرده عنا؛ فإن الدعاء يرد القدر كما جاء في الحديث، وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تَعَوَّذُوا بِالله من جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ)) رواه الشيخان واللفظ للبخاري.


ألا فتوبوا إلى الله تعالى من ذنوبكم، وسلوه العافية لكم ولأمتكم، وَاعْلَمْوا أَنَّ الْأُمَّةَ لو اجْتَمَعَتْ على أَنْ يَنْفَعُوكَم بِشَيْءٍ لم يَنْفَعُوكَم إلا بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله لكم، وَلَوْ اجْتَمَعُوا على أَنْ يَضُرُّوكَم بِشَيْءٍ لم يَضُرُّوكَم إلا بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ الله عَلَيْكَم رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ.


وصلوا وسلموا على نبيكم.....






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-04-2020, 05:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السنن الربانية في الاقتصاد

السنن الربانية في الاقتصاد (2)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


الأرزاق بين البركة والمحق



الحمد لله الغفور التواب، الكريم الوهاب؛ خلق الخلق ودبرهم، وكَفَل أقواتَهم وأرزاقَهم، نحمدُه على ما أعطى، ونشكرُه على ما أولى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تبارك اسمُه، وتعالى جدُه، ولا إله غيرُه {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزُّخرف:84-85]. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى بالدين المبارك الذي عمَّت بركتُه الأرضَ جميعا، وأنزل عليه كتابا مباركا يهدي العباد للتي هي أقوم في الأمور كلها {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنه مالك الملك، ومدبر الأمر، ورازق الخلق، وذلك من بركاته سبحانه وتعالى على عباده {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [غافر: 64]. وفي دعاء الوتر نقول: إِنَّهُ لَا يَذِلُّ من وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ.رواه أهل السنن.


وعقب كل صلاة نقول في أذكارها البعدية: اللهم أنت السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.رواه مسلم


وهذا الاعتراف الدائم بتبارك الرب جل جلاله هو طلب للبركة منه سبحانه في أمورنا كلها؛ لمسيس حاجتنا إلى البركة التي هي سبب السعادة وهناء العيش ورغده، وخوفا من المحق الذي هو سبب الشقاء والتعاسة والفقر والجوع.


إن البركة والمحق وصفان مؤثران في الأرض وما فيها من أرزاق وأموال، وهما من أفعال الرب جل جلاله، فإذا بارك رزقا قليلا وَسِع الناس كلَّهم مهما بلغوا، وإذا محق شيئا لم يكف صاحبه ولو كان كثيرا، وكما أن البركة هي كثرة الخير ودوامه ولو بدا للناس قليلا، فإن المحق قلةُ الشيء وزواله ولو كان في أعين الناس كثيرا.


وأهل الإيمان يعرفون ذلك بنصوص الكتاب والسنة بخلاف الملاحدة الماديين الذين ينكرون الغيب، ولا يؤمنون إلا بالعد والحساب والإحصاء والميزان، ويظنون أن الله تعالى لما خلق الخلق ضيعهم فلم تكفهم أرزاقهم، وبنظرتهم التشاؤمية، وسوء ظنهم بالله تعالى أوبقوا أنفسهم، وأضروا بغيرهم.


إن ربنا جل جلاله موصوف بالغنى والجود؛ فهو سبحانه الغني الحميد الجواد الكريم {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ} [سبأ: 24] وقال النبي صص: إِنَّ يَمِينَ الله مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ فإنه لم يَنْقُصْ ما في يَمِينِهِ.رواه الشيخان.


ومن جوده وكرمه جل جلاله أن يبارك في أرزاق عباده حتى يكفي قليلها كثيرهم، وهو عز وجل حين خلق الأرض، وبسط فيها الرزق، وجعلها مساكن للبشر؛ بارك سبحانه في منافعها ومواردها وأرزاقها فهي تكفي البشر مهما بلغت أعدادهم، وهذه البركة في الأرض ثابتة بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى يصف خلقه للأرض {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصِّلت: 10] وهذه البركة ثابتة بالحس؛ فإن الناس يقتطعون جزء يسيرا من الأرض يزرعونه فينتج من الطعام ما يشبع عددا كثيرا منهم، وأكثر المزارعين في مشارق الأرض ومغاربها يعيشون وأسرَهم طوال حياتهم على ما تنتجه أراضيهم من خيرات، وأكثر البلاد الفقيرة يعيش أفرادها على الزراعة، ولولاها لهلكوا، بدليل أن البلاد التي يحبس عنها المطر، ويصيبها الجفاف يهلك أفرادها من الجوع.


والله سبحانه وتعالى لما بارك الأرض جعل لبركة الخيرات فيها أسبابا إن أخذ الناس بها بارك الله تعالى لهم في أرزاقهم فكفتهم وفاضت عنهم ولو بدت للناس قليلة، كما جعل سبحانه للمحق أسبابا إن أتاها الناس محقت بركة أرزاقهم فلا تكفيهم ولو كانت كثيرة.


إنها سنة ربانية في الرزق والمال والمعاملات التجارية، لا تتبدل ولا تتحول؛ إنْ فهمها البشر وعملوا بمقتضاها بورك لهم في أرزاقهم وأموالهم، فلم يشتكوا ندرة ولا قلة، ولم يجدوا بخسا ولا نقصا، وإن عارضها البشر جرت فيهم سنة الله تعالى فمحقت أرزاقهم، وذهبت بركة إنتاجهم.


