تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 36 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4416 - عددالزوار : 852350 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3947 - عددالزوار : 387688 )           »          هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 1051 )           »          أوليــاء اللــه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          المشكلات النفسية عند الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          هل المديرون بحاجة للحب؟هل تحب وظيفتك ومكان عملك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          وأنت راكع وساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          لماذا تصاب المرأة بالقولون العصبي بــعد الــزواج؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          لطائف تأخير إجابة الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #351  
قديم 23-02-2020, 05:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (350)
تفسير السعدى
سورة المؤمنون
من الأية(101) الى الأية(109)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة المؤمنون



" فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " (101)



يخبر تعالى عن هول يوم القيامة, وما في ذلك, من المزعجات, والمقلقات.
وأنه إذا نفخ في الصور, نفخة البعث, فحشر الناس أجمعون, لميقات يوم معلوم, أنه يصيبهم من الهول, ما ينسيهم أنسابهم, التي هي أقوى الأسباب, فغير الأنساب, من باب أولى.
وأنه لا يسأل أحد أحدا, عن حاله, لاشتغاله بنفسه.
فلا يدري هل ينجو نجاة لا شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة لا سعادة بعدها؟ قال تعالى " يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ " .
" فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " .


" فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون " (102)



وفي القيامة مواضع, يشتد كربها, ويعظم وقعها, كالميزان الذي يميز به أعمال العبد, وينظر فيه بالعدل, ما له, وما عليه, وتبين فيه مثاقيل الذر, من الخير والشر.
" فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ " بأن رجحت حسناته على سيئاته " فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " لنجاتهم من النار, واستحقاقهم الجنة, وفوزهم بالثناء الجميل.



" ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " (103)



" وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ " بأن رجحت سيئاته على حسناته, وأحاطت بها خطيئاته.
" فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ " كل خسارة, غير هذه الخسارة, فإنها - بالنسبة إليها - سهلة.
ولكن هذه خسارة صعبة, لا يجبر مصابها, ولا يستدرك فائتها.
خسارة أبدية, وشقاوة سرمدية, قد خسر نفسه الشريفة, التي يتمكن بها من السعادة الأبدية, ففوتها هذا النعيم المقيم, في جوار الرب الكريم.
" فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ " لا يخرجون منها أبد الآبدين.
وهذا الوعيد, إنما هو كما ذكرنا, لمن أحاطت خطيئاته بحسناته, ولا يكون ذلك, إلا كافرا.
فعلى هذا, لا يحاسب محاسبة من توزن حسناته وسيئاته, فإنهم لا حسنات لهم.
ولكن تعد أعمالهم, وتحصى, فيوقفون عليها, ويقررون بها, ويخزون بها.
وأما من معه أصل الإيمان, ولكن عظمت سيئاته, فرجحت على حسناته, فإنه, وإن دخل النار, لا يخلد فيها, كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.



" تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " (104)



ثم ذكر تعالى, سوء مصير الكافرين فقال: " تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ " أي: تغشاهم جميع جوانبهم, حتى تصيب أعضاءهم الشريفة, ويتقطع لهبها عن وجوههم.
" وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ " قد عبست وجوههم, وقلصت شفاههم, من شدة ما هم فيه, وعظيم ما يلقونه.


" ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون " (105)



فيقال لهم - توبيخا ولوما: - " أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ " تدعون بها, لتؤمنوا, وتعرض عليكم لتنظروا.
" فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ " ظلما منكم, وعنادا, وهي آيات بينات, دالات على الحق والباطل, مبينات للمحق والمبطل.


" قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين "(106)



فحينئذ أقروا بظلمهم, حيث لا ينفع الإقرار و " قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا " أي: غلبت علينا الشقاوة الناشئة عن الظلم والإعراض عن الحق, والإقبال على ما يضر, وترك ما ينفع.
" وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ " في عملهم, وإن كانوا يدرون أنهم ظالمون.
أي فعلنا في الدنيا, فعل التائه, الضال السفيه, كما قالوا في الآية الأخرى.
" وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ " .


" ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " (107)



" رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ " وهم كاذبون في وعدهم هذا, فإنهم كما قال تعالى " وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ " .
ولم يبق الله لهم حجة, بل قطع أعذارهم, وغرهم في الدنيا, ما يتذكر فيه من تذكر, ويرتدع فيه المجرم, فقال الله جوابا لسؤالهم.


" قال اخسئوا فيها ولا تكلمون " (108)



" اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " وهذا القول - نسأله تعالى العافية - أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب, والتوبيخ, والذل, والخسار, والتأبيس من كل خير, والبشرى بكل شر.
وهذا الكلام والغضب من الرب الرحيم, أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم.



" إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين " (109)



ثم ذكر الحال التي أوصلتهم إلى العذاب, وقطعت عنهم الرحمة فقال: " إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ " فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة, والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة, والتوسل إليه بربوبيته ومنته عليهم بالإيمان, والإخبار بسعة رحمته, وعموم إحسانه.
وفي ضمنه, ما يدل على خضوعهم, وخشوعهم, وانكسارهم لربهم, وخوفهم ورجائهم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #352  
قديم 23-02-2020, 05:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (351)
تفسير السعدى
سورة المؤمنون
من الأية(110) الى الأية(118)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة المؤمنون


" فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون " (110)

فهؤلاء سادات الناس وفضلائهم " فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ " أيها الكفرة الأنذال ناقصو العقول والأحلام " سِخْرِيًّا " تهزءون بهم, وتحتقرونهم, حتى اشتغلتم بذكر السفه.
" حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ " وهذا الذي أوجب لم نسيان الذكر, اشتغالهم بالاستهزاء بهم, كما أن نسيانهم للذكر, يحثهم على الاستهزاء.
فكل من الأمرين يمد الآخر, فهل فوق هذه الجرأة جرأة؟!


" إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " (111)



" إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا " على طاعتي, وعلى أذاكم حتى وصلوا إلي.
" أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ " بالنعيم المقيم, والنجاة من الجحيم, كما قال في الآية الأخرى " فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ " الآيات.


" قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين " (112)



" قَالَ " لهم على وجه اللوم وأنهم سفهاء الأحلام, حيث اكتسبوا في هذه المدة اليسيرة, كل شر أوصلهم إلى غضبه وعقوبته, ولم يكتسبوا, ما اكتسبه المؤمنون من الخير, الذي يوصلهم إلى السعادة الدائمة, ورضوان ربهم.

" قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين " (113)



" كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ " .
كلامهم هذا, مبني على استقصارهم جدا, لمدة مكثهم في الدنيا وأفاد ذلك, لكنه لا يفيد مقداره, ولا يعينه, فلهذا قالوا: " فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ " أي: الضابطين لعدده.


" قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " (114)



وأما هم, ففي شغل شاغل, وعذاب مذهل عن معرفة عدده, فقال لهم " إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا " سواء عينتم عدده, أم لا " لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ "

" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون " (115)



أي " أَفَحَسِبْتُمْ " أيها الخلق " أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا " أي: سدى وباطلا, تأكلون وتشربون, وتمرحون, وتتمتعون بلذات الدنيا, ونترككم, لا نأمركم, ولا ننهاكم, ولا نثيبكم, ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال: " وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " لا يخطر هذا ببالكم.

" فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " (116)



" فَتَعَالَى اللَّهُ " أي: تعاظم وانتفع عن هذا الظن الباطل, الذي يرجع إلى القدح في حكمته.
" الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ " فكونه ملكا للخلق كلهم حقا, في صدقه, ووعده, ووعيده, مألوفا معبودا, لما له من الكمال " رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ " فما دونه من باب أولى, يمنع أن يخلقكم عبثا.


" ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون " (117)



أي: ومن دعا مع الله آلهة غيره, بلا بينة من أمره, ولا برهان على ذلك, يدل على ما ذهب إليه, وهذا قيد ملازم.
فكل من دعا غير الله, فليس له برهان على ذلك, بل دلت البراهين على بطلان ما ذهب إليه, فأعرض عنها ظلما وعنادا.
فهذا سيقدم على ربه, فيجازيه بأعماله, ولا ينيله من الفلاح شيئا, لأنه كافر.
" إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ " فكفرهم, منعهم من الفلاح.


" وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " (118)



" وَقُلْ " داعيا لربك مخلصا له الدين " رَبِّ اغْفِرْ " لنا حتى تنجينا من المكروه, وارحمنا, لتوصلنا برحمتك إلى كل خير.
" وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ " فكل راحم للعبد, فالله خير له منه, أرحم بعبده من الوالدة بولدها, وأرحم به من نفسه.
تم تفسير سورة المؤمنين, بفضل الله وإحسانه



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #353  
قديم 23-02-2020, 05:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (352)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(1) الى الأية(8)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور


" سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " (1)
أي: هذه " سُورَةٌ " عظيمة القدر " أَنْزَلْنَاهَا " رحمة منا بالعباد.
وحفظناها من كل شيطان " وَفَرَضْنَاهَا " أي: قدرنا فيها ما قدرنا, من الحدود والشهادات وغيرها.
" وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ " أي: أحكاما جليلة, وأوامر, وزواجر وحكما عظيمة " لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " حين نبين لكم, ونعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.

" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (2)
ثم شرع في بيان تلك الأحكام, المشار إليها, فقال: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي " إلى " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " .
هذا الحكم, في الزاني والزانية البكرين, أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة.
وأما الثيب, فقد دلت السنة الصحيحة المشهورة, أن حده الرجم.
ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة بهما, في دين الله, تمنعنا من إقامة الحد عليهما, سواء رأفة طبيعية أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك, وأن الإيمان, موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة, من إقامة أمر الله.
فرحمته حقيقة, بإقامة الحد عليه.
فنحن وإن رحمناه, لجريان القدر عليه, فلا نرحمه من هذا الجانب.
وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين, طائفة, أو جماعة من المؤمنين ليشتهر, ويحصل بذلك, الخزي والارتداع, وليشاهدوا الحد فعلا, فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل, مما يقوى به العلم, ويستقر به الفهم, ويكون أقرب لإصابة الصواب, فلا يزاد فيه, ولا ينقص.
والله أعلم.

" الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " (3)
هذا بيان لرذيلة الزنا, وأنه يدنس عرض صاحبه, وعرض من قارنه ومازجه, ما لا يفعله بقية الذنوب.
فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء, إلا أنثى زانية, تناسب حاله حالها, أو مشركة بالله, لا تؤمن ببعث ولا جزاء, ولا تلتزم أمر الله.
والزانية كذلك, لا ينكحها إلا زان أو مشرك " وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " أي: حرم عليهم أن ينكحوا زانيا, أو ينكحوا زانية.
ومعنى الآية: أن من اتصف بالزنا, من رجل أو امرأة, ولم يتب من ذلك, أن المقدم على نكاحه, مع تحريم الله لذلك, لا يخلو إما أن لا يكون ملتزما لحكم الله ورسوله, فذاك لا يكون إلا مشركا.
وإما أن يكون ملتزما لحكم الله ورسوله, فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه, فإن هذا النكاح زنا, والناكح زان مسافح.
فلو كان مؤمنا بالله حقا, لم يقدم على ذلك.
وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية, حتى تتوب, وكذلك نكاح الزاني حتى يتوب.
فإن مقارنة الزوج لزوجته, والزوجة لزوجها, أشد الاقترانات, والازدواجات.
وقد قال تعالى: " احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ " أي: قرناءهم.
فحرم الله ذلك, لما فيه من الشر العظيم.
وفيه من قلة الغيرة, وإلحاق الأولاد, الذين ليسوا من الزوج, وكون الزاني لا يعفها بسبب اشتغاله بغيرها, مما بعضه كاف في التحريم.
وفي هذا دليل, على أن الزاني ليس مؤمنا, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فهو وإن لم يكن مشركا, فلا يطلق عليه اسم المدح, الذي هو الإيمان المطلق.

" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون " (4)
لما عظم تعالى أمر الزاني بوجوب جلده وكذا رجمه, إن كان محصنا, وأنه لا تجوز مقارنته, ولا مخالطته على وجه لا يسلم فيه العبد من الشر, بين تعالى, تعظيم الإقدام على الأعراض بالرمي بالزنا فقال: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ " أي: النساء الحرائر العفائف, وكذلك الرجال, لا فرق بين الأمرين.
والمراد بالرمي الرمي بالزنا, بدليل السياق.
" ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا " على ما رموا له " بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ " أي: رجال عدول, يشهدون بذلك صريحا.
" فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً " بسوط متوسط, يؤلم فيه, ولا يبالغ بذلك, حتى يتلفه, لأن القصد, التأديب, لا الإتلاف.
وفي هذا تقرير حد القذف.
ولكن بشرط, أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا.
وأما قذف غير المحصن, فإنه يوجب التعزير.
" وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا " أي: لهم عقوبة أخرى, وهو أن شهادة القاذف, غير مقبولة, ولو حد على القذف, حتى يتوب كما يأتي.
" وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " أي: الخارجون عن طاعة الله, الذين قد كثر شرهم.
وذلك لانتهاك ما حرم الله, وانتهاك عرض أخيه, وتسليط الناس على الكلام بما تكلم به وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان, ومحبة أن تشيع الفاحشة, في الذين آمنوا.
وهذا دليل, على أن القذف من كبائر الذنوب.

" إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " (5)
وقوله " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فالتوبة في هذا الموضع, أن يكذب القاذف نفسه, ويقر أنه كاذب فيما قال, وهو واجب عليه, أن يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه, حيث لم يأت بأربعة شهداء.
فإذا تاب القاذف وأصلح عمله, وبدل إساءته إحسانا, زال عنه الفسق, وكذلك تقبل شهادته على الصحيح.
فإن الله غفور رحيم يغفر الذنوب جميعا, لمن تاب وأناب.
وإنما يجلد القاذف, إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا.
فإن كان زوجا, فقد ذكر بقوله: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ " إلى " تَوَّابٌ حَكِيمٌ " .

" والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " (6)
وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته, دارئة عنه الحد, لأن الغالب, أن الزوج لا يقدم على رمي زوجته, التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقا.
ولأن له في ذلك حقا, وخوفا من إلحاق أولاد, ليسوا منه به, ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ " أي الحرائر لا المملوكات.
" وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ " على رميهم بذلك " شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ " بأن لم يقيموا شهداء, على ما رموهن به " فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ " .
سماها شهادة, لأنها نائبة مناب الشهود, بأن يقول " أشهد بالله, إني لمن الصادقين, فيما رميتها به " .

" والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين " (7)
" وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ " أي: يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة, مؤكدا تلك الشهادات, بأن يدعو على نفسه, باللعنة إن كان كاذبا.
فإذا تم لعانه, سقط عنه حد القذف.
وظاهر الآيات, ولو سمى الرجل الذي رماها به, فإنه يسقط حقه, تبعا لها.
وهل يقام عليها الحد بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولان للعلماء.
الذي يدل عليه الدليل أنه يقام عليه الحد بدليل قوله " وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ " إلى آخره.
فلولا أن العذاب وهو الحد قد وجب بلعانه, لم يكن لعانها دارئا له.

" ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " (8)
ويدرأ عنها, أي: يدفع عنها العذاب, إذا قابلت شهادات الزوج, بشهادات من جنسها.
" أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ " وتزيد في الخامسة, مؤكدة لذلك, أن تدعو على نفسها بالغضب.
فإذا تم اللعان بينهما, فرق بينهما إلى الأبد, وانتفى الولد الملاعن عنه.
وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان, منه ومنها.
واشتراط الترتيب فيها, وأن لا ينقص منها شيء, ولا يبدل شيء بشيء.
وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته, لا بالعكس وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به, كما لا يعتبر مع الفراش.
وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح, إلا هو.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #354  
قديم 23-02-2020, 05:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (353)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(9) الى الأية(17)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور




" ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم " (10)
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ " وجواب الشرط محذوف, يدل عليه سياق الكلام أي: لأحل بأحد المتلاعنين الكاذب منهما, ما دعا به على نفسه.
ومن رحمته وفضله, ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين, لشدة الحاجة إليه, وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته, وفظاعة القذف به, وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.

" إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " (11)
لما ذكر فيما تقدم تعظيم, الرمي بالزنا عموما, صار ذلك كأنه مقدمة لهذة القصة, التي وقعت على أشرف النساء, أم المؤمنين رضي الله عنها.
وهذه الآيات, نزلت في قصة الإفك المشهورة, الثابتة في الصحيح والسنن والمسانيد.
وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم, في بعض غزواته, ومعه زوجته عائشة الصديقة, بنت الصديق.
فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها, فلم يفقدوها ثم استقل الجيش راحلا, وجاءت مكانهم, وعلمت أنهم إذا فقدوها, رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم.
وكان صفوان بن المعطل السلمي, من أفاضل الصحابة رضي الله عنه, قد عرس في أخريات القوم, ونام.
فرأى عائشة رضي الله عنها, فعرفها, فأناخ راحلته, فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه, ثم جاء يقود بها, بعد ما نزل الجيش في الظهيرة.
فلما رأى بعض المنافقين, الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم, في ذلك السفر, مجيء صفوان بها في هذه الحال أشاع ما أشاع, وفشا الحديث, وتلقفته الألسن, حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين, وصاروا يتناقلون هذا الكلام, وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة, فحزنت حزنا شديدا.
فأنزل الله براءتها في هذه الآيات.
ووعظ الله المؤمنين, وأعظم ذلك, ووصاهم بالوصايا النافعة فقوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ " أي: الكذب الشنيع, وهو رمي أم المؤمنين " عُصْبَةٌ مِنْكُمْ " أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين, منهم المؤمن الصادق في إيمانه, لكنه اغتر بترويج المنافقين, ومنهم المنافق.
" لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ " لما تضمن ذلك من تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها, والتنويه بذكرها, حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد, التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة فكل هذا خير عظيم, لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك.
وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا, ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم.
وأخبر أن قدح بعضهم ببعض, كقدح في أنفسهم.
ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم, واجتماعهم على مصالحهم, كالجسد الواحد, والمؤمن للمؤمن, كالبنيان يشد بعضه بعضا.
فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه, فليكره من كل أحد, أن يقدح في أخيه المؤمن, الذي بمنزلة نفسه, وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة, فإنه من نقص إيمانه, وعدم نصحه.
" لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ " وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك, وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك, وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة.
" وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ " أي: معظم الإفك, وهو المنافق الخبيث, عبد الله بن أبي, ابن سلول, لعنه الله " لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ " ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.

" لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " (12)
ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: " لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا " أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا, وهو السلام مما رموا به, وأن ما معهم من الإيمان المعلوم, يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل.
" وَقَالُوا " بسبب ذلك الظن " سُبْحَانَكَ " أي: تنزيها لك من كل سوء وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة.
" هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ " أي: كذب وبهت, من أعظم الأشياء, وأبينها.
فهذا من الظن الواجب, حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن, مثل هذا الكلام, أن يبرئه بلسانه, ويكذب القائل لذلك.

" لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " (13)
" لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ " أي: هلا جاء الرامون على ما رموا به, بأربعة شهداء أي: عدول مرضيين.
" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ " وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك, فإنهم كاذبون في حكم الله, لأنه حرم عليهم التكلم بذلك, من دون أربعة شهود.
ولهذا قال: " فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ " , ولم يقل " فأولئك الكاذبون " وهذا كله, من تعظيم حرمة عرض المسلم, بحيث لا يجوز الإقدام على رميه, من دون نصاب الشهادة بالصدق.

" ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم " (14)
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " بحيث شملكم إحسانه فيهما, في أمر دينكم ودنياكم.
" لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ " أي: خضتم " فِيهِ " من شأن الإفك " عَذَابٌ عَظِيمٌ " لاستحقاقكم ذلك بما قلتم.
ولكن من فضل الله عليكم ورحمته, أن شرع لكم التوبة, وجعل العقوبة مطهرة للذنوب.

" إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم "(15)
" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ " أي: تتلقفونه, ويلقيه بعضكم إلى بعض وتستوشون حديثه, وهو قول باطل.
" وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ " والأمران محظوران, التكلم بالباطل, والقول بلا علم.
" وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا " فلذلك أقدم عليه, من أقدم, من المؤمنين, الذين تابوا منه, وتطهروا بعد ذلك.
" وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ " وهذا فيه الزجر البليغ, عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها.
فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا, ولا يخفف من عقوبته, الذنب.
بل يضاعف الذنب, ويسهل عليه مواقعته, مرة أخرى.

" ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " (16)
" لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ " أي: وهلا إذ سمعتم - أيها المؤمنون - كلام أهل الإفك.
" قُلْتُمْ " منكرين لذلك, معظمين لأمره: " مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا " أي: ما ينبغي لنا, وما يليق بنا الكلام, بهذا الإفك المبين, لأن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح " هَذَا بُهْتَانٌ " أي كذب عظيم.

" يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين " (17)
" يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ " أي: لنظيره, من رمي المؤمنين بالفجور.
فالله يعظكم, وينصحكم عن ذلك, ونعم المواعظ والنصائح, من ربنا فيجب علينا مقابلتها, بالقبول والإذعان, والتسليم والشكر له, على ما بين لنا " إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ " .
" إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " دل ذلك على أن الإيمان الصادق, يمنع صاحبه من الإقدام على المحرمات.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #355  
قديم 23-02-2020, 05:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (354)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(18) الى الأية(25)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور




" ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " (18)
" وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ " المشتملة, على بيان الأحكام, والوعظ, والزجر, والترغيب, والترهيب, يوضحها لكم توضيحا جليا.
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ " أي: كامل العلم " حَكِيمٌ " كامل الحكمة.
فمن علمه وحكمته, أن علمكم من علمه, وإن كان ذلك, راجعا لمصالحكم في كل وقت.

" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (19)
" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ " أي: الأمور الشنيعة المستقبحة, فيحبون أن تشتهر الفاحشة " فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " أي: موجع للقلب والبدن, وذلك لغشه لإخوانه المسلمين, ومحبة الشر لهم, وجراءته على أعراضهم.
فإذا كان هذا الوعيد, لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة, واستحلاء ذلك بالقلب, فكيف بما هو أعظم من ذلك, من إظهاره, ونقله؟!! وسواء كانت الفاحشة, صادرة, أو غير صادرة.
وكل هذا, من رحمة الله لعباده المؤمنين, وصيانة أعراضهم, كما صان دماءهم وأموالهم, وأمرهم بما يقتضي المصافاة, وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه, ويكره له, ما يكره لنفسه.
" وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " فلذلك علمكم, وبين لكم ما تجهلونه.

" ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم " (20)
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ " قد أحاط بكم من كل جانب " وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ, والحكم الجليلة, ولما أمهل من خالف أمره.
ولكن فضله ورحمته, وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم من الخير الدنيوي والأخروي, ما لن تحصوه, أو تعدوه

" يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " (21)
ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه, نهى عن الذنوب عموما فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ " أي طرقه ووساوسه.
وخطوات الشيطان, يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب, واللسان والبدن.
ومن حكمته تعالى, أن بين الحكم, وهو: النهي عن اتباع خطوات الشيطان.
والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه, من الشر المقتضي, والداعي لتركه فقال: " وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ " أي: الشيطان " يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ " أي: ما تستفحشه العقول والشرائع, من الذنوب العظيمة, مع ميل بعض النفوس إليه.
" وَالْمُنْكَرِ " وهو: ما تنكره العقول ولا تعرفه.
فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان, لا تخرج عن ذلك.
فنهى الله عنها العباد, نعمة منه عليهم, أن يشكروه ويذكروه, لأن ذلك, صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح.
فمن إحسانه عليهم, أن نهاهم عنها, كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها.
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا " أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان, لأن الشيطان يسعى, هو وجنده, في الدعوة إليها وتحسينها, والنفس ميالة إلى السوء, أمارة به, والنقص مستول على العبد, من جميع جهاته, والإيمان غير قوي.
فلو خلي وهذه الدواعي, ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب, والسيئات, والنماء بفعل الحسنات, فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء.
ولكن فضله ورحمته أوجبا, أن يتزكى منكم, من تزكى.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها " ولهذا قال: " وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ " من يعلم منه أن يتزكى بالتزكية, ولهذا قال: " وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " .

" ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " (22)
" وَلَا يَأْتَلِ " أي: لا يحلف " أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا " .
كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه, وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله.
فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه, لقوله الذي قال.
فنزلت هذه الآية, ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه, ويحثه على العفو والصفح, ويعده بمغفرة الله, إن غفر له فقال: " أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " إذا عاملتم عبيده, بالعفو والصفح, عاملكم بذلك, فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى, والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فرجع النفقة إلى مسطح.
وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب, وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان, والحث على العفو والصفح, ولو جرى منه ما جرى من أهل الجرائم.

" إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم " (23)
ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: " إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ " أي: العفائف عن الفجور " الْغَافِلَاتِ " اللاتي لم يخطر ذلك بقلوبهن " الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " واللعنة, لا تكون إلا على ذنب كبير.
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين.
" وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " وهذا زيادة على اللعنة, أبعدهم عن رحمته, وأحل بهم شدة نقمته.

" يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " (24)
وذلك العذاب يوم القيامة " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " فكل جارحة تشهد عليه بما عملته, ينطقها الذي أنطق كل شيء, فلا يمكنه الإنكار.
ولقد عدل في العباد, من جعل شهودهم من أنفسهم.

" يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين " (25)
" يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ " أي: جزاءهم على أعمالهم, الجزاء الحق, الذي بالعدل والقسط, يجدون جزاءهم موفرا, لم يفقدوا منها شيئا.
" وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا " ويعلمون في ذلك الموقف العظيم, أن الله هو الحق المبين فيعلمون انحصار الحق المبين في الله تعالى.
فأوصافه العظيمة حق, وأفعاله هي الحق, وعبادته هي الحق, ولقاؤه حق, ووعيده حق, وحكمه الديني والجزائي حق, ورسله حق, فلا ثم حق, إلا في الله, وما من الله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #356  
قديم 23-02-2020, 05:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (355)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(26) الى الأية(32)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور




" الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم " (26)" الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ " أي: كل خبيث من الرجال والنساء, والكلمات والأفعال, مناسب للخبيث, وموافق له, ومقترن به, ومشاكل له.
وكل طيب من الرجال والنساء, والكلمات, والأفعال, مناسب للطيب, وموافق له, ومقترن به, ومشاكل له.
فهذه كلمة عامة وحصر, لا يخرج منه شيء, من أعظم مفرداته, أن الأنبياء, خصوصا أولي العزم منهم, خصوصا سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم, الذي هو أفضل الطيبين من الخلق, على الإطلاق, لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء.
فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر, قدح في النبي صلى الله عليه وسلم, وهو المقصود بهذا الإفك, من قصد المنافقين.
فمجرد كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم, يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة, من هذا الأمر القبيح.
فكيف وهي ما هي؟!! صديقة النساء, وأفضلهن, وأعلمهن, وأطيبهن, حبيبة رسول رب العالمين, التي لم ينزل الوحي عليه, وهو في لحاف زوجة من زوجاته, غيرها؟!!.
ثم صرح بذلك, بحيث لا يبقى لمبطل مقالا, ولا لشك وشبهة مجالا فقال: " أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ " والإشارة إلى عاثشة رضي الله عنها أصلا, وللمؤمنات المحصنات الغافلات, تبعا لها.
" لَهُمْ مَغْفِرَةٌ " تستغرق الذنوب " وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " في الجنة صادر من الرب الكريم.

" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون " (27)
يرشد الباري عباده المؤمنين, أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان.
فإن في ذلك عدة مفاسد: منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث قال " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " .
فبسبب الإخلال به, يقع البصر على العورات, التي داخل البيوت.
فإن البيت للإنسان, في ستر عورة ما وراءه بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.
ومنها: أن ذلك, يوجب الريبة من الداخل, ويتهم بالشر, سرقة أو غيرها, لأن الدخول خفية, يدل على الشر.
ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم " حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا " أي.
تستأذنوا.
سمي الاستئذان استئناسا, لأن به يحصل الاستئناس, وبعدمه تحصل الوحشة.
" وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا " .
وصفة ذلك, ما جاء في الحديث " السلام عليكم, أأدخل " ؟.
" ذَلِكُمْ " أي الاستئذان المذكور " خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " لاشتماله على عدة مصالح, وهو من مكارم الأخلاق الواجبة, فإن أذن, دخل المستأذن.

" فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم " (28)
" فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا " أي: فلا تمتنعوا من الرجوع, ولا تغضبوا منه.
فإن صاحب المنزل, لم يمنعكم حقا واجبا لكم, وإنما هو متبرع, فإن شاء أذن, أو منع.
فأنتم لا يأخذ أحدكم الكبر والاشمئزاز, من هذه الحال.
" هُوَ أَزْكَى لَكُمْ " أي: أشد لتطهيركم من السيئات, وتنميتكم بالحسنات.
" وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " فيجازي كل عامل بعمله, من كثرة وقلة, وحسن, وعدمه.
هذا الحكم, في البيوت المسكونة, سواء كان فيها متاع للإنسان, أم لا, وفي البيوت غير المسكونة, التي لا متاع فيها للإنسان.

" ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " (29)
وأما البيوت التي ليس فيها أهلها, وفيها متاع الإنسان المحتاج للدخول إليه, وليس فيها أحد يتمكن من استئذانه, وذلك كبيوت الكراء وغيرها, فقد ذكرها بقوله: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ " أي: حرج وإثم, دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة, أنه محرم, وفيه حرج " أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ " وهذا من احترازات القرآن العجيبة, فإن قوله " لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ " لفظ عام في كل بيت ليس ملكا للإنسان, أخرج منه تعالى البيوت التي ليست ملكه, وفيها متاعه, وليس فيها مساكن, فأسقط الحرج في الدخول إليها.
" وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ " أحوالكم الظاهرة والخفية, وعلم مصالحكم, فلذلك شرع لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون, من الأحكام الشرعية.

" قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون " (30)
أي: أرشد المؤمنين, وقل لهم, الذين معهم إيمان, يمنعهم من وقوع ما يخل بالإيمان: " يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ " عن النظر إلى العورات وإلى النساء الأجنبيات, وإلى المردان, الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة, وإلى زينة الدنيا التي تفتن, وتوقع في المحذور.
" وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ " عن الوطء الحرام, في قبل أو دبر, أو ما دون ذلك, وعن التمكين من مسها, والنظر إليها.
" ذَلِكَ " الحفظ للأبصار والفروج " أَزْكَى لَهُمْ " أطهر, وأطيب, وأنمى لأعمالهم, فإن من حفظ فرجه وبصره, طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش, وزكت أعماله, بسبب ترك المحرم, الذي تطمع إليه النفس وتدعو إليه.
فمن ترك شيئا لله, عوضه الله خيرا منه, ومن غض بصره, أنار الله بصيرته ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته, مع دواعي الشهوة, كان حفظه لغيره أبلغ, ولهذا سماه الله حفظا.
فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه, وعمل الأسباب الموجبة لحفظه, لم ينحفظ.
كذلك البصر والفرج, إن لم يجتهد العبد في حفظهما, أوقعاه في بلايا ومحن.
وتأمل كيف أمر بحفظ الفرج مطلقا لأنه لا يباح في حالة من الأحوال وأما البصر فقال: " يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ " بأداة " من " الدالة على التبعيض.
فإنه يجوز النظر في بعض الأحوال, لحاجة كنظر الشاهد والعامل والخاطب, ونحو ذلك.
ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم, ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من المحرمات.

" وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " (31)
لما أمر المؤمنين بغض الأبصار, وحفظ الفروج, أمر المؤمنات بذلك فقال: " وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ " عن النظر إلى العورات والرجال, بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع.
" وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ " من التمكن من جماعهن, أو مسهن, أو النظر المحرم إليهن.
" وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ " كالثياب الجميلة والحلي, وجميع البدن كله من الزينة.
ولما كانت الثياب الظاهرة, لا بد لها منها, قال: " إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا " أي الثياب الظاهرة, التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك, ما يدعو إلى الفتنة بها.
" وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ " وهذا لكمال الاستتار.
ويدل ذلك, على أن الزينة التي يحرم إبداؤها, يدخل فيها جميع البدن, كما ذكرنا.
ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن, ليستثنى منه قوله: " إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ " أي: أزواجهن " أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ " يشمل الأب بنفسه, والجد, وإن علا.
" أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ " أشقاء, أو لأب, أو لأم.
" أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ " أي: يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا.
ويحتمل أن الإضافة, تقتضي الجنسية, أي: النساء المسلمات, اللاتي من جنسكن.
ففيه دليل لمن قال: إن المسلمة, لا يجوز أن تنظر إليها الذمية.
" أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ " فيجوز للملوك, إذا كان كله للأنثى, أن ينظر لسيدته, ما دامت مالكة له كله, فإذا زال الملك أو بعضه, لم يجز النظر.
" أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ " أي: والذين يتبعونكم, ويتعلقون بكم, من الرجال, الذين لا إربة لهم, في هذه الشهوة كالمعتوه الذي لا يدري هل هنالك, كالعنين الذي لم يبق له شهوة, لا في فرجه, ولا في قلبه, فإن هذا, لا محذور من نظره.
" أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ " أي: الأطفال الذين دون التمييز, فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب.
وعلل تعالى ذلك, بأنهم لم يظهروا على عورات النساء, أي: ليس لهم علم بذلك, ولا وجدت فيهم الشهوة بعد.
ودل هذا, أن المميز تستتر منه المرأة, لأنه يظهر على عورات النساء.
" وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ " أي: لا يضربن الأرض بأرجلهن, ليصوت ما عليهن من حلي, كخلاخل وغيرها, فتعلم زينتها بسببه, فيكون وسيلة إلى الفتنة.
ويؤخذ من هذا ونحوه, قاعدة سد الوسائل وأن الأمر إذا كان مباحا, ولكنه يفضي إلى محرم, أو يخاف من وقوعه, فإنه يمنع منه.
فالضرب بالرجل في الأرض, الأصل أنه مباح, ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة, منع منه.
ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة, ووصى بالوصايا المستحسنة, وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك - أمر الله تعالى بالتوبة فقال: " وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ " ثم علق على ذلك, الفلاح فقال: " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة, وهي الرجوع مما يكرهه الله, ظاهرا وباطنا, إلى: ما يحبه ظاهرا باطنا.
ودل هذا, أن كل مؤمن, محتاج إلى التوبة, لأن الله هو خاطب المؤمنين جميعا.
وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة, في قوله " وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ " .
أي: لا لمقصد غير وجهه, من سلامة, من آفات الدنيا, أو رياء, وسمعة, أو نحو ذلك, من المفاسد الفاسدة.

" وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم " (32)
يأمر تعالى الأولياء والأسياد, بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى وهم: من لا أزواج لهم, من رجال, ونساء ثيبات, وأبكار.
فيجب على القريب, وولي اليتيم, أن يزوج من يحتاج للزواج, ممن تجب نفقته عليه.
وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم, كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم, من باب أولى.
" وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ " يحتمل أن المراد بالصالحين, صلاح الدين, وأن الصالح من العبيد والإماء, وهو الذي لا يكون فاجرا زانيا, مأمور سيده بإنكاحه, جزاء له على صلاحه, وترغيبا له فيه.
ولأن الفاسد بالزنا, منهي عن تزوجه, فيكون مؤيدا للذكور في أول السورة, أن نكاح الزاني والزانية, محرم, حتى يتوب.
ويكون التخصيص بالصلاح في العبيد والإماء, دون الأحرار, لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة, ويحتمل أن المراد بالصالحين, الصالحون للتزوج المحتاجون إليه, من العبيد والإماء.
يؤيد هذا المعنى, أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه, قبل حاجته إلى الزواج.
ولا يبعد إرادة المعنيين كليهما, والله أعلم.
وقوله: " إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ " أي: الأزواج والمتزوجين " يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " فلا يمنعكم ما تتوهمون, من أنه إذا تزوج, افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه.
وفيه حث على التزوج, ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر.
" وَاللَّهُ وَاسِعٌ " كثير الخير عظيم الفضل " عَلِيمٌ " بمن يستحق فضله الديني والدنيوي, أو أحدهما, ممن لا يستحق, فيعطي كلا, ما علمه واقتضاه حكمه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #357  
قديم 27-02-2020, 12:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (356)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(33) الى الأية(39)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور




" وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " (33)
" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " هذا حكم العاجز عن النكاح, أمره الله أن يستعفف, أي: أن يكف عن المحرم, ويفعل الأسباب التي تكفه عنه, من صرف دواعي قلبه, بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه.
ويفعل أيضا, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .
وقوله " الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا " أي: لا يقدرون نكاحا إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم, أو امتناعهم من تزويجهم, وليس لهم قدرة على إجبارهم على ذلك.
وهذا التقدير, أحسن من تقدير من قد " لا يجدون مهر نكاح " .
وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف, فإن في ذلك محذورين.
أحدهما: الحذف في الكلام, والأصل, عدم الحذف.
والثاني كون المعنى قاصرا على من له حالتان, حالة غنى بماله, وحالة عدم.
فيخرج العبيد والإماء, ومن إنكاحه على وليه, كما ذكرنا.
" حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ " وعد للمستعفف أن الله سيغنيه, وييسر له أمره, وأمر له بانتظار الفرج, لئلا يشق عليه ما هو فيه.
وقوله " وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا " .
أي: من ابتغى وطلب منكم الكتابة, وأن يشتري نفسه, من عبيد وإماء, فأجيبوه إلى ما طلب, وكاتبوه.
" إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ " أي في الطالبين للكتابة " خَيْرًا " أي: قدرة على التكسب, وصلاحا في دينه.
لأن في الكتابة, تحصيل المصلحتين, مصلحة العتق والحرية, ومصلحة العوض, الذي يبذله في فداء نفسه.
وربما جد واجتهد, وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال, ما لا يحصل عليه في رقه.
فلا يكون ضرر على السيد في كتابته, مع حصول عظيم المنفعة للعبد.
فلذلك أمر الله بالكتابة, على هذا الوجه, أمر إيجاب, كما هو الظاهر, أو أمر استحباب على القول الآخر.
وأمر بمعاونتهم على كتابتهم, لكونهم محتاجين لذلك, بسبب أنهم لا مال لهم فقال: " وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ " يدخل في ذلك أمر سيده, الذي كاتبه, أن يعطيه من كتابته, أو يسقط عنه منها, وأمر الناس بمعونتهم.
ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة, ورغب في إعطائه بقوله: " مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ " أي: فكما أن المال مال الله, وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه, فأحسنوا لعباد الله, كما أحسن الله إليكم.
ومفهوم الآية الكريمة, أن العبد إذا لم يطلب الكتابة, لا يؤمر سيده, أن يبتدئ بكتابته, وأنه إذا لم يعلم منه خيرا, بأن علم منه عكسه, إما أنه يعلم أنه لا كسب له, فيكون بسبب ذلك كلا على الناس, ضائعا.
وإما أن يخاف إذا أعتق, وصار في حرية نفسه, أن يتمكن من الفساد, فهذا لا يؤمر بكتابته, بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور.
ثم قال تعالى: " وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ " أي: إماءكم " عَلَى الْبِغَاءِ " أي: أن تكون زانية " إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا " لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال.
وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا, يجب على سيدها, منعها من ذلك.
وإنما نهى عن هذا لما كانوا يستعملونه في الجاهلية, من كون السيد يجبر أمته على البغاء, ليأخذ منها أجرة ذلك, ولهذا قال: " لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم, خيرا منكم, وأعف عن الزنا, وأنتم تفعلون بهن ذلك, لأجل عرض الحياة, متاع قليل يعرض, ثم يزول.
فكسبكم النزاهة, والنظافة, والمروءة - بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها - أفضل من كسبكم العرض القليل, الذي يكسبكم الرذالة والخسة.
ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة فقال: " وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فليتب إلى الله وليقلع عما صدر منه, مما يغضبه.
فإذا فعل ذلك, غفر الله ذنوبه, ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب, وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها.

" ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " (34)
هذا تعظيم وتفخيم لهذه الآيات, تلاها على عباده, ليعرفوا قدرها, ويقوموا بحقها فقال: " وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ " .
أي: واضحات الدلالة, على كل أمر تحتاجون إليه, من الأصول والفروع, بحيث لا يبقى فيها إشكال ولا شبهة.
وأنزلنا إليكم أيضا مثلا " مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ " من أخبار الأولين, الصالح منهم والطالح, وصفة أعمالهم, وما جرى لهم, وجرى عليهم تعتبرونه مثالا ومعتبرا, لمن فعل مثل أعمالهم أن يجازي مثل ما جوزوا.
" وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ " أي: وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين, من الوعد والوعيد, والترغيب والترهيب, يتعظ بها المتقون, فيكفون عما يكره الله إلى ما يحبه الله.

" الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم " (35)
" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " الحسي والمعنوي.
وذلك أنه تعالى بذاته, نور, وحجابه نور, الذي لو كشفه, لأحرقت سبحات وجهه, ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وبه استنار العرش, والكرسي, والشمس, والقمر والنور, وبه استنارت الجنة.
وكذلك المعنوي, يرجع إلى الله, فكتابه نور, وشرعه نور, والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين, نور.
فلولا نوره تعالى, لتراكمت الظلمات, ولهذا, كل محل, يفقد نوره فثم الظلمة والحصر " مَثَلُ نُورِهِ " الذي يهدي إليه, وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين.
" كَمِشْكَاةٍ " أي: كوة " فِيهَا مِصْبَاحٌ " لأن الكوة, تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق.
ذلك " الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ " من صفاتها وبهائها " كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ " أي: مضيء إضاءة الدر.
" يُوقَدُ " ذلك المصباح, الذي في تلك الزجاجة الدرية " مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ " أي: بوقد من زيت الزيتون الذي ناره, من أنور ما يكون.
" لَا شَرْقِيَّةٍ " فقط, فلا تصيبها الشمس, آخر النهار.
" وَلَا غَرْبِيَّةٍ " فقط, فلا تصيبها الشمس, أول النهار.
وإذا انتفى عنها الأمران, كانت متوسطة من الأرض.
كزيتون الشام تصيبه الشمس أول النهار وآخره, فيحسن ويطيب, ويكون أصفى لزيتها, ولهذا قال: " يَكَادُ زَيْتُهَا " من صفائه " يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ " فإذا مسته النار, أضاء إضاءة بليغة " نُورٌ عَلَى نُورٍ " أي: نور النار, ونور الزيت.
ووجه هذا المثل, الذي ضربه الله, وتطبيقه على حالة المؤمن, ونور الله في قلبه, أن فطرته التي فطر عليها, بمنزلة الزيت الصافي.
ففطرته صافية, مستعدة للتعاليم الإلهية, والعمل المشروع.
فإذا وصل إليه العلم والإيمان, اشتعل ذلك النور في قلبه, بمنزلة إشعال النار, فتيلة ذلك المصباح, وهو صافي القلب, من سوء القصد, وسوء الفهم عن الله.
إذا وصل إليه الإيمان, أضاء إضاءة عظيمة, لصفائه من الكدورات.
وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية, فيجتمع له, نور الفطرة, ونور الإيمان, ونور العلم, وصفاء المعرفة, نور على نوره.
ولما كان هذا من نور الله تعالى, وليس كل أحد يصلح له ذلك قال: " يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ " ممن يعلم زكاءه وطهارته, وأنه يزكى معه, وينمى.
" وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ " ليعقلوا عنه, ويفهموا, لطفا منه بهم, وإحسانا إليهم وليتضح الحق من الباطل, فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة, فيعلمها العباد علما واضحا.
" وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " فعلمه محيط بجميع الأشياء.
فلتعلموا أن ضربه الأمثال, ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها وأنها مصلحة للعباد.
فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها, لا بالاعتراض عليها, ولا بمعارضتها فإنه يعلم, وأنتم لا تعلمون.
ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد, ذكرها منوها بها فقال: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ " إلى " بِغَيْرِ حِسَابٍ " .

