عهد بني العباس في العراق جلال الدين السيوطي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 854471 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 389420 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-12-2019, 11:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي عهد بني العباس في العراق جلال الدين السيوطي

عهد بني العباس في العراق


جلال الدين السيوطي

السفاح أول خلفاء بني العباس



السفاح أول خلفاء بني العباس تولى الخلافة 132هـ وحتى 136هـ.
السفاح أول خلفاء بني العباس: أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم.
ولد سنة ثمانٍ ومائة -وقيل: سنة أربع- بالحميمة من ناحية البلقاء، ونشأ بها، وبويع بالكوفة وأمه ريطة الحارثية.
حدث عن أخيه إبراهيم بن محمد الإمام، وروى عنه عمه عيسى بن علي، وكان أصغر من أخيه المنصور.


أخرج أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " «يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له: السفاح فيكون إعطاؤه المال حثيا» " 1.


وقال عبيد الله العيشي: قال أبي: سمعت الأشياخ يقولون: والله لقد أفضت الخلافة إلى بني العباس وما في الأرض أحد أكثر قارئًا للقرآن، ولا أفضل عابدًا ولا ناسكًا منهم.


قال ابن جرير الطبري: كان بدء أمر بني العباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم العباس عمه أن الخلافة تئول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك.


وعن رشدين بن كريب: أن أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية خرج إلى الشام، فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال: يابن عم، إن عندي علمًا أريد أن أنبذه إليك، فلا تطلعن عليه أحدًا، إن هذا الأمر الذي ترتجيه الناس فيكم، قال: قد علمته فلا يسمعنه منك أحد.


وروى المدائني عن جماعة أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال: لنا ثلاثة أوقات: موت يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق بإفريقية فعند ذلك تدعو لنا دعاة، ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم بالمغرب، فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية، ونقضت البربر بعث محمد الإمام رجلًا إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا من آل محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا يسمّي أحدًا، ثم وجه أبا مسلم الخراساني وغيره، وكتب إلى النقباء فقبلوا كتبه، ثم لم ينشب أن مات محمد، فعهد إلى ابنه إبراهيم، فبلغ خبره مروان، فسجنه، ثم قتله، فعهد إلى أخيه عبد الله، وهو السفاح، فاجتمع إليه شيعتهم، وبويع بالخلافة بالكوفة في ثالث ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وصلى بالناس الجمعة، وقال في الخطبة: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا
__________

1 أخرجه أحمد في المسند "80/3".

وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به الذابين عنه، ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن، إلى أن قال: فلما قبض الله نبيه قام بالأمر أصحابه إلى أن وثب بنو حرب ومروان فجاروا واستأثروا فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فانتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، لم تفتروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدت في أعطياتكم مائة مائة؛ فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير.
وكان عيسى بن علي إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول: إن أربعة عشر رجلًا خرجوا من دارهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم، شديدة قلوبهم،
ولما بلغ مروان مبايعة السفاح خرج لقتاله فانكسر كما تقدم، ثم قتل، وقتل في مبايعة السفاح من بني أمية وجندهم ما لا يحصى من الخلائق، وتوطدت له الممالك إلى أقصى المغرب.


قال الذهبي: بدولته تفرقت الجماعة، وخرج عن الطاعة ما بين تاهرت وطبنة إلى بلاد السودان، وجميع مملكة الأندلس، وخرج بهذه البلاد من تغلب عليها واستمر ذلك.
مات السفاح بالجدري في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وكان قد عهد إلى أخيه أبي جعفر، كان في سنة أربع وثلاثين قد انتقل إلى الأنبار، وصيرها دار الخلافة.


ومن أخبار السفاح، قال الصولي: من كلامه: إذا عظمت القدرة قلت الشهوة، وقل تبرع إلا معه حق مضاع، وقال: إن من أدنياء الناس ووضعائهم من عدّ البخل حزمًا، والحلم ذلًّا، وقال: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة، والصبر حسن إلا على ما أوقع الدين وأوهن السلطان، والأناة محمودة إلا عند إمكان الفرصة.


قال الصولي: وكان السفاح أسخى الناس، ما وعد عدة فأخرها عن وقتها، ولا قام من مجلسه حتى يقضيها، وقال له عبد الله بن حسن مرة: سمعت بألف ألف درهم وما رأيتها قط، فأمره بها فأحضرت، وأمر بحملها معه إلى منزله.
قال: وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن. وقل ما يروى له من الشعر.


وقال سعيد بن مسلم الباهلي: دخل عبد الله بن حسن على السفاح مرة، والمجلس غاص ببني هاشم والشيعة ووجوه الناس، ومعه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال له: إن عليًّا جدك كان خيرًا مني وأعدل، ولي هذا الأمر، أفأعطى جديك الحسن والحسين -وكان خيرًا منك- شيئًا؟ وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، فانصرف ولم يحر جوابًا، وعجب الناس من جواب السفاح.
قال المؤرخون: في دولة بني العباس افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب من الديوان، وأدخل الأتراك في الديوان، واستولت الديلم، ثم الأتراك وصارت لهم دولة عظيمة، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف، ويملكهم بالقهر.


قالوا: وكان السفاح سريعًا إلى سفك الدماء، فأتبعه في ذلك عماله في المشرق والمغرب، وكان مع ذلك جوادًا بالمال.
مات في أيامه من الأعلام: زيد بن أسلم، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وربيعة الرأي فقيه أهل المدينة، وعبد الملك بن عمير، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرمي وعبد الحميد الكاتب المشهور، قتل ببوصير مع مروان، ومنصور بن المعتمر، وهمام بن منبه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-01-2020, 12:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عهد بني العباس في العراق جلال الدين السيوطي

عهد بني العباس في العراق


جلال الدين السيوطي

المنصور أبو جعفر عبد الله


المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس(1)، وأمه سلامة البربرية أم ولد، ولد سنة خمس وتسعين، وأدرك جده ولم يرو عنه. وروى عن أبيه، وعن عطاء بن يسار، وعنه ولده المهديّ، وبويع بالخلافة بعهد من أخيه، وكان فحل بني العباس هيبة وشجاعة وحزمًا ورأيًا وجبروتًا، جماعًا للمال، تاركًا اللهو واللعب، كامل العقل، جيد المشاركة في العلم والأدب، فقيه النفس، قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه، وهو الذي ضرب أبا حنيفة -رحمه الله- على القضاء، ثم سجنه، فمات بعد أيام، وقيل: إنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه، وكان فصيحًا بليغًا، مفوّهًا، خليقًا للإمارة، وكان غاية في الحرص والبخل، فلقب: أبا الدوانيق، لمحاسبته العمال والصناع على الدوانيق والحبات.
أخرج الخطيب عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «منا السفاح، ومنا المنصور، ومنا المهدي» (2) . قال الذهبي: منكر منقطع.

وأخرج الخطيب وابن عساكر وغيرهما من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: منا السفاح، ومنا المنصور، ومنا المهدي (3) . قال الذهبي: إسناده صالح.
وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن محمد بن جابر عن الأعمش عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " «منا القائم، ومنا المنصور، ومنا السفاح، ومنا المهدي، فأما القائم فتأتيه الخلافة ولم يهرق فيها محجمة دم (4) ، وأما المنصور فلا تلد له راية، وأما السفاح فهو يسفح المال والدم، وأما المهدي فيملؤها عدلًا كما ملئت ظلمًا» " (5) .
وعن المنصور قال: رأيت كأني في الحرم، وكأن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الكعبة وبابها مفتوح، فنادى منادٍ: أين عبد الله؟ فقام أخي أبو العباس حتى صار على الدرجة، فأدخل، فما لبث أن خرج ومعه قناة عليها لواء أسود قدر أربعة أذرع، ثم نودي: أين عبد الله؟ فقمت على الدرجة، فأصعدت وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وعمر، وبلال، فعقد لي، وأوصاني بأمته، وعممني بعمامة، فكان كورها ثلاثة وعشرين، وقال: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة.

تولى المنصور الخلافة في أول سنة سبع وثلاثين ومائة، فأول ما فعل أن قتل أبا مسلم الخراساني صاحب دعوتهم وممهّد مملكتهم.
وفي سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة كان دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي إلى الأندلس، واستولى عليها، وامتدت أيامه، وبقيت الأندلس في يد أولاده، إلى بعد الأربعمائة، وكان عبد الرحمن هذا من أهل العلم والعدل، وأمه بربرية.


قال أبو المظفر الأبيوردي: فكانوا يقولون: ملك الدنيا ابنا بربريتين: المنصور، وعبد الرحمن بن معاوية.
وفي سنة أربعين شرع في بناء مدينة بغداد.
وفي سنة إحدى وأربعين كان ظهور الراوندية القائلين بالتناسخ؛ فقتلهم المنصور، وفيها فتحت طبرستان.

قال الذهبي: في سنة ثلاث وأربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث، والفقه، والتفسير، فصنف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة -رحمه الله- الفقه والرأي، ثم بعد يسير صنف هشيم، والليث، وابن لهيعة، ثم ابن المبارك وأبو يوسف، وابن وهب، وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية، واللغة، والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة.
وفي سنة خمس وأربعين كان خروج الأخوين محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فظفر بهما المنصور فقتلهما وجماعة كثيرة من آل البيت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبل شيئًا واحدًا، وآذى المنصور خلقًا من العلماء ممن خرج معهما أو أمر بالخروج قتلًا وضربًا وغير ذلك: منهم أبو حنيفة، وعبد الحميد بن جعفر وابن عجلان، وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس -رحمه الله- وقيل: إن في أعناقنا بيعة للمنصور، قال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين.

وفي سنة ست وأربعين كانت غزوة قبرص.
وفي سنة سبع وأربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد، وكان السفاح عهد إليه من بعد المنصور، وكان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما، فكافأه بأن خلعه مكرهًا، وعهد إلى ولده المهدي.
وفي سنة ثمانٍ وأربعين توطّدت الممالك كلها للمنصور، وعظمة هيبته في النفوس، ودانت له الأمصار، ولم يبقَ خارجًا عنه سوى جزيرة الأندلس فقط، فإنها غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني، لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل الأمير فقط، وكذلك بنوه.
وفي سنة تسع وأربعين فرغ من بناء بغداد.
وفي سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير أستاذسيس، واستولى على أكثر مدن خراسان، وعظم الخطب، واستفحل الشر، واشتد على المنصور الأمر، وبلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، فعمل معهم أجشم المروزي مصافًا، فقتل أجشم واستبيح عسكره، فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش عرمرم (6) يسدّ الفضاء، فالتقى الجمعان، وصبر الفريقان، وكانت وقعة مشهورة يقال: قتل فيها سبعون ألفًا، وانهزم أستاذسيس فالتجأ إلى جبل، وأمر الأمير خازم في العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم، وكانوا أربعة عشر ألفًا، ثم حاصروا أستاذسيس مدة، ثم سلم نفسه فقيدوه وأطلقوا أجناده، وكان عددهم ثلاثين ألفًا، انتهى.

وفي سنة إحدى وخمسين بنى الرصافة وشيدها.
وفي سنة ثلاث وخمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال، فكانوا يعملونها بالقصب والورق ويلبسونها السواد، فقال أبو دلامة.
وكنا نرجّى من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جلّلت بالبرانس
وفي سنة ثمانٍ وخمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري، وعباد بن كثير، فحبسا، وتخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج، فلم يوصله الله مكة سالِمًا، بل قدم مريضًا ومات، وكفاهما الله شره، وكانت وفاته بالبطن في ذي الحجة ودفن بين الحجون وبين بئر ميمون، وقال سلم الخاسر:
قفل الحجيج وخلفوا ابن محمد ... رهنًا بمكة في الضريح الملحد
شهدوا المناسك كلها وإمامهم ... تحت الصفائح (7) محرمًا لم يشهد
ومن أخبار المنصور، أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة، فبينا هو يدخل منزل من المنازل قبض عليه صاحب الرّصد، فقال: زن درهمين قبل أن تدخل: قال: خلِّ عني فإني رجل من بني هاشم، قال: زن درهمين، فقال: خل عني فإني من بني عم النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: زن درهمين، قال: خلِّ عني فإني رجل قارئ لكتاب الله، قال: زن درهمين، قال: خل عني فإني رجل عالم بالفقه والفرائض، قال: زن درهمين، فلما أعياه أمره وزن الدرهمين، فرجع ولزم جمع المال والتدنق فيه حتى لقب بأبي الدوانيق.

وأخرج عن الربيع بن يونس الحاجب قال: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان وعلي، والملوك أربعة: معاوية، وعبد الملك، وهشام، وأنا.
وأخرج عن مالك بن أنس قال: دخلت على أبي جعفر المنصور فقال: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: أبو بكر وعمر، قال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين.
وأخرج عن إسماعيل الفهري قال: سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في خطبته: أيها الناس، إنما أن سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلًا، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم في كتابه إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل، فإنه سميع مجيب.
وأخرجه الصولي، وزاد في أوله أن سبب هذه الخطبة أن الناس بَخّلوه، وزاد في آخره: فقال بعض الناس: أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه.
وأخرج عن الأصمعي وغيره أن المنصور صعد المنبر فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، اذكر من أنت في ذكره، فقال: مرحبًا مرحبًا، لقد ذكرت جليلًا، وخوفت عظيمًا، وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، والموعظة منا بدت، ومن عندنا خرجت، وأنت يا قائلها فاحلف بالله ما الله أردت بها، وإنما أردت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر فأهون بها من قائلها، واهتبلها من الله، ويلك إني قد غفرتها، وإياكم معشر الناس وأمثالها ... وأشهد أن محمد عبده ورسوله، فعاد إلى خطبته فكأنه يقرؤها في قرطاس.
وأخرج من طرق أن المنصور قال لابنه المهدي: يا أبا عبد الله، الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلًا من ظلم من هو دونه.
وقال: لا تبرمنّ أمرًا حتى تفكر فيه؛ فإن فكرة العاقل مرآته تريه قبيحه وحسنه.
وقال: أي بنيّ استدم النعمة بالشكر، والمقدرة بالعفو، والطاعة بالتأنف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس.
وأخرج عن مبارك بن فضالة قال: كنا عند المنصور، فدعا برجل ودعا بالسيف، فقال المبارك، يا أمير المؤمنين، سمعت الحسن يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا كان يوم القيامة قام منادٍ من عند الله ينادي: ليقم الذين أجرهم على الله؛ فلا يقوم إلا من عفا». فقال المنصور: خلّوا سبيله.

وأخرج عن الأصمعي قال: أتى المنصور برجل يعاقبه، فقال: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين، فعفا عنه.
وأخرج عن الأصمعي قال: لقي المنصور أعرابيًّا بالشام، فقال: أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت، قال: إن الله لا يجمع علينا حشفًا وسوء كيل، ولايتكم والطاعون؟.
وأخرج عن محمد بن منصور البغدادي قال: قام بعض الزهاد بين يدي المنصور فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشترِ نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده، فأفحم المنصور وأمر له بمال، فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك.

وأخرج عن عبد السلام بن حرب: أن المنصور بعث إلى عمرو بن عبيد، فجاءه فأمر له بمال، فأبى أن يقبله، فقال له المنصور: والله لتقبلنه، فقال: والله لا أقبله، فقال له المهدي: قد حلف أمير المؤمنين، فقال: أمير المؤمنين أقوى على كفارة اليمين من عمك، فقال له المنصور: سل حاجتك؟ قال: أسألك ألا تدعوني حتى آتيك، ولا تعطيني حتى أسألك، فقال: علمت أني جعلت هذا وليّ عهدي؟ فقال: يأتيه الأمر يوم يأتيه وأنت مشغول.
وأخرج عن عبد الله بن صالح قال: كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أخرجها من يده إلا ببينة، فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد، فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق، فلما جاءه الكتاب قال: ملأتها والله عدلًا، وصار قضاتي تردني إلى الحق.

وأخرج من وجه آخر أن المنصور وشى إليه بسوار، فاستقدمه، فعطس المنصور، فلم يشمّته سوار، فقال: ما يمنعك من التشميت؟ قال: لأنك لم تحمد الله، فقال: قد حمدت في نفسي، قال: شَمّتك في نفسي قال: ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لم تحابِ غيري.
وأخرج عن نمير المدني قال: قدم المنصور المدينة، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه، وأنا كاتبه، فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء، فأمرني أن أكتب إليه بالحضور وإنصافهم، فاستعفيت فلم يعفني، فكتبت الكتاب ثم ختمته، وقال: والله لا يمضي بك غيرك، فمضيت به إلى الربيع، فدخل عليه ثم خرج، فقال للناس: إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا يقومنّ معي أحد، ثم جاء هو والربيع، فلم يقم له القاضي، بل حلّ رداءه واحتبى به، ثم دعا بالخصوم، فادّعوا، فقضى لهم على الخليفة، فلما فرغ قال له المنصور، جزاك الله عن دينك أحسن الجزاء قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار.
وأخرج عن محمد بن حفص العجلي قال: ولد لأبي دلامة ابنة، فغدا على المنصور فأخبره، وأنشد:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس
ثم أخرج أبو دلامة خريطة (8)، فقال المنصور: ما هذه؟ قال: اجعل فيها ما تأمر لي به، فقال: املئوها دراهم، فوسعت ألفي درهم.
وأخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال: قيل للمنصور: هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة، أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، يقول المستملي، من ذكرت رحمك الله، قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما هم الدّنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، برد الآفاق، ونقلة الحديث.
وأخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمح بالعفو، قال: لأن بني مروان لم تبلَ رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقةً واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة.
وأخرج عن يونس بن حبيب قال: كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه وأرزاقه، وأبلغ في كتابه؛ فوقع المنصور في القصة: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه، وأمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك، فاكتف بالبلاغة.
وأخرج عن محمد بن سلام قال: رأت جارية المنصور قميصه مرقوعًا، فقالت: خليفة وقميصه مرقوع فقال: ويحك أما سمعت قول ابن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق، وجيب قميصه مرقوع

