الشاعر الأعمى – العقاد - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216157 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7834 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 62 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859715 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 394059 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 88 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي
التسجيل التعليمـــات التقويم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-08-2023, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي الشاعر الأعمى – العقاد

الشاعر الأعمى – العقاد
د. إبراهيم عوض


1 – شَكَا الشاعرُ الباكي عمًى قد أصابَهُ
وأظلمُ ما نالَ العمى جفنُ شاعرِ
2 – يَنوحُ بعينٍ لم يدعْ عندها البلَى
سوى نبعِ حزنٍ ناضبِ الماء غائرِ
3 – وتلحظُ عين الشمس شزرًا جبينه
فيُطرقُ إغضاءً بمقلةِ حاسرِ
4 – ويسألُهم: هل أومض البرقُ في الدجى؟
وهل طلعت فيه وجوهُ الزواهرِ؟
5 – وهل يلمعُ الدرُّ المنضَّدُ والحلى
على الغيد، أم بات الحصى كالجواهرِ؟
6 – تكادُ تشقُّ الأفقَ زفرةُ صدرِه
إذا راحَ يلحاهُ بصيحةِ حائرِ؟
7 – تجودُ لعينِ الذئبِ يا أفقُ بالسَّنا
ليهديه في فَتْكِه بالجآذرِ
8 – وترميهِ في بئرٍ عميقٍ قرارُها
وتسْفِكُه فوقَ البطاحِ الغوامرِ
9 – وتسلُبُني نورًا أراكَ بوحْيهِ
فأُظْهِرُ ما أخفى سوادَ الدياجرِ
10 – وأُرْجِعُه معنى على الطِّرْسِ مشرقًا
يُضيءُ سَناه مظلماتِ السرائرِ
11 – لِمَنْ تَجْمُلُ الأكوانُ إن كانَ لا يَرى
بدائعَها عينٌ ترى كلَّ باهرِ
12 – فما كانتِ الدنيا سِوى حُسنِ مَنْظَرٍ
وما جادَ فيها الحظُّ إلا لناظرِ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-08-2023, 09:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الشاعر الأعمى – العقاد


13 – وهل كنتُ أخشَى الموتَ إلا لأنه
سيحجبُ عنِّي حسنَ تلكَ المَناظرِ؟
14 – فَهَأَنَا لا جُهْدُ الحَيَاةِ بِهَاجِرِي
أمينًا، ولا ريبُ المنونِ بِزَائِرِي
15 – جمعتُ شَقَاءَ العيشِ في ظلمةِ الرَّدَى
فَيَا لِيَ مِنْ مَيْتٍ شَقِيِّ الخَوَاطِرِ
16 – أرى الصبحَ وَهَّاجًا بمقلةِ نائمٍ
ويلحَظُه قلبي بحسرةِ ساهرِ
17 – ومَنْ لي إلى هذا الوجودِ بلمحةٍ
أراهُ، ولم يُعْمِ الترابُ بصائِرِي
18 – فيا قلبُ أنفقْ من ضيائِكَ واحتسبْ
لدى الشمسِ لألاءَ الوجوهِ النواضرِ


العقاد أحدُ الشعراء العرب المحدثين الكبار، له نحو عشرة دواوين، منها: يقظةُ الصباحِ، ووهجُ الظهيرةِ، وأعاصيرُ مغربٍ، وبعد الغروبِ، وعابر سبيل، وقد كان أحدَ ثلاثة سُمُّوا فيما بعد بمدرسة الديوان، والآخران هما المرحومان إبراهيم عبدالقادر المازني، وعبدالرحمن شكري.

والعقاد الشاعرُ كان وما زال محلَّ دراسات عدة (مقالات وكتب ورسائل جامعية) تناولت نواحيَ التجديد التي أضافها إلى الشعر العربي، والسمات التي تميز شعره، والموضوعات الأثيرة لديه... إلخ.