ونجد هذا القانون الرباني واضحا كل الوضوح في قول الله تعالى {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] وفي قوله سبحانه {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ الله وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} [الرُّوم: 39].


إن الربا يزيد المال في الظاهر فتهفوا النفوس إليه، وإن الزكاة تُنقص المال في الظاهر فيحجم الناس عنها، ولكن سنة الله تعالى تقضي بأن هذه الزيادة في الربا تعود على المال وصاحبه بالمحق، كما أن الجزء المزُكى يعود على المال وصاحبه بالبركة النماء؛ ولذا قيل في الزكاة إنها النماء والزيادة، وهذه السنة الربانية المحكمة يعرفها المؤمنون لأنهم يؤمنون بالغيب، ويجهلها الماديون لأنهم ينكرون الغيب.


ومن سنة الله تعالى مباركة الأموال بالتجارة الحلال، والصدق في البيع والشراء، فتلحق بركة أرباحها المال كله، فيكون مالا مباركا، كما أن من سنته سبحانه محق الأموال بالبيوع المحرمة، والمعاملات الفاسدة المبنية على الكذب والغش والضرر والاحتكار، فيحيط المحق بأصحابها وأموالهم، وقد دل على هذه السنة الربانية أحاديث كثيرة منها: حديث حَكِيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا رواه الشيخان. وفي حديث أبي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سمع رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ في الْبَيْعِ فإنه يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ رواه مسلم.


ولو أنعمنا النظر في هاتين السنتين الربانيتين القاضيتين بأن المال يتبارك بالزكاة وبالصدق والنصح في العقود والتجارة، وأن المال يُمحق بالربا وبالكذب والغش في التجارة، ثم نزّلنا هاتين السنتين على واقع البشر فإننا سندرك يقينا أن المحق قد حاق بالبشر في أرزاقهم بسبب انتشار الربا في أموالهم، وتفشي المحرمات في عقودهم ومعاملاتهم، وأن البركة نُزعت من أرزاقهم بسبب منع الزكاة، وقلة الصدق والنصح في العقود والمعاملات.


وهذا هو السبب الحقيقي الذي يُغفله الناس في تلك الأزمات المالية المتلاحقة، التي تنذر بخطر كبير، نسأل الله تعالى العافية لنا وللمسلمين أجمعين، كما نسأله سبحانه الثبات على الدين، إنه سميع مجيب.


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279].


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.....


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].


أيها المسلمون: لنوقن تمام اليقين أن الله تعالى ما ضيع البشر حين خلقهم، وأنه سبحانه قد كفل أرزاقهم، وما من مولود يفد إلى الدنيا إلا ورزقه معه، ولكن البشر أفسدوا في الأرض، حتى ضاقت الأرزاق، ونزعت البركات.


إن الأرض في القرن الأخير قد فاضت بالخيرات، وتحررت فيها التجارات عقب الثورة التجارية، ثم اتسعت الأرزاق أكثر بعد الثورة الصناعية، وزادت أكثر وأكثر بعد ثورتي الاتصال والمواصلات، ولكن الفقر ازداد في الأرض، وكثر الجوع، وتبع ذلك اختلال الأمن، واضطراب الأحوال.


بل بلغ من بطر الناس، وإفسادهم في الأرض عقب السيادة الرأسمالية أن موارد الأرض، وأرزاق البر والبحر؛ قد استُنزف منها خلال مئة سنة فقط أكثر مما استُنزف خلال القرون السالفة منذ خلقت الأرض إلى ما قبل مئة سنة.


والمصانع العملاقة المتعددة تدور آلاتها في الليل والنهار لتنتج ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وآلات الزراعة تستخرج المياه من أعماق الأرض، ويُزرع بها من مساحات الأرض ما لا يدركه البصر، فتُملأ المخازن بملايين الأطنان من الغذاء، ومع ذلك فإن ملياري إنسان تحت خط الفقر، أي ما يقارب ثلث البشر، فأين هذا الإنتاج العظيم من الطعام والكساء عن أفواههم وأجسادهم؟!


إن الفساد الرأسمالي في الفكر والتصور والإدارة والعمل قد تسبب في محقٍ عظيم أحاط بالبشر في كل بقاع الأرض، وأسبابُ هذا المحق جاءت به الرأسمالية المتوحشة؛ فالربا الذي هو الركن الأول للمحق لم يكتف الرأسماليون بالتعامل به فحسب، بل فرضوه نظاما ماليا عالميا كان سببا لمحق أموال الناس في كل مكان، والآن يجنون بعض ثماره الفاسدة، ويعانون من محقه الأكيد.


وأما المعاملات المحرمة فأكثر من أن تُحصى في نظامٍ أطلق لكبار المرابين والمقامرين والمتوحشين أن يمتصوا دماء الناس، وينتهبوا أموالهم، ويلعبوا بعقولهم، ويغشوهم في تجاراتهم عبر الدعايات الكاذبة للمنتجات الاستهلاكية التي تنفق الشركات المنتجة أموالا طائلة عليها، لا هدف لها إلا التسويق وخداع المتلقين عنها بأي وسيلة، حتى حولوا الناس إلى مستهلكين دائمين لا ينفكون عن الاستهلاك والإسراف ولو استدانوا لذلك وافتقروا، فكان فعلهم هذا من أعظم الغش والكذب والغرر في التجارات، وتسويق المنتجات، وقد علمنا أن المحق من سنة الله تعالى في أموال أهل الكذب والغش.