وقال العسكري في الأوائل: كان المنصور في ولد العباس كعبد الملك في بني أمية في بخله، رأى بعضهم عليه قميصًا مرقوعًا، فقال: سبحان من ابتلى أبا جعفر بالفقر في ملكه وحدا به سلم الحادي، فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة فأجازه بنصف درهم، فقال: لقد حدوت بهشام، فأجازني بعشرة آلاف، فقال: ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال يا ربيع وكّل به من يقبضها منه، فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهابًا وإيابًا بغير شيء.
وفي كتاب الأوائل للعسكري: كان ابن هرمة شديد الرغبة في الخمر، فدخل على المنصور فأنشده:
له لحظات من خفا في سريرة ... إذا كرهًا فيها عقاب ونائل
فأمّ الذي أمّنت آمنة الردى ... وأمّ الذي حاولت بالثكل ثاكل
فأعجب به المنصور، وقال: ما حاجتك؟ قال: تكتب إلى عاملك بالمدينة ألا يحدّني إذا وجدني سكران، فقال: لا أعطل حدًّا من حدود الله، قال: تحتال لي، فكتب إلى عامله: من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة، واجلد ابن هرمة ثمانين.
فكان العون إذا مر به وهو سكران، يقول: من يشتري مائة بثمانين؟! ويتركه ويمضي.
قال: وأعطاه المنصور في هذه المرة عشرة آلاف درهم، وقال له: يا إبراهيم احتفظ بها؛ فليس لك عندنا مثلها، فقال: إني ألقاك على الصراط بختمة الجهبذ.
ومن شعر المنصور، وشعره قليل:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإنّ فساد الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداء يومًا بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي: كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة، فأدخلني منزله، فقدّم إليّ طعامًا لا لحم فيه ثم قال: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟ قالت: لا، فاستلقى وقرأ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129] فلما ولي الخلافة وفدتُ إليه فقال: كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟ قلت: ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئًا إلا رأيته في سلطانك، فقال: إنا لا نجد الأعوان، قلت: قال عمر بن عبد العزيز: إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برًّا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرًا أتوه بفجورهم، فأطرق.

ومن كلام المنصور: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة خلال: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. أسنده الصولي.
وقال: إذا مدّ عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبّلها، أسنده أيضًا.
وأخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: مما يؤثر من ذكاء المنصور أنه دخل المدينة فقال للربيع: اطلب لي رجلًا يعرفني دور الناس، فجاءه رجل، فجعل يعرفه الدور، إلا أنه لا يبتدئ به حتى يسأله المنصور، فلما فارقه أمر له بألف درهم، فطالب الرجل الربيع بها،

فقال: ما قال لي شيئًا، وسيركب فذكره، فركب مرة أخرى، فجعل يعرفه، ولا يرى موضعًا للكلام، فلما أراد أن يفارقه قال الرجل مبتدئًا، وهذه يا أمير المؤمنين دار عاتكة التي يقول فيها الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتغزل ... حذر العدى وبك الفؤاد موكل
فأنكر المنصور ابتداءه، فأمرّ القصيدة على قلبه فإذا فيها:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فضحك وقال: ويلك يا ربيع أعطه ألف درهم.
وأسند الصولي عن إسحاق الموصلي قال: لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب ولا غناء، بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة، وبينهم وبينها عشرون ذراعًا، وبينهما وبينه كذلك، وأول من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهدي.
وأخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: قال المنصور لقثم بن العباس بن عبد الله بن العباس، وكان عامله على اليمامة والبحرين: ما القثم؟ ومن أي شيء أخذ؟ فقال: لا أدري، فقال: اسمك اسم هاشمي لا تعرفه؟ أنت والله جاهل، قال: فإن رأى أمير المؤمنين أن يفيدينه، قال: القثم الذي ينزل بعد الأكل ويقثم الأشياء يأخذها ويثلمها.
روي أن المنصور ألَحّ عليه ذباب، فطلب مقاتل بن سليمان، فسأله: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به الجبارين.
وقال محمد بن علي الخراساني: المنصور أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية، ككتاب كليلة ودمنة، وإقليدس، وهو أول من استعمل مواليه على الأعمال وقدمهم على العرب، وكثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة العرب وقيادتها، وهو أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد علي، وكان قبل ذلك أمرهم واحدًا.
أحاديث من رواية المنصور: قال الصولي: كان المنصور أعلم الناس بالحديث والأنساب، مشهورًا بطلبه، قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، حدثنا أبو محمد الجوهري، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن الشخير، حدثنا أحمد بن إسحاق أبو بكر الملحمي، حدثنا أبو عقيل أنس بن سلم الأنطرطوشي، حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، عن المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه عن جده، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يتختّم في يمينه"(9).
وقال الصولي: حدثنا محمد بن زكريا اللؤلؤي، حدثنا جهم بن السباق الرياحي، حدثني بشر بن المفضل، سمعت الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تأخر عنها هلك" (10).
وقال الصولي: حدثنا محمد بن موسى، حدثنا سليمان بن أبي شيخ، حدثنا أبو سفيان الحميري، سمعت المهدي يقول: حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرنا أميرًا وفرضنا له فرضًا، فما أصاب من شيء فهو غلول".
وقال الصولي: حدثنا جبلة بن محمد، حدثنا أبي، عن يحيى بن حمزة الحضرمي، عن أبيه قال: ولاني المهدي القضاء، فقال: اصلب في الحكم، فإني أبي حدثني عن أبيه، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلومًا يقدر أن ينصره فلا يفعل".
وقال الصولي حدثنا محمد بن العباس بن الفرج حدثني أبي، عن الأصمعي حدثني جعفر بن سليمان، عن المنصور، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" (11).
وقال الصولي: حدثنا أبو إسحاق محمد بن هارون بن عيسى، حدثنا الحسن بن عبيد الله الحصيبي، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثني المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: لا تسافروا في محاق الشهر، ولا إذا كان القمر في العقرب.
مات في أيام المنصور من الأعلام:
ابن المقفع، وسهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن، وخالد بن يزيد المصري الفقيه، وداود بن أبي هند، وأبو حازم سلمة بن دينار الأعرج، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني، ويونس بن عبيد، وسليمان الأحول، وموسى بن عقبة صاحب المغازي، وعمرو بن عبيد المعتزلي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والكلبي، وأبو إسحاق، وجعفر بن محمد الصادق، والأعمش، وشبل بن عباد مقرئ مكة، ومحمد بن عجلان المعدني الفقيه، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن جريج، وأبو حنيفة، وحجاج بن أرطأة، وحَمّاد الراوية، ورؤبة الشاعر، والجريري، وسليمان بن التميمي، وعاصم الأحول، وابن شبرمة الضبي، ومقاتل بن حبان، ومقاتل بن سليمان، وهاشم بن عروة، وأبو عمرو بن العلاء، وأشعب الطماع، وحمزة بن حبيب الزيات، والأوزاعي، وخلائق آخرون.


__________
1 تولى الخلافة 136هـ وحتى 158هـ.
2 أخرجه الخطيب في تاريخه "63/1".
3 أخرجه الخطيب وأبو نعيم في الدلائل وابن عساكر "38687/14 كنز".
4 محجمة من دم: المحجمة: القارورة، وقد "احتجم" من الدم. انظر: مختار الصحاح "124".
5 أخرجه الخطيب في تاريخه "399/9".
6 جيش عرمرم: أي كثير العدد.
7 الصفائح: هي السيوف العريضة في الجيش: انظر القاموس "243/1".
8 الخريطة: وعاء من أدم وغيره، انظر: القاموس المحيط "370/2".
9 أخرجه ابن عساكر في تاريخه "17402/6 كنز"، وأبو داود "4229/4"، والترمذي "1742/4".
10 أخرجه الطبراني في الكبير "2638/3"، وأبو نعيم في الحلية "306/4"، والحاكم في المستدرك "343/2".
11 أخرجه الخطيب في تاريخه "271/10، 271/11"، والطبراني في الكبير "11621/11".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-01-2020, 12:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عهد بني العباس في العراق جلال الدين السيوطي

عهد بني العباس في العراق


جلال الدين السيوطي


المهدي: أبو عبد الله محمد بن المنصور



المهدي: أبو عبد الله محمد بن المنصور: (تولى الخلافة 158هـ وحتى 169هـ.)ولد بأيذج سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل:
سنة ست وعشرين، وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية.
وكان جوادًا ممدّحًا مليح الشكل، محببًا إلى الرعية، حسن الاعتقاد، تتبّع الزنادقة، وأفنى منهم خلقًا كثيرًا، وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين، روى الحديث عن أبيه، وعن مبارك بن فضالة، حدث عنه يحيى بن حمزة، وجعفر بن سليمان الضبعي، ومحمد بن عبد الله الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى الحميري، قال الذهبي: وما علمت قيل فيه جرحًا ولا تعديلًا.
وأخرج ابن عدي من حديث عثمان مرفوعًا: "المهدي من ولد العباس عمي" (1) تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم، وكان يضع الحديث، وأورد الذهبي هنا حديث ابن مسعود مرفوعًا: "المهدي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي" (2) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه.
ولما شبّ المهدي أمّره أبوه على طبرستان وما والاها، وتأدب، وجالس العلماء وتميز، ثم إن أباه عهد إليه، فلما مات بويع بالخلافة، ووصل الخبر إليه ببغداد، فخطب الناس فقال: إن أمير المؤمنين عبد دعي فأجاب، وأمر فأطاع واغرورقت عيناه، فقال: قد بكى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيمًا، وقلّدت جسيمًا، فعند الله أحتسب أمير المؤمنين، وبه أستعين على خلافة المسلمين، أيها الناس أسرّوا مثل ما تعلنون من طاعتكم نهبكم العافية، وتحمدوا العاقبة، واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم وطوى الإصر(3) عنكم، وأهال عليكم السلامة من حيث رآه الله مقدمًا ذلك، والله لأفنين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم.
قال نفطويه: لما حصلت الخزائن في يدي المهدي أخذ في رد المظالم؛ فأخرج أكثر الذخائر ففرقها، وبر أهله ومواليه.
وقال غيره: أول من هنأ المهدي بالخلافة وعزّاه بأبيه أبو دلامة، فقال:
عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلى(4)، وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة، ويسوؤها ... ما أنكرت، ويسرها ما تعرف
فيسوؤها موت الخليفة محرم ... ويسرها أن قام هذا الأرأف
ما إن رأيت كما رأيت، ولا أرى ... شعرًا أسرحه وآخر ينتف
هلك الخليفة يا لدين محمد ... وأتاكم من بعده من يخلف
أهدى لهذا الله فضل خلافة ... ولذاك جنات النعيم تزخرف
وفي سنة تسع وخمسين بايع المهدي بولاية العهد لموسى الهادي، ثم من بعده لهارون الرشيد، ولديه.
وفي سنة ستين فتحت أربد من الهند عنوة؛ وفيها حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة أنهم يخافون هدمها؛ لكثرة ما عليها من الأستار، فأمر بها فجردت، واقتصر على كسوة المهدي، وحمل المهدي الثلج إلى مكة، قال الذهبي: لم يتهيأ ذلك لملك قط.
وفي سنة إحدى وستين أمر المهدي بعمارة طريق مكة، وبنى بها قصورًا، وعمل البرك، وأمر بترك المقاصير التي في جوامع الإسلام، وقصر المنابر، وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي سنة ثلاث وستين وما بعدها كثرت الفتوح بالروم.
وفي سنة ست وستين تحول المهدي إلى قصره المسمى بعيساباذ، وأمر فأقيم له البريد من المدينة النبوية، ومن اليمن ومكة إلى الحضرة، بغالًا وإبلًا. قال الذهبي: وهو أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق.
وفيها وفيما بعدها جدّ المهدي في تتبع الزنادقة، وإبادتهم، والبحث عنهم في الآفاق والقتل على التهمة.
وفي سنة سبع وستين أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام، وأدخل في ذلك دورًا كثيرة.
وفي سنة تسع وستين مات المهدي: ساق خلف صيد، فاقتحم الصيد خربة، وتبعه الفرس فدق ظهره في بابها، فمات لوقته، وذلك لثمانٍ بقين من المحرم، وقيل: إنه مات مسمومًا.
وقال سلم الخاسر يرثيه:
وباكية على المهدي عبري ... كأن بها، وما جنت جنونًا
وقد خمشت محاسنها، وأبدت ... غدائرها، وأظهرت القرونا
لئن بلى الخليفة بعد عز ... لقد أبقى مساعي ما بلينا
سلام الله عدة كل يوم ... على المهدي حين ثوى رهينا
تركنا الدين والدنيا جميعًا ... بحيث ثوى أمير المؤمنينا
ومن أخبار المهدي قال الصولي: لما عقد المهدي العهد لولده موسى قال مروان بن أبي حفصة:
عقدت لموسى بالرصافة بيعة ... شد الإله بها عرى الإسلام
موسى الذي عرفت قريش فضله ... ولها فضيلتها على الأقوام
بمحمد بعد النبي محمد ... حي الحلال ومات كل حرام
مهدي أمته الذي أمست به ... للذل آمنة وللإعدام
موسى ولي عهد بالخلافة بعده ... جفت بذاك مواقع الأقلام
وقال آخر:
يابن الخليفة إن أمة أحمد ... تاقت إليك بطاعة أهواؤها
ولتملأن الأرض عدلًا كالذي ... كانت تحدث أمة علماؤها
حتى تمنى لو ترى أمواتها ... من عدل حكمك ما ترى أحياؤها
فعلى أبيك اليوم بهجة ملكها ... وغدًا عليك إزارها ورداؤها
وأسند الصولي أن امرأة اعترضت المهدي، فقالت: يا عصبة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- انظر في حاجتي: فقال المهدي: ما سمعتها من أحد قط، اقضوا حاجتها. وأعطوها عشرة آلاف درهم.
وقال قريش الختلي: رفع صالح بن عبد القدوس البصري إلى المهدي في الزندقة، فأراد قتله، فقال: أتوب إلى الله، وأنشد لنفسه:
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
فصرفه، فلما قرب من الخروج ردّه، فقال: ألم تقل: والشيخ لا يترك أخلاقه؟ قال: بلى، قال: فكذلك أنت لا تدع أخلاقك حتى تموت، ثم أمر بقتله.
وقال زهير: قدم على المهدي بعشرة محدثين: منهم فرج بن فضالة، وغياث بن إبرهيم -وكان المهدي يحب الحمام- فلما أدخل غياث قيل له: حدّث أمير المؤمنين، فحدثه عن فلان عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا سبق إلا في حافر أو نصل" وزاد فيه: "أو جناح" فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم، فلما قام قال: أشهد أن قفاك قفا كذاب، وإنما استجلبت ذلك، ثم أمر بالحمام فذبحت.
وروي أن شريكًا دخل على المهدي، فقال له: لا بدّ من ثلاث: إما أن تلي القضاء، أو تؤدب ولدي وتحدثهم، أو تأكل عندي أكلة؟ ففكر ساعة ثم قال: الأكلة أخف عليّ، فأمر المهدي بعمل ألوان من المخ المعقود بالسكر وغير ذلك، فأكل، قال الطباخ: لا يفلح بعدها، قال: فحدثهم بعد ذلك، وعلمهم العلم، وولي القضاء لهم.
وأخرج البغويّ في الجعديات عن حمدان الأصبهاني قال: كنت عند شريك، فأتاه ابن المهدي، فاستند وسأل عن حديث، فلم يلتفت شريك، ثم أعاد فعاد، فقال: كأنك تستخف بأولاد الخلفاء، قال: لا، ولكن العلم أزيد عنده أهله من أن يضيعوه، فجثا على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم.
ومن شعر المهدي ما أنشده الصولي:
ما يكف الناس عنا ... ما يملّ الناس منا
إنما همتهم أن ... ينبشوا ما قد دفنّا
لو سكنّا بطن أرض ... فلكانوا حيث كنّا
وهمُ إن كاشفونا ... في الهوى يومًا مجنّا
وأسند الصولي عن محمد بن عمارة، قال: كان للمهدي جارية شغف بها، وهي كذلك، إلا أنها تتحاماه كثيرًا، فدس إليها من عرف ما في نفسها، فقالت: أخاف أن يملني ويدعني فأموت، فقال المهدي في ذلك:
ظفرت بالقلب مني ... غادة مثل الهلال
كلما صحّ لها وُدّ ... يَ جاءت باعتلال
لا لحب الهجر مني ... والتنائي عن وصالي
بل لإبقاء على حبي ... لها خوف الملال
وله في نديمه عمر بن بزيع:
ربّ تّمم لي نعيمي ... بأبي حفص نديمي
إنما لذة عيشي ... في غناء وكروم
وجوار عطرات ... وسماع ونعيم
قلت: شعر المهدي أرق وألطف من شعر أبيه وأولاده بكثير.
وأسند الصولي عن ابن كريمة، قال: دخل المهدي إلى حجرة جارية على غفلة، فوجدها وقد نزعت ثيابها وأرادت لبس غيرها، فلما رأته غطت بيدها فقصرت كفها عنه فضحك وقال:
نظرت في القصر عيني ... نظرة وافق حيني
ثم خرج فرأى بشارًا فأخبره وقال: أجز، فقال بشار:
سترته إذ رأتني ... دونه بالراحتين
فبدا لي منه فضل ... تحت طي العكنتين
وأسند عن إسحاق الموصلي، قال: كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء تشبيهًا بالمنصور نحوًا من سنة، ثم ظهر لهم، فأشير عليه أن يحتجب، فقال: إنما اللذة مع مشاهدتهم.
وأسند عن مهدي بن سابق قال: صاح رجل بالمهدي وهو في موكبه:
قل للخليفة حاتِمٌ لك خائن ... فخف الإله وأعفنا من حاتم
إن العفيف إذا استعان بخائن ... كان العفيف شريكه في المأثم
فقال المهدي: يعزل كل عامل لنا يدعى حاتِمًا
وأسند عن أبي عبيدة قال: كان المهدي يصلي بنا الصلوات الخمس في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يومًا، فقال أعرابي: لست على طهر، وقد رغبت في الصلاة خلفك، فأمر هؤلاء بانتظاري، فقال: انتظروه، ودخل المحراب، فوقف إلى أن قيل: جاء الرجل، فكبر فعجب الناس من سماحة أخلاقه.
وأسند عن إبراهيم بن نافع أن قومًا من أهل البصرة تنازعوا إليه في نهر من أنهار البصرة، فقال: إن الأرض لله في أيدينا للمسلمين، فما لم يقع له ابتياع منها يعود ثمنه على كافتهم وفي مصلحتهم، فلا سبيل لأحد عليه فقال القوم: هذا النهر لنا بحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه قال: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له». وهذه موات، فوثب المهدي عند ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى ألصق خده بالتراب وقال: سمعت لما قال وأطعت، ثم عاد، وقال: بقي أن تكون هذه الأرض مواتًا حتى لا أعرض فيها، وكيف تكون مواتًا والماء محيط بها من جوانبها؟ فإن أقاموا البينة على هذا سلمت.

وأسند عن الأصمعي قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثَنّى بملائكته فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} الآية [الأحزاب: 56] آثره بها من بين الرسول إذ خصكم بها من بين الأمم.
قلت: وهو أول من قال ذلك في الخطبة، وقد استسنها الخطباء إلى اليوم.
ولما مات قال أبو العتاهية وقد علقت المسوح على قباب حرمه:
رحن في الموشى وأصبحن عليهنّ المسوح ... كل نطّاح من الدهر له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عمّرت ما عمّر نوح ... نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
فصل: ذكر أحاديث من رواية المهدي
قال الصولي: حدثني أحمد بن محمد بن صالح التمار، حدثنا يحيى بن محمد القرشي، حدثنا أحمد بن هشام، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن مسلم المدائني -وهو ثقة صدوق- قال: سمعت المهدي يخطب فقال: حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبة من العصر إلى مغيربان الشمس، حفظها من حفظها، ونسيها من نسيها، فقال: «ألا إن الدنيا حلوة خضرة» (5) الحديث بطوله.
وقال الصولي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثني أبو يعقوب بن حفص الخطابي، سمعت المهدي يقول: حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن وفدًا من العجم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أحفوا لحاهم وأعفو شواربهم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خالفوهم، اعفوا لحاكم واحفوا شواربكم» (6) وإحفاء الشارب، أخذ ما نزل على الشفة منه، ووضع المهدي يده على أعلى شفته.
وقال منصور بن مزاحم ومحمد بن يحيى بن حمزة، عن يحيى بن حمزة قال: صلى بنا المهديّ المغرب فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال: حدثني أبي عن أبيه عن ابن إسحاق: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت للمهدي: نأثره عنك؟ قال: نعم.
قال الذهبي: هذا إسناد متصل، لكن ما علمت أحدًا احتج بالمهدي ولا بأبيه في الأحكام، تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم.
وقال ابن عدي: كان يضع الحديث.
قلت: لم ينفرد به، بل وجدت له متابعًا.
مات في أيام المهدي من الأعلام: شعبة، وابن أبي ذئب، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم الزاهد، وداود الطائي الزاهد، وبشار بن برد أول شعراء المحدثين، وحماد بن سلمة، وإبراهيم بن طهمان، والخليل بن أحمد صاحب العروض.

1 أخرجه ابن عدي في الكامل "196/3".
2 أخرجه أبو داود "4282/4"، والترمذي "2231/4". وقال أبو عيسى: حسن صحيح.
3 الإصر: يطلق الإصر على العهد، والذنب أيضًا الثقل. انظر: مختار الصحاح "18".
4 جذلي: الجذل: الفرح أي فرحة مسرورة. انظر: مختار الصحاح "97".
5 أخرجه أحمد في المسند "19/3"، وأبو نعيم في الحلية "311/7".
6 أخرجه الطبراني في الكبير "11724/11".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-01-2020, 12:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عهد بني العباس في العراق جلال الدين السيوطي

عهد بني العباس في العراق


جلال الدين السيوطي


الهادي أبو محمد



الهادي أبو محمد موسى بن المهدي بن المنصور، وأمه أم ولد بربرية اسمها الخيزران؛ ولد بالري سنة سبع وأربعين ومائة، وبويع بالخلافة بعد أبيه بعهد منه.
قال الخطيب: ولم يل الخلافة قبله أحد في سنه، فأقام فيها سنة وأشهرًا، وكان أبوه أوصاه بقتل الزنادقة، فجدّ في أمرهم، وقتل منهم خلقًا كثيرًا؛ وكان يسمّى موسى أطبق؛ لأن شفته العليا كانت تقلص، فكان أبوه وكّل به في صغره خادمًا كلما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطبق، فيفيق على نفسه ويضم شفتيه، فشهر بذلك.
قال الذهبي: وكان يتناول المسكر، ويلعب، ويركب حمارًا فارهًا، ولا يقيم أبهة الخلافة، وكان مع هذا فصيحًا، قادرًا على الكلام، أديبًا، تعلوه هيبة وله سطوة وشهامة.
وقال غيره: كان جبارًا، وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة، والقسيّ الموترة؛ فاتبعه عماله به في ذلك، وكثر السلاح في عصره.
مات في ربيع الآخر سنة سبعين ومائة؛ واختلف في سبب موته؛ فقيل: إنه دفع نديمًا له من جرف على أصول قصب قد قطع فتعلق النديم به فوقع فدخلت قصبة في منخره، فماتا جميعًا.
وقيل: أصابته قرحة في جوفه.
وقيل: سمته أمه الخيزران لما عزم على قتل الرشيد ليعهد إلى ولده.
وقيل: كانت أمه حاكمة مستبدة بالأمور الكبار، وكانت المواكب تغدو إلى بابها، فزجرهم عن ذلك، وكلمها بكلام وقح، وقال: لئن وقف ببابك أمير لأضربن عنقه! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو سبحة؟ فقامت ما تعقل من الغضب، فقيل: إنه بعث إليها بطعام مسموم، فأطعمت منه كلبًا فانتثر فعملت على قتله لما وعك بأن غموا وجهه ببساط جلسوا على جوانبه؛ وخلّف سبعة بنين.
ومن شعر الهادي في أخيه هارون لما امتنع من خلع نفسه.
نصحت لهارون فرد نصيحتي ... وكل امرئ لا يقبل النصح نادم
وأدعوه للأمر المؤلف بيننا ... فيبعد عنه؛ وهو في ذاك ظالم
ولولا انتظاري منه يومًا إلى غد ... لعاد إلى ما قلته وهو راغم
ومن أخبار الهادي، أخرج الخطيب عن الفضل قال: غضب الهادي على رجل فكلم فيه، فرضي، فذهب يعتذر، فقال له الهادي: إن الرضا قد كفاك مؤنة الاعتذار.
وأخرج عن عبد الله بن مصعب قال: دخل مروان بن أبي حفصة على الهادي فأشنده مديحًا له، حتى إذا بلغ قوله:
تشابه يومًا بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل
فقال له الهادي: أيما أحب إليك ثلاثون ألف معجّلة، أو مائة ألف تدور في الديوان؟
قال: تعجّل الثلاثون ألفًا، وتدور المائة ألف، قال: بل تعجلان لك جميعًا، فحمل له ذلك.
وقال الصولي: لا تعرف امرأة ولدت خليفتين إلا الخيزران أم الهادي والرشيد، وولادة بنت العباس العبسية زوج عبد الملك بن مروان، ولدت الوليد وسليمان، وشاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى، ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد الناقص وإبراهيم، ووليا الخلافة.
يزاد على ذلك باي خاتون سرّية المتوكل الأخير، ولدت العباس وحمزة ووليا الخلافة، وكزل سريته أيضًا ولدت داود وسليمان وولياها.
ثم قال الصولي: لا يعرف خليفة ركب البريد إلا الهادي من جرجان إلى بغداد.
قال: وكان نقش خاتمه: الله ثقة موسى، وبه يؤمن.
قال الصولي: ولسلم الخاسر في الهادي يمدحه:
موسى المطر ... غيث بكر
ثم انهمر ... ألوى المرر
كم اعتسر ... وكم قدر
ثم غفر ... عدل السير
باقي الأثر ... خير وشر
نفع وضر ... خير البشر
فرع مضر ... بدرٌ بدر
لمن نظر ... هو الوزر
لمن حضر ... والمفتخر لمن غبر