ولا بد من القول بأن بعض الدارسين الذين يختلفون مع العقاد فكريًّا يحاولون الإيهام بأن شعرَه رديءٌ، يغلب عليه جفافُ العاطفة، وبرودة الفكر المجرد، وهؤلاء، إما يتعمدون اختيار قصائد ليست من أجود ما نظم، وإما يفسدون التذوق والتحليل، وهناك بعض من يتصدون لمهمة النقد الأدبي، بغير أن يكونوا قد استكملوا أدواته، ويحسُّ القارئ أنهم لم يقرؤوا للرجل شيئًا من شعره، وأنهم يلقون الكلام جزافًا بغير شعور بالمسؤولية.

وسنأخذُ مثالًا على كيفية تحكم الخصومات في الحكم الأدبي، ما فعله الدكتور محمد مندور في كتابه "الشعر المصري بعد شوقي" حين تناول رائعةَ العقاد الشعرية المسماة "ترجمة شيطان"، فقال: "إنها خالية من الماء والرواء"، وادَّعى أنها "مليئة بالتجديف على الله، وأنها غامضة، نثرية... إلخ"، مع أن كبارَ النقاد في مصر كالدكتور طه حسين وإبراهيم المازني والدكتور زكي نجيب محمود قد أبدوا إعجابهم البالغ بها، ووضعوها في مصاف الآثار الأدبية العالمية التي تبقى على الزمن، وتعكس صورة العصر في قوة وجمال.

والقصيدة التي بين أيدينا (الشاعر الأعمى) إحدى قصائد ديوان "يقظة الصباح"، وهي تدور حول شكوى شاعر أُصيب بالعمى، وحُرم من رؤية مجالي البهجة والإشراق من حوله، فانطَوى على نفسه، يجترُّ آلام الحرمان، ويتمزَّق مما يرى في الحياة من مفارقة عجيبة: أن يحرم وهو الشاعر الفنان من نور عينيه الذي يرى به حلاوة الحياة؛ فينفعل بها استمتاعًا وابتهاجًا، ويؤدي هذه المتعة والبهجة إلى الناس من حوله، على حين يفاض النور على الذئب يهديه طريقه إلى اقتناص فرائسه من الجآذر والغزلان، أو يراق هدرًا؛ فيضيع في الآبار السحيقة من دون أن تنتفع به عين، فضلًا عن أن تكون عين فنان... لكنه في النهايةِ ينتبه إلى أنه إن حُرم نورَ البصر، فلم يُحرم نورَ البصيرة، وإن كان لا يستطيع أن يرى بعينيه، فهو يستطيع أن يرى بقلبه، وأن ينفق مما هو مذخور فيه من ضياء الفكر والخواطر والمشاعر، فقلب الشاعر الحق دنيا من الأنوار يستطيع أن ينفق منها من دون خوف من النفاد، عوضًا عن لألاءِ الشمس، وأنوار الوجوه النواضر.

والقصيدةُ تصوِّرُ شكوى الشاعر المحروم، وتبدأ ببيتٍ فردٍ يصور الموقف كله في عبارة موجزة، يشتدُّ إيجازُها في الشطر الثاني: «وأظلم ما نال العمى جفن شاعر» حيث تتكون الجملة من مبتدأ، محذوف خبره (تفاديًا للتكرار المُمِلِّ)، ويدل عليه المفعول به، ولعلك تلاحظ ما في البيت من مدَّاتٍ متعددة تناسبُ حالة الألم والشكوى، وكذلك الحرفين المكسورين اللذين اختتمت بهما القافية، وقد أَتَيَا بعد المدة الأخيرة مباشرة، مما يبرز شدة التفجُّع الذي يصوره البيت.

