شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216043 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7826 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 52 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859550 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393912 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 19-03-2024, 03:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (12)

خطـر التكفـير!

اعداد: الفرقان




الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب: في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}.
2133. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقِيَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ، فَنَزَلَتْ {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ {السَّلَامَ}.
الشرح:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباب الحادي عشر من كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري: باب في قوله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وهي الآية الرابعة والتسعون من سورة النساء، وقد روى الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب التفسير. وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: لقى ناس من المسلمين رجلا في غنيمة له فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه وأخذوا تلك الغُنيمة، فنزلت {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قرأها ابن عباس: السلام.
هذا الحديث هو حكاية حادثة حدثت على عهد النبي[، ونزلت فيها آية الباب، وهي أن رجالا من الصحابة كانوا في غزوه مسافرين، وفي أثناء السفر لقوا رجلا يرعى غنما له، فسلّم عليهم فقال: السلام عليكم، فقالوا: سلَّم علينا ليحمي نفسه؟! وليعصم دمه وماله منا؟! فقتلوه.
قوله: «وأخذوا تلك الغنيمة»، الغنيمة تصغير الغنم، يعني: معه شيء يسير من الغنم، فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة مغنما؟! باعتبار أنه رجل كافر؟! فنزلت هذه الآية.
فقال الله تعالى فيها معاتبا، وآمرا عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادا في سبيله، وابتغاء مرضاته، وإعلاء كلمته، أن يتثبتوا ولا يستعجلوا، والتثبت إنما يكون في الأمور غير الواضحة والملتبسة، أما الأمور الواضحة فإنها لا تحتاج إلى تثبت، فالأمر الجلي البين، لا يحتاج فيه الإنسان إلى التثبت والتحري، أما الأمور الخفية والمشتبهة والمشكلة، فعلى المسلم أن يسأل ويتأكد من الأمر، وينظر هل يقدم عليه أو يحجم؟ هل يفعل أو لا يفعل؟
والتثبت في الأمور المشكلة فيه فوائد كثيرة، ويحصل به العصمة من شرور كثيرة، فالعبد إذا توقف وتبين قبل أن يقدم على الأمر، استطاع بعد التأكد والتثبت أن يفعل الصواب، أما المستعجل فقد يضع الأمور في غير نصابها بسبب العجلة، كما جرى لهؤلاء النفر من الصحابة رضي الله عنهم الذين عاتبهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية؛ لأنهم لم يتثبتوا، وقتلوا من أظهر الإسلام – وهو من سلّم عليهم – وكان معه شيء يسير من المال، وظنوا وتأولوا أنه إنما فعل ذلك من أجل أن يعصم نفسه، ويحمي دمه وماله!
وهذا الخطأ من الصحابة غير مقصود، بل هو اجتهاد خاطئ؛ ولهذا عاتبهم الله سبحانه وتعالى وناداهم باسم الإيمان، فقال: {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} أي: سافرتم لأجل الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله في الأرض {فتبينوا} أي: تثبتوا في الأمور المشتبهة، ولا تستعجلوا، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} أي: لا تقولوا لمن أظهر لكم الإسلام، وقال لكم: السلام عليكم، وهي كلمة الإسلام المشتهرة عندكم، وهي من شعائر دينكم، ومما يميزكم عن غيركم، لا تقولوا له: لست بمسلم؟! إذ كيف تقولون له ذلك، وهو قد أظهر الإسلام؟! فهل شققتم عن قلبه؟! واطلعتم على داخلة نفسه؟
وقد قال النبي [ مرة لخالد بن الوليد رضي الله عنه لما قال: ألا أضرب عنقه؟ لما اعترض الرجل على قسم النبي[ للغنائم، فقال[ له: «لا، لعله أن يكون يصلي؟ « فقال خالد: كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال له[: «إني لم أؤمر أن أنقّب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم؟» رواه البخاري ومسلم.
أي إن الله عز وجل لم يأمرنا أن نشق عن صدور الناس، ونرى ما في قلوبهم، ونرى هل قالوا هذه كلمة الإسلام بصدق وإخلاص؟ أم قالوها نفاقا وتقية؟ نحن شرعاً لم نؤمر بذلك، بل أمرنا الله ورسوله بأن نعامل الناس بالظواهر، والله يتولى السرائر، وهذا من القواعد الثابتة في الشريعة الإسلامية: أن الأمور تؤخذ بظواهرها، وأما البواطن فإنها موكولة إلى الخالق سبحانه وتعالى علام الغيوب، حتى إن النبي[ كان يقبل من المنافقين اعتذارهم إذا تخلفوا عن الجهاد معه؛ عملا بهذه القاعدة.
وقوله تعالى: {لمن ألقى إليكم السَّلَام} وفي قراءة لابن عباس: {لمن ألقى إليكم السلم} يعني: أظهر لكم السّلم، أي المهادنة وليس الحرب، فلم يبارزكم بحرب، ولا رفع عليكم سيفا، ولا طعنكم برمح، فلماذا بارزتموه أنتم بالعداوة وقتلتموه؟! وإنما بعثكم الله ميسرين، ولم يبعثكم معسرين، وقد أثنى الله تعالى على رسوله [، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107).
وقوله تعالى: {تبتغون عرض الحياة الدنيا} أي: حصل هذا عند بعضهم، فطمع في العرض الفاني، لما رأى ما مع الرجل من الغنم، حمله حب المال على الاستعجال في القضية، وارتكاب ما لا ينبغي شرعا؛ قال الله سبحانه وتعالى لهم: {فعند الله مغانم كثيرة} أي: لا ينبغي لكم أن تفوتوا ثواب الله سبحانه وتعالى، وهو العظيم الجزيل الباقي، في الدنيا والآخرة، لا تفوتوه بالقليل الفاني؛ فإن الدنيا كلها متاع قليل، والإنسان العاقل لا يبيع الكثير الجزيل، الباقي الأبدي، بالنزر القليل، الفاني المضمحل، بل إذا كان عقله صحيحا لا يمكن أن يوافق على هذه الصفقة الخاسرة!!
وهذا أيضا: فيه موعظة لحال العبد مع الله عز وجل في هذه الدنيا؛ فإنه إذا رأى نفسه مائلة إلى الدنيا وزخارفها وشهواتها، فعليه أن يوازن بينها وبين نعيم الآخرة، كما قال بعض السلف: «من باع ذهباً يفنى، بخزف يبقى، فهذا خاسر» أي: لو خيرك إنسان بين ذهب يفنى، فقال لك: أعطيك هذا الإناء من الذهب لتأكل فيه، لكن عمره شهر، أم أعطيك هذا الإناء من الخزف الذي عمره دائم باقي؟ فالعاقل ماذا يقدم؟ يقدم بلا شك الخزف الذي يبقى، على الذهب الذي يفنى، فكيف إذا قدم واختار الخزف الذي يفنى على الذهب الذي يبقى؟ فهذا أشد خسرانا!
وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة للحياة الأخرى؛ فإن الحياة الأخرى ذهب يبقى، والدنيا خزف يفنى، فينبغي للعبد أن يقدم ما عند الله سبحانه وتعالى، كما قال: {ما عنكم ينَفد وما عند الله باقٍ ولنجزينّ الذين صَبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:96).
ثم يذكّر الله تبارك وتعالى صحابة رسوله خاصة، وكل من منّ عليه بالإسلام من الناس كافة، يذكرهم بما كانوا عليه قبل الإسلام والإيمان، فيقول: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} (النساء: 94) أي: تذكروا حالكم من قبل أن تسلموا، فالصحابة كانوا ضلالا فهداهم الله، جهالا فعلّمهم الله ورسوله[، كفارا فأسلموا، جاحدين فآمنوا، فكما حصلت لكم الهداية بفضل الله ونعمته عليكم ، تحصل لغيركم من خلق الله.
وقيل: معنى {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} أي: كنتم تخفون إسلامكم عن المشركين.
فهذا كله تنبيهات من عند الله سبحانه وتعالى لعبادة؛ لاستعمال الحكمة والعقل، والتبين والتثبت في الأمور؛ ولهذا أكدّ الأمر مرة أخرى، فقال: (فتبينوا) وهذا تكرير للتأكيد، وتكرار الأمر يدل على تأكده بحق المأمور، وأهميته وخطره.
فكل من خرج إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، لا بد أن يكون عنده تثبت وتبين وتأنّ في الأمور؛ لأن الخطأ في الجهاد يؤدي إلى إزهاق أرواح بغير حق، وتعدٍّ على أنفس معصومة، وإتلاف أموال لم يأذن الله بإتلافها؛ فلهذا وجب التأني والتثبت، وقد قال[ في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» رواه البيهقي في «الشعب» عن أنس رضي الله عنه.
وهكذا الداعية إلى الله عز وجل ينبغي له أن يتبين ويتأكد، وأن يتثبّت من الأخبار، ولا يستعجل أو يتهور، في إصدار الأحكام على الناس، أو القضايا التي يسأل عنها؛ لئلا يقع في الأخطاء الفادحة، التي تضر به وبدعوته وبأتباعه، وربما شوهت جمال الإسلام، وصدت الناس عنه، كما حصل في هذا الزمان كثيرا، من بعض المستعجلين والمتحمسين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهكذا الحاكم والقاضي إذا عرضت عليه قضية من القضايا، فلا بد له من العلم بواقعة حالها، بالإضافة إلى العلم بالحكم الشرعي بها، فيحتاج إلى علمين: علم بالشرع وأحكامه، ثانيا: العلم بواقعة الحال، وتفاصيلها المعتبرة والمؤثرة في الحكم، حتى ينظر هل تنطبق عليها الآيات والأحاديث أم إنها لا تدخل في ذلك؟ وكلما كانت القضية كبيرة ومهمة وتمس الأمة كلها، فإنها تحتاج للتشاور مع أهل العلماء، وسماع أقوالهم وفتاويهم.
وقد قال الفقهاء: إن من قتل كافرا بعد أن قال: لا اله إلا الله، قُتل به؛ لأن الكافر إذا قال هذه الكلمة، فقد أسلم، وعصم دمه وماله، وإنما سقط القصاص عن هؤلاء النفر من الصحابة في زمن النبي[؛ لأنهم كانوا قد اجتهدوا وتأولوا، وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح، لا يكون مسلما، ولا معصوم الدم والمال، وأنه لا بد أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف، ولم تكن أحكام الشرع قد تكاملت وعلمت للجميع؛ ولذا عذرهم الرسول [.
لكن لا بد للكافر بعد قول هذه الكلمة، من الاستسلام والانقياد لشرع الله عز وجل بالقول والعمل، فلو قال: لا اله إلا الله، ثم أبى أن ينقاد لشرائع الإسلام، فأبى أن يصلي مثلا، أو أبى أن يتطهر ويتوضأ، أو أبي أن يصوم، أو أن يحرّم الحرام، فهذه الكلمة لا تنفعه؛ فليس الإسلام مجرد قول هذه الكلمة، ثم عدم الانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل، وشرائع الإسلام.
والله تعالى أعلى وأعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 19-03-2024, 03:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(13)