قال: وهذا على جزء جزء مستفعلن مستفعلن، وهو أول من عمله، ولم نسمع لمن قبله شعرًا على جزء جزء.
وأسند الصولي عن سعيد بن سلم قال: إني لأرجو أن يغفر الله للهادي بشيء رأيته منه، حضرته يومًا وأبو الخطاب السعدي ينشده قصيدة في مدحه، إلى أن قال:
يا خير من عقدت كفاه حجزته ... وخير من قلّدته أمرها مضر
فقال له الهادي: إلا من؟ ويلك! قال سعيد: ولم يكن استثنى في شعره، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما يعني من أهل هذا الزمان، ففكر الشاعر فقال:
إلا النبيّ رسول الله، إن له ... فضلًا، وأنت بذالك الفضل تفتخر
فقال: الآن أصبت وأحسنت، وأمر له بخمسين ألف درهم.
وقال المدائني: عزّى الهادي رجلًا في ابن له فقال: سرّك وهو فتنة وبلية، ويحزنك وهو ثواب ورحمة.
وقال الصولي: قول سَلم الخاسر في الهادي جامعًا بين العزاء والهناء.
لقد قام موسى بالخلافة والهدى ... ومات أمير المؤمنين محمد
فمات الذي غم البرية فقده ... وقام الذي يكفيك من يتفقد
وقال مروان بن أبي حفصة كذلك ... لقد أصبحت تختال في كل بلدة
بقبر أمير المؤمنين المقابر ... ولو لم تسكّن بابنه بعد موته
لما برحت تبكي عليه المنابر ... ولو لم يقم موسى عليها
حنينًا كما حنّ الصفيا العشائر
حديث من رواية الهادي: قال الصولي: حدثني محمد بن زكريا هو الغلابي، حدثني محمد بن عبد الرحمن المكي، حدثنا قسورة بن السكن القهري، حدثنا المطلب بن عكاشة المري، قال: قدمنا على الهادي شهودًا على رجل شتم قريشًا وتخطى إلى ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجلس لنا مجلسًا أحضر فيه فقهاء زمانه، وأحضر الرجل فشهدنا عليه، فتغير وجه الهادي، ثم نكس رأسه ثم رفعه فقال: سمعت أبي المهديّ يحدث، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد، عن أبيه علي، عن أبيه عبد الله بن عباس، قال: من أراد هوان قريش أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترضَ بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيت إلى ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- اضربوا عنقه، أخرجه الخطيب من طريق الصولي، والحديث هكذا في هذه الرواية موقوف، وقد ورد مرفوعًا من وجه آخر.
مات في أيام الهادي من الأعلام: نافع قارئ المدينة، وغيره.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11-01-2020, 11:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عهد بني العباس في العراق جلال الدين السيوطي

عهد بني العباس في العراق


جلال الدين السيوطي



الرشيد هارون أبو جعفر



الرشيد هارون أبو جعفر بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.(تولى الخلافة170هـ وحتى193هـ.)
استخلف بعهد من أبيه عند موت أخيه الهادي ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة.
قال الصولي: هذه الليلة ولد فيها عبد الله المأمون، ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة، وقام خليفة وولد خليفة إلا هذه الليلة، وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر.
حدث عن أبيه وجده، ومبارك بن فضالة، وروى عنه ابنه المأمون وغيره، وكان من أمير الخلفاء وأجلّ ملوك الدنيا، وكان كثير الغزو والحج، كما قال فيه أبو المعالي الكلابي:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدوّ على طمر ... وفي أرض الترفه فوق كور
مولده بالريّ -حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان- في سنة ثمانٍ وأربعين ومائة، وأمه أم ولد، تسمى الخيزران، وهي أم الهادي، وفيها يقول مروان بن أبي حفصة:
يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسى يسوس العالمين ابناك
وكان أبيض، طويلًا، جميلًا، مليحًا، فصيحًا، له نظر في العلم والأدب.
وكان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، لا يتركها إلا لعلة، ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم.
وكان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص.
وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن، فقال: لئن ظفرت به لأضربنّ عنقه.
وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه، وسيما إذا وعظ، وكان يحب المديح، ويجيز عليه الأموال الجزيلة، وله شعر.
دخل عليه مرة بن السماك الواعظ، فبالغ في احترامه، فقال له ابن السماك، تواضعك في شرفك أشرف من شرفك؛ ثم وعظه فأبكاه، وكان يأتي بنفسه إلى بيت الفضيل بن عياض.
قال عبد الرزاق: كنت مع الفضيل بمكة، فمرّ هارون، فقال فضيل: الناس يكرهون هذا، وما في الأرض أعز عليّ منه، لو مات لرأيت أمورًا عظامًا.
قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي -صلى الله عليه وسلم- بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي، وحدثته بحديثه صلى الله عليه وسلم: "وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل" (1). فبكى حتى انتحب.
وحدثته يومًا حديث: "احتج آدم وموسى" (2) وعنده رجل من وجوه قريش، فقال القرشي: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد، وقال: النطعَ(3) والسيفَ، زنديق يطعن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو معاوية: فما زلت أسكنه، وأقول: يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة، حتى سكن.
وعن أبي معاوية أيضًا قال: أكلت مع الرشيد يومًا، ثم صبّ على يدي رجل لا أعرفه، ثم قال الرشيد: تدري من يصب عليك؟ قلت: لا: قال: أنا إجلالًا للعلم.
وقال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعًا عند الذكر من ثلاثة: الفضيل بن عياض، والرشيد، وآخر.
قال عبيد الله القواريري: لما لقي الرشيد الفضيل قال له: يا حسن الوجه، أنت المسئول عن هذه الأمة؟ حدثنا ليث عن مجاهد: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب} [البقرة: 166] ؛ قال: الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا، فجعل هارون يبكي ويشهق.
ومن محاسنه أنه لما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء، وأمر الأعيان أن يعزوه في ابن المبارك.
قال نفطويه: كان الرشيد يقتفي آثار جده أبي جعفر، إلا في الحرص، فإنه لم ير خليفة قبله أعطى منه: أعطى مرة سفيان بن عيينه مائة ألف، وأجاز إسحاق الموصلي مرة بمائتي ألف، وأجاز مروان بن أبي حفصة مرة على قصيدة خمسة آلاف دينار، وخلعة، وفرسًا من مراكبه، وعشرة من رقيق الروم، وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: يا أصمعي ما أغفلك عنا وأجفاك لنا قلت: والله يا أمير المؤمنين ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، فسكت، فلما تفرق الناس قال: ما لاقتني؟ قلت:
كفّاك كفّ ما تليق درهمًا ... جوادًا وأخرى تعطي بالسيف الدما
فقال: أحسنت، وهكذا فكن، وقرنًا في الملا، وعلمنا في الخلا، وأمر لي بخمسة آلاف دينار.
وفي مروج المسعودي قال: رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما، فقال له يحيى بن خالد البرمكي، كان يختطف الروم الناس من المسجد الحرام، وتدخل مراكبهم إلى الحجاز، فتركه.
وقال الجاحظ: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف -رحمه الله- وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عمّ أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع، أنبه الناس وأعظمهم، ومغنيه إبراهيم الموصلي، وزجته زبيدة.
وقال غيره: كانت أيام الرشيد كلها خير كأنها من حسنها أعراس.
وقال الذهبي: أخبار الرشيد يطول شرحها، ومحاسنه جمة؛ وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والغناء، سامحه الله.