وقد قسم الشاعر فكرته المكثفة على شطري بيته، ففي الشطر الأول يذكر شكوى الشاعر وسببها، وفي الشطر الثاني يبدي موافقته له، وتعاطفه معه، وقد كرر لفظة (الشاعر) مرتين في البيت: الأولى في بداية الشطر الأول، والثانية في نهاية الشطر الثاني؛ ليوحي إلينا أن مشكلة الشاعر تحاصره، وتطوِّق عليه مشاعره، إلى جانب أن توزيع الكلمتين على هذا النحو يعطينا تقابلًا موسيقيًّا، يناظرُ تقابل شكوى الشاعر (في الشطر الأول) مع تعاطف العقاد معه (في الشطر الثاني).

والشاعر يذكرُ العمى في الشطر الأول منكَّرًا (عمى)، وكأن العمى أشكال، فليس العمى الذي يُصيب الفردَ العادي كالعمى الذي يصيب الأديب الفنان صاحب الشعور المرهف، فعينُه هي وسيلته إلى الاستمتاع والإمتاع، وفي الشطر الثاني نجد العقاد يتحدث عن شكلٍ خاص من العمى هو الذي ينال جفن الشاعر، وهو أظلم أشكال العمى وأفدحها وأفظعها.

وإذا كان العقاد قد نكَّر كلمة (عمًى) في الشطر الأول، فقد نكَّر كلمة (شاعر) في الشطر الثاني، إيحاءً منه بأن من الظلم المبين أن ينالَ العمى جفن شاعرٍ، أيِّ شاعر بلا تحديد، على حين في الشطر الأول نجده يصف الشاعر بأنه (الشاعر الباكي) وكأن البكاء هو السمة المميزة لشخصيته الجديدة بعد العمى؛ ليبين لنا إلى أي مدى تستحيل حياة الشاعر تمزُّقًا وحسراتٍ لحرمانه من جوهرة عينه، تلك التي لا تعدلها كنوزُ الأرض، وإن كثرت.

وانظر كيفَ صوَّر العقاد عمى الشاعر: في الشطر الأول صوره تصويرًا عاديًّا سريعًا؛ لأن محور اهتمامه هناك هو الشكوى والبكاء، على حين تأنَّى في الشطر الثاني وتفنَّنَ في التصوير، فالعمى هنا لا يصيب، بل (ينال) (لاحظ أن العقاد هنا يشخِّص العمى، ويجعله إنسانًا؛ حتى يستقيمَ له وصفه - من قبل ذلك مباشرة - بالظلم)، وهو لا ينال عينَ الشاعر بل (جفنَه)؛ فالعقاد لا يريد أن يتحدث حديثًا مباشرًا عن عدوان العمى على العين، بل مرة يجعل العمى (يصيب الشاعر)، ومرة يجعله (ينال جفن الشاعر)، إنه حريصٌ على عدم إيذاء المشاعر، ولكن هذا الحرص هو نفسه الذي يضاعف الحزن، ويزيد الشعور بالألم.

وبعد أن يُلخِّص العقاد بهذا البيت المفرد الموقف كله في تصوير قوي موحٍ، يبدأ التفصيل، ففي البيت الثاني يصور بكاء الشاعر، وعدم إسعاف عينه له بالدمع يخفف عنه شيئًا مما يصطلي من عذاب، وفي البيت الثالث يصور ذلة الشاعر وانكساره في حركتي استقباله للشمس بجبينه العالي، وإغضائه أمامها بمقلته العاجزة الحسيرة التي لا تستطيع أن تؤدي إليه شيئًا مما في الكون من حوله من بهجة غامرة بالأضواء والظلال والألوان، وفي البيت الثالث يرتدُّ إلى من حوله (وقد أبهمهم العقاد، وعبر عنهم بالضمير «هم» في «يسألهم»، ولم يُبَيِّنْ لنا من هم هؤلاء)، ونحس حيرته وحسرته معًا في هذا السؤال الذي يبدو ظاهرُه بريئًا، وباطنُه فيه الحرمان والعذاب، كلُّ ذلك، والشاعر لا يجد برد الراحة، فينكفئ على نفسه؛ تعذبه خواطره مما يراه في الحياة من مفارقات.

ونحس في الأبيات التالية مدى اعتزاز الشاعر بنفسه وبمواهبه، فهو وحدَه الذي يستطيع أن يرى جمال الألوان؛ فهي لم تجمل إلا له، بل هي ليست إلا منظرًا حسنًا، وليس إلا ناظره الذي يجود له الحظ ببهجة الحياة، وتأتي بعد ذلك ثلاثة أبيات تتحدث عن وضعه الذي يجمع بين الموت والحياة بأسوأ ما فيهما، ولكنه في البيتين الأخيرين يحاول أن ينفض عن نفسه مرارة اليأس، على نحو تدريجي، ففي البيت قبل الأخير يبزغ الأمل وليدًا صغيرًا، على هيئة سؤال عام يلفه التشكك، على حين في البيت الأخير يسلم الشاعر بواقعه، ولكنه يتسامى عليه، وينقلب إلى قلبه ينفق من ضيائه المذخور، مستعيضًا به عن لألاء الوجوه النواضر، حين يشرق عليها نور الشمس.

ونحن نحس في القصيدة ابتداءً من بيتها الثاني حركتين ناميتين، في اتجاهين متعاكسين: الحركة الأولى هي حركة الشكوى من الخارج، فهي تبدأ من نواحٍ لا يجدي، إلى انكسار وإغضاء، يتراجعان به إلى مَنْ حوله يسألهم عن النور والجمال، فلما لم يجد ما يبتغيه عندهم انكفأ إلى نفسه يتعذب بخواطر الحرمان، وعدم الفهم لما يراه أوضاعًا مقلوبة.

والحركة الثانية هي حركة الشكوى من الداخل شعورًا وأحاسيس، فهو أولًا ينوحُ حزينًا، ثم يسأل حائرًا، ثم يزفر هائجًا مغيظًا، فيلحى الأفق صائحًا... إلى أن تلتقي الحركتان في البيتين الأخيرين أملًا متشككًا في البيت قبل الأخير، وتسليمًا بالواقع وتساميًا عليه في آخر بيت، حيث نحس هدوءَ الحركة وإخلادَها إلى السكون والسكينة.

فالقصيدةُ بهذا عمل فني متكامل، يبلغ التطور فيه مداه، على مستوييه الخارجي والداخلي، وهي إن كانت تُصوِّرُ الضيق بما يظنه الإنسان أوضاعًا مقلوبةً غير قابلة للفهم، فإنها تنتهي بالعلو فوق اليأس، وشق طريق جديد تمضي فيه الحياة فلا تتوقف؛ فالحياة إن كانت تحرمنا من شيء فإنها تعطينا بدلًا منه شيئًا آخر، وعلينا ألا تقتلنا أحزاننا غمًّا وهمًّا، بل نستثمرها ونستنبط ما فيها من كنوز مخبوءة، وإن إمكاناتِ النفسِ الإنسانيةِ في اكتشافِ أفراح الكون لَغَنِيَّةٌ متنوعةٌ.

والآن إلى الأبياتِ نرى كيف صور العقاد فيها الأوضاع والأفكار والأحاسيس، ففي البيت الثاني يجعل الشاعر ينوحُ بعينه، فهو هنا يذكر العين صراحة، بعد أن كان يتلافى ذلك من قبل، فالأمر مختلف؛ إذ إنه في البيت الأول كان يتحدث عن العمى، فلم يحب أن يضيفه إلى العين، وصنيعه هذا قد كان أكثرَ فنيةً، إنه ينزل فيه على حكم الذوق المهذَّبِ، ولكنه برغم ذلك يستثير أكبر قدر من الحزن والألم، أما هنا فإنه يتحدث عن النواح، وهو ينقله إلى العين، وكأنها ما زالت مبصرة، لكنه يعود فيبين أن البلى قد غَوَّرَ ماءَهَا، فليس هناك إلا الأحزان! فلا نور ولا طراوة، بل ظلمة وجفاف.

