وليعفوا وليصفحوا - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4411 - عددالزوار : 849111 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3941 - عددالزوار : 385629 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 171 - عددالزوار : 59783 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 165 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 112 - عددالزوار : 28267 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 801 )           »          طرق تساعد على تنمية ذكاء الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          السلفيون ومراعاة المصالح والمفاسد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 689 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 101 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-12-2020, 06:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي وليعفوا وليصفحوا

وليعفوا وليصفحوا


الشيخ : عبد الله بن محمد البصري











عناصر الخطبة
1/ الخلاف وآثاره السلبية 2/ الوسيلة لإطفاء نار الخلاف 3/ أثر الصفح والعفو على الفرد والمجتمع 4/ نماذج من العفو 5/ من عوائق العفو والصفح 6/ رابطة الأخوة الإسلامية والمحبة والإخاء



فَإِنَّهُ لا أَسرَعَ في إِطفَاءِ نَارِ الخِلافَاتِ وَإِخمَادِ لَهِيبِهَا، وَلا أَنجَعَ في تَخفِيفِ سَعِيرِ العَدَاوَاتِ وَإِمَاتَةِ شُعَلِهَا، مِن إِلقَاءِ بَردِ العَفوِ عَلَيهَا وَمُعَاجَلَتِهَا بِغَيثِ الصَّفحِ، وَصَبِّ مَاءِ التَّسَامُحِ عَلَى القُلُوبِ؛ لِيُطَهِّرَهَا مِن دَنَسِهَا وَيُنَقِّيَهَا مِن وَضَرِهَا، وَيَسقِيَ جُذُورَ الحُبِّ وَيَروِيَ غِرَاسَ المَوَدَّةِ، وَيُعِيدَ لأَغصَانِ الأُنسِ وَالأُلفَةِ رُوَاءَهَا، فَتَرجِعَ لِلصَّفِّ وِحدَتُهُ، وَيَعُودَ لِلكَلِمَةِ اجتِمَاعُهَا ..









أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (فَاتَّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيرًا لأَنفُسِكُم وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: جُبِلَ النَّاسُ عَلَى مَحَبَّةِ ذَوَاتِهِم وَالانتِصَارِ لأَنفُسِهِم، وَاعتَادُوا الضَّنَّ بما في أَيدِيهِم وَالشُّحَّ بما يَملِكُونَ (وَأُحضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ).
وَمِن ثَمَّ؛ فَإِنَّهَا لا بُدَّ أَن تَنشَأَ بَينَهُم بَعضُ الخِلافَاتِ -وَإِن صَغُرَت-، وَتَتَعَدَّدَ مِنهُم وِجهَاتُ الأَنظَارِ -وَإِنِ اقتَرَبَت-، وَقَد تَتَطَوَّرُ الخِلافَاتُ وَتَبتَعِدُ الوِجهَاتُ حَتى تَكُونَ لِجَاجًا وَخِصَامًا، وَيَتَوَلَّدَ مِنهَا نِزَاعٌ وَشِقَاقٌ، يَحصُلُ بَعدَهُ تَبَاعُدٌ وَتَنَافُرٌ، تَتَعَقَّدُ بِسَبَبِهِ الحَيَاةُ وَيَفسُدُ العَيشُ، وَتُشحَنُ القُلُوبُ وَتَضِيقُ الصُّدُورُ.
وَيُصبِحُ المُسلِمُ لا يُطِيقُ أَن يَملأَ عَينَيهِ بِرُؤيَةِ أَخِيهِ، فَإِذَا لَمَحَهُ في طَرِيقٍ سَلَكَ غَيرَهُ، وَإِن جَمَعَهُ بِهِ مَجلِسٌ خَرَجَ مُسرِعًا وَفَارَقَهُ، بَل قَد يَكُونَانِ مِن جماعَةِ مَسجِدٍ وَاحِدٍ فَيَترُكَانِهِ أَو يَترُكُهُ أَحَدُهُمَا، وَيَطُولُ الهَجرُ وَتَمتَدُّ القَطِيعَةُ، وَتَذهَبُ الأَيَّامُ وَالأَعمَالُ لا تُرفَعُ، وَتَمضِي السَّنَوَاتُ وَمَا في الاجتِمَاعِ مَطمَعٌ.
وَقَد تَتَعَدَّدُ المُحَاوَلاتُ مِن أَهلِ الخَيرِ لإِصلاحِ مَا فَسَدَ وَوَصلِ مَا انقَطَعَ، وَمَعَ هَذَا يَظَلُّ في النُّفُوسِ شَيءٌ مِنَ الغَيظِ وَالمَوجِدَةِ، وَيَبقَى التَّعَامُلُ مِن الجَانِبَينِ مَشُوبًا بِالحَذَرِ.
وَمِن ثَمَّ؛ فَإِنَّهُ لا أَسرَعَ في إِطفَاءِ نَارِ الخِلافَاتِ وَإِخمَادِ لَهِيبِهَا، وَلا أَنجَعَ في تَخفِيفِ سَعِيرِ العَدَاوَاتِ وَإِمَاتَةِ شُعَلِهَا، مِن إِلقَاءِ بَردِ العَفوِ عَلَيهَا وَمُعَاجَلَتِهَا بِغَيثِ الصَّفحِ، وَصَبِّ مَاءِ التَّسَامُحِ عَلَى القُلُوبِ؛ لِيُطَهِّرَهَا مِن دَنَسِهَا وَيُنَقِّيَهَا مِن وَضَرِهَا، وَيَسقِيَ جُذُورَ الحُبِّ وَيَروِيَ غِرَاسَ المَوَدَّةِ، وَيُعِيدَ لأَغصَانِ الأُنسِ وَالأُلفَةِ رُوَاءَهَا، فَتَرجِعَ لِلصَّفِّ وِحدَتُهُ، وَيَعُودَ لِلكَلِمَةِ اجتِمَاعُهَا، وَمِن ثَمَّ تَعِيشُ الأُمَّةُ أَفرَادًا وَجَمَاعَاتٍ في أَمنٍ وَاطمِئنَانٍ وَتَآلُفٍ، فَتَتَفَرَّغُ لِمَا فِيهِ صَلاحُهَا وَفَلاحُهَا، وَتَتَعَاوَنُ عَلَى مَا بِهِ فَوزُهَا وَنَجَاحُهَا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد جَاءَ الإِسلامُ في هَذَا الشَّأنِ بما يَردَعُ بَوَادِرَ الظُّلمِ وَيَكُفُّ نَزَوَاتِ الانتِقَامِ، وَتَكَاثَرَت نُصُوصُهُ لَقَطعِ رَغَبَاتِ الإِسَاءَةِ وَمَنعِ شَهَوَاتِ الانتِصَارِ، بَل جَاءَت نُصُوصُهُ لِلارتِفَاعِ بِالمُسلِمِ عَنِ المُعَامَلَةِ بِالمِثلِ وَمُقَابَلَةِ الإِسَاءَةِ بِالإِسَاءَةِ، وَحَثِّهِ على الدَّفعِ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ، وَتَرغِيبِهِ في الصَّفحِ عَنِ الأَذَى وَالعَفوِ عَنِ الإِسَاءَةِ، وَالاتِّصَافِ بِالحِلمِ وَتَركِ الغَضَبِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الانتِصَارِ لِلنَّفسِ؛ قَالَ -تَعَالى-: (وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ) وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالمِينَ).
وَبِالعَفوِ وَالصَّفحِ أَمَرَ اللهُ -سُبحَانَهُ- نَبِيَّهُ فَقَالَ: (خُذِ العَفوَ وَأْمُرْ بِالعُرفِ وَأَعرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) وَقَالَ -تَعَالى-: (فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ) وَبِالعَفوِ وَالصَّفحِ أَمَرَ اللهُ المُؤمِنِينَ، وَجَعَلَ نَتِيجَتَهُ مَغفِرَتَهُ ذُنُوبَهُم وَرَحمَتَهُ إِيَّاهُم، فَقَالَ -تَعَالى-: (وَلْيَعفُوا وَلْيَصفَحُوا) وقال: (وَإِن تَعفُوا وَتَصفَحُوا وَتَغفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال: (إِن تُبدُوا خَيرًا أَو تُخفُوهُ أَو تَعفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا).
بَل لَقَد جَعَلَ الصَّبرَ عَلَى الأَذَى وَغُفرَانَ الزَّلاتِ في بَعضِ الفَتَرَاتِ ممَّا يَجِبُ فَقَالَ -تَعَالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمُورِ).
وَقَالَ -تَعَالى- في وَصفِ المُهَيَّئِينَ لِجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ: (وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ).