-الصلـح بيـن الزوجيـن

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}.
2134 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَلَعَلَّهُ أَلَّا يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا، وَتَكُونُ لَهَا صُحْبَةٌ وَوَلَدٌ، فَتَكْرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي.
الشرح:
الباب الثاني عشر من كتاب التفسير من مختصر مسلم، هو في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (النساء: 128).
والحديث قد أخرجه مسلم في التفسير أيضا.
قوله: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} هذه الآية من سورة النساء وهي الآية الثامنة والعشرون بعد المائة.
وهي تذكر مسألة النشوز، والنشوز من جهة الزوج: هو الترفع على المرأة بترك مضاجعتها، أو التقصير في نفقاتها وحقوقها؛ لبغضها، أو لرغبته بغيرها، أما النشوز من جهة المرأة: فهو الترفع عن طاعة الزوج، والمعارضة لأوامره، أو عدم الرغبة في البقاء عنده.
والآية يقول الله فيها: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصلحُ خيرٌ وأحضرت الأنفس الشح وإن تُحسنوا وتَتقوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء: 128).
تقول عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وزوج النبي [ في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلعله ألا يستكثر منها، وتكون له صحبة وولد فتكره أن يفارقها فتقول له: أنت في حلّ من شأني.
قول عائشة رضي الله عنها: « إن هذه الآية نزلت في المرأة « إذا قال الراوي: هذه الآية نزلت في كذا وكذا، فهذا نص على سبب النزول، وأسباب النزول كما ذكرنا سابقا مما يعين على فهم الآية، وفهم معانيها بفهم قصتها وسبب نزولها.
قولها: «نزلت في المرأة تكون عند الرجل « تعني الزوجة تكون عند زوجها».
قولها: «فلعله ألا يستكثر منها» تعني: يرغب عنها، فلا يريد البقاء عندها أو البيات، وربما تكون قد بلغت من السن الكبر، فيريد أن يفارقها ليتزوج غيرها، فيحصل إعراض من الزوج عنها، وهو النشوز المذكور وهو الترفع والإعراض، فعند حصول ذلك، أرشد الله تعالى إلى الأحسن للزوجين، ولها خاصة، إذا كان لها صحبة مع زوجها، أو كان لها ولد منه تكره أن يحصل بينها وبينه الفراق، فتقول له: أنت في حلٍّ من شأني، يعني: إن أحببت أن تبيت عندي فحياك الله، وإن أحببت أن تبيت عند زوجتك الثانية أو الثالثة، فأنت مخير، فتسقط القسم الذي لها، وهو المبيت وتهب يومها أو تهب ليلتها لضرتها، أو تقول له: أنت في حلّ من النفقة، أنا أنفق على نفسي، أو أنا أتدبر أموري وشؤوني، فتُسقط نفقتها، أو بعض نفقتها، تقول مثلا أنت في حل من كسوتي، أو أنت في حل من إيجار بيتي، فتسقط بعض النفقة.
فقوله تعالى: {فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصلحُ خيرٌ} فإذا اصطلحا واتفقا على هذه الحال {فلا جُناح عليهما} أي: فلا مانع ولا بأس عليهما، لا بأس على الزوج، ولا بأس على الزوجة في التصالح على ذلك. وقوله: {فلا جناح} والجناح هو الإثم، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، لتبقى معه العشرة وتدوم الألفة، ويكون ذلك بطيب خاطر من الطرفين، وهو جائز في جميع القضايا، إلا إذا تضمن الصلح تحليلا لما حرم الله، أو تحريماً لما أحل الله، فإذا كان الصلح يتضمن شيئا حرمه الله تبارك وتعالى فلا صلح، وكذلك لو تضمن الصلح تحريم شيئا أباحه الله؛ لقوله [: « الصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالا» رواه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجة.
وقد ورد في الصحيحين أيضا: أن هذه الآية إنما نزلت في أم المؤمنين سودة بنت زمعة زوج النبي [، فإنها لما كبرت خافت أن يفارقها النبي [ ويطلقها، فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، فكان النبي [ يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة.
وسودة بنت زمعة رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قديما بمكة بعد أن مات زوجها، وبعد خديجة وبعد زواجه بعائشة رضي الله عنهن، لكن لما تزوج النبي [ بعائشة لم يدخل عليها بمكة، وإنما دخل عليها بالمدينة لأنها كانت صغيرة.
فكانت سودة امرأة قد كبرت بالسن، ورضيت أن تهب يومها لعائشة؛ لأجل أن تبقى في مسمى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فتحشر يوم القيامة مع أزواج النبي [، فلأجل هذا الخير العظيم، رضيت أن تهب يومها لعائشة، وأن تتنازل عن بعض حقها، من أجل بقائها في ضمن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة.
فالصلح جائز بين المسلمين في جميع القضايا، فإذا حصلت بينك وبين أحد من الناس خصومه في حق من الحقوق، واتفقتما على أن تسقط أنت بعض حقك ويسقط هو بعض حقه ليحصل الاتفاق فلا مانع، لكن إذا كان الصلح يتضمن إباحة شيءٍ حرّمه الله، فهذا حرام لا يجوز، ولو اتفقا عليه؛ لأن الاتفاق على الأمر المحرم لا يجعله حلالا! ومثالاً على ذلك نقول: إن المتعاقدين بالربا متراضيان، فلماذا العقد فاسد وباطل؟ قلنا: لأنه تضمن محرما، ولو تراضيا على هذا العقد المحرم؛ فإن التراضي لا يحل الحرام، ولا يحرم الحلال، ومثله: حُلْوان الكاهن، ومهر البغي.
فالله سبحانه وتعالى أحلّ الصلح بين الرجل وامرأته، وذكر الله سبحانه وتعالى المقتضي لذلك ونبّه عليه بقوله: {والصلح خيرٌ}.
أي: يرشد الله سبحانه وتعالى إلى أن بقاء العقد مع حصول التقصير في بعض الحقوق خير للطرفين؛ لأن بقاء الزوجية عموماً فيه خير، ودوام كيان الأسرة المسلمة فيه خير للأولاد، وفيه خير للمجتمع عامة؛ ولهذا أباح الله سبحانه وتعالى مثل هذا الصلح ورغّب فيه، فقال تعالى: {والصلح خير}.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالصلح في مواضع أخرى من القرآن، فقال {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1).
ثم ذكر المانع من الصلح أحيانا، وهو الشح، الذي هو البخل مع الحرص، فقال: {َأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} (النساء: 128).
فإذا شحّ كل واحد من الطرفين بحقه، لم يمكن الصلح، فالصلح إذاً لا يكون إلا بأن يتنازل أحد الطرفين عن شيء من حقه أو أن يتنازلا جميعا، أما أن يحرصا ويشحا جميعا بالحق الذي لهما، فلن يمكن الصلح، فالشح وهو البخل بالحق الذي له، أن يبخل بالحق الذي له فلا يتنازل عن شيء منه.
والشح أمر طبعي، فالنفوس مجبولة على الحرص، ومجبولة على حب الخير لنفسها كما قال تعالى {وإنه لحب الخير لشديد} (العاديات: 8 ) أي: كثير حب الخير لنفسه.
لكن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى السماحة، ويدعوهم إلى الكرم، والى التنازل عن الحقوق التي لهم، والقناعة ببعض الحق أحيانا، إذا كان في ذلك تحقيق مصلحة أكبر؛ إذ إنك لا يمكنك بكل حال أن تحصل على حقك كاملا وتاما، وفي كل الظروف، فلا بد إذاً أن تقنع وترضى أحيانا بأقل من حقك، من أجل حصول مصلحة أعظم ، كالتقريب بين المسلمين، والصلح بين المتخاصمين وهكذا.
وقوله تعالى: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 128) أي: إذا أحسنتم في عبادة الخالق أولاً، وأحسنتم إلى المخلوق ثانيا - لأن الصلح نوع من الإحسان للغير، الذي يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه - أي: إذا أحسنتم في هذا وهذا، فإن الله تبارك وتعالى يحفظ لكم ذلك، ويجزيكم عليه أتم الجزاء {فإن الله كان بما تعملون خبيرا} فلا تخافوا أن يضيع عليكم شيء من أعمالكم الصالحة وحسناتكم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 19-03-2024, 03:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(14)

كمــال الديـن

اعداد: الفرقان




الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2135. عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [ بِعَرَفَاتٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ.
الشرح:
هذا الحديث أول حديث في سورة المائدة هاهنا، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب التفسير - الذي هو في آخر صحيحه - وهو في قوله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم...} ( المائدة: 3) الآية.
قوله: عن طارق ابن شهاب وهو البجلي الأحمسي معدود في الصحابة، قال أبو داود: رأى النبي [ ولم يسمع منه، مات سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين، روى له الستة.
قال: «جاء رجل من اليهود إلى عمر ]» وهذا الرجل كما هو واضح من سؤاله أنه من أحبار اليهود، أي من علمائهم. جاء إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت معشر يهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا يعني لو أن هذه الآية النازلة عليكم من كتاب الله تعالى، نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا نحتفل بها، ونحتفي بها، وهذا يدل على عظمة هذه الآية، وفضلها وبركتها وخيرها.
قال عمر ]: وأي آية؟ قال الحبر أو قال هذا الرجل من اليهود: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله [ في عرفات في يوم جمعة. وجاء في بعض الروايات: « نزلت ليلة جَمْع نزلت ليلة جمع»، ولا تعارض بين الروايتين، فليلة جمع هي ليلة العيد، وتكون هذه الآية نزلت في يوم عيد فلا حاجة بنا إلى أن نتخذ هذه الآية عيدا، أو نتخذ يوم نزولها عيدا؛ لأنها في الحقيقة نزلت في يوم عيد، بل نزلت في يوم عيد اجتمع مع عيد آخر، وذلك أنها نزلت في يوم الجمعة، ويوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين، فيه يلتقون ويجتمعون، ويتزينون ويتطيبون ويلبسون أحسن الثياب ويصلون الجمعة، وهي أيضا نزلت في يوم النحر الذي هو عيد من أعياد المسلمين، فهذا اليوم إذن يوم عيد من وجهين: أنه يوم عرفة وليلة جمع ويوم الجمعة، وكل منهما يوم عيد لأهل الإسلام.
وقوله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} هذا من فضل الله سبحانه وتعالى ومنته على هذه الأمة، أن أكمل لها الدين، فلم يبق للمسلمين حاجة إلى شريعة غيرهم، ولا إلى الشرائع الأخرى، وكذا لا حاجة لهم إلى الالتفات إلى العلوم الأخرى في مجال التشريع والأحكام، لأن الله تبارك وتعالى قد أكمل لهم الدين، وهذا شامل للأصول والفروع، في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، الدين كامل.
وهذا أبلغ رد على من ادّعى أنه ينصر الإسلام بعلم الكلام المبتدع؟؟! المأخوذ عن اليونان وفارس والهند، فاليونان وفارس والهند وغيرها من الحضارات التي سبقت الإسلام والأديان، لسنا بحاجة لعقيدتهم، ولا لنصرة شريعتهم، ولا الالتفات إلى غير كتاب الله سبحانه وهدي نبيه [، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لأن الله تعالى يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم}، ومن قال: إن الإسلام يحتاج لغيره؟! كذبناه ورددنا عليه، وقلنا له: الله أصدق منك قيلا، وكلامك هذا فيه تكذيب لكلام الله تبارك وتعالى؟!
فإذاً نحن لسنا بحاجة إلى الآراء، ولا إلى المبتدعات من الأقوال أو الأعمال، أو الأقوال والقواعد المخالفة للشرع، ولا حاجة لنا للاشتغال بها؛ لأن ما عندنا كاف شاف، والحمد لله حمدا كثيرا، لأن الله عز وجل لم يقبض رسوله عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن أكمل لنا الدين.
وقال سبحانه وتعالى أيضا في هذا: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38).
أي: ما أهملنا ولا أغفلنا شيئا، بل كل شيء أحصيناه في اللوح المحفوظ، الذي هو أم القرآن الذي نزل إليكم، فجميع الأشياء صغيرها وكبيرها فيه.
وقيل: قوله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أن الكتاب هو القرآن العظيم، وهو قول له ما يشهد له.
فيشهد له قوله تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} (النحل: 89) أي: لأصول الدين وفروعه، وفي كل ما يحتاج إليه العباد في الدارين، قد بينها أتم بيان وأوضحه، وبمعان جليلة لا تجدها في مكان آخر.
وقال تعالى أيضا {ولقد صرفنا في هذا القرأن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} ( الكهف: 54 ). فيخبر سبحانه عن عظمة هذا القرآن وجلالته، أنه صرف فيه من كل شيء نافع لكم في الدنيا والآخرة، يوجب لكم السعادة التامة.
وهذا يعني أن الكتاب العزيز لم يفته شيء أبدا، وأنه ما نزلت بالمسلمين نازلة، إلا وفي كتاب الله سبحانه وتعالى الدليل عليها، أو الدليل على أمثالها؛ لأن الفرعيات من المسائل لا تنتهي، لكن الأصول في كتاب الله تعالى وسنة رسوله التي يقاس عليها، شاملة لكل حادثة تحدث بالمسلمين إلى يوم القيامة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره ( 2/12): هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه الى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، كل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خُلف، كما قال تعالى {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما اكمل لهم الدين، تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} اي: فارضوه أنتم أنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فقد أكمل الله لنا الدين فيما أمرنا به من فريضة وفضيلة ونَدْب، وكل سبب ينال به صلاح القلب والدين، وفيما نهانا عنه من كل مكروه ومحرم، وكل سبب يؤثر فسادا في القلب والدين. (الكلام على مسألة السماع ص 110).
وقوله تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي} أي: أتم الله سبحانه وتعالى عليكم النعمة، بهذا الدين الكامل الشامل، ظاهراً وباطنا، فإتمام الدين نعمة عظيمة، يجب أن نشكر الله سبحانه وتعالى عليها؛ لأنه غناء وكفاية عن كل الناس.
وقوله جل وعلا: {ورضيت لكم الإسلام دينا} فالله سبحانه و تعالى رضي لنا هذا الإسلام دينا واصطفاه لنا واختاره، واختارنا نحن لهذا الإسلام، فلنشكر الله عز وجل على هذا، أن ارتضى لنا الإسلام، ومن علينا بنعمة الإيمان، فجعلنا مؤمنين مسلمين موحدين، دون بقية خلق الله أجمعين.
وهذه الآية من أعظم الأدلة في الرد على أهل البدع والأهواء، الذين يدعون أنهم يكملون الدين، أو يتممون الشريعة، بما أحدثوه من الأقوال والأفعال المبتدعة ، كإقامة الموالد مثلا، أو إحداث الأعياد المختلفة، وغيرها من البدع، فهم يزعمون أن في هذا نصرة للدين، وإظهارا لسيرة الرسول [، فنقول لهم: خير الهدي هدي محمد [، وما عندنا كاف شاف، والحمد لله سبحانه وتعالى الذي امتن علينا به، وقد قال علية الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك».
وقال أيضا: «إني تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض « رواه الطبراني وغيره.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 20-03-2024, 04:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

كتاب التفسـير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (15)

التوحـيد أمـنٌ وأمـان

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
136. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ [، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}».
الشرح:
هذا الحديث في سورة الأنعام، وقد أورده الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وبوب عليه النووي: باب صدق الإيمان وإخلاصه، وهو حديث الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي ].
قوله: « لما نزلت « هذا نص من ابن مسعود في أنه عند نزول هذه الآية، حصل ما ذكر، والمرويات التي تحتف بنزول الآيات، يستعان بها على فهم الآيات والمراد منها، وكيفية العمل بها؛ ولذا لا يستغني عنها المفسر لكتاب الله تعالى، كما في أصول التفسير.
فابن مسعود ] يقول لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) شق ذلك على أصحاب رسول الله [ «لأنهم ظنوا أن المراد بالظلم هنا، هو الظلم المطلق، أي: كل الذنوب والمعاصي؛ ولذلك قالوا: «أينا لا يظلم نفسه؟ « أي: من منا الذي لا يخطئ أو يقع منه التقصير في حقوق الله تعالى؟!
ولذلك قال رسول الله [ لهم: « ليس الأمر كما تظنون ! إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) أي: المراد بالظلم هنا، المقيد وهو الشرك.
وهذه الآية التي من سورة الأنعام، قد ذكرها الله سبحانه وتعالى بعد المحاجة التي كانت بين خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقومه، فقال سبحانه عنه: {وحاجّه قومه قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئا} (الأنعام: 80). أي: كيف: تجادلونني وقد تبين لي الهدى، واتضح لي الحق؟ وأي فائدة في الجدال، وقد هداني الله ووصلت إلى كمال العلم واليقين بالنبوة والرسالة؟!
وقوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: أنا لا أخاف آلهتكم الباطلة؛ لأنها لا تضرني ولا تنفعني لعجزها عن ذلك، وقوله {إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: إلا أن يشاء الله أن ينالني بمكروه أو سوء، بقضائه وقدره وفعله، لا بفعل أصنامكم وآلهتكم.
وقوله: {وسع ربي كل شيء علما} أي: قد علم ربي كل شيء؛ لكمال علمه وسعته وشموله، وليس كآلهتكم التي لا تعلم شيئا، ولا تفهم ولا ترد جوابا؛ لأنها جماد، أخشاب وأحجار، لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تعقل. {أفلا تتذكرون}: ألا تتعظون وتعتبرون إن كانت لكم عقول وأفهام، فتتركوا عبادة الصور المنحوتة، والتماثيل المصورة، التي لا تقدر على نفع لكم ولا ضر، ولا تفقه ولا تعقل، بل أنتم أكمل منها؛ لأنكم تسمعون وتبصرون وتتحركون، وهي جامدة.
ثم قال: {وكيفَ أخافُ ما أَشركتُم ولا تَخافون أنكم أشرَكتُم بالله ما لم ينزّل به عليكم سلطاناً} أي: كيف أخاف ممن لا يقدر على ضر ولا سوء، لي ولا لغيري، ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن نفسها كسري لها، وضربي لها بالفأس. وقوله {ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا} أي: بل أنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم، وهو على كل شيء قدير.
ثم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (81) أي: أي الفريقين أحق بالأمن: الذين آمنوا بالله عز وجل، وعبدوه وحده لا شريك له، أم الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، من علمٍ أو كتاب، ولم يرسل به رسولا؟ فالشرك الذي يفعله المشركون لم ينزل فيه كتاب، ولم يأمر الله سبحانه وتعالى به الرسل، بل فعلوه هم بغير برهان ولا كتاب.
قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) فبين أن الذي يستحق الأمن والهداية، هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أي: أهل التوحيد، ومعنى (يلبسوا): يخلطوا، أي: لم يخلطوا إيمانهم وإسلامهم بظلم، أي: بشرك، وهذه الآية بعمومها تشمل جميع أنواع الظلم، الظاهرة والباطنة، الكبيرة والصغيرة، وهو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من الآية، وهو المتبادر للذهن، أن الظلم هو أي ظلم، والظلم كما عرّفه أهل العلم هو: وضع الشيء في غير موضعه.
لكن السنة بيّنت هذه الآية، وأن المراد بالظلم فيها هو: الظلم الأكبر، والظلم الذي لا يغفره الله عز وجل، وهو الشرك به، وهو ما أعلمهم به النبي [ - بعد أن شقت عليهم هذه الآية - أن المقصود بالظلم ، هو ما ذكره لقمان الحكيم في وصيته لابنه بقوله تعالى: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13).
والوعظ: هو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، فأمره بالإخلاص ونهاه عن الشرك، وبيّن له السبب في ذلك فقال: {إن الشرك لظلم عظيم} وذلك أنه لا أبشع ولا أقبح ولا أظلم ممن سوى بين التراب ورب الأرباب؟؟! بين الناقص العاجز الفقير، والكامل القادر الغني الذي بيده ملكوت كل شيء؟؟!
إذاً الظلم هنا: صرف العبادة لغير الله تبارك وتعالى، ومن فعل ذلك فهو أظلم الظالمين؛ لجعله المخلوق بمنزلة الخالق.
وهذا الحديث يبين أن المقصود بالآية هو الشرك بالله تعالى، وهو جعل العبادة في غير موضعها. وقال أهل التفسير: إن الذي يؤمن إيمانا مطلقا، ويسلم تسليما مطلقا، فلا يلبسه بشرك ولا معصية، فهذا له الأمن التام، والاهتداء التام، في الدنيا والآخرة.
وأما الذي يؤمن إيمانا يخلطه بمعاصي وذنوب، فهذا له أمن غير تام واهتداء غير تام، لكن يحصل له أصل الأمن، وأصل الاهتداء؛ لأنه مسلم لكن لا يحصل له الأمن التام الكامل، بل هو متعرض للعذاب؛ لأن كل معصية تنافي التوحيد، فالمعاصي تنافي كمال الانقياد لله سبحانه وتعالى، وعبادة الله عز وجل حق العبادة، وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
وهكذا الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والحلف بغير الله ونحوه، ينافي الاهتداء التام، والأمن التام.
وكذلك ظلم الناس، والتعدي على أموالهم وأعراضهم، صاحبه غير مهتد، ومعرض للخوف.
وقال المعتزلة: إن المراد بالظلم في هذه الآية هو عموم المعصية، لا الشرك؟! وذلك أن الإيمان والمعصية عندهم لا يجتمعان؟! لأن مذهب المعتزلة والخوارج أن صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان بكبيرته؛ لأنه لا يمكن أن يكون مؤمنا ويسرق، أو مؤمنا ويشرب الخمر، فلا يجتمع عندهم هذا وهذا، بل عندهم إن شرب الخمر كفر؟ وإن سرق كفر؟ وان قتل كفر، وان فعل أي كبيرة من الكبائر كفر؟؟!
أما أهل السنة فيقولون: يمكن أن يجتمع في الإنسان كفرٌ وإسلام، وإيمانٌ ومعصية، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) فهذا قول أهل السنة والجماعة، أن الإسلام والمعصية قد يجتمعان في الشخص، وارتكاب الكبيرة لا يخرج الإنسان عن حدّ الإسلام، بل يسمى صاحبه مؤمنا بإيمانه، فاسقا بكبيرته، وهم معرضون للعقوبات في الدنيا والآخرة.
ولقمان المذكور في الآية عند عامة أهل العلم أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، إلا عكرمة فإنه قال: كان نبيا. وتفرد بهذا القول، وقيل اسمه: أنعم، وقيل اسمه: مشكم، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 20-03-2024, 04:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(16)

من علامات الساعة الكبرى

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2137. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ «.
الشرح: الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (158) وبوب عليه النووي: باب الزمن الذي لا يُقبل فيه الإيمان.
وهو في قوله تبارك وتعالى: {هل يَنظرون إلا تأتيهم الملائكةُ أو يأتي ربُّك أو يأتي بعضُ آياتِ ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قل انتظروا إنا منتظرون} وهي آية من سورة الإنعام، الآية الثامنة والخمسين بعد المائة.
والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه الصحابي الجليل، راوية حديث رسول الله، وحافظ سنته، وناقل هديه لمن بعده.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ».
قوله: «ثلاث» يعني: ثلاث آيات وعلامات، والآيات هي الأمور الخارقة للعادة، والتي يسميها العلماء بالمعجزات، وهي المعجزات الكائنة قبل يوم القيامة، وهذه الآيات كائتة قبل يوم القيامة، وهي دالة على قرب قيام الساعة، وتسمى أمارات الساعة، أو علامات الساعة، وأشراط الساعة، وهي التي تدل على قرب قيام الساعة، قال تعالى: {هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} (محمد: 18). أي: فهل ينتظر هؤلاء المكذبون إلا قيام الساعة فجأة، فقد جاءت علاماتها الدالة على قربها {فأنى لهم} فأين لهم وقت التوبة والتذكر، إذا جاءت الساعة، وقامت القيامة؟!
ففيه حثٌ على الاستعداد للقاء الله تعالى.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هاهنا ثلاث علامات تدل على قرب قيام الساعة، فقال: « ثلاث إذا خرجن» أي: ثلاث آيات وعلامات إذا خرجن، يعني: إذا ظهرن للناس.
قوله: «لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» هذه الآيات الثلاث إذا خرجن، لا ينفع نفساً إيمانها، أي إذا رأتها ثم آمنت، أي: تابت إلى الله من كفرها وأسلمت، فإنه لا يفيدها ذلك، فلا ينفع الكافر إيمانه إذا رآها، أي: إذا أسلم بعد رؤية هذه الآيات، فان إسلامه لا ينفعه.
وما الحكمة في هذا؟ أو ما المانع من قبول التوبة؟
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جرت عادته وسنته، واقتضت حكمته، ألا يقبل من الإيمان، إلا ما كان اختياريا، أي: برغبة الإنسان واختياره وإخلاصه، أما ما كان إيمانا اضطراريا، مدفوعا إليه ومكرها، فإن الله عز وجل لا يقبله؛ ولذلك قال الله سبحانه: {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرُّشد من الغي} (البقرة: 256). فالمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا حاجة لنا لإكراه الناس على دين الله عز وجل؛ لأن دين الله وهو التوحيد والإسلام واضح جلي، وآياته وحججه وبراهينه أظهر من أن تنكر، وإنما يجبر المرء على ما لم يتضح فائدته وصلاحه، من الأمور الخفية أو الغامضة أو الضارة.
ولذلك لا يقبل الله عز وجل إسلام المكره على الإسلام، وهكذا إيمان الغريق إذا عاين الموت، كإيمان فرعون لما أدركه الغرق، فإنه قال لما جزم بهلاك نفسه كما حكى لنا القرآن الكريم: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} (يونس: 90). فقال الله تعالى له: {ءآلآن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين} (يونس: 91) أي: الآن تسلم وتنقاد لله ولرسوله، وقد عصيت الله وبارزته بالمحاربة وبالكفر والتكذيب؟! فلا ينفعك ذلك.
وهكذا المريض إذا عاين الموت، أو الحريق، وغرغرت الروح، وآمن عند ذلك، فلا يقبل الله منه هذا الإيمان؛ لأن الإيمان المطلوب من العباد هو الإقلاع عن الذنوب والمعاصي والشرك، في زمن الاختيار، أي: في زمن يختار فيه الإنسان إيمانا رغبة فيه، وإخلاصا لله عز وجل، واستجابة لأمره، وإلا فالأمر كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 84 - 85).
أي: لما رأوا عذاب الله وشاهدوه، وأحاط بهم، آمنوا وأقروا، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان. قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي: في تلك الحال، وهذه {سُنَّة اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي عادته؛ فلا يقبل إيمانهم، ولا ينجيهم من عذابه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} خسروا دينهم ودنياهم وأخراهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: « إن الله ليقبل توبة العبد، ما لم يغرغر» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه.
وقوله تعالى: {أو كسبت في إيمانها خيرا} أي: ولا يقبل من المؤمن المقصّر المذنب، صاحب المعاصي، إذا رأى هذه الآيات، لا يقبل منه أن يتوب عن معاصيه ولو كانت غير مكفّرة، ولا يقبل منه كذلك أن يزداد في إيمانه، بعمل الطاعات والقربات؛ لأنه عاين الساعة وشاهدها، وإنما يقبل منه ما كان له من عمل صالح سابقا، وإيمان قبل ظهور هذه الآيات، وقبل خروج هذه العلامات للقيامة، فينفعه الخير الذي كان عنده قبل، أما إذا أراد مثلا أن يزداد عملا، فكان سابقا يصلي الفريضة فقط ولا يزيد، فإنه إذا تطوع بعد هذه الآيات لا يقبل منه، ولو أراد أن يصلي من الضحى، أو يصلي من الليل بعدها، ولم يكن يعمله قبل ظهور هذه الآيات، فإنه لا يقبل؛ لأنه إنما فعله مضطرا، والله سبحانه وتعالى إنما يحب منا الإيمان والطاعة في زمن الاختيار؛ ولهذا كان التعبد لله سبحانه وتعالى والدعاء في زمن الرخاء والراحة، يحبه الله عز وجل من العبد؛ لأنه دليل الرغبة فيما عند الله، والرهبة مما عنده، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث الترمذي: « من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر من الدعاء في الرخاء ».
أما أول هذه الأمور التي إذا حصلت وخرجت، لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فهو: « طلوع الشمس من مغربها» وفي الرواية الأخرى لمسلم: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا ».
وطلوع الشمس من مغربها قال أهل العلم: هو أول الآيات الكونية الكبرى، وعلامات الساعة منها صغرى ومنها كبرى، ومنها أرضي ومنها سماوي، فالأرضي هو ما يفعله الناس، أو ما يقع من الناس، أو ما يحدث على الأرض، مثل: كثرة الجهل وقلة العلم، وذهاب العلماء، وكثرة الزنى وانتشاره، وشرب الخمر مع تسميتها بغير اسمها، ومثل عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وإخلاف الوعد، فهذا وما أشبهه مما يقع، هو من علامات الساعة الأرضية.
وهناك علامات سماوية: أي تقع في السماء، وأعظم الآيات الكونية: طلوع الشمس من مغربها، وسيأتي الكلام عليها في الحديث التالي.
أما الدجال: فالمقصود به رجل يخرج في آخر الزمان، عند ظهور المهدي ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء، عند ذلك يخرج الدجال، وهو الدجال الأكبر، وإلا فالدجالون كثر في كل زمان ومكان، ولكن هذا رأسهم وكبيرهم، ومن كفره وطغيانه أنه يدعي الإلهية ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، وتكون معه فتنة عظيمة؛ إذ إنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها، فتتبعه كنوزها كأنها يعاسيب النحل، أي: كأنها جماعات النحل، ومعه جنة ونار، جنة فيها ماء يجري، ومعه نار تلظى، فناره جنة في الحقيقة، وجنته نار، ويدعو الناس إلى الإيمان به بأنه هو الإله، فمن آمن به قذف به إلى جنته، التي هي في الحقيقة نار، ومن كفر به قذف به إلى ناره، التي هي جنة في الحقيقة.
وأما دابة الأرض: فهي دابة تخرج في آخر الزمان، جاء ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (النمل: 82).
أي: إذا جاء الوقت الذي حتمه الله، أخرج لهم دابة من الأرض وليست من السماء، تخاطب وتكلم الناس، كلاما خارقا للعادة، فتكون عليهم حجة وبرهانا.
وهذه الدابة تخرج إلى الناس وتميزهم وتسمهم بعلامات، يعرف بها المؤمن من الكافر، كما ورد في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة، فتسم الناس على خراطيمهم – أي على أنوفهم – ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير، فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: من أحد المخطّمين» رواه أحمد (5/268) وصححه الألباني – الصحيحة (322).
وهذه الدابة لها بعض التفاصيل المذكورة في كتب التفسير لا تصح، وقد أعرضنا عنها، وإنما ورد ذكرها في القرآن في هذه الآية من سورة النمل، وجاء ذكرها أيضا في هذا الحديث.
وفي الحديث هنا: أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من المؤمن عملا ما يزيد في إيمانه عند خروجها، كما لا ينفع الكافر إسلامه أو إيمانه أو رجوعه وتوبته؛ لأن تصديقه صار اضطراريا وليس اختياريا، أما ما كان قبل ذلك من عمل، فإنه يكتب لأهل الإسلام وأهل الإيمان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 20-03-2024, 04:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(17)

-من علامات الساعة الكبرى (2)