والعقاد يستخدم ازدواجَ الدلالة في كلمة (عين)، وهو يستخدمها بالمعنيين جميعًا (ينوح بعين - نبع حزن)؛ ليوحي بهذه المعاني المتشابكة، وتأمَّلْ هذه الصورة (نبع حزن)، فهو نبع غريب، يذكرنا (بأزهار الشر!) عند الشاعر الفرنسي بودلير. ولعلك تلاحظ أن العقاد لم يقل عن عين الشاعر: (لم يدع فيها البلى)، بل قال: "لم يدع عندها البلى"، تمامًا كما لم يقل: "وأظلم ما نال العمى عين شاعر"، وقال: "جفن شاعر"، إنه الذوق المهذب الذي يبتعد عن الفجاجة في التصوير والتعبير، ويعتمد الإيحاء مدخلًا إلى النفوس، واستثارة المشاعر.

وفي وصف (نبع الحزن) نجد صفتين، (ناضب الماء) و(غائر)، فلا ندري ماذا تعني لفظة (غائر) بالضبط؟ أتعني غُؤُور الماء من النبع؟ كما تعنيه الصفة الأولى (ناضب الماء). أم تعني غؤور نبع الحزن نفسه في نفس الشاعر واستيلاءه عليها؟ إن قيمة هذه الصفة هنا تنبع مما فيها من إبهام.

ولنتأمل هذه الصورة (وتلحظ عين الشمس شزرًا جبينه). إن الشمس كائنٌ محايد، فالشمس لا تنظر مودة ولا شزارًا! ولكن العقاد يصور الأمر من داخل نفس الشاعر المحروم من نعمة البصر، إنه يتوهم الشمس عدوته، فهي تجود بنورها للكون من حوله وتحرمه هو، إن الشمس هنا لا تشرق، بل تنظر إليه شزرًا، ولاحظ الصورة جيدًا: (إن عين الشمس تلحظ جبين الشاعر شزرا). ترى لماذا لم يقل (الشمس) وقال (عين الشمس)؟ وقال (جبين الشاعر) ولم يقل (الشاعر) مباشرة؟

إن كل إحساسات الشاعر وخواطره وآلامه وآماله تدور حول عينه التي حرم نورها، فتنبهه للعيون تنبهًا قويًّا حادًّا، لذلك يرى للشمس عينًا، أما هو فلا، ومن هنا تلحظ عين الشمس جبينه لا (عينه)، على حين يطرق فإنه يطرق متحسِّرًا على أن عينه لا تبصر؛ لذا أضاف العقادُ الإطراقَ إلى (المقلة)! والإطراق عادة ينسب إلى الرأس، يقال (أطرق برأسه). ثم يصف المقلة بأنها (مقلة حاسر) فيجعل السمة البارزة هنا في شخصية الشاعر هي العجز والانقطاع والحسرة (إذ كلمة حاسر تشير إلى هذه المعاني كلها).

وفي البيت الرابع يسألُ الشاعر من حوله، وقد أبهمهم العقاد وأشار إليهم بالضمير (هم) فقط، موحيًا بما يحيط بالشاعر من غموضٍ وحيرةٍ لضياع معالم الأشياء والأشخاص، والسؤال نفسه يوحي بهذا؛ إذ يديره الشاعر حول (الدجى)، أليس ذلك إشارة إلى ما هو فيه من ظلمات متراكبة؟ ولنلاحظ أن الشاعر أول ما يسأل - يسأل عن البرق؛ لأن في البرق قوةً وعنفًا، فهو رمز لرغبته الجارفة العنيفة في أن ينزاح ما يحيط به من ظلام متكدس. ولا شك في أن القارئ يحس بتوالي السكنات، على حرف اللام في (هل)، والواو في (أومض)، واللام والراء في (البرق)، والدال في (الدجى)، مما يعطي الجملةَ قلقلةً وعنفًا مناسبين لشعوره المهتاج الذي رمز إليه (بالبرق) حين يومض في (الدجى)، أما في السؤال الثاني في الشطرة الثانية، ففيه ثلاث مدَّات تتناسب وضوء النجوم الزواهر اللين الرخي، الذي يعكس ما يحسه الشاعر من هدوء نسبي بعد إذ أفرغ قدرًا من غيظه في السكنات المتقاربة في الشطر الأول، وفي صورته العنيفة.

