موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 67 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836877 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3919 - عددالزوار : 379389 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191233 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2666 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 661 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 945 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1098 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 854 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #661  
قديم 18-05-2008, 10:44 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .....مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين

وقال:﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ﴾، ولم يقل:﴿ إنْ يُردِ الرَّحْمنُ بي ضُرًّا ﴾، فأدخل الباء على الضرِّ، وقدَّم المفعول ؛ لأن المقصود هو بيان كونه تحت تصرف الرحمن، يقلبه كيف يشاء، في البؤس، والرخاء، وليس الضرُّ بمقصود بيانه. كيف، والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة، بناء على إيمانه بحكم وعد الله تعالى ؟ ويؤيِّد هذا قوله من قبل:﴿الَّذِي فَطَرَنِي ﴾، حيث جعل نفسه مفعول الفطرة ؛ فكذلك جعلها مفعول الإرادة. وقرىء:﴿ إنْ يَردْن ، بفتح الياء، على معنى: إن يوردني ضرًّا. أي: يجعلني موردًا للضرِّ.
وقال في الزمر:﴿ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ (الزمر: 38)، وقال هنا:﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ ﴾، فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي، وذكر المريد باسم الله هناك، واختيار صيغة المضارع، وذكر المريد باسم الرحمن هنا ؟ ويجاب عن الأول بأن التعليق الشرطي في الجمل الشرطية نوعان: خبري، ووعدي.
أما الخبري فهو الذي يكون مضَمَّنًا جوابًا لسؤال سائل: هل وقع كذا ؟ أو يكون ردًّا لقول قائل: قد وقع كذا. فهذا يقتضي المضي لفظًا ومعنى، ولا يصح فيه الاستقبال بحال ؛ ومنه قوله تعالى:﴿ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ (الزمر: 38).
وأما الوعدي فالغرض منه هو التعليق المحض المجرد من أي معنى آخر. وهذا يقتضي الاستقبال، ولا يصلح فيه المضي ؛ ومنه قوله تعالى:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ( يس: 22- 23).
ويجاب عن الثاني بأن لفظ الجلالة ﴿ اللَّهِ﴾، ولفظ الرحمة ﴿ الرَّحْمنُهما الاسمان المختصان بواجب الوجود من بين أسمائه الحسنى ؛ كما أشار إلى ذلك جل وعلا بقوله:﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾(الإسراء: 110)،والأول هو اسمه الذي يدل على هيبته وعظمته. والثاني هو صفته التي تدل على رأفته ورحمته.
فلما أخبر الله تعالى عن نفسه في سورة الزُّمَر بأنه عزيز ذو انتقام بقوله:﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (الزمر: 37)، ثم ذكر ما يدل على عظمته بقوله:﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ (الزمر: 38)، ناسب ذلك ذكر الاسم المنبىء عن العظمة ؛ وهو﴿ اللَّهِ جل وعلا.
ولما أخبر سبحانه عن صاحب ياسين بأنه أظهر في دعوته لقومه إلى عبادة الله تلطفه بهم، ومداراته لهم، وإشفاقه عليهم بقوله:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس: 22)، ناسب ذلك ذكر الاسم المنبىء عن الرحمة ؛ وهو﴿الرَّحْمَنَالمتَّصف بالرحمة على وجه التمام والكمال. وكيف لا يذكر هذا الاسم الجليل، وقد سبقه الكفرة إلى ذكره عندما قالوا:﴿ وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ ؟ فهو أولى بذكره منهم !
ثم قال:﴿لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ على ترتيب ما يقع من العقلاء، فذكر الشفاعة أولاً، ثم ذكر الإنقاذ ثانيًا ؛ وذلك لأن من يريد دفع الضُّرِّ عن شخص أضرَّ به شخص آخر، يدفع بالوجه الأحسن، فيشفع أولاً. فإن لم يقبل، لجأ إلى إنقاذه بما أوتي من قوة. وهذه الآلهة لا تنفع شيئًا من النفع عند الرحمن، وليست لديها القدرة على الإنقاذ من ذلك الضر بالنصرة والمظاهرة، إن أخفقت في شفاعتها. وهو ترَقٍّ من الأدنى إلى الأعلى، بدأ أولاً: بنفي الجاه، وذكر ثانيًا: انتفاء القدرة، وعبَّر عنه بانتماء الإنقاذ ؛ لأنه نتيجته. ونفى ذلك بـ﴿لا الدالة على نفي ما بعدها نفيًا شاملاً، لا أمل معه أبدًا في حصول ما ذكر. وإنما ذكر الشفاعة والإنقاذ ؛ لأنهم كانوا يتخذون الآلهة شفعاء ووسائط عند الله سبحانه ؛ كما قال تعالى:﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (يونس: 18).
وقد ثبت بهذه الآيات أن الله تعالى معبود من كل وجه: فالبنظر إلى جانبه سبحانه فهو فاطرٌ، وربُّ مالكٌ، يستحق العبادة ؛ سواء أحْسَنَ، أم لم يُحْسِنْ. وبالنظر إلى إحسانه فهو رحمن. وبالنظر إلى الخوف والرجاء فهو يدفع الضر. وثبت بذلك أن غير الله تعالى لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه ؛ لأن أدنى مراتب المعبود أن يُعَدَّ ليوم كريهة يُرجَى منه فيه دفع ما يقع من ضُرٍّ بالعابد في ذلك اليوم. وغير الله تعالى ليست لديه القدرة على دفع شيء إلا بإذنه وإرادته ؛ كما قال سبحانه:﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ(البقرة: 255).فمن يعبد من دون الله آلهة هذا شأنها، يكون في ضلال ظاهر بيِّن، لا يخفي على أحد من ذوي العقول والبصائر. وهذا ما أراده بقوله:﴿ إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ ﴾.
وبعد أن تحدث بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة، أعلن قراره بالإيمان في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين، غيرَ مُبالٍ بالعواقب ؛ لأن صوت الفطرة في قلبه كان أقوى من كل تهديد، ومن كل تكذيب ؛ وذلك قوله:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ . وهو عبارة عن جملتين: الأولى خبرية لفظًا ومعنى. والثانية إنشائية معطوفة على الأولى.
يتبــــــــع
  #662  
قديم 18-05-2008, 10:59 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .....مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين

وقيل في تأكيد الأولى: إنهم لم يعلموا من كلامه أنه آمن ؛ بل تردَّدوا في ذلك، لما سمعوا منه ما سمعوا. قال كعب ووهب: إنما قال ذلك لقومه::﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ الذي كفرتم به. وقيل: إنه لما قال لقومه:﴿ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ﴾، رفعوه إلى الملك، وقالوا: قد تبعت عدونا، فطَوَّل الكلام معهم ؛ ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل إلى أن قال: ﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾، فوثبوا عليه، فقتلوه.
قال ابن عباس وغيره: خاطب بها قومه، على جهة المبالغة والتنبيه. وقال ابن مسعود: خاطب بها الرسل، على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم. فعلى هذا يكون معنى ﴿ فَاسْمَعُونِ﴾:فاشهدوا. أي: كونوا شهودي بالإيمان. والصواب هو القول الأول.. والله تعالى أعلم !
وقد يