عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أبو بكر الصديق رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 8 )           »          لماذا يصمت العالم عن المجاعة في غزة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أعمال تعدل أجر الصدقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          البلاء في حقك: نعمةٌ أو نقمة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          شرح النووي لحديث: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          شرح النووي لحديث: ارم فداك أبي وأمي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          شرح النووي لحديث: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أنسيت بأنك في غزة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 21-05-2020, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة



عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان

(27)






محمود العشري



الوسيلة الثالثة والعشرون: حُسن الخُلُق: قال تعالى: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصحيح في المسنَد: ((إنَّما بُعثتُ لِأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق))، وسُئل - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أكثر ما يُدخِل الناسَ الجنة، فقال - كما روَى الترمذي -: ((تقْوَى الله، وحُسْن الخلُق)).فالحمد لله الذي بصَّر النفوس مِن عماها، وأخْرَجَها مِن ظلماتٍ للجهل كانتْ تغْشاها، ورفَع مكانةَ الأخلاق في الدِّين وأعلاها، وجعَل أهل قُربه وحبِّه مَن تحلَّى بسجاياها، والصلاة والسلام على رسولِ الله محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي أثْبَت للخَلْق منارةً وأعْلاها، وسبَق الخَلْق كلَّهم في الأخلاق حتى بلغ مُنتهاها.يا بن الإسلام، الإسلام هو دِين الخُلُق، جاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإصلاح الأخلاق وتهذيبها، وإرْساء دعائمِها وتقويمها، فليس للخُلُق مكانة عالية في الدِّين فحسب، بل هو الدِّين كلُّه، وقد حصَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الغايةَ مِن بعثته، وأساس دعوته في قضيةِ الخُلُق الصالِح.وإذا أردتَ يا بنَ الإسلام حبَّ الله لك، وكمالَ إيمانك، وانشراحَ صدْرك، وقُرْبك من ربِّك، ومجالسة رسولِ الله في الجنَّة، فعليك بحُسن الخلُق، تنلْ ما تتمنَّى؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الحاكم وصحَّحه الألباني: ((إنَّ الله كريمٌ يحبُّ الكُرماء، جوَادٌ يحبُّ الجود، يحبُّ معالي الأمور، ويكْرَه سفْسافَها))، وفي صحيح سُنن الترمذي: ((إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسًا يومَ القيامة أحاسنَكم أخلاقًا))، فمَن سبقَك في الأخلاق - يا بن الإسلام - فقد سبَقَك في الدين؛ ففي صحيح سنن أبي داود: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا)).وإنَّ أفضل النِّعم، وأجمل العطايا، وأغْلى المِنن، أن يمنَّ عليك ربُّك بخلُق حسَن؛ فبحسن الخُلُق تدخُل الجنة، وبحُسن الخلُق تدرك أعلى المراتب، وأسْمَى المنازل، وأعلى الدرجات؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح سُنن أبي داود: ((ما مِن شيءٍ أثقلَ في الميزان مِن حُسن الخلُق))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المؤمنَ ليُدرك بحُسنِ خُلُقه درجةَ الصائِم القائِم))، وهو حديثٌ صحيح، رواه أحمد في المسند.والمفلح حقًّا، والفائز حقيقةً، والسعيد فعلاً، مَن زكَّى نفْسه بأخلاق الإسلام، وربَّاها على هُدى رسولِ الله - عليه الصلاة والسلام - ولهذا أقْسَم الله - تعالى - أحدَ عشَرَ قَسمًا على أنَّ المفلح مَن زكَّى نفْسَه، وأنَّ الخاسر مَن أهلكها وأهملها، كما في سورة الشمس.فيا بن الإسلام: حسِّن خلُقك؛ فإنَّها وصية الله لك، ووصية رسولِ الله لك؛ فقد قال تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح سُنن الترمذي: ((وخالِق الناس بخُلُق حسَن))، وقال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: "الدِّين كله خلُق، فمَن زاد عليك في الخلُق زاد عليك في الدِّين".أخلاقُنا عنواننا، أخلاقُنا رؤوس أموالِنا، أخلاقنا عُدَّتنا، أخلاقنا هي الإسلام ذاته، فاعرِفْها، وعَضَّ عليها بالنواجِذ، اعرفْها واغْنَمها؛ فهي خيرُ كَنْز تكنزه، وخير صفات تتَّصف بها، فإذا فقدتَ الخُلُق الحسن فقدْ تعريتَ مِن الفضائل والخيرات، وحلَّت بك الهموم والحسرات، فلا تنفع الأعمالُ الصالحة مع سوءِ الخلُق؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الطبراني، وحسَّنه الألباني: ((سوء الخُلُق يفسِد العملَ كما يفسد الخلُّ العسَلَ)).أخي يا بن الإسلام، إنَّنا نعيش في أزمةٍ شديدة في مجال الأخلاق، والأمَل معقودٌ علينا - نحن أبناءَ الإسلام - لنعيدَ في الناس الأخلاق الإسلاميَّة، أمَلُنا أن نرَى فينا وفي أبنائنا جيلاً طيَّبتْه الأخلاق الإسلامية، وزكَّتْه وربَّته وصنعتْ منه صورةً حية تشهَد لهذا الدِّين في واقِع الناس، فيرون الإسلامَ صورًا متحرِّكة بيْن الناس، يرون الإسلام نورًا ينبعث مِن سلوكياتنا، يرون الإسلام رحمةً ورفقًا يستميل قلوبَ الخلْق إلينا، يرَوْن فينا الإسلامَ صورةً للحبِّ الصادق والشفَقة البالِغة؛ فننصر دِيننا بأخلاقنا، فإنَّ أخلاقنا هي المغناطيس القويُّ الذي يجذبُ الخَلْق إلى دِيننا ودعوتنا.يا بن الإسلام، صلاحُك في صلاحِ أخلاقك، سعادَتك وفلاحك في حُسن معاملتك، راحةُ البال، وقرَّة العين، وهُدوء الخاطِر، ولذَّة العيش، وصلاح الحال في حُسن الخلُق، أُريدك أن تَقتدي وتَهتدي برسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُريدك أن تجعلَ مِن سُنَّته ينبوعَ هُدى تقتبس منه، وتترع أخلاقك مِن مَعينه الصَّافي، فهو أكملُ الخلْق خلُقًا، وأعظم الخلْق حالاً، هو المثال الذي جعَلَه الله لنا لنحتذيَه، وهو القُدوة التي جعلَها الله لنا لنتأسَّى بها، وأعظِم به مِن قُدوة! وأكرِم به من إمام - صلَّى الله عليه وسلَّم!قال ربُّنا الذي اختاره واصطفاه، واصطنعه على عينه وربَّاه، وهَدى قلبه إلى أكمل الخلُق وأعلاه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، إنَّه الدِّين القويم، والصِّراط المستقيم، والأدَب العظيم الذي استقام عليه نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى لقِي ربه، بعدَ أنْ عاش مربِّيًا لأصحابه على أكملِ الأخلاق، وأنشأ جيلاً لم ولن تشهدَ الدنيا له مثيلاً؛ ملأتْ أخلاقه عليهم حياتَهم، وكان أحبَّ إليهم من أهليهم وأولادِهم، ومِن كل شيء، أحبُّوه لخلُقه، واتَّبعوه لصِدْقه - عليه الصلاة والسلام - كان خلُقه القرآن؛ يُرضيه ما يرضي ربَّه، ويسخطه ما يسخط مولاه، ما غضِب لنفْسه قطُّ إلا أن تنتهك حُرماتِ الله، كان أرحم الخلْق بالخلْق، وأحْرَص الخلْق على هداية الخلْق - صلَّى الله عليه وسلَّم.هيا يا بن الإسلام: شمِّر عن ساعدِ الجِدّ، واعزِمْ على أن تتحلَّى بأخلاق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - اعرِفْ خُلُق الإسلام وتمسَّك به تربَحْ وتفلح، مُدَّ يدك، وخذْ هَدي النبيِّ بكلِّ عزْم وحب وصِدق، عَطِّرْ الكون بأخلاق رسولِ الله، واملأ الدنيا بنشْر طِيب حُسن الخلُق، عِش بالإسلام، وعِش للإسلام، وانوِ الخير تُوفَّقْ له، واسلك سبيلَ الهُدى تُسدَّد، واعمل تجِدْ ثواب عملك في الآخِرة، وبشراه في الدُّنيا، وخالِق الناس بخلُق حسن.فاحرص على أن يكونَ خُلُقك حسنًا مع كلِّ الناس، فإنَّ ذلك أدْعى إلى قَبولهم منك ما تدْعوهم إليه، ولتقدِّم الدعوة على نفْسك، يُقدِّمْك الله على كلِّ الناس؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني: ((إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسًا يومَ القيامة أحاسنَكم أخلاقًا))، وقال فيما رواه أبو داود وحسَّنه الألباني: ((أنا زعيمٌ - كفيلٌ وضامن - ببيت في رَبضِ الجَنَّة - ما حولها - لمن ترَك المِراءَ وإن كان محقًّا، وببيت في وسطِ الجنة لمن ترَك الكذِب وإن كان مازحًا، وببيت في أعْلى الجنة لمن حسن خلُقه))، والأحاديث في فضل حسن الخلق كثيرةٌ كثيرة، والله المستعان.وحسن الخلُق أمرٌ يسير على مَن يسَّره الله عليه؛ بأن يكونَ المسلم هيِّنًا ليِّنًا على إخوانه، يُقابلهم ببِشر، ويعاملهم برِفْق، يؤدِّي ما عليه، ولا يستوفي حقوقَه، ويسامِح ويصفَح؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخْرَجه الحاكِم في المستدرك وصحَّحه الألباني لغيره: ((مَن كان هيِّنًا ليِّنًا قريبًا، حرَّمه الله على النار))، وقال أيضًا فيما رواه الطبراني وصحَّحه الألباني لغيره: ((حُرِّمتِ النار على الهيِّن الليِّن السَّهْل القريب)).قال البيهقي - رحمه الله - في بيان حُسْن الخلق: ومعنى حُسن الخلُق: سلامة النفْس نحو الأرْفَق الأحْمد مِن الأفعال، وقدْ يكون ذلك في ذات الله - تعالى - وقد يكون فيما بيْن الناس، وهو في ذات الله - تعالى - أن يكونَ العبد منشرحَ الصدْر بأوامِرِ الله - تعالى - ونواهيه، يفْعَل ما فرض عليه طيِّبَ النفْس به سلسًا نحوه، ويَنتهي عمَّا حرم عليه راضيًا به غير متضجِّر منه، ويرغَب في نوافل الخير، ويترك كثيرًا من المباح لوجهه - تعالى وتقدَّس - إذا رأى أنَّ ترْكَه أقربُ إلى العبودية مِن فعله، مستبشرًا لذلك، غير ضجِر منه ولا متعسِّر به.وهو في المعاملات بيْن الناس أن يكون سمحًا لحقوقه لا يطالِب غيرَه بها، ويُوفي كلَّ ما يجب لغيره عليه منها؛ فإنْ مرِض ولم يُعَد، أو قدِم من سفرٍ فلم يُزَر، أو سلَّم فلم يُردَّ عليه، أو ضاف فلم يُكرم، أو شفَع فلم يُجب، أو أحسن فلم يُشكَر، أو دخَل على قوم فلم يُمكَّن، أو تكلَّم فلم يُنصَت له، أو استأذن على صديقٍ فلم يُؤذَن له، أو خطَب فلم يُزوَّج، أو استمهل الدَّين فلم يُمهَل، أو استنقَص منه فلم يُنقَص، وما أشبهَ ذلك - لم يغضبْ، ولم يُعاقِب، ولم يتنكَّر - يتغيَّر - من حاله حال، ولم يستشعرْ في نفْسه أنه قد جُفي وأوحش، وأنَّه لا يُقابل كل ذلك إذا وجَد السبيل إليه بمثله، بل يُضمر أنَّه لا يعتدُّ بشيء مِن ذلك، ويُقابل كلاًّ منه بما هو أحسنُ وأفضلُ وأقربُ إلى التقوى، وأشبه بما يُحمَد ويُرضى، ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه كهو في حِفْظ ما يكون له، فإذا مرِض أخوه المسلم عادَه، وإنْ جاءَه في شفاعةٍ شفَّعه، وإن استمهلَه في قضاء دَين أمهله، وإنِ احتاج منه إلى معونتِه أعانه، وإن استسْمَحَه في بيع سمَح له، ولا ينظر إلى أنَّ الذي يُعامله كيف كانتْ معاملته إيَّاه فيما خلا، وكيف يُعامِل الناس، إنما يتَّخذ الأحْسن إمامًا لنفْسه، فينحو نحوَه، ولا يخالِفه.والخلُق الحسَن قد يكون غريزةً، وقد يكون مكتسبًا، وإنَّما يصحُّ اكتسابه ممن كان في غريزته أمثل منه، فهو يضمُّ باكتسابه إليه ما يتمِّمه، ومعلومٌ في العادات أنَّ ذا الرأي يزداد بمجالسةِ أُولي الأحلام والنُّهَى رأيًا، وأنَّ العالم يزداد بمخالطة العلماء علمًا، وكذلك الصالِح والعاقِل بمجالسة الصُّلحاء والعُقلاء، فلا ينكر أن يكون ذو الخُلُق الجميل يزداد حُسنَ الخلُق بمجالسة أُولي الأخلاق الحَسَنة، وبالله التوفيق.قال ابن القيم في "المدارج": "وحُسن الخلُق يقوم على أربعةِ أرْكان، لا يُتصور قيام ساقِه إلا عليها: الصبر والعفَّة، والشجاعة والعدْل:فالصَّبر: يحمله على الاحتمال وكظْم الغيظ، وكفِّ الأذَى، والحِلم والأناة والرِّفق، وعدم الطَّيْش والعجَلة.والعفَّة: تحمله على اجتنابِ الرذائل والقبائِح من القول والفِعل، وتحمله على الحياء - وهو رأس كلِّ خير - وتمنعه مِن الفحشاء، والبُخل، والكذِب، والغِيبة والنميمة. والشجاعة: تحمله على عِزَّة النفْس، وإيثار معالي الأخلاق والشِّيم، وعلى البذْل والنَّدَى، الذي هو شجاعةُ النَّفْس وقوَّتها على إخراج المحبوبِ ومفارقته، وتحمله على كظْم الغيظ والحِلم؛ فإنَّه بقوَّة نفْسه وشجاعتها يُمسِك عِنانها، ويكبحها بلجامها عن النَّزْغ والبَطش، كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس الشديدُ بالصُّرَعَة؛ إنَّما الشديد الذي يَملِك نفْسَه عندَ الغضب))، وهو حقيقة الشجاعة، وهي مَلَكةٌ يقتدر بها العبدُ على قهْر خصمه.والعدل: يحمِله على اعتدالِ أخلاقه، وتوسُّطه فيها بيْن طرَفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خُلُق الشجاعة الذي هو توسُّط بين الجُبن والتهوُّر، وعلى خلُق الحِلم الذي هو توسُّط بين الغضَب والمهانة وسقوط النَّفْس، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضِلة عن هذه الأربعة.ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أرْبعة أركان: الجهل والظلم، والشهوة والغضَب:فالجهل: يُريه الحسنَ في صورةِ القبيح، والقَبيحَ في صورة الحسَن، والكمال نقصًا، والنقص كمالاً.والظلم: يحمله على وضْع الشيء في غيرِ موضعِه، فيَغْضَب في موضِع الرِّضا، ويرْضَى في موضع الغضب، ويبخَل في موضِع البذْل، ويبذل في موضِع البُخل، ويُحجِم في موضع الإقدام، ويُقدِم في موضع الإحجام، وهكذا.والشهوة: تحمله على الحِرْص والشُّح والبُخل، وعدم العِفَّة، والنهمة والجشَع، والذلِّ والدَّناءات كلها.والغضب: يحمله على الكِبر والحِقد والحسَد، والعُدوان والسَّفَه، ويتركَّب مِن بين كل خُلقين مِن هذه الأخلاق أخلاقٌ مذمومة.وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعْف، وإفراطها في القوَّة؛ فيتولَّد من إفراطها في الضعْف: المهانة والبُخل، والخسَّة واللؤم، والذُّل والحِرْص، والشُّح، وسفساف الأمورِ والأخلاق، ويتولَّد مِن إفراطها في القوَّة: الظلم، والغضب، والحدَّة، والفُحش، والطيش، ويتولَّد مِن تزوُّج أحد الخُلقين بالآخَر: أولاد غيَّة كثيرون، فإنَّ النَّفْس قد تجمع قوةً وضعفًا، فيكون صاحبها أجْبَر الناس إذا قدَر، وأذلَّهم إذا قُهِر، ظالِم عنوف جبَّار، فإذا قُهِرَ صار أذلَّ مِن امرأة؛ جبان عن القوي، جرِيء على الضعيف.فالأخلاق الذميمة يُولِّد بعضُها بعضًا، كما أنَّ الأخلاق الحميدة يُولِّد بعضها بعضًا، وكل خلُق محمود مكتنف بخُلقين ذميمين، وهو وسطٌ بينهما، وطرَفاه خلُقان ذميمان؛ كالجود الذي يكتنفه خلقَا البُخْل والتبذير، والتواضُع الذي يكتنفه خلقَا الذلِّ والمهانة والكِبْر والعلو، فإنَّ النَّفْس متى انحرفتْ عن التوسُّط انحرفت إلى أحد الخُلُقين الذميمين ولا بدّ؛ فإذا انحرفَتْ عن خلُق الحياء، انحرفتْ إمَّا إلى قحة وجُرأة، وإما إلى عجْز وخَور ومهانة، بحيث يُطْمِع في نفْسه عدوَّه، ويفوته كثيرٌ من مصالحه، ويزعُم أنَّ الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنَّما هو المهانة والعجْز وموت النفْس، وكذلك إذا انحرفتْ عن خُلُق الصبر المحمود، انحرفتْ إمَّا إلى جزَع وهلَع وجشَع وتسخُّط، وإمَّا إلى غِلظة كبد، وقَسوة قلْب، وتحجُّر طبْع، وكذلك طلاقةُ الوجْه والبِشر المحمود، فإنَّه وسط بيْن التعبيس والتقطيب وتصْعير الخدّ، وطي البِشر عن البِشر، وبيْن الاسترسال بذلك مع كلِّ أحد، بحيث يذهب الهَيْبة، ويُزيل الوَقار، ويطمع في الجانِب، كما أنَّ الانحرافَ الأوَّل يُوقِع الوحشةَ والبغضة والنفرة في قلوب الخلْق.وصاحب الخلُق الوسط مهيبٌ محبوب، عزيزٌ جانبُه، حبيبٌ لقاؤه، وفي صفة نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "مَن رآه بديهةً هابه، ومَن خالطَه عشرةً أحبَّه" والله – تعالى - أعْلَى وأعْلَم.وأما أرْكان حُسن الخلُق عند شيخ الإسلام الهروي، فقدْ قال - رحمه الله -: (جميعُ الكلام فيه يدور على قُطْب واحِد؛ وهو بذْل المعروف، وكفّ الأذَى، وإنَّما يدرك إمكان ذلك في ثلاثة أشياء: في العِلم، والجُود، والصَّبْر).فأركان حُسن الخلُق عندَه - رحمه الله - ثلاثة: العِلم، والجود، والصَّبر؛ فالعِلم يرشده إلى مواقِع بذْل المعروف، والفرْق بيْنه وبيْن المنكَر، وترتيبه في وضعِه مواضعَه، فلا يضَع الغضَب موضع الحِلم ولا بالعكْس، ولا الإمساك موضِع البذْل، ولا بالعكس، بل يعرف مواقِع الخير والشرّ ومراتبها، وموضِع كلِّ خلُق أين يضَعه، وكيف يُحسِن استعماله.والجود يبعثه على المسامَحة بحقوقِ نفْسه، والاستقصاء منها بحقوقِ غيره، فالجود هو قائِد جيوش الخير.والصبر يحفَظ عليه استدامة ذلك، ويحمله على الاحتمال، وكظْم الغيْظ، وكف الأذَى، وعدم المقابلة، وعلى كلِّ خير، وهو أكْبر العون على نيْل كلِّ مطلوب من خيرِ الدنيا والآخِرة؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]".فإن قلتَ - أخي ابن الإسلام -: هل يُمكن أن يقَع الخُلُق كسبيًّا أو هو أمرٌ خارجٌ عن الكسْب؟قلت: جوابك فيما قاله ابنُ القيِّم في "المدارج": "يُمكن أن يقَع كسبيًّا بالتخلُّق والتكلُّف، حتى يصيرَ له سجيةً وملَكة، وقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأشجِّ عبدِالقيس - رضي الله عنه -: ((إنَّ فيك لخُلُقين يحبُّهما الله: الحِلم والأناة))، فقال: أخُلُقين تخلَّقتُ بهما، أم جبَلني الله عليهما؟ فقال: ((بل جبَلَك الله عليهما))، فقال: الحمدُ لله الذي جبَلَني على خلُقين يحبُّهما الله ورسولُه؛ والحديث متَّفق عليه، وقدْ دلَّ على أنَّ مِن الخلُق ما هو طبيعة وجبلَّة، وما هو مكتسَب، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في دُعاء الاستفتاح: ((اللهم اهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يَهدي لأحسنِها إلاَّ أنت، واصرفْ عنِّي سيِّئَها، لا يصرِف عنِّي سيئَها إلاَّ أنت)) فذكَر الكسْب والقدَر، والله أعلم".وأمَّا عن الأسباب التي يُنال بها حسن الخلُق، فقد ذكَر الغزالي - رحمه الله - في الإحياء اثنين، وأزيد هنا سببًا ثالثًا، قال - رحمه الله -: "أحدهما: جُود إلهي وكمال فِطري، بحيث يُخلق الإنسان ويُولَد كاملَ العقل حسنَ الخلُق، قد كُفي سلطان الشهوة والغضَب، فيصير مؤدَّبًا بغير تأديب، والثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهَدَة والرِّياضة، وحمْل النَّفْس على الأعمال التي يَقتضيها الخلُق المطلوب".فالأخلاق الجميلة يُمكن اكتسابها بالرياضة، وهي تكلُّفُ الأفعال الصادِرة عنها ابتداءً؛ لتصير طبعًا انتهاء؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه الدارقطني والخطيب، وحسَّنه الألباني: ((إنَّما العِلم بالتعلُّم، وإنما الحِلم بالتحلُّم، ومَن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومَن يتوقَّ الشر يُوقَه)).وطالب تزكية النفْس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسَنة لا ينالها بعبادةِ يوم، ولا يُحرَمها بمعصية يوم.والسبب الثالث: هو مشاهَدة أرباب الأفعال الجميلة ومصاحبتهم، وهم قُرناء الخير وإخوان الصَّلاح؛ إذِ الطبع يَسرِق من الطبع الشرَّ والخير جميعًا، فمن تظاهرتْ في حقِّه الجهات الثلاث، حتى صار ذا فضيلةٍ طبعًا واعتيادًا وتعلمًا، فهو في غاية الفضيلة، ومَن كان رَذِلاً بالطبع، واتَّفق له قرناء السوء فتعلَّم منهم، وتيسَّرتْ له أسباب الشر حتى اعتادَها، فهو في غاية البُعد من الله - عزَّ وجلَّ - وبيْن الرتبتين مَن اختلفتْ فيه من هذه الجهات، ولكلٍّ درجة في القُرْب والبُعد بحسب ما تَقتضيه صورته وحالته.وأمَّا عن علامة حُسْن الخلُق، فقد قال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال:قلَّة الخِلاف، وحسن الإنصاف، وترْك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو مِن السيِّئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذَى، والرجوع بالملامة على النفْس، والتفرُّد بمعرفة عيوب نفْسه دون غيره، وطلاقَةُ الوجه للصغير والكبير، ولُطف الكلام لمَن دونه ومَن فوقه.والخلُق الحسن يتحقَّق بحقوقِ الأُخوَّة الإيمانيَّة التي تربط المسلمَ بجميع إخوانه المسلمين فعلاً وتركًا، وهي تبلُغ أكثر من سبعين حقًّا، فتأملها - أخي يا بن الإسلام - في الكُتب المعنية بذلك، وزِن نفسك بها؛ لترَى هل سلوكك يتَّفق مع السلوك الذي أراده الشَّرْع منَّا، والذي طبَّقه الصحابة ومَن تبِعهم مِن السلف - رضي الله عنهم - أم لا، فتعدِّل مسارك، وتصحِّح منهجك.أُسس الخلُق:اعلم يا بن الإسلام - رحِمك الله - أنَّ حسن الخلُق يقوم على أرْكان أربعة، ولا يُمكن أن يُوصَف مسلِمٌ بحُسن الخلُق إلا بهذه الدَّعائم والأسس، وهي: الصبر والعفَّة، والشجاعة والعدْل، ولكن لماذا كانتْ هذه الأصول الأرْبعة كذلك؟ ذاك لأنَّ الصبر يعلِّم كظْمَ الغيظ، وكفَّ الأذى، والحِلم والأناة، والرِّفق والتأني، أمَّا العفَّة فتكسب المسلِمَ الحياءَ، وتمنعه مِن الفحشاء، وتمنعه أيضًا مِن البخل والكذب، والغِيبة والنميمة، وتحمِله على اجتناب الرَّذائل والقبائح، وأمَّا الشجاعة فتحمِله على عِزَّة النفس، وإيثار معالي الأخلاق، وعلى البذْل والنَّدَى، والعدل يربِّي الإنسان على التوسُّط وعدَم الإفراط أو التفريط.وهكذا يا بن الإسلام ترَى أنَّ أصول الأخلاق الإسلامية تنبثِق من هذه الأربعة وتتفرَّع عنها؛ ولذلك سوف أذكُر لك أمثلةً إن عملتَ بها جاءتك البقيةُ ساعيةً، فانتبهْ لتعمل، وانوِ الخير تُوَفَّقْ له - إنْ شاء الله.1 - الصدق: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح مسلم: ((عليكم بالصِّدْق؛ فإنَّ الصِّدق يَهدِي إلى البِر، وإنَّ البِرَّ يَهدِي إلى الجنة)).أخي يا بن الإسلام، الصِّدق طُمأنينة، وخَصلة حميدة كريمة، والصادِق عزيز مكرَّم، ينال ثِقةَ الناس به، وحبَّ الناس له، وقبل ذلك ينال جنَّةَ الله.والصِّدق هو: مطابَقة الكلام للواقِع بلا زيادةٍ ولا نقصان، وقيل: هو استواء الظاهِر والباطِن والسرِّ والعلانية، وليس الصِّدق في الكلام فحسبُ، بل في الحال كذلك.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #42  
قديم 21-05-2020, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان


والصِّدق يؤدِّي إلى الخير، ويدلُّ على الخير، وعاقبتُه خير؛ قال تعالى: ï´؟ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ï´¾ [محمد: 21]، والعاقل اللبيب هو مَن يصْدُق في حاله ومقاله؛ لأنَّه يعلم أنَّ الله بكلِّ شيء عليم، يعلم ما يُخفيه وما يبديه، فباطِنه وسرُّه عندَ الله علانية؛ لهذا أمَر الله بالصِّدق بعدَ الأمر بالتقوى؛ لأنَّ مَن اتَّقى الله صَدَق، ولأنَّ الصِّدق ينبثق من التقوَى وينبُع منها.الصدق يا بن الإسلام هو الذي ينفعك ويرْفعك يومَ القِيامة؛ قال تعالى: ï´؟ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ï´¾ [المائدة: 119]، وبالصدق تحلُّ البَركة، وبالكذِب تُمحق البركة وتُمحَى؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه البخاري: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقَا، فإنْ صدَقَا وبيَّنَا بُورِك لهما في بيعهما، وإنْ كتَمَا وكذَبَا مُحِقتْ بركةُ بيعهما)).وبالصِّدق تُكتب في السماء صدِّيقًا؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ï´¾ [الحديد: 19]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح مسلم: ((عليكم بالصِّدق؛ فإنَّ الصِّدق يَهدي إلى البِر، وإنَّ البِر يَهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجلُ يصدُق ويتحرَّى الصِّدق حتى يُكتبَ عندَ الله صدِّيقًا))، وعندما تصدُق نيَّتك مع الله، فإنَّك تنال ثوابَ العمل وإنْ لم تعملْه، وتحصِّل أجْره وإن لم تنفذه؛ قال تعالى: ï´؟ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ï´¾ [محمد: 21]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصحيح في سنن النَّسائي: ((إنْ تَصْدُقِ الله يصدقْك))، وسبَق معنا حديث مسلم: ((مَن سأل اللهَ الشهادةَ بصِدق، بلَّغه الله منازلَ الشهداء وإنْ مات على فِراشه))، فيا بن الإسلام: الصِّدقَ الصدقَ، اصدقِ الله يصدقْك.2 - الحلم والأناة: الحلم هو: مزجُ الصبر بالرِّضا؛ فيحصُل منه سكونُ القلْب، وعدم الاستعجال، واعلم - رحِمك الله - أنَّ التؤدة في كلِّ عملٍ خيرٌ إلا في عملِ الآخِرة، والحليم حبيبٌ إلى الله حبيبٌ إلى خلْقه، كما في حديثِ أشجِّ عبدالقيس: ((إنَّ فيك خصلتين يحبُّهما الله ورسوله: الحِلم والأناة))، وقد سبق.وأشرفُ الخلْق وأكرمهم وأعقلهم مَن تحلَّى بالحِلم، فصار الحلم له حالاً دائمًا؛ ولذا وصَف الله - تعالى - خليله إبراهيم - عليه السلام - بهذا الوصفِ الكريم: ï´؟ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ï´¾ [هود: 75]، وذلك نفْس وصف رسولِنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولا يَجزي بالسيِّئة السيِّئةَ، ولكن يعْفو ويصْفَح))، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - الصحيح في التِّرمذي، بل إنَّه ما كانت تَزِيدُه شدَّةُ الجهل عليه إلا حلمًا - صلَّى الله عليه وسلَّم.وبهذا الحِلم تألَّف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلوبَ أصحابه، بل وقلوب أعدائه؛ قال تعالى: ï´؟ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ï´¾ [آل عمران: 159].قال ابنُ حِبَّان - رحمه الله -: ما ضُمَّ شيءٌ إلى شيءٍ هو أحسن مِن حلم إلى عِلم، وما عُدِم شيءٌ في شيء هو أقبح مِن عدم الحِلم في العِلم.لذلك - يا بن الإسلام - أقولُ لك: ما كان الحِلم والرِّفق في شيء قطُّ إلا جمَّله وزانه، وما نُزع من شيء قط إلا عابَه وشانَه، فكن حليمًا رفيقًا، واحذر الاستعجال، واعلم أنَّ الحلم بالتحلُّم، والعِلم بالتعلُّم، والعاقِل مَن نظر في عواقب الأمور، وعلم بأنَّ كل شيءٍ مقدور، وأنَّ اختيار الله لعبده خيرٌ له في جميع الأمور.فكن حليمًا يملأ الله قلبَك بالرِّضا؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح سُنن الترمذي: ((مَن كظَم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يومَ القِيامة على رُؤوس الخلائِق حتى يخيِّرَه في أي الحور شاء))، فاغنمِ الرِّضا بالحِلم.3 - الشجاعة: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسنَ الناس وأشجعَ الناس.اعلم - وفَّقك الله لما يحبُّه ويرْضاه - أنَّ الشجاع يحبُّه كل أحدٍ حتى عدوُّه، والشجاعة هي: قوَّة القلْب في مواجهة المخاطر، وحقيقتها القلبيَّة: مَلَكة يقتدر بها العبدُ على قهْر خَصْمه.وأولى الناس بالشَّجاعة هم المؤمنون؛ لأنَّهم يَعرِفون الله - تعالى - وأنَّ كلَّ شيء في الكون يجري بقضائِه وقدَره، وأنَّ كلَّ ما قدَّره ربُّهم سيكون؛ ولذلك كان أشجعُ الناس الأنبياء، فتجِد النبيَّ يقِف وهو فرد وحْده ليتحدَّى قومه جميعًا بحدِّهم وحديدهم؛ لأنَّه واثقٌ من موعود ربِّه، راجِع مثلاً وقوف هُود - عليه السلام - أمامَ قومه عاد بقوَّتهم التي لم يخلق مثلها في البِلاد، ووقوف موسى - عليه السلام - أمامَ فِرعون في قصرِه وبين جنوده وجيشِه، ويُرغم أنفه ويذل كبرياءَه.بل راجِع وقوفَ السَّحَرة - رحمهم الله - أمامَ فرعون بشجاعةٍ عجيبة، وقولهم: ï´؟ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ï´¾ [طه: 72]، لعَمر الله هذه هي الشجاعة التي تَنال الإعجاب، وهي الشجاعة وثبات القلْب في المواقِف، سبحان الله! كم عُمر هؤلاء السَّحرة في هذا الدِّين؟! إنها لحظاتٌ ثم ينطقون بهذا الكلام القوي الذي يخرُج من قلوب عرَفَتِ الحق وآثرتْه، كذلك الإيمان إذا خالطتْ بشاشتُه القلوب.في صحيح البخاريِّ عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسنَ الناس وأشجعَ الناس، ولقد فزِع أهلُ المدينة ليلةً فخَرَجوا نحوَ الصوت فاستقبلهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقدِ استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طَلحة عُرْيٍ وفي عنقه السيف، وهو يقول: ((لم تراعوا لم تراعوا))، ثم قال: ((وجدْناه بحرًا))! إنَّها الشجاعة التي تنبض بها القلوبُ الواثِقة بوعْد ربِّها، المؤمِنة بقضائِه وقدَره، فما الذي يحمِل الإنسان على الجُبن والخور؟! وما الذي يدفعه إلى الانقِماع والانزواء في خَندق الخزي بعيدًا عن المواجهة؟! فهذا لن يزداد إلاَّ خزيًا وذلاًّ، ويجترِئ عليه كلُّ سفيه، ويطمع في ضرِّه كلُّ وضيع، فُكن شجاعًا تَمُت شجاعًا؛
وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ
تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدُ
وإنك أنْ تلقَ الله وأنت تحمل الراية خيرٌ من أن تلقاه وأنت مولٍّ فارٌّ من الزحف، فكُن مع الحق بالحق، فاتِّخذ الشجاعة زادًا لك، فلن يصيبك إلا ما كتَب الله لك.قال ربُّك - وهو حسبك ووكيلك -: ï´؟ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ï´¾ [آل عمران: 174 - 173]، ومن هنا تتعلَّم الشجاعة باعتقادك أنَّك تأوي إلى رُكن شديد، إنْ كنتَ لله وليًّا، فتقول حقًّا: ï´؟ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ï´¾ [الأعراف: 195 - 196].4 - المروءة:المروءة كمالُ الرُّجولة، وهي: قوَّة للنفس تصدُر منها الأفعال الحميدة، وتَمنع من فعل كلِّ خلُق قبيح؛ قال ابن القيِّم - رحمه الله -: وحقيقة المروءة تجنُّب الدَّنايا والرذائل مِن الأقوال والأخلاق والأعْمال.أخي يا بن الإسلام، إنَّ المروءة هي الترفُّع عن دنَسِ الخطايا، والتنزُّه عن قذَر المعاصي، والتحليق في آفاقِ الطُّهر والنقاء، فصاحِب المروءة لا تذلُّه معصية، ولا تأسِرُه شهوة، ولا يسيطر عليه هوًى، بل هو نقِي القلْب، طاهِر النفس؛ لأنَّ المعاصي للإيمان كالمرَض؛ ولذلك قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: لو علمتُ أنَّ الماء البارد يثلم مروءتي لما شربتُه، وقال معاوية - رضي الله عنه -: المروءة ترْك الشهوات وعصيان الهوى، وقال ابنُ القيِّم - رحمه الله تعالى -: إنَّ أغزرَ الناس مروءةً أشدُّهم مخالفةً لهواه، وقال بعضُ الحُكماء: أقلُّ ما يجبُ للمنعم بحقِّ نِعمته ألا يتوصَّل بها إلى معصيته، وسُئل الفُضيل - رحمه الله - عن الرَّجل التام الكامِل المروءة، فقال: الكامل مَن بَرَّ والديه، ووصَل رحِمَه، وأكرم إخوانه، وحسن خلُقه، وأحرز دِينه، وأصلح مالَه، وأنفق مِن فضْله، وحسن لسانه، ولَزِم بيته.تلك المروءة لا يتَّصف بها إلا رجلٌ غُرِست في الرجولة أصولُه، فأثمرت تلك المروءة، والمروءة ثياب كرَم يَرتديها أهلُ الفضل والبِر، فتُضفي عليهم جلالةَ الإيمان، وتُبديهم للناس في رَوعة المهابة والإكبار، فتَرَى النفس لهم موقِّرة، منهم مستحيية، وبهم معجَبة؛ لأنَّ بواطنَهم ظهرتْ على وجوههم؛ فلمَع برق القلْب على الوجْه؛ فكسر أبصار الناظِرين، وأسكتَ ألْسِنة المتكلِّمين، إلا بالمدْح لهم والثَّناء عليهم.فالمروءة مراعاةُ أدقِّ التفاصيل في جمال الخُلُق ومراقبة الربِّ - جل وعلا - فمروءة اللسان: حلاوته وطِيبه ولِينه، واجتناء الثمار منه بسهولة ويُسر، ومروءة الخلُق: سَعته وبسطه للحبيب والبغيض، ومروءة المال: الإصابة ببَذْلِه مواقعه المحمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا، ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره وتوفيره، وعدم رؤيته حالَ وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه، فهذه مروءة البذْل.وأمَّا مروءة الترْك: فترك الخِصام، والمعاتبة، والمطالبة والمماراة، والإغضاء عن عيب ما يأخُذه من حقِّك، وترْك الاستقصاء في طلبه، والتغافُل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنَّك لا تعلم لأحدٍ منهم عثرة، والتوقير للكبير، وحِفظ حُرْمة النظير، ورِعاية أدَب الصغير.5 - الصبر: الصبر نِصف الإيمان؛ فالإيمان: نِصف صبر، ونِصف شُكر، وهو حبس النفس عما لا يَنبغي، وهو ثلاثة أنواع: صبر على الطاعات، وصبر عن المعاصي المحرَّمة، وصبر على أقدار الله مِن مِحن وابتلاءات.لذلك فالصابر حبيب إلى الله؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ï´¾ [آل عمران: 146]، والصبر طريق للإمامة في الدِّين، فبالصبر واليقين تُنال تلك الإمامة؛ قال تعالى: ï´؟ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ï´¾ [السجدة: 24]، والصبر خيرٌ كله إذا كان ابتغاءَ وجه الله، فالصابر في معيَّة ربه، عليه مِن الله صلواتٌ ورحمة؛ قال تعالى: ï´؟ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ï´¾[البقرة: 155 - 157].أخي يا بن الإسلام، عاقِبة الصبر الجميل جميلة؛ لذلك كان خير عطاءٍ وأوسع خير يناله العبدُ الصَّبر؛ ففي صحيح البخاري قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ مِن الصبر)) فلا تستعجل؛ فمن تعجَّل شيئًا قبل أوانه، عُوقِب بفواته وحرمانه، واصبر صبرَ الكِرام، قبل أن تضطرَّ لصبر اللئام، والمصاب حقًّا مَن حُرم الثواب، فاحتسب أجْرك، واطلب من ربِّك تسعدْ في الدنيا ويوم الدِّين؛ قال عمر - رضي الله عنه -: وجدْنا خير عيشنا بالصبر.فالصبر - يا بن الإسلام - طريقك إلى الجنَّة؛ ففي الحديث الحسَن عند ابن ماجه يقول الله تعالى: ((ابنَ آدم، إنْ صبرتَ واحتسبتَ عندَ الصَّدْمة الأولى، لم أرْضَ لك ثوابًا دون الجنة))، فالصَّبرَ الصبرَ يا بن الإسلام، ومن يتصبَّر يصبِّرْه الله، صبرًا قليلاً يؤتِك الله تعالى الثواب الجزيل.6 - الوفاء: الوفاء خُلُق الصالحين والأنبياء؛ مدَح الله - تعالى - خليلَه - عليه السلام - فقال: ï´؟ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ï´¾ [النجم: 37]، وهو علامة الصادقين، وسِمة المتقين، وشِعار المؤمنين الذين ذاقتْ قلوبهم حقيقةَ الإيمان؛ قال تعالى: ï´؟ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ï´¾ [الإسراء: 34]، وقال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ï´¾ [المائدة: 1]، ومَن وفَّى بعهد الله وفَّى الله له بوعْده، قال الشافعي - رحمه الله -: الحرُّ مَن راعى ودادَ لحظة، ولم ينسَ جميلَ مَن أفاده لفْظة.ولأنَّ الوفاء ضد الخيانة والغَدر والخديعة؛ فإنَّ هذه المعاني الخبيثة لا يَستطيع أن يتَّصف بها المؤمن، ليس له إلا أن يتَّصف بالوفاء، ويتحلَّى به في كلِّ أحيانه، وعلَّمنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الخلُق بقوله وفِعله وحاله؛ ففي صحيح البخاري: ((مَن أخَذ أموال الناس يُريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومَن أخذَها يُريد إتلافَها، أتلفه الله))، بل كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفيًّا غاية الوفاء لعمِّه أبي طالب، وهو حريصٌ على هدايته وهو في سَكَرات الموت، ويدْعوه ويلحُّ عليه أن ينطقَ بكلمة الإسلام، اجتمعتْ فيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - معاني الوفاء كله، فتجده يُوفي حتى لمن آذاه ووقَع في عِرضه؛ لعبدالله بن أُبي بن سَلول، الذي هو رأس المنافقين، ويَدفنه في ثوبه؛ لأنَّه كسا العبَّاس - رضي الله عنه - عمَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثوبًا لما جاءَ المدينة أسيرًا، فصلَّى الله وسلَّم على سيِّد الأوفياء، الذي علَّم الدنيا معنى الوفاء. فيا بن الإسلام، لك في رسولك أُسوة، فعش بالوفاء ومتْ به، فمَن وفَّى وُفِّي له.7 - العفة: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح البُخاري: ((ومَن يستعفِفْ يعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنه الله، ومَن يتصبَّر يُصبِّره الله)).فيا بن الإسلام، مَن اتَّصف بالعفَّة جاءتِ العفة بما سواها مِن الفضائل، وفتحت له باب الوصول إلى جميع المحاسِن، والعفَّة هي: الكفُّ عمَّا لا يحل ولا يجمل، وعماد العفَّة: ألا تُطلق جوارحَك إلا فيما يقرُّه الشرع والعقْل، واجتناب ما يُزيِّنه الهوى والشهوة، وهي وصيةُ الله وأمْره؛ قال تعالى: ï´؟ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ï´¾ [النور: 33]، ومَن استعفَّ أعفَّه الله وملأ قلبه بالاستعفاف: ((ومَن يستعفِفْ يعفَّه الله))، ومَن غلبته شهوته وتحكَّم فيه هواه، صار ذليلاً مهينًا؛ ولهذا قيل: عبْد الشهوة أذلُّ مِن عبْد الرِّق.قال بعض السلف: ركَّب الله في الإنسان عقلَ ملَك وشهوة حيوان، فمَن غلب عقله شهوتَه، فهو خيرٌ عند الله من ملَك، ومَن غلبت شهوتُه عقلَه، فهو أخسُّ عند الله مِن الحيوان.والعفَّة طريق إلى ظلِّ عرْش الرحمن يومَ القيامة؛ ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله: ((ورجلٌ دعتْه امرأة ذات منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله)).تلك - والله - هي البُطولة الحقيقيَّة؛ كسر شهوة النفْس ابتغاءَ وجه الله - عزَّ وجلَّ - وخوفًا من عقابه.يقول ابن القيِّم - رحمه الله -: وللعِفَّة لذَّةٌ لا تعادلها أبدًا لذَّة قضاء الوطر، وكذلك تكون عفَّة النفْس عن المال الحرام، وعن التطلُّع والنظر إلى ما في أيدي الناس، فالعفَّة تملأ القلب بالرِّضا والاطمئنان والإيمان.فالزمِ العفَّةَ يا بن الإسلام تكُنْ كريمَ النفس، زكيَّ الفؤاد، طاهِر القلب، الزم العفَّة يصفُ لك قلبُك، ويزدَدْ إيمانك واطمئنانك، أخي: كن عفيفًا، تلقَ الله كريمًا نظيفًا.يا مهيمن يا مقتدر، نسألك عِفَّة الغِنى، هبْ لنا منك عفَّةً في قلوبنا حتى لا تشتهي شيئًا غير ما قسمتَه لنا، وعِفَّة في أعيننا حتى لا تتطلَّع إلى ما لم تقدِّرْه لنا، وعفَّة في عقولنا حتى لا نشتغلَ بغير الفِكر فيما يرضيك عنا، وعفَّة في حياتنا كلها، يا ربَّ العالمين.8 - العدل: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح مسلم: ((إنَّ المقسطين عندَ الله على منابرَ مِن نور عن يمينِ الرحمن - عزَّ وجلَّ - وكِلتا يديه يمين، الذين يَعدلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا))، وفي حديثِ السبعة الذين يُظلُّهم الله: ((إمام عادِل)).العدْل طريق موصلٌ إلى الجنة، وبه يدوم المُلْك، ويتحقَّق لصاحبه الأمنُ في الدنيا والآخِرة، وبه ينال العبدُ رِضا الخالق قبل رِضا المخلوقين، وبالعدل قامتِ السموات والأرْض، والعدل أمرُ الله لعبده في الغضَب والرِّضا؛ قال تعالى: ï´؟ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ï´¾ [الأنعام: 152]، وقال: ï´؟ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ï´¾ [المائدة: 8]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث مُهلِكات: شُحٌّ مُطاع، وهوًى متَّبع، وإعجاب المرءِ بنفْسه مِن الخيلاء، وثلاث منجيات: العدْل في الرِّضا والغضَب، والقَصد في الغِنى والفاقة، ومخافة الله في السرِّ والعلانية))؛ رواه الطبراني، وحسَّنه الألباني.يا بن الإسلام، بالعدْل تجلس في الجنَّة على مِنبر من نور عن يمين الرحمن، ومن مدرسة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُخرج قبسات مِن نور لقِيم للعدل منارًا ساطعًا، وتُبدي العدل في دياجير الدنيا نورًا لامعًا، وهكذا فليكُنِ العدل، وعلى العدل وبالعدل بايَع الصحابةُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.وتتضاءَل الكلمات، وتستحي العبارات، وتعجِز الفصاحة عن تصويرِ هذا الموقِف العجيب الذي بقِي مسطورًا على جبين الزمان، هذا الموقف والمشهد الرائع للعدْل عندما يقِف رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقول: ((يا أيُّها الناس، إنَّما ضلَّ مَن قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرَق الشريفُ ترَكوه، وإذا سرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايمُ الله لو أنَّ فاطمةَ بنت محمَّد سرقتْ لقطَع محمَّدٌ يدها))؛ والحديث في صحيح البخاري.قال شيخ الإسلام: العدْل نِظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمْر الدنيا بالعدْل قامت، وقال ابن القيِّم: التوحيد والعدْل جماعُ صفات الكمال.فهذا هو العدل يا بن الإسلام؛ منهج الإسلام وأساسه، فاستمسك به، ولا تُعرِض عنه فتهلِك، وعكسه الظلم؛ فإيَّاك والظلمَ لأي أحدٍ بشرًا كان أو حيوانًا أو جمادًا؛ فإنَّ الظلم ظلمات يومَ القيامة.9 - الحياء: الحياءُ كله خير، ولا يأتي الحياء إلا بخير، وهو خلُق الإسلام، وقرين الإيمان؛ في صحيح البخاري أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سمِع رجلاً يعِظ أخاه في الحياء فقال: ((دَعْهُ؛ فإنَّ الحياء مِن الإيمان))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أحمدُ والترمذي وصحَّحه الألباني: ((الحياء مِن الإيمان، والإيمان في الجَنَّة، والبَذاء مِن الجفاء، والجفاء في النار))، وأخرج ابنُ أبي شَيبةَ في مصنَّفه والبخاري في الأدَب المفرد - وصحَّحه الألباني - عن ابن عمرَ أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الحياءَ والإيمان قُرِنَا جميعًا، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخَر)).والحياء يا بن الإسلام خُلُق يبعث على فِعل الجميل واجتناب القبيح، ويَمنع من التفريط والتقصير في حقِّ ذي الحق، وهو صِفة مِن صفات ربِّنا - تعالى - وخُلُق من خُلُق نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - ففي الحديثِ الصحيح في سُنن أبي داود: ((إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - حييٌّ ستِّير يحبُّ الحياء والسِّتْر)).وفي الصحيحين مِن حديث شُعَب الإيمان: ((والحياء شُعْبة من الإيمان))، وعند ابن ماجه وصحَّحه الألباني: ((إنَّ لكلِّ دِين خلُقًا، وخُلق الإسلام الحياء)).قالوا: الحياء أن تتفتَّح في قلبك عينٌ ترَى بها أنَّك قائم بيْن يدي الله - تعالى - فتستحي منه، فكُن حييًّا يحبَّك ربُّك، وتنلْ رحمته وعفوه، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشدَّ حياءً مِن العذراء في خِدرها؛ يقول ابن القيِّم - رحمه الله -: وقِلَّة الحياء مِن موت القلب والرُّوح، فكلَّما كان القلب أَحيا كان الحياء أتَمَّ.والحياء - يا بن الإسلام - يكون مِن أوجه ثلاثة: أولاً: حياء المرْء مِن خالقه - تعالى - وهذه أسْمَى منازل الحياء؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح سُنن الترمذي: ((استحيوا مِن الله حقَّ الحياء))، قالوا: يا رسولَ الله؛ إنَّا نستحي والحمد لله، قال: ((ليس ذاك، ولكن الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء أن تَحفظَ الرأس وما وعَى، والبطنَ وما حوَى، ولتذكُر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة ترَك زِينةَ الدنيا، فمَن فعَل ذلك فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء)).قال القرطبي: "فمَن كثر مِن الله حياؤه، انقضتْ نفسه عن مجاهرتِه بالعِصيان؛ إذ عِلمه معه في كلِّ مكان، فمَن عصاه فقد جاهَره، ثم مهما أفشَى معصيته في الخلْق فعلاً وقولاً فقد أعْظَم المجاهرة؛ إذ مَن لا يستحي مِن الناس لا يستحي مِن الله؛ ولذلك كان الحياء الغريزي محمودًا في العبْد؛ لكونه منقبضًا به عن مجاهرة الخلْق فيما يُنكرونه من الفعل"، ومن اشتدَّ حياؤه مِن الله - تعالى - فإن ذلك لا يقِف به عند ترْك المحرَّمات وفقط، بل يبلغ به ألا يقَع في المكروهات، وألا يُقصِّر في المندوبات والواجبات.وروى الإمام أحمدُ في الزُّهد مِن حديث سعيد بن زَيد - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال للرجل الذي استوصاه: ((أُوصيك أن تَستحيي مِن الله كما تَستحيي مِن الرَّجل الصالح مِن قومك))، والحديث رَواه أيضًا الطبراني في الكبير، وصحَّحه الألباني.ثانيًا: حياؤك مِن الناس بكفِّ الأذَى عنهم، وترْك المجاهرة بالقبيح خجلاً مِن أن يُؤثَر عنك سوءٌ؛ ففي صحيح البخاري قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ مما أدرك الناسُ مِن كلام النبوَّة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت))، وقال حذيفة - رضي الله عنه -: لا خيرَ فيمَن لا يَستحي من الناس، وقال مُطرِّف بن عبدالله - رضي الله عنه - لبعض إخوانه: يا أبا فلان؛ إذا كانتْ لك حاجةٌ فلا تُكلِّمني، واكتبْها في رُقعة؛ فإنِّي أكْره أن أَرَى في وجهك ذلَّ السؤال.ثالثًا: حياؤك مِن نفْسك في الخلوات؛ وهو حياء النُّفوس الشريفة العزيزة الرفيعة، قال بعضُ السَّلَف: مَن عمِل في السرِّ عملاً يستحي منه في العلانية، فليس لنفْسه عنده قدر.قال القاضي عياض: "قدْ يكون الحياء تخلُّقًا واكتسابًا كسائر أعمال البِر، وقد يكون غريزةً، ولكن استعماله على قانون الشَّرْع يحتاج إلى اكتساب، ونيَّة، وعلم، فهو مِن الإيمان بهذا، ولكونه باعثًا على أفعال البر، ومانعًا من المعاصي".* الحياء الغريزي "الجبلي الفطري": كحياء الإنسان مِن التكشُّف، وفي الحديث الذي صحَّحه الألباني أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لأشجِّ عبدالقيس: ((إنَّ فيك لخلَّتين يحبُّهما الله))، فقال: ما هما؟ قال: ((الحِلم والحياء))، قال: قلت: قديمًا كانتْ فيَّ أم حديثًا؟ قال: ((قديمًا))، قال: الحمدُ لله الذي جبَلني على خلَّتَين يحبُّهما الله.* الحياء الكَسْبي: ويكون مكتسبًا مِن معرفة الله - تعالى - وقُرْبه من عبادِه، وإحاطته بهم، وعِلمه خائنة الأعين وما تُخفي الصُّدور، فهذا هو الحياء الإيماني، والذي يمنَع المؤمن مِن ارْتكاب المعاصي خوفًا من الله تعالى، وعلى هذا فيَنبغي أن يستعملَ الحياء على النحو الذي يحبُّه الله ويرْضاه؛ ليكونَ قربةً لصاحبه وعبادةً لله تعالى، وفي تقديم الحياء مِن الله - تعالى - على الحياء مِن الناس يقول القرطبيُّ - رحمه الله تعالى -: "وقدْ كان المصطفَى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأخُذ نفسه بالحياء، ويأمُر به، ويحثُّ عليه، ومع ذلك فلا يمْنَعه الحياء من حقٍّ يقوله، أو أمْر دِيني يفعله، تمسُّكًا بقوله تعالى: ï´؟ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ï´¾ [الأحزاب: 53]، وهذا هو نهايةُ الحياء وكماله، وحُسْنه واعتداله؛ فإنَّ مِن فرط عليه الحياء حتى منَعَه من الحقِّ، فقد ترَك الحياء مِن الخالق، واستحيا من الخلق، ومَن كان هكذا حُرِم منافع الحياء، واتَّصف بالنِّفاق والرِّياء، والحياء مِن الله هو الأصل والأساس، فإنَّ الله أحقُّ أن يُستحيا منه، فليحفظ هذا الأصْل؛ فإنَّه نافع".يا بن الإسلام، إنَّ الحياء يأخُذ بيدك إلى كلِّ خير، ويدلُّك على كلِّ فضْل؛ قال بعض الحُكماء: مَن كان الحياء ثوبَه، لم يرَ الناسُ عيبَه، فالحياء حياةُ قلبك وحياتك في الجنَّة، وذَهاب الحياء عنك موتُ القلب، وشَقاء الدُّنيا والآخِرة، ومَن استحيا مِن الله استحيا منه الصالِحون، ومَن استحيا مِن الناس أقْبَل عليه بالحبِّ المؤمنون، ومَن استحيا مِن نفْسه حجزها عن كلِّ عيب يشين، فكُن حييًّا تسعدْ وتُفلح، كن حييًّا تربحْ وتنجح، كن حييًّا؛ فالحياء خيرٌ كلُّه.10 - التواضع: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح مسلم: ((إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يَبغي أحدٌ على أحد، ولا يفخرَ أحدٌ على أحد)).التواضُع - يا بن الإسلام - ألاَّ ترى لك حقًّا، ولا تشهد لنفسك فضلاً، ولا تجعل لنفسك قيمة، فمَن رأى لنفْسه قيمةً فليس له في التواضُع نصيب؛ قال عطاء - رحمه الله -: هو قَبول الحقِّ ممَّن كان.والعزُّ في التواضُع، فمَن طلبه في الكِبر فهو كطالب الماء مِن النار، ومِن صفات عباد الرحمن أنهم: ï´؟ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ï´¾ [الفرقان: 63]؛ أي: ساكنين متواضعين لله - تعالى - والخَلْق.قال ابنُ كثيرٍ - رحمه الله -: هذه صِفات المؤمنين الكُمَّل؛ أن يكون أحدُهم متواضعًا لأخيه ووليِّه، متعزِّزًا على خصْمه وعدوِّه، وقد وصف الله عبادَه الذين هداهم للإيمان فقال: ï´؟ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ï´¾ [المائدة: 54].والتواضُع سُلَّم للعزَّة والرفعة، وسبيل للقُرب من الله تعالى؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح مسلم: ((وما تواضَع أحدٌ لله إلا رفَعَه الله))، وبقدْر تواضعك وذُلِّك لله تنال المكانة والمنزلة عندَه، وإذا تكبَّرْتَ ولو بقدْر ذرَّة حُرمت جنة الله، وحاق بك عذابُه وعقابه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح مسلم: ((لا يدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قلْبه مثقال ذرَّة مِن كِبر)).قال ابن الحاج: ومَن أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى؛ فإنَّ العزة لا تُقدَّر إلا بقدر النزول، ألاَ ترى أنَّ الماء لما نزل إلى أصلِ الشجرة صعِد إلى أعلاها، فكأنَّ سائلاً سأله: ما صعِد بك إلى هنا؟ أعني: في رأس الشجرة وأنت تحتَ أصلها؟ فكان لسان حاله يقول: مَن تواضع لله رفعَه!قال الأحنفُ بن قيس - رضي الله عنه -: عجبتُ لِمَن خرَج من مجرى البول مرَّتين كيف يتكبَّر؟! وقال مُصعَبُ بن الزُّبَير - رضي الله عنه -: التواضُع مصائدُ الشرف، وقيل في منثور الحِكم: مَن دام تواضعُه كثُر صديقه.فيا بن الإسلام، إيَّاك والكِبر، فما يتكبَّر إلا غبي، فهو لا يَدري بماذا يتكبَّر؟! أليس كلُّ ما فيه مِن نعم محض فضل مِن الله؟! قال تعالى: ï´؟ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ï´¾ [النحل: 53]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح البخاري: ((ألاَ أُخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جَوَّاظ مستكبِر)).التواضع - يا بن الإسلام - خُلُق نبيِّك، فتخلَّق به تكُنْ معه في الجنة وتسعَدْ بحبِّه وقُربه؛ كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يمرُّ على الصِّبيان ويسلِّم عليهم، وكان يخصِف نعلَه، ويرقِّع ثوبه، ويحلب الشاةَ لأهله، ويعلف البعير، ويأكُل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ مَن لقيه بالسلام، ويُجيب دعوةَ مَن دعاه ولو إلى أيسرِ شيء، كان يعود المريضَ، ويشهد الجنازة، ويركَب الحمار، ويُجيب دعوةَ العبد، ذلكم هو نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتِلْكُم هي أخلاقه، فهل تبغي بها بدلاً؟!على قدْر عِلمك بالله يكُون تواضعك، وعلى قدْر عِلمك بنفسك يكُون تواضعك، والسنبلة الفارغة هي التي تنتفش واقفة، أمَّا السنبلة الملأى فإنها تنحني متواضعة، فإذا تكبَّرْتَ فاعلم أنَّ ذلك بقلَّة عملك، وسوء أدبك، وشدَّة جهلك، وإذا تواضعتَ فهذا ببركة عمل صالح غرَس في القلب تقوى، فتواضع يعزَّك الله ويرفعك.11 - الجود والإيثار: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صحيح سُنن الترمذي: ((إنَّ الله طيِّب يحب الطيِّب، نظيف يحبُّ النظافة، كريم يحبُّ الكَرَم، جوَاد يحب الجُود))، الجواد الكريم كريم على الله، حبيبٌ إليه، كريمٌ على الناس حبيبٌ إليهم، وخيرُ الناس أكرمُهم؛ ألم ترَ إلى إبراهيم - عليه السلام - عندما جاء إلى الضيفان قدَّم لهم عجلاً سمينًا؟! ألم ترَ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، وأعطى رجلاً غنمًا بين جبلين، وكان يُعطي الرجل مائةً من الإبل!ويدلُّك ذلك على أنَّ الإيمان هو وقودُ الكرَم، ومحرِّك الجود؛ يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجودَ الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلْقاه جبريلُ - عليه السلام - فإذا لقِيَه جبريل - عليه السلام - كان أجودَ بالخير من الرِّيح المرسَلة؛ والحديث في البخاري.ولا يَسكُن البخلُ والشحُّ إلا قلبًا خوَّارًا، فارغًا ضعيفًا، ومَن وُقي شرَّ الشح كان مِن المفلحين، ومَن آثر إخوانه بالخير على نفْسه كان عندَ الله مِن الفائزين؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [الحشر: 9].سبحان الملك! كان أويسٌ القرني - رحمه الله - إذا أمْسى تصدَّق بما في بيته من الفضل مِن الطعام والشراب، ثم يقول: اللهمَّ مَن مات جوعًا فلا تؤاخذني به، ومَن مات عريًا فلا تؤاخذني به؛ فإنَّك سبحانك تعلم أنِّي لا أملك إلا ما في بطْني! وقال بعضُ الحكماء: جودُ الرجل يحبِّبه إلى أضداده، وبُخله يبغضه إلى أولادِه.أخي - يا بن الإسلام -: الإيثار على درجات ثلاث:أولها: أن تؤثِر الخلْق على نفسك بما لا يُفسد عليك دِينَك ووقتَك.وثانيها: إيثار رِضا الله - تعالى - على رِضا غيره، وإن عظُمت في ذلك المِحن.وثالثها: إيثارك الإيثارَ لله - تعالى - فتعلم أنَّ إيثارك ليس منك، بل مِنَّة الله عليك، وهذه قِمَّة الأخلاق، ودستور حُسن الخُلُق، ويتم ويكمل بها الرَّجلُ الكامل.ولا تعجب؛ فإنَّ عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - اشتهَر جدًّا من حاله أنَّه بات في فِراش النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفديه ويؤثِره بالحياة، أرأيتَ - يا بن الإسلام - كيف يكونُ الإيثار بالحياة؟!فأنبِّهك بهذا على الإيثار بما هو أقلُّ وأدْنى، فآثِر إخوانك تنلْ حبَّهم وودَّهم، آثِر إخوانك تنلْ رِضا الله تعالى، واحذر البُخل؛ فإنَّ البخل ممقوتٌ مبغوض عندَ الله وعند خلْقه، وكلَّما زاد كرمُك زاد إكرامُ الله تعالى لك.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #43  
قديم 21-05-2020, 04:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة



عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان

(28)






محمود العشري



الوسيلة الرابعة والعشرون: إفشاء السَّلام:
"السَّلام" هو الأمان والاطمئنان، وهو أقصى ما يتمنَّاه الإنسان، وغاية ما ترجوه البشريَّة، وقد جعله الله تحيةً لآدمَ أبي البشر؛ كما في "صحيح البخاري"، وروى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرة أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تَدْخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعَلْتُموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم)).
من آداب السَّلام:
1- الالتزام بصيغةِ السَّلام الواردة عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته)).
2- الردُّ على السَّلام: وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته؛ قال - تعالى -: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 86].
3- ترك التَّحايا والسَّلامات غير الشرعيَّة، والالتزام بالسَّلام المشروع فقط؛ مثل قول: "مساء الخيرِ" وغيرها، مما فيه تشبه بالكفَّار.
4- لا يقول: عليكَ السَّلام؛ لأنَّها تحية الموتى؛ ففي "صحيح سنن أبي داود" عن أبى جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقلتُ: عليكَ السَّلام يا رسول الله، قال: ((لا تقل: عليك السَّلام؛ فإنَّ "عليك السَّلام" تحيةُ الموتى)).
5- أن يَبدأ بالسَّلام قبل الكلام دائمًا؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من بدَأَكم بالكلامِ قبل السَّلام فلا تُجيبوه))؛ وقد رواه الطَّبراني، وحسَّنه الألباني.
6- أن يحرصَ كلُّ مسلم على أن يكون هو الذي يبدأ بالسَّلام؛ ففي "صحيح سنن أبي داود" قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أولى النَّاس بالله مَن بدأهم بالسَّلام)).
7- أن يكرِّرَ المسلمُ السَّلام على أخيه المسلم كلَّما تكرَّرَ لقاؤه؛ ففي "صحيح سنن أبي داود" قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا لقي أحدُكم أخاه، فلْيُسلِّمْ عليه، فإن حالت بينهما شجرةٌ أو جدار أو حجر، ثم لَقِيه، فليسلِّم عليه أيضًا)).
8- أن يرفعَ صوتَه بحيث يسمع المسلّم عليه، وإذا شكَّ في أنه لم يسمعهم، فلْيَزِد في رفعِه حتى يعلم أنه أسمعهم.
9- أن يسلِّمَ على مَن في بيتِه عند الدخول، فإن لم يجد، سَلَّم على نفسِه؛ قال - تعالى -: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ [النور: 61].
10- إذا مرَّ بصبيانٍ يسلِّمُ عليهم؛ وذلك لتعويدِهم على إلقاء السَّلام ورَدِّه، ولغرسِ نوازع الرُّجولة فيهم، كما أنَّ فيه تقويةً لشخصيتِهم، واستجلابًا لمحبتهم، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفعله.
11- أن يسلِّمَ الماشي على الواقفِ والجالس، والواحدُ على الجماعة، والقليلُ على الكثير؛ لحديث البخاري.
12- إذا قَدِمَ جماعةٌ على فردٍ، أجزأَ أن يُسلِّمَ أحدُهم؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح سنن أبي داود": ((يُجْزِئ عن الجماعةِ إذا مرُّوا أن يسلِّمَ أحدُهم، ويجزئ عن الجلوسِ أن يردَّ أحدهم)).
13- بشاشة الوجه، ولين الجانبِ مع السَّلام، فلا تسلِّم متجهِّمًا ولا منفِّرًا.
14- المصافحة مع السَّلام؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح سنن أبي داود": ((ما من مسلمَيْن يلتقيانِ فيتصافحان، إلاَّ غُفر لهما قبل أن يفترقا))، وهذا يدخل في حُسنِ الخلق؛ كما قيل إنه: أمرٌ هين، ووجهٌ طلق، وكلامٌ لين، ولكن هذه صورة منه، جعل الله عليها هذا الثوابَ الجزيل، فينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يحرصَ على أن يؤدِّي هذا الحقَّ من حقوقِ أخيه المسلم عليه في أكمل صورة؛ لينالَ مع أخيه المغفرة.
وروى أحمد وصحَّحه الألباني عن البَراءِ مرفوعًا: ((أيما مسلمَيْن التقَيا، فأخذ أحدُهما بيدِ صاحبه، ثم حمد الله، تفرَّقا ليس بينهما خطيئة))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح الجامع": ((إنَّ من موجباتِ المغفرةِ بذلَ السَّلام، وحُسنَ الكلامِ)).
15- يكره السَّلام بالإشارةِ إلا لضرورة كبُعدٍ، لكن ينطقُ بالسَّلام مع الإشارة؛ لأنَّ فيه تشبُّهًا باليهود والنَّصارى، وقد نهى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن تسليمِهم في الحديث الحسن عند الترمذيِّ: ((ليس منَّا من تشبه بغيرِنا، لا تَشَبَّهوا باليهودِ ولا بالنَّصارى؛ فإنَّ تسليمَ اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكُفِّ)).
16- أن لا يسلِّمَ على المشتغلِ بقضاء الحاجة، أو على النائم، أو على مؤذِّن في حالِ أذانه، أو إقامة الصَّلاة، أو من كانت اللُّقمة في فمِه.
17- لا يَبدأ المسلمُ الكافرَ بالسَّلام، وإذا بدأك بالسَّلامِ تردُّ عليه بقولِك: "وعليكم".
18- استحباب السَّلامِ على المَحارم.
19- ألقِ السَّلام على مَن عرَفْتَ ومن لم تعرف؛ لما رواه البخاريُّ في "صحيحه" أنَّ رجلاً سأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ الإسلامِ خير؟ قال: ((تطعمُ الطَّعامَ، وتقرأ السَّلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرف)).
20- لا تغضَبْ إنْ لم يردَّ أحدٌ عليك السَّلام؛ فإنَّ الملائكةَ تردُّ عليك؛ ففي الحديثِ الصحيح في "الأدب المفرَد": ((إنَّ السَّلام اسمٌ من أسماء الله وضعَه الله في الأرض؛ فأفشوه بينكم، إن الرَّجلَ إذا سلم على القومِ فردُّوا عليه، كانت له عليهم فضلُ درجة؛ لأنَّه ذكَّرهم بالسَّلام، وإن لم يُرَدُّ عليه، رَدَّ عليه مَن هو خيرٌ منه وأطيب))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الألباني: ((أفشِ السَّلام، وأطعمِ الطَّعام، وصِلِ الأرحام، وقم بالليل والنَّاس نيام، وادخل الجنَّة بسلام)).
ومن تمامِ إفشاء السَّلام: أن تسلِّمَ على من عرفتَ ومن لم تعرف كما سبق، فأين إفشاء السَّلام بين المسلمين؟! تاللهِ لقد أصبحنا نعيشُ زمانًا لا يُلقي فيه المسلمُ على أخيه المسلمِ السَّلامَ إلاَّ لمصلحةٍ دنيويَّة - إلا من رحم الله - بل نجدُ أحيانًا مسلمًا يمرُّ بجوارِ أخيه، فيسلِّم عليه، فلا يرد عليه السَّلام!
بل إنَّ بعضَهم لا يسلِّم إلا على من يعرف، وهذه - مع كونِها مخالفةً للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهي واللهِ من أشراطِ السَّاعة الصُّغرى؛ فقد روى الإمامُ أحمد بإسنادٍ صحيح أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ من أشراطِ الساعة أن يُسلِّمَ الرَّجلُ على الرجلِ؛ لا يسلِّمُ عليه إلا للمعرفة)).
فائدة:
يَتَّخذُ بعضُ النَّاس هذه الأحاديثَ في السَّلام بابًا لبدءِ غير المسلمين بالسَّلام، لكن ذلك مما يُستثنى من السَّلام، فلا يَبدأ المسلمُ غيرَ المسلم بالسَّلام، فإذا ابتَدؤوه، ردَّ عليهم سلامَهم بقوله: وعليكم؛ كما جاء بذلك الحديث.
فائدة أخرى:
خاصية إفشاء السَّلام هذه عامة، ومن أفرادِها: سلامُ الرَّجلِ على أهلِه إذا دخل عليهم، وقد ورد بشأنِها دليلٌ مستقلٌّ؛ وهو ما رواه أبو داود وحسَّنه الألباني عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثة كلُّهم ضامن على الله - عزَّ وجلَّ -: رجلٌ خرج غازيًا في سبيلِ الله، فهو ضامن على الله حتَّى يتوفاه، فيُدخله الجنَّةَ، أو يردّه بما نال من أجرٍ وغنيمة، ورجلٌ راح إلى المسجدِ، فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفَّاه فيدخله الجنة، أو يَردّه بما نال من أجر وغنيمة، ورجلٌ دخل بيته بسلامٍ، فهو ضامن على الله - عزَّ وجلَّ)).
وفي الحديث الذي رواه الترمذيُّ عن أنس - رضي الله عنه - وحسنه الألباني، قال: قال لي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا بنيَّ، إذا دخلتَ على أهلِك فسلِّم، يَكُنْ بركةً عليك وعلى أهلِ بيتك)).
الوسيلة الخامسة والعشرون: إدخال السرور على المسلم:
أخي الحبيب: يا بنَ الإسلام، هل تَذْكر يومًا أنَّ هناك شيئًا يُدخل السرورَ والبهجة والسعادة على أخيك، فجئتَ به لأخيك؛ من أجلِ أن تُدخلَ السعادةَ على قلبِه؟!
إنَّ هذا العملَ من أفضلِ الأعمال، كما أخبر بذلك النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه البيهقيُّ وحسَّنه الألباني عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أفضلُ الأعمالِ أن تُدْخِلَ على أخيك المسلمِ سُرورًا، أو تقضي عنه دَيْنًا، أو تطعمه خبزًا))، وكذلك أيضًا تبشير المسلم بما يسرُّه: كما تسابقَ الصَّحابةُ إلى تبشيرِ كعب بن مالك - رضي الله عنه - بالتوبة، وفي قصة معاذٍ وأبي هريرة - رضي الله عنهم - جميعًا.
الوسيلة السادسة والعشرون: البكاء من خشية الله:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حرَّم اللهُ على عينَيْن أن تنالَها النَّارُ؛ عين بكت من خشيةِ الله، وعين باتت تحرسُ الإسلام وأهلَه من أهلِ الكفر))؛ رواه الحاكم والبيهقيُّ وحسنه الألباني.
وعند أبي يعلى وصححه الألباني: ((عينان لا تمسُّهما النَّارُ أبدًا: عينٌ بكت من خشيةِ الله، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيلِ الله))، وعند أحمد والترمذيِّ، وصحَّحه الألباني: ((لا يلج النَّارَ رجلٌ بكى من خشيةِ الله حتَّى يعود اللَّبنُ في الضَّرع))، بل إنَّ من السبعةِ الذين يظلهم الله في ظلِّه: ((ورجل ذكرَ الله خاليًا ففاضتْ عيناه))، كما في "الصحيحين".
وقد روى أحمد عن عائشةَ - رضي الله عنها - مرفوعًا، وصحَّحه الألباني: ((ما خالط قلبَ امرئ مسلم رَهَجٌ في سبيلِ الله إلا حرَّمَ الله عليه النَّار))؛ والرَّهَجُ هو خفقانُ القلبِ من الخوف.
وقال كعبٌ - رضي الله عنه - كما عند ابن أبي شَيْبة وأبي نُعَيم: "لأَنْ أبكي من خشيةِ الله - تعالى - حتى تسيلَ دموعي على وجنتي، أحبُّ إليَّ من أن أتصدقَ بِوَزْني ذهبًا".
فأين أصحابُ القلوبِ الخاشعة؟! وأين أصحابُ العيون التي تبكي من خشية الله؟! تالله لقد قستْ قلوبُنا حتى أصبحَ أكثرُنا لا يخشع قلبُه، ولا تدمع عينه؛ قال - تعالى -: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74]، وقال - تعالى -: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].
الوسيلة السابعة والعشرون: الرد عن عِرْض المسلم:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من ردَّ عن عرضِ أخيه، ردَّ الله عن وجهِه النَّارَ يوم القيامة))؛ رواه الترمذيُّ وأحمد، وصحَّحه الألباني، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبةِ، كان حقًّا على الله أن يُعتقَه من النَّار))؛ رواه أحمد وصححه الألباني بلفظ: ((من ذبَّ عن عرضِ أخيه)).
الوسيلة الثامنة والعشرون: مدُّ يد العون للمحتاجين، وعلى الأقل بالقرض الحسن:
فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من أقرض وَرِقًا مرَّتين، كان كعِدْلِ صدقة مرة))؛ رواه البيهقي وصحَّحه الألباني.
الوسيلة التاسعة والعشرون: إطعام الطعام:
قال - تعالى -: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورً ﴾ [الإنسان: 8 - 11]، وقال - صلَّى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي بسند حسن: ((أيما مؤمن أطعمَ مؤمنًا على جوعٍ، أطعمَهُ الله من ثمارِ الجنة، ومن سقى مؤمنًا على ظمأ، سقاه الله من الرَّحيقِ المختوم)).
وكان كثيرٌ من السَّلفِ يحرصون على إطعامِ الطعام، ويقدمونه على كثيرٍ من العبادات؛ يسوقهم إلى ذلك خوف أنْ تصيبَهم دعوةُ نبيِّهم التي صححها الألباني في "صحيح الجامع": ((لا خير في مَن لا يضيف))، وكان كثير من السَّلفِ يؤثِرُ بفطورِه وهو صائم، منهم: عبدالله بن عُمر، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل.
وكان من السَّلفِ مَن يطعم إخوانَه وهو صائم، ويَجلس يخدمُهم ويروحهم؛ منهم: الحسن، وابن المبارك، فإذا أعجبَتْك وجبةُ طعام اليوم فقدِّمْها للفقير، فإن لم تفعل فقدِّم منها للفقير، وستجد طعمَها في الجنة، لكنَّه أشهى! أمَّا ما بخلتَ به وأكلت، فمَآلُه بيت الخلاء بعد ساعة.
وعبادةُ إطعامِ الطعام تنشأ عنها عباداتٌ كثيرة؛ منها التودَّدُ والتحبُّب إلى إخوانِك الذين أطعمتَهم، فيكون ذلك سببًا في دخولِ الجنة؛ ففي صحيح مسلم قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لن تدخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلامَ بينكم)).
كما ينشأ عن عبادةِ إطعام الطَّعامِ مجالسةُ الصَّالحين، وتوثيقُ التعارف، ورفعُ الكُلفةِ عن الإخوان، واحتسابُ الأجرِ في معونتهم على الطَّاعاتِ التي تقوَّوا عليها بطعامِك.
ولا تخش - أخي يا بنَ الإسلام - ألاَّ يكفيك الطَّعامُ لو أطعمتَ معك غيرَك من طعامِك؛ فلقد جاء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في "الصحيحين": ((طعامُ الاثنين كافي الثلاثة، وطعامُ الثلاثة كافي الأربعة))، وفي "صحيح الجامع": ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعامُ الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))؛ قال ابنُ الأثير: "يعني شِبَعُ الواحدِ قوتُ الاثنين، وشبع الاثنين قوت الأربعة، وشبع الأربعة قوت الثمانية".
وهذه البركةُ في الطَّعامِ مصدرها قوة إيمانٍ بموعود الله، دفعت صاحبَها إلى الإيثارِ وبذل الطَّعامِ على حبِّه، والرضا بنصفِ بطنٍ في سبيلِ الغير، فيكافئ اللهُ صاحبَها بقوةِ دينٍ وحسنِ خلق؛ قال عبدُالواحد بن زيد: "مَن قَوِيَ على بطنِه قوي على دينِه، ومن قوي على بطنِه قدر على الأخلاقِ الصَّالحة، ومن لم يعرف مضرتَه من قِبَل بطنِه، فذاك رجلٌ في العابدين أعمى".
الوسيلة الثلاثون: العمرة في رمضان:
وهي تعدلُ حجَّة مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ثوابِها كما جاء في حديثِ ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((فإنَّ عمرةً في رمضانَ تعدلُ حجةً معي))، وفي رواية البخاري: ((تقضي حجَّة معي))، ولم يقيِّدْها - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالعشرِ الأواخر، وإنَّما هي عامة في جميعِ الشَّهر، فإنْ يسَّرَ الله لك هذه الفرصةَ فاغتنمْها، ولا تفرِّط، ولا تسوِّف، رزقني الله وإياك.
ومن وسائل استثمار العمر كله - لا رمضان فحسب - متابعةُ الحجِّ والعمرة: وإنَّ كثيرًا من النَّاس يظنُّون أنَّ كثرة الحجِّ والعمرة تجعلُ المال يَفْنَى بسببِ تلك النفقات التي يتكلَّفُها الحاجُّ والمعتمر، وهذا كلُّه ظنٌّ خطأ، وتصوُّر مغلوط؛ لأنَّ الصادقَ الذي لا ينطقُ عن الهوى - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أخبر أن المتابعةَ بين الحجِّ والعمرة سببٌ في كثرةِ المال، وذلك يكون إمَّا بزيادة المال، أو أن تحلَّ فيه البركةُ من عند الله، أو أن يجمعَ الله الاثنين لعبدِه المؤمن؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني: ((تابِعُوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنهما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوب كما ينفي الكِيرُ خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجَّةِ المبرورة ثوابٌ إلا الجنة)).
فهناك - إن قدَّر الله لك العمرةَ - احرص على كثرةِ الطَّوافِ بالبيت؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من طاف بالبيتِ سبعًا، وصلَّى ركعتين، كان كعتقِ رقبة))؛ رواه البيهقيُّ وصححه الألباني.
واحرص على كثرةِ الصَّلاةِ في المسجدِ الحرام؛ فقد روى أحمد وابن خزيمة: ((صلاةٌ في مسجدي أفضل من ألفِ صلاةٍ فيما سواه من المساجدِ، إلاَّ المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجدِ الحرام أفضل من مائةِ ألف صلاة في هذا)).
واحرص على كثرةِ الصَّلاة في المسجد النبويِّ أيضًا؛ فقد روى مسلمٌ: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام)).
واحرص على كثرةِ الصلاة في مسجدِ قباء؛ فعند ابن حبان: ((من صلَّى فيه، كان كعِدْلِ عمرة)).
أسألُ الله - تعالى - أن يمنَّ علينا - بفضلِه وكرمه - بالتعبُّدِ في هذه البقاعِ الطَّاهرة، فلشدَّ ما اشتاق إليها المسلمون البعيدون! فاللهمَّ متِّعْ قلوبَنا بعبوديتِك هناك، ومتِّعْ قلوبنا بعبوديتِك في كلِّ مكان.
الوسيلة الحادية والثلاثون: الاعتكاف اليومي:
ولستُ أعني اعتكافَ رمضان المعروف - وسيأتي في نهايةِ الرسالة - ولكني أعني اعتكافًا من نوعٍ آخر، فمع ضجيجِ الحياة وكثرةِ صخبها، مع المادية القاتلة التي تطحنُ النَّاس بين رَحاها، مع ضرورةِ الاختلاط بالنَّاس، يتكدَّرُ القلب، ويتعكَّرُ صفو النَّفس، فتحتاج إلى هدوءٍ وراحة، فلا بدَّ لها من عزلةٍ وخلوة؛ ولذلك يلزمك - أخي يا بنَ الإسلام - اعتكافٌ يومي، فخُذِ الأنسبَ لحالك ولا تفرِّط؛ إمَّا بين المغربِ والعشاء يوميًّا - وسيكون ذلك بعد رمضان طبعًا - وإمَّا بعد صلاةِ الفجر إلى شروقِ الشمس كلَّ يوم، وإمَّا ما يناسِبُ حالَك وظروف حياتِك، ولكن لا تفرِّط.
وفي هذا الاعتكاف اليومي لا بد لك من أمور:
1- استصحابُ النيةِ أولاً، وارجُ ثوابَ الله - تعالى.
2- ذكرُ الله هو الأصلُ في هذه الجلسة، واستشعرْ أنَّ جليسَك هو الله؛ قال - تعالى - في الحديثِ القدسي عند ابن ماجهْ وصحَّحه الألباني: ((أنا مع عبدي إذا هو ذكرَني وتحرَّكتْ بي شفتاه))، فاجلسْ بالرَّغبةِ والرهبة.
3- من آدابِ هذه الجلسةِ ألاَّ تلتفت، ولا تنشغل بغيرِ ذِكْر الله، وليتعود النَّاس منك ذلك؛ ألا تكلِّمَ أحدًا، ولا تسلِّم على أحدٍ، ولا تشارك في شيء، بل هذه خلوتك.
وقد يكون هذا الاعتكافُ في مسجدٍ لا يعرفُك فيه أحد، أو إذا تعذَّر الأمرُ، فاجعل لك خلوة في بيتِك ساعاتٍ كلَّ يوم؛ حيث لا يراك أحدٌ ولا يشغلك شيء.
4- المُحاسبةُ اليومية من أهمِّ أعمال هذه الخلوة، فألزمْ نفسَك المحاسبة، والتزم بالكلماتِ الخمس:
المشارطة: أن تشترطَ على نفسِك صبيحة كلِّ يوم أن تسلمَها رأسَ المال، وهو العمر (24 ساعة)، والأدواتِ، وهي القلب والجوارح، وتشترط عليها أن تضمنَ لك بذلك الجنةَ بالأعمالِ الصَّالحة آخر النهار.
المراقبة: أن تراقبَ نفسَك طيلةَ اليوم، فإن هَمَّتْ بمعصيةٍ ذكَّرتَها بالمشارطة، وإن توانتْ عن طاعةٍ زجرتَها بالمشارطة؛ فراقبْ نفسَك، وألجمْها، وامنعها عمَّا لا يحلُّ لها، خذ بخطامِها وألْزِمْها الصِّراطَ المستقيم، ولا تغفلْ عنها؛ لكي تنجو، والله المستعان.
المجاهدة: وهي من أشدِّ الأشياء؛ فالنَّفسُ مقيَّدة بقيدِ الجسم - مقيدة فيه - ثم هي مقيدة بقيدِ العبودية، ثم أنت تتوعدُها بقيدٍ ثالث عند المحاسبة؛ فهي - لذلك - تحتاجُ إلى المجاهدة، وهذه المجاهدةُ لا بدَّ لها من صبرٍ وثبات أمام طغيانِ هذه النفس وتملُّصِها، فجاهدْها - أخي باغي الخير - لكي لا تضيعك وتسير في طريقِ جهنم.
المحاسبة: أن تستعرضَ شريطَ يومك نهايةَ كلِّ يوم، وبالورقة والقلم يتم حسابُ الخسائرِ والأرباح، ومعرفة مصيرِ المشارطة مع النفس، لا بدَّ من المحاسبة؛ قال - تعالى -: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30]، ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [النبأ: 40].
سترى عملَك بعينِك، وتسمعه بأذنك؛ لذلك يجبُ أن تجلسَ مع نفسِك، وتنظر في أعمالِك لِتُصلَحها قبل أن تراها يومَ القيامة، اكتب أعمالَك وضعْها أمامَك، وقل لنفسِك: أتحبِّين أن تقابلي ربَّك بهذه الصَّحيفة؟! هل ستأخذين كتابَك باليمين، أم بالشِّمال؟! هل هذه تدخلين بها الجنة، أم تدخلين بها النار؟! هل هذا يُرضي اللهَ عنك أم يُسخطه عليك؟! وهذا هو توبيخُ النفسِ وزجرها؛ لتعلم حقيقتَها وقَدْرَها.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #44  
قديم 21-05-2020, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

المعاتبة والمعاقبة: وذلك بأن تعاتبَ نفسَك على التقصيرِ، وتؤدِّبها وتعاقبها على الذُّنوب والغفلة، فتعاقب نفسَك بحرمانِها من بعضِ شهواتها - تأديبًا وزَجْرًا، وتهذيبًا وتربيةً - أو تعاقبها بإلزامِها بزيادة قرباتِها؛ فتفرضَ عليها استغفارَ عشرة آلاف مرة، وتمنعها من النُّوم، تعاقبها بأن تأكلَ خبزًا جافًّا بغيرِ إدام، وتشربَ بعد الخبزِ ماءً فقط؛ بعضُ السلفِ أراد أن يعالج نفسه من الغيبة، فما استطاع أن يعالِجَها بعد أن جرَّبَ معها بعض العلاجات، ثم عاقبَها بأنه إذا اغتاب إنسانًا تصدَّقَ، حتى قال: "فغلبني حبُّ الدنانير، فتركتُ الغيبة"، فعاتِبْ نفسَك وعاقِبْها، فبذلك تنجو من شرِّها، وتقودها سالمةً إلى ربِّها، والله المستعان.
إنَّ اعتياد هذا الاعتكافِ بهذا البرنامج يوميًّا، يؤدِّي إلى تلافي الأخطاء، وإصلاح الأحوال، فاصبر، والْزَم تلتزم.
احرص أخي - يا بنَ الإسلام - على هذه المحاسبة كلَّ يومٍ وليلة، وخاصَّةً عند النوم؛ لأنَّه أرجى أثرًا؛ حيث تخلو النَّفس عن شواغلِها، وتكون أكثرَ استشعارًا للموتِ الذي هو أخو النوم، فضلاً عن الغيبةِ عن عيونِ الخلق، فيحاسب الإنسانُ نفسَه كلَّ يومٍ قبل النوم، وإلا ففي أيِّ وقت آخر من يومِه، ويحاسب نفسَه كل اثنين وخميس؛ لما رواه أبو داود والنسائي وأحمد - وقال الألباني: حسن صحيح -: ((تُعرَضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرضَ عملي وأنا صائم))، ويحاسب نفسَه في شعبان؛ لما رواه النَّسائيُّ وأحمد عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله، لم أركَ تصوم شهرًا من الشهورِ ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذلك شهر يغفل النَّاس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأُحب أن يُرفع عملي وأنا صائم)) والحديث حسنه الألباني، والظاهر أنَّ هذا رفع أعمالِ السَّنَة قبل رمضان، والله أعلم.
فينبغي مراجعة النيَّة والإخلاص، والحذر من أمراضِ القلوب؛ ومن أخطرها: الرياءُ، وطلبُ المدح من النَّاس، والكبر، والإعجابُ بالنَّفس، والغفلة، والانشغالُ بالأسبابِ عن التوكل، وطلبُ الجاه والرِّياسة، وحبُّ الدنيا وتقديمها على الآخرة، والحسد، والشحناء؛ قال - تعالى -: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ï´¾ [الحشر: 18]، وروى مسلمٌ وأحمدُ وابن ماجه أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله لا ينظرُ إلى أجسامِكم ولا إلى صورِكم؛ ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم))، وفي رواية: ((وأعمالكم))، وفي الحديث: ((الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله))؛ والحديث رواه البيهقيُّ والترمذي وابن ماجه وأحمد، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه.
وقال الرَّجلُ - الذي أضاف ابنَ عمرٍو - عن عمَلِه: "ما هو إلاَّ ما رأيت، ولكنِّي أَبِيت وليس في قلبي غشٌّ ولا حسد لأحدٍ من المسلمين على خير آتاه الله إياه"، فقال ابنُ عمرو: "هذه التي بلَغَتْ بك، وهي التي لا نُطيقُ"؛ والحديث رواه النسائي وأحمد وعبدالرزَّاق في "المصنَّف".
ومُحاسبة النَّفس على الطاعات من أنفعِ الوظائف التي يقوم بها العابدون في شهرِ رمضان، والأصل أنَّ المحاسبةَ وظيفةٌ لازمة لسالكِ طريق الآخرة، ولكنَّها تتأكَّدُ وتزداد في هذا الشَّهر، والمعنِيُّ بمحاسبةِ النَّفْس على الطاعة: فحصُ الطَّاعةِ ظاهرًا وباطنًا، وأوَّلاً وآخِرًا؛ بحثًا عن الثمرةِ؛ ليعرفَ مأتاها فيحفَظه، وقدْرَها فينمِّيه، ووصولاً للنقصِ سابقًا ليتداركه لاحقًا.
وهذه المُحاسبة تكون قبل العملِ وأثناءه وبعده؛ أمَّا قبلَه فبالاستعدادِ له، واستحضار ما قصَّر فيه حتى يتلافاه، وأثناءه بمراقبةِ العمل ظاهرًا وباطنًا، أوَّله وآخره، والمحاسبةُ بعد العملِ بإعادة ذلك كلِّه.
وهذه المُحاسبةُ - كما ذكرت - إذا واظب عليها المرءُ، صارت مسلكًا لا يحتاج إلى تكلُّفٍ ومعالجة، وسيجد غِبَّ هذه المحاسبة وثمرتَها تزايدًا في مقامِ الإحسان الذي سعى إليه كلُّ السالكون، وهو أن تعبدَ الله كأنَّه يراك.
ومثل هذه المحاسبةِ ينبغي أن تكونَ في الخفاء، يحاور نفسَه وهواه، ويعالج أيَّ قصورٍ بلومِ نفسِه وتقريعها، وعقابها على كسلِها وخمولها.
ولا يُنصَح بمداومةِ الاعتماد على أورادِ المحاسبة الشَّائعة، وقد اختلفَ فيها النَّاس على طرفين: فمنهم من جعلَها وسيلةً دائمة للتربية، وطريقة ناجعةً لتقويم النفس، ومنهم من بالغَ ومنع منها مطلقًا، واصفًا إياها بالبدعيَّة، والحقُّ: التوسُّط، نعَم، هي وسيلةٌ لم ترد عن سلَفِ هذه الأمَّةِ، لكن تشهد لها نظائرُ في الشَّرعِ، ثم إننا لا نقولُ بجوازِ الاعتماد على تلك الأوراد في كلِّ الأحايين، بل ننصحُ بها في بدايةِ السَّير، وأيضًا لا نُلزم بها أحدًا، ولكن من عوَّل عليها في بدايةِ سيره؛ لكون نفسِه متمرِّدة شموسًا، فنرجو ألاَّ يكونَ ثَمَّة حرجٌ؛ شرطَ عدمِ توالي اعتمادِه عليها.

والصَّواب تنشئة النَّفس على دوامِ المُحاسبة الذاتيَّة والمراقبة الشخصية، وتعويدها على العقابِ عند الزَّلل؛ فإنَّ هذا من شأنِه أن ينقي العبادةَ من أيِّ حافزٍ خارجي دخيل على النيةِ الصَّالحة، كرغبةٍ في تسويدِ ورقة المحاسبة، أو نحو ذلك.
أخي يا بنَ الإسلام، النَّفس لطيفةٌ ربَّانية، بل هي جوهرٌ مشرق على البدَن، إنْ أشرقَ على ظاهرِ البدن وباطنه حصلَت اليقظة، وإن أشرق على باطنِ البدن دون ظاهرِه حصل النَّوم، وإن انقطع إشراقُه بالكليةِ حصل الموت، والأدب مع النفسِ هو: إكرامها، وذلك بصيانتِها عما يُهينها من المعاصي والآثام، وتعلم العلم، والقيام بالطَّاعات؛ ليحصلَ لها النورُ والرِّضا، وإعطاؤها حظَّها من المباحاتِ من غير إسراف؛ للتقوِّي به على الطاعات والقربات.
ومن الأدب مع النفس:
1- أول ما يجبُ من أدبِ النفس: تزكيتُها وتطهيرها من طبائعها وعاداتها الرَّديئة التي توافقُ الهوى وتخالفُ الشَّرع؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ï´¾ [الشمس: 7 - 10].
2- مُجاهدةُ النَّفس في طاعةِ الله - تعالى - لأنَّ النفسَ أمَّارةٌ بالسوء، داعيةٌ إلى المَهالكِ، طامحةٌ إلى الشَّهوات، وحملها على الطاعةِ رغمًا عنها مخالفة لشهواتِها، يحتاج إلى مُجاهدة.
3- دوامُ سؤال الله هدايةَ النَّفسِ والوقاية من شرِّها؛ كما في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - الصحيح في "المسند".
4- دَوام محاسبتها؛ لمعرفة ما لها وما عليها.
5- مخالفتُها والاحتراز من شهواتِها؛ لأنها تُفْسِدها، بل تتعامل معها كما يحبُّ ربنا ويرضى.
6- الوقوف على عيوبِها، ومعالجة هذه العيوبِ بالصَّبر والتأني. وعيوبُ النفس كثيرة؛ منها:
أنَّها لا تألفُ الحقَّ ولا الطاعة، وهذا يتولَّدُ من متابعة الهوى، وعلاج ذلك يكون بالبُعدِ عن الشهواتِ ومخالفة الهوى.
ومنها: الغفلة والتواني والتسويف، وعلاجُ ذلك يكون بتوبةٍ تحلُّ الإصرار، وخوفٍ يزيلُ التسويف، ورجاءٍ يبعث على قصد مسالك العمل، وذِكْر الله على الدَّوام، ويكون ذلك كلُّه بقلب مُفرَدٍ فيه توحيدٌ مجرَّد.
ومنها: العُجْب بالعمل والشُّعور بالفخر، وعلاج ذلك يكون بأربع:
1- أن ترى التوفيقَ من الله - تعالى - فإذا رأيتَ ذلك، فإنَّك سوف تنشغلُ بالشُّكرِ، ولن تعجبَك نفسُك.
2- أن تنظرَ إلى النعمةِ التي أنعم الله - تعالى - بها عليك، وتَعْلم أنها من الله، وليست من كسبِك؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ï´¾ [النحل: 53]، فإذا نظرتَ في النِّعمِ انشغلتَ بالشُّكر.
3- أن تخافَ ألاَّ يُقبل منك؛ فإذا اشتغلتَ بالخوفِ من عدم القَبول، لن تُعجبَ بنفسِك؛ قال - تعالى -: ï´؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ï´¾ [المائدة: 27].
4- أن تنظرَ في ذنوبِك التي أذنبتَها قبل ذلك، فإذا خفت أن ترجحَ سيئاتُك على حسناتك؛ قَلَّ عجبُك، وكيف يعجب المرء بعملِه وهو لا يدري ماذا يَخْرج من كتابه يوم القيامة؟ إنَّما يتبين عجبه وسروره بعد قراءةِ كتابه في أرض المحشر.
ومنها: الاشتغالُ بتزيين الظَّاهرِ وإهمال الباطن، وعلاج ذلك موجودٌ في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح مسلم": ((إنَّ الله لا ينظر إلى صورِكم وأموالِكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم)).
ومنها: الاشتغالُ بمظاهرِ الأعمال وفقدان رُوحها وثمرتها ولذَّتِها، ويكون ذلك من سقمِ القلب، وخيانة السِّر، وعلاج ذلك يكون بأكلِ الحلال الطَّيب، والبُعد عن الحرام الخبيث.
ومنها: التَّكاسُل عن الطَّاعاتِ، وهو ميراثُ الشِّبَع؛ فإنَّ النفسَ إذا شبعت قَوِيَت، فإذا قويت أخذتْ بحظِّها، وعلاج ذلك يكون بتجويعِها؛ فإنَّها إذا جاعت عدمت حظَّها وضعفت.
ومنها: الطَّمعُ؛ فإنَّ النفس طمَّاعة، ولا يقف طمعُها عند حدٍّ؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [الحشر: 9]، وعلاج ذلك يكون بالقناعةِ والتعفُّف.
ومنها: كثرةُ الذُّنوبِ والمخالفات؛ فإنَّها تحبُّ العاجلة وتتابع الشهواتِ، وهذا العيبُ يجعلها تقسو، بل ويبعدها عن الخالقِ الأعظم - تبارك وتعالى - وعلاجُ ذلك هو الاستغفارُ والتوبة وأعمال البِرِّ، وحضور مجالس الذِّكر، ومجالسة الصَّالحين.
ومنها: الحرص، وهذا الحرصُ يدفعها إلى حبِّ الدُّنيا، والانهماك في جلبِ المصالح الدُّنيوية وتحصيلها، وعلاج ذلك أنَّ تعلمَ أنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرار، وأنَّ الآخرة هي دارُ القرار، والعاقلُ من يعمل لدارِ القرار، لا لدارِ البوار.
ومنها: الرِّضا عند المدح، والغضَب عند الذَّم، وعلاج هذا العيبِ يكون برياضةِ النَّفسِ على الصِّدق والحق.
فيا بن الإسلام، إذا علمت عيوبَ النفس وعالجتها، فعليك أن تستكملَ فضائلها بما يلي:
7- من الأدبِ مع النَّفس تحبيبُ الطاعةِ إليها، وتنفيرها من الشَّيطانِ وطاعته، فالنفسُ والشيطان قرينان في إبعادِ العبد عن مولاه، والدُّنيا معهما، فعليك أن تجتهدَ في مخالفةِ نفسك وشيطانك؛ فهُما سببُ وقوعِك في العطَب والهلاك.
8- الاشتغالُ بأمورِ الآخرة، فلا تعمل عملاً حتى تستعملَ عقلك في النظرِ إلى عاقبته، فإذا حرصتَ على طلبِ الآخرة وأعرضتَ عن الدُّنيا؛ أتتك الدُّنيا وهي راغمة.
9- النَّظر في العواقبِ يكسرُ النَّفسَ ويكفُّ طغيانَها، يكفيك أن تعلمَ حديثَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح مسلم": ((يُؤتى بأنعمِ أهل الدُّنيا من أهلِ النَّار، فيُصبَغ في النَّارِ صبغةً، ثم يُقال: يا بنَ آدم، هل رأيتَ خيرًا قطُّ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله، يا ربِّ! ويؤتى بأشدِّ النَّاس بؤسًا في الدُّنيا من أهل الجنةِ، فيُصبغ في الجنةِ، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيتَ بؤسًا قطُّ؟ هل مرَّ بك شدَّةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدةً قط)).
10- أن يجعلَ صاحبُها علوَّ همتِه مقصدَه، فمن كرمتْ عليه نفسُه، لم يكن للدُّنيا عنده قَدْر.
فهذِّب نفسَك - يا بن الإسلام - وداوِ أمراضَها حتَّى يكون يوم الحصاد؛ فتحصد ويكون حصادُك يومها خير الحصاد: جنَّة عرضها السموات والأرض.
الوسيلة الثانية والثلاثون: الجلوس في المسجد حتَّى تطلع الشمس:
البعد عن السَّهرِ المذموم في اللَّهوِ واللغو في ليالي رمضان يعينُ كثيرًا على استثمارِ الأوقات الفاضلة كوقتِ السَّحَر، ولإحياء السُّنة المباركة في الجلوسِ بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، ثم يصلِّي ركعتين، فيحصل على أجرِ حجة وعمرة تامَّةٍ، تامَّة، تامَّة، كما روى الترمذيُّ، وصححه الألباني.
فإن لم يرزقك الله - يا بن الإسلام - المالَ الذي يُمكِّنُك من السَّفرِ إلى أداءِ العمرة والحج، فهذه فرصةٌ غالية ثمينة من ربِّك الكريم، فأرِ ربَّك من نفسِك صدقَ النية.
الوسيلة الثالثة والثلاثون: الخروج في طلب العلم:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ: ((من سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل الله به له طريقًا إلى الجنة)).
ولا يَغُرنَّك كونُ سلَفِنا الصالح يمتنعون عن مَجالسِ العلم في رمضان؛ فإنَّ مجالس العلم عندهم عامرةٌ طولَ العام، ويَقْتطعون رمضان للقرآن، ولكن مجالس العلمِ عندنا خاوية في الغالبِ طوالَ العام، ولا نهتمُّ في رمضان مثلهم بالقرآن، فلماذا نقيسُ حالَهم على حالنا؟! ولماذا نتركُ العلمَ في رمضان تشبُّهًا بهم؟! ونتركه في بقيةِ العام مخالفةً لهم؟! فاستعنْ بالله، وابدأ في طلبِ العلم، وطالع في فضائلِه لتعلو همتك، ولتبدأ بواجب الوقت من أحكامِ الصيام وزكاة الفطر والعمرة - إن كنتَ ستعتمر - ثم سِرْ بعدَ رمضان في رَكْبِ أهلِ العلم؛ لعلَّ الله يحشرك معهم.
إنَّ المسلمَ يتعرَّضُ في حياتِه للعديد من الحالات الطارئة التي يحتاجُ فيها إلى وجودِ جوابٍ فوري يعمل بمقتضاه عند حصولِ الحالة المعيَّنة، وكثيرًا ما يصعب - أو يتعذَّر - وقتها البحثُ عن الحكمِ الشرعي أو السؤال عنه.
وهذا يؤكِّد أهميةَ طلبِ العلم والتفقه في الدِّين ومعرفة أحكام الشريعة؛ حتَّى إذا ما احتاج المسلمُ إلى الحُكمِ وجدَه عنده، فأنقذ نفسَه، أو غيره من إخوانِه المسلمين من الوقوعِ في المحرَّمات أو الأخطاء، وكثيرًا ما يؤدِّي الجهلُ إلى فسادِ العبادة، أو الوقوع في الحرَج.
ومن المؤسفِ أن يقومَ إمامٌ إلى الخامسةِ سهوًا في صلاته بالجماعة، فلا تجد في المسجدِ واحدًا يعرف الحكمَ الشرعيَّ في هذه المسألة، أو يأتي مسافرٌ وقت إقلاع الطَّائرة، وهو ينوي العمرة، ويكتشف فجأةً أنه قد نسي لباسَ الإحرام، وليس هناك وقتٌ لتوفيرِه، ثم لا يجدُ في المطارِ من المسلمين مَن يخبره بماذا يفعلُ في هذه الحالة الطارئة، ويدخل شخصٌ المسجدَ وقد جمعوا للمطر، وهو في صلاةِ العشاء، وهو لم يصلِّ المغرب، فيقع في حيرةٍ من أمره، وقُل مثل ذلك في كثيرٍ من الحالاتِ التي يختلف فيها المصلُّون، ويتناقشون بجهلهم، فيقع الاضطرابُ والتشويش في مساجد المسلمين وجماعاتهم، وفي كثيرٍ من الأمور الشخصية والفردية، فإنَّ الجهلَ يوقع في الحرج، وربما الإثم، وخصوصًا إذا كان المرءُ في موقفٍ يَجِب عليه فيه أن يتَّخِذَ قرارًا، وليس عنده علمٌ يَبني عليه هذا القرار.
وإذا كان أهلُ الدُّنيا يضعون الإجاباتِ المسبقة للتصرُّفِ السَّليم في الحالاتِ الطَّارئة؛ كحصولِ الحريق، وانتشالِ الغريق، ولدغةِ العقرب، وحوادثِ الاصطدام، والنَّزيفِ والكُسور، وسائرِ إجراءاتهم في الإسعافات الأوليَّة وغيرها، يُعَلِّمون ذلك للنَّاس، ويقيمون الدوراتِ لأجلِ ذلك، فأهل الآخرة أولى أن يتعلَّموا ويُعلِّموا تفاصيلَ أحكام هذا الدِّين.
ومما ينبغي الانتباهُ له هنا التفريقُ بين المسائلِ الافتراضيَّة التي لا تقع، أو نادرة الوقوع، وبين المسائلِ الواقعة فعلاً، التي عُلِم من التجربةِ وحال النَّاس أنَّها تَحْدث، ويقع السؤالُ عنها.
فأمَّا القسم الأول، فالبحثُ فيه من التكلُّفِ الذي نُهينا عنه شرعًا، والذي حذَّرَنا منه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في "الصحيحين": ((ذَرُوني ما تركتُكم، فإنَّما هلك مَن كان قبلكم بكثرةِ سؤالِهم واختلافهم على أنبيائهم...))؛ قال ابنُ رجب - رحمه الله - في شرحِ هذا الحديث: "فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السؤالِ عمَّا لا يُحتاج إليه، وعلى النهي عن السؤالِ على وجهِ التعنُّتِ والعبث والاستهزاء".
وعلى هذا المعنى يُحمل كلامُ جماعةٍ من السلف كما جاء عن زيد بن ثابتٍ - رضي الله عنه - أنَّه كان إذا سُئِل عن الشَّيء يقول: "كان هذا؟"، فإن قالوا: لا، قال: "دعوه حتَّى يكون"؛ كما أورده ابنُ رجبٍ في "جامع العلوم والحِكَم"، وأورد الدارميُّ في "سُننِه"، وابن عبدالبرِّ في "جامع بيان العلم" آثارًا مشابهة.
أما القسم الثاني، وهي المسائلُ التي تقعُ، فالسؤال عنها محمود، وقد كان أصحابُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحيانًا يسألونه عن حكمِ حوادثَ قبل وقوعِها، لكن للعمل بها عند وقوعِها، كما قالوا له: "إنَّا لاقو العدوِّ غدًا، وليس معنا مُدًى، أفنذبحُ بالقصَب؟"، وسألوه عن الأُمراءِ الذين أَخبر عنهم بعده، وعن طاعتِهم وقتالهم، وسأله حذيفةُ - رضي الله عنه - عن الفتن، وما يصنعُ فيها، فهذا يدلُّ على جوازِ السؤال عمَّا هو مُتوقَّعٌ حصولُه.
وعلى كلِّ حال، فقد ثبت عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((من يُرِدِ الله به خيرًا يفقِهه في الدِّين)).
احرص على حضورِ مجالس العلم والذِّكر، واحذرْ من الإعراضِ عنها؛ فقد روى مسلمٌ وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه وأحمدُ عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلاَّ نزلت عليهم السَّكينةُ، وغشيتهم الرَّحمة، وحفَّتْهم الملائكة، وذكرَهم الله فيمن عنده))، وفي "الصحيحين": دخلَ ثلاثةٌ المسجدَ والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - معه أصحابُه، فوجد أحدُهم فرجةً في الحلقةِ فجلس فيها، وأمَّا الثاني فلم يجد فرجةً فجلس خلفهم، وأمَّا الثالث فانصرف، فقال النبي - عليه السَّلام -: ((ألا أخبرُكم عن الثلاثةِ نفر، أمَّا أحدُهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأمَّا الآخرُ فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأمَّا الآخَر فأعرض، فأعرضَ الله عنه)).
وإن أصرَرْت على أنَّه لا طلبَ للعلم في رمضان، فلْيَكن طلبُك للعلمِ برمضان؛ فهذا حقٌّ من حقوقِه، وهو واجبُ الوقت، وإنْ كنتُ أرى أنَّ تعلُّمَ أحكامِ الصيام ينبغي أن يسبقَ دخول رمضان؛ حتى يتسنَّى لك الصيامُ الذي يُرضي اللهَ - تعالى - ولكن في رمضان يمكنك أن تتَّخِذَ من هذا الكتابِ بابًا للعلمِ والعمل والدَّعوة؛ وهاك بعض المقترحات:
القراءة الجديدة: لِتَكنْ خُطَّتُك مع هذا الكتاب: اكتب أفضلَ ما تقرأ، واحفظْ أفضل ما تكتب، وبلِّغ مَن حولك أفضلَ ما حفظتَ.
الإذاعة اليوميَّة: استخدم مادةَ هذا الكتابِ في التحضير لخاطرة يوميَّة في المسجد المُجاوِر، أو في مُصلَّى كليتك أو عملك؛ على ألاَّ تتجاوز الخاطرةُ 5 دقائق، وتكون عقبَ صلاةِ الظهر أو العصر.
الإذاعة الأسبوعيَّة: قدِّم نسخةً من هذا الكتابِ لإمام مسجدك مع إهداءٍ رقيق؛ لينتفعَ بها في خطبِ الجمعة الرَّمضانية، وتنال أنت أجرَ كلِّ من سمع الخطبة.
الحلقة التعليمية: اجعل هذا الكتابَ موضوعَ المدارسة مع شبابِ الحي في حلقةٍ مسجديَّة يومية عقب صلاةِ الفجر أو صلاة العصر، والاتفاق على الخروجِ بتوصياتٍ عمليَّة مناسبة.
اللوحات الإرشاديَّة: انتفع من مادةِ هذا الكتاب في عملِ لوحاتِ حائطٍ مسجديَّة، أو أخرى تُعلَّق في مداخلِ البيوت السكنية، والأماكن التعليمية.
الطُّعم اللذيذ: يمكنك وضع نُسَخ من هذا الكتابِ في مكتبة المسجد المجاور، أو أماكن الانتظار العامَّة؛ كالعياداتِ وغيرها؛ لتعمَّ الفائدة.
الوسيلة الرابعة والثلاثون: تدريب النفس على هجر المعاصي:
إذا كنتَ أخي ممن ابتُلي بمعصيةٍ أو فتنة، واعتادت عليها النَّفسُ وأَلِفَتْها، وأصبح الفراقُ عليها صعبًا ثقيلاً، فإنَّ رمضان فرصةٌ عظيمة للصبرِ والمثابرة ومجاهدةِ النفس عن تلك الفتنة؛ فالشياطينُ مُصفَّدة، والنفس منكسرة، والرُّوح متأثرة، والنَّاس من حولك صيامٌ قيام، إذًا فالأجواءُ والظروف كلُّها مهيَّئة للابتعادِ عن الفتنةِ والمعصية، فشهر رمضان فرصةٌ عظيمة لذلك.
وكذلك الابتعاد عن مُشاهدةِ الحرام، والغيبة والنَّميمة، أو استماع الأغاني، أو تَبْرئة اللِّسان، أو غيرها من السَّيئات، ولذا فأقولُ لك أخي الحبيب: استعن بالله، وكن صاحبَ عزيمة وهمة عالية، فلا تغلبك تلك الشَّهوة، ثم أيضًا عليك باللُّجوءِ إلى الله، واصبر وصابِر، وحاسبِ النفس، فستجد - إن شاء الله - أنَّك تغلبتَ على هذه الشهوات، والله معك، يعينُك ويوفقك.
الوسيلة الخامسة والثلاثون: السِّواك:
السواك: عودٌ من شجرِ الأراك، أو ما يقومُ مقامَه في تنظيف الفم وتطهيره، والتسوُّك يعني: دَلْكَ الأسنان وتنظيفها باستعمالِ السِّواك أو غيره، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتسوَّك في كلِّ أحيانه.
والسواك سُنَّة مؤكَّدة في كلِّ وقت من رمضان وغير رمضان؛ لعمومِ الأدلة، لكنَّها كغيرها من العباداتِ في مضاعفة الأجر والثواب لِمُناسبةِ الزَّمان، وهي من الأبوابِ التي يُغفَل عنها في رمضان.
نعم، لقد غفل كثيرٌ من المسلمين عن هذه السُّنة المباركة - ألا وهي استعمال السِّواك - مع أنَّ استعمالَه ينفع المسلمَ في دينه ودنياه؛ فأمَّا عن دينِه، ففيه من الأجرِ والثَّوابِ العظيم الكثير والكثير، ويكفي أنه مرضاةٌ للرب، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما روى مسلمٌ: ((السواكُ مطهَرةٌ للفم، مرضاةٌ للرب)).
وأما عن دنياه، فهو مطيبةٌ للفم؛ فإذا استعملَه الإنسانُ فإنَّ المادة الموجودة في السِّواك يجعلُها الله سببًا في القضاءِ على سبعين نوعًا من الميكروبات الموجودة في الفم والأسنان - كما نقل ذلك الشيخ/ محمودٌ المصريُّ - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخرجه أحمدُ وصححه الألباني: ((عليكم بالسواكِ؛ فإنَّه مطيبة للفم، مرضاة للربِّ))، ويمكنك أيضًا - كوسيلةٍ لاستثمار رمضان والعمر كلِّه - أن توفرَه لغيرِك، والدالُّ على الخيرِ كفاعلِه، كما في "الصحيحين".

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #45  
قديم 21-05-2020, 04:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

هذا، ومن آداب السواك:
1- أن يتسوَّك قبل الوضوء؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند البيهقيِّ ومالك، وأحمد، وصححه الألباني: ((لولا أن أشقَّ على أمتي، لأمرتُهم بالسِّواكِ مع كلِّ وضوء)).
2- أن يتسوَّكَ قبل الصلاة؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند أحمد والترمذي وصححه الألباني: ((لولا أن أشقَّ على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاة)).
3- أن يتسوَّكَ عند الانتباهِ من النوم؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - "أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا قام من الليلِ يَشُوص فاه بالسِّواك"؛ وهو في "صحيح البخاري"؛ و"يَشُوص" يعنى: يدلك وينقي.
4- أن يتسوَّكَ قبل قراءةِ القرآن؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه البيهقيُّ وصححه الألباني: ((طيِّبوا أفواهَكم بالسِّواكِ؛ فإنَّها طُرُق القرآن)).
5- أن يتسوَّكَ يوم الجمعة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جمعةٍ من الجمع: ((يا معشر المسلمين، إنَّ هذا يومٌ جعله الله عيدًا، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيبٌ، فلا يضرُّه أن يمسَّ منه، وعليكم بالسِّواك))؛ رواه البيهقي وصححه الألباني.
6- أن يتسوَّكَ عند دخولِ المَنْزل؛ فقد روى مسلمٌ عن شُرَيح بن هانئ قال: "سألتُ عائشةَ - رضي الله عنها - قلت: بأيِّ شيء كان يبدأ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا دخلَ بيتَه؟ قالت: بالسِّواك".
7- أن يتسوَّكَ عند إطالةِ السكوت، وصُفْرة الأسنان، وعند تغيُّر رائحةِ الفم.
8- يُكره استعمالُ سواكٍ جافٍّ وخشن؛ لئلاَّ يؤذي الإنسان.
9- يجوزُ أن يتسوَّكَ بيدِه اليمنى أو اليسرى.
10- احرص على نظافةِ سواكك، وغيِّر فرشاتِه كلَّ ثلاثة أيام.
11- انوِ باستخدامِك السواكَ إحياءَ السنة.
الوسيلة السادسة والثلاثون: الهدية في رمضان:
الهديَّةُ شعيرةٌ إسلامية، وهي سببٌ عظيم للتآلفِ بين القلوب واجتماعها، وشيوع المودة بين المسلمين، وهذا من أعظمِ ما جاءت به الشَّريعةُ الإسلامية.
والهدية هي: دفعُ شيء سواء كان مالاً أو سلعة إلى شخصٍ معين؛ لحصولِ الأُلفةِ والثواب من غيرِ طلب ولا شرط، وهي عطيةٌ بلا مقابل، فالهدية تقرِّبُ بين القلوب، وتزيلُ الضَّغائن؛ ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديثِ الحسن: ((تهادوا تحابوا))، والهديةُ تُقبَل؛ لأنَّها تُوجِد محبة؛ روى أحمد والبخاريُّ في "الأدبِ المفرد" وصححه الألباني أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تردُّوا الهدية))، ولكن من السنَّةِ أن نثيبَ عليها؛ فقد روى البخاريُّ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَقبل الهديةَ ويثيب عليها:
إِنَّ الْهَدَيَّةَ حُلْوَةٌ
كَالسِّحْرِ تَجْتَذِبُ الْقُلُوبَا

تُدْنِي الْبَعِيدَ مِنَ الْهَوَى
حَتَّى تُصَيِّرَهُ قَرِيبَا

وَيَصِيرُ مُضْطَغَنُ العَدَا
وَةِ بَعْدَ بَغْضَتِهِ حَبِيبَا

إنَّ للهديةِ أثرًا عظيمًا في قلوبِ النَّاس، ولطالما كانت الهديةُ سببًا في تأليفِ القلوب وهدايتها، ونحن نستطيعُ أن نفعلَ ذلك من خلالِ شراء بعضِ الكتيبات النافعة، والأشرطة الهادفة، لبعض العلماء والدُّعاة الأفاضل، ونخلص النيَّةَ عند شرائِها وإهدائها، فلعلَّ الله أن يَهدي بها مسلمًا أو مسلمة، فيكون ذلك في ميزانِ حسناتِك؛ فالدَّالُّ على الخيرِ كفاعلِه.
ولكن - للأسف - كادَتْ هذه السُّنة المباركة أن تَختفي بسببِ الحرصِ على جمع المال، وبسبب كثرة التشاحُنِ بين النَّاس من أجل حُطامِ الدُّنيا الزائل.
فاللهَ اللهَ في الهديَّةِ إخواني، وأحسنوا النِّيةَ - تقبَّلَ الله منِّي ومنكم - وقد تَدْخُل الهديةُ بحسنِ النية، في الصَّدقةِ الجارية، أو في معناها مثل: الشريط، الكتب، السِّواك... إلخ.
ويمكنك أن تستخدمَ هذا الكتابَ كهديةٍ تهديها لإخوانِك؛ تتألَّف به قلوبَهم، ويُكتب لك أجرُ ما يعملون مما يستفيدونه منه، وهذه غنيمةٌ باردة، دائمةٌ ما دامت نسختُك التي أخرجتَها، موجودة يُستفاد منها! فلا تبخلْ.
أنواع الهدية:
منها هديةُ المحبةِ والمودة، والتي يُقصد بها تثبيتُ الأخُوَّة، وحسن العشرة بين النَّاس.
وقد تكون الهديةُ من بابِ الصِّلةِ والبرِّ، إن كانت بين الأهلِ والأقارب.
وقد تكون من بابِ التقرُّبِ والتحبُّبِ إلى الله - تعالى - مثل الهدية إلى العلماءِ والصَّالحين.
وقد يُقصد بها التوسعةُ إن كانت من الغني إلى الفقير، وقد يُقصد بها تأليفُ القلوب.
وقد تكون هديةَ تشجيعٍ إذا أعطاها المدرِّسُ لأحدِ طلابه النُّجباء.
وقد تكون في مناسبةٍ كالعيدين، أو مناسبةٍ عائلية مثل الزواج، أو عند العودةِ من سفر.
وقد تكونُ للوالدين وهي من أعظمِ الهدايا؛ لأنَّ بِرَّ الوالدين واجب.
ومن أتحفِ الهدايا وأعظمها منفعةً النصيحةُ العلميَّة، التي تفيد الإنسانَ في دينِه ودنياه، فأكرمُ الهدايا علمٌ نافع، ونصيحةٌ موثوق بها، ومِدْحة صادقة.
ومن آداب الهدية:
1- قبول الهديةِ ولو كانت بسيطةً أو قليلة، وشكرُها، وحفظُ جميلِ مَنْ أهداها - ولو كانت يسيرة - كما قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح البخاري": ((لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُراعٍ، لأجبتُ، ولو أُهديَ إلىَّ ذراع أو كُراع، لقبلتُ)).
2- أن تشركَ من حضر معك في الهديةِ إن كانت تُقْسَم، كطعامٍ أو شراب أو نحوه.
3- تقديمُ الهديةِ لتأليف القلوب، وهذا خاصٌّ لمن دخلَ في الإسلامِ حديثًا، أو من كان عاصيًا غافلاً وعرفَ طريقَ الهداية، أو كان بينك وبينه عداوةٌ أو مخاصمة، ثم تَمَّ الصلحُ بينكما، فينبغي أن تقدمَ له هدية؛ ليتألفَ بها قلبُه ويرضى بها.
4- المكافأةُ على الهدية، وإعطاءُ هدية مقابلها، فمن أهداك هديةً يستحبُّ أن تهدي له هديةً مثلها، أو أغلى منها حسب ما تيسَّر لك.
5- شكر من أهدى إليك هدية؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيح سنن أبي داود": ((من أُعطِي عطاءً فوجد، فليَجْزِ به، فإن لم يجدْ فليُثْنِ به، فمن أثنى به فقد شكَره، ومن كتمَه فقد كفَرَه)).
6- أن يبادِلَ الدُّعاءَ بالدعاءِ، فحين يقال لك: جزاك الله خيرًا، فقل: وجزاكم، أو: وإياكم.
7- أن تقدِّمَ الهدية للأهمِّ فالأهم، أو للأقربِ فالأقرب.
8- مراعاةُ ظروفِ النَّاس وحاجتهم في الهدية؛ فإذا علمت من حالِ أخيك المسلم أنه يحتاجُ إلى طعامٍ، أهديتَ إليه الطَّعام، أو علمتَ أنه يحتاجُ إلى كسوةٍ، أهديتَ إليه ثيابًا.
9- إذا قدَّم لك أحدٌ هدية، وأنت لا تحبُّها، فينبغي ألا تردَّها، ويجوزُ لك أن تهبَها لأحد، أو تهديها لأحدٍ بدلاً من ردِّها؛ وذلك تطييبًا لخاطرِ مُهديها.
10- أن يتحرَّى المُهدي أحسنَ الأوقات وأنسبها، وكذلك أنسب الأماكن؛ لتصبحَ أوقع في النَّفسِ؛ فقد كان النَّاسُ يتحرَّوْن بهداياهم يومَ عائشة - رضي الله عنها - كما في "صحيح البخاري".
11- إذا قدَّم لك أحدٌ هديةً وردَدْتَها، ينبغي أن تُبيِّنَ سببَ الردِّ؛ حتى لا تسبب الحزنَ والحرج لذلك الشخص؛ كما فعل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع الصَّعبِ بن جثامة الليثي، والحديثُ في "صحيح البخاري".
12- لا يجوزُ الرجوعُ في الهِبةِ أو الهديَّة؛ فإنَّك إذا أَهديتَ هديةً لشخصٍ ما، فإنَّها تصير مِلْكَه، ويحرمُ على المُهدي أو الواهب الرجوعُ في هديتِه أو هبته.
13- لا يجوزُ لأحدِ الأبوين أن يفضِّلَ أحدَ الأبناء على بعض، أو يخصَّه بهديةٍ دون الآخرين، لكن إذا أعطاه هديةً دون إخوانِه لسببٍ شرعي - كأن كان فقيرًا أو مريضًا - فلا بأس أن يخصَّهُ حينئذٍ، لكن يَنبغي أن يعزمَ في نفسِه أنه لو مرَّ أحدٌ من أبنائه الآخرين بالظرفِ نفسِه أن يعطيَه مثلَ ما أعطاه.
ما هي الحالات التي يجوز فيها ردُّ الهدية؟!
إذا كانت الهديةُ من مالٍ حرام أو فيه شبهة.
إذا كانت يُراد بها الرِّشوة.
إذا كان موظفًا، ولولا وظيفته ما أُهدِي إليه شيء.
إن كانت من كافرٍ أو فاسقٍ أو فاجر، وأراد أن يُبقي له منَّةً عليك، فلا تقبلْها.
وعمومًا، الهديةُ شيءٌ جميل، يوثِّق الصِّلاتِ، ويَزيدُ المودَّات، وكما قيل: الهديةُ تُذهبُ وغرَ الصَّدر، فاقبلِ الهدية، وأثنِ عليها، واحتفظْ بآدابها، تغنمْ وتَسْلم - إن شاء الله تعالى.
الوسيلة السابعة والثلاثون: الدعوة إلى الله:
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ: ((مَن دعا إلى هدًى، كان له من الأجرِ مثل أُجورِ من تبعَه، لا ينقص ذلك من أجورِهم شيئًا))، فلك أن تتصوَّرَ - أخي الحبيب - كم من الحسناتِ تُسجَّل في صحيفتِك وأنت تدعو إلى الله، حتَّى ولو لم يهتدِ على يديك أحد، فيكفي أنك أعذرتَ إلى ربِّك، وقمتَ بالواجبِ عليك، فاجتهد في ذلك، وتحرَّك بهذا الدِّين، فإنَّ الحركةَ حياة، فأحْيِ الدِّينَ في نفسِك ومن حولك؛ يُحْيِك الله دائمًا في رضاه.
إنَّ طريقَ الدعوة طريقٌ رُسِمَت في السَّماء أعلامُه، وزكَتْ نفوسُ روادِه، ميدانُه في الأرض، وغايتُه في السَّماء، أئمته اصطفاهم الله؛ فكانوا خيرَ البشر، ونالوا من الذِّكرِ والأجر، وأسبغَ الله عليهم سبيلَ الهداية، فهم بين الدعوةِ والبلاء يتلذَّذون بالدُّعاء، أعلمُ النَّاسِ بالحقِّ، وأحرصُهم على هداية الخلق، كلما عظُمَ الخطب، لم يشغلْهم إلا مرضاة الرَّب، أسعدهم الله في الدُّنيا، وبشَّرهم بخيراتِ الآخرة، فأُجورُهم مُضاعَفة، وقرباتُهم لا تنقطع، آثارُ دعوتِهم في النَّاسِ أعمالٌ صالحة تُرفع إليهم بُكرةً وعشيًّا، فلِلَّه كم منَّ الله عليهم بأعظمِ منَّة، فرفعَ درجاتِهم بأعمالٍ لا تنقطع، ووفقهم إلى سبيلِ الدعوة، فحازوا أجورًا لا تسعُها أعمارُهم القصيرة.
الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر: خاصة ما ظهر منه، بحسبِ القواعد الشرعيَّة؛ من العلم، والبدء بالرِّفق ما أمكنَ، والصبر، واحتمالِ الأذى، ومراعاة المصلحة والمفسدة بالضوابط الشرعية، ومراعاةِ القدرة والاستطاعة، وهذا من الواجباتِ التي غابتْ بين أبناء تلك الأمة الميمونة؛ قال - تعالى -: ï´؟ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ï´¾ [المائدة: 78 - 79].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ وأحمد والترمذيُّ وابن ماجه: ((من رأى منكم منكرًا، فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ وأحمدُ: ((ما من نبيٍّ بعثه الله في أمَّةٍ قبلي إلا كان له من أمتِه حواريُّون وأصحاب، يأخذونَ بسُنَّتِه، ويقتدون بأمرِه، ثم إنَّها تُخلف من بعدهم خُلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون، فمن جاهدَهم بيدِه فهو مؤمِن، ومن جاهدهم بقلبِه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانِه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمانِ حبَّة خردل)).
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه أحمد والترمذيُّ وحسَّنه الألباني: ((والذي نفسي بيدِه، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكرِ، أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدْعونه فلا يُستجاب لكم)).
ولكن ينبغي مراعاةُ الحكمةِ في ذلك، ومعرفة ضوابط الأمرِ والنَّهي؛ حتى لا تترتب أمورٌ ومفاسدُ أعظم، وأنصحُكَ بدراسةِ بحث الدكتور/ ياسر برهامي: "فقه الأمر بالمعروف"؛ فإنه جيدٌ في هذا الباب.
التعاون على البرِّ والتقوى: قال - تعالى -: ï´؟ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ï´¾ [المائدة: 2]، فهذه الآية اشتملَتْ على جميعِ مصالح العباد في معاشِهم ومعادهم، فيما بينهم، وفيما بينهم وبين ربهم؛ فإنَّ كلَّ عبد لا ينفكُّ عن هاتين الحالتين، وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق؛ فأمَّا ما بينه وبين الخلق من المعاشرةِ والمعاونة والصحبة، فالواجبُ عليه فيها أنَّ اجتماعَه بهم وصحبته لهم تعاونٌ على مرضاةِ الله وطاعته، التي هي غايةُ سعادةِ العبد وفلاحه، ولا سعادةَ له إلا بها؛ وهي البرُّ والتقوى اللذان هما جماعُ الدِّين كلِّه، وإذا أُفرِد كلُّ واحد من الاسمين دخل في مسمَّى الآخر، إما تضمُّنًا وإمَّا لزومًا، ودخوله فيه تضمنًا أظهر؛ لأنَّ البِرَّ جزءُ مسمَّى التقوى، وكذلك التقوى جزء مسمى البِر، وكون أحدِهما لا يدخلُ في الآخر عند الاقترانِ لا يدلُّ على أنه لا يدخلُ عند انفرادِ الآخر، ونظيرُ هذا لفظُ الإيمانِ والإسلام، والإيمان والعمل الصَّالح، والفقير والمسكين، والفسوق والعصيان، والمنكر والفاحشة، ونظائرُه كثيرة.
وهذه قاعدةٌ جليلة، مَن أحاطَ بها، زالتْ عنه إشكالاتٌ كثيرة أشكلَتْ على كثيرٍ من النَّاس، ولأذكر من هذا مثالاً واحدًا يُستدَلُّ به على غيرِه؛ وهو البر والتقوى، فإنَّ حقيقةَ البر: هو الكمالُ المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير، كما يدلُّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام، ومنه البُرُّ - بالضم - لمنافعِه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب؛ ومنه رجل بارٌّ، وبَرّ، وكرام برَرَة، والأبرار، فالبِرُّ: كلمة جامعة لجميعِ أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلته الإثم، وفي حديث النوَّاس بن سمعان أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال له: ((جئتَ تسأل عن البرِّ والإثم...))، فالإثم: كلمةٌ جامعة للشُّرورِ والعيوب التي يُذَم العبد عليها.
فيدخل في مسمى البر: الإيمانُ وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا ريبَ أنَّ التقوى جزءُ هذا المعنى، وكثيرًا ما يعبَّر عن بِرِّ القلب؛ وهو: وجود طعم الإيمان فيه وحلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينتِه وسلامته، وانشراحه وقوَّتِه، وفرحه بالإيمان؛ فإنَّ للإيمانِ فرحةً وحلاوة ولذَّةً في القلب، فمن لم يجدها، فهو فاقد الإيمان أو ناقصُه، وهو من القسمِ الذين قال الله - تعالى - فيهم: ï´؟ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ï´¾ [الحجرات: 14]؛ فهؤلاء - على أصحِّ القولين - مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين؛ إذْ لم يدخلِ الإيمانُ في قلوبِهم، فيباشرها حقيقة.
وقد جمع الله - تعالى - خصال البر في قوله: ï´؟ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 177].
فأخبر - تعالى - أنَّ البرَّ هو الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه - مع القضاءِ والقدر - هي أصولُ الإيمان التي لا قوامَ للإيمان إلاَّ بها، وأنه الشرائع الظاهرة من إقامةِ الصلاة وإيتاء الزكاة والنفقات الواجبة، وأنه الأعمالُ القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد، فتناولَتْ هذه الخصالُ جميعَ أقسام الدِّينِ؛ حقائقه، وشرائعه، والأعمال المتعلِّقة بالجوارحِ والقلب وأصول الإيمان.
ثم أخبر - تعالى - عن كلِّ هذا أنه خصالُ التقوى بعينها، فقال - تعالى -: ï´؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ï´¾.
وأمَّا التقوى، فحقيقتُها العملُ بطاعةِ الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر اللهُ به إيمانًا بالأمر وتصديقًا بوعدِه، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالنهي وخوفًا من وعيدِه؛ كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعتِ الفتنةُ فأطفئوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعملَ بطاعةِ الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عقابَ الله"، وهذا أحسن ما قيل في حدِّ التقوى؛ فإنَّ كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية، فلا يكون العملُ طاعةً وقربة حتى يكونَ مصدرُه عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمانَ المَحْض، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لا بدَّ أن يكونَ مبدؤه محضَ الإيمان، وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب؛ ولهذا كثيرًا ما يُقرن بين هذين الأصلين، في مثلِ قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا))، و: ((من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا)) ونظائره، فقوله: "على نورٍ من الله" إشارةٌ إلى الأصلِ الأول؛ وهو الإيمان، الذي هو مصدرُ العملِ والسببُ الباعث عليه، وقوله: "ترجو ثواب الله" إشارةٌ إلى الأصلِ الثاني، وهو الاحتساب؛ وهو الغاية التي لأجلِها يوقع العمل ولها يقصد به، ولا ريبَ أنَّ هذا اسم لجميعِ أصول الإيمان وفروعه، وأنَّ البر داخل في هذا المسمى.
وأمَّا عند اقترانِ أحدهما بالآخر؛ كقولِه - تعالى -: ï´؟ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ï´¾ [المائدة: 2]، فالفرقُ بينهما فرقٌ بين السببِ المقصود لغيرِه والغاية المقصودة لِنَفسِها؛ فإنَّ البر لذاتِه؛ إذْ هو كمالُ العبدِ وصلاحه الذي لا صلاحَ له بدونه كما تقدَّم، وأمَّا التقوى، فهي الطريقُ الموصل إلى البر والوسيلة إليه، ولفظها يدلُّ على هذا؛ فإنها فُعلى، من وقى يقي، وكان أصلها: وقوى، فقلبوا الواوَ تاءً؛ كما قالوا: تُراث من الوراثة، وتُجاه من الوجه، وتُخمة من الوخمة، ونظائرها، فلفظها دالٌّ على أنَّها من الوقايةِ؛ فإنَّ المتَّقي قد جعل بينه وبين النَّارِ وقاية، والوقاية من بابِ دفع الضر، فالتقوى والبر كالعافيةِ والصحة.
وهذا بابٌ شريف يُنتفع به انتفاعًا عظيمًا في فهمِ ألفاظِ القرآن ودلالته، ومعرفة حدودِ ما أنزل الله على رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنه هو العلم النَّافع، وقد ذمَّ الله - تعالى - في كتابِه مَن ليس له علم بحدودِ ما أنزل الله على رسولِه؛ فإنَّ عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين:
الأولى: أن يُدخل في مسمَّى اللفظِ ما ليس منه، فيحكم له بحكم المراد من اللَّفظ، فيساوي بين ما فرَّق الله بينهما.
والثانية: أن يُخرج من مسمَّى اللفظ بعضَ أفرادِه الداخلة تحته، فيسلب عنه حكمَه، فيفرق بين ما جمعَ الله بينهما.
والذَّكي الفطِن يتفطَّنُ لأفرادِ هذه القاعدة وأمثالها، فيَرى أنَّ كثيرًا من الاختلافِ أو أكثره إنَّما ينشأ من هذا الوضع، وتفصيل هذا لا يَفِي به كتابٌ ضخم، فالله المستعان.
ومن هذا: لفظ "الخمر"؛ فإنَّه اسمٌ شامل لكلِّ مُسْكِر، فلا يجوز إخراجُ بعضِ المُسْكرات منه، ويُنفى عنها حُكْمه، وكذلك لفظ "الميسر"، وإخراج بعضِ أنواع القمار منه، وكذلك لفظ "النِّكاح" وإدخال ما ليس بنكاحٍ في مسمَّاه، وكذلك لفظ "الرِّبا" وإخراج بعضِ أنواعه منه، وإدخال ما ليس برِبًا فيه، وكذلك لفظ "الظلم" و"العدل" و"المعروف" و"المنكر"، ونظائره أكثر من أن تُحصى.
والمقصود من اجتماعِ النَّاس وتَعاشُرِهم هو التَّعاونُ على البِرِّ والتَّقْوى، فيُعِين كلُّ واحد صاحبَه على ذلك علمًا وعملاً؛ فإنَّ العبدَ وحده لا يستقلُّ بعلم ذلك، ولا بالقدرةِ عليه، فاقتضت حكمةُ الربِّ - سبحانه وتعالى - أن جعلَ النوعَ الإنساني قائمًا بعضه ببعضه، معينًا بعضه لبعضه.
ثم قال - تعالى -: ï´؟ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ï´¾ [المائدة: 2]؛ والإثم والعدوان في جانبِ النَّهي نظير البِرِّ والتقوى في جانبِ الأمر، والفرقُ بين الإثم والعدوان كالفرقِ بين مُحَرَّم الجنس ومحرَّم القَدْر؛ فالإثم ما كان حرامًا لجنسِه، والعدوانُ ما حُرِّم لزيادةٍ في قدره، وتعدَّى ما أباح الله؛ فالزِّنا والخمر والسرقة ونحوها إثمٌ، ونكاحُ الخامسةِ، واستيفاء المجنيِّ عليه أكثرَ من حقِّه ونحوه عدوانٌ، فالعدوان هو تعدِّي حدود الله التي قال عنها: ï´؟ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ï´¾ [البقرة: 229]، وقال في موضعٍ آخر: ï´؟ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ï´¾ [البقرة: 187]، فنهى عن تعدِّيها في آية، وعن قربانِها في آية؛ وهذا لأنَّ حدودَه - سبحانه - هي النهايات الفاصلة بين الحلالِ والحرام، ونهاية الشيء تارةً تدخل فيه، فتكون منه، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيَكون لها حُكْم المقابلة، فباعتبارِ الأول نَهى عن تعدِّيها، وباعتبار الثاني نهى عن قربانِها.
فهذا حكمُ العبدِ فيما بينه وبين النَّاس، وهو أن تكونَ مخالطتُه لهم تعاونًا على البرِّ والتقوى علمًا وعملاً.
وأمَّا حاله فيما بينه وبين الله - تعالى - فهو إيثارُ طاعتِه، وتجنُّب معصيته، وهو قوله - تعالى -: ï´؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ ï´¾ [المائدة: 2]؛ فأرشدَت الآيةُ إلى ذِكْرِ واجب العبد بينه وبين الخلق، وواجبه بينه وبين الحقِّ، ولا يتمُّ له أداء الواجب الأول إلاَّ بِعَزْل نفسِه من الوسط، والقيام بذلك لمحضِ النصيحة والإحسان ورعاية الأمر، ولا يتمُّ له أداء الواجب الثَّاني إلا بعزلِ الخلق من البين، والقيام له بالله إخلاصًا ومحبة وعبودية.



فينبغي التفطُّنُ لهذه الدقيقةِ التي كلُّ خللٍ يدخل على العبدِ في أداء هذين الأمرين الواجبين إنَّما هو عدم مراعاتِها علمًا وعملاً، والله المستعان.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #46  
قديم 23-05-2020, 02:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة



عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان

(29)






محمود العشري


الوسيلة التاسعة والأربعون: التفريج عن المسلم، والتيسير عليه، وستره وعونه:
وكل واحدٍ من هذه عبادة مستقلة، وورَد في كلٍّ منها نصوصٌ خاصة تحثُّ عليه.
ففي الستر مثلاً يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19]، وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: ((لا يَستر عبد عبدًا في الدنيا، إلاَّ ستَره الله يوم القيامة))، والستر في الآخرة يكون - إن شاء الله - لأهل الجنة لا لأهل النار، وقد روى ابن ماجه وصحَّحه الألباني أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن ستَر عورة أخيه المسلم، ستَر الله عوْرته يوم القيامة، ومَن كشَف عورة أخيه المسلم، كشَف الله عوْرته؛ حتى يَفضَحه بها في بيته)). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من امرئ مسلم، يرى من أخيه عورة فيَسترها، إلاَّ أدخلَه الله بها الجنة))؛ رواه الطبراني في "الأوسط"، وضعَّفه الألباني بلفظ: ((لا يرى مؤمنٌ من أخيه عوْرةً فيَسترها عليه، إلاَّ أدخَله الله بها الجنة)). وفي الحديث الذي حسَّنه الألباني، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن؛ كسوتَ عوْرته، وأشبَعتَ جوْعته، أو قَضيتَ له حاجة)). وفي حديث عائشة الذي رواه أحمد وصحَّحه الألباني، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث أحْلِف عليهنَّ: لا يجعل الله - عزَّ وجلَّ - مَن له سهمٌ في الإسلام كمَن لا سهمَ له، فأَسْهُم الإسلام ثلاثة: الصلاة والصوم والزكاة، ولا يتولَّى الله - عزَّ وجلَّ - عبدًا في الدنيا فيُولِّيه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجلٌ قومًا إلاَّ جعَله الله - عزَّ وجلَّ - معهم، والرابعة لو حَلَفت عليها، رجوت ألاَّ آثَمَ: لا يَستر الله - عزَّ وجلَّ - عبدًا في الدنيا، إلاَّ ستَره يوم القيامة)). ولكنيذكَرت هذه العبادات هنا جُملة؛ لأكتفي فيها بحديث واحدٍ، ثم ابْحَثْ أنت عن المزيد إن أردتَ المزيد، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((مَن نفَّس عن مؤمن كُربة من كُرَب الدنيا، فرَّج الله عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستَر مسلمًا، ستَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومَن سلَك طريقًا يلتمس فيه عِلمًا، سهَّل الله به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمَع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلاَّ نزلَت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة، وحَفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمَن عنده، ومَن بطَّأ به عمله، لَم يُسرع به نسبُه))، والحديث في صحيح مسلم. وأخصُّ بالذِّكر من كلِّ هذا: قضاء حوائج المسلمين؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يَظْلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن سَتر مسلمًا، ستَره الله يوم القيامة)). فهلاَّ عَمِل كلُّ مسلم بتلك الوصيَّة النبوية الغالية المباركة، أم أنَّ أكثر الناس لا ينشغل إلاَّ بنفسه، ولسان حاله يقول: نفسي، نفسي. أين الذين كانوا يمشون في حوائج إخوانهم رغبةً فيما عند الله؟! أين هذا الصِّنف الكريم العزيز الذين كان الله يَستعملهم لإدخال السرور والسعادة على المسلمين؟! أسأل الله أن يُؤلِّف بين قلوب المسلمين، وأنْ يَجمع شَتاتهم، وأن يجعلَهم جميعًا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى. كما أخصُّ أيضًا إقالة عثرة المسلم؛ ففيها من التفريج عن المسلم ما فيها، ولا سيَّما لو دخَل الندم إلى هذا المسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وصحَّحه الألباني: ((مَن أقال مسلمًا، أقال الله تعالى عَثْرته))، وفي رواية عند أبي داود: ((من أقال مسلمًا، أقاله اللهُ عَثْرتَه))، وزاد ابن ماجه - كما في فضائل الأعمال للمَقدسي -: ((يوم القيامة)). فائدة: الإقالة في اللغة: الرفع والإزالة، ومِن ذلك قولهم: أقال الله عَثرته، إذا رفعَه من سقوطه، ومنه: الإقالة في البيع؛ لأنها رفْع العقد، وهي في اصطلاح الفقهاء: رفْع العقد وإلغاء حُكمه وآثاره بتراضي الطرَفين. وتجري الإقالة في العقود الملزمة، وأكثر ما تقع في البيع، وتكون مندوبة إذا ندِم أحدُ الطرفين، وشعَر بحاجته الماسَّة إلى الرجوع في العقد. وتكون الإقالة بالإيجاب والقَبول الدَّالَّيْن عليها، وتتوقَّف في قَبولها على رضا الطرَفين. الوسيلة الخمسون: كَظْم الغيظ، وتجنُّب الغضب: فهذا من حُسن الخُلق في المعاملات، وهو مما يُدخِل الجنة، ففي الحديث الذي رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((مَن كظَم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يُخيِّره من الحُور العِين ما شاء)). ومعلوم أنَّ أيَّ غضب تَصْحبه رغبة في الانتصار للنفس، قلَّ هذا الغضب أم كَبِر، ويَنتاب صاحب الغضب غيظٌ يدفعه للانتقام أو التشفِّي، قلَّ الغضب أم كَبر؛ ولهذا كان تجنُّب الغضب سببًا لكَظْم الغيظ؛ كما روى الطبراني - وقال الألباني: صحيح لغيره - أنَّ رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دُلَّني على عملٍ يُدخلني الجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَغضب ولكَ الجنة)). الوسيلة الحادية والخمسون: كفَّارة المجلس: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن جلَس في مجلس، فكَثُر عليه لَغَطُه، فقال قبل أن يقومَ من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمْدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرُك وأتوب إليك، إلاَّ غُفِر له ما كان في مجلسه ذلك))، والحديث رواه الترمذي، والحاكم، وصحَّحه الألباني. وكثير من الناس يُكثرون في مجالسهم من اللغو واللغط، وعلى الرغم من ذلك، فإنه إذا أرادَ أن ينصرف، فإنه ينسى هذه الكلمات التي يَجعلها الله سببًا لمغفرة ذنوبه في هذا المجلس، فيا ليتنا نحفظ لسانَنا في مجالسنا، ولا ننسى دعاءَ كفارة المجلس؛ حتى نلقَى الله تعالى بصفحة بيضاء، خالية من الذنوب والأوْزار. الوسيلة الثانية والخمسون:السعي على الأرملة والمسكين: قال - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري: ((الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله))؛ قال الراوي: وأحسبُه قال: ((كالقائم لا يَفْتُر، وكالصائم لا يُفْطِر)). الوسيلة الثالثة والخمسون: صلاة ركعتين بعد فعْل الذنوب: إذا قدَّر الله وابتُليتَ بفعْل معصية غلبتْك نفسك عليها، فاهْرَع إلى الصلاة، وناجِ ربَّك، وتضرَّع إليه أن يغفرَ لك ويُعافيك؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود: ((ما من عبدٍ يُذنب ذنبًا، فيُحسن الطُّهور، ثم يقوم فيُصلي ركعتين، ثم يَستغفر الله، إلاَّ غفر له)). الوسيلة الرابعة والخمسون: صيام النوافل:أين مَن يَحرص على صيام النوافل من بعد رمضان؟! أين مَن يتَّبع هدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لَم يترك خيرًا إلاَّ دَلَّنا عليه، ولَم يترك شرًّا إلاَّ وحذَّرنا منه، ففي الصحيحين ومسند أحمد، وسُنن الترمذي قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صام يومًا في سبيل الله، بعَّد الله وجْهه عن النار سبعين خريفًا))، فحافِظْ - أخي يا بن الإسلام - على صيام النوافل، وهي كثيرة، ومن أهمها: صيام الاثنين والخميس؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي، وصحَّحه الألباني: ((تُعرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم)). ثلاثة الأيام البيض من كلِّ شهر مدرجة لخير الصيام؛ قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري: ((صوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر صومُ الدَّهر كله))، وقال لابن عمرو - كما في الصحيحين -: ((صُمْ من كلِّ شهر ثلاثة أيام؛ فإنَّ الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر)).ويُسْتَحبُّ أن تكون أيام: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَرٍّ: ((يا أبا ذَر، إذا صُمْتَ من الشهر ثلاثة أيام، فصمْ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخَمس عشرة))، والحديث رواه الترمذي والنسائي، وصحَّحه الألباني، وقال - كما عند النسائي وأبي يَعْلى، وحسَّنه الألباني -: ((صيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر صيام الدهر، وهي أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة)).فاجتهدْ أن تصوم في بقيَّة عُمرك ولو ثلاثة أيام من كلِّ شهر؛ فإن لهم أجرًا عظيمًا عند الله -تعالى. يوم عرفة لغير الحاج؛ قال - صلى الله عليه وسلم - كما روى مسلم: ((صيام يوم عَرَفة يُكَفر السنة الماضية والباقية))، وعند الترمذي، وابن حِبَّان، وصحَّحه الألباني: ((صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله)).يوم عاشوراء ويوم قبله؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: ((صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))، وأمَّا عن اليوم الذي قبله، فدليله ما قاله ابن عباس حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء، وأمَر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تُعَظِّمه اليهود والنصارى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صُمنا اليوم التاسع))، قال: فلمْ يأتِ العام المُقبل حتى توفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث في صحيح مسلم وسُنن أبي داود، وصحَّحه الألباني. ست من شوال؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: ((مَن صام رمضان، وأتْبَعه بستٍّ من شوال، كان كصوم الدهر))، وقال - صلى الله عليه وسلم - كما عند أحمد والنسائي، وصحَّحه الألباني: ((صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعده بشهرين، فذلك صيام السنة)).واعلم أنه يجوز صيام هذه الأيام السِّتة من شوال مُتتابعة أو متفرِّقة في أيِّ أيام الشهر، عدا اليوم الأوَّل وهو يوم عيد الفطر؛ فإنه يَحرُم صيامُه. صيام شعبان؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمَل صيام شهر قطُّ، إلاَّ شهر رمضان، وما رأيتُه في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان". صيام أكثر المحرَّم؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)).ولعلَّه يُشكل على ذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر ما يصوم في شعبان، فلماذا لَم يَصُم في المحرَّم مثلما كان يصوم في شعبان؟!أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة؛ منها: ما قاله النووي: لعلَّه لَم يَعلم فضْل المحرَّم إلا في آخر الحياة، قبل التمكُّن من صومه، أو لعلَّه كان يَعرِض فيه أعذارٌ تَمنع من إكثار الصوم فيه، كسفرٍ أو مرض، ومنها: ما ذهَب إليه ابن رجب من أن التطوُّعَ بالصوم نوعان: الأول: التطوُّع المُطلق، فهذا أفضله المحرَّم، كما أنَّ أفضل التطوع المطلق في الصلاة قيام الليل، والثاني: ما كان صومه تَبَعًا لصيام رمضان قبله أو بعده، فهذا مُلتحق بصيام رمضان، وصيامه أفضل من التطوع مُطلقًا، كالسُّنن الرواتب، فهي أفضل من السُّنن المطلقة. صيام يوم وفطر يوم؛ ففي الصحيحين: ((أحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا)).عشر ذي الحِجة؛ فعند أبي داود والنسائي عن هُنَيْدة بن خالد عن امْرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحِجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كلِّ شهر، وأوَّل اثنين من الشهر والخميس"، والحديث صحَّحه الألباني.وهنالك احْرص على السَّحُور متأخِّرًا وعجِّل الإفطار، واحْرِص على أن يصومَ معك أهل البيت، وشجِّعهم على ذلك، واجْتمِعوا على الإفطار والسحُور، واحْرِص كذلك على إفطار الصائم، ادْعُ غيرَك إلى الصيام، وفطِّر الصائمين.تنبيه: فيما يتعلَّق بصوم رجب:لَم يَثبت فضيلة الإفراد لصوم شهر رجب، ولا صيام أيَّام منه، بل صيامه كباقي الشهور؛ مَن كان له عادة بصيام، فهو على عادته، ومَن لَم يكن له عادة، فلا وجْه لتخصيص صومه، ولا صوم أوَّله، ولا ليلة السابع والعشرين منه بصومٍ، بل ثبَتَ عن عمر النهي عن ذلك؛ فعن خَرَشَة بن الحُرِّ، قال: "رأيتُ عمر يَضرِب أكفَّ الناس في رجب، حتى يضعوها في الجِفان، ويقول: كُلوا؛ فإنما هو شهر تعظِّمه الجاهليَّة"؛ رواه ابن أبي شَيبة، وصحَّحه الألباني، قال الألباني: "إن نَهْيَ عمر عن صوم رجب - المفهوم من ضرْبه للمترجِّبين - ليس نَهْيًا لذاته، بل لكيلا يلتزموا صيامه ويُتِمُّوه، كما يفعلون برمضان"، قال ابن قدامة: "ويُكْرَه إفرادُ رجب بالصوم".وثَبَتت كَراهة صومه عن ابن عباس وأبي بَكْرة، وأنس وغيرهم، وأمَّا حديث: ((صُمْ من الحُرُم واترُك))، فهو حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وضعَّفه الشيخ الألباني، فلا يصحُّ الاحتجاج به، وإن صحَّ، فليس فيه دليلٌ على تخصيص رجب بصوم، وعلى هذا فيجوز الصيام في رجب إذا وافَق له عادة بصيامٍ، وأمَّا إن خَصَّه أو اعتقَد أنَّ لصيامه فضيلةً خاصة، فهذا لا دليلَ عليه، والله أعلى وأعلم.الوسيلة الخامسة والخمسون:حفظ اللسان والفَرْج وغَض البصر:وكذلك ستْر العورة، والحَذَر من الاختلاط، ومسِّ الأجنبيَّات، والحديث معهنَّ فيما لا حاجة فيه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ [النور: 30]، وسأل عبدالله بن عمرو بن العاص النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، عَوراتنا ما نأتي منها وما نذَر؟ قال: ((احفَظ عورتك إلاَّ من زوجتك أو ما مَلَكت يمينُك))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إنِ استطَعت ألاَّ يَرَيَنَّها أحدٌ، فلا يَرَيَنَّهَا))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: ((الله أحقُّ أن يُستَحْيَى منه من الناس))؛ والحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وحسَّنه الألباني، وروى الطبراني في الكبير وصحَّحه الألباني: ((لأن يُطعَنَ أحدكم بِمِخْيَط من حديد، خيرٌ له من أن يَمسَّ امرأة لا تَحِلُّ له)).وفي الصحيحين: ((لا يخلوَنَّ رجل بامرأة، إلاَّ ومعها ذُو مَحْرم، ولا تسافر المرأة إلاَّ مع ذي مَحْرم))، وفي الصحيحين: ((كُتِب على ابن آدمَ نصيبُه من الزنا، مُدْرِكٌ ذلك لا مَحالة، فالعينان زناهما النظر، والأُذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البَطش، والرِّجل زناها الخُطى، والقلب يهوى ويتمنَّى، ويُصدِّق ذلك الفرجُ أو يُكَذِّبه))، وفي رواية: ((واليد زناها اللمس)).وهذا الباب من أعظم أبواب فساد القلوب؛ أعني: إطلاق البصر وعدم حِفظ الفرْج، فهو من أقصر طُرق إبليس لتحقيق غرضه في إفساد القلوب، وباب الشهوة الجنسيَّة من أسباب عمى القلب، نسأل الله العافية.وحِفظ الفَرْج يكون عمَّا حرَّمه الله عليه؛ سواء من الزنا، أو اللواط، أو الاستمناء، أو الجِماع في الدُّبر، أو القُبُل في زمان الحيْض، أو غير ذلك؛ إذ كلُّ تفريغ للشهوة في غير الموضع الذي أحلَّه الله، وبغير الطريقة التي شرَعها، حرامٌ ينبغي حِفْظ الفرج عنه؛ للفوز بالثواب العظيم الذي ذكَره النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحديث المتفق عليه: ((مَن يَضْمن لي ما بين لِحييه وما بين رِجليه، أضمَنْ له الجنة)).وحِفظ اللسان يكون من المحرَّمات التي يكون آلتَها؛ كأكل الحرام، والغيبة والنميمة، والقذف والسَّب واللعن، وكل ما حُرِّم من الكلام، فلا تتكلم إلاَّ بالخير، وإلاَّ فاصْمُت، واحْذَر من كَثرة الضَّحك والمُزاح، ومن آفات اللسان جميعها؛ قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليَصْمُت))؛ والحديث في الصحيحين.وهذه الوسيلة تجرُّنا إلى الكلام عن بعض آداب اللسان، فاللسان هو المترجم لِمَا حواه الجَنان، يزرع بقوله الحسنات والسيئات، اللسان هو وزير البَدن، والقلب هو الملك، وبصلاحهما يصلح البَدن، وبفسادهما يفسد البدن، بكلمة يدخل المرء دينَ الإسلام، وبكلمة يخرج منه، وبكلمة يَنال رضوان الله، وبكلمة يستحقُّ سَخطه.فمن آداب اللسان:1- حِفظ اللسان، واجتناب فضول الكلام؛ فأكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة أكثرُهم كلامًا في معصية الله تعالى.2- عدم الخوض في الباطل؛ قال الربيع بن خُثَيْم - رحمه الله -: "لا خيْرَ في الكلام إلاَّ في تسع: تهليل وتكبير، وتسبيح وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوُّذك من الشرِّ، وأمْرك بالمعروف ونَهْيك عن المنكر، وقراءتك للقرآن".3- اجتناب الفُحش والبذاءة؛ فـ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان، ولا الفاحش ولا البذيء))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.4- اجتناب اللعن، والتقعُّر في الكلام.5- صِدق الأقوال والأفعال، فينبغي على المسلم أن يقول الصِّدق، ويتحرَّاه في كل أقواله وأفعاله، ويَجتنب الكذب؛ لأنه لا يَليق بالمؤمن أن يكون كذَّابًا.6- ترْك السُّخرية والاستهزاء، وترك الغيبة - وهي ذِكر أخيك المسلم بما يَكره - وترْك النميمة - وهي نقْل الكلام بين المسلمين بقَصْد الضَّرر وإفساد ما بينهم، وقطْع الصِّلة - وإنْ أتاك النمَّام، فعليك بستة أمور: ألاَّ تُصَدِّقه؛ لأن النمَّام فاسقٌ، فيكون مَردود الشهادة. أنْ تَنهاه عن ذلك؛ لأنَّ النهي عن المنكر واجبٌ؛ قال الإمام الشافعي- رحمه الله -: "قَبول السعاية أضرُّ من السِّعاية؛ لأنَّ السعاية دَلالة، والقَبول إجازة، وليس مَن دلَّ على شيء كمَن قَبِل وأجَاز، والساعي ممقوت إذا كان صادقًا؛ لهَتْكه العوْرة، وإضاعته الحُرمة، ومعاقَب إن كان كاذبًا؛ لمُبارزته الله بقَبول البُهتان وشهادة الزور. أن تبغضه في الله تعالى؛ فإنه عاصٍ، وبُغض العاصي واجبٌ. ألاَّ تظنَّ بأخيك الغائب ظنَّ السوء؛ فإن إساءةَ الظنِّ بالمسلم حرامٌ. ألاَّ تتجسَّس عن أمْره؛ فإن الله تعالى نَهَى عن التجسُّس. ما لا ترضى من هذا النمَّام، فلا تفعله أنت، وهو ألاَّ تُخبر أحدًا بما أتاك به هذا النمَّام.7- الذَّب عن أعراض المسلمين؛ ففي الحديث الحسن عند أبي داود: ((مَن حَمى مؤمنًا من منافق - أُرَاه قال: - بعَث الله ملَكًا يَحمي لَحمه يوم القيامة من نار جهنَّم، ومَن رمى مسلمًا بشيء يُريد شَيْنَه به، حَبَسه الله على جسْر جهنَّم، حتى يَخرج مما قال)).8- شُكر المعروف باللسان.9- التقليل من المُزاح؛ فإن مَن كَثُر كلامه وضَحِكُه ومُزاحه، قلَّت هيْبَته، ومَن أكْثر من شيء، عُرِف به.10- استعمال اللسان في الإصلاح بين المتخاصمين.11- قلة الكلام فيما لا يفيد، وتدبُّر الكلام قبل النُّطق به؛ قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - لرجل قد بعَثه في حاجة: "إيَّاك وكلَّ أمْر تريد أن تعتذرَ منه، وإذا أردْتَ أن تتكلَّم بكلامٍ، فانظُر فيه قبل أن تتكلَّم، فإن كان لك، فتكلَّم به، وإن كان عليك، فالصمُت عنه خيرٌ لك".12- ترْك ما لا يَعنيه؛ فذلك من حُسن إسلام المرء؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.وغَضُّ البصر يكون عن النظر إلى الحرام عمومًا، وإلى النساء على وجْه الخصوص؛ فإن النظر سهمٌ مسموم من سهام إبليس، ورُبَّ سهمٍ يقتل؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30 - 31]، وفي حديث: "حق الطريق" المُتفق عليه، لَمَّا سُئِل - صلى الله عليه وسلم -: وما حقُّه يا رسول الله؟ قال: ((غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، ورَدُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).الوسيلة السادسة والخمسون: إماطة الأذى عن الطريق:قال - صلى الله عليه وسلم -فيما رواه مسلم: ((لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنة؛ في شجرة قطَعها من ظهر الطريق كانتْ تؤذي الناس)).يا ألله، والله ما أسهل الجنة! ومشهور حديث: ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة))، والأذى في الطريق عام في كلِّ ما يؤذي؛ من حَجَرٍ أو شجر، أو شوْك أو قشور، تؤذي المارَّة، أو أغانٍ أو متبرِّجات، أو غير ذلك، فيدخل في إماطة الأذى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالضوابط الشرعيَّة.وهكذا يكون المسلم صاحب القلب الرحيم الذي يخشى على مَن حوْله أن يُصيبَهم أيُّ نوع من أنواع الأذى، بل ويُسارع إليهم بكلِّ معروف وإحسان، وهذه هي أخلاق المسلمين والإسلام.وفيصحيح الجامع الصغير: ((مَن أخرَج من طريق المسلمين شيئًا يُؤذيهم، كتَب الله له به حسنةً، ومَن كتَب له عنده حسنة، أدْخَله بها الجنَّة)).فأكْثِر أخي الحبيب من إماطة الأذى الذي مُلِئت به طُرق المسلمين، لتَكْثُر صدقاتُك، فلعلَّ الله يُدخلك الجنة بها، كالرجل الذي ذكَره - صلى الله عليه وسلم - في الحديث.وهذه الوسيلة - يا بن الإسلام - أحد آداب الطريق، والطريق هو المكان الذي يسير الناس فيه، ويَلتقون فيه، ويَصِلون من خلال عبوره والسَّيْر فيه إلى بيوتهم، فيشمل السوق وغيره.وقد اهتمَّ الإسلام الحنيف بالطريق، حتى جعَل إماطة الأذى عنه شُعبة من شُعَب هذا الدين القويم؛ كما في صحيح مسلم، لكن واأسفاه على شباب العصر، الذين أصبَحوا يتسكَّعون في الطُّرقات، أصبحنا نرى كثيرًا منهم يسير ليلاً ونهارًا في عَرْض الطرقات، يسيرون دون حياءٍ أو أدب أو أخلاقٍ، وكأنَّ ماء الفضيلة لَم يَجْرِ في عروقهم، أصبح لا يَحلو لهم إلاَّ أن يَجلسوا على قارعة الطريق، ويدَّعون بأنَّ هذه هي المدَنيَّة؛ نسأل الله أن يَهْدينا ويَهدي شباب المسلمين.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #47  
قديم 23-05-2020, 02:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

ومن الأدب في الطريق:



1- ألاَّ تخرج إلى الطريق إلاَّ لحاجة؛ قال - صلى الله عليه وسلم - لِمَن سأله عن النجاة: ((أمْسِك عليك لسانك، وليَسَعْك بيتك، وابْكِ على خطيئتك))، والحديث في صحيح سُنن الترمذي.2- إذا اضطُرِرتَ إلى الخروج من بيتك، فعليك بغَضِّ البصر وكَفِّ الأذى، ورَدِّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما في حديث "حق الطريق" الذي رواه البخاري، وهذه الآداب الأربعة أصول الدين الحنيف، وهي مُناسبة لذَوي الفِطَر السليمة والمناهج القويمة، ولعلَّ معظم مآسي الذنوب والمعاصي تقع نتيجة مُخالفة هذه الأوامر، ولو الْتَزَم الناس تلك الآداب الأربعة على الأقل، لبَقِيَت شوارعنا على أصل الطهارة.3- مساعدة المحتاجين، وإرشاد الضالين.4- عدم شَغْل الطريق، أو إيذاء الناس وتعطيل مصالحهم.5- المحافظة على نظافة الطريق بعدم إلقاء النفايات والأوساخ والنجاسات في ممرَّات الناس ومَجالسهم، وتجنُّب إلقاء الفضلات أو القاذورات أو غيرها، فلا تَبصق في الأرض، ولا تُلْقِ بالمناديل المستعملة أو بقايا الطعام في الطرقات والأماكن العامَّة.6- تجنُّب الطرق المزدحمة - مثل: الأسواق وغيرها - بقدْر الإمكان، والإسراع في اجتيازها عند الضرورة، والحِرص على الْتِزام ذِكْر الله تعالى أثناء ذلك؛ لأنَّ ذِكْر الله في أماكن الغفلة له فضيلة عظيمة.7- أن يَمشي متواضعًا.8- الالتزام بأدب المشي، مثل: عدم الالتفات الكثير، وأن يُسَلِّم على القاعد إذا مرَّ به، وتجنُّب المِشْيات المذمومة، وينبغي أن تَمشي المرأة إلى جانب الطريق، ولا تَضرب المرأة برِجلها، ولا تخرج عمومًا مُتزيِّنة أو متعطِّرة.9- أن تَحلُم على الناس، ولا تَجهل عليهم وإن جَهِلوا عليك، وتَصبر على أذاهم.
10- تجنُّب رفْع الصوت؛ سواء كان ذلك في البيع والشراء، أو مرورًا بالسيارات، أو تشغيل مُكَبِّرات الصوت في الأفراح، وغير ذلك مما يؤذي المسلمين.11- تجنُّب الأكل في الطُّرقات؛ لأنه مُخِلٌّ بالمُروءة، والمروءة: اجتناب الرجل ما يَشينه، واجتناؤه ما يَزينه، ولا مُروءة لِمَن لا أدبَ له، ولا أدبَ لِمَن لا عقْلَ له، ولا عقْلَ لِمَن ظنَّ أن في عقْله ما يُغنيه ويَكفيه عن غيره.12- رفْع الأطعمة وفُتات الخُبز عن قارعة الطريق، وإبعاد الأوراق التي فيها أسماء كريمة أو كلمات قرآنية عن ممرَّات الناس، ولا مانعَ من حَرْقها؛ لصونها من العَبَث، وتعظيمًا لاسم الله تعالى وكلامه.وعموم الأدب أنَّ المسلم لا يوجد خارج بيته قدْر ما أمكن؛ ليتفرَّغ لعبادة الله تعالى، وإنْ خرَج، كان مشغولاً بذِكر الله تعالى، حريصًا على طاعته - عزَّ وجلَّ - فالْزَم الأدبَ.الوسيلة السابعة والخمسون: تربية البنات وإعالتهن:أبشر يا من رُزِقت بالبنات، ورَضِيت برِزق الله لك، وحَمدته وشكَرته، وقُمت بما أوْجبه عليك من حُسن التربية لهنَّ، وإعدادهنَّ إعدادًا جيدًا؛ ليكونوا أُمَّهات المستقبل في بيوت الإيمان.أبْشِر يا هذا بقول حبيبك - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد بسند جيِّد: ((مَن كُنَّ له ثلاث بنات يؤويهنَّ ويرحمهنَّ ويَكفلهنَّ، وَجَبت له الجنة)).الوسيلة الثامنة والخمسون: الإحسان إلى الحيوان:إن دين الإسلام يمتاز باهتمامه بالأخلاق الحسنة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعْثِت لأُتَمِّم مكارم الأخلاق))، وقد كَتب الله الإحسان على كلِّ شيء، فأحْسِن يُحْسِنِ الله إليك.
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ
فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ

ولا يَقتصر الإحسان على ذلك، بل يمتدُّ إلى كلِّ ما حوْلك، حتى الحيوان؛ فقد ذكَر - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ رجلاً رأى كلبًا يأكل الثَّرى من العطش، فأخَذ الرجل خُفَّه، فجعَل يَغرِف له به، حتى أرْواه، فشكَر الله له فأدْخَله الجنة"؛ كما في البخاري، قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم أجرًا؟ قال: ((في كل كبدٍ رَطْبة أجر)).وفي الصحيحين: ((بينما كلْب يُطيف بِرَكِيَّةٍ كاد يَقتله العطش، إذ رأتْه بَغِيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنَزَعت مُوقَها فسقَتْه، فغُفِر لها به))، وفي المقابل: ((دخَلت امرأة النار في هِرَّة حبستْها، فلا هي أطعمتْها، ولا هي ترَكتْها تأكل من خَشاش الأرض))؛ كما في الصحيحين.الحيوانات خَلْق من خَلْقِ الله تعالى، سخَّرها لخدمة الإنسان ولإعانته على طاعة الله تعالى، وأيضًا من عِلَّة تسخيرها له إعانته على عمارة الأرض، وتيسير قضاء الحوائج.ومن الأدب في التعامل مع الحيوان: 1- إطعامها وسقيها إذا جاعَت وعَطِشت.2- رحمتها والإشفاق عليها، وعدم إيذائها، فإن كان لكَ شوقٌ إلى الرحمة من الله تعالى، فكنْ رحيمًا لنفسك ولغيرك، ولا تستبدَّ بخيرك؛ فارْحَم الجاهل بعِلْمك، والذليل بجَاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشَفَقتك ورأْفتك، والعُصاة بدعوتك، والبَهائم بعَطفك ورفْع غضبك؛ فأقربُ الناس من رحمة الله تعالى أرحمُهم لخَلْقه.3- ألاَّ يَحول بين الحيوان وبين ولَده إلاَّ لضرورة؛ فـ((مَن فرَّق بين والدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.4- إراحتها عند ذَبْحها أو قتْلها؛ كما في صحيح مسلم.5- عدم إيذائها أو تعذيبها بأيِّ نوعٍ من أنواع العذاب.6- عدم لَعْن الدواب.7- عدم وَسْم الحيوان في وجْهه، أو ضَرْبه عليه؛ فالضرب على الوجْه مَنهيٌّ عنه في كلٍّ أحد - الإنسان والحيوان - لكنَّه في الآدمي أشدُّ؛ لأن الوجْه مَجمع المحاسن، ولأنه يَظهر فيه أثر الضَّرْب، ورُبما شَانَه، ورُبَّما آذى بعضَ الحواس.8- عدم تعليق الأجراس في رقبتها؛ فـ((لا تَصْحب الملائكة رُفْقةً فيها كلْبٌ ولا جَرَس))؛ كما روى مسلم.9- عدم الوقوف على الدابة؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في الحديث الصحيح في المسند.10- يجوز ركوب أكثر من واحدٍ على الدابة، إن عُلِم قوة تحمُّلها لذلك؛ فقد رَكِب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرْدَف خلفه ابن عباس - رضي الله عنه.11- جواز قتل المؤذي منها؛ مثل: الكلب العقور، والذئب، والحيَّة، والفأر، وغير ذلك.12- معرفة حق الله تعالى فيها؛ بأداء زكاتها مما يُزكَّى.13- عدم التشاغل بها عن طاعة الله تعالى، أو اللهو بها عن ذِكره - عزَّ وجلَّ.14- ألاَّ يُحمِّل الدوابَّ فوق طاقتها.فاجتهد أخي الحبيب - يا بن الإسلام - في تحرِّي الإحسان في معاملاتك كلِّها، وضْع نُصْب عينيك قولَ الله: ï´؟ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [البقرة: 195].الوسيلة التاسعة والخمسون:طاعة المرأة لزوجها وتواضعها له:إذا كانت المرأة تُشارك الرجل في كلِّ الأحكام التي لَم يَرِد فيها نصٌّ بالتخصيص، فإنه قد جاءَت أحاديث تروي لها كثيرًا من الفضائل، ومن أجمل هذه الأحاديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حِبَّان، وابن ماجه، وصحَّحه الألباني: ((إذا صلَّت المرأة خَمْسها، وصامَت شهرها، وحصَّنت فرْجَها، وأطاعَت بَعْلها، دخَلَت من أي أبواب الجنة شاءَت)).ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا أُخبركم برجالكم من أهل الجنة: النبي في الجنة، والصدِّيق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه من ناحية المصر لا يزوره إلاَّ لله، ونساؤكم من أهل الجنة: الودود، الولود، العؤود على زوجها، التي إذا غَضِبت جاءَت حتى تضع يدَها في يد زوجها، وتقول: لا أذوق غمضًا حتى ترْضَى))؛ رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني.فهيَّا يا نساء المسلمين، هَلْمُمْنَ إلى جنة عَرْضها السموات والأرض، حتى ولو أغضَبكن أزواجكن، فلله ثم للجنة أَرْضِينهم، واحْذرن من إغضابهم؛ فأيُّما امرأة باتَت وزوجها غضبان عليها، باتَت تَلعنها الملائكة، وفي المقابل: ((أيُّما امرأة باتَت وزوجها عنها راضٍ، دخَلَت الجنة))؛ رواه الترمذي، وقال: حسنٌ.فاجْتَهِدْنَ يا نساء الإسلام في إرضاء الأزواج؛ فإنَّ حقَّهم عليكنَّ كبيرٌ؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ، لأمرْتُ المرأة أن تسجدَ لزوجها))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.ولكن لا يكون ذلك على حساب دينك أُخيَّتي، وإلاَّ فمَن أرضى الناس بسَخَطِ الله، سَخِط الله عليه، وأسْخَط عليه الناس، فاسترضِ زوجَكِ كلَّ ليلة، فلعلَّها تكون آخرَ ليلة لكِ في الدنيا، فيَبيت راضيًا عنكِ، فتَدخُلين الجنة - إن شاء الله تعالى.الوسيلة الستون: زيارة الإخوان في الله:فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أُخبركم برجالكم من أهل الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يَزوره إلاَّ لله، في الجنة))؛ رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني.وذكَر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرْصَد الله على مدرجته - طريقه - مَلَكًا، فلمَّا أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها - تقوم بها وتسعى في صلاحها -؟ قال: لا، غير أني أحببْتُه في الله، قال: فإني رسول الله إليكَ، بأنَّ الله قد أحبَّك لِمَا أحببْتَه فيه؛ والحديث رواه مسلم.معنى الزيارة في الله: أن تكون في طاعته - سبحانه - فيجعل برنامجًا للزيارة في مَرضاة الله تعالى من قراءة قرآن، ودراسة علْمٍ، وتناصُح، ونحو ذلك من طاعة الله - عزَّ وجلَّ.الوسيلة الحادية والستون: النظر في خَلْق السموات والأرض:مع التفكُّر والاهتمام بالعبادات القلبيَّة، كحب الله، أو الخوف منه، ورجاء رحمته، والشوق إليه، والتفكُّر في آثار أسمائه وصفاته، وحُسن التوكُّل عليه، والتضرُّع والتذلُّل والانكسار بين يديه؛ قال تعالى: ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ï´¾ [آل عمران: 190 - 191]، وقال - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآيات: ((ويلٌ لِمَن قرَأها ولَم يتفكَّر فيها))؛ كما في صحيح ابن حِبَّان عن عائشة، وصحَّحه الألباني.الوسيلة الثانية والستون:عليك بمصاحبة الصالحين وأهل الخير، وإيَّاك وصُحْبة الفُجَّار وأهل السوء:قال تعالى: ï´؟ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ï´¾ [الكهف: 28]، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المُتفق عليه: ((إنَّ مَثَلَ الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المِسْك ونافخ الكِير؛ فحامل المسك؛ إمَّا أن يُحْذِيَكَ، وإمَّا أن تَبتاع منه، وإمَّا أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكِير؛ إمَّا أن يَحرِقَ ثيابك، وإمَّا أن تجد منه ريحًا مُنتنة))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((المَرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخَالِل))، وقال: ((يُحْشر المرءُ مع مَن أحَبَّ))؛ فابْحث عن العلماء والصالحين والدُّعاة المؤمنين، والْتَفَّ حولهم؛ فإنَّ ذلك يُعينك ويُثبِّتك، فهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه، وابن أبي عاصم، وحسَّنه الألباني: ((إنَّ من الناس ناسًا مفاتيحَ للخير، مَغاليقَ للشرِّ))، فالْزَمْهم، وعِشْ في أكنافهم، وإيَّاك والوَحْدة، فتَتَخَطَّفك الشياطين؛ فـ: ((إنَّما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ)).الاعتزال عن الشر وقُرناء السوء، والخَلوة مع النفس بين حين وآخر؛ للتفكُّر فيما أنت مُقبل عليه؛ قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: ï´؟ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ï´¾ [مريم: 48].الوسيلة الثالثة والستون:أكْثِر من الدعاء لنفسك ولإخوانك بخيرَي الدنيا والآخرة:الدعاء سلاح المؤمن، وهو من أقوى الأسباب في دفْع المكروه وحصول المطلوب، والدعاء هو العبادة، والعبادة هي التذلُّل والخضوع.الدعاء إظهار افتقار وحاجة، وتذلُّل من العبد الفقير الضعيف الذي لا يَملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلى الله تعالى القادر على جَلْب جميع المنافع، ودَفْع جميع المضارِّ، والذي إذا أعطى الأوَّلين والآخرين جميعَ مطالبهم، وحقَّق لهم جميع مآرِبهم، لا ينقص ما عنده، بل إنه - سبحانه -يَغضب من عبده إذا لَم يسأَلْه حاجته؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في صحيح سُنن الترمذي: ((مَن لَم يسألِ الله، يَغْضَبْ عليه)).فليس للعبد مُعين على مصالح دينه ودنياه إلاَّ الله تعالى، فمَن أعانه فهو المُعان، ومَن خذَله فهو المخذول، واعْلَم - يا بن الإسلام - أنه لا واسطة بينك وبين مولاك؛ فإذا أردتَ أن تدعوه، فبابه مفتوح: يُجيب السائلين، ويُعطي المحرومين: ï´؟ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ï´¾ [البقرة: 186].يا بن الإسلام، يقول الله تعالى: ï´؟ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ï´¾ [محمد: 19]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((ما من عبدٍ مسلم يدعو لأخيه بظَهْر الغيب، إلاَّ قال الملك: ولك بمثله)).يا ألله، ما أعظم هذا الحديث! الملك يدعو لك، فإذا ما أردتَ أخي يا بن الإسلام شيئًا، فادْعُ به لأخيك الذي أحببتَه في ربِّك، وصارَت شريعة الله هي حَبْلَ الوصال الأوَّل بينكما، ادْعُ له بالذي تريده؛ لتحصِّل دعاء الملك لك، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة، وعلى كلِّ النِّعم.سبحان الله، أين القلوب التي اجتمَعت على الحب في الله؟! أين الأُخوَّة الصادقة؟! أين المحبَّة التي لا يَشوبها شيء من المصالح والمنافع الدنيويَّة؟!أين أصحاب القلوب التقيَّة النقيَّة، الذين يحبون إخوانهم لله، ويُحبون لهم الخير كما يحبونه لأنفسهم، فيدعون لهم بظَهْر الغيب، فيُسخِّر الله لهم ملكًا كريمًا ليدعو لهم؛ ففي صحيح مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن دعا لأخيه بظهْر الغيب، قال الملك الموكَّل به: آمين، ولك بمثله)).ومن آداب الدعاء:1- الإخلاص لله تعالى.2- حضور القلب في الدعاء واليقين في الإجابة.3- الدعاء في الرَّخاء والشِّدة؛ فـ: ((مَن سرَّه أن يَستجيبَ الله له عند الشدائد والكُرَب، فليُكثر الدعاء في الرَّخاء))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.4- لا يسأل إلاَّ الله تعالى وَحْده.5- عدم الدعاء على الأهل والمال والولد.6- الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، والاعتراف بالنعمة وشُكْر الله عليها، والثناء بها قبل الدعاء.7- الوضوء قبل الدعاء إن تيسَّر.8- الحَذَر من الاعتداء في الدعاء.9- أن يتوسَّل إلى الله تعالى بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى، أو بعمَلٍ صالحٍ قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح حيٍّ حاضرٍ له.10- أن يكون المطعم والمشرب والملبس من حلال؛ لأن أكْل الحرام من موانع الإجابة ولو تحرَّى الداعي الأسباب الأخرى؛ كما في حديث "الأشعث الأغبر" في صحيح مسلم.11- لا يدعو بإثم ولا قطيعة رحمٍ.12- أن يجعل الداعي كفَّ يده لأعلى.13-أن يقدِّم الداعي عملاً صالحًا؛ ليكون ذلك وسيلة إلى الإجابة.وسائل تحصيل ثمرة الدعاء:الأول: أن يترصَّد لدعائه الأوقات الشريفة، كيوم عرَفة من السنة، ورمضان من الأشهر، والجمعة من أيام الأسبوع، ووقت السَّحر من ساعات الليل؛ قال تعالى: ï´؟ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ï´¾ [الذاريات: 18]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((ينزل الله تعالى كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثُلُث الليل الأخير، فيقول - عزَّ وجلَّ -: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأُعْطيه، من يستغفرني فأغْفِر له))؛ والحديث مُتفق عليه.وقيل: إن يعقوب - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: ï´؟ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ï´¾ [يوسف: 98]؛ ليدعو في وقت السَّحر، فقيل: إنه قام في وقت السحر يدعو وأولاده يؤَمِّنون خلفه، فأوْحى الله - عزَّ وجلَّ - إني قد غَفَرت لهم، وجعلتُهم أنبياءَ.الثاني: أن يَغتنم الأحوال الشريفة؛ قال أبو هريرة: "إنَّ أبواب السماء تُفتح عند زحْف الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيْث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، فاغتنموا الدعاء فيها"، وقال مُجاهد: "إنَّ الصلاة جُعِلت في خير الساعات؛ فعليكم بالدعاء خلف الصفوف"، وروى أبو داود، والنسائي، والترمذي وحسَّنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ))، وروى الترمذي وحسَّنه: ((الصائم لا تُرَدُّ دعوته))، وفي الحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضًا؛ إذ وقت السَّحر وقتُ صفاء القلب وإخلاصه، وفراغه من المهوِّشات، ويوم عرفة ويوم الجمعة وقتُ اجتماع الهم، وتعاون القلوب على استدرار رحمة الله تعالى، فهذا أحد أسباب شرف الأوقات سوى ما فيها من أسرار لا يُطَّلع فيها، وحالة السجود أيضًا أجدر بالإجابة؛ كما في صحيح مسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربِّه - عزَّ وجلَّ - وهو ساجد، فأكْثِروا فيه من الدعاء))، وفيه أيضًا: ((إني نُهِيت أنْ أقرأَ القرآن راكعًا أو ساجدًا؛ فأمَّا الركوع، فعَظِّموا فيه الربَّ تعالى، وأمَّا السجود، فاجْتهدوا فيه بالدعاء؛ فإنه قَمِنٌ - جدير - أن يُستجاب لكم)).ومن الأحوال الشريفة : وقت التنزُّل الإلهي، وأن يَبيت فيتعارَّ من الليل فيدعو، وآخر ساعة من نهار الجمعة، وأن يدعوَ الأخ لأخيه بظَهْر الغيب، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده، ودعاء رمضان.الثالث: أن يدعو مستقبِل القِبلة، ويرفع يديه بحيث يُرى بياضُ إبطيه، أو يرفع يديه قُبالة وجهه، أو نحو ذلك، أو يرفع إصبعه السبَّابة؛ عن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتى الموقف بعَرَفة، واستقَبَل القِبلة، ولَم يَزَل يدعو حتى غرَبت الشمس"، والحديث رواه مسلم، وقال سلمان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ ربَّكم حَيِيٌّ كريم، يستحيي من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردَّها صفرًا))؛ رواه أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وعن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يرفع يديه حتى بياض إبطيه في الدعاء"؛ رواه مسلم، وعن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على إنسان يدعو ويُشير بإصبعيه السبَّابتين، فقال: ((أحِّدْ، أحِّدْ))؛ رواه النسائي، وابن ماجه؛ أي: اقتصِرْ على الواحدة، وقال أبو الدَّرداء: "ارفعوا هذه الأيدي قبل أن تُغَلَّ بالأغلال"، وقال ابن عباس: "كان - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا ضَمَّ وجعَل بطونهما مما يلي وجْهه"؛ أخرجه الطبراني بإسناد فيه ضَعْف.فهذه هيْئَات اليد، ولا يرفع بصره إلى السماء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم: ((لينتهيَنَّ أقوامٌ عن رفْع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء، أو لتُخْطفَنَّ أبصارُهم)).الرابع: خَفْض الصوت بين المخافتة والجَهر؛ لِمَا ورَد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، قال: قَدِمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلَمَّا دَنونا من المدينة، كَبَّر وكبَّر الناس ورفعوا أصواتهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يا أيها الناس، إنَّ الذي تدعون ليس بأصمَّ ولا غائب))، وقالت عائشة - رضي الله عنها - في قوله - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ï´¾ [الإسراء: 110]؛ أي: بدعائك، وقد أثْنَى الله تعالى على نبيِّه زكريا - عليه السلام - فقال: ï´؟ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ï´¾ [مريم: 3]، وقال تعالى: ï´؟ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ï´¾ [الأعراف: 55].الخامس: ألاَّ يتكلَّف السجع في الدعاء؛ فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حالَ متضرِّعٍ، والتكلُّف لا يُناسبه، وقد يَصِل ذلك السجع إلى الاعتداء في الدعاء؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : ((سيكون قوم يَعْتَدون في الدعاء))؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، وقد قال - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ï´¾ [الأعراف: 55].قيل: معناه التكلُّف للأسجاع، والأَوْلَى ألاَّ يتجاوز الدعوات المأثورة، فإنه قد يتعدَّى في دعائه فيسأل ما لا تَقتضيه مصلحته، فما كلُّ أحدٍ يُحسن الدعاء؛ ولذلك رُوِي عن معاذ - رضي الله عنه -: "إنَّ العلماء يُحتاج إليهم في الجنة؛ إذ يقال لأهل الجنة: تمنَّوا، فلا يَدرون كيف يتمنَّون؛ حتى يتعلَّموا من العلماء"، وفي الخبر: سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطُّهور، ومَرَّ بعض السلف بقاصٍّ يدعو بسجعٍ، فقال له: أعَلَى الله تُبالغ؟ أَشْهَد، لقد رأيت حبيبًا العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيِّدين، اللهم لا تَفضَحنا يوم القيامة، اللهم وفِّقنا للخير، والناس يدعون من كلِّ ناحية وراءَه، وكلٌّ يعرف بركة دُعائه، وقال بعضهم: ادعُ بلسان الذِّلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق.ويُقال: إنَّ العلماء لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها، ويَشهد له آخر سورة البقرة، فإنَّ الله تعالى لَم يُخبر في موضع من أدْعية عباده أكثر من ذلك.وانتبه - أخي يا بن الإسلام - إلى أنَّ السجع المذموم هنا هو المتكلف؛ فإنه لا يلائم الضَّراعة والذِّلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازنة، لكنَّها غير متكلفة؛ كما روى الترمذي وقال: غريب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك الأمنَ يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقرَّبين الشهود، والرُّكع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم وَدُود، وإنَّك تفعل ما تريد))، وأمثال ذلك، فليقتصر على المأثور من الدعوات، أو ليلْتمس بلسان التضرُّع والخشوع من غير سجعٍ وتكلُّف؛ فالتضرُّع هو المحبوب عند الله.السادس: التضرُّع والخشوع والرغبة والرهبة؛ قال تعالى: ï´؟ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ï´¾ [الأنبياء: 90]، وقال تعالى: ï´؟ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ï´¾ [الأعراف: 55].السابع: أن يَجزم الدعاء، ويُوقن الإجابة، ويَصدق رجاؤه فيه؛ في الصحيحين قال - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا دعا أحدكم، فليَعزم في الدعاء، ولا يقل: اللهم إن شئتَ فأعطني؛ فإن الله لا مُستكرِه له))، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعا أحدكم، فليُعظم الرغبة؛ فإنَّ الله لا يتعاظمُه شيء))؛ رواه ابن حِبَّان.وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعْلموا أن الله - عزَّ وجلَّ - لا يَستجيب دعاءً من قلب غافل))؛ رواه الترمذي، وقال: غريب، قال سفيان بن عُيينة: لا يَمنعنَّ أحدَكم من الدعاء ما يعلم من نفسه؛ فإن الله تعالى أجابَ دعاءَ شرِّ الخَلْق إبليس - لعَنه الله - إذ قال: ï´؟ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ï´¾[الحجر: 36 - 37].الثامن: أن يُلِحَّ في الدعاء ويُكرِّره ثلاثًا؛ قال ابن مسعود: "كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا، دعا ثلاثًا، وإذا سأل، سأل ثلاثًا"؛ رواه مسلم، ولكن ينبغي ألاَّ يَستبطئ الإجابة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: ((يُستجاب لأحدكم ما لَم يَعْجَل، فيقول: قد دعوتُ، فلم يُستجَب لي))، فإذا دعوت، فاسأل الله كثيرًا؛ فإنك تدعو كريمًا، وقال بعضهم: إني سألت الله - عزَّ وجلَّ - منذ عشرين سنة حاجة، وما أجابني وأنا أرجو الإجابة، سألتُ الله أن يوفِّقني لترْك ما لا يَعنيني.التاسع: أن يفتح الدعاء بذِكر الله تعالى والثناء عليه، ثم بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يبدأ بالسؤال؛ قال سَلَمة بن الأكْوَع: "ما سَمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَستفتح دعاءً، إلاَّ استفتَحَه بقوله: ((سبحان ربي العَلِيِّ الأعلى الوهَّاب))"؛ رواه أحمد والحاكم، وفيه ضَعْفٌ.وأن يَختمَه كذلك؛ لحديث: ((كلُّ دعاءٍ محجوب حتى يُصَلي على النبي - صلى الله عليه وسلم))، وقد رواه البيهقي وحسَّنه الألباني، ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في صحيح سُنن أبي داود، قال أبو سليمان الداراني: "مَن أراد أن يسألَ الله حاجة، فليَبْدأ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل حاجته، ثم يَختم بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يَقبل الصلاتين، وهو أكرمُ من أن يَدَعَ ما بينهما".


العاشر: وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة: التوبة، وترْك المعاصي، ورَدُّ المظالِم، والإقبال على الله تعالى بكُنه الهِمَّة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة.يُروى عن كعب الأحبار أنه قال: أصاب الناسَ قحطٌ شديد على عهد موسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرَج موسى ببني إسرائيل يستقي بهم، فلم يُسْقَوْا، حتى خرَج ثلاث مراتٍ ولَم يُسْقوا، فأوحى الله - عزَّ وجلَّ - إلى موسى - صلى الله عليه وسلم -: إني لا أستجيب لك ولِمَن معك وفيكم نَمَّام، فقال موسى: يا رب، ومَن هو حتى نُخرجه من بيننا؟ فأوْحَى الله - عزَّ وجلَّ - إليه: يا موسى، أنهاكم عن النميمة وأكون نَمَّامًا؟! فقال موسى لبني إسرائيل: توبوا إلى ربِّكم بأجمعكم عن النميمة، فتابوا فأرْسَل الله تعالى عليهم الغيْثَ.وقال سفيان الثوري: بلغني أنَّ بني إسرائيل قُحِطوا سبع سنين؛ حتى أكلوا المَيتة من المزابل، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يَبكون ويتضرَّعون، فأوْحى الله - عزَّ وجلَّ - إلى أنبيائهم - عليهم السلام -: "لو مشيتُم بأقدامكم حتى تَحفى رُكبكُم، وتبلغ أيديكم عَنان السماء، وتكِلَّ ألسنتكم عن الدعاء، فإني لا أُجيب لكم داعيًا، ولا أرحم لكم باكيًا؛ حتى تردُّوا المظالم إلى أهلها، ففعلوا، فمُطِروا من يومهم".وقال مالك بن دينار: "أصاب الناس في بني إسرائيل قَحطٌ، فخرَجوا مرارًا، فأوْحَى الله - عزَّ وجلَّ - إلى نبيِّهم أنْ أخْبِرهم أنكم تخرجون إليّ بأبدان نَجِسة، وترفعون إليّ أكُفًّا قد سَفَكتم بها الدماء، وملأتُم بطونكم من الحرام، الآن قد اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تَزدادوا مني إلا بُعدًا".وقال أبو الصديق الناجي: خرَج سليمان - عليه السلام - يستقي، فمرَّ بنملة مُلقاة على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنَّا خَلْق من خَلْقك، ولا غِنى بنا عن رزقك، فلا تُهلكنا بذنوب غيرنا، فقال سليمان - عليه السلام -: "ارجعوا؛ فقد سُقيتم بدعوة غيركم".وقال الأوزاعي: "خرَج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد، فحَمِد الله وأثْنَى عليه، ثم قال: يا معشر مَن حضَر، ألستُم مُقِرِّين بالإساءة؟ فقالوا: اللهم نعم، فقال: "اللهم إنا قد سَمِعناك تقول: ï´؟ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ï´¾ [التوبة: 91]، وقد أقْرَرْنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلاَّ لِمثلنا؟ اللهم فاغْفِر لنا وارْحَمنا واسْقِنا، فرفَع يدَيه ورَفعوا أيديهم، فسُقوا". وقيل لمالك بن دينار: ادْعُ لنا، فقال: "إنَّكم تستبطئون المطر، وأنا أستبطِئ الحجارة".




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #48  
قديم 23-05-2020, 02:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة



عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان

(30)






محمود العشري


الوسيلة التاسعة والأربعون: التفريج عن المسلم، والتيسير عليه، وستره وعونه:
وكل واحدٍ من هذه عبادة مستقلة، وورَد في كلٍّ منها نصوصٌ خاصة تحثُّ عليه.
ففي الستر مثلاً يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النور: 19]، وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: ((لا يَستر عبد عبدًا في الدنيا، إلاَّ ستَره الله يوم القيامة))، والستر في الآخرة يكون - إن شاء الله - لأهل الجنة لا لأهل النار، وقد روى ابن ماجه وصحَّحه الألباني أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن ستَر عورة أخيه المسلم، ستَر الله عوْرته يوم القيامة، ومَن كشَف عورة أخيه المسلم، كشَف الله عوْرته؛ حتى يَفضَحه بها في بيته)).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من امرئ مسلم، يرى من أخيه عورة فيَسترها، إلاَّ أدخلَه الله بها الجنة))؛ رواه الطبراني في "الأوسط"، وضعَّفه الألباني بلفظ: ((لا يرى مؤمنٌ من أخيه عوْرةً فيَسترها عليه، إلاَّ أدخَله الله بها الجنة)).
وفي الحديث الذي حسَّنه الألباني، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن؛ كسوتَ عوْرته، وأشبَعتَ جوْعته، أو قَضيتَ له حاجة)).
وفي حديث عائشة الذي رواه أحمد وصحَّحه الألباني، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث أحْلِف عليهنَّ: لا يجعل الله - عزَّ وجلَّ - مَن له سهمٌ في الإسلام كمَن لا سهمَ له، فأَسْهُم الإسلام ثلاثة: الصلاة والصوم والزكاة، ولا يتولَّى الله - عزَّ وجلَّ - عبدًا في الدنيا فيُولِّيه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجلٌ قومًا إلاَّ جعَله الله - عزَّ وجلَّ - معهم، والرابعة لو حَلَفت عليها، رجوت ألاَّ آثَمَ: لا يَستر الله - عزَّ وجلَّ - عبدًا في الدنيا، إلاَّ ستَره يوم القيامة)).
ولكنيذكَرت هذه العبادات هنا جُملة؛ لأكتفي فيها بحديث واحدٍ، ثم ابْحَثْ أنت عن المزيد إن أردتَ المزيد، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((مَن نفَّس عن مؤمن كُربة من كُرَب الدنيا، فرَّج الله عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستَر مسلمًا، ستَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومَن سلَك طريقًا يلتمس فيه عِلمًا، سهَّل الله به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمَع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلاَّ نزلَت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة، وحَفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمَن عنده، ومَن بطَّأ به عمله، لَم يُسرع به نسبُه))، والحديث في صحيح مسلم.
وأخصُّ بالذِّكر من كلِّ هذا: قضاء حوائج المسلمين؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يَظْلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربة، فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن سَتر مسلمًا، ستَره الله يوم القيامة)).
فهلاَّ عَمِل كلُّ مسلم بتلك الوصيَّة النبوية الغالية المباركة، أم أنَّ أكثر الناس لا ينشغل إلاَّ بنفسه، ولسان حاله يقول: نفسي، نفسي.
أين الذين كانوا يمشون في حوائج إخوانهم رغبةً فيما عند الله؟! أين هذا الصِّنف الكريم العزيز الذين كان الله يَستعملهم لإدخال السرور والسعادة على المسلمين؟!
أسأل الله أن يُؤلِّف بين قلوب المسلمين، وأنْ يَجمع شَتاتهم، وأن يجعلَهم جميعًا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى.
كما أخصُّ أيضًا إقالة عثرة المسلم؛ ففيها من التفريج عن المسلم ما فيها، ولا سيَّما لو دخَل الندم إلى هذا المسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وصحَّحه الألباني: ((مَن أقال مسلمًا، أقال الله تعالى عَثْرته))، وفي رواية عند أبي داود: ((من أقال مسلمًا، أقاله اللهُ عَثْرتَه))، وزاد ابن ماجه - كما في فضائل الأعمال للمَقدسي -: ((يوم القيامة)).
فائدة:
الإقالة في اللغة: الرفع والإزالة، ومِن ذلك قولهم: أقال الله عَثرته، إذا رفعَه من سقوطه، ومنه: الإقالة في البيع؛ لأنها رفْع العقد، وهي في اصطلاح الفقهاء: رفْع العقد وإلغاء حُكمه وآثاره بتراضي الطرَفين.
وتجري الإقالة في العقود الملزمة، وأكثر ما تقع في البيع، وتكون مندوبة إذا ندِم أحدُ الطرفين، وشعَر بحاجته الماسَّة إلى الرجوع في العقد.
وتكون الإقالة بالإيجاب والقَبول الدَّالَّيْن عليها، وتتوقَّف في قَبولها على رضا الطرَفين.
الوسيلة الخمسون: كَظْم الغيظ، وتجنُّب الغضب:
فهذا من حُسن الخُلق في المعاملات، وهو مما يُدخِل الجنة، ففي الحديث الذي رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((مَن كظَم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يُخيِّره من الحُور العِين ما شاء)).
ومعلوم أنَّ أيَّ غضب تَصْحبه رغبة في الانتصار للنفس، قلَّ هذا الغضب أم كَبِر، ويَنتاب صاحب الغضب غيظٌ يدفعه للانتقام أو التشفِّي، قلَّ الغضب أم كَبر؛ ولهذا كان تجنُّب الغضب سببًا لكَظْم الغيظ؛ كما روى الطبراني - وقال الألباني: صحيح لغيره - أنَّ رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دُلَّني على عملٍ يُدخلني الجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَغضب ولكَ الجنة)).
الوسيلة الحادية والخمسون: كفَّارة المجلس:
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن جلَس في مجلس، فكَثُر عليه لَغَطُه، فقال قبل أن يقومَ من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمْدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرُك وأتوب إليك، إلاَّ غُفِر له ما كان في مجلسه ذلك))، والحديث رواه الترمذي، والحاكم، وصحَّحه الألباني.
وكثير من الناس يُكثرون في مجالسهم من اللغو واللغط، وعلى الرغم من ذلك، فإنه إذا أرادَ أن ينصرف، فإنه ينسى هذه الكلمات التي يَجعلها الله سببًا لمغفرة ذنوبه في هذا المجلس، فيا ليتنا نحفظ لسانَنا في مجالسنا، ولا ننسى دعاءَ كفارة المجلس؛ حتى نلقَى الله تعالى بصفحة بيضاء، خالية من الذنوب والأوْزار.
الوسيلة الثانية والخمسون:السعي على الأرملة والمسكين:
قال - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري: ((الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله))؛ قال الراوي: وأحسبُه قال: ((كالقائم لا يَفْتُر، وكالصائم لا يُفْطِر)).
الوسيلة الثالثة والخمسون: صلاة ركعتين بعد فعْل الذنوب:
إذا قدَّر الله وابتُليتَ بفعْل معصية غلبتْك نفسك عليها، فاهْرَع إلى الصلاة، وناجِ ربَّك، وتضرَّع إليه أن يغفرَ لك ويُعافيك؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود: ((ما من عبدٍ يُذنب ذنبًا، فيُحسن الطُّهور، ثم يقوم فيُصلي ركعتين، ثم يَستغفر الله، إلاَّ غفر له)).
الوسيلة الرابعة والخمسون: صيام النوافل:
أين مَن يَحرص على صيام النوافل من بعد رمضان؟! أين مَن يتَّبع هدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لَم يترك خيرًا إلاَّ دَلَّنا عليه، ولَم يترك شرًّا إلاَّ وحذَّرنا منه، ففي الصحيحين ومسند أحمد، وسُنن الترمذي قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صام يومًا في سبيل الله، بعَّد الله وجْهه عن النار سبعين خريفًا))، فحافِظْ - أخي يا بن الإسلام - على صيام النوافل، وهي كثيرة، ومن أهمها:
صيام الاثنين والخميس؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي، وصحَّحه الألباني: ((تُعرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم)).
ثلاثة الأيام البيض من كلِّ شهر مدرجة لخير الصيام؛ قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري: ((صوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر صومُ الدَّهر كله))، وقال لابن عمرو - كما في الصحيحين -: ((صُمْ من كلِّ شهر ثلاثة أيام؛ فإنَّ الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر)).
ويُسْتَحبُّ أن تكون أيام: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَرٍّ: ((يا أبا ذَر، إذا صُمْتَ من الشهر ثلاثة أيام، فصمْ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخَمس عشرة))، والحديث رواه الترمذي والنسائي، وصحَّحه الألباني، وقال - كما عند النسائي وأبي يَعْلى، وحسَّنه الألباني -: ((صيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر صيام الدهر، وهي أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة)).
فاجتهدْ أن تصوم في بقيَّة عُمرك ولو ثلاثة أيام من كلِّ شهر؛ فإن لهم أجرًا عظيمًا عند الله -تعالى.
يوم عرفة لغير الحاج؛ قال - صلى الله عليه وسلم - كما روى مسلم: ((صيام يوم عَرَفة يُكَفر السنة الماضية والباقية))، وعند الترمذي، وابن حِبَّان، وصحَّحه الألباني: ((صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله)).
يوم عاشوراء ويوم قبله؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: ((صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))، وأمَّا عن اليوم الذي قبله، فدليله ما قاله ابن عباس حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء، وأمَر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تُعَظِّمه اليهود والنصارى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صُمنا اليوم التاسع))، قال: فلمْ يأتِ العام المُقبل حتى توفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث في صحيح مسلم وسُنن أبي داود، وصحَّحه الألباني.
ست من شوال؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: ((مَن صام رمضان، وأتْبَعه بستٍّ من شوال، كان كصوم الدهر))، وقال - صلى الله عليه وسلم - كما عند أحمد والنسائي، وصحَّحه الألباني: ((صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعده بشهرين، فذلك صيام السنة)).
واعلم أنه يجوز صيام هذه الأيام السِّتة من شوال مُتتابعة أو متفرِّقة في أيِّ أيام الشهر، عدا اليوم الأوَّل وهو يوم عيد الفطر؛ فإنه يَحرُم صيامُه.
صيام شعبان؛ ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمَل صيام شهر قطُّ، إلاَّ شهر رمضان، وما رأيتُه في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان".
صيام أكثر المحرَّم؛ قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)).
ولعلَّه يُشكل على ذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر ما يصوم في شعبان، فلماذا لَم يَصُم في المحرَّم مثلما كان يصوم في شعبان؟!
أجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة؛ منها: ما قاله النووي: لعلَّه لَم يَعلم فضْل المحرَّم إلا في آخر الحياة، قبل التمكُّن من صومه، أو لعلَّه كان يَعرِض فيه أعذارٌ تَمنع من إكثار الصوم فيه، كسفرٍ أو مرض، ومنها: ما ذهَب إليه ابن رجب من أن التطوُّعَ بالصوم نوعان:
الأول: التطوُّع المُطلق، فهذا أفضله المحرَّم، كما أنَّ أفضل التطوع المطلق في الصلاة قيام الليل، والثاني: ما كان صومه تَبَعًا لصيام رمضان قبله أو بعده، فهذا مُلتحق بصيام رمضان، وصيامه أفضل من التطوع مُطلقًا، كالسُّنن الرواتب، فهي أفضل من السُّنن المطلقة.
صيام يوم وفطر يوم؛ ففي الصحيحين: ((أحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا)).
عشر ذي الحِجة؛ فعند أبي داود والنسائي عن هُنَيْدة بن خالد عن امْرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحِجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كلِّ شهر، وأوَّل اثنين من الشهر والخميس"، والحديث صحَّحه الألباني.
وهنالك احْرص على السَّحُور متأخِّرًا وعجِّل الإفطار، واحْرِص على أن يصومَ معك أهل البيت، وشجِّعهم على ذلك، واجْتمِعوا على الإفطار والسحُور، واحْرِص كذلك على إفطار الصائم، ادْعُ غيرَك إلى الصيام، وفطِّر الصائمين.
تنبيه: فيما يتعلَّق بصوم رجب:
لَم يَثبت فضيلة الإفراد لصوم شهر رجب، ولا صيام أيَّام منه، بل صيامه كباقي الشهور؛ مَن كان له عادة بصيام، فهو على عادته، ومَن لَم يكن له عادة، فلا وجْه لتخصيص صومه، ولا صوم أوَّله، ولا ليلة السابع والعشرين منه بصومٍ، بل ثبَتَ عن عمر النهي عن ذلك؛ فعن خَرَشَة بن الحُرِّ، قال: "رأيتُ عمر يَضرِب أكفَّ الناس في رجب، حتى يضعوها في الجِفان، ويقول: كُلوا؛ فإنما هو شهر تعظِّمه الجاهليَّة"؛ رواه ابن أبي شَيبة، وصحَّحه الألباني، قال الألباني: "إن نَهْيَ عمر عن صوم رجب - المفهوم من ضرْبه للمترجِّبين - ليس نَهْيًا لذاته، بل لكيلا يلتزموا صيامه ويُتِمُّوه، كما يفعلون برمضان"، قال ابن قدامة: "ويُكْرَه إفرادُ رجب بالصوم".
وثَبَتت كَراهة صومه عن ابن عباس وأبي بَكْرة، وأنس وغيرهم، وأمَّا حديث: ((صُمْ من الحُرُم واترُك))، فهو حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وضعَّفه الشيخ الألباني، فلا يصحُّ الاحتجاج به، وإن صحَّ، فليس فيه دليلٌ على تخصيص رجب بصوم، وعلى هذا فيجوز الصيام في رجب إذا وافَق له عادة بصيامٍ، وأمَّا إن خَصَّه أو اعتقَد أنَّ لصيامه فضيلةً خاصة، فهذا لا دليلَ عليه، والله أعلى وأعلم.
الوسيلة الخامسة والخمسون:حفظ اللسان والفَرْج وغَض البصر:
وكذلك ستْر العورة، والحَذَر من الاختلاط، ومسِّ الأجنبيَّات، والحديث معهنَّ فيما لا حاجة فيه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ [النور: 30]، وسأل عبدالله بن عمرو بن العاص النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، عَوراتنا ما نأتي منها وما نذَر؟ قال: ((احفَظ عورتك إلاَّ من زوجتك أو ما مَلَكت يمينُك))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إنِ استطَعت ألاَّ يَرَيَنَّها أحدٌ، فلا يَرَيَنَّهَا))، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: ((الله أحقُّ أن يُستَحْيَى منه من الناس))؛ والحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وحسَّنه الألباني، وروى الطبراني في الكبير وصحَّحه الألباني: ((لأن يُطعَنَ أحدكم بِمِخْيَط من حديد، خيرٌ له من أن يَمسَّ امرأة لا تَحِلُّ له)).
وفي الصحيحين: ((لا يخلوَنَّ رجل بامرأة، إلاَّ ومعها ذُو مَحْرم، ولا تسافر المرأة إلاَّ مع ذي مَحْرم))، وفي الصحيحين: ((كُتِب على ابن آدمَ نصيبُه من الزنا، مُدْرِكٌ ذلك لا مَحالة، فالعينان زناهما النظر، والأُذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البَطش، والرِّجل زناها الخُطى، والقلب يهوى ويتمنَّى، ويُصدِّق ذلك الفرجُ أو يُكَذِّبه))، وفي رواية: ((واليد زناها اللمس)).
وهذا الباب من أعظم أبواب فساد القلوب؛ أعني: إطلاق البصر وعدم حِفظ الفرْج، فهو من أقصر طُرق إبليس لتحقيق غرضه في إفساد القلوب، وباب الشهوة الجنسيَّة من أسباب عمى القلب، نسأل الله العافية.
وحِفظ الفَرْج يكون عمَّا حرَّمه الله عليه؛ سواء من الزنا، أو اللواط، أو الاستمناء، أو الجِماع في الدُّبر، أو القُبُل في زمان الحيْض، أو غير ذلك؛ إذ كلُّ تفريغ للشهوة في غير الموضع الذي أحلَّه الله، وبغير الطريقة التي شرَعها، حرامٌ ينبغي حِفْظ الفرج عنه؛ للفوز بالثواب العظيم الذي ذكَره النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحديث المتفق عليه: ((مَن يَضْمن لي ما بين لِحييه وما بين رِجليه، أضمَنْ له الجنة)).
وحِفظ اللسان يكون من المحرَّمات التي يكون آلتَها؛ كأكل الحرام، والغيبة والنميمة، والقذف والسَّب واللعن، وكل ما حُرِّم من الكلام، فلا تتكلم إلاَّ بالخير، وإلاَّ فاصْمُت، واحْذَر من كَثرة الضَّحك والمُزاح، ومن آفات اللسان جميعها؛ قال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليَصْمُت))؛ والحديث في الصحيحين.
وهذه الوسيلة تجرُّنا إلى الكلام عن بعض آداب اللسان، فاللسان هو المترجم لِمَا حواه الجَنان، يزرع بقوله الحسنات والسيئات، اللسان هو وزير البَدن، والقلب هو الملك، وبصلاحهما يصلح البَدن، وبفسادهما يفسد البدن، بكلمة يدخل المرء دينَ الإسلام، وبكلمة يخرج منه، وبكلمة يَنال رضوان الله، وبكلمة يستحقُّ سَخطه.
فمن آداب اللسان:
1- حِفظ اللسان، واجتناب فضول الكلام؛ فأكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة أكثرُهم كلامًا في معصية الله تعالى.
2- عدم الخوض في الباطل؛ قال الربيع بن خُثَيْم - رحمه الله -: "لا خيْرَ في الكلام إلاَّ في تسع: تهليل وتكبير، وتسبيح وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوُّذك من الشرِّ، وأمْرك بالمعروف ونَهْيك عن المنكر، وقراءتك للقرآن".
3- اجتناب الفُحش والبذاءة؛ فـ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان، ولا الفاحش ولا البذيء))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
4- اجتناب اللعن، والتقعُّر في الكلام.
5- صِدق الأقوال والأفعال، فينبغي على المسلم أن يقول الصِّدق، ويتحرَّاه في كل أقواله وأفعاله، ويَجتنب الكذب؛ لأنه لا يَليق بالمؤمن أن يكون كذَّابًا.
6- ترْك السُّخرية والاستهزاء، وترك الغيبة - وهي ذِكر أخيك المسلم بما يَكره - وترْك النميمة - وهي نقْل الكلام بين المسلمين بقَصْد الضَّرر وإفساد ما بينهم، وقطْع الصِّلة - وإنْ أتاك النمَّام، فعليك بستة أمور:
ألاَّ تُصَدِّقه؛ لأن النمَّام فاسقٌ، فيكون مَردود الشهادة.
أنْ تَنهاه عن ذلك؛ لأنَّ النهي عن المنكر واجبٌ؛ قال الإمام الشافعي- رحمه الله -: "قَبول السعاية أضرُّ من السِّعاية؛ لأنَّ السعاية دَلالة، والقَبول إجازة، وليس مَن دلَّ على شيء كمَن قَبِل وأجَاز، والساعي ممقوت إذا كان صادقًا؛ لهَتْكه العوْرة، وإضاعته الحُرمة، ومعاقَب إن كان كاذبًا؛ لمُبارزته الله بقَبول البُهتان وشهادة الزور.
أن تبغضه في الله تعالى؛ فإنه عاصٍ، وبُغض العاصي واجبٌ.
ألاَّ تظنَّ بأخيك الغائب ظنَّ السوء؛ فإن إساءةَ الظنِّ بالمسلم حرامٌ.
ألاَّ تتجسَّس عن أمْره؛ فإن الله تعالى نَهَى عن التجسُّس.
ما لا ترضى من هذا النمَّام، فلا تفعله أنت، وهو ألاَّ تُخبر أحدًا بما أتاك به هذا النمَّام.
7- الذَّب عن أعراض المسلمين؛ ففي الحديث الحسن عند أبي داود: ((مَن حَمى مؤمنًا من منافق - أُرَاه قال: - بعَث الله ملَكًا يَحمي لَحمه يوم القيامة من نار جهنَّم، ومَن رمى مسلمًا بشيء يُريد شَيْنَه به، حَبَسه الله على جسْر جهنَّم، حتى يَخرج مما قال)).
8- شُكر المعروف باللسان.
9- التقليل من المُزاح؛ فإن مَن كَثُر كلامه وضَحِكُه ومُزاحه، قلَّت هيْبَته، ومَن أكْثر من شيء، عُرِف به.
10- استعمال اللسان في الإصلاح بين المتخاصمين.
11- قلة الكلام فيما لا يفيد، وتدبُّر الكلام قبل النُّطق به؛ قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - لرجل قد بعَثه في حاجة: "إيَّاك وكلَّ أمْر تريد أن تعتذرَ منه، وإذا أردْتَ أن تتكلَّم بكلامٍ، فانظُر فيه قبل أن تتكلَّم، فإن كان لك، فتكلَّم به، وإن كان عليك، فالصمُت عنه خيرٌ لك".
12- ترْك ما لا يَعنيه؛ فذلك من حُسن إسلام المرء؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
وغَضُّ البصر يكون عن النظر إلى الحرام عمومًا، وإلى النساء على وجْه الخصوص؛ فإن النظر سهمٌ مسموم من سهام إبليس، ورُبَّ سهمٍ يقتل؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30 - 31]، وفي حديث: "حق الطريق" المُتفق عليه، لَمَّا سُئِل - صلى الله عليه وسلم -: وما حقُّه يا رسول الله؟ قال: ((غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، ورَدُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
الوسيلة السادسة والخمسون: إماطة الأذى عن الطريق:
قال - صلى الله عليه وسلم -فيما رواه مسلم: ((لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنة؛ في شجرة قطَعها من ظهر الطريق كانتْ تؤذي الناس)).
يا ألله، والله ما أسهل الجنة! ومشهور حديث: ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة))، والأذى في الطريق عام في كلِّ ما يؤذي؛ من حَجَرٍ أو شجر، أو شوْك أو قشور، تؤذي المارَّة، أو أغانٍ أو متبرِّجات، أو غير ذلك، فيدخل في إماطة الأذى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالضوابط الشرعيَّة.
وهكذا يكون المسلم صاحب القلب الرحيم الذي يخشى على مَن حوْله أن يُصيبَهم أيُّ نوع من أنواع الأذى، بل ويُسارع إليهم بكلِّ معروف وإحسان، وهذه هي أخلاق المسلمين والإسلام.
وفيصحيح الجامع الصغير: ((مَن أخرَج من طريق المسلمين شيئًا يُؤذيهم، كتَب الله له به حسنةً، ومَن كتَب له عنده حسنة، أدْخَله بها الجنَّة)).
فأكْثِر أخي الحبيب من إماطة الأذى الذي مُلِئت به طُرق المسلمين، لتَكْثُر صدقاتُك، فلعلَّ الله يُدخلك الجنة بها، كالرجل الذي ذكَره - صلى الله عليه وسلم - في الحديث.
وهذه الوسيلة - يا بن الإسلام - أحد آداب الطريق، والطريق هو المكان الذي يسير الناس فيه، ويَلتقون فيه، ويَصِلون من خلال عبوره والسَّيْر فيه إلى بيوتهم، فيشمل السوق وغيره.
وقد اهتمَّ الإسلام الحنيف بالطريق، حتى جعَل إماطة الأذى عنه شُعبة من شُعَب هذا الدين القويم؛ كما في صحيح مسلم، لكن واأسفاه على شباب العصر، الذين أصبَحوا يتسكَّعون في الطُّرقات، أصبحنا نرى كثيرًا منهم يسير ليلاً ونهارًا في عَرْض الطرقات، يسيرون دون حياءٍ أو أدب أو أخلاقٍ، وكأنَّ ماء الفضيلة لَم يَجْرِ في عروقهم، أصبح لا يَحلو لهم إلاَّ أن يَجلسوا على قارعة الطريق، ويدَّعون بأنَّ هذه هي المدَنيَّة؛ نسأل الله أن يَهْدينا ويَهدي شباب المسلمين.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #49  
قديم 23-05-2020, 02:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

ومن الأدب في الطريق:
1- ألاَّ تخرج إلى الطريق إلاَّ لحاجة؛ قال - صلى الله عليه وسلم - لِمَن سأله عن النجاة: ((أمْسِك عليك لسانك، وليَسَعْك بيتك، وابْكِ على خطيئتك))، والحديث في صحيح سُنن الترمذي.
2- إذا اضطُرِرتَ إلى الخروج من بيتك، فعليك بغَضِّ البصر وكَفِّ الأذى، ورَدِّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما في حديث "حق الطريق" الذي رواه البخاري، وهذه الآداب الأربعة أصول الدين الحنيف، وهي مُناسبة لذَوي الفِطَر السليمة والمناهج القويمة، ولعلَّ معظم مآسي الذنوب والمعاصي تقع نتيجة مُخالفة هذه الأوامر، ولو الْتَزَم الناس تلك الآداب الأربعة على الأقل، لبَقِيَت شوارعنا على أصل الطهارة.
3- مساعدة المحتاجين، وإرشاد الضالين.
4- عدم شَغْل الطريق، أو إيذاء الناس وتعطيل مصالحهم.
5- المحافظة على نظافة الطريق بعدم إلقاء النفايات والأوساخ والنجاسات في ممرَّات الناس ومَجالسهم، وتجنُّب إلقاء الفضلات أو القاذورات أو غيرها، فلا تَبصق في الأرض، ولا تُلْقِ بالمناديل المستعملة أو بقايا الطعام في الطرقات والأماكن العامَّة.
6- تجنُّب الطرق المزدحمة - مثل: الأسواق وغيرها - بقدْر الإمكان، والإسراع في اجتيازها عند الضرورة، والحِرص على الْتِزام ذِكْر الله تعالى أثناء ذلك؛ لأنَّ ذِكْر الله في أماكن الغفلة له فضيلة عظيمة.
7- أن يَمشي متواضعًا.
8- الالتزام بأدب المشي، مثل: عدم الالتفات الكثير، وأن يُسَلِّم على القاعد إذا مرَّ به، وتجنُّب المِشْيات المذمومة، وينبغي أن تَمشي المرأة إلى جانب الطريق، ولا تَضرب المرأة برِجلها، ولا تخرج عمومًا مُتزيِّنة أو متعطِّرة.
9- أن تَحلُم على الناس، ولا تَجهل عليهم وإن جَهِلوا عليك، وتَصبر على أذاهم.
10- تجنُّب رفْع الصوت؛ سواء كان ذلك في البيع والشراء، أو مرورًا بالسيارات، أو تشغيل مُكَبِّرات الصوت في الأفراح، وغير ذلك مما يؤذي المسلمين.
11- تجنُّب الأكل في الطُّرقات؛ لأنه مُخِلٌّ بالمُروءة، والمروءة: اجتناب الرجل ما يَشينه، واجتناؤه ما يَزينه، ولا مُروءة لِمَن لا أدبَ له، ولا أدبَ لِمَن لا عقْلَ له، ولا عقْلَ لِمَن ظنَّ أن في عقْله ما يُغنيه ويَكفيه عن غيره.
12- رفْع الأطعمة وفُتات الخُبز عن قارعة الطريق، وإبعاد الأوراق التي فيها أسماء كريمة أو كلمات قرآنية عن ممرَّات الناس، ولا مانعَ من حَرْقها؛ لصونها من العَبَث، وتعظيمًا لاسم الله تعالى وكلامه.
وعموم الأدب أنَّ المسلم لا يوجد خارج بيته قدْر ما أمكن؛ ليتفرَّغ لعبادة الله تعالى، وإنْ خرَج، كان مشغولاً بذِكر الله تعالى، حريصًا على طاعته - عزَّ وجلَّ - فالْزَم الأدبَ.
الوسيلة السابعة والخمسون: تربية البنات وإعالتهن:
أبشر يا من رُزِقت بالبنات، ورَضِيت برِزق الله لك، وحَمدته وشكَرته، وقُمت بما أوْجبه عليك من حُسن التربية لهنَّ، وإعدادهنَّ إعدادًا جيدًا؛ ليكونوا أُمَّهات المستقبل في بيوت الإيمان.
أبْشِر يا هذا بقول حبيبك - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد بسند جيِّد: ((مَن كُنَّ له ثلاث بنات يؤويهنَّ ويرحمهنَّ ويَكفلهنَّ، وَجَبت له الجنة)).
الوسيلة الثامنة والخمسون: الإحسان إلى الحيوان:
إن دين الإسلام يمتاز باهتمامه بالأخلاق الحسنة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعْثِت لأُتَمِّم مكارم الأخلاق))، وقد كَتب الله الإحسان على كلِّ شيء، فأحْسِن يُحْسِنِ الله إليك.
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ
فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ


ولا يَقتصر الإحسان على ذلك، بل يمتدُّ إلى كلِّ ما حوْلك، حتى الحيوان؛ فقد ذكَر - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ رجلاً رأى كلبًا يأكل الثَّرى من العطش، فأخَذ الرجل خُفَّه، فجعَل يَغرِف له به، حتى أرْواه، فشكَر الله له فأدْخَله الجنة"؛ كما في البخاري، قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم أجرًا؟ قال: ((في كل كبدٍ رَطْبة أجر)).
وفي الصحيحين: ((بينما كلْب يُطيف بِرَكِيَّةٍ كاد يَقتله العطش، إذ رأتْه بَغِيٌّ من بَغايا بني إسرائيل، فنَزَعت مُوقَها فسقَتْه، فغُفِر لها به))، وفي المقابل: ((دخَلت امرأة النار في هِرَّة حبستْها، فلا هي أطعمتْها، ولا هي ترَكتْها تأكل من خَشاش الأرض))؛ كما في الصحيحين.
الحيوانات خَلْق من خَلْقِ الله تعالى، سخَّرها لخدمة الإنسان ولإعانته على طاعة الله تعالى، وأيضًا من عِلَّة تسخيرها له إعانته على عمارة الأرض، وتيسير قضاء الحوائج.
ومن الأدب في التعامل مع الحيوان:
1- إطعامها وسقيها إذا جاعَت وعَطِشت.
2- رحمتها والإشفاق عليها، وعدم إيذائها، فإن كان لكَ شوقٌ إلى الرحمة من الله تعالى، فكنْ رحيمًا لنفسك ولغيرك، ولا تستبدَّ بخيرك؛ فارْحَم الجاهل بعِلْمك، والذليل بجَاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشَفَقتك ورأْفتك، والعُصاة بدعوتك، والبَهائم بعَطفك ورفْع غضبك؛ فأقربُ الناس من رحمة الله تعالى أرحمُهم لخَلْقه.
3- ألاَّ يَحول بين الحيوان وبين ولَده إلاَّ لضرورة؛ فـ((مَن فرَّق بين والدة وولدها، فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
4- إراحتها عند ذَبْحها أو قتْلها؛ كما في صحيح مسلم.
5- عدم إيذائها أو تعذيبها بأيِّ نوعٍ من أنواع العذاب.
6- عدم لَعْن الدواب.
7- عدم وَسْم الحيوان في وجْهه، أو ضَرْبه عليه؛ فالضرب على الوجْه مَنهيٌّ عنه في كلٍّ أحد - الإنسان والحيوان - لكنَّه في الآدمي أشدُّ؛ لأن الوجْه مَجمع المحاسن، ولأنه يَظهر فيه أثر الضَّرْب، ورُبما شَانَه، ورُبَّما آذى بعضَ الحواس.
8- عدم تعليق الأجراس في رقبتها؛ فـ((لا تَصْحب الملائكة رُفْقةً فيها كلْبٌ ولا جَرَس))؛ كما روى مسلم.
9- عدم الوقوف على الدابة؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في الحديث الصحيح في المسند.
10- يجوز ركوب أكثر من واحدٍ على الدابة، إن عُلِم قوة تحمُّلها لذلك؛ فقد رَكِب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرْدَف خلفه ابن عباس - رضي الله عنه.
11- جواز قتل المؤذي منها؛ مثل: الكلب العقور، والذئب، والحيَّة، والفأر، وغير ذلك.
12- معرفة حق الله تعالى فيها؛ بأداء زكاتها مما يُزكَّى.
13- عدم التشاغل بها عن طاعة الله تعالى، أو اللهو بها عن ذِكره - عزَّ وجلَّ.
14- ألاَّ يُحمِّل الدوابَّ فوق طاقتها.
فاجتهد أخي الحبيب - يا بن الإسلام - في تحرِّي الإحسان في معاملاتك كلِّها، وضْع نُصْب عينيك قولَ الله: ï´؟ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [البقرة: 195].
الوسيلة التاسعة والخمسون:طاعة المرأة لزوجها وتواضعها له:
إذا كانت المرأة تُشارك الرجل في كلِّ الأحكام التي لَم يَرِد فيها نصٌّ بالتخصيص، فإنه قد جاءَت أحاديث تروي لها كثيرًا من الفضائل، ومن أجمل هذه الأحاديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حِبَّان، وابن ماجه، وصحَّحه الألباني: ((إذا صلَّت المرأة خَمْسها، وصامَت شهرها، وحصَّنت فرْجَها، وأطاعَت بَعْلها، دخَلَت من أي أبواب الجنة شاءَت)).
ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا أُخبركم برجالكم من أهل الجنة: النبي في الجنة، والصدِّيق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه من ناحية المصر لا يزوره إلاَّ لله، ونساؤكم من أهل الجنة: الودود، الولود، العؤود على زوجها، التي إذا غَضِبت جاءَت حتى تضع يدَها في يد زوجها، وتقول: لا أذوق غمضًا حتى ترْضَى))؛ رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني.
فهيَّا يا نساء المسلمين، هَلْمُمْنَ إلى جنة عَرْضها السموات والأرض، حتى ولو أغضَبكن أزواجكن، فلله ثم للجنة أَرْضِينهم، واحْذرن من إغضابهم؛ فأيُّما امرأة باتَت وزوجها غضبان عليها، باتَت تَلعنها الملائكة، وفي المقابل: ((أيُّما امرأة باتَت وزوجها عنها راضٍ، دخَلَت الجنة))؛ رواه الترمذي، وقال: حسنٌ.
فاجْتَهِدْنَ يا نساء الإسلام في إرضاء الأزواج؛ فإنَّ حقَّهم عليكنَّ كبيرٌ؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ، لأمرْتُ المرأة أن تسجدَ لزوجها))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
ولكن لا يكون ذلك على حساب دينك أُخيَّتي، وإلاَّ فمَن أرضى الناس بسَخَطِ الله، سَخِط الله عليه، وأسْخَط عليه الناس، فاسترضِ زوجَكِ كلَّ ليلة، فلعلَّها تكون آخرَ ليلة لكِ في الدنيا، فيَبيت راضيًا عنكِ، فتَدخُلين الجنة - إن شاء الله تعالى.
الوسيلة الستون: زيارة الإخوان في الله:
فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أُخبركم برجالكم من أهل الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يَزوره إلاَّ لله، في الجنة))؛ رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني.
وذكَر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرْصَد الله على مدرجته - طريقه - مَلَكًا، فلمَّا أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها - تقوم بها وتسعى في صلاحها -؟ قال: لا، غير أني أحببْتُه في الله، قال: فإني رسول الله إليكَ، بأنَّ الله قد أحبَّك لِمَا أحببْتَه فيه؛ والحديث رواه مسلم.
معنى الزيارة في الله: أن تكون في طاعته - سبحانه - فيجعل برنامجًا للزيارة في مَرضاة الله تعالى من قراءة قرآن، ودراسة علْمٍ، وتناصُح، ونحو ذلك من طاعة الله - عزَّ وجلَّ.
الوسيلة الحادية والستون: النظر في خَلْق السموات والأرض:
مع التفكُّر والاهتمام بالعبادات القلبيَّة، كحب الله، أو الخوف منه، ورجاء رحمته، والشوق إليه، والتفكُّر في آثار أسمائه وصفاته، وحُسن التوكُّل عليه، والتضرُّع والتذلُّل والانكسار بين يديه؛ قال تعالى: ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ï´¾ [آل عمران: 190 - 191]، وقال - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآيات: ((ويلٌ لِمَن قرَأها ولَم يتفكَّر فيها))؛ كما في صحيح ابن حِبَّان عن عائشة، وصحَّحه الألباني.
الوسيلة الثانية والستون:عليك بمصاحبة الصالحين وأهل الخير، وإيَّاك وصُحْبة الفُجَّار وأهل السوء:
قال تعالى: ï´؟ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ï´¾ [الكهف: 28]، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المُتفق عليه: ((إنَّ مَثَلَ الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المِسْك ونافخ الكِير؛ فحامل المسك؛ إمَّا أن يُحْذِيَكَ، وإمَّا أن تَبتاع منه، وإمَّا أن تجدَ منه ريحًا طيبة، ونافخ الكِير؛ إمَّا أن يَحرِقَ ثيابك، وإمَّا أن تجد منه ريحًا مُنتنة))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((المَرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم مَن يُخَالِل))، وقال: ((يُحْشر المرءُ مع مَن أحَبَّ))؛ فابْحث عن العلماء والصالحين والدُّعاة المؤمنين، والْتَفَّ حولهم؛ فإنَّ ذلك يُعينك ويُثبِّتك، فهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه، وابن أبي عاصم، وحسَّنه الألباني: ((إنَّ من الناس ناسًا مفاتيحَ للخير، مَغاليقَ للشرِّ))، فالْزَمْهم، وعِشْ في أكنافهم، وإيَّاك والوَحْدة، فتَتَخَطَّفك الشياطين؛ فـ: ((إنَّما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ)).
الاعتزال عن الشر وقُرناء السوء، والخَلوة مع النفس بين حين وآخر؛ للتفكُّر فيما أنت مُقبل عليه؛ قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: ï´؟ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ï´¾ [مريم: 48].
الوسيلة الثالثة والستون:أكْثِر من الدعاء لنفسك ولإخوانك بخيرَي الدنيا والآخرة:
الدعاء سلاح المؤمن، وهو من أقوى الأسباب في دفْع المكروه وحصول المطلوب، والدعاء هو العبادة، والعبادة هي التذلُّل والخضوع.
الدعاء إظهار افتقار وحاجة، وتذلُّل من العبد الفقير الضعيف الذي لا يَملِك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا إلى الله تعالى القادر على جَلْب جميع المنافع، ودَفْع جميع المضارِّ، والذي إذا أعطى الأوَّلين والآخرين جميعَ مطالبهم، وحقَّق لهم جميع مآرِبهم، لا ينقص ما عنده، بل إنه - سبحانه -يَغضب من عبده إذا لَم يسأَلْه حاجته؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في صحيح سُنن الترمذي: ((مَن لَم يسألِ الله، يَغْضَبْ عليه)).
فليس للعبد مُعين على مصالح دينه ودنياه إلاَّ الله تعالى، فمَن أعانه فهو المُعان، ومَن خذَله فهو المخذول، واعْلَم - يا بن الإسلام - أنه لا واسطة بينك وبين مولاك؛ فإذا أردتَ أن تدعوه، فبابه مفتوح: يُجيب السائلين، ويُعطي المحرومين: ï´؟ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ï´¾ [البقرة: 186].
يا بن الإسلام، يقول الله تعالى: ï´؟ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ï´¾ [محمد: 19]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((ما من عبدٍ مسلم يدعو لأخيه بظَهْر الغيب، إلاَّ قال الملك: ولك بمثله)).
يا ألله، ما أعظم هذا الحديث! الملك يدعو لك، فإذا ما أردتَ أخي يا بن الإسلام شيئًا، فادْعُ به لأخيك الذي أحببتَه في ربِّك، وصارَت شريعة الله هي حَبْلَ الوصال الأوَّل بينكما، ادْعُ له بالذي تريده؛ لتحصِّل دعاء الملك لك، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة، وعلى كلِّ النِّعم.
سبحان الله، أين القلوب التي اجتمَعت على الحب في الله؟! أين الأُخوَّة الصادقة؟! أين المحبَّة التي لا يَشوبها شيء من المصالح والمنافع الدنيويَّة؟!
أين أصحاب القلوب التقيَّة النقيَّة، الذين يحبون إخوانهم لله، ويُحبون لهم الخير كما يحبونه لأنفسهم، فيدعون لهم بظَهْر الغيب، فيُسخِّر الله لهم ملكًا كريمًا ليدعو لهم؛ ففي صحيح مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن دعا لأخيه بظهْر الغيب، قال الملك الموكَّل به: آمين، ولك بمثله)).
ومن آداب الدعاء:
1- الإخلاص لله تعالى.
2- حضور القلب في الدعاء واليقين في الإجابة.
3- الدعاء في الرَّخاء والشِّدة؛ فـ: ((مَن سرَّه أن يَستجيبَ الله له عند الشدائد والكُرَب، فليُكثر الدعاء في الرَّخاء))؛ كما في صحيح سُنن الترمذي.
4- لا يسأل إلاَّ الله تعالى وَحْده.
5- عدم الدعاء على الأهل والمال والولد.
6- الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، والاعتراف بالنعمة وشُكْر الله عليها، والثناء بها قبل الدعاء.
7- الوضوء قبل الدعاء إن تيسَّر.
8- الحَذَر من الاعتداء في الدعاء.
9- أن يتوسَّل إلى الله تعالى بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى، أو بعمَلٍ صالحٍ قام به الداعي نفسه، أو بدعاء رجل صالح حيٍّ حاضرٍ له.
10- أن يكون المطعم والمشرب والملبس من حلال؛ لأن أكْل الحرام من موانع الإجابة ولو تحرَّى الداعي الأسباب الأخرى؛ كما في حديث "الأشعث الأغبر" في صحيح مسلم.
11- لا يدعو بإثم ولا قطيعة رحمٍ.
12- أن يجعل الداعي كفَّ يده لأعلى.
13-أن يقدِّم الداعي عملاً صالحًا؛ ليكون ذلك وسيلة إلى الإجابة.
وسائل تحصيل ثمرة الدعاء:
الأول: أن يترصَّد لدعائه الأوقات الشريفة، كيوم عرَفة من السنة، ورمضان من الأشهر، والجمعة من أيام الأسبوع، ووقت السَّحر من ساعات الليل؛ قال تعالى: ï´؟ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ï´¾ [الذاريات: 18]، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((ينزل الله تعالى كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثُلُث الليل الأخير، فيقول - عزَّ وجلَّ -: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأُعْطيه، من يستغفرني فأغْفِر له))؛ والحديث مُتفق عليه.
وقيل: إن يعقوب - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: ï´؟ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ï´¾ [يوسف: 98]؛ ليدعو في وقت السَّحر، فقيل: إنه قام في وقت السحر يدعو وأولاده يؤَمِّنون خلفه، فأوْحى الله - عزَّ وجلَّ - إني قد غَفَرت لهم، وجعلتُهم أنبياءَ.
الثاني: أن يَغتنم الأحوال الشريفة؛ قال أبو هريرة: "إنَّ أبواب السماء تُفتح عند زحْف الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيْث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، فاغتنموا الدعاء فيها"، وقال مُجاهد: "إنَّ الصلاة جُعِلت في خير الساعات؛ فعليكم بالدعاء خلف الصفوف"، وروى أبو داود، والنسائي، والترمذي وحسَّنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ))، وروى الترمذي وحسَّنه: ((الصائم لا تُرَدُّ دعوته))، وفي الحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضًا؛ إذ وقت السَّحر وقتُ صفاء القلب وإخلاصه، وفراغه من المهوِّشات، ويوم عرفة ويوم الجمعة وقتُ اجتماع الهم، وتعاون القلوب على استدرار رحمة الله تعالى، فهذا أحد أسباب شرف الأوقات سوى ما فيها من أسرار لا يُطَّلع فيها، وحالة السجود أيضًا أجدر بالإجابة؛ كما في صحيح مسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربِّه - عزَّ وجلَّ - وهو ساجد، فأكْثِروا فيه من الدعاء))، وفيه أيضًا: ((إني نُهِيت أنْ أقرأَ القرآن راكعًا أو ساجدًا؛ فأمَّا الركوع، فعَظِّموا فيه الربَّ تعالى، وأمَّا السجود، فاجْتهدوا فيه بالدعاء؛ فإنه قَمِنٌ - جدير - أن يُستجاب لكم)).
ومن الأحوال الشريفة : وقت التنزُّل الإلهي، وأن يَبيت فيتعارَّ من الليل فيدعو، وآخر ساعة من نهار الجمعة، وأن يدعوَ الأخ لأخيه بظَهْر الغيب، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده، ودعاء رمضان.
الثالث: أن يدعو مستقبِل القِبلة، ويرفع يديه بحيث يُرى بياضُ إبطيه، أو يرفع يديه قُبالة وجهه، أو نحو ذلك، أو يرفع إصبعه السبَّابة؛ عن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتى الموقف بعَرَفة، واستقَبَل القِبلة، ولَم يَزَل يدعو حتى غرَبت الشمس"، والحديث رواه مسلم، وقال سلمان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ ربَّكم حَيِيٌّ كريم، يستحيي من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردَّها صفرًا))؛ رواه أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وعن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يرفع يديه حتى بياض إبطيه في الدعاء"؛ رواه مسلم، وعن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على إنسان يدعو ويُشير بإصبعيه السبَّابتين، فقال: ((أحِّدْ، أحِّدْ))؛ رواه النسائي، وابن ماجه؛ أي: اقتصِرْ على الواحدة، وقال أبو الدَّرداء: "ارفعوا هذه الأيدي قبل أن تُغَلَّ بالأغلال"، وقال ابن عباس: "كان - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا ضَمَّ وجعَل بطونهما مما يلي وجْهه"؛ أخرجه الطبراني بإسناد فيه ضَعْف.
فهذه هيْئَات اليد، ولا يرفع بصره إلى السماء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم: ((لينتهيَنَّ أقوامٌ عن رفْع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء، أو لتُخْطفَنَّ أبصارُهم)).
الرابع: خَفْض الصوت بين المخافتة والجَهر؛ لِمَا ورَد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، قال: قَدِمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلَمَّا دَنونا من المدينة، كَبَّر وكبَّر الناس ورفعوا أصواتهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يا أيها الناس، إنَّ الذي تدعون ليس بأصمَّ ولا غائب))، وقالت عائشة - رضي الله عنها - في قوله - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ï´¾ [الإسراء: 110]؛ أي: بدعائك، وقد أثْنَى الله تعالى على نبيِّه زكريا - عليه السلام - فقال: ï´؟ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ï´¾ [مريم: 3]، وقال تعالى: ï´؟ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ï´¾ [الأعراف: 55].
الخامس: ألاَّ يتكلَّف السجع في الدعاء؛ فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حالَ متضرِّعٍ، والتكلُّف لا يُناسبه، وقد يَصِل ذلك السجع إلى الاعتداء في الدعاء؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : ((سيكون قوم يَعْتَدون في الدعاء))؛ رواه أبو داود، وابن ماجه، وقد قال - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ï´¾ [الأعراف: 55].
قيل: معناه التكلُّف للأسجاع، والأَوْلَى ألاَّ يتجاوز الدعوات المأثورة، فإنه قد يتعدَّى في دعائه فيسأل ما لا تَقتضيه مصلحته، فما كلُّ أحدٍ يُحسن الدعاء؛ ولذلك رُوِي عن معاذ - رضي الله عنه -: "إنَّ العلماء يُحتاج إليهم في الجنة؛ إذ يقال لأهل الجنة: تمنَّوا، فلا يَدرون كيف يتمنَّون؛ حتى يتعلَّموا من العلماء"، وفي الخبر: سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطُّهور، ومَرَّ بعض السلف بقاصٍّ يدعو بسجعٍ، فقال له: أعَلَى الله تُبالغ؟ أَشْهَد، لقد رأيت حبيبًا العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيِّدين، اللهم لا تَفضَحنا يوم القيامة، اللهم وفِّقنا للخير، والناس يدعون من كلِّ ناحية وراءَه، وكلٌّ يعرف بركة دُعائه، وقال بعضهم: ادعُ بلسان الذِّلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق.
ويُقال: إنَّ العلماء لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها، ويَشهد له آخر سورة البقرة، فإنَّ الله تعالى لَم يُخبر في موضع من أدْعية عباده أكثر من ذلك.
وانتبه - أخي يا بن الإسلام - إلى أنَّ السجع المذموم هنا هو المتكلف؛ فإنه لا يلائم الضَّراعة والذِّلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازنة، لكنَّها غير متكلفة؛ كما روى الترمذي وقال: غريب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك الأمنَ يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود مع المقرَّبين الشهود، والرُّكع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم وَدُود، وإنَّك تفعل ما تريد))، وأمثال ذلك، فليقتصر على المأثور من الدعوات، أو ليلْتمس بلسان التضرُّع والخشوع من غير سجعٍ وتكلُّف؛ فالتضرُّع هو المحبوب عند الله.
السادس: التضرُّع والخشوع والرغبة والرهبة؛ قال تعالى: ï´؟ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ï´¾ [الأنبياء: 90]، وقال تعالى: ï´؟ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ï´¾ [الأعراف: 55].
السابع: أن يَجزم الدعاء، ويُوقن الإجابة، ويَصدق رجاؤه فيه؛ في الصحيحين قال - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا دعا أحدكم، فليَعزم في الدعاء، ولا يقل: اللهم إن شئتَ فأعطني؛ فإن الله لا مُستكرِه له))، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعا أحدكم، فليُعظم الرغبة؛ فإنَّ الله لا يتعاظمُه شيء))؛ رواه ابن حِبَّان.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعْلموا أن الله - عزَّ وجلَّ - لا يَستجيب دعاءً من قلب غافل))؛ رواه الترمذي، وقال: غريب، قال سفيان بن عُيينة: لا يَمنعنَّ أحدَكم من الدعاء ما يعلم من نفسه؛ فإن الله تعالى أجابَ دعاءَ شرِّ الخَلْق إبليس - لعَنه الله - إذ قال: ï´؟ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ï´¾[الحجر: 36 - 37].
الثامن: أن يُلِحَّ في الدعاء ويُكرِّره ثلاثًا؛ قال ابن مسعود: "كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا، دعا ثلاثًا، وإذا سأل، سأل ثلاثًا"؛ رواه مسلم، ولكن ينبغي ألاَّ يَستبطئ الإجابة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: ((يُستجاب لأحدكم ما لَم يَعْجَل، فيقول: قد دعوتُ، فلم يُستجَب لي))، فإذا دعوت، فاسأل الله كثيرًا؛ فإنك تدعو كريمًا، وقال بعضهم: إني سألت الله - عزَّ وجلَّ - منذ عشرين سنة حاجة، وما أجابني وأنا أرجو الإجابة، سألتُ الله أن يوفِّقني لترْك ما لا يَعنيني.
التاسع: أن يفتح الدعاء بذِكر الله تعالى والثناء عليه، ثم بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يبدأ بالسؤال؛ قال سَلَمة بن الأكْوَع: "ما سَمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَستفتح دعاءً، إلاَّ استفتَحَه بقوله: ((سبحان ربي العَلِيِّ الأعلى الوهَّاب))"؛ رواه أحمد والحاكم، وفيه ضَعْفٌ.
وأن يَختمَه كذلك؛ لحديث: ((كلُّ دعاءٍ محجوب حتى يُصَلي على النبي - صلى الله عليه وسلم))، وقد رواه البيهقي وحسَّنه الألباني، ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في صحيح سُنن أبي داود، قال أبو سليمان الداراني: "مَن أراد أن يسألَ الله حاجة، فليَبْدأ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل حاجته، ثم يَختم بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يَقبل الصلاتين، وهو أكرمُ من أن يَدَعَ ما بينهما".
العاشر: وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة: التوبة، وترْك المعاصي، ورَدُّ المظالِم، والإقبال على الله تعالى بكُنه الهِمَّة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة.
يُروى عن كعب الأحبار أنه قال: أصاب الناسَ قحطٌ شديد على عهد موسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرَج موسى ببني إسرائيل يستقي بهم، فلم يُسْقَوْا، حتى خرَج ثلاث مراتٍ ولَم يُسْقوا، فأوحى الله - عزَّ وجلَّ - إلى موسى - صلى الله عليه وسلم -: إني لا أستجيب لك ولِمَن معك وفيكم نَمَّام، فقال موسى: يا رب، ومَن هو حتى نُخرجه من بيننا؟ فأوْحَى الله - عزَّ وجلَّ - إليه: يا موسى، أنهاكم عن النميمة وأكون نَمَّامًا؟! فقال موسى لبني إسرائيل: توبوا إلى ربِّكم بأجمعكم عن النميمة، فتابوا فأرْسَل الله تعالى عليهم الغيْثَ.
وقال سفيان الثوري: بلغني أنَّ بني إسرائيل قُحِطوا سبع سنين؛ حتى أكلوا المَيتة من المزابل، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يَبكون ويتضرَّعون، فأوْحى الله - عزَّ وجلَّ - إلى أنبيائهم - عليهم السلام -: "لو مشيتُم بأقدامكم حتى تَحفى رُكبكُم، وتبلغ أيديكم عَنان السماء، وتكِلَّ ألسنتكم عن الدعاء، فإني لا أُجيب لكم داعيًا، ولا أرحم لكم باكيًا؛ حتى تردُّوا المظالم إلى أهلها، ففعلوا، فمُطِروا من يومهم".
وقال مالك بن دينار: "أصاب الناس في بني إسرائيل قَحطٌ، فخرَجوا مرارًا، فأوْحَى الله - عزَّ وجلَّ - إلى نبيِّهم أنْ أخْبِرهم أنكم تخرجون إليّ بأبدان نَجِسة، وترفعون إليّ أكُفًّا قد سَفَكتم بها الدماء، وملأتُم بطونكم من الحرام، الآن قد اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تَزدادوا مني إلا بُعدًا".
وقال أبو الصديق الناجي: خرَج سليمان - عليه السلام - يستقي، فمرَّ بنملة مُلقاة على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنَّا خَلْق من خَلْقك، ولا غِنى بنا عن رزقك، فلا تُهلكنا بذنوب غيرنا، فقال سليمان - عليه السلام -: "ارجعوا؛ فقد سُقيتم بدعوة غيركم".
وقال الأوزاعي: "خرَج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد، فحَمِد الله وأثْنَى عليه، ثم قال: يا معشر مَن حضَر، ألستُم مُقِرِّين بالإساءة؟ فقالوا: اللهم نعم، فقال: "اللهم إنا قد سَمِعناك تقول: ï´؟ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ï´¾ [التوبة: 91]، وقد أقْرَرْنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلاَّ لِمثلنا؟ اللهم فاغْفِر لنا وارْحَمنا واسْقِنا، فرفَع يدَيه ورَفعوا أيديهم، فسُقوا". وقيل لمالك بن دينار: ادْعُ لنا، فقال: "إنَّكم تستبطئون المطر، وأنا أستبطِئ الحجارة".