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2138. عَنْ أَبِي ذَرٍّ ] أَنَّ النَّبِيَّ [ قَالَ يَوْمًا: «أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}».
الشرح: الحديث الثاني في هذا الباب: وهو باب قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} (الأنعام: 158). وقد رواه مسلم في الإيمان (159)، هو حديث أبي ذر ] أن النبي [ قال يوما لأصحابه: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم» وهذه عادة الصحابة الكرام، وهي من أدبهم مع رسول الله [، أنهم لم يكونوا يتكلمون بين يديه، وأحيانا لو علموا الجواب ما تكلموا، وفي هذا طلب زيادة الانتفاع بكلام النبي [، وكذلك الكبراء والعلماء، ولو كان عند الإنسان علم.
قوله [: «إن هذه»، يعني الشمس «تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها»، فهذه الشمس تجري كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} يعني: أنها غير ثابتة، بل أثبت الله  تبارك وتعالى لها الجريان، والجري: هو السير بقوة وبسرعة، فالشمس تجري بسرعة وبقوة حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش.
قال عياض: هذا الحديث على ظاهره عند أهل الحديث والفقه والمتكلمين من أهل السنة، خلافا لما تأولته الباطنية (شرح النووي 2/195).
ولا بد أن نعلم أولا: أن الشمس أينما كانت فهي تحت العرش، وكذلك جميع المخلوقات هي تحت العرش؛ لأن العرش فوق السموات كلها، وهو سقف المخلوقات جميعاً، فهو أعلى ما خلق الله تعالى من المخلوقات، وقد ذكر الله سبحانه استواءه عليه، وارتفاعه فوقه، فقال: {الرحمن على العرش استوى} أي: علا وارتفع، في سبع آيات من القرآن الكريم.
 وجاء في الحديث الصحيح أن العرش سقف جنة الفردوس، إذ يقول [: «فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنة» رواه البخاري (7423). والفردوس كما هو معلوم هو أعلى الجنة، يعني في السموات العلى.
فالشمس أينما كانت، هي تحت العرش، وسجود الشمس يليق بخلقها، ويليق بطبيعتها؛ لأن سجود كل مخلوق بحسب خلقه، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن الجبال والجمادات أن سجودها بالعشي والإبكار، إنما هو بالظلال، وكذا كل كافر يسجد ظله لله رغما عنه، قال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (النحل: 48) فقوله: {ما خلق الله من شيء} أي: كل مخلوقات الله التي لها ظل، هي ساجدة لله،خاضعة لعظمته، بظلالها، تارة عن اليمين، وتارة عن الشمال، في الشروق والغروب {وهم دَاخِرُونَ} يعني: راغمون صاغرون.
فذكر الله سبحانه وتعالى أن سجود الجبال ونحوها أنه يكون بالظلال، فالظل يكون على الأرض خارّا ساجدا، وهذا نوع من السجود لله تعالى.
وسجود الشمس هو أيضا بحسب خلقتها وطبيعتها، وهو بتمييز منها وإدراك خلقة الله فيها. وقد أخبر النبي [ أنها إذا صارت تحت العرش، وذلك عند منتصف الليل - وهي أبعد ما تكون عن العرش - فحينئذ تسجد، وتظل كذلك ساجدة حتى يؤذن لها.
قال الواحدي: وعلى هذا القول إذا غربت كل يوم، استقرت تحت العرش، إلى أن تطلع من مغربها.
قوله: «فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتصبح طالعة من مطلعها» يعني تشرق الشمس من المشرق كالعادة، لا يستنكر الناس منها شيئا؛ إذ كل يوم يرونها تشرق من المشرق، وتجري حتى تكون في كبد السماء - منتصف السماء - عند الظهيرة، وبعد ذلك تميل لجهة الغرب حتى تغرب، ثم تظل سائرة حتى تكون في منتصف الليل تحت مكانها من الظهيرة، فحينئذ تسجد ثم تستأذن بأن تخرج مرة أخرى من مشرقها.
(انظر تفسير ابن كثير 3/528) عند قوله {والشمس تجري لمستقر لها} (يس: 38).
وهذا كله خبر غيبي، يخبر به نبينا [ الذي {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} (النجم: 3- 5).
قوله «فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا»  حتى تنتهي إلى يوم يقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، بدلا     من أن تطلع من المشرق، أي: على عكس ما كانت تفعل كل يوم، فتصبح طالعة من مغربها، بأمر الله تعالى وتقديره وعلمه وحكمته.
وهذا تحول كوني عظيم، يندهش له العالم، وتطير له عقولهم، ويهرعون عنده إلى التوبة وترك المعاصي، والدخول في الإسلام، ولكن هيهات وقت التوبة؟! فقد مضى وانتهى، وحقّ عليهم قوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مُريب} (سبأ: 54).
ثم قال [: «أتدرون متى ذاكم؟» يعني: متى يكون طلوع الشمس من المغرب؟!
قال: «ذاك حين {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}» فإذا طلعت الشمس من المغرب، فإنه لا ينفع نفسا إيمانها، لا ينفعها إيمانها إن كانت كافرة فآمنت وأسلمت؛ إذ لا يقبل منها الإسلام حينئذ؛ لأن الله تبارك وتعالى كما ذكرنا في الحديث السابق، لا يقبل من الناس الإيمان الاضطراري، وإنما يقبل منهم الإيمان الاختياري، وإذا حصل ما يدفع الإنسان إلى الإيمان والإذعان اضطراريا، فإن الله لا يقبل منه هذا الإيمان، مثل الغرق والحرق وظهور هذه الآيات الكونية الباهرة فعندئذ لا ينفع نفسا إيمانها، {أو كسبت في إيمانها خيرا}، يعني أن تزيد في عملها الصالح عملا آخر لم تكن كسبته من قبل، فأهل القبلة المصدقين إذا رأوا هذه الآية التي اضطرتهم إلى هذا العمل الصالح، لا يقبل منهم ذلك، إلا ما كانوا عملوه من قبل. وذكر في الحديث السابق أيضا: ظهور الدجال وخروج دابة الأرض، فهذه ثلاث آيات إذا خرجت لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا.
وقال أهل التفسير: للشمس مستقر زماني، ومستقر مكاني، أما المستقر الزماني فهو قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38). وهو منتهى سيرها؛ حيث ينتهي جريانها، وذلك في يوم القيامة، فإذا جاءت الساعة بطل سير الشمس ووقفت، وكوّرت، أي: تُجمع وتلف وتصير كالكرة، وجمعت هي والقمر، كما قال سبحانه: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة: 9).
فتسكن حركة الشمس عند نهاية هذا العالم، وهذا المستقر الزمني الأول.
أما المستقر المكاني: فهو سجودها تحت العرش، كما نص هذا الحديث عليه. وقد روى الإمام مسلم    هذا الحديث عن أبي ذر مختصرا (1/139)، ولفظه: «قال أبو ذر ]: سألت رسول الله [ عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) قال: «مستقرها تحت العرش».
وفي رواية أخرى قال:  دخلت المسجد ورسول الله [ جالس، فقال: «يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب فتستأذن في السجود، فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها».
وذلك التقدير تقدير العزيز العليم، العزيز الذي لا يخالف في أمره، ولا يمانع في قدرته، العليم بجميع الحركات والسكون، وهو سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
 وقد يقول قائل: نحن نرى الشمس تشرق وتغرب وتسير، ولا نرى لها سجودا؟! ولا نرى لها تحركا غير اعتيادي؟!
والجواب أن نقول: نحن نؤمن بهذا الخبر الغيبي، الذي قد لا يدرك بالحس والمشاهدة؛ إذ هو من العلم الغيبي، الذي علّمه الله تعالى لنبيه [، والواجب علينا الإيمان والتصديق والتسليم، وترك الاعتراض والشك، كما قال عز وجل عن صفات المؤمنين: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: 2).
والله تعالى أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 21-03-2024, 05:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(18)