وفي مقابل ذلك مُنعت الزكاة؛ لأن الرأسماليين لا يؤمنون بها ولا بأي إحسان ليس له عائد محسوس، وكثير من المتعاملين بالربا من المسلمين لا يؤدون الزكاة، وربما تحايلوا لإسقاطها.


إن أسوأ ما في النظام المالي المهيمن على العالم في هذا العصر أنه شرَّع أسباب المحق ونشرها وفرضها، وحارب أسباب البركة وحال بينها وبين أكثر الناس، وبهيمنة هذا النظام المالي الفاسد عمَّ المحق أموال البشر، ونُزعت البركة من أرزاقهم.


ثم كانت الجريمة الكبرى في ادعائهم أن الأرض لا تسع البشر، وأن مواردها لا تكفيهم، وبناء على ذلك احتكروا موارد الأرض لدولهم وشعوبهم، وحبسوها عن بقية الدول والشعوب، فحاصروها وأفقروها وجوعوها حتى بلغ من ظلمهم أن خمسة عشر بالمئة من البشر ينفقون خمسة وثمانين في المئة من ثروات الأرض، بينما يقتسم خمسة وثمانون بالمئة من البشر خمسة عشر بالمئة من موارد الأرض.


وهذا من أعظم الظلم والبغي ولا سيما أن شعوبا يموت منها كل يوم آلاف من الجوع، ودولا تعاني من الفقر والإفلاس، حتى أُعلن بالأمس أن باكستان أفلست، وأن كارثة ستحل بها خلال أيام إن لم يتم إنعاش اقتصادها، ثم كان هذا الزلزال المروع الذي ضربها مأساة أخرى إلى مأساتها المالية، نسأل الله تعالى أن يجبر مصابهم، وأن يخفف عنهم وعن المسلمين، وأن يكفينا والمسلمين أجمعين شر الكوارث والمصائب إنه سميع مجيب {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].


وصلوا وسلموا على نبيكم...





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20-04-2020, 05:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السنن الربانية في الاقتصاد

السنن الربانية في الاقتصاد (3)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}

الحمدُ لله باسط الرزق وقابضه؛ أغنى وأقنى، ومَنَعَ وأعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، نحمده كما ينبغي له أن يحمدَ، ونشكره فهو أحق مَنْ يُشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ عمَّ بفضلِه خلقَه، ووسع برحمته عبادَه، فخلقهم وهداهم، وآواهم وكفاهم، ومن كل خير أعطاهم؛ {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالحقِّ والهدى؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ففتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ اختارهم الله تعالى صفوةَ هذه الأمة لصحبة خير خلقِه، وترضَّى عنهم في كتابِه، ورفع ذكرهم في العالمين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والزموا شريعته، وإن حاد عنها المبطلون، وتمسَّكوا بها ولو سخر منها المنافقون؛ فإنها عهد الله تعالى لكم، ووصيته إليكم وإلى النبيين وأتباعهم قبلكم، وهي نجاتكم في الدنيا والآخرة؛ {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

أيها الناس:

لما خلق الله تعالى الأرض وما عليها، وأسكنها آدم وذريته جَعَل فيها منَ الأرزاق والمنافع ما تصلح به أحوالهم، ويستقر معاشهم، ويحفظ عليهم أمنهم؛ {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

وأنزل - سبحانه وتعالى - عليهم من الشرائع ما ينظم حياتهم، ويُهذب أخلاقهم، ويدلهم على ما ينفعهم، ويحجزهم عما يضرهم، وأمرهم بها، وحذرهم من تركها؛ {خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة: 93]، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].

ومما جاءتْ به الشريعة ونظمته، ولم يُتْرك للبشر يخوضون فيه بأهوائهم: ما يتعلق بالأموال وتبادلها، وكسبها وإنفاقها؛ إذ إنَّ الأموال قيام البشر، وأساس حضارتهم وعمرانهم، فحسن تعامُلهم بها يعود عليهم بالأمْن والرَّخاء والاستقرار، وسوء استخدامهم لها يكون سببًا للخوف والجوع والاضطراب، والمال مال الله تعالى، والرِّزق رزقه سبحانه، وَهَبَهُ للبَشَر، وسَخَّرَهُ لمعايشهم، فوَجَب عليهم أن يَتَصَرَّفُوا فيه وفق شريعته - عزَّ وجل - ليتحقَّق العدل، ويرفع الظلم.

ومن سُنَّة الله تعالى القدرية في عبادِه: أن جعلهم متفاوتين في الرِّزق والمال، متباينين في الغِنى والفقر؛ {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]، وحكمة هذا التفاوُت في الأموال والأرزاق تسخير بعضهم لبعض؛ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزُّخرف: 32].

ثم جاءتْ سُنَّة الله تعالى الشرعية الاختيارية في علاج هذا التفاوُت بين البَشَر؛ ليُبتلى العبادُ بها؛ فإن هم أقاموها وعملوا بمُقتضاها استقامتْ حياتهم، واستقرَّتْ أحوالُهم، وأرغد عيشهم، مع ما ينالونه من الأَجْر على إيمانهم واستقامتهم على أمْرِ الله تعالى، وإن هم عارضوها لأجل حظوظ أنفسهم، تكدرتْ حياتُهم، واضطربتْ أحوالُهم، ونزعتْ بركة أموالهم وأرزاقهم، فلا تكفيهم مهما كانتْ كثرتها.