ورُوي أن عيسى - صلوات الله عليه وسلامه - خرَج يستسقي، فلمَّا ضَجِروا، قال لهم عيسى - عليه السلام -: مَن أصاب منكم ذنبًا، فليَرجع، فرجَعوا كلُّهم، ولَم يَبق معه في المفازة إلاَّ واحد، فقال له عيسى - عليه السلام -: أمَا لك من ذنبٍ؟ فقال: والله ما عَمِلت من شيء غير أني كنتُ ذات يوم أُصلي، فمرَّت بي امرأة، فنظرْتُ إليها بعيني هذه، فلمَّا جاوزتْني، أدْخَلت إصبعي في عيني، فانتزعْتُها وتبعتُ المرأة بها، فقال له عيسى - عليه السلام -: ادْعُ الله؛ حتى أؤمِّن على دُعائك، قال: فدعا، فتجلَّلت السماء سحابًا، ثم صبَّت، فسُقوا.
وقال يحيى الغَسَّاني: أصاب الناس قحطٌ على عهد داود - صلى الله عليه وسلم - فاختاروا ثلاثة من عُلمائهم، فخرَجوا حتى يَستسقوا بهم، فقال أحدهم: اللهم إنَّك أَنْزلت في توراتك أن نعفوَ عمَّن ظَلَمنا، اللهم إنا قد ظَلَمنا أنفسنا، فاعفُ عنَّا، وقال الثاني: اللهم إنَّك أنزلتَ في توراتك أن نعْتِق أرِقَّاءَنا، اللهم إنا أرِقَّاؤك فأعْتِقنا، وقال الثالث: اللهم إنَّك أنزلت في توراتك ألاَّ نردَّ المساكين إذا وَقفوا بأبوابنا، اللهم إنا مساكينك وقَفنا ببابك، فلا تردَّ دعاءَنا، فسُقوا.
وقال عطاء السُّلَمي: "مُنِعْنا الغيثَ، فخرَجنا نستسقي، فإذا نحن برجل بين المقابر، فنظَر إليّ فقال: يا عطاء، أهذا يوم النشور، أو بُعثِر ما في القبور؟ فقلت: لا، ولكنَّا مُنِعنا الغيث، فخرَجنا نستسقي، فقال: يا عطاء، بقلوب أرضِيَّة أم بقلوب سماويَّة؟ فقلت: بل بقلوبٍ سماويَّة، فقال: هَيْهات يا عطاء، قل للمُتبهرجين لا تتبهْرَجوا؛ فإن الناقد بصير، ثم رَمَق السماء بطرفٍ وقال: إلهي وسيدي ومولاي، لا تُهلك بلادَك بذنوب عبادك، ولك بالسرِّ المكنون من أسمائك إلاَّ ما سقيتَنا ماءً غدقًا فُراتًا؛ تُحيي العباد وتروي به البلاد، يا مَن هو على كلِّ شيء قدير، قال عطاء: فما استتمَّ الكلام، حتى أرعَدَت السماء وأبْرَقت، وجادَت بمطرٍ كأفواه القِرَب".
وقال ابن المبارك: "قَدِمت المدينة في عام شديد القَحط، فخرَج الناس يستسقون، فخرَجت معهم، إذ أقبل غلام أسود، عليه قطعتا خيشٍ، قد اتَّزَر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي، فسمعتُه يقول: إلهي، أخْلَقت الوجوه عندك كثرةُ الذنوب، ومساوي الأعمال، وقد حبَست عنا غيْثَ السماء؛ لتؤدِّب عبادك بذلك، فأسألك يا حليمًا ذا أناةٍ، يا مَن لا يعرف عبادُه منه إلاَّ الجميل أنْ تَسقيَهم الساعة الساعة، فلم يَزَل يقول: الساعة الساعة، حتى اكتسَت السماء بالغمام، وأقْبَل المطر من كلِّ جانب؛ قال ابن المبارك: فجِئْت إلى الفضيل، فقال: ما لي أراك كئيبًا؟ قلتُ: أمْرٌ سبَقنا إليه غيرُنا، فتَولاه دوننا، وقصَصتُ عليه القصة، فصاح الفُضيل، وخرَّ مَغشيًّا عليه".
ويُروى أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استَسقى بالعباس - رضي الله عنه - فلمَّا فرَغ عمر من دُعائه، قال العباس: اللهم إنه لَم ينزل بلاءٌ من السماء إلا بذنبٍ، ولَم يُكشَف إلاَّ بتوبة، وقد توجَّه بي القوم إليك؛ لمكاني من نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا بالتوبة، وأنت الراعي لا تُمهل الضالة، ولا تَدع الكبير بدار مضيعةٍ، فقد ضرَعَ الصغير، ورقَّ الكبير، وارتفَعَت الأصوات بالشكوى، وأنت تعلم السرَّ وأخْفَى، اللهم فأغْثِهم بغياثك، قبل أن يَقنطوا فيَهلِكوا؛ فإنه لا يَيْئَس من روح الله إلاَّ القوم الكافرون، قال: فما تَمَّ كلامَه، حتى ارتفَعَت السماء مثل الجبال، والله المستعان.
أخي يا بن الإسلام، الدعاء والمُناجاة والتضرُّع والافتقار بالأسحار، عبادة لها لذَّة، وفي رمضان لها طعْمٌ آخرُ، ومَذاق خاص، والسعيد السعيد مَن قام في السَّحر يناجي ربَّه ويتملَّقه؛ ليستنشقَ نَسيم الأُنس بالله، فوالله ثم تالله، لو شَمَمت نسيمَ الأسحار، لاستفاقَ منك قلبُك المخمور.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #50  
قديم 23-05-2020, 02:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان ----يوميا فى رمضان

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له
ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله ..
اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً
.. أمْا بَعد ...
حياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام ، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة



عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان

(31)


خاتمة

وفي ختامِ هذه الوسائل الطيبة - التي ذكرتها، وغيرها الكثير مما لم أذكره - أذكر - إن شاءَ الله - خاتمة جليلة تتعلَّقُ بذكرِ هذه الوسائل، وأبدأ هذه الخاتمةَ بسؤالٍ مهم جدًّا، ألا وهو: هل هذه الوسائل تكفِّر الكبائرَ والصغائر، أم لا تكفرُ سوى الصغائر فقط؟
فأقول: هذه الأعمالُ لا تكفِّر الكبائر؛ قال ابنُ رجب الحنبلي: "وقد اختلف النَّاسُ في مسألتين؛ إحداهما: هل تكفر الأعمالُ الصالحة الكبائرَ والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر؟ فمنهم من قال: لا تكفر سوى الصغائر؛ وقد رُوي هذا عن عطاءٍ وغيره من السَّلفِ في الوضوء أنه يكفِّرُ الصغائرَ، وقال سلمان الفارسي في الوضوء: "إنه يكفرُ الجراحاتِ الصِّغار، والمشي إلى المسجدِ يكفر أكبرَ من ذلك"؛ خرَّجه محمد بن نصر المروزي.
وأمَّا الكبائرُ، فلا بدَّ لها من التوبةِ؛ لأنَّ الله أمرَ العبادَ بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالمًا، واتفقت الأمَّةُ على أنَّ التوبةَ فرض، والفرائضَ لا تؤدَّى إلا بنيةٍ وقصد، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركانِ الإسلام، لم يُحتج إلى التوبة، وهذا باطلٌ بالإجماع، وأيضًا فلو كُفِّرت الكبائرُ بفعلِ الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النَّار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قولَ المرجئة، وهو باطل، هذا ما ذكره ابنُ عبدالبر في كتابه "التمهيد"، وحكى إجماعَ المسلمين على ذلك، واستدلَّ عليه بأحاديث، منها:
قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه مسلمٌ والترمذي وأحمد: ((الصلواتُ الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهنَّ، ما لم تُغش الكبائر))؛ وهو مخرَّج في مسلمٍ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائض.
وقد حكى ابنُ عطيةَ في تفسيرِه في معنى هذا الحديثِ قولين:
أحدهما عن جمهورِ أهل السنة: أنَّ اجتناب الكبائرِ شرطٌ لتكفيرِ هذه الفرائض للصَّغائر، فإنْ لم تجتنب، لم تكفر هذه الفرائضُ شيئًا بالكلية.
والثاني: أنها تكفِّرُ الصغائرَ مطلقًا، ولا تكفر الكبائرَ إن وجدت، لكن يشترطُ التوبةُ من الصغائرِ، وعدم الإصرار عليها.
ورجَّح هذا القولَ وحكاه عن الحذاق، وقوله: "بشرط التوبة من الصغائر، وعدم الإصرارِ عليها"؛ مرادُه: أنه إذا أصرَّ عليها، صارت كبيرةً؛ فلم تكفرها الأعمال".
وقال ابنُ رجب في موضعٍ آخر: "فهذه الأعمال - الصالحة - مقتضية لدخولِ الجنَّة، وقد يكون ارتكابُ المحرماتِ موانع".
وقد وردت أحاديث في كبائرِ الذنوب أنها مانعة لمرتكبها من دخول الجنَّة، فمن ذلك:
حديث حذيفة - رضي الله عنه - عند مسلم قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يدخل الجنَّة نَمَّام))؛ ورواه البخاري بلفظ: ((لا يدخلُ الجنَّة قتَّات))؛ أي: نمام، وكذا أبو داود وكذا الترمذي وأحمد.
وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم وأحمد؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صنفان من أهلِ النَّار لم أرَهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقرِ يضربون بها النَّاس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مُميلات مائلات، رؤوسهنَّ كأسنمةِ البُختِ المائلة، لا يدخلنَ الجنَّة ولا يجدنَ ريحَها، وإنَّ ريحها ليوجَدُ من مسيرةِ كذا وكذا)).
وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - عند البخاري ومسلم وأحمد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يدخلُ الجنَّة قاطع))؛ أي: قاطع رحمه لا يصلها.
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - عند مسلم وابن ماجه وأحمد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((النَّائحةُ إذا لم تتبْ قبل موتِها، تُقام يومَ القيامة وعليها سربالٌ من قطِران، ودرعٌ من جَرَب)).
وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي - رضي الله عنه - عند مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد ومالك والدارمي قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((من اقتطعَ حقَّ امرئٍ مسلم بيمينِه، فقد أوجبَ الله له النَّار، وحرم عليه الجنَّة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)).
كما وردت أحاديث أخرى في أنَّ النُّطقَ بالشهادتين يدخل الجنَّة، ففي الصحيحين عن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((... فإنَّ الله حرَّم على النَّار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجهَ الله)).
وفي الصحيحين عن معاذ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما مِن أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله صدقًا من قلبِه، إلاَّ حرَّمه الله على النَّار)).
قال صاحب "معارج القبول" - رحمه الله -: "اعلم أنَّ الأحاديث الدالة على أنَّ الشهادتين سببٌ لدخولِ الجنَّة والنجاة من النَّار - لا تناقُضَ بينها وبين أحاديث الوعيدِ التي فيها: من فعل ذنب كذا، فالجنَّة عليه حرام، أو لا يدخل الجنَّة من فعل كذا؛ لإمكاِن الجمعِ بين النصوص بأنَّها جنانٌ كثيرة كما أخبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبأنَّ أهلَ الجنَّة أيضًا متفاوتون في دخولِ الجنَّة في السبق، وارتفاع المنازل، فيكون فاعل هذا الذنبِ لا يدخل الجنَّة التي أُعدت لمن لم يرتكبه، أو لا يدخلها في الوقتِ الذي يدخلُ فيه من لم يرتكب ذلك الذنب، وهذا واضحٌ مفهومٌ للعارفِ بلغة العرب".
قلت: وفي جامع الترمذي - وحسنه الألباني - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما قال عبدٌ: لا إله إلا الله قط مخلصًا، إلا فُتحت له أبوابُ السماءِ، حتى تُفضي إلى العرش؛ ما اجتنب الكبائر)).
قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي في "معارج القبول":
"وكذلك لا تناقضَ بين الأحاديثِ التي فيها تحريمُ أهل هاتين الشهادتين على النَّار، وبين الأحاديث التي فيها إخراجُهم منها بعد أن صاروا حممًا - كما في أحاديث الشَّفاعةِ المتواترة - لإمكانِ الجمعِ بأنَّ تحريم من يدخلُها بذنبِه من أهلِ التوحيد: بأنَّ تحريمه عليها يكونُ بعد خروجِه منها برحمةِ الله، ثم بشفاعة الشافعين، ثم يغتسلون في نهرِ الحياة، ويدخلون الجنَّة، فحينئذٍ قد حرموا عليها، فلا تمسهم بعد ذلك، أو يكون المرادُ أنهم يحرمون مطلقًا على النَّار التي أُعدت للكافرين، التي لا يخرجُ منها مَن دخلها، وهي ما عدا الطبقة العليا من النَّار التي يدخلها عصاة أهل التوحيد ممن شاء الله - تعالى - عقابَه وتطهيره بها على قدرِ ذنبه، ثم يخرجون فلا يبقى فيها أحد".
قلت: ويمكن أن يُقال أيضًا للجمعِ بينهما: إنَّ أحاديث الشهادتين مطلقة قُيدت في نصوصٍ أخرى بالإخلاصِ والصدق، وجاء في أحاديث أخرى ذكر شروط أخرى معها؛ كالصلاةِ والصيام، أو يُقال: إنَّ الشهادتين سببٌ لدخولِ الجنَّة، ومقتضى لذلك، ولكنَّ هذا المقتضى لا يعمل عملَه إلا باستجماعِ شروطِه وانتفاء موانعه، فإنْ فُقد شرطٌ أو وُجد مانع، انتفى العملُ؛ وعلى ذلك:
فمن جاء بأحدِ هذه الوسائل - أو غيرها مما هو على شاكلتها - الموجِبة للجنة، فهناك وعد من الله - تعالى - له بدخولِ الجنَّة، فإن كان مرتكبًا لأحدِ كبائر الذنوب التي ورد الوعيدُ عليها بحرمان مرتكبها من دخول الجنَّة، فهو بين أمرين:
إمَّا أن يتوبَ من هذه الكبيرة - أو الكبائر - توبةً صادقة بشروطها، فيغفر اللهُ - تعالى - بهذه التوبةِ هذه الكبيرة، ويزول الوعيدُ بدخولِ النَّار بسببها، فيبقى الوعدُ بدخول الجنَّة بفعلِ الأعمال الموجِبة للجنة كما هو، فيدخل فاعلها الجنَّة برحمة الله - تعالى - وفضله.
وإمَّا أنَّه لا يتوب من هذه الكبيرة، ويموتُ وهو مصرٌّ عليها، فيكون مستحقًّا لدخول النَّار بذلك، فيجتمع في حقِّه وعد بدخولِ الجنَّة للإتيان بعملٍ صالح، ووعيد بالحرمانِ منها بارتكاب كبيرة من الكبائر، فيكون بذلك من أصحابِ الكبائر، وأصحاب الكبائر يوم القيامةِ في مشيئة الله - تعالى - إن شاء يؤاخذهم على الإصرارِ على ارتكاب الكبائر ويتحقق فيهم وعيدُه، فيدخلون النَّار - والعياذ بالله - على قدرِ كبائرهم التي ماتوا مصرِّين عليها، وإن شاء - تعالى - عفا عنهم ولم يؤاخذهم على كبائرِهم التي لم يتوبوا منها، ويدخلهم الجنَّة بأعمالهم الصَّالحة الموجِبة لدخول الجنَّة، برحمة الله وفضلِه عليهم.
شروط الانتفاع بهذه الوسائل - وغيرها مما هو على شاكلتِها - ودخول الجنَّة بها:
اعلم يا بن الإسلام - حفظك الله - أن الانتفاعَ بهذه الوسائل ودخول الجنَّة بأدائها - يستلزمُ أمورًا يشترط تحققها، وهي:
1- الإيمان: إذ إنَّ الكفر - والعياذ بالله منه - محبطٌ للعمل أيًّا كان.
2- الإخلاص في العمل لله - تعالى - وترك الرياء: فيبتغي العبد بعملِه وجه الله - تعالى - وحده ورضوانه، فلا يرائي، ولا يطلبُ بعمله المدحَ أو الثناء، ولا ينتظر من ورائه أيَّ منفعة أو مكافأة دنيوية.
3- موافقة الشرع: فيكون أداء العمل على كيفيةٍ خالية من المخالفات الشرعية؛ موافقة لهدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسنته؛ إذ إنَّ أداء الكثير من الأعمالِ على اختلافها لا يخلو - لشدة جهل فاعليها بالشَّرع - من المخالفاتِ الشرعية، وأصحابها يعتبرونها في ميزانِ حسناتهم، وأنَّهم بها على خير وصلاح؛ فمن متصدقٍ بأموال اكتسبها بمخالفة الشرع، ومن مساعدٍ لظلمة على ظلمهم، ومن معاون للعصاة على معصيتهم، ومن متستر على من لا يستحقُّ السترَ، ومن ساكتٍ على منكرات، أو داعٍ إلى بدع يظنُّها لجهلِه سننًا، إلى آخر ذلك، وأنَّى لهؤلاء - وإن فرضنا حسنَ نيتهم - أن يُثابوا وأعمالُهم معاصٍ وبدع ومنكرات، وإنَّا لله وإنا إليه راجعون؟!
4- التصديق بالوعدِ المترتب عليها: كما جاء في الحديثِ الذي رواه البخاري وأبو داود وأحمد: ((أربعون خَصلة، أعلاهنَّ مَنِيحة العَنْز، ما من عاملٍ يعمل بخصلةٍ منها؛ رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنَّة)).
فيعلم العبدُ أنَّ هذه الأعمال تدخل الجنَّة؛ لثبوتِ ذلك عنده بأحاديث معتبرة، ويصدِّق ذلك؛ إيمانًا بسَعة رحمة الله - تعالى - وفضله ومغفرته، ويفعلها رجاءَ ثوابها، واحتسابًا لأجرها عند الله - تعالى - ولهذا أوردت هذه الخصال مفصلة بأدلتِها الصحيحة لكل خصلة منها، بما يفيدُ كونها موجِبةً للجنة، أو غافرةً للذنوبِ كلها، أو منجيةً من عذاب النَّار، أو موجبةً لمحبةِ الله - تعالى - للعبد، أو دافعةً لأهوال يوم القيامة وكرباته، ونحو ذلك من الأجرِ والثواب.
5- ألا يرتكب المؤدي لها كبيرةً من الكبائر الموجبة لدخول النَّار، ويصر عليها ولا يتوب منها؛ إذ إنَّ ارتكاب الكبائر الموجبة لدخولِ النَّار، وعدم التوبة منها - يمنعُ تحققَ الوعد المترتب على فعلِ هذه الخصال الموجبة للجنة؛ إذ تعارض عند ذلك وعدٌ بدخول الجنَّة مع وعيدٍ بدخول النَّار، ومرتكب الكبيرة المصر عليها ومات على ذلك - في مشيئةِ الله تعالى: إن شاء - تعالى - حاسبه على كبيرتِه التي لم يتب منها فيدخله النَّار، وإن شاء غفر له تلك الكبيرةَ وتجاوز له عنها، فيدخل بذلك الجنَّة، وقد مر بيان ذلك.
تنبيه: لا يُنتفع بثوابِ هذه الوسائل إذا تُركت الواجباتُ والفرائض:
اعلم - أخي يا بن الإسلام - أنَّ تركَ الفرائض التي افترضها الله - تعالى - على عباده لا ينفعُ معه الإتيان بهذه الخصالِ، التي هي من المندوباتِ والمستحبات؛ فإنَّ هذه الخصال مع محبةِ الله - تعالى - لها، فإنَّ أداءَ الفرائض التي افترضها الله - تعالى - أحب إليه منها؛ لذا لا ينتفع العبدُ من أداءِ هذه المندوبات مع ترك الواجبات، فشرطُ الانتفاعِ بثواب هذه المندوبات أداءُ الواجبات والفرائض، فلا ينتفعُ الإنسانُ بثوابِ قيام الليل مثلاً وهو مفرِّطٌ في أداءِ الصلوات الخمس المفروضة في اليوم والليلة، ولا ينتفعُ الإنسان بثوابِ صيام التطوع وهو مفرِّطٌ في أداء صيام شهر رمضان، وهكذا.
وفي الحديث القدسي المرفوع الذي رواه البخاري أنَّ الله - تعالى - قال: ((وما تقرَّب إلىَّ عبدي بشيءٍ أحب إلىَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافلِ حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإنْ سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
وهذا ينطبقُ بصورة واضحة على الواجباتِ التي تركها من كبائر الذنوب، وعلى المنهيات التي اقترفها من كبائرِ الذنوب؛ إذ صاحبها من أصحابِ الكبائر، وهو في مشيئةِ الله - تعالى - إن شاء حاسبَه عليها وعاقبه بها، وإن شاء عفا عنه ما دام صاحبها على التوحيد: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء : 48]، كما مرَّ سابقًا.
وتتضحُ أهميةُ المحافظة على أداء الواجبات وترك المحرمات: أنَّها مع تركِ الكبائرِ أسبابٌ لنيلِ مغفرة الله - تعالى - وعفوه؛ قال - تعالى - : ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء : 31]، بل ورد في الحديثِ ما يفيدُ أنَّ الاكتفاء بأداء الأركان والواجبات المفروضة، مع اجتنابِ المحرمات المنهي عنها - يُرجى لصاحبها دخول الجنَّة؛ فلقد روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ أعرابيًّا أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: دلني على عملٍ إذا عملتُه دخلتُ الجنَّة، قال: ((تعبدُ الله لا تشرك به شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان))، قال: والذي نفسي بيدِه، لا أزيد على هذا، فلمَّا ولَّى قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من سرَّه أن ينظرَ إلى رجلٍ من أهل الجنَّة، فلينظرْ إلى هذا)).
وعند مسلم عن أبي عبدالله جابر بن عبدالله الأنصاري - رضي الله عنهما - أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: أرأيتَ إذا صليتُ الصلوات المكتوبات، وصمتُ رمضان، وأحللتُ الحلالَ، وحرَّمتُ الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًَا، أأدخل الجنَّة؟ قال: ((نعم)).
وهذا مفهومٌ أيضًا من قولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد: ((دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلَكم بسؤالِهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم)).
وأخيرًا؛ أتناول مسألةَ اختلافِ الثواب المترتب على العملِ الواحد؛ فقد ورد في بعضِ الأعمال أحاديث تبيِّنُ تعددَ الثواب المترتب عليها، فكيف يمكن الجمعُ بين تلك الأحاديث التي تفيد اختلافَ الثوابِ في كلٍّ منها عن الآخر للعمل الواحد، فيكون في أحدِ الأحاديث أنَّ ثوابَ أداء هذا العمل الجنَّة، وفي أخرى أنواع من الثواب دون ذلك؟ والجمع يمكن من وجوه:
1- الاختلاف في أداء العمل: فإنْ أدَّاه كاملاً على وجهه التام، نال أعلى ثواب مذكور في تلك الأحاديث، فإن نقص من كماله شيء، نقصَ ثوابُه إلى ما هو أدنى، حتى إذا بلغ نقص العمل إلى أقل درجة للقبول، نال عليه أقلَّ ثوابٍ مذكور في تلك الأحاديث - والله أعلم.
2- اختلاف حال المؤدي للعملِ: فإن أدَّاه بإخلاصٍ كامل وتجرد تام، مع خشوعٍ وخشية وشدة رجاء ومحبة، زاد أجره إلى أعلى ثواب مذكور، وإنْ قلَّ، قلَّ أجرُه إلى أن يصلَ إلى أدنى ثواب مذكور.
3- اختلاف الزمان والمكان: فإذا وافق أداءَ العبادة على وجهها زمانٌ فاضل أو مكان يُضاعف فيه الثواب، نال منه أعلاه؛ كالدُّعاء في السَّحَر، وساعة الإجابة، والصلاة في جوف الليل، وقيام الليل في ليلة القدر، والصلاة في الحرم، إلى آخر ذلك، وإن لم يُوافق ذلك، نال الأجرَ والثواب الأقل.
4- أن الأحاديث التي بها الثواب الأقل هي التي وردت أولاً، ثم تفضَّل الله - تعالى - على عبدِه بمزيدِ فضل، فضاعف من ثوابه، أو زاد تكرمًا منه ومنة.
5- أن للعمل أكثر من ثواب واحد، فينال العبدُ كلَّ هذه الأجور إذا كانت لا منافاة وتعارض بينها؛ كالصائمِ يدخل الجنَّة من باب الريان، ويُباعَد بينه وبين النَّار عن كل يوم صامه سبعين خريفًا، وتُغفر له كل ذنوبه بصيامه رمضان وقيامه، إلى آخر ذلك، والله أعلى وأعلم.

المسألة الثانية: ماذا بعد رمضان؟

أخي يا بن الإسلام، جاء رمضان، ومضى رمضان، سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، ويتوجَّعُ المسلم لفراقِ رمضان، ويظل يتذكَّرُ أيامَه ولياليَه؛ كيف كانت عامرة بالخيرات، ممتلئة بالعبادات، منيرة بالطاعات.
ينتهي رمضان وإذا بالمساجدِ تعودُ مرة أخرى خاوية على عروشِها إلا من أهلِها الذين هم أهلها، ويتباكى الدعاة إلى الله على جهدٍ على مدار الشهر بذلوه، وإذا بهم في نهايةِ الأمر لم يجدوا له الأثرَ الذي ظنوه وانتظروه! لماذا ينتكسُ النَّاسُ بعد رمضان، وينشغلون مرةً أخرى بدنياهم، بعد أن ذاقوا حلاوةَ القرب من مولاهم؟! لمَّا مات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقف أبو بكر - رضي الله عنه - يقول: "مَن كان يعبد محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حي لا يموت".
وهأنذا أقول: من كان يعبد رمضانَ، فإنَّ رمضان قد انقضى، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل : 92]، هل رأيت امرأةً تغزل ثوبًا، وتغزل ثم تغزل، وبعد أن تم لها ذلك قامت فنقضتْ غزلَها؛ أعادت الثوب خيطًا كما كان؟! فهل هذا فِعْلُ إنسان عاقل؟!
إن هذا حالك؛ فبعد أنْ كنتَ تقومُ الليل إحدى عشرة ركعة يوميًّا في رمضان، تريدُ أن تتركَ هذا كلَّه، فلا تقوم الليل ولو بأربع ركعات، فأين أثرُ قيام الليل فيك؟! ألستَ قد وجدت لذةً في قيامِ رمضان؟! فلماذا تحرمُ نفسَك من هذه اللذة؟ لماذا تحرم نفسك من الأجر؟ لماذا تترك سوسةَ الكسلِ تنخرُ في إيمانك؟!
أخي يا بن الإسلام، إنَّ دينَنا هو دينُ الاستقامة، لا يصلح فيه التلون والتفلُّت والزوغان؛ قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾ [هود : 112]، فاستقم على أمرِ الله، استقم على طاعةِ الله حتى تلقاه، فيكون ذلك يوم عيدك الحقيقي؛ قال ربنا - جلَّ جلاله -: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر : 99]؛ واليقين: الموت، فكن ربانيًّا، ولا تكن رمضانيًّا.
استقم على طاعةِ الله ولا تتلوَّن، لما جاء حذيفةَ بن اليمان الموتُ جلس ابنُ مسعود عند رأسِه فقال: "أوصني، فقال له: ألم يأتك اليقين؟ قال ابن مسعود: بلى وعزة ربي، فقال له حذيفة: فإياك والتلون؛ فإنَّ دينَ الله واحد".

نعم، إنك لا بدَّ أن تخرجَ من رمضان بقلب قد أَلِف الطاعةَ، وأحبها واعتادها، حتى صارت له كالهواءِ والماء للإنسان، فإياك أن تقتلَ إيمانَك بالتثاقل إلى الأرض، والإخلاد إلى الكسل، والرِّضا بالقعود والنكوص، إنني أريدُك أن تكون شخصيةً ربانية على مدى حياتك، لا على فتراتٍ متقطعة فيها، فتكون رجلَ المناسبات.

إياك أن تهجرَ الطاعة، لا تهجر حفظَ القرآن وتلاوته؛ فالأعمال لم تنقطعْ بعد رمضان، والقلم لم يُرفع عنك بعد رمضان، واعلم أنَّ أول طريقِ الفشل والضياع أن تتحكمَ فيك نفسُك وتسيرك كيف شاءت؛ قم: تقوم، اخرج: تخرج، نم: تنام، كل: تأكل، لا بد أن تمتلكَ أنت زمامَ المبادرة، لا بد أن تتحكمَ أنت في نفسِك، وتذللها لطاعة الملك - جل جلاله.
أخي يا بن الإسلام، ما زالت الأعمالُ بعد رمضان لم تنقطع؛ فالقرآن لا يُهجر بمجردِ انتهاء رمضان، بل حافظْ على وردك الثابت فيه، دم على ذلك؛ فالقرآن هو الذي يزكي نفسك، ويصلح قلبَك، ويثبتك على طريقِ الحقِّ، فلتستمر في قراءةِ القرآنِ، جزأين في اليومِ على الأقل، ثم زد إلى ثلاثة، ثم إلى خمسة؛ لتختمَ كلَّ أسبوع كما كان يفعلُ الصحابةُ.
كذلك القيامُ لم ينقطع؛ قم كلَّ ليلة بإحدى عشرة ركعة؛ فالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يكن يترك قيامَ الليل، حتى لو فاته يومًا من وجعٍ أو غيره، صلَّى من النهارِ اثنتي عشرة ركعة.
والصيام لم ينقطع؛ فعليك أن تبادرَ بصيامِ ستة من شوال حتى تكون كأنك صمتَ السنة كلها، رمضان ثلاثون يومًا، والحسنة بعشرة أمثالها، فيكون ثلاثمائة، وستة أيام بعشرة أمثالها؛ إذًا ستون يومًا، فتكمل السنة، كأنك صمتَ سنةً كاملة، وهناك الكثيرُ من الصومِ المندوب راجعه في الوسائل، واسأل الله أن يسهلَه لك؛ فالصيامُ مدرسةٌ لتزكيةِ النَّفس، وهو الوصية الخاصة للشباب، وخصوصًا في هذه الأيامِ التي امتلأت بالفتنِ، أسأل الله أن ينجيني وإياكم منها.
والأعمالُ الصالحة كلها لم تنقطع؛ فبادرْ بالأعمالِ الصالحة، فطوبى لمن بادر عمره القصير، فعمَّر به وبادر المصير، وتهيأ لحسابِ الناقد البصير، قبل فواتِ القدرة وإعراض النصير.
أخي يا بن الإسلام، كان الإمامُ علي يقول في آخر ليلةٍ من رمضان: "ليت شعري من هذا المقبول منَّا فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟"، وكذلك كان يقولُ ابنُ مسعود: "من هذا المقبول منا فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟".
وكأن المستفاد من ذلك:
أنَّ قبولَ الأعمال غيب، وأنَّ غايةَ سعي المكلفين إنما هو في تحصيلِ صور الأعمال ومظاهرها، وأما المعول والذي عليه المدار في القبول؛ إنما هو حقائق الأعمالِ ومقاصدها، فليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟ إن ذلك غيب لا يدري به أحد.
واستفدنا كذلك أنه لا بد بعد انقضاءِ العمل من وقفةِ المحاسبة للنفس، والنظر فيما كان فيه هذا العمل، وهل وقع من الله موقعَ القبول، أو كان هذا العملُ في محلِّ الرد والحرمان؟ فاكتسبت النفسُ لذلك وَجَلاً، بعدما ظنت انقضاءَ زمان السعي والمجاهدة، جاءها زمانٌ آخر؛ زمان المحاسبة والمعاقبة على التقصير، والمجاهدة لشكرِ نعم الله عليها.
واستفدنا كذلك من قولِ الصحابيَّيْن الجليلين أنْ لا يزال العبد واقفًا بباب الله، فهذا المقبول لا ينقضي بعملِه المقبول سعيُه، بل يقتضي هذا العمل المقبول سعيًا موصولاً في شكر نعمةِ الله التي آتاه، وفي القيامِ بحقِّ الله في التوفيق للعمل الصالح، وفي مزيد التنعم بما أذاقه الله - تعالى - من حلاوةِ الطاعة، وكذلك المحروم؛ لا ينقطع به الرجاءُ من ربِّه الكريم، بل إن حرمانه ذلك يعني ذهاب جولة من جولات السعي؛ بسبب سوء فعلِه، ومرذول قصدِه، فإذا حصل له التنبهُ لذلك، فلا بد أن تكونَ جولةُ سعيه الأخرى أحظى بالقبولِ، وأرجى لاستحقاقِ رحمة أرحم الراحمين.
مَن هذا المقبول الذي أُعين على الصيامِ والقيام، وعلى إصلاحِ وظائف الأعمال من الصلواتِ المكتوبات والجماعات؟ من هذا المقبول الذي أُعين على وظيفةِ الصدقة ووظيفة تلاوة القرآن، وختم له رمضان بالسَّدادِ في الأعمال الصالحات؟ من هذا المقبول فنهنيه؟!
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 374.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 368.65 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]