الأمر نفسه يتكرر في البيت السادس (سكنات متقاربة في الشطر الأول، ومدَّات ثلاث في الشطر الثاني). أما الشيء الجديد في هذا البيت فهو ما يعكسه السؤال من إحساس الشاعر العنيف بذاته، إنه يَشُكُّ في أن الكون قد بقي على حاله بعدما فقد هو بصره؛ وكأنه يتصور أن الحسن قد انعدم منه، وأصبحت المناظر متساوية لا تتفاوت بجمال، فلا فرق بين حصى وجوهر، ولكننا نلمحُ مع ذلك حسرته من خلال هاتين اللفظتين (المنضد، الغيد) فالدر الذي حرم من رؤيته ليس درًّا فحسب، إنه درٌّ منضد، والنساء اللائي لم يعد إلى الاستمتاع بالنظر إليهن من سبيل، لَسْنَ نساءً وكفى، بل هن (غيد).

والثلاثة الأسئلة التي تصوِّرُ حيرته وقلقه وغيظه لا تشفي غليله؛ ولذا نراه يزفر غيظًا، وأي زفير! إن زفرة صدره تكاد تشق الأفق، والأفق هنا رمز إلى الكون كما سيظهر في الشطر الثاني والأبيات التالية، إن ألم الشاعر ألم جبار، وكأنه سيف ماض يكاد يمزق الكون، لكن لماذا؟ أهو غيظ من الأقدار؟ أم هو أمل في أن ينجلي من انشقاق الأفق نورٌ من عالم آخر غير هذا العالم الذي حرم الشاعر البصر والجمال؟!

وتتابع الحاءات في الشطر الثاني من هذا البيت يوحي بالجفاف المناسب لما فيه الشاعر من غيظ وسخط.

والأبيات الاثنا عشر الآتية يمكن أن تنقسم إلى خمسة أجزاء: الجزء الأول: يتكون من الأبيات 7، 8، 9، 10، والثاني: من الأبيات 11، 12، 13، والثالث: من الأبيات 14، 15، 16 والرابع: من البيت 17 فقط، والخامس: من البيت 18 (وهو الأخير) فقط.

ففي الجزء الأول يصور المفارقة العجيبة التي لا يستطيع عقله أن يفهم الحكمة فيها؛ لأن الأمور تسير على عكس ما يرى أنها يجب أن تكون، وإلا فكيف يصحُّ أن يجود الأفق بالسَّنا على الذئب؛ ليرى طريقه إلى مطاردة فريسته والفتك بها؟ وكيف يصح أن يبعثره الأفق في الآبار السحيقة، أو يسفكه فوق البطاح الغامرة عبثًا، في الوقت الذي يسلبه من الشاعر.. الشاعر الذي يكشف بهذا النور أسرارَ ما في الكون من جمال وجلال، فيصورها على الورق فنًّا يملأ النفوس بهجةً وإشراقًا؟ ولاحظ هذا الفعل "تجود" وما فيه من سخرية؛ لأنه (جود) في غير موضعه، وكذلك لاحظ الأمر نفسه في الفعل التالي (يهديه)، فيا لها هداية تلك التي تعين على الفتك.. وأي فتك؟ الفتك بالجآذر رمز الصبا والجمال والرشاقة، إن النور مرتبط دائمًا بالخير، ولكنه هنا يغتاله، ولاحظ مضي الشاعر في التركيز على «العين» حين يكون الأمرُ متصلًا بالآخرين: تجود لعين الذئب... إلخ.