من قبائح الجاهلية

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2139. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا، تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ، فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
الشرح: هذا الحديث في سورة الأعراف، وقد رواه مسلم في التفسير، وهو عن الحبر ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).
يقول ابن عباس: « كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانه».
وفي رواية لمسلم عن ابن عباس: « أن الرجال كانوا يطوفون بالبيت عراة نهارا، وكانت النساء تطوف بالبيت عراة ليلا طلبا للستر « أي: طلبا للتستر عن أعين الناس؟
فتقول: «من يعيرني تطوافا» التطواف هو الثوب الذي يطاف به، أي: لكي تستر به عورتها أثناء الطواف.
وهذا الفعل المنكر الذي زيّنه الشيطان الرجيم لأهل الجاهلية، وهو أنه زيّن لهم الطواف بالبيت الحرام بمكة عراة؟! إذا جاؤوا مكة للعمرة، يرمون ثيابهم التي يزعمون أنهم عصوا الله تعالى فيها، ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها بعد ذلك أبدا، بل تُداس بالأرجل حتى تبلى وتتمزق، ويسمونه: الإلقاء أو اللقى، حتى جاء الإسلام، وحرم الله ذلك، ومنع النبي [ المشركين أن يطوفوا بالبيت عراة، وأمر بستر العورة، وذلك لما أرسل أبا بكر رضي الله عنه، وأردفه بعلي ]، أن يؤذّنا في الموسم: « ألّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان». رواه البخاري (369) ومسلم في الحج (4/982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان أهل الجاهلية ينسبون هذا الفعل القبيح إلى آبائهم وإلى الله تعالى؟! قال سبحانه: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الأعراف: 28).
فقوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الفاحشة هنا: هي الطواف بالبيت عراة، وهذا من أبشع ما يتصور!! أن يتعرّى الإنسان عند بيت الله الحرام، في المسجد العتيق المبارك؟! الذي أمر الله من بناه وهو خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتطهيره، فقال: {وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (الحج: 26).
فقوله: {وطهر بيتي} أي: من الشرك والمعاصي، ومن النجاسات والأقذار، الحسية والمعنوية، وأضافه إلى نفسه فقال: {بيتي} تشريفا وتعظيما، فتعظم محبته في القلوب.
فانظر كيف استدرج الشيطان أهل الجاهلية، وجعلهم ينحطون إلى مثل هذه الحالة المزرية القبيحة، بما سوّل لهم وزين من القبيح، وإظهاره بصورة التعبد والتبرر، وهذا من قلب الحقائق، وعكس المفاهيم، وعدو الله بارع في مثل هذه الأحوال، حيث يقلب الحق باطلا، والباطل حقا، والحسن قبيحا والعكس، ويأتي الناس من باب العبادات، فيشرع لهم ما لم ينزل به الله سلطانا، فقال للمشركين: هذه ثياب عصيتم الله فيها، فكيف تطوفون بها ببيت الله الحرام؟! بل نزهوا بيت الله الحرام عن الطواف بهذه الثياب المليئة بالذنوب؟! فألقوها عنكم، وحرموا ما أحل الله اتباعا للشيطان؟! فكان أحدهم إذا جاء إلى مكة، ووجد من يُعيره ثوباً يطوف به فعل، وإلا ألقى ثيابه، وطاف بالبيت عريانا بغير ثياب؟؟!
وهذا إذا كان لم يقدر على شراء ثوب جديد يطوف به.
والأقبح من ذلك أنهم ادعوا أن آباءهم كانوا على ذلك؟! ثم نسبوا هذا الفعل الشنيع لله عز وجل ولشرعه، فقال الله تعالى عنهم {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} فهؤلاء الذين لا يؤمنون بالله الذين اتبعوا الشيطان، يزعمون أن الذي أمرهم بذلك هو الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا! فرد الله عليهم هذا الزعم الباطل فقال: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} قال ابن جرير: أي: قل لهم يا محمد: الله لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها، ثم قال: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} أتروون على الله أنه أمركم بالتعري؟! والتجرد من الثياب واللباس للطواف؟! وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟
ثم قال الله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أي: قل لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبا على الله: إن الله إنما يأمر بالقسط، أي: بالعدل، وأن تجعلوا سجودكم لله خالصا، دون ما سواه من الآلهة الباطلة.
وقد قال الله سبحانه وتعالى محذرا قبل هذه الآية: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} (الأعراف: 27).
فقوله: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي لا يخدعنكم الشيطان، ويوقعكم في الفتنة والبلاء العظيم، ويصدكم عن سبيل الله تعالى، كما فعل مع أبويكم، بمكره وحيلته، حيث زين لآدم وزوجه الأكل من الشجرة التي نهاهم الله عنها، فلما أكلا من الشجرة، بدت لهما سوءاتهما، وطارت عنهم ثيابهما، وما كان يسترهما من الستر، قيل: كان نورا، فظهرت لهما السوءة؛ فلهذا حذر الله من هذا المكر الشيطاني وقال: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} وأنزل تبارك وتعالى بعدها {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. رواه ابن جرير (14507 ).
وقوله: {عند كل مسجد} يعني: عند كل صلاة، فرضا كانت أو نفلا، فيجب على المصلي أن يأخذ زينته للصلاة.
والزينة: قال أهل التفسير: هي اللباس الذي يستر العورة، فيجب على الإنسان إذا أراد أن يصلي أن يستر عورته، فهذا واجب كما قلنا في الصلوات كلها بلا خلاف بين المسلمين.
وقال بعض أهل التفسير: قوله {خذوا زينتكم} المقصود به ما هو زائد على مجرد الثياب، فهو ما يتزين به الإنسان زيادة على ثيابه، يعني الزينة التي تكون فوق الثياب التي يستر بها عورته ، كالعمامة والعباءة، وكذا الطيب، والتنظّف ما استطاع، والسواك، ولاسيما في الصلوات التي يجتمع لها المسلمون كصلاة الجمعة والعيدين؛ فإن هذا مما يزداد سنيته واستحبابه، والنبي [ حث على ذلك: «ومن أتى الجمعة فليغتسل يمس من طيبه ومن طيب أهله» ويتسوك فيأخذ زينته عند كل صلاة، فهذا مشروع وشي محبوب.
وروى الطبراني: عن تميم الداري ] بسند صحيح: أنه اشترى ثوبا بألف دينار، أو بألف درهم يلبسه للصلاة؛ تجملا بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وهذا من تعظيم شعائر الله تعالى، وأمر القيام بين يديه.
لكن هذا لا يعني الإسراف في ذلك، فقد قال سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقال {ولا تبذر تبذيرا}، وقال: {إن الله لا يحب المسرفين} وغيرها.
فكما أمركم الله سبحانه وتعالى بأخذ الزينة، وخاطبكم بذلك فهذا لا يعني الإسراف في ذلك. وقال [: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، في غير إسراف ولا مخيلة» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.
ويروى أيضا موقوفا عن ابن عباس أنه قال: كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة.
من غير أن يكون في ذلك مبالغة في الإسراف، ولا مخيلة: يعني خيلاء وفخر وكبر.
وقد حث النبي [ على لباس البياض، فقال [ فيما رواه الإمام أحمد وأهل السنن: «البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم».
وقال أيضا: «البسوا الثياب البيض؛ فإنها أطهر واطيب، وكفنوا موتاكم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وابن ماجة – صحيح الجامع.
فهو لباس كان يستحبه النبي [ ويكثر من لبسه.
وستر العورة عند إرادة الصلاة، واجب في كل حال من الأحوال كما ذكرنا، ولو كان الرجل خاليا وحده في بيته، فالصلاة لا تصح إذا صلى الإنسان كاشفا عورته , والمرأة كذلك، وهي كلها عورة في الصلاة إلا الوجه والكفين على الصحيح، كما جاء ذلك في حديث النبي [: « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار».
وقوله «حائض» يعني: بالغة.
والله تعالى أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 21-03-2024, 05:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(19)

من صفة نعيم أهل الجنة

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2140. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِ[: «يُنَادِي مُنَاد:ٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}».
الشرح:
هذا الحديث الثاني في سورة الأعراف، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
وهو حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة جميعا، روياه عن النبي [ أنه قال: «ينادي مناد» وهذا المنادي قد يكون من الملائكة، أو من غيرهم، فينادي أهل الجنة مبشرا لهم فيقول: «إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا» أن تصحوا يعني أن تكونوا صحاح الأبدان، فلا يصيبكم في الجنة الأمراض ولا الأسقام، فالمرض لا يطرأ على أهل الجنة، بقدرة الله سبحانه وتعالى وحفظه وبأمره.
قوله: «وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا»، فأهل الجنة لا يموتون أبدا، كما قال الله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (الدخان: 56). يعني: لا يموتون أبدا إلا موتة الدنيا.
وقال سبحانه تعالى في مواضع كثيرة من القرآن: {هم فيها خالدون} وقال {خالدين فيها أبدا} وقال: {لهم فيها نعيم مقيم}، وقال: {عطاءً غير مجذوذ} أي: غير مقطوع. وهذا وأمثاله في القرآن كثير؛ مما يدل على أبدية الجنة وأهلها ونعيمهم.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في «العقيدة»: « والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان».
وذلك أن الموت من أعظم المنغصات للإنسان، وهو يتقيه بكل ما أوتي من قوة ومال وجاه وسلطان، ولو ذكره أو تذكره وهو في فرحه وسروره، وبين أهله وولده، وفي ملكه وسلطانه، لضاقت نفسه وتكدّرت، وتغيرت من الفرح والسعادة، إلى الضيق والحزن، والهم والغم.
فأهل الجنة لا يجري على بالهم الموت ولا الفناء، أو حتى الانتقال مما هم فيه، كما قال تعالى: {لا يبغون عنها حولا}.
قوله: «وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا» أي: إن أهل الجنة في شباب دائم، لا يطرأ عليهم الهرم، ولا تصيبهم الشيخوخة، ولا يشيبوا، بل هم في شباب مستمر دائم لا ينقطع، بأمر الله سبحانه وتعالى، قال [: «أهل الجنة جُردٌ مردٌ كُحل، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم» رواه الترمذي بسند حسن.
قوله: «وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا» أي: إن لكم أن تنعموا نعيماً مستمرا أبدا، ليس فيه بؤس، والبؤس: هو الفقر وشدة الحال، وأيضا البؤس هو الشقاء، فأهل الجنة لا يصبهم شقاء، بل هم في راحة وسعادة وطمأنينة، لا يكدر عيشهم شيء من الأكدار، لا الأمراض ولا الفقر، ولا يهابون الأعداء، ولا يذهب عنهم الأمن، ولا يصيبهم الفزع، ولا ينغص عيشهم مرض ولا موت، ولا ارتحال ولا انتقال، كل هذه المنغصات ممنوعة عنهم ومرفوعة، فلا يصبهم فيها شيء منها؛ لكمال نعيمهم.
قوله: قال [: «فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43)».
{ وَنُودُواْ}: أي: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات (نودوا) مبني لغير المذكور، قيل: المنادي هو الله سبحانه وتعالى؛ تكريما لهم وتشريفا.
وقيل: المنادي هم الملائكة.
والحاصل أنهم ينادون بذلك تهنئة وبشارة لهم، وتحية إكراما.
ومعنى قول الله عز وجل: {أورثتموها} أي: كنتم أنتم الوارثين لها، والمقصود هم أهل الجنة، لكن هم ورثوا الجنة عمن؟! هل كان في الجنة أحد قبلهم ليرثونها عنهم؟ قال بعض أهل التفسير: إن أهل الجنة يرثون منازل الكفار؛ لأن كل إنسان له منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن هو آمن وعمل بعمل أهل الجنة، دخل منزله في الجنة، وإن هو كفر وعمل بعمل أهل النار والعياذ بالله، دخل منزله في النار، وورث أهل الجنة منزله بالجنة.
وقيل: معنى {أورثتموها} أن هذه المنازل التي في الجنة إنما أعطيتموها بالأعمال الصالحة التي اكتسبتموها، وبرحمة الله تبارك وتعالى.
وقيل: {أورثتموها} يعني: جاءتكم بلا تعب ولا نصب، ولا بناء بيوت وقصور، ولا غرس زروع وأشجار، ولا شق أنهار، بل أخذتم ذلك كله سهلا، كالميراث في الدنيا، فالميراث يأتيك بغير تعب ولا اكتساب، فكذلك الجنة وما فيها من النعيم الواسع، من مساكن وأشجار وبساتين وأنهار وأزواج، هذا كله جاءك بغير تعب ولا نصب كالميراث الذي لم تتعب فيه.
وقول الله عز وجل: {بما كنتم تعملون}، الباء هنا هي السببية، أي إن أعمالكم كانت سبباً في دخولكم الجنة، بعد رحمة الله سبحانه وتعالى وفضله؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي وفقكم للإيمان والعمل الصالح، وهو الذي أقدركم وأعانكم على العمل الصالح، ووقاكم شر أنفسكم والشيطان.
أما المعتزلة فيقولون: أهل الجنة يدخلون الجنة بأعمالهم وليس بتوفيق الله؟! لأنهم يزعمون: أن الله عز وجل لا يقدر أن يهدي ضالا؟! ولا أن يضل مهتديا، بل ولا أن يزيد المهتدي هداية؟! وإنما هي أعمال كلها كسب من العباد فقط عندهم؟!
قال جار الله الزمخشري المعتزلي صاحب كتاب: « الكشاف في التفسير» في تفسيره لقوله تعالى: {بما كنتم تعملون}: بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة؟؟! انتهى.
هكذا قال؟! ومن هم المبطلة؟ يقصد أهل السنة والجماعة؟! للأسف الشديد!! لأنه على مذهب المعتزلة في تفسيره «الكشاف»، وقد بث فيه عقيدتهم؛ فلهذا حذر منه أهل العلم قديما وحديثا، وتعقبه ابن المنير في حاشية له مطبوعة على الكتاب.
وذلك لأنهم قدرية في باب القدر، والقدرية يقولون: إن الإنسان يخلق فعل نفسه، أي: إن أفعال المخلوقين غير مخلوقة لله عز وجل؟! وهذا خلاف الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {الله خالق كل شيء}، وقال {والله خلقكم وما تعملون}، وهو إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة.
واحتجوا بأن النبي [ يقول: «سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته» متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
والجواب: أن الباء التي في قوله «بعمله» غير الباء التي في قوله: {بما كنتم تعملون} فإن الباء الأولى هي باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل الجنة، وأما الباء الثانية، فهي باء السبب، أي: بسبب أعمالكم، والله تعالى خالق الأسباب والمسببات، فيرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.
فالتصريح بأن الأعمال سبب لدخول الجنة، لا يعني نفي سبب آخر، وهو فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، كما ذكّر الله به عباده في كتابه كثيرا فقال سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وقال عز وجل: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} وقال: {ذلك الفضل من الله} وقال: {يدخل من يشاء في رحمته} وقال: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} فهذه كلها آيات تدل على أن الأعمال التي كانت سببا لدخول الجنة، كانت برحمة الله تعالى وإحسانه، وهي السبب العظيم - بل هي الأصل – لدخولها.
وقال بعض أهل العلم: إن دخول الجنة هو برحمة الله وفضله، وأما الدرجات فبتفاضل الأعمال وتفاوت ما بين المؤمنين، فهناك السابق بالخيرات وهناك المقتصد، وهناك الظالم لنفسه.
وما أجمل ما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
فحيّ على جنات عدنٍ فإنها
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلّم
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدخلنا جميعا في رحمته، ويرفع منازلنا في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد [.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 21-03-2024, 05:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(20)