مات في أيامه من الأعلام: (مالك بن أنس، والليث بن سعد، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة، والقاسم بن معين، ومسلم بن خالد الزنجي، ونوح الجامع، والحافظ أبو عوانة اليشكري، وإبراهيم بن سعد الزهري، وأبو إسحاق الفزاري، وإبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي، وأسد الكوفي من كبار أصحاب أبي حنيفة، وإسماعيل بن عياش، وبشر بن الفضل، وجرير بن عبد الحميد، وزياد البكائي، وسليم المقرئ صاحب حمزة، وسيبويه إمام العربية، وضيغم الزاهد، وعبد الله العمري الزاهد، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن إدريس الكوفي، وعبد العزيز بن أبي حازم، والدراوردي، والكسائي شيخ القراء والنحاة، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة؛ كلاهما في يوم، وعليّ بن مسهر، وغنجار، وعيسى بن يونس السبيعي، والفضيل بن عياض، وابن السماك الواعظ، ومروان بن أبي حفصة الشاعر، والمعافى بن عمران الموصلي، ومعتمر بن سليمان، والمفضل بن فضالة قاضي مصر، وموسى بن ربيعة أبو الحكم المصري أحد الأولياء، والنعمان بن عبد السلام الأصبهاني، وهشيم، ويحيى بن أبي زائدة، ويزيد بن زريع، ويونس بن حبيب النحوي، ويعقوب بن عبد الرحمن قارئ المدينة، وصعصعة بن سلام عالم الأندلس أحد أصحاب مالك، وعبد الرحمن بن القاسم أكبر أصحاب مالك، والعباس بن الأحنف الشاعر المشهور، وأبو بكر بن عياش المقرئ، ويوسف بن الماجشون، وخلائق آخرون كبار).


ومن الحوادث في أيامه:
في سنة خمس وسبعين افترى عبد الله بن مصعب الزبيري على يحيى بن عبد الله بن حسن العلوي أنه طلب إليه أن يخرج معه على الرشيد، فباهله(4) يحيى بحضرة الرشيد وشبك يده في يده؛ وقال: قل اللهم إن كنت تعلم أن يحيى لم يدعني إلى الخلاف والخروج على أمير المؤمنين هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب (5) من عندك، آمين رب العالمين، فتلجلج الزبيري وقالها، ثم قال يحيى مثل ذلك وقاما، فمات الزبيري ليومه.
وفي سنة ست وسبعين فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح العباسي.
وفي سنة تسع وسبعين اعتمر الرشيد في رمضان، ودام على إحرامه إلى أن حج، ومشى من مكة إلى عرفات.
وفي سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى، سقط منها رأس منارة الإسكندرية.
وفي سنة إحدى وثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة، وهو الفاتح له.
وفي سنة ثلاث وثمانين خرج الخزر على أرمينية، فأوقعوا بأهل الإسلام، وسفكوا، وسبوا أزيد من مائة ألف نسمة، وجرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله.
وفي سنة سبع وثمانين أتاه كتاب من ملك الروم: نقفور، بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة: ريني، ملكة الروم.
وصورة الكتاب: من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب: أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبل كانت أقامتك مقام الرخّ وأقامت نفسها مقام البيذق، فحملت إليك من أموالها أحمالًا، وذلك لضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبًا حتى لم يمكن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه من الخوف، واستعجم الرأي على الوزير، فدعا الرشيد بدواة، وكتب على ظهر كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه، لا ما تسمعه.
ثم سار ليومه، فلم يز حتى نازل مدينة هرقل، وكانت غزوة مشهورة وفتحًا مبينًا فطلب نقفور الموادعة(6)، والتزم بخراج يحمله كل سنة، فأجيب.
فلما رجع الرشيد إلى الرقة نقض الكلب العهد لإياسه من كرّة الرشيد في البرد، فلم يجترئ أحد أن يبلغ الرشيد نقضه، بل قال عبد الله بن يوسف التيمي:
نقض الذي أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير
وقال أبو العتاهية أبياتًا، وعرضت على الرشيد، فقال: أو قد فعلها؟ فكرّ راجعًا في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى بلغ مراده، وحاز جهاده.
وفي ذلك يقول أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق للصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
وفي سنة تسع وثمانين فادى الروم حتى لم يبقَ بممالكهم في الأسر مسلم.
وفي سنة تسعين فتح هرقلة، وبثّ جيوشه بأرض الروم، فافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة، وافتتح يزيد بن مخلد ملقونية، وسار حميد بن معيوف إلى قبرص فهدم وحرق، وسبى من أهلها ستة عشر ألفًا.
وفي سنة اثنتين وتسعين توجه الرشيد نحو خراسان، فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال: يا صباح لا أحسبك تراني بعدها، فقلت: بل يردك الله سالِمًا، ثم قال: ولا أحسبك تدري ما أجد، فقلت: لا والله، فقال: تعالَ حتى أريك، وانحرف عن الطريق، وأومأ إلى الخواص فتنحوا، ثم قال: أمانة الله يا صباح أن تكتم عليّ، وكشف عن بطنه فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم، ولكل واحد من ولديّ علي رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين، ونسيت الثالث، ما منهم أحد إلا ويحصي أنفاسي، ويعدّ أيامي، ويستطيل دهري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو ببرذون، فيجيئون به أعجف ليزيد في علتي، ثم دعا ببرذون فجاءوا به كما وصف، فنظر إليّ ثم ركبه، وودعني وسار إلى جرجان، ثم رحل منها في صفر سنة ثلاث وتسعين وهو عليل إلى طوس، فلم يزل بها إلى أن مات.
وكان الرشيد بايع بولاية العهد لابنه محمد في سنة خمس وسبعين، ولقبه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، لحرص أمه زبيدة على ذلك، قال الذهبي: فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة، حيث بايع لابنه عبد الله من بعد الأمين في سنة اثنتين وثمانين، ولقبه المأمون، وولاه ممالك خراسان بأسرها، ثم بايع لابنه القاسم من بعد الأخوين في سنة ست وثمانين، ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي، فلما قسّم الدنيا بين هؤلاء الثلاثة قال بعض العقلاء، لقد ألقى بأسهم بينهم، وغائلة ذلك تضر بالرعية، وقالت الشعراء في البيعة المدائح، ثم إنه علّق نسخة البيعة في البيت العتيق، وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
خير الأمور مغبة ... وأحقّ أمر بالتمام
أمر قضى أحكامه ... الرحمن في البيت الحرام
وقال عبد الملك بن صالح في ذلك:
حب الخليفة حب لا يدين له ... عاصي الإله وشار يلقح الفتنا
الله قلّد هارونًا سياسته ... لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا
وقلّد الأرض هارونٌ لرأفته ... بنا أمينًا ومأمونًا ومؤتمنًا
قال بعضهم: وقد زوى الرشيد الخلافة عن ابنه المعتصم، لكونه أميًّا، فساقها الله إليه، وجعل الخلفاء بعده كلهم من ذريته، ولم يجعل من نسل غيره من أولاد الرشيد خليفة، وقال سلم الخاسر في العهد للأمين:
قل للمنازل بالكثيب الأعفر ... أسقيت غادية السحاب الممطر
قد بايع الثقلان مهديّ الهدى ... لمحمد ابن زبيدة ابنة جعفر
قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخلافة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهدا عليه بمنظر وبمخبر
فحشت زبيدة فاه جوهرًا باعه بعشرين ألف دينار
فصل: في نبذ من أخبار الرشيد، عفا الله عنه
أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك قال: لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك، إن أباك قد طاف بي، فشغف بها، فأرسل إلى أبي يوسف، فسأله: أعندك في هذا شيء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أو كلما ادعت أمة شيئًا ينبغي أن تصدق، لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة، قال ابن المبارك: فلم أدر ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين، أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها، قال: اهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك، وصيره في رقبتي.
وأخرج أيضًا عن عبد الله بن يوسف قال: قال الرشيد لأبي يوسف: إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة؟ قال: نعم، تهبها لبعض ولدك، ثم تتزوجها.
وأخرج عن إسحاق بن راهويه قال: دعا الرشيد أبا يوسف ليلًا فأفتاه، فأمر له بمائة ألف درهم، فقال أبو يوسف، إن رأى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح، فقال: عجلوها، فقال بعض من عنده: إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة، فقال أبو يوسف: قد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني، ففتحت.