أما في البيتِ التالي فيعبر بالفعل (ترميه) عن درجة أعلى من (الجود)، إن الأمر لم يعد كرمًا، بل سرفًا، أما الفعل الثالث (تسفك) فإنه أبعد في الدلالة على السرف والتضييع.. ولنلاحظ ما في الصورتين: "ترميه في بئر عميقٍ قرارُها"، "تسفكه" من اتساق مع (فتك الذئب بالجآذر)، ويا له من اتساق فظيع محوره المحق والإعدام، أما من ناحية الموسيقى فلعل في كثرة المدَّات (وهي حركات طويلة) في هذا البيت ما يتوافق مع البئر العميقة القرار، والبطاح الواسعة الأرجاء.

وفي البيت التالي نراه يستخدم الفعل (تسلبني) للدلالة على أن الإبصار من حقه، وأن الأفق متجن ظلوم، أليس قد أعان الذئب على أن يفتك بالجآذر؟ أليس قد رمى النور في بئر سحيقة؟ أليس قد سفكه فوق البطاح؟

وتشتد المفارقة حين يبين الشاعر للأفق أنه قد سلبه النور الذي كان سيرى به ما يحويه من جمال، ويكشف ما خفي من أسراره، وإن لم يكن هذا غريبًا، فإن الأفق قد هدى الذئب طريقه إلى افتراس الرشاقة والصبا والجمال، إن الشاعر قد كان سيعيد ما سيأخذ من نور مضاعفًا: نورًا في العيون (فأظهر ما أخفى سواد الدياجر)، ونورًا في العقول (وأجرعه معنى على الطرس مشرقًا)، ونورًا في الوجدان (يضيء سناه مظلمات السرائر)، أما وقد فَقَدَ الشاعرُ نورَ بصرِه فقد ادْلَهَمَّتِ الظلمات، وليس غريبًا إذن أن نراه من قبل يَشُكُّ في أن يكون ثمة فرقٌ بين الحصى والجوهر، أو أن تلمع الدرُّ والحُلِيُّ على صدور الغيد الحسان.

وفي الجزء الثاني، يدور الشاعر حول فكرة أن الحياة هي الجمال، وأن الفن هو الوعي بهذا الجمال، فالفنان إذن هو كل شيء، إذ بغيره تفقد الحياة جمالها الذي ليست شيئًا سواه، وإذا فقد الشاعر بصره، وهو وسيلته إلى الوعي بهذا الجمال، لم يعد لحياته مذاق.

ولنلاحظ السؤال الذي ابتدأ به هذا الجزءَ، والسؤال الذي به انتهى؛ السؤال الأول يتحدث عن الحياة (الأكوان)، والسؤال الثاني يتحدث عن الموت، وبينهما جملة خبرية حاسمة تلخص الفكرة بجانبيها: (الحياة في الشطر الأول، والفنان في الشطر الثاني).