ومن سُنَّة الله تعالى الشرعيَّة في الأموال: أنه أراد - سبحانه وتعالى - أن تصلَ إلى كلِّ البَشَر، ولا يستولي عليها فئة منَ الناس دون غيرهم، فيستأثرون بها عنهم، ويديرونها بينهم، ويحرمون منها غيرهم؛ {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]؛ أي: كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء.

والدُّولَة: اسم للشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة ولهذا مرة، والمعنى: أنه يغلب الأغنياءُ الفقراءَ عليه فيقسمونه بينهم.

ولأنَّ سُنَّة الله تعالى الشرعية التي أَمَرَنَا بها قاضية بألاَّ يكونَ المال دولةً بين الأغنياء دون غيرهم، فإنَّ الله تعالى شرع ضوابط وقيودًا على البيوع والتِّجارات والشركات، وتبادل الأموال بأي طريق كان؛ لئلا تُطلق فيه أيدي الأغنياء والواجدين، فيسحقوا الفقراء والمعدمين، فمنعت الشريعة الرِّبا والقمار، والغش والاحتكار، والنجش وتلقي الركبان، وفرضت شروطًا للبيع تمنع الغرر، وترفع الضَّرر، وتدور بها السلع والأموال في الأسواق بالعدل والرضا.

ومِن عجيب ما جاء في الشريعة الغَرَّاء من قيد على البيوع، وفيه من تداول المال ومِنَ المصالح للناس ما لا يخطر بالبال: اشتراط حيازة الطعام المبيع قبل بيعه مرة أخرى، وقد جاءت فيه نصوص كثيرة؛ منها: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((مَن ابْتَاعَ طَعَامًا فلا يَبِعْهُ حتى يَسْتَوْفِيَهُ)).

وفي لفظ: قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كنَّا في زمان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فيبعث علينا من يأمرنا بِانْتِقَالِهِ من المكان الذي ابْتَعْنَاهُ فيه إلى مَكَانٍ سِوَاهُ قبل أَنْ نَبِيعَهُ"؛ رواه الشيخان.

وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((من اشْتَرَى طَعَامًا، فلا يَبِعْهُ حتى يَكْتَالَهُ)).

وفي رواية: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - أنكر بيع طعام لم ينقل من محله، وقال لوالي المدينة مروان بن الحكم: "أَحْلَلْتَ بَيْعَ الرِّبَا؟ فقال مَرْوَانُ: ما فَعَلْتُ؟ فقال أبو هُرَيْرَةَ: أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاكِ، وقد نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يُسْتَوْفَى، قال: فَخَطَبَ مَرْوَانُ الناس فَنَهَى عن بَيْعِهَا، قال الراوي: فَنَظَرْتُ إلى حَرَسٍ يَأْخُذُونَهَا من أَيْدِي الناس"؛ رواه مسلم.

وكان الصحابة - رضي الله عنهم - ينكرون على مَن وقع في هذه الطريقة من البيع، كما أنكر أبو هريرة على مروان، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "قَدِمَ رَجُلٌ من أَهْلِ الشَّامِ بِزَيْتٍ فَسَاوَمْتُهُ فِيمَنْ سَاوَمَهُ مِنَ التُّجَارِ حتى ابْتَعْته منه، حتى قال: فَقَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَبَّحَنِي فيه حتى أرضاني، قال: فَأَخَذْتُ بيده لأَضْرِبَ عليها، فَأَخَذَ رَجُلٌ بذراعي من خلفي، فَالْتَفَتُّ إليه فإذا زيد بن ثابت، فقال: لاَ تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ حتى تَحُوزَهُ إلى رَحْلِكَ؛ فإن رَسُولَ الله قد نهى عن ذلك فَأَمْسَكْتُ يدي؛ رواه أحمد وصححه ابن حبان.

بل جاء من التشديد في ذلك أنهم كانوا يعاقبون على مخالفة ذلك؛ كما في حديث ابن عُمَرَ "أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - إذا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ في مَكَانِهِ حتى يُحَوِّلُوهُ"؛ رواه الشيخان.

ومَن تَأَمَّلَ هذه الأحاديث، ثم نظر إلى واقع الأسواق تبينت له بعض الحكم العظيمة من هذا التشريع الرباني، وعلم سبب التشديد فيه؛ فالأحاديث نصٌّ في أن الطعام لا يبيعه من اشتراه حتى يقبضه ويستوفيَه، ويحوزه إلى ملكه، وهذه الطريقة في البيع سبب لتداول المال والطعام على أوسع نطاق، ومنع الأغنياء من احتكاره؛ ذلك أن الطعام به عيش الناس، وهو أهم السلع وأشدها ضرورة، وهو أكثرها استهلاكًا، فإذا مُنع التجار من تداوله بالبيع والشراء دون حيازته واستيفائه ونقله، رآه الناس بكثرة تنقله، واطمأنوا إلى توفر الغذاء، وهذا ما يسمى في مصطلحات العصر بالأمن الغذائي.

ويعود ذلك بتحقق جميع أنواع الأمن الحسي؛ لاطمئنان الناس أن معايشهم ليست في خطر، ثم إن كبار التجار إذا اضطروا إلى نقل الطعام بعد شرائه بالجملة، وفَعَلَ ذلك من دونهم من التجار إلى أن يصل لمحلات البيع بالتجزئة؛ انتفع بهذا التحريك والنقل جملة من العاملين في الأسواق؛ فتزدهر سيارات النقل ويُرزق مُلَّاكُها وسائقوها، وتستأجر المستودعات والثلاجات للتخزين فيها، ويصل نفع ذلك إلى الحمالين والحراس؛ إذ يجدون عملاً بتحميل هذه البضائع وتنزيلها وحراستها، ويتحرك المال في أيدي أكبر عدد من الناس، فينتفع به الصغار والكبار، ولا يكون دُولةً بين الأغنياء دون الفقراء.

