|
|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
قصة نملة
قصة نملة صبري عبد في يوم زاهٍ من أيام الشتاء، أشرقت شمسه بعد تلبد الغيوم، وغيض ماء الأمطار، وأوشك أن يجف ما أعقبه من أطيان؛ خرجت نملة تسعى لقوتها، وهي بنشاطها المعهود وهمتها الشهيرة، فأوقفتني عن عملي حيناً، وكانت تفتش عن الرزق في شقوق الأرض وحفرها تارة، وتصعد الجدران أخرى، ثم تهبط، وبينما هي تطوف غرفتي طولاً وعرضاً وارتفاعاً، غير مكترثة بالمصاعب، إذ لمحها عن بعد زنبور أحمر كبير، فخالها غنيمة باردة تلذ له وتطيب، كأنها باكورة الفاكهة لذيذة عزيزة، فطار إليها مسرعاً مغتراً بكبره، معجباً بدويه، فرحاً بسرعته، مستضعفاً صغرها وصمتها، فدنا منها وهي في أسفل الشباك، وأخذ كل من الخصمين يلحظ خصمه ويتأمله، هذا معتد أثيم، يجب أن يفتك ويؤذي ويسيطر ويهيمن إرضاءً لمطامعه وكبريائه كأنه «ديكتاتور» طاغية، وتلك بريئة مطمئنة عرفت بالمثابرة على العمل والصبر والتروي والاستفضال للحياة. التقى الخصمان أمامي على قاعدة الشباك، وكأن النملة كانت عارفة بأصول الدفاع، إذ تعلقت لأول مرة برجله اليسرى، فأخذ هو يرفسها ليوقعها فلا يستطيع، وينفض رجليه بقوة وشدة دون أن يستفيد أو يهتدي للخلاص. وحاول أن يخيفها بأراجيف بأسه- على ما يظهر-، فجعل يحرك جناحيه بشدة أعقبها صوت حاد ورنين مستمر، فبقيت مطمئنة لحظة دفاعها المحكمة، مستمسكة برجله، رابطة الجأش، وأخذ ينوع الحيل والمكائد للخلاص منها مكتفياً من الغنيمة بالإياب، فلم ينجح، وكأن النملة قد قوي فيها حب الدفاع، ونما عندها حب الكفاح، فأصبحت ترغب في الانتقام من هذا المستعمر الغاشم، لإيمانها بحقها، والثقة بدفاعها، وحبها أن تثأر للسلم وهي التي لم تنو أذية ولم ترم اعتداء، اكتفاء منها بثمرات سعيها، فأخذت تقرصه الفينة بعد الفينة قرصاً كان يبدو عليه ألمه بكثرة حركاته، وشدة اضطرابه بين حين وآخر. فتهيأ الزنبور لتنفيذ طريقة أخرى كانت آخر سهام كنانته وأقواها، فأخذ يطير من جانب الغرفة إلى الجانب الآخر، ثم إلى الأعلى وإلى الأسفل، حتى خارت قواه، ووهنت عزيمته، وفترت همته. وكان بعد هذا أن دعاني أحد الأصدقاء لأمر ضروري فأصبحت مضطراً لمفارقة هذا المنظر اللذيذ، ذي العبرة الواعظة والدرس البليغ. وحرصت على رؤية الموقف الحاسم لهذا النضال الذي أصبحت غرفتي ساحته، فجئت بخزانة صغيرة ووضعت بها كلا الخصمين، وأغلقتها جيداً لحين الإياب. ذهبت مع ذلك الصديق واضطررت إلى التأخر وقضاء وقت طويل عنده، ثم رجعت مسرعاً لخزانتي، وملئي الشوق والفرح بنجاح النملة التي بقيت مرابطة طويلاً دون أن تكل أو تمل، ففتحت الخزانة وبئس ما رأيت، رأيتهما كليهما ميتين: النملة لا تزال مستمسكة برجل الزنبور، وهذا مستلق على ظهره فوق سطح الخزانة، بعد أن أضناه التعب وعجزت منه الحيلة. فلمت نفس لقضائي على حياة هذه النملة المجاهدة، وندمت كثيراً لمفارقتي الغرفة ولو مضطرا وحصري المتخاصمين في الخزانة، التي ربما سببت الموت للتي كنت أريد لها الحياة بعد الانتصار. ثم قطعت ذاك المعتدي الأثيم إرباً إرباً فذروته في الهواء، وأتيت بتلك الأبية، ذات النفس العزيزة، المؤمنة بقوة الكفاح الحكيم المستمر، ووضعتها برفق في فوهة قرينتها قريباً من أخواتها اللاتي سيرثين مجاهدتهن ويندبنها، لأنها ليست أقل شأناً من نملة اللورد افبري التي روى مصرعها في كتابه (محاسن الطبيعة وعجائب الكون) إذ قال: اتفق لي يوماً- إذ كنت أنقل بعض النمال من بيت إلى آخر أن قتلت الملكة في يدي، فأسفت وحزنت عليها، ثم ألقيت جثتها وسط العَمَلة، فعرفن لها حقها من الإجلال، واحتملنها إلى بيت جديد، حيث لزمنها أسابيع عدة، لزوم الأهل فراش العليل العزيز، كأنهن حسبن أنها مريضة يرجى برؤها بعد حين، أو تحققن أنها ميتة، فاجتمعن للبكاء عليها والنحيب بمأتمها. إن في جهاد هذه «النملة» سعياً وكفاحاً عبرة بالغة، ولما اطلع الأستاذ السيد أحمد مظهر العظمة على ضرها كما رويته أنشد أبياتاً جعلتها هذه الخاتمة: كانت تجاهد للحياة بحكمة وغدت حديث العقل حين ممات أبت الهوان، فليت أصحاب الحجا يأبونه بعزيمة وثبات حتى يذوق الغاصبون سعيرهم فيعيش أهل الأرض كالأخوات لله هذا الكون، كم من عبرة للبيبه، لجهوله، للعاتي تدع القلوب تصيح من إيمانها: سبحان من ملأ الورى بعظات
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |