بناء الإنسان.. بناء الحضارة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 855140 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 389965 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-10-2020, 03:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي بناء الإنسان.. بناء الحضارة

بناء الإنسان.. بناء الحضارة


الشيخ حسين شعبان وهدان






الحمد لله الذي خلق الإنسان وألهمه، وأكرمه ونعَّمَه، وأرسل إليه الرسل للبلاغ والهداية والتحذير من الضلال والغواية وأمده بالعقل القويم ووعده جنَّاتِ النَّعِيمِ.

يا إله العالمين ويا رجاء السائلين ويا أملَ المستغفرين:
قَلْبي برحمتِكَ اللَّهُمَّ ذُو أَنَسِ
في السِّرِّ والجَهْرِ والإِصباحِ والغَلَسِ

ما تقلَّبْتُ من نومي وفي سِنَتِي
إِلا وذِكْرُكَ بينَ النَّفسِ والنَّفَسِ

لقد منَنْتَ على قلبي بمعرفةٍ
بأنَّكَ اللهُ ذو الآلاءِ والقُدسِ

وقد أتيتُ ذُنُوباً أنْتَ تعلمُهَا
ولمْ تَكُنْ فاضِحِي فيها بفِعْلِ مُسِي

فامنُنْ عليَّ بذكرِ الصَّالحينَ ولا
تَجْعَلْ عليَّ إذاً في الدِّين من لَبسِ

وكُنْ مَعِي طُولَ دُنْيايَ وآخرتي
ويومَ حَشْري بِمَا أنزَلْتَ في عَبِسِ



وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، شهادة تُبَوِأُ من قالها دار القرار بإذن الله الغفَّار، ويغفر الله بها الذنب ويُقيلُ بها الأعذار.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، اليمُّ يمينُه والبدرُ جبينُه والحنيفيةُ دينُه، قد بلغ عن ربه الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله تعالى حتى أتاه اليقين.

اللهم صلٍّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إني أسألك الإعانة على الإبانة والسير في مناكب الهدى يا واسع الخيرات.

أما بعد:
فنخاطب في الجموعِ أسمى معاني الإنسانَية في القلوب الحاضرة والنفوس الطاهرة، نتشوق للبناء بعد أن طال الزمان بالإنسان وهو في سباقٍ ماديٍّ حثيثٍ لن يُبقي ولن يَذَر، نودُّ بداية المسعى الحكيم لإسعاف وإدراك ما تبقى من جمال الإنسانية في حياتنا التي تتوارى وتنزوي منها كرائمُ الأخلاق ومحاسنُ الشيم ليَخْلُفَهَا في حياة الخلق فوضى لا تلمُّ بها إلا عربدةً وفسوقاً، ونريد أن نقوم بترقيع الفتق وترميم المهدوم من جوانبها ونعيد صياغتها بعد أن حاقت بنا عطوبٌ ورجومٌ طالَت الأرواح وعبثت بإشْراقِهَا.

يا أهل الإيمان:
إنَّ الإنسان قد تاهَ عن مساره وخرج عن قواعده العاصمة من ضنك الحياة وسوء المصير، ولا ينفعه شئٌ في مجال إعادة بناء نفسه إلا هذا الدين العظيم، لأن الإنسان الصالح صناعة الدين وثمرة الأخلاق ونتيجة التربية الطويلة عبر الأيام والليالي والسنين، وهو مثل البناء الراسخِ بثباتٍ مع عواصف النفوس والأيام إن كان أساسه قوياً أو هو كريشةٍ في مهبِّ الريح لو لم يؤسسه الإيمان والتقوى، فمن الناس كمثل الطود الشامخ لا تزعزعه المحن ومنهم من هو كالهباءة الشاردة في عماء الأحداث، وهو مثل البناء في أسسه وكمالياته أو في دمامة سلوكه ورائع تصرفاته، ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109]، والإنسان هو المقصودُ من إرسال الرسل وتنزيلِ الكتُبِ وتحكيم الشرائع في حياة البشر، والمَرْجُوُّ في كلِّ هداياتِ الأنبياء هو سعادة الإنسانِ بالإيمان، ومن الكُلِّياتِ الخمس لهذا الدين العظيمِ الحفاظُ على العرضِ والنَّسلِ والنَّفسِ والمالِ والدِّينِ، وكل ذلك لمصلحة الإنسان أينما كان.

إن الكعبة المطهرة هي أشهرُ مقدساتنا وأكبرُ معاقل التوحيدِ على الأرض، وقد حفَّها الله تعالى بالأمان وجعلها حرماً آمناً وكتب الصلاة فيها بمائة ألف صلاة، ولكنها ليست مقصودة بذاتها إلا لتُحَقِّقَ مرابحَ الإيمان وتعلو عليها قيمة الإنسان، روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمدٍ بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك ماله ودمه) (المنذري في الترغيب والترهيب 3 /267 بسند حسنٍ أو صحيحٍ أو ما يقاربهما)، فالإنسان هو الأقدس والأعظم حرمةً لأنه مخلوقٌ من روح الله مالك الكون، قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29].

وإن الإيمان يُسْفِرُ بنوره الوضاء على حياة الخلق من باب الإنسانية، حيث يحفظُ عليهم آدميتهم إلى أبعد مدى ويراعي حاجات الإنسان المادية والروحية والفكرية فلا يتركهم في باب الأدبِ هَمَلاً ولا يَرْقَى بهم رُقِيّاً ملائكياً بعيداً عن قُدُراتِ البشر ولا يتركهم لنزَغَاتِ شياطين الإنس والجِنِّ يغتالون فيهم جمال إنسانيتهم.

والناس تختصر المعاني في دروب حسن التدين متصورين أن المفترض في المتدينين أن يكونوا على الدوام أشباهَ الملائكة ويتوهمون أنهُ من الإنسانية أن لا يقترف ما يقترفه بقية البشر وتَعَجَّبُوا في قديم الأزمان من الممارسات الإنسانية التي تكتنف حياة الأنبياء والرسل فهم يأكلون ويشربون ويحزنون وينامون ويمرضون ويعملون! قال الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ [الفرقان: 7، 8] وكيف ذلك والأنبياء كانوا من البشر يتزوجون ولهم مطالب بدنية ويتفاعلون مع الناس بالمشاعر الإنسانية المشتركة، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20]، ولكنهم مع ذلك كانوا في أرفع مستوى من الإنسانية الحقَّةِ التي تُعَبِّرُ عن حسن استخلاف الله في الأرض.

وقد صاغ الإسلام العظيم جنس العرب ومن انضم إليهم من بقية الأجناس صياغةً إنسانيةً رائعةً بعد أن نقلهم نقلةً نوعيةً من براثن الأصنام والفواحش والتظالم إلى التوحيد والتطهر والعدل، قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لنجاشي الحبشة وهو يعرض عليه هذه الدرر الحسان: (... أيها الملك: كنا قوما أهل جاهليةٍ نعبدُ الأصنامَ ونأكلُ الميتةَ ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيءُ الجوار، يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحلَّ لنا...) (أحمد شاكر في مسند أحمد 3 /180 وقال: إسناده صحيحٌ عن أم سلمة هند بنت أبي أمية في حديثٍ طويلٍ)، وعلى هذا النسق من التأسيس كان بناء الإنسان في جوانب العقيدة والأخلاق والعبادات والسلوك مع مراعاة حق الخالق الأعلى وحقوق العباد.

وقد سار المسلمون على هذا النهج القويم قروناً طِوَالاً وغيَّرُوا وجه الدنيا وقد أضاؤوها بالعدل والسلام لما ملكوها، وكانت المرحمة هي المعلم الساري في جنبات التاريخ الذي جثا يسجل هذه السجايا الطيبة للفرد المسلم الذي رباه الإسلام.

وانطلقت حضارة الإسلام لتمنح الدنيا عطاءً علمياً غير مسبوقٍ في مجال الطب والفلك والهندسة والحراثة وعالم البحار، مع مراعاة أوامر الدين وأحكامه فكان الفرد المسلم عملةً نادرة في عطائه وحسن توقيعه في الحياة جامعاً بين كرامة الدنيا وفضل الآخرة.

محنةُ الإنسانِ الغربي في مجال القيم:
واليوم قد تغير بنا الحال وتبدل المآل حيث صارت الكلمة العليا للحضارة الغربية المعاصرة فطفق أبناؤها يُمْلُون للزمان شنيع فعالهم وردئ أخلاقهم، وزيفُ الحضارة المادية العرجاء يرسل زيوفاً من أشعة الكذب والمخادعة لكل العالم ليوهم العقول الكليلة بأن حضارة الغرب قد حققت لبنيها السعادةَ والعافيةَ والرقيَّ الأخلاقيَّ، وهذا وهمٌ وضربُ خيال، بل إنه هو عينُ المحال.

إن الحضارة المادية قد نجحت بامتيازٍ في الجانب العمراني والتقني وأرست قواعدها بإبهارٍ وخطفت الأبصار تحدوها دروس التقليد والإتباع اللاهث، بينما رسبت رسوباً مدوياً في بناء الإنسان ورعاية إنسانيته وتنمية مشاعره وإمداده بمنظومةٍ رائعةٍ من مكارم الأخلاق وروائع الشيم.. فمات فيهم الإنسان واستيقظت فيهم الشهوات والمآرب والرغائب، وصار الفرد هناك مهتماً حتى النخاع بشهواته وماله وملبسه وشكله على حساب روحه وأخلاقه، وقد عدَّ نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم هذا كله من باب الانتكاس والتعاسة ودعا على من كان هذا حاله بقوله: (تعسَ عبدُ الدِّينارِ، وعبدُ الدِّرْهَمِ، وعبدُ الخميصَةِ، تعسَ وانتَكسَ وإذا شيكَ فلا انتَقَشَ) (الألباني في صحيح ابن ماجة 3353 بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه)، ولا شك أن الفرد بلا إيمانٍ صادقٍ راسخٍ يعيش مثل الريشة في مهب الريح، همه هواه وسعيه فقط لدنياه والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20]، ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّه جعل اللهُ غِنَاه في قلبِه وجَمَع له شَمْلَه، وأَتَتْه الدنيا وهي راغمةٌ، ومَن كانت الدنيا هَمَّه جعل اللهُ فقرَه بين عَيْنَيْهِ، وفَرَّق عليه شَمْلَه، ولم يَأْتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له) (الألباني في صحيح الجامع 6510 بسندٍ صحيحٍ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه).

لقد مات الإنسان الذي صنعته حضارة الغرب بمشاعره الإنسانية، إنه يشاهد كل يومٍ بانتظامٍ مشاهد القتل والترويع من أحبائه وبني جلدته وبني دينه للعزَّلِ والضعفاء والأبرياء من العجزة والأطفال والنساء من أهل العرب والإسلام دون أن تُحَرِّكَ في همته الكليلة نحو العدل فتيلاً، إنه يشاهد هذه المفجعات وهو يتسلى أو يتناول الطعام ويسمع عنها وهو يقود سيارته.. لقد ماتت فيه الإنسانية، لم يعد يهتز من مناظر القتل ولم يعد يرثي للمظلومين وليس في خطة أيامه أبداً أن يقف في وجوه الظالمين.. لقد ماتت إنسانيته.

ومات عقله يوم أن استمع ومضغ تلك الترهات والأكاذيب الطائرة في الآفاق عبر الإعلام العالمي المتواصي بالكذبِ على الإسلام وأهله حول أرض الميعاد وحرمتها على أهلها الفلسطينيين ووجوب إقطاعها فقط للصهاينة الغاصبين، وعن أسلحة الدمار الشامل الموهومة في أرض العراق وما وجدوا منها أي دليل، بيد أن الحضارة الغربية أماتت العقل في إنسانها يوم أن صدَّق أسباباً متوهمةً لضرب وتقتيل أبناء الأمة المسلمة فقط، وأفقدت الحضارة العرجاء بنيها نياط عقولهم لما أملت عليهم دروس البغضاء على الإسلام وأهله في أنهم متعصبون، إرهابيون، متطرفون وأن الإسلام دين فوضويٌّ لا يحمل حضارة ولا تقدماً!! ومضغ الغربيون هذه الكبسولات المعدة بإتقانٍ وحرفيةٍ وخُبْثٍ.. فأنتجت الحضارة الغربية إنساناً مَسْخاً في فكره وعقله وضميره ومسيره، لكن يُرِيكَ هِنْداماً مُنَظَّماً مُعَطَّراً ويسوق للدنيا أشكال التحضر المادي بشتى صوره فيُلَبِّسَ المشهد العام على الناظرين.
♦ ♦ ♦

وكذلك كان الإنسان في أقصى الشرق رغم تميزه بالكفاح والعمل ولكن يبقى الجانبُ الإنسانيُّ في اختباراتٍ تُرْبِكُ العاقلَ والحليمَ، فعندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا بأمانٍ فشيدوا سور الصين العظيم وقالوا: لا يمكن لأحدٍ أن يقتحمه أو يتسلقه.

وخلال المائة سنة الأولى لبنائه تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، ولم تكن جحافل الغزو على الأرض في حاجةٍ لتسلق السور بل دفعوا رشوةً للحارس ودخلوا من الباب.
لقد نسي الصينيون القدامى أن يبنوا الحارس وانشغلوا ببناء السور!.

وفي العصر الحديث والمعاصر قد زادت المحنة على الإنسان الشرقي حين عطَّلَ عقله واتبع أوهامَ العُبَّادِ للشجر والحجر والحيوان والحشرات، فزادت الديانات وكثرت الآلهة في الأسواق.

آثار الحضارة المادية على المسلمين:
وانبهر العالم العربي والإسلامي منذ زمانٍ ليس بالقصير بحضارة الغرب العرجاء مكسورة الجناح في جانبها الإنساني وببعض الحضارة المطلة من المشرق فقلدوهم واتبعوهم وتلقفوا كلَّ واردٍ من بلاد العجائب كأنه نصٌّ مقدسٌ وغرق الكثرة الغالبة من أبناء أمتنا في براثن الاستهلاك والغبِّ المسعورِ من مباهج الدنيا الزائلة كأننا نعيش على أرضهم لا في قلوب أوطاننا، وكأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حيٌّ بيننا ليحذرنا من ذلك حين قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) (صحيح البخاري 7320 عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله تعالى عنه)، ومن وراء ذلك تظهر خلاعات الأثواب في ديار الإسلام وطريقة التعامل مع الآباء والأمهات وما نتج عن ذلك في الإطار الاجتماعي من أعيادٍ غربية ولكناتٍ في الألسن ومناهج في التعليم تغزو عقول أبنائنا وتفرغ الطاقات الحية في أمور تافهة مثل التقليد الأعمى للاعبين والمطربين واستقدام عاداتٍ دخيلة على ديننا وثقافتنا كدور المسنين والتي تعد البديل البدعي عن بر الآباء والأمهات والجراءة اللافحة في ميادين التعامل على كل سبيل.

إنسان هذا الزمان:
إن الإنسان من أمتنا في كثيرٍ من أقطارها قد هدم بيده من وراء التقليد للغرب ومن وراء اتباع هواه وضغط مجتمعه جوانبَ هامَّة في إنسانيته وأهمل ملامحَ رائعةً في حنايا نفسه.. ثم هو الآن يعاني أشد المعاناة مما اقترفت يداه.. إنه يتوجع مع قوله المكظوم: ماذا حدث للناس؟! لماذا تغير بهم الحال كل هذا التغير؟! وهو ذاته الذي أثار المشكلة وزوَّدَ في البلاء على حد قول إبراهيم طوقان:
أفنيتَ يا مسكينُ عمرَكَ بالتَّأَوِّهِ والحَزَنْ

وقعدتَ مكتوفَ اليديْنِ تَقُولُ: حاربَني الزَّمَنْ

ما لمْ تَقُمْ بِالعِبْءِ أنْتَ؛ فَمَنْ يقومُ بهِ إِذَنْ؟

كمْ قُلْتَ: أَمْراض البلادِ، وأنتَ من أَمْراضِهَا

والشؤْمُ عِلُّتُهَا؛ فهَلْ فتَّشْتَ عَنْ أَعْراضِهَا؟



إنسان هذا الزمان قد أمات في نفسه جمال الإنسانية التي كان عنوانها نقاء السريرة وطهرة القلب وسلامة الضمير، وتلك خسارةٌ تجلُّ عن الوصف لأن نقاء القلوب موجبٌ لجنات علام الغيوب فعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: (قيل لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ أيُّ الناسِ أفضلُ قال كلُّ مخمومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ قالوا صدوقُ اللسانِ نعرفُه فما مخمومُ القلبِ قال هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ ولا حسدَ) (الألباني في صحيح ابن ماجة 3416 وقال: حديثٌ صحيحٌ)، والله عز وجل يقول: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، وقد سارقه الزمن أحلى ما كان يكتنزه في قلبه من حلو المعاني فقنص منه الألفة الصادقة ليسود الود المصطنع، والناس قد قلعوا المحبة وزرعوا الشقاق والنفاق وذلك كله هدمٌ للإنسانية.