وَقَد كَانَ العَفوُ خُلُقَ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَلَم يَكُنْ لِيَنتَقِمَ لِنَفسِهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- بَل كَانَ يَعفُو وَيَصفَحُ، بَل وَيَفعَلُ الخَيرَ وَيُحسِنُ إِلى مَن أَسَاءَ إِلَيهِ، عَن عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- شَيئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امرَأَةً وَلا خَادِمًا، إِلاَّ أَن يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنهُ شَيءٌ قَطُّ فَيَنتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ إِلاَّ أَن يُنتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ -تَعَالى- فَيَنتَقِمَ للهِ -تَعَالى-" رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "كُنتُ أَمشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيهِ بُردٌ نَجرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدرَكَهُ أَعرَابيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبذَةً شَدِيدَةً، فَنَظَرتُ إِلى صَفحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَقَد أَثَّرَت بها حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَبذَتِهِ، ثم قَالَ: "يَا محمدُ، مُرْ لي مِن مَالِ اللهِ الَّذِي عِندَكَ، فَالتَفَتَ إِلَيهِ فَضَحِكَ، ثم أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ كُلَّ عَبدٍ لا بُدَّ أَن يُذنِبَ وَيُخطِئَ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يُحِبُّ أَن يَغفِرَ لَهُ رَبُّهُ وَيَعفُوَ عَنهُ سَيِّدُهُ، وَإِنَّ العَفوَ عَنِ النَّاسِ لَمِن أَسبَابِ عَفوِ اللهِ عَنِ العَبدِ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَلْيَعفُوا وَلْيَصفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ اللهُ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَت في الصِّدِّيقِ حِينَ حَلَفَ أَلاَّ يَنفَعَ مِسطَحَ بنَ أُثَاثَةَ بِنَافِعَةٍ بَعدَ مَا قَالَ في عَائِشَةَ مَا قَالَ؛ فَلَمَّا أَنزَلَ اللهُ بَرَاءَةَ أُمِّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةَ وَطَابَتِ النُّفُوسُ المُؤمِنَةُ وَاستَقَرَّت، وَتَابَ اللهُ عَلَى مَن كَانَ تَكَلَّمَ مِنَ المُؤمِنِينَ في ذَلِكَ، وَأُقِيمَ الحَدُّ عَلَى مَن أُقِيمَ عَلَيهِ، شَرَعَ -تَبَارَكَ وَتَعَالى وَلَهُ الفَضلُ وَالمِنَّةُ- يُعَطِّفُ الصِّدِّيقَ عَلَى قَرِيبِهِ وَنَسِيبِهِ وَهُوَ مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ ابنَ خَالَةِ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ مِسكِينًا لا مَالَ لَهُ إِلاَّ مَا يُنفِقُ عَلَيهِ أَبُو بَكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-، وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ، وَقَد وَلَقَ وَلْقَةً تَابَ اللهُ عَلَيهِ مِنهَا، وَضُرِبَ الحَدَّ عَلَيهَا، وَكَانَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- مَعرُوفًا بِالمَعرُوفِ، لَهُ الفَضلُ وَالأَيَادِي عَلَى الأَقَارِبِ وَالأَجَانِبِ، فَلَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ إِلى قَولِهِ: (أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ اللهُ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَي: فَإِنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ، فَكَمَا تَغفِرُ عَنِ المُذنِبِ إِلَيكَ نَغفِرُ لَكَ، وَكَمَا تَصفَحُ نَصفَحُ عَنكَ، فَعِندَ ذَلِكَ قَالَ الصِّدِّيقُ: "بَلَى، وَاللهِ إِنَّا نُحِبُّ يَا رَبَّنَا أَن تَغفِرَ لَنَا". ثم رَجَعَ إِلى مِسطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَقَالَ: "وَاللهِ لا أَنزَعُهَا مِنهُ أَبَدًا". اِنتَهَى كَلامُهُ.
إِنَّهَا النُّفُوسُ المُؤمِنَةُ الطَّاهِرَةُ الَّتي استَنَارَت بِنُورِ الصِّدقِ وَالتَّصدِيقِ، وَوَجَدَت مِن بَردِ اليَقِينِ بِالأَجرِ مَا أَطفَأَ لَهِيبَ غَضَبِهَا، إِنَّهُم كِرَامُ النَّاسِ، يَقبَلُونَ العُذرَ وَيُقِيلُونَ العَثرَةَ، وَيَتَجَاوَزُونَ عَنِ الخَطَأِ وَيَدفِنُونَ الزَّلَّةَ، وَيَطوُون المَاضِيَ طَيَّ الكَرِيمِ المُسَامِحِ، يُنَزِّهُونَ أَنفُسَهُم عَنِ تَوبِيخِ مَنِ اعتَذَرَ أَوِ الإِثقَالِ عَلَيهِ، بل وَلا يَلُومُونَهُ وَلا يُعَاتِبُونَهُ.