الأمان من العذاب

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
سورة الأنفال: باب: في قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
2141. عن أَنَس بْن مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ، أَو ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
الشرح: الحديث في سورة الأنفال، وقد أورد فيها المؤلف حديثاً واحدا، في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الأنفال: 33- 34 ).
والحديث عن أنس بن مالك ]، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، وأورده الإمام المنذري في كتاب التفسير من مختصره هنا؛ وذلك لأن المنذري جمع أحاديث التفسير من صحيح مسلم في مكان واحد، والإمام مسلم وأن كان قد ذكرنا سابقاً أنه قد أفرد أحاديث التفسير في كتاب في آخر صحيحه، إلا أنه قد فرّق بعض الأحاديث المتعلقة بالتفسير في خلال كتابه الصحيح.
قال أنس ابن مالك رضي الله عنه: «قال أبو جهل، وأبو جهل هو عمرو بن هشام عدو الله ورسوله، وكان يسمى بأبي الحكم، فسمّاه النبي [ بأبي الجهل! وجاءت تسميته في بعض الأحاديث - وان كان في سندها كلام – تسميته بفرعون الأمة، وهكذا كان لعنه الله، فقد كان رأساً في الكفر والإلحاد، والمحادّة والمعاندة لله تعالى، والمعاداة لرسوله [، وقد قتل يوم بدر كافرا.
قال: قال أبو جهل: « اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك، فأمطر علينا حجارةً من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم» وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه هذه المقالة، التي تدل على جهله وسفاهته، وقلة عقله، وظلمه لنفسه وقومه، إذ قال: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} أي: إن كان ما يدعو إليه محمد [ هو الحق الذي أرسلته به. وقال مجاهد وعطاء والسدي وغيرهم إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث (انظر تفسير الطبري 11/142 – 145).
وقد تكون هذه المقالة قد تكررت على لسان هؤلاء جميعا.
وقوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) أي: أنزل علينا عذابا، إن كنا قد عصيناك بترك اتباع محمد [؟! وهذه مقالة الأغبياء والسفهاء، والجهلة الظالمين؛ لأنه إن كان يريد التوصل إلى الحق الذي يعتقده بدليل أو ببرهان، فكان الواجب عليه أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأرشدنا إليه، أو اهدنا له، وبينه لنا، لكن قال هذه المقالة التي تدل على الغباء والسفاهة وقلة العقل، وقد قالها من قبله الجهلة والكفرة من الأمم السابقة، فاستعجلوا العذاب والعقوبة من الله عز وجل، كما قال سبحانه عنهم: {ويستعجلونك بالعذابِ وولولا أجلٌ مسمّى لجاءهم العذاب وليأتينّهم العذابُ بغتةً وهو لا يَشعرون} (العنكبوت: 53).
وقال تعالى أيضا: {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس دافع له من الله ذي المعارج} (المعارج: 1 – 3)، قال ابن عباس: إن السائل: هو النضر بن الحارث ابن كلدة. وقال تعالى أيضا: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص: 16) أي: عجل لنا قسطنا وما قسمت لنا من العذاب عاجلا غير آجل؟! إن كان محمد [ صادقا!
وقال الجهلة من قوم شعيب \: {فأسقط علينا كِسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} (الشعراء: 187) أي: أنزل علينا قطعا من العذاب من السماء. وهذا يدل على الجحود والإنكار من الأمم لما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم من الهدى ودين الحق والتحدي والعناد.
وكأنما ما جاءت به الرسل، وما جاء به محمد [ ليس بيّنا ولا ظاهرا ولا واضحا، ولا دلت عليه الدلائل المتكاثرة والآيات والمعجزات! بل كأن ما جاءوا به كان خفيا، فقال هنا «إن كان هذا هو الحق من عندك»، وهذا لا شك أنه معاندة ومكابرة لرسول الله [.
قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: يكون قذف بالحجارة من السماء ورجم، أو أي عذاب أليم ينزل من السماء، فقال الله سبحانه وتعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان الله ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم، حتى يخرجهم.
والمقصود هو رسول الله [، أي: ما كان الله عز وجل ليَعم بالعذاب أمةً فيها نبيها، حتى يتوفاه الله عز وجل، أو يخرجه من بين ظهرانيها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} (الزخرف: 41).
يعني: إذا توفاك الله أو ذهب بك، فإنه سينتقم من قومك المكذبين المستكبرين؛ فلهذا قال عز وجل هنا: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 33). قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال ابن عباس: كان فيهم أمانان، يعني: أمانان من العذاب: الأمان الأول: وجود النبي [ بينهم، والأمان الثاني: الاستغفار.
فذهب الأمان الأول بوفاة النبي [، وبقي الأمان الثاني وهو الاستغفار، فوجود النبي [ في الأمة، أمان من عذاب الله سبحانه وتعالى، والأمان الثاني الاستغفار، هذا ما دلت عليه الآية الكريمة.
وما المقصود بالاستغفار في قوله: {وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فهل كان المشركون يستغفرون الله؟! قال أهل التفسير: كانوا يقولون في طوافهم: غفرانك غفرانك. وقال آخرون: كانوا إذا خلوا بأنفسهم: استغفروا الله عز وجل من قولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء؛ إذ كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أن هذا القول قبيح، وكلام عظيم، فكانوا إذا رجعوا إلى بيوتهم وخلو بأنفسهم، خافوا الله عز وجل وخافوا من عذابه، فكانوا يستغفرون الله عز وجل.
والقول الثالث: وهو قول أيضا راجح وقوي: أن معنى الآية: أن الله عز وجل لم يكن معذبهم وفيهم المسلمون الذين يستغفرون الله تعالى، فلما خرج المسلمون من بين أظهرهم، أي لما هاجروا إلى المدينة، عذّبهم الله عز وجل في يوم بدر وما بعدها. فالمقصود إذاً من كان من المسلمين بمكة. والمعنى الرابع: وهو معنى قد يمكن دخوله في الآية، أي: وفي أصلابهم من يستغفر الله، يعني سيخرج من أصلاب المشركين من يستغفر الله.
والمعنى الخامس: أن هذه دعوة من الله لهم أن يتوبوا وأن يستغفروا الله، إذا أرادوا أن يرفع الله عز وجل عنهم البلاء والعذاب، والحجارة من السماء التي طلبوها، فعليهم أن يستغفروا الله سبحانه وتعالى.
إذاً دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان من عذاب الله تعالى وعقوبته، وأمان من سيئات الأعمال، فمن خاف من سيئات أعماله، أي السيئات التي تصيبه بسبب ما كسبت يداه، بسبب ظلمه، أو بسبب فسقه، بسبب تعديه لحدود الله، فعليه أن يستغفر الله عز وجل، والآيات والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا، كقوله تعالى {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا} (هود: 3).
وكقول نوح عليه السلام لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} (نوح: 10 – 12) وغيرها من الآيات التي يمكن الرجوع إليها في مظانها.
وقول الله عز وجل: {وما لهم ألا يعذبهم الله} أي هم مستحقون لعذاب الله عز وجل في الحقيقة، وأهل لذلك، لماذا؟ قال الله عز وجل في بيان ذنبهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الأنفال: 34).
وهذا ذنبٌ عظيم ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم، وهو أنهم كانوا يصدون عن البيت الحرام، فيمنعون المؤمنين من الحج والعمرة والطواف بالبيت الحرام، وهذا حصل منهم بعد هجرة النبي [، بل قبل هجرته [، فكانوا يمنعون من يقرأ القرآن عند البيت الحرام، ويمنعون من الصلاة عنده، كما يمنعون المسلمين من الطواف بالبيت الحرام، ويسبونهم فيقولون: هؤلاء الصابئة هؤلاء كذا وكذا، فيؤذونهم إذا طافوا بالبيت الحرام، قال عز وجل: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أولياؤه إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأنفال: 34).
وقوله: {وما كانوا أولياءه} فيه قولان: الأول: أن الضمير في (أولياؤه) عائد إلى الله عز وجل، أي: أن هؤلاء المشركين ليسوا أولياء لله؛ لأن أولياء الله هم الصحابة المؤمنون المتقون، أما المشركون فليسوا من أهل الولاية. والقول الثاني: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} عائدٌ إلى البيت الحرام، أي: إن هؤلاء المشركين ليسوا بأحق من المسلمين بالبيت الحرام؟! بل أهل الإيمان أحق بالبيت الحرام من المشركين.
لماذا؟ لأن البيت الحرام إنما أسس على التوحيد والإيمان والإسلام، ولعبادة الله وحده لا شريك له، وهؤلاء المشركون أدخلوا إلى البيت الأصنام والرجس والشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى والأخلاق الرديئة؛ ولهذا كان أهل الإيمان والإسلام أحق بالبيت الحرام، لأنه إنما بُني البيت لأجل ذكر الله وتوحيده، كما قال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود} (البقرة: 125).
يطهره من ماذا؟ يطهره من النجاسات الحسية، ومن النجاسات المعنوية، والتي هي أشد من النجاسة الحسية، ألا وهي الشرك بالله سبحانه وتعالى، وكل ظلم وخلق قبيح.
فالصحابة في الحقيقة هم أولياء الله، وهم الذين أحق بالبيت الحرام، الذين اتقوا الله تعالى بفعل أوامره، وترك زواجره.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 23-03-2024, 04:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(21)