إنسان هذا الزمان فقد القدوة لأنه شوهها بلسانه ويده وجنانه وسعيه، وإذا بك تبحث هذه الأيام عن قدوةٍ طيبةٍ يسير الناس خلفها فلا تجد، لأنه فينا عيبٌ كبير ألا وهو اتهام القدوات على الدوام وخصوصاً أكابر العلماء والمصلحين وهؤلاء لحومهم مسمومة وعادة الله تعالى في هتك أستار منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب كما أكد ذلك الذهبي في الميزان.

أما الحقراء والوضعاء والسفلة فلهم مقعد منيفٌ في الإطراء الكاذب والنعت المتكاذب، وكم من شخصٍ يُكال له من المدح والثناء المعجب وهو لا يساوي عند الله جناح بعوضة.

يا كرام الأخلاق:
ليكن مبدؤنا على بساط الإنسانية أنه يحرم علينا أن نرفع معاول الهدم إلى الجبال الراسية فإن الجهد سيكِلّ ولن يسقط الكرماء لأوهام الأغبياء والدهماء واللئام، إن سنة الله عكس ذلك تماماً، وإذا كان هناك الكثير من المولعين بالهدم فليجربوا نشاطهم الهادم لدى الآيلين للسقوط من الناس ففيهم الكفاية لمرضى النفوس.

إنسان هذا الزمان مبتلى بحب الدنيا حتى النخاع وترابها ومناصبها ومتيمٌ بالاستعلاء الوهمي فيها وهو بهذا يهدم في نفسه الأمل والعمل لركنه الباقي في جنات الخلود، قال الله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].

إنسان هذا الزمان قد سقطت منه في زحمة الحياة لوازم الأدب وأمارات الذوق العام والشخصي فلم يعد يفرق بين أدب العطاس وما يشبه النهيق وبين أدب الحوار ومناهبته وبين آداب الطعام وفقده، وبالطبع فإن الجيل الجديد عنده فقرٌ شديدٌ في الجانب السلوكي الشخصي في الإسلام لأنه لا يقرأ ولا يثني ركبته إلى من يعلمه.. والداهية الكبرى أن كل فردٍ يتوهم أنه دستور أدب وحجةٌ في باب الذوق والسلوك!.

إنسان هذا الزمان مريضٌ بداء الاستحواذ على أدوار الآخرين في مجال التفاخر والتشريف فقط، الجاهل ينسى جهله ويقفز فوق السنن الإلهية ويتخلل تخلل الباقرة ويهرف بما لا يعرف ويصول ويجول على غير هدى في حواره ومداره، وحاله كشخصٍ ما اغتسل ولا عرف الماء في حر الصيف منذ شهر ولا غير أثوابه لكنه ينعش تصوره الكليل بزخَّةِ عطرٍ فواحٍ يواري به نتناً يَصُكُّ المَشامَّ من بعيد.. فأين الخلل إلا في الإنسان؟!.

والجاحد يريد اصطياد مكانة العابد والتاجر الجشع يريد إقناع الناس كذباً بأنه الصادق الأمين.
وحتى يحقق المرء إنسانيته فلا بد وأن يصدق مع نفسه ومع ربه وأن يعرف قدره وأن يعالج مرضه.

والمتاحُ من مشاهدِ التَّديِّنِ الحاضرِ في ربوعِ الأُمَّةِ ليغري بالظن بأن الدور القيمي والإنساني يسيطر على كل المواقف، لقد زانت المجتمعات وفرةٌ وافرةٌ من أمارات التدين الظاهرة كزيادة عدد المصلين في المساجد واستشراء ظاهرة الصدقة الجارية والعمل التطوعي وكثرة الحجيج والمعتمرين واستظهار القرآن الكريم على الألسنةِ والنِّقابِ وإطلاق اللحى وزيادة معاهد العلم الشرعي بألوانها المتباينة في المنهج والأساليب؛ وهذا طيبٌ ومباركٌ ومعشوق لكل النفوس، لكنه مجرد علامات ظاهرة على حسن التدين ويبقى الأساس الهام ألا وهو تحصيل الأثر الإنساني من هذه الأعمال الطيبة في نفوس المؤمنين، ويبقى الأثر المنشود من وراء هذه العبادات تائهاً من العابدين في دروب الحياة:
خَلَتِ المَشَاعِرُ مِنْ حَرَارَةِ شَوْقِهَا
ضَعْفًا كَمَا خَلَتِ القُلُوبُ مِنَ الدَّمِ