وأسند الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: خرج الرشيد في السنة التي ولي الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم، وانصرف في شعبان؛ فحج بالناس آخر السنة، وفرق بالحرمين مالًا كثيرًا، وكان رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر؛ فاغزُ وحجّ ووسع على أهل الحرمين، ففعل هذا كله.
وأسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال: أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولي الخلافة، فدخل دارًا، فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على الحائط:
ألا يا أمير المؤمنين أما ترى ... فديتك هجران الحبيب كبيرًا
فدعا بدواة، وكتب تحته بخطه:
بلى والهدايا المشعرات وما مشى ... بمكة مرفوع الأظل حسيرًا
وأخرج عن سعيد بن مسلم قال: كان فهمُ الرشيد فهمَ العلماء، وأنشده العماني في صفة فرس:
كأنّ أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا
فقال الرشيد: دع كأن وقل: تخال أذنيه، حتى يستوي الشعر.
وأخرج عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال: حلف الرشيد أن يدخل إلى جارية له أيامًا، وكان يحبها، فمضت الأيام ولم تسترضه، فقال:
صدّ عني إذ رآني مفتتن ... وأطال الصبر لما أن فطن
كان مملوكي وأصبح مالكي ... إن هذا من أعاجيب الزمن
ثم أحضر أبا العتاهية، فقال: أجزهما فقال:
عزّة الحب أرته ذلّتي ... في هواه، وله وجه حسن
فلهذا صرت مملوكًا له ... ولهذا شاع ما بي وعلن

وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقًا، فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لِمَ تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك، قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلها ما فيها حرف نطق به؟ قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا؟

وأخرج الصولي عن إسحاق الهاشمي قال: كنا عند الرشيد، فقال: بلغني أن العامة يظنون فِيّ بغض علي بن أبي طالب، والله ما أحب أحدًا حبي له، ولكن هؤلاء أشد الناس بغضًا لنا، وطعنًا علينا، وسعيًا في فساد ملكنا بعد أخذنا بثأرهم، ومساهمتنا إياهم ما حويناه، حتى إنهم لأميل إلى بني أمية منهم إلينا، فأما ولده لصلبه فهم سادة الأهل، والسابقون إلى الفضل، ولقد حدثني أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمد بن علي عن أبيه عن ابن عباس أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحسن والحسين: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»، وسمعه يقول: " «فاطمة سيدة نساء العالمين غير مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم» " (7).
روى أن ابن السماك دخل على الرشيد يومًا، فاستسقى، فأتى بكوز، فلما أخذه قال: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله تعالى، فلما شربها قال: أسألك لو منعت خروجها من بدنك، بماذا كنت تشتري خروجها؟ قال: بجميع ملكي، قال: إن ملكًا قيمته شربة ماء وبوله لجدير ألا ينافس فيه، فبكى هارون بكاء شديدًا.
وقال ابن الجوزي: قال الرشيد لشيبان: عظني، قال: لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف، فقال الرشيد: فسّر لي هذا، قال: من يقول لك: أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.
وفي كتاب الأوراق للصولي بسنده: لما ولي الرشيد الخلافة واستوزر يحيى بن خالد قال إبراهيم الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت مريضة ... فلما أتى هارون أشرق نورها
تلبست الدنيا جمالًا بملكه ... فهارون واليها، ويحيى وزيرها
فأعطاه مائة ألف درهم، وأعطاه يحيى خمسين ألفًا.
ولداود بن رزين الواسطي فيه:
بهارون لاح النور في كل بلدة ... وقام به في عدل سيرته النهج
إمام بذات الله أصبح شغله ... فأكثر ما يعنى به الغزو الحج
تضيق عيون الخلق عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج
تفسحت الآمال في جود كفه ... فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو
وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك -رحمه الله- قال: وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين، قال: ثم رحل لسماعه السلطان صلاح الدين بن أيوب إلى الإسكندرية، فسمعه على بن طاهر بن عوف، ولا أعلم لهما ثالثًا.
ولمنصور النمري فيه:
جعل القرآن إمامه ودليله ... لما تخيره القرانُ ذمامًا
وله فيه من قصيدة:
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
ويقال: إنه أجازه عليه بمائة ألف.
وقال الحسن بن فهم: كان الرشيد يقول: من أحب ما مدحت به إلي:
أبو أمين ومأمون ومؤتمن ... أكرم به والدًا برًّا وما ولدا
وقال إسحاق الموصلي: دخلت على الرشيد فأنشدته:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلًا له في العالمين خليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئًا أن يكون ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرمًا ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال: لا كيف إن شاء الله، يا فضل أعطه مائة ألف درهم، لله در أبيات يأتينا بها ما أجود أصولها، وأحسن فصولها فقلت: يا أمير المؤمنين، كلامك أحسن من شعري، فقال: يا فضل أعطه مائة ألف أخرى.
وفي الطيوريات بسنده إلى إسحاق الموصلي قال: قال أبو العتاهية لأبي نواس: البيت
الذي مدحت به الرشيد لوددت أني كنت سبقتك به إليه:
قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
وقال محمد بن علي الخراساني: الرشيد أول خليفة لعب بالصوّالجة والكرة، ورمي النشاب في البرجاس، وأول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس.
وقال الصولي: هو أول من جعل للمغنين مراتب وطبقات.
ومن شعر الرشيد يرثي جاريته هيلانة أورده الصولي:
قاسيت أوجاعًا وأحزانًا ... لما استخصّ الموت هيلانا
فارقت عيشي حين فارقتها ... فما أبالي كيف ما كانا
كانت هي الدنيا، فلما ثوت ... في قبرها فارقت دنيانا
قد كثر الناس ولكنني ... لست أرى بعدك إنسانًا
والله لا أنساك ما حركت ... ريح بأعلى نجد أغصانًا
وله أيضًا، أنشده الصولي:
يا ربة المنزل بالفرك ... وربة السلطان والملك
ترفقي بالله في قتلنا ... لسنا من الديلم والترك
مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان، ودفن بها في ثالث جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة، وصلى عليه ابنه صالح.
قال الصولي: خلّف الرشيد مائة ألف ألف دينار، ومن الأثاث والجوهر والورق والدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار وخمسة وعشرون ألف دينار.
وقال غيره: غلط جبريل بن بختيشوع على الرشيد في علته في علاج عالجه به كان سبب منيته، فهمّ أن يفصل أعضاءه فقال: أنظرني إلى غد، فإنك تصبح في عافية، فمات ذلك اليوم، وقيل: إن الرشيد رأى منامًا أنه يموت بطوس، فبكى وقال: احفروا لي قبرًا، فحفر له، ثم حمل في قبة على جمل، وسيق به حتى نظر إلى القبر، فقال: يابن آدم تصير إلى هذا؟ وأمر قومًا فنزلوا فختموا فيه ختمة، وهو في محفة على شفير القبر، ولما مات بويع لولده الأمين في العسكر -وهو حينئذ ببغداد- فأتاه الخبر، فصلى بالناس الجمعة، وخطب، ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه، وأخذ رجاء الخادم البرد والقضيب والخاتم، وسار على البريد في اثني عشر يومًا من مَرْوَ، حتى قدم بغداد في نصف جمادى الآخرة، فدفع ذلك إلى الأمين، ولأبي الشيص يرثي الرشيد:
غربت في الشرق شمس ... فلها عيني تدمع
ما رأينا قط شمسًا ... غربت من حيث تطلع
وقال أبو نواس جامعًا بين العزاء والهناء:
جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في مأتم وفي عرس
القلب يبكي والعين ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي أنس
يضحكنا القائم الأمين ويبكينا ... وفاة الإمام بالأمس
بدران بدرٌ أضحى ببغداد في ... الخلد وبدر بطوس في الرمس
ومما رواه الرشيد من الحديث، قال الصولي: حدثنا عبد الرحمن بن خلف، حدثني جدي الحصين بن سليمان الضبي، سمعت الرشيد يخطب فقال في خطبته: حدثني مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» (8).
حدثني محمد بن علي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " «نظفوا أفواهكم فإنها طريق القرآن» " (9).

(1). أخرجه الخطيب في تاريخه "7/4".
(2) أخرجه البخاري "6614/11"، ومسلم "2652/4".
(3)النطع: بالكسر وبالفتح وبالتحريك بساط من الأديم جمعها: أنطاع، ونطوع.
(4) المباهلة: هي الملاعنة بأن يلاعن الرجل الرجل أو المرأة، انظر: مختار الصحاح "67".
(5) اسحتني بعذاب: أسحته: استاصله: وقرئ: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَاب} انظر مختار الصحاح "288".
(6) الموادعة: أي المصالحة، والتوادع: التصالح. انظر: مختار الصحاح "714".
(7) أخرجه الترمذي "3873/5". وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
(8) أخرجه البخاري "1417/3"، ومسلم "1016/2"
(9) أخرجه الديلمي "1804/1 كنز".



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 132.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 128.72 كيلو بايت... تم توفير 3.74 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]