" في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال " (36)
أي: يتعبد لله " فِي بُيُوتٍ " عظيمة فاضلة, هي أحب البقاع إليه, وهي: المساجد.
" أَذِنَ اللَّهُ " أي: أمر ووصى " أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " هذان مجموع أحكام المساجد.
فيدخل في رفعها, بناؤها, وكنسها وتنظيفها من النجاسات والأذى وصونها من المجانين والصبيان, الذين لا يتحرزون عن النجاسات, وعن الكافر, وأن تصان عن اللغو فيها, ورفع الأصوات بغير ذكر الله.
" وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ " يدخل في ذلك, الصلاة فيها, فرفضها, ونقلها, وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل, وغيره من أنواع الذكر, وتعلم العلم وتعليمه, والمذاكرة فيها, والاعتكاف, وغير ذلك من العبادات, التي تفعل في المساجد, ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين: عمارة بنيان, وصيانة لها, وعمارة بذكر اسم الله, من الصلاة وغيرها وهذا أشرف القسمين.
ولهذا شرعت الصلوات الخمس, والجمعة, في المساجد, وجوبا عند أكثر العلماء, واستحبابا عند آخرين.
ثم مدح تعالى, عمارها بالعبادة فقال: " يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا " إخلاصا " بِالْغُدُوِّ " أول النهار " وَالْآصَالِ " آخرة " رِجَالٌ " .
خص هذين الوقتين, لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله, وسهولته.
ويدخل في ذلك, التسبيح في الصلاة وغيرها, ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء, وأورادهما عند الصباح والمساء.
أي: يسبح فيها الله, رجال, أي رجال, ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا, ذات لذات, ولا تجارة ومكاسب, مشغلة عنه.
" لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ " وهذا يشمل كل تكسب يقصده به العوض, فيكون قوله: " وَلَا بَيْعٌ " من باب عطف الخاص على العام, لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره.
فهؤلاء الرجال, وإن اتجروا, وباعوا, واشتروا, فإن ذلك, لا محذور فيه.
لكنه لا تلهيم تلك, بأن يقدموها ويؤثروها على " ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ " بل جعلوا طاعة الله وعبادته, غاية مرادهم, ونهاية مقصدهم.
فما حال بينهم وبينها, رفضوه.
ولما كان ترك الدنيا, شديدا على أكثر النفوس, وحب المكاسب بأنواع التجارات, محبوبا لها, ويشق عليها تركه في الغالب, وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك, ذكر ما يدعوها إلى ذلك, ترغيبا وترهيبا - فقال: " يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ " من شدة هوله وإزعاجه القلوب والأبدان, فلذلك خافوا ذلك اليوم, فسهل عليهم العمل, وترك ما يشغل عنه.
" لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ "
" لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا " والمراد بأحسن ما عملوا: أعمالهم الحسنة الصالحة, لأنها أحسن ما عملوا, لأنهم يعملون المباحات وغيرها.
فالثواب لا يكون إلا على العمل الحسن كقوله تعالى: " لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " .
" وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ " زيادة كثيرة عن الجزاء المقابل لأعمالهم.
" وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " بل يعطيه من الأجر, ما لا يبلغه عمله, بل ولا تبلغه أمنيته.
ويعطيه من الأجر, بلا عد; ولا كيل; وهذا كناية عن كثرته جدا.

" والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " (39)
هذان مثلان, ضربهما الله لأعمال الكفار; في بطلانها وذهابها سدى; وتحسر عامليها منها فقال: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا " بربهم وكذبوا رسله " أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ " أي: بقاع; لا شجر فيه ولا نبات.
" يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً " شديد العطش, الذي يتوهم, ما لا يتوهم غيره, بسبب ما معه من العطش, وهذا حسبان باطل, فيقصده ليزيل ظمأه.
" حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا " فندم ندما شديدا, وازداد ما به من الظمأ, بسبب انقطاع رجائه.
كذلك أعمال الكفار, بمنزلة السراب, ترى ويظنها الجاهل الذي لا يدري الأمور, أعمالا نافعة, فتغره صورتها, ويخلبه خيالها, ويحسبها هو أيضا أعمالا نافعة لهواه, وهو أيضا محتاج إليها, كاحتياج الظمآن للماء.
حتى إذ قدم على أعماله, يوم الجزاء, وجدها ضائعة, ولم يجدها شيئا.
والحال إنه لم يذهب, لا له ولا عليه.
بل وجد " اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ " .
لم يخف عليه من عمله, نقير ولا قطمير ولن يعدم منه قليلا ولا كثيرا.
" وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ " فلا يستبطئ الجاهلون ذلك الوعد, فإنه لا بد من إتيانه.
ومثلها الله بالسراب, الذي بقيعة, أي: لا شجر فيه ولا نبات, وهذا مثال لقلوبهم, لا خير فيها ولا بر, فتزكو فيها الأعمال وذلك للسبب المانع, وهو الكفر.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #358  
قديم 27-02-2020, 12:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (357)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(40) الى الأية(46)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور




" أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " (40)
والمثل الثاني, لبطلان أعمال الكفار " كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ " بعيد قعره, طويل مداه " يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ " ظلمة البحر اللجي, ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة, ثم فوق ذلك, ظلمة السحب المدلهمة, ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم.
فاشتدت الظلمة جدا, بحيث أن الكائن في تلك الحال " إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا " مع قربها إليه, فكيف بغيرها.
كذلك الكفار, تراكمت على قلوبهم الظلمات, ظلمة الطبيعة, التي لا خير فيها, وفوقها ظلمة الكفر, وفوق ذلك, ظلمة الجهل, وفوق ذلك, ظلمة الأعمال الصادرة عما ذكر.
فبقوا في الظلمة متحيرين, وفي غمرتهم يعمهون, وعن الصراط المستقيم مدبرون, وفي طرق الغي والضلال, يترددون وهذا لأن الله خذلهم, فلم يعطهم من نوره.
" وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ " لأن نفسه ظالمة جاهلة, فليس فيها من الخير والنور, إلا ما أعطاها مولاها, ومنحها ربها.
يحتمل أن هذين المثالين, لأعمال جميع الكفار, كل منهما, منطبق عليها, وعددهما لتعدد الأوصاف.
ويحتمل أن كل مثال, لطائفة وفرقة.
فالأول.
للمتبوعين, والثاني, للتابعين.
والله أعلم.

" ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون " (41)
نبه تعالى عباده على عظمته, وكمال سلطانه, وافتقار جميع المخلوقات إليه, في ربوبيتها, وعبادتها فقال: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " من حيوان وجماد " وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ " أي: صافات أجنحتها, في السماء, تسبح ربها.
" كُلِّ " من هذه المخلوقات " قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ " أي: كل له, صلاة وعبادة بحسب حاله اللائقة به.
وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح, إما بواسطة الرسل, كالجن والإنس, والملائكة.
وأما بإلهام منه تعالى, كسائر المخلوقات غير ذلك.
وهذا الاحتمال, أرجح, بدليل قوله " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " .
أي: علم جميع أفعالهم, فلا يخف عليه منها شيء, وسيجازيهم بذلك.
فيكون على هذا, قد جمع بين علمه بأعمالهم, وذلك بتعليمه, وبين علمه بمقاصدهم المتضمن للجزاء.
ويحتمل أن الضمير في قوله: " قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ " يعود إلى الله, وأن الله تعالى, قد علم عبادتهم, وإن لم تعلموا - أيها العباد - منها, إلا ما أطلعكم الله عليه.
وهذه الآية كقوله تعالى " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " .

" ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير "(42)
فلما بين عبوديتهم وافتقارهم إليه - من جهة العبادة والتوحيد - بين افتقارهم إليه, من جهة الملك والتربية والتدبير فقال: " وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " خالقهما ورازقهما, والمتصرف فيهما, في حكمه الشرعي والقدري, في هذه الدار, وفي حكمه الجزائي, بدار, القرار بدليل قوله " وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ " أي: مرجع: الخلق ومآلهم, ليجازيهم بأعمالهم.
" ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " (43)
أي: ألم تشاهد ببصرك, عظيم قدرة الله, وكيف " يُزْجِي " .
أي: يسوق " سَحَابًا " قطعا متفرقة " ثُمَّ يُؤَلِّفُ " بين تلك القطع, فيجعله سحابا متراكما, مثل الجبال.
" فَتَرَى الْوَدْقَ " أي: الوابل والمطر, يخرج من خلال السحابة, نقطا متفرقة, ليحصل بها الانتفاع, من دون ضرر, فتمتلئ بذلك, الغدران, وتتدفق الخلجان, وتسيل الأودية, وتنبت الأرض من كل زوج كريم.
وتارة ينزل الله من ذلك السحاب, بردا يتلف ما يصيبه.
" فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ " أي: بحسب اقتضاء حكمه القدري, وحكمته التي يحمد عليها.
" يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ " أي: يكاد ضوء برق ذلك السحاب, من شدته " يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ " .
أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين, وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر, كامل القدرة, نافذ المشيئة, واسع الرحمة؟.

" يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " (44)
" يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " من حر إلى برد, ومن برد إلى حر, ومن ليل إلى نهار, ومن نهار إلى ليل, ويديل الأيام بين عباده.
" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ " أي: لذوي البصائر, والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها, كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهدة الحسية.
فالبصير, ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار وتفكير, وتدبر لما أريد بها ومنها.
والمعرض الجاهل, نظره إليها نظر غفلة, بمنزلة نظر البهائم.

" والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير " (45)
ينبه عباده على ما يشاهدونه, أنه خلق جميع الدواب, التي على وجه الأرض.
" مِنْ مَاءٍ " أي: مادتها كلها, الماء, كما قال تعالى: " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ " .
فالحيوانات التي تتوالد, مادتها, ماء النطفة, حين يلقح الذكر الأنثى.
والحيوانات التي تتولد من الأرض, لا تتولد إلا من الرطوبات المائية, كالحشرات لا يوجد منها شيء, يتولد من غير ماء أبدا.
فالمادة واحدة, ولكن الخلقة مختلفة, من وجوه كثيرة.
" فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ " كالحية ونحوها.
" وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ " كالآدميين, وكثير من الطيور.
" وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ " كبهيمة الأنعام ونحوها.
فاختلافها - مع أن الأصل واحد - يدل على نفود مشيئة الله, وعموم قدرته, ولهذا قال: " يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ " أي: من المخلوقات, على ما يشاؤه من الصفات.
" إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " كما أنزل المطر على الأرض, وهو لقاح واحد, والأم واحدة, وهي الأرض, والأولاد مختلفو الأصناف والأوصاف " وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " .

" لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " (46)
أي: لقد رحمنا عبادنا, وأنزلنا إليهم آيات بينات, أي: واضحات الدلالة, على جميع المقاصد الشرعية, والآداب المحمودة, والمعارف الرشيدة.
فاتضحت بذلك السبيل, وتبين الرشد من الغي, والهدى من الضلال.
فلم يبق أدنى شبهة لمبطل, يتعلق بها, ولا أدنى إشكال, لمريد الصواب, لأنها تنزيل من كمال علمه, وكملت رحمته, وكمل بيانه, فليس بعد بيانه بيان " لِيَهْلِكَ " بعد ذلك " مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ " .
" وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ " ممن سبقت لهم سابقة الحسنى, وقدم الصدق.
" إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " أي: طريق واضح مختصر, موصل إليه, وإلى دار كرامته, متضمن العلم بالحق وإيثاره, والعمل به.
عمم البيان التام لجميع الخلق, وخصص بالهداية من يشاء, فهذا فضله وإحسانه.
وما فضل الكريم بممنون وذاك عدله, وقطع الحجة للمحتج والله أعلم حيث يجعل مع مواقع إحسانه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #359  
قديم 27-02-2020, 12:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (358)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(47) الى الأية(53)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور




" ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين " (47)
يخبر تعالى عن حالة الظالمين, ممن في قلبه مرض وضعف إيمان, أو نفاق, وريب, وضعف علم, أنهم يقولون بألسنتهم, ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة, ثم لا يقومون بما قالوا, ويتولى فريق منهم عن الطاعة, توليا عظيما, بدليل قوله: " وَهُمْ مُعْرِضُونَ " فإن المتولي, قد يكون له نية عود ورجوع إلى ما تولى عنه.
وهذا المتولي, معرض, لا التفات له, ولا نظر لما تولى عنه.
وتجد هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي الإيمان والطاعة لله وهو ضعيف الإيمان.
وتجده لا يقوم بكثير من العبادات, خصوصا: العبادات, التي تشق على كثير من النفوس, كالزكاة, والنفقات الواجبة والمستحبة, والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك.

" وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون " (48)
" وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ " أي: إذا صار بينهم, وبين أحد, حكومة, ودعوا إلى الله ورسوله " إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ " يريدون أحكام الجاهلية, ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية, لعلمهم أن الحق عليهم, وأن الشرع لا يحكم إلا بما يطابق الواقع.
" وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين " (49)
" وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ " أي: إلى حكم الشرع " مُذْعِنِينَ " وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي, وإنما ذلك, لأجل موافقة أهوائهم.
فليسوا ممدوحين في هذه الحال, ولو أتوا إليه مذعنين, لأن العبد حقيقة, من يتبع الحق, فيما يحب ويكره, وفيما يسره ويحزنه.
وأما الذي يتبع الشرع, عند موافقة هواه, وينبذه عند مخالفته, ويقدم الهوى على الشرع, فليس بعبد لله على الحقيقة

" أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون " (50)
قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي: " أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ " أي: علة, أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته, فصار بمنزلة المريض, الذي يعرض عما ينفعه, ويقبل على ما يضره.
" أَمِ ارْتَابُوا " أي: شكوا, أو قلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله, واتهموه أنه لا يحكم بالحق.
" أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ " أي: يحكم عليهم حكما ظالما جائرا, وإنما هذا وصفهم " بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " .
وأما حكم الله ورسوله, ففي غاية العدالة والقسط, وموافقة الحكمة.
" وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " .
وفي هذه الآيات, دليل على أن الإيمان, ليس هو مجرد القول, حتى يقترن به العمل.
ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن الطاعة, ووجوب الانقياد لحكم الله, ورسوله في كل حال.
وإن لم ينقد له, دل على مرض في قلبه.
وريب في إيمانه.
وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام, الشريعة, وأن يظن بها, خلاف العدل والحكمة.

" إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " (51)
ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي, ذكر حالة المؤمنين الممدوحين.
فقال: " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ " إلى " الْفَائِزُونَ " .
أي: " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ " حقيقة الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم " إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ " سواء وافق أهواءهم, أو خالفها.
" أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " أي: سمعنا حكم الله ورسوله, وأجبنا من دعانا إليه وأطعنا طاعة تامة, سالمة من الحرج.
" وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .
حصر الفلاح فيهم, لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب, والنجاة من المكروه.
ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله, وأطاع الله ورسوله.

" ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " (52)
ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا, ذكر فضلها عموما, في جميع الأحوال.
فقال: " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما.
" وَيَخْشَ اللَّهَ " أي: يخافه, خوفا مقرونا بمعرفة, فيترك ما نهى عنه, ويكف نفسه عما تهوى.
ولهذا قال: " وَيَتَّقْهِ " بترك المحظور, لأن التقوى - عند الإطلاق - يدخل فيها, فعل المأمور به, وترك المنهي عنه.
وعند اقترانها بالبر أو الطاعة - كما في هذا الموضع - تفسر بتوقي عذاب الله, بترك معاصيه.
" فَأُولَئِكَ " الذين جمعوا, بين طاعة الله, وطاعة رسوله, وخشية الله وتقواه, " هُمُ الْفَائِزُونَ " بنجاتهم من العذاب, لتركهم أسبابه, ووصولهم إلى الثواب, لفعلهم أسبابه, فالفوز محصور فيهم.
وأما من لم يتصف بوصفهم, فإنه يفوته من الفوز, بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة.
واشتملت هذه الآية, على الحق المشترك, بين الله وبين رسوله, وهو: الطاعة المستلزمة للإيمان, والحق المختص بالله, وهو: الخشية والتقوى.
وبقي الحق الثالث المختص بالرسول, وهو التعزير والتوقير.
كما جمع بين الحقوق الثلاثة في سورة الفتح في قوله: " لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " .

" وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون " (53)
يخبر تعالى, عن حالة المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلم, في الجهاد من المنافقين, ومن في قلوبهم مرض وضعف إيمان أنهم يقسمون بالله.
" لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ " فما يستقبل, أو لئن نصصت عليهم, حين خرجت " لَيَخْرُجُنَّ " والمعنى الأول, أولى.
قال الله - رادا عليهم -: " قُلْ لَا تُقْسِمُوا " أي: لا نحتاج إلى إقسامكم ولا إلى أعذاركم, فإن الله قد نبأنا من أخباركم.
وطاعتم معروفة, لا تخفى علينا, قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل, من غير عذر, فلا وجه لعذركم وقسمكم.
إنما يحتاج إلى ذلك, من كان أمره محتملا, وحاله مشتبهة, فهذا ربما يفيده العذر براءة.
وأما أنتم, فكلا ولما.
وإنما ينتظر بكم ويخاف عليكم, حلول بأس الله ونقمته, ولهذا توعدهم بقوله: " إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " فيجازيكم عليها أتم الجزاء.
هذه حالهم في نفس الأمر.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #360  
قديم 27-02-2020, 12:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (359)
تفسير السعدى
سورة النور
من الأية(54) الى الأية(59)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة النور




" قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين " (54)
وأما الرسول عليه الصلاة والسلام, فوظيفته, أن يأمرهم وينهاكم, ولهذا قال: " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ " امتثلوا, كان حظهم وسعادتهم, وإن " تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ " من الرسالة, وقد أداها.
" وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ " من الطاعة, وقد بانت حالكم, وظهرت.
فبان ضلالكم وغيكم واستحقاقكم العذاب.
" وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا " إلى الصراط المستقيم, قولا وعملا.
فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته, وبدون ذلك, لا يمكن, بل هو محال.
" وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ " أي: تبليغكم البين الذي لا يبقي لأحد, شكا ولا شبهة, وقد فعل صلى الله عليه وسلم, بلغ البلاغ المبين.
وإنما الذي يحاسبكم, ويجازيكم, هو الله تعالى.
فالرسول, ليس له من الأمر شيء, وقد قام بوظيفته.

" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " (55)
هذا من وعوده الصادقة, التي شوهد تأويلها ومخبرها.
فإنه وعد من قام, بالإيمان والعمل الصالح, من هذه الأمة, أن يستخلفهم في الأرض, فيكونون هم الخلفاء فيها, المتصرفين في تدبيرها.
وأن يمكن لهم دينهم, الذي ارتضى لهم, وهو دين الإسلام, الذي فاق الأديان كلها.
ارتضاه لهذه الأمة, لفضلها وشرفها ونعمته عليها, بأن يتمكنوا من إقامته, وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة, في أنفسهم وفي غيرهم, لكون غيرهم من أهل الأديان, وسائر الكفار, مغلوبين ذليلين.
وأنه يبدلهم أمنا من بعد خوفهم, حيث كان الواحد منهم, لا يتمكن من إظهار دينه, وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار, وكون جماعة المسلمين قليلين جدا, بالنسبة إلى غيرهم, وقد رماهم أهل الأرض, عن قوس واحدة, وبغوا لهم الغوائل.
فوعد الله هذه الأمور, وقت نزول الآية, وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض, والتمكين فيها, والتمكين من إقامة الدين الإسلامي, والأمن التام, بحيث يعبدون الله, ولا يشركون به شيئا, ولا يخافون أحدا إلا الله.
فقام صدر هذه الأمة, من الإيمان والعمل الصالح بما يفوق على غيرهم.
فمكنهم من البلاد والعباد, وفتحت مشارق الأرض ومغاربها, وحصل الأمن التام, والتمكين التام, فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة.
ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة, مهما قاموا بالإيمان, والعمل الصالح فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله.
وإنما يسلط الله عليهم الكفار والمنافقين, ويديلهم في بعض الأحيان, بسبب إخلال المسلمين, بالإيمان والعمل الصالح.
" وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ " التمكين والسلطنة التامة لكم, يا معشر المسلمين.
" فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " الذين خرجوا عن طاعة الله, وفسدوا, فلم يصلحوا لصالح, ولم يكن فيهم أهلية للخير, لأن الذي يترك الإيمان في حال عزه وقهره, وعدم وجود الأسباب المانعة منه, يدل على فساد نيته, وخبث طويته, لأنه لا داعي له لترك الدين, إلا ذلك.
ودلت هذة الآية, أن الله قد مكن من قبلنا, واستخلفهم في الأرض كما قال موسى لقومه " وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " وقال تعالى " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ " " وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ "

" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون " (56)
يأمر تعالى بإقامة الصلاة, بأركانها, وشروطها, وآدبها, ظاهرا وباطنا.
وبإيتاء الزكاة من الأموال, التي استخلف الله عليها للعباد, وأعطاهم إياها, بأن يؤتوها الفقراء وغيرهم, ممن ذكر الله, لمصرف الزكاة.
فهذان أكبر الطاعات وأجلها, جامعتان لحقه, وحق خلقه للإخلاص للمعبود, وللإحسان إلى العبيد.
ثم عطف عليهما الأمر العام, فقال: " وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ " وذلك بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ " .
" لَعَلَّكُمْ " حين تقومون بذلك " تُرْحَمُونَ " فمن أراد الرحمة, فهذا طريقها, ومن رجاها من دون إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وإطاعة الرسول, فهو متمن كاذب.
وقد منته نفسه الأماني الكاذبة.

" لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير "(57)
" لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ " فلا يغررك ما متعوا به في الحياة الدنيا, فإن الله, وإن أمهلهم, فإنه لا يهملهم " نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ " .
ولهذا قال هنا: " وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ " أي: بئس المآل, مآل الكافرين, مآل الشر والحسرة, والعقوبة الأبدية.

" يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " (58)
أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم, والذين لم يبلغوا الحلم منهم.
قد ذكر الله حكمته وأنه ثلاث عورات للمستأذن عليهم, وقت نومهم بالليل بعد العشاء, وعند انتباههم قبل صلاة الفجر.
فهذا - في الغالب - أن النائم يستعمل للنوم في الليل, ثوبا غير ثوبه المعتاد.
وأما نوم النهار, فلو كان في الغالب قليلا, قد ينام فيه العبد بثيابه المعتاد.
قيده بقوله: " وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ " أي: للقائلة, وسط النهار.
ففي هذه الأحوال الثلاثة, يكون المماليك والأولاد الصغار, كغيرهم, لا يمكنون من الدخول إلا بإذن.
وأما ما عدا هذه الأحوال الثلاثة فقال: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ " .
أي: ليسوا كغيرهم: فإنهم يحتاج إليهم دائما, فيشق الاستئذان منهم في كل وقت.
ولهذا قال: " طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ " أي: يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم.
" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ " بيانا مقرونا بحكمته, ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه وحكمته.
ولهذا قال: " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " له العلم, المحيط, بالواجبات, والمستحبات, والممكنات, والحكمة التي وضعت كل شيء موضعه.
فأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به.
وأعطى كل حكم شرعي حكمه اللائق به ومنه هذه الأحكام, التي بينها وبين مآخذها وحسنها.

" وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم " (59)
" وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ " وهو إنزال المني يقظة أو مناما.
" فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " أي: في سائر الأوقات.
والذين من قبلهم هم الذين ذكرهم الله بقوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا " الآية.
" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ " ويوضحها, ويفصل أحكامها " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " .
وفي هاتين الآيتين فوائد.
منها: أن السيد, وولي الصغير, مخاطبان بتعليم عبيدهم, ومن تحت ولايتهم من الأولاد, العلم والآداب الشرعية, لأن الله وجه الخطاب إليهم بقوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ " الآية.
فلا يمكن ذلك, إلا بالتعليم والتأديب.
ولقوله: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ " .
ومنها: الأمر بحفظ العورات, والاحتياط لذلك من كل وجه, وأن المحل والمكان, الذي هو مظنة لرؤية عورة الإنسان فيه, أنه منهي عن الاغتسال فيه, والاستنجاء, ونحو ذلك.
ومنها: جواز كشف العورة لحاجة, كالحاجة عند النوم, وعند البول والغائط, ونحو ذلك.
ومنها: أن المسلمين كانوا معتادين القيلولة وسط النهار, كما اعتادوا نوم الليل, لأن الله خاطبهم, ببيان حالهم الموجودة.
ومنها: أن الصغير الذي دون البلوغ, لا يجوز أن يمكن من رؤية العورة, ولا يجوز أن ترى عورته, لأن الله لم يأمر باستئذانهم, إلا عن أمر ما يجوز.
ومنها: أن المملوك أيضا, لا يجوز أن يرى عورة سيده, كما أن سيده, لا يجوز أن يرى عورته, كما ذكرنا في الصغر.
ومنها أنه ينبغي للواعظ والمعلم ونحوهما, ممن يتكلم في مسائل العلم الشرعي أن يقرن بالحكم بيان مأخذه ووجهه, ولا يلقيه مجردا عن الدليل والتعليل, لأن الله - لما بين الحكم المذكور - علله بقوله: " ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ " .
ومنها: أن الصغير والعبد مخاطبان, كما أن وليهما مخاطب لقوله: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ " .
ومنها: أن ريق الصبي طاهر, ولو كان بعد نجاسة, كالقيء لقوله تعالى: " طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ " مع قول النبي صلى الله عليه وسلم, حين سئل عن الهرة " إنها ليست بنجس, إنها من الطوافين عليكم والطوافات " .
ومنها: جواز استخدام الإنسان من تحت يده, من الأطفال على وجه معتاد, لا يشق على الطفل لقوله: " طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ " .
ومنها: أن الحكم المذكور المفصل, إنما هو لما دون البلوغ, وأما ما بعد البلوغ, فليس إلا الاستئذان.
ومنها: أن البلوغ يحصل بالإنزال, فكل حكم شرعي رتب على البلوغ, حصل بالإنزال, وهذا مجمع عليه.
وإنما الخلاف, هل يحصل البلوغ بالسن, أو الإنبات للعانة, والله أعلم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 308.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 302.20 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]