الصَّوْمُ وَالصَّلَوَاتُ مِلْءَ دِيَارِنَا
وَالحَجُّ لِلبَيْتِ العَتِيقِ وَزَمْزَمِ

تِلْكَ المَشَاعِرُ لا تَزَالُ كَعَهْدِهَا
لا يَنْقُصُ الإِسْلامَ غَيْرُ المُسْلِم


ونحن نوقن أن هناك الكثير من الخلق قد صمُّوا آذانهم وأغلقوا مواطن الفهم من عقولهم وهم ما زالوا سابحين منذ زمانٍ في بحار البعد عن صحيح التدين ناهيك عن جماليات الإنسانية المنشودة، ومكمن البلاء هو توهمهم أنهم على قافية الهداية والصلاح والإنسانية منذ أزمان، وربما أنهم وقفوا على شواطئ الفهم للآيات والأحاديث بيد أنهم أهل بلادة وعدم إجادة في باب الإنسانية والتدين المنشود وكلما تقدم إليهم أحد رفضوه لتوهمهم أنهم على الدوام أهل الصواب:
فإن عناءً أن تُفَهِّمَ جَاهلاً ♦♦♦ فَيَحْسَبَ جهلاً أنَّهُ منْكَ أفْهَمُ

ونوقن كذلك بعين اليقين أن أمتنا أمة خير وبرٍ وأن هذا الخير كامنٌ في النفوس كالسكر المترسب في قعر القدح لكنه يحتاج إلى من يحركه، فنحن خير الأمم وأزكاها ولكن بأخلاق وسلوكيات الإسلام.

وأخيراً أيها المؤمنون الكرام:
في بناء الإنسان لا بد وأن نراعي نقاطاً هامَّةً منها على الاختيار:
أن يتم تربية النشء على قبول الآخر حتى يتعلم الجيل احترام الناس وتقدير آدميتهم وإنزالهم منازلهم في تخصصاتهم ومكانتهم مهما كان فكرهم أو منزلتهم، ويجب أن نتواصى من جديد على احترام أهل الفضل وعدم ذر الرماد في عيونهم بالتنقيص والإشاعات المغرضة الكاذبة.

من أسس تحقيق الإنسانية في المجال التربوي أن يسعى شبابنا إلى إحراز العلوم الطبيعية البحتة لمحاولة نصر الأمة في كوادرها البشرية التي تحتاج في غالب أمورها إلى استيراد الخبراء والنابغين في مجال الذرة والطب والهندسة والفلك وصناعة الدواء وغيرها، وخصوصاً بعدما تحكمت فينا آفةٌ غالبةٌ تستعصي على العلاج في عقول كثيرٍ من أبناء الإسلام بعد تسطيح التدين المتوهم حيث يقبل الغالبية من شبابنا إلى دروس المتخصصين في فروع الشريعة مع ترك التخصص الأصلي المفترض عليهم في جامعاتهم ومعاهدهم، كأنَّ القرآن الكريم قد افترض على جموع الأمة النفير لطلب العلم الشرعي فقط! أما بقية العلوم النافعة كأنها محرمةٌ على شباب أمتنا، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122].

وعلينا أن نحرص على التخلص من الحزبية والعنصرية الفكرية الضيقة العمياء التي تصم الآذان وتعمي القلوب وتجعل جهد الإنسان يدور ويضنيه المسير في فلكٍ واحدٍ حيث يعمل لحساب طائفةٍ معينةٍ ويهيل التراب على بقية المسلمين.

في إعادة بناء الإنسان لا بد وأن تتحرك القوى وتتوحد الجهود لأن بناء الحضارة يبدأ ببناء الإنسان الصالح اليقظ لمصلحة وطنه والخائف على تراب بلده من الطامعين، ومن المترصدين بخبائث الأفكار أهل الغواية والفاسدين.


على الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد وكل مؤسسات المجتمع أن تتحيز لإعادة صياغة الإنسان فهذا أهدى سبيلاً في الحياة وأقوم قيلاً، وماذا يفيدُ في الإمكان إذا علا العمران وانهدم الإنسان مع بقاء الهياكل والرسوم وبهاء الألوان؟!.

نسأل الله تعالى أن يحفظ على المؤمنين إيمانهم وأن يوفقهم للخيرات والمكرمات.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله في المبدأ والمنتهى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 78.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 76.26 كيلو بايت... تم توفير 1.90 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]