ولو أطلقت الحرية في البيع، ولم يلزم نقل المبيع بعد بيعه - ولا سيما فيما يكثر استهلاكه كالطعام - فإن السلع يتداولها بالبيع والشراء عدد من التجار وهي في مكانها، فيكون المال في أيديهم، ولا يصل إلى غيرهم.

فما أحسنَ حُكمَ الله تعالى لعباده! وما أعدل شريعته فيهم! وما أشدَّ ظلم البشر وبغيهم حين يرغبون عنها إلى غيرها!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا طيبًا كثيرًا مبارَكًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أيها الناس:

تعاني الدول في زمننا هذا من أزمات مالية خانقة، وتداعيات اقتصادية متتابعة، وإفلاس مُتَكَرِّر لكبريات المصانع والمصارف والشركات، مما ينذر بقدوم كساد كبير لا يعلم مدى ضرره وفتكه بالناس إلا الله تعالى.

وأسباب ذلك: أن الاقتصاد العالمي قد بُني على النظرية الرأسمالية المادية، القاضية بمنح الرأسماليين الحرية المطلقة في التجارات والمعامَلات المالية، ورفع أي قيد على ذلك، تحت شعار: "دعه يعمل دعه يمر"، زاعمين أن للسوق يدًا خفية تنظم المعاملات، إذا أُطلقت فيها الحريات للمنافسة.

لكن الذي حدث أن كبار التجار استولوا على مصادر الثروات، وخنقوا عامة الناس بالقروض الرِّبوية، والرهون العقارية، مع تشجيعهم للناس على مزيد من الاستهلاك والإنفاق عبر الإعلانات التجارية المخادعة إلى أن بلغوا بهم حدَّ الطيش والجنون في الإنفاق، ففاق استهلاكُهم مدخراتِهم وأملاكَهم، وصاروا يستدينون لمجرد الاستهلاك حتى تراكمتْ عليهم الديون، وغلَّتهم الرهون، فتوقفوا عن السداد لعَجْزِهم.

فبدأتْ سلسلة الانهيارات من صغرى الشركات والبنوك، وأخذت في الصعود إلى أن بلغتْ كبرياتها، وتصدع البناء الاقتصادي العالمي، ويوشك أن ينهارَ بأكملِه، وحينها لا يعلم مدى الاضطراب والجوع والخوف الذي سيحل بالدول والأمم إلا الله تعالى، وما كان ذلك إلا مِن ظلم الناس وبغيهم، ومعارضتهم لسنن الله تعالى في الأرزاق والأموال، وتنحيتهم لشريعته سبحانه في التجارة والأعمال.

وهم الآن يضخون المليارات من الأموال لإنعاش الشركات والبنوك التي تُحْتضر؛ لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار الكامل، لكن الحقيقة التي غفلوا عنها هي: أن الاقتصاد العالمي كالجسم المريض الذي تلوث دمه بأنواع السموم، وكل دم يُحقن فيه لا يلبث أن يتلوث ويفسد، فلا المريض نجا، ولا الدم بقي، وضخهم لهذه الأموال العظيمة في اقتصاد مريض لن يكون إلا مُسَكِّنًا مؤقتًا، فلا الاقتصاد سيسلم من الانهيار، ولم تبقَ لهم الأموال التي يضخونها لإنقاذه.

يقول أحد كبار المسؤولين الاقتصاديين: "الأزمة هي الأخطر منذ قرن، ولم تنته بعد، وستستغرق مزيدًا من الوقت، وأتوقع انهيار العديد من المؤسسات المالية الكبرى بسبب القسوة الاستثنائية لهذه الأزمة"، ويقول الأمين العام للأمم المتحدة: "الأزمة المالية تُهَدِّد معيشة مليارات الأشخاص عبر العالم خصوصا الأكثر فقرًا"، وذكر رئيس البنك الدولي أن هذه الأزمة ستؤثر سلبًا على الدول النامية.

فنسأل الله تعالى أن يلطف بنا وبالمسلمين، وأن يكفي بلادنا وبلاد المسلمين شر الكوارث والنكبات والمثلات، إنه سميع مجيب.

إن الله - عز وجل - جَعَلَ المال قيامًا للناس، ومنع السفهاء من الوُصُول إليه؛ لأنهم يفسدون ولا يصلحون، ويبذرون ولا يحسنون؛ {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].

وسفهاء الرأسمالية قد أفسدوا اقتصاد العالم، ولوَّثوه بأنواع المحرمات، وجعلوا المال دُولةً بين الأغنياء بالربا، والقمار، والغش، والتدليس، والاحتكار، وأنواع الاتجار المحرم، والعقود الفاسدة، فحقت عليهم سنن الله تعالى بالمحق هم ومَن تبعهم في بغيهم وظلمهم؛ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].

وصلوا وسلموا...






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20-04-2020, 05:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السنن الربانية في الاقتصاد

السنن الربانية في الاقتصاد (4)




الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


الربا سبب المحق


الحمد لله العليم الحكيم، خلق فأتقن خلقه؛ {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وشرع فأحكم شرعه؛ {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

نحمده على ما خلقنا وكفانا، ونشكُره على ما هدانا واجتبانا؛ {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].

وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريك له، السَّعيد مَن أطاعَه فتمسَّك بدينِه، ولزِم شريعتَه، والشقيُّ مَن أعرض عنها، وحارب أهلَها؛ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].

وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، لا خيرَ إلاَّ دلَّ الأمَّة عليه، ولا شرَّ إلاَّ حذَّرها منه، تركَنا على بيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنْها إلاَّ هالك، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليْه وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والزموا دينه، وتمسَّكوا بشريعته، واحذروا الهوى؛ فإنَّه يصد عن الحق؛ {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].

أيُّها الناس:
حين أنزل الله تعالى شرائعه على البشر، فإنَّه - سبحانه - جعلها مُصلِحة لأحوالِهم في الحال والمآل، ولا تقتصِر على صلاح المآل دون الحال كما يظنُّ كثير من النَّاس، فينتهِكون حرمة الشَّريعة؛ إيثارًا للعاجلة على الآجِلة، وذلك من جهلِهِم وضعْفِ إيمانِهم، والإنسان خُلِق من عجل.

وكلُّ معارضة لدين الله - تعالى - ففيها نوع معارضة لسُنَنِه - عزَّ وجلَّ - الكونيَّة، ولا بدَّ أن تعود بالفساد العاجل مع ما ادّخر لأصحابها من الوعيد الآجِل، ولو بدا لأصحابِها أنَّ في معارضتها صلاحًا عاجلاً، ونفعًا حاضرًا.

إنَّ من منافع الشَّرائع الربَّانيَّة أنَّها تدلُّ العباد على سنن الله - تعالى - في الكون؛ ليوافِقوها ولا يعارضوها، فيستقيم لهم العيش في الحال، مع ما وعدوا به من الفوْز في المآل، وهذه السُّنن العظيمة مبثوثة في الكتاب والسنَّة، وهي ثابتة في الأفْراد والأمم، لا تختلف باختِلاف الزَّمان والمكان، ولا تكون لأحد دون أحد؛ {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]، وفي آية أخرى: {سُنَّةَ الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62].

ومن سنن الله - تعالى - الشَّرعيَّة الَّتي أجْمعت عليْها كلُّ الشَّرائع الربَّانيَّة: تحريم الرِّبا، وتشْديد الوعيد فيه؛ حتى لُعن في لسان الشرع آكلُه وموكلُه وكاتبُه وشاهداه، وأُعلنت الحرْب على المرابين، وعدَّته الشَّريعة من السَّبع الموبقات التي تُهلك أصحابَها، ويُعذب أكلته في البرْزخ في نهر أحْمر مثل الدم، يُلقمون حجارة في أفواهِهم لينقلوها من جانبٍ إلى آخر، ويُبعثون يوم القيامة يتخبَّطون كالَّذي يتخبَّطه الشَّيطان من المس، والعلماء مُجْمِعون على أنَّ الربا في شريعة الله تعالى كبيرةٌ من كبائر الذنوب؛ لما رتب عليه من الوعيد الشديد.

والسنَّة الشرعيَّة حينما جاءت بتحريم الربا، فهي توافق السنة الكونيَّة التي قضاها الله - تعالى - في الرِّبا وأرباحِه وأهلِه، بالمحق ونزْع البركات وحلول العقوبات؛ فإنَّ الله - تعالى - قد قضى قضاء كونيًّا بأنَّ الرِّبا ممحوق، وهذه السنَّة الربَّانيَّة جاءت في الكتاب والسنَّة: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]، وعَن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((الرِّبَا وإنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبَتَه تَصِيرُ إلى قُلٍّ))؛ رواه أحمد وصحَّحه الحاكم.

وصُور المحْق في الرِّبا كثيرة، وتعمُّ الدنيا والآخرة؛ لأنَّ الإخبار عن المحْق جاء عامًّا؛ ليكون محْقًا عاجلاً في الدنيا، ومحقًا آجلاً في الآخرة، ومن مظاهر محْقِه: عدم بركة المال؛ لأنَّه ملوّث بسبب المحق وهو الربا، وصاحبه ينفقه فيما لا يعود عليه بالنَّفع بل فيما يضرُّه؛ ليقينه أنَّه كسب خبيث فيجعله في خبيثٍ أيضًا، فيكتسب به إثْمين: إثمًا في الاكتِساب وإثمًا في الإنفاق؛ ذلك أنَّ كسْب المال في حرام لا يُجيز إنفاقَه في الحرام كما يظنُّ كثيرٌ ممَّن يتخوَّضون في الحرام.

ومَن أبصر مشاريع كبار المرابين من المسلمين يَجد أنَّها فيما تضرُّ النَّاس ولا تنفعهم، كما ضرَّ مال الرِّبا صاحبه ولم ينفعه، ومن نظر إلى حال ملاَّك القنوات الفضائيَّة التي هي منبع الفساد، ومرتع الآثام، يجِد أنَّهم من أكلة الرِّبا ومن المتاجرين به، لينفقوه في إفساد الناس بقنواتهم، فتتضاعف آثامهم، وتعْظم أوزارهم، نسأل الله تعالى السَّلامة من شرِّهم وحالهم.