يَفعَلُونَ ذَلِكَ ابتِغَاءً لِلأَجرِ وَطَلَبًا لِلثَّوَابِ وَطَمَعًا في الرَّحمَةِ؛ فَيَا مَن يُرِيدُ أَن يُقِيلَ اللهُ عَثرَتَهُ وَيَتَجَاوَزَ عَن زَلَّتِهِ، أَقِلْ عَثَرَاتِ إِخوَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَن زَلاَّتِهِم.
وَاعلَمْ أَنَّهُ -سُبحَانَهُ- رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الكُرَمَاءَ؛ فَلا تَكُنْ قَاسِيَ القَلبِ غَلِيظَ الطَّبعِ مُتَّبِعًا لِهَوَاكَ، اُطلُبِ الأَجرَ مِن رَبِّكَ، وَاسأَلْهُ أَن يَشرَحَ صَدرَكَ، وَاحذَرْ قَسوَةَ القَلبِ بَعدَ أَن عَلِمتَ وَالتَّمَادِيَ في الضَّلالِ بَعدَ الذِّكرَى، فَقَد قَالَ -سُبحَانَهُ-: (أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدرَهُ للإِسلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِن رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكرِ اللهِ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: رَبُّوا نُفُوسَكُم عَلَى العَفوِ وَالصَّفحِ، وَرَوِّضُوهَا عَلَى التَّسَامُحِ وَالرِّقَّةِ، وَعَوِّدُوهَا عَلَى الرَّحمَةِ وَالرَّأفَةِ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ مِن صِفَاتِ أَهلِ الجَنَّةِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَهلُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلطَانٍ مُقسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ لِكُلِّ ذِي قُربى وَمُسلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ".
إِنَّ دِينَنَا لَيسَ أَقوَالاً نُرَدِّدُهَا أَو شِعَارَاتٍ نُعلِنُهَا، ثم لا نُطَبِّقَ مِنهَا في الوَاقِعِ إِلاَّ مَا تُملِيهِ عَلَينَا أَهوَاؤُنَا وَتَشتَهِيهِ أَنفُسُنَا؛ لا وَأَلفُ لا، إِنَّ دِينَنَا قِيَمٌ نَعتَنِقُهَا قَولاً وَعَمَلاً، وَمَبَادِئُ نَتَمَسَّكُ بها سِرًّا وَعَلَنًا، وَأُصُولٌ نَنطَلِقُ مِنهَا لإِصلاحِ أَنفُسِنَا، وَمَنهَجٌ مُتَكَامِلٌ نُعَامِلُ بِهِ مَن حَولَنَا، وَمَا شُرِعَتِ الشَّرَائِعُ إِلاَّ لِتُطَبَّقَ وَيُلتَزَمَ بها، وَلا أُنزِلَ الدِّينُ إِلاَّ لِتَطهِيرِ البَاطِنِ وَتَغيِيرِ الظَّاهِرِ، وَفي الحَدِيثِ: "إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَلا أَموَالِكُم، وَلَكِنْ يَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم" رَوَاهُ مُسلِمٌ.
اللَّهُمَّ أَصلِحْ قُلُوبَنَا، وَاغفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاستُرْ عُيُوبَنَا، وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ، الأَحيَاءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ، إِنَّكَ أَنتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.




الخطبة الثانية:



أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: أَتَدرُونَ مَا أَكبَرُ عَائِقٍ لِلعَفوِ في دُنيَانَا؟ أَتَعلَمُونَ مَا العَقَبَةُ الكَؤُودُ الَّتي لَو تَجَاوَزنَاهَا لَعَفَونَا عَن كُلِّ مَن أَسَاءَ إِلَينَا؟ إِنَّهُ اعتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَّا أَنَّ العَفوَ مُرَادِفٌ لِلضَّعفِ، وَأَنَّهُ لا يَتَنَازَلُ عَن حَقِّهِ إِلاَّ العَاجِزُ الضَّعِيفُ.
لَقَد تَرَسَّبَ في أَذهَانِنَا مِن أَخلاقِ الجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ لم تَكُنْ ذِئبًا أَكَلَتكَ الذِّئَابُ، وَمِن ثَمَّ فَنَحنُ نَعتَقِدُ أَنَّ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مِن أُسِيءَ إِلَيهِ أَن يَرُدَّ الصَّاعَ بِصَاعَينِ، وَأَن يُضَاعِفَ الكَيلَ لِمَن أَخطَأَ عَلَيهِ لِيَردَعَهُ بِذَلِكَ وَيَمنَعَهُ.
وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ المَنهَجُ الجَاهِلِيُّ مُؤَثِّرًا في بَعضِ النُّفُوسِ الجَاهِلِيَّةِ الخَبِيثَةِ، ولا خُرُوجَ مِن بَعضِ المَوَاقِفِ مَعَهَا إِلاَّ بِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَبقَى مَنهَجًا شَاذًّا، أَمَّا الرِّفعَةُ الحَقِيقِيَّةُ وَالقُوَّةُ الفِعلِيَّةُ، فَإِنَّمَا هِيَ لِمَن عَفَا وَتَجَاوَزَ طلبًا لِمَا عِندَ اللهِ، وَتَرَكَ الانتِقَامَ وَالانتِصَارَ لِوَجهِ اللهِ، يَشهَدُ لِهَذَا كَلامُ أَصدَقِ البَشَرِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- حَيثُ قَالَ: "مَا نَقَصَت صَدَقَةٌ مِن مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبدًا بِعَفوٍ إِلاَّ عِزًّا , وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ" رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
إِنَّ الإِسلامَ يُرِيدُ أَن يَكُونَ مُجتَمَعُ المُسلِمِينَ مُجتَمَعًا رَاقِيًا فَاضِلاً، يَجمَعُ مَن فِيهِ الحُبُّ وَالوُدُّ وَالإِخَاءُ، وَتَسُودُ فِيهِ المُرُوءَةُ وَالفَضلُ وَالصَّفَاءُ، وَيَكثُرُ فِيهِ الخَيرُ وَالإِحسَانُ وَالعَطَاءُ، يُرِيدُ لَهُ أَن يَكُونَ مُجتَمَعًا قَوِيَّ الأَركَانِ مُتَمَاسِكَ البُنيَانِ، مُتَوَحِّدَ الصُّفُوفِ مُتَّفِقَةً أَهدَافُهُ، مُتَّحِدَةً غَايَاتُهُ غَيرَ مُختَلِفَةٍ رُؤَاهُ.
وَإِنَّ قِلَّةَ الحِلمِ وَكثَرَةَ الغَضَبِ وَإِرَادَةَ الانتِقَامِ، إِنَّهَا لأَخلاقُ دَنِيئَةٌ وَصِفَاتٌ مَمقُوتَةٌ، بل آفَاتٌ سَيِّئَةٌ وَأَمرَاضٌ مُعضِلَةٌ، إِذَا استَشرَت في مُجتَمَعٍ قَوَّضَت بُنيَانَهُ وَهَدَمَت أَركَانَهُ، وَقَادَتهُ إِلى هُوَّةٍ عَمِيقَةٍ وَحُفرَةٍ سَحِيقَةٍ، وَقَطَعَت أَوَاصِرَ المَحَبَّةِ الَّتي بَينَ أَفرَادِهِ، وَاجتَثَّت جُذُورَ الأُلفَةِ مِن قُلُوبِهِم، وَمِن ثَمَّ فَقَد أَوصَى -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- بِتَركِ الغَضَبِ، فَفِي البُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: أَوصِني. قَالَ: "لا تَغضَبْ" فَرَدَّ ذَلِكَ مِرَارًا، قَالَ: "لا تَغضَبْ".
وَإِنَّ في ضِمنِ هَذَا النَّهيِ المُتَكَرِّرِ عَنِ الغَضَبِ لأَمرًا بِالحِلمِ وَالأَنَاةِ وَمَدحًا لهما، وَقَد جَاءَ ذَلِكَ عِندَ مُسلِمٍ مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لِلأَشَجِّ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ: الحِلمُ وَالأَنَاةُ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ لَو ذَهَبَ المَرءُ لِيَنتَقِمَ مِن كُلِّ مَن أَخطَأَ في حَقِّهِ لَتَكَدَّرَت حَيَاتُهُ وَلَتَنَغَّصَ عَيشُهُ، وَلَمَا سَلِمَ لَهُ قَرِيبٌ وَلا بَعِيدٌ، وَلا يَهنَأُ في هَذِهِ الدُّنيَا وَيَستَمتِعُ بها إِلاَّ المُسَامِحُ، وَصَدَقَ القَائِلُ:
إِذَا ضَاقَ صَدرُ المَرءِ لم يَصفُ عَيشُهُ *** وَمَا يَستَطِيبُ العَيشَ إلاّ المُسامِحُ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 67.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 65.18 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.81%)]