خطر النفاق على صاحبه

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
(سورة براءة) باب: في قوله تعالى: {ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تَقم على قبره} (التوبة : 84) .
فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم في فضائل عمر رضي الله عنه (رقم 1636) .
الشرح: أورد في الأنفال حديثا واحدا، ثم انتقل إلى سورة براءة، وهي سورة التوبة، سميت براءة؛ لأن أولها كلمة ( براءة ) فسميت بذلك؛ إذ يتبرأ فيها الله سبحانه وتعالى ورسوله [ من جميع المشركين .
وسميت بـ«سورة التوبة» لأن الله سبحانه وتعالى تاب فيها على النبي والمهاجرين والأنصار، في غزوة العسرة كما في الآية: {لقد تابَ الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في سَاعة العُسرة} (التوبة : 117) .
وأيضا : تاب الله فيها على الصحابة : كعب بن مالك وصاحبيه، وأنزل توبتهم في أواخرها، في قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا} إلى قوله: {ثم تابَ عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرحيم} (التوبة: 118) .
وأيضا: في هذه السورة العظيمة دعا الله سبحانه وتعالى المشركين إلى التوبة من الشرك، والدخول في الإسلام، في أكثر من موضع فقال سبحانه: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 5).
وقال بعدها: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فإخوانكم في الدين} (التوبة : 11).
قول المنذري: باب في قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} هذه الآية الرابعة والثمانون من سورة التوبة.
وقال: فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم في كتاب الفضائل، أي في فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهذا الحديث إنما أشار إليه المؤلف إشارة هنا، بأنه قد تقدم في كتاب الفضائل، حيث أورده الإمام مسلم هناك، والإمام مسلم قد أورد هذا الحديث الذي له تعلق بهذه الآية من سورة التوبة، أورده في باب فضائل عمر رضي الله عنه؛ لموافقته للحق ونزول الآية بما رأى واختار .
والحديث المشار إليه هو : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه لما توفي عبد الله بن، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول [ الله[، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه! فقام رسول الله [ ليصلي عليه! فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله [! فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله [: «إنما خيرني ربي، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} وسأزيد على السبعين « قال عمر : إنه منافق ! قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة : 84).
وهكذا أيضا رواه البخاري في صحيحه، ورواه الإمام أحمد بزيادات فيه : أنه لما قام النبي [ رسول الله، أعلى عدو الله عبد الله بن أبي؟! القائل يوم كذا.. كذا وكذا، ويوم كذا.. كذا وكذا، يعدد أيامه».
أي: يعدد الأيام التي كانت له فيها مواقف مشينة، بل كفرية وفيها محادة لله ورسوله، صدرت عن عبد الله بن أبي؛ لأنه كان رأسا من رؤوس النفاق، وقد آذى الله ورسوله في غير ما مناسبة، فمن ذلك كلمته المشهورة التي حكاها القرآن عنه في الآية: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (المنافقون : 8)، هذه كلمته، ونقلها الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه، وهو وأصحابه أيضا القائلون: {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} (المنافقون: 7)، أي : ضيقوا عليهم الإنفاق، واقطعوا عنهم الأموال؛ حتى تضيق عليهم الأحوال، ويشتد عليهم الفقر والحاجة، فيتفرقوا عن رسول الله[ بسبب الجوع والفقر، وهذا كله من الصد عن سبيل الله تعالى، والمكر الخبيث، والبغض للنبي [ وأصحابه، بل كراهية الإسلام وانتشاره وقوته وعلوه!
وهذه الحيل وهذا المكر وهذه الخطط الشيطانية تتكرر في كل عصر ومصر، فاليوم يضيق الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على أهل الإسلام، ويضيق على الجمعيات الخيرية، والهيئات الدعوية في جمع الأموال والتبرعات، ويضيق عليهم في نقل الأموال للمحتاجين والفقراء، أو بناء المساجد وغيرها، في مختلف بلاد المسلمين، مع اتهامهم بشتى أنواع التهم المنفرة، كل ذلك لمنعهم من العمل والدعوة لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى في الأرض، لكن الله سبحانه وتعالى {مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8).
فالنبي [ لما عدّد له عمر رضي الله عنه أيام عبدالله ابن أبي وما فعل مع نبي الله والمسلمين تبسم، حتى إذا أكثر عليه قال: «أخر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ}، ولو أعلم أني لو زدت» على السبعين غفر لهم زدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه، قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله [ وسلم، والله ورسوله أعلم « أي : كيف تجرأت ووقفت على النبي [ وقلت له: أتصلي على عدو الله، أتصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! يوم كذا وكذا، وعدد أيامه، قال عمر: فوالله ما كان إلا يسيرا، حتى نزلت هاتان الآيتان: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} (التوبة : 84)، فما صلى رسول الله [ بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل .
وفي هذا الحديث : أن رسول الله [ كان من هديه ومن سننه أنه يصلي على موتى الصحابة ويدعى إلى ذلك من قبلهم .
ومن هديه [ أيضا : أنه كان يقف على القبر بعد أن يدفن صاحبه ولا ينصرف مباشرة، إذ كان يدعو له، وكان يقول لأصحابه إذا وقف على القبر: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل» رواه أبو داود (3221).
ففي هذا الحديث استحباب الاقتداء بالنبي [ في هذه السنة المهجورة عند الناس .
فهذا لعموم المسلمين، ولكن في هذه الآية منعه الله عز وجل من الصلاة على المنافقين، الذين ظهر نفاقهم، وبان كفرهم للمسلمين بأفعالهم وأقوالهم؛ ولهذا قال الله تعالى له: لا تصلِّ عليهم، ولا تقم على قبورهم، ولا تستشفع لهم؛ فإن الشفاعة فيهم لا تقبل لأنهم ليسوا أهلا لذلك .
وقد يقول قائل : إذاً لماذا النبي [ فعل ذلك مع عبد الله بن أبي؟! والجواب: أولا: لا شك أن ما فعله النبي [ كان اجتهادا منه، لا يخالف نصاً صريحا، بل كان مراعاة لمصالح يراها [، وترغيبا منه لقوم بن أبي في الإسلام، وسعياً في تأليف قلوب أتباعه، وتثبيتهم على الدين وهي مصلحة كبيرة.
وأيضا: كان النبي [ رؤوفاً رحيماً كما وصفه الله تعالى بقوله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}، فلعله طمع أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه، وإن كان مَن كان، لكن الله سبحانه وتعالى نهاه عنه .
وأما إلباسه ثوبه، فقد ذكر بعض أهل السير: أن النبي [ إنما أعطاه ثوبه وكساه قميصه، لأن عبد الله بن أبي كان قد كسا العباس عم النبي [ مثله، وذلك لما قدم العباس المدينة، وطلب له قميص فلم يوجد على قدره إلا ثوب عبد الله بن أبي؛ لأنه كان ضخما طويلا فأعطاه ثوبه، ففعل النبي [ به ذلك مكافأة له، ورد له الجميل.
وقوله: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» يدل على أنه [ كان يطمع في حصول المغفرة له؛ لأنه كان يظهر الإسلام، والمنافق تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وأنه خير فيه لقوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وأن ذكر السبعين مراد، وليس للمبالغة، ولذلك قال [: سأزيد عليها . وقد يكون قد قاله تألفا لقومه .
وهذا النهي عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم، لمن ظهر نفاقه وفجوره أو الاستغفار له، هو نهي للأمة وليس للرسول [ وحده، فالأمة عليها أن تتابع نبيها في ذلك، ولكن على المسلم أن يأخذ بالظاهر ولا يسأل عن السرائر، فمن ظهرت منه أمارات الإسلام والإيمان، صلينا عليه ووقفنا على قبره، أما من ظهرت منه أمارات الكفر بعمل أو قول، اجتنبناه ولم نصل عليه، أما من كان تاركا لبعض الفرائض، أو مسرفا على نفسه بالكبائر وهو أقرب إلى الكفر، فهذا ينبغي يصلى عليه ألا الأكابر من المسلمين، من العلماء والفضلاء والمشهورين بالصلاح، فهؤلاء لا يصلون عليه زجراً له ولأمثاله من العصاة.
وكان عمر بن الخطاب ] لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم المنافقين بأعيانهم؛ إذ كان النبي [ قد أخبره بأسماء المنافقين، وكان يكتم هذا السر؛ ولذلك كان يقال له : صاحب السر، يعني الذي لا يعلمه غيره من الصحابة . وقول الله عز وجل {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} يعني : أنه لا تصح الصلاة على هؤلاء الكفار، ومن أظهر الكفر بالله ورسوله، لا تصح الصلاة عليه .
{وماتوا وهم فاسقون} الفسق هو الخروج عن الطاعة، وهي في الأصل دون الكفر، لكن قد يجتمع مع الكفر، فقد يكون الرجل كافرا وفاسقا، وقد يكون كافرا ليس عنده ما يفعله أهل الفسق والكبائر، فقد يكون كافرا بالله عز وجل لكنه لا يشرب الخمر، ولا يأتي الفواحش والمنكرات، فإذا جمع بين هذا وهذا قيل له: كافر فاسق، وقد تجتمع به أيضا صفة الظلم للخلق، والصد عن سبيل الله، وهذا مما يزيد في عذابه، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} (النساء : 167 – 168).
وقال سبحانه: {الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون} (النحل : 88 ) أي : ضاعفنا لهم العذاب .
فهناك الكفار، وهناك أئمة الكفر، ودعاة الضلال، ممن جمع بين ضلال نفسه وإضلال غيره، وهذا أشد، وعذابه عند الله أكبر .
وفي الحديث : جواز الإعلام بوفاة الميت، وأن ذلك لا يدخل في النعي المنهي عنه . وفيه : جواز العمل بالظاهر إذا كان النص محتملا .
وفيه : جواز تنبيه المفضول الفاضل على ما يظن أنه سها عنه .
هذا ما تيسر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 190.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 184.35 كيلو بايت... تم توفير 5.89 كيلو بايت...بمعدل (3.10%)]