ومِنْ محْق الربا أنَّ أكثر المرابين لا يُسخِّرون أموالهم في طاعة الله تعالى، ومساعدة المحتاجين؛ لعلمهم أنَّها أموال سُحْت محرَّمة، فكيف يتقرَّبون بها إلى الله تعالى؟! وهذا من أعظم المحْق حين لا ينتفع صاحب المال بماله فيما يقرِّبه إلى الله تعالى، فإنْ تصدَّق بشيء منه، أو أنفقه في وجوه البر، أو أدَّى به حجًّا أو عمرة - كان حريًّا بالرَّدِّ وعدم القبول؛ لأنَّ الله - تعالى - طيب لا يقبل إلا طيِّبًا.

وأكلة الرِّبا قدِ استغلُّوا حاجة النَّاس إلى القروض، فأكلوا أموالَهم بالباطل، واستَعْبدوهم بقروضِهم، وقهروهم على أموالِهم، وراكموا دُيُونَهم، وهؤلاء المظْلومون المقْهورون يُبْغِضون منِ استغلُّوا حاجتهم من كبار المرابين، ويلْعنونَهم ولا ينفكُّون عن الدُّعاء عليْهِم، ممَّا يكون سببًا في زوال الخيْر والبركة عن أهل الرِّبا في أنفسهم وأهلِهم وأموالهم، وهذا من أعظم المحْق؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، ومن أعظم الظلم أكْل أموال النَّاس بالربا.

وإذا جمع المرابون أموالاً عظيمة توجَّهت إليها أطْماع الظَّلمة الغاصبين، ويشجِّعهم على ذلك أنَّهم يروْن عدم أحقيَّتهم بها، فيسوغون لأنفسهم أخْذَها منهم أو مشاركتَهم فيها بالقوَّة، وهذا واقع مشاهد من تسلُّط الظَّلمة بعضهم على بعض، والله - تعالى - يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].

ومن المحْق بسببِ الرِّبا: ما تُطبع عليْه النفوس من الجشَع والطَّمع والأثرة، وكلُّها أخلاق رديئة تُهلك أصحابَها، فتضمحلُّ مظاهِر الرَّحمة والرَّأفة والقناعة في الأُمَم التي تتعامل بالربا؛ ذلك أنَّ المحْق يلحق القلوب التي تعلَّقت بكسب الرِّبا، كما يلحق الأمْوال الَّتي داخلها كسبه الخبيث.

وانعِدام القناعة من القلوب، وضعْف التَّراحُم بين النَّاس لا تُخطئه العين في عصْرِنا هذا حين سادت قيم الرَّأسماليين، وانتشرتْ ثقافة الرِّبا في الأرض، واستحْوذت على مؤسَّسات الأموال والأعمال في العالم، فعمَّ المحْق أرجاء الأرض، ودمَّر الأفراد والدول والأمم؛ فالأفراد في عصر الربا يشتكون من نزْع البركة من أموالهم رغْم كثْرة مواردهم وتعدُّد سبل كسبهم، ويكدحون ولا يَجني كثيرٌ منهم نتائج توازي كدحهم وتعبهم.

والمحْق الرِّبوي قد ضرب في زمَنِنا هذا الدُّول والأمم؛ فمع اختراع الآلة، واستِغْلال ثروات الأرض، وتنوُّع الصناعات، وتعدُّد الزراعات التي أصبح الإنسان المعاصر ينتج في يومٍ ما لَم يستطع إنتاجه من قبل في سنوات، رغْم ذلك كله فإنَّ أكثر سكَّان الأرض يعيشون فقرًا، ولا يجدون كفافًا، وفي كلِّ يوم يموت منهم آلاف من الجوع والمرض، فأين هي المنتجات الزراعيَّة والصناعيَّة؟! لِمَ لَمْ تسدَّ حاجة الملايين من الفقراء والجياع، وهي تبلغ الملْيارات من الأطنان، فما كانت إذًا قلَّة إنتاج، ولكنَّها قلَّة بركة فيما ينتجون ويزرعون ويصنعون!

ومن المحْق العظيم في هذا العصر أنَّ الإنسان أضحى مستعبدًا للمادَّة، وصار ضحيَّة من ضحايا تطوُّر الآلة؛ إذ تَحوَّلت المادَّة من كونِها وسيلة لراحةِ الإنسان وهنائِه وطيب عيشِه إلى غاية ينصَبُ في تحصيلها، ثم يشْقى بِحِفْظها، ويخشى فواتَها.

إنَّ الإنسان في العصر الرَّأسمالي الَّذي أساسه الرِّبا يريد الحصول على الأموال وتنميتها ليستغني بها، فإذا حصل عليْها واستغنى بها، سيْطر عليه هاجس حفظها، وخافَ نقْصها وزوالها، فيظلُّ شقيًّا في تحصيلها، شقيًّا في الحفاظ عليْها وتنْمِيتها؛ ذلك أنَّ المَحْق أصاب القلوبَ الَّتي رضيت الرِّبا كما أصاب الأموال التي نَمَتْ بالرِّبا، وهل يجِد لذَّة الحياة من نُعِّم جسدُه، وعُذِّب قلبه؟! وأيُّ عذاب أعظم من عذاب القلْب؟! وكم من أنفس هلكت، وعقول طاشت، ودول أفلست، وشعوب أُفقرت، وأُسَرٍ ضاعت بسبب قوارع الأسواق الماليَّة، والبورصات العالميَّة التي شيدت على الربا؟! ولم يكن في مأمنٍ من ذلك كبار الأثرياء في الأرض الذين ملكوا الجزر، وأثَّروا في سياسات الدُّول، واحتكروا التجارة، وسيطروا على البنوك والبورصات، وظنُّوا - كما ظنَّ النَّاس معهم - أنَّ الفقر لا يعرف لهم طريقًا، ولا يسكن لهم بيتًا، وما هي إلاَّ ضربة من ضربات سوق الأعمال، ومغامرة في بورصات الربا والقمار، وقعوا بها على أمِّ رؤوسهم فأفلسوا، وحلَّت لهم الزَّكاة من شدَّة فقرهم وعوزهم.