والسؤالان بلا شك يخرجان من غرض الاستفسار إلى النفي الجازم، لا لِتَنْحَلَّ القضية، ولكن لِتَبْدَأَ من عنده الحيرة والسخرية والامتعاض، تلك المشاعر التي تظهر واضحة في الجزء الثالث، الذي يصور حياة الشاعر بعد عماه: إنها ليست حياة، وهي كذلك ليست موتًا، إنها مزيجٌ منهما، بل من أسوأ ما فيهما، إن للحياة وجهين: المتعة والجهد، وللموت جانبان: الظلمة والراحة، والشاعر يجمع بين جهد الحياة وظلمة الموت، إنه توازن، وإن لم يكن مرغوبًا (في البيت توازن موسيقي بين العبارتين اللتين تؤديان هذا المعنى "لا جهد الحياة بهاجري، لا ريب المنون بزائري") والشاعر يتمنى أن تهجره الحياة، وأن يزوره الموت؛ فحياته ليست إلا جهدًا، والموت الذي يود لو زاره هو الموت الكامل، الموت الذي يأتي لا بالظلمة فقط، بل بالراحة أيضًا من كل عناء، وإذا كان كلٌّ من الأبيات الثلاثة، في هذا الجزء - يصور وضعَ الشاعر الذي جمع بين أسوأ ما في الحياة والموت كليهما، فإن الصورة في البيت الأخير منه أشد سخرية؛ لأنها تأخذ بالشمال ما أعطته باليمين: إن الشاعر يذكر في الشطر الأول أنه يرى الصبح، وهذا شيء جميل، وبخاصة أنه يراه وهاجًا، ولكن كيف يراه؟ بمقلة نائم! وهل ترى مقلة النائم شيئًا؟ فتأملْ هذه السخرية، وفي الشطرة الثانية نسمع الشاعر يقول: إن قلبَه يلحظُ نورَ الصباح، فنبتهج للشاعر الذي استعاض عن رؤية النور بالبصر برؤيته بالبصيرة، ولكن الشاعر لا يدعنا نكمل الابتهاج؛ لأنه في التوِّ يخبرنا كيف يلحظ قلبه نور الصباح؟ إنه يلحظه بحسرة... وأي حسرة؟ حسرة ساهر، فهو ليس صبحًا إذن! إنه ليل، إنه ظلام! فانظر السخرية للمرة الثانية في بيت واحد. والشاعر لا يسخر بنا، بل بنفسه، ومن هنا نتألم.

وفي الجزء الرابع - وهو البيت قبل الأخير - يتجنب الشاعر السخرية من نفسه، ويلجأ إلى التعبير الواضح المباشر:
ومن لي إلى هذا الوجود بلمحة *** أراه ولم يعم التراب بصائري
فيبدو ضعيفًا لا يستتر خلفَ ما توهمه السخرية من قوة، انظر الحيرة في هذا السؤال: (من لي؟) فليكن أي إنسان، فلست أطلب ذلك من أحد معين ولتكن (لمحة)، فهي تكفيني، كذلك ألا تحس الإلحاح في قوله: (ولم يعم التراب بصائري؟) ألا تحس برعبه من أن تتحقق أمنيته في أن يزوره ريب المون، الذي كان يوهم نفسه أن فيه راحتَه؟ إنه ما زال متشبثًا بالحياة، إنه ما زال على أملٍ، ولكنه أملٌ ضعيفٌ حائرٌ يبهظُ نفسَه.

لكن البيتَ الأخير، وإن كان يشعرنا أن الشاعر قد فقد هذا الأمل نهائيًا، فإنه يبين أن هناك أملًا آخر في الضياء واللألاء: إنه ضياء القلب، ولألاء البصيرة، لا ضياء الشمس ولألاء الوجوه النواضر.

ولكن الشاعر انتقل (فجأة) من ذلك الأمل الضعيف الحائر الباهظ، الذي يكاد أن يكون يأسًا إلى أمل كبير! فما الذي تعنيه هذه النقلة الفجائية؟ ألا تعني أن السكينة والسلام كثيرًا ما يتفجران في قلب الإنسان فجأة، وهو في قلب أحلك الظلمات، وأشد ألوان اليأس قتامة.

والبيت على وجازته يبين أن في قلب الإنسان مسراتٍ وأفراحًا كامنة، وأن على الإنسان أن يستنبطها لنفسه بنفسه، قد تحرمنا الحياة أشياء كثيرة، وقد نرى فيها مفارقات عجيبة لا ترضاها عقولنا، لكننا نستطيع أن نتذوقَ طعم السعادة إذا أردنا.

ونحن نحس في حديث الشاعر إلى قلبه مع ذلك رنةَ الأسى وهو يحاول أن يسليه عما هو فيه (يا قلب... احتسب). والشاعر أخيرًا لا ينسى أيَّ شيءٍ حرم منه، إنه (الوجوه النواضر).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 74.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 72.21 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (2.92%)]