إنَّه محق عامٌّ أصاب الأفراد والدول والأمم، لا يكاد أحد يسلم منه، وسِرُّ هذا المحق في قول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].

خلَّص الله - تعالى - بلادَنا وبلادَ المسلمين من الرِّبا والمرابين، وأغْنانا والمسلِمين بِحلالِه عن حرامِه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمَّن سواه، إنَّه سميع قريب.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 281].

أيُّها المسلمون:
يُجمع الاقتصاديون على أنَّ الربا هو أهمُّ سبب للأزمة الرَّأسمالية العالمية التي تهاوت فيها الشَّركات العملاقة - ولا زالت تتهاوَى - حتَّى سعت بعض الدول الكبرى إلى تأميم بعض الشَّركات في سابقة اشتراكيَّة رضخ لها الرَّأسماليون رغم أنوفِهم، وحتَّى ظهرتْ أصوات غربيَّة تدعو إلى اعتِماد النظام المصرفي الإسلامي القائم على المضاربة المشروعة.

ومنذ عقدين تطرَّق الاقتِصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "موريس آلي" إلى الأزمة الهيكليَّة التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة "الليبراليَّة المتوحشة"، معتبرًا أنَّ الوضع على حافة بركان، ومهدِّدًا بالانْهِيار تحت وطأة الأزْمة المضاعفة، واقترح حلَّين للخروج من الأزْمة وإعادة التوازن، هما: تعْديل معدَّل الفائدة إلى حدود الصِّفْر، ومراجعة معدَّل الضَّريبة إلى ما يقارب 2%، وهو ما يتطابق تمامًا مع إلغاء الربا، ويقارب نسبة الزكاة في النظام الإسلامي.

ولكن لم يُؤْخَذْ بقوله ولا بقول العشَرات من الاقتصاديين؛ استكبارًا في الأرض، وعلوًّا على الشرائع الربَّانيَّة، وحربًا لله - تعالى - بالرِّبا، أعلنها الليبراليون الرَّأسماليُّون في الأرض، فكانت الانْهِيارات الماليَّة نتيجة للاستِكْبار والعلو في الأرْض.

وفي خضم هذه الانهِيارات العالمية المريعة، وبعد اقتِناع العالم الغربي أنَّ الرِّبا لم يَجُرَّ عليْهِم إلاَّ المحق والوبال، تعلن هيئة السوق الماليَّة إنشاء سوق مالية لتداول الصكوك والسندات التي هي وسيلة من وسائل التَّمويل الربوي، وكانت هذه الصكوك من قبل محصورة في أكلة الربا؛ لتطرح الآن للنَّاس كلّهم في تداولها، مع إجْماع المجامع الفقهية وعلماء الإسلام المعتبرين أنَّ ذلك من الربا، وأن هذه الصكوك والسندات يجتمع فيها نوعا الرِّبا: ربا الفضل في وجود الزيادة للمقرض، وربا النسيئة في عدم التقابُض؛ لأنَّ الدَّين يُحوَّل إلى سندات تباع وتشترى، وفي هذا القرار الخاطئ تعميمٌ للربا، وغمسٌ للنَّاس فيه، ومحاربةٌ لله تعالى به، وتحويلُ أسواق المال إلى ما يشبه صالات القمار على غِرار البورصات العالمية التي عمادها التمويل الربوي.

وهنا لا بدَّ من استحضار أنَّ بيع الديون والرهون هو أهمُّ سبب للأزمة المالية العالمية الحالية، التي تهاوى بسببها الاقتِصاد العالمي، وانْهارت أكبر البنوك والشركات في الدول الصناعية، فكيف يستجلب القائمون على السوق الماليَّة أسباب هذه الأزْمة لينشروها في المسلمين، مع ما يرونه من آثارها في البنوك والشَّركات العملاقة التي انهارت، ولا تزال تنهار في بلاد الغرب؟! وهل هذا من النصح للمسلمين أو هو من غشِّهم؟!

وقد جاء في حديث مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ المُزنِيِّ - رضي الله عنه - قال: إني سمعت رَسُولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول: ((ما من عَبْدٍ يَسْتَرْعِيه الله رَعِيَّةً يَمُوتُ يوم يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِه إلا حَرَّمَ الله عليه الجَنَّة))؛ رواه مسلم.

مع ما في إعْلان ذلك من إعلان للرِّبا، والرِّضا به، والدِّعاية له، وهذا من مُحاربة الله تعالى، واستِجْلاب عقوباته، فالله - تعالى - يقول لأهل الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].

وجاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما ظَهَرَ في قَوْمٍ الرِّبَا والزِّنَا إلا أحَلُّوا بِأنْفُسِهِمْ عِقابَ الله - عزَّ وجلَّ))؛ رواه أحمد.

نعوذ بالله - تعالى - من زوال نعمته، وتحوُّل عافيته، وفُجَاءةِ نِقْمته، وجميع سخطه، ونسأله الهداية لنا وللمسلمين أجمعين.

وصلُّوا وسلموا...



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 121.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 117.88 كيلو بايت... تم توفير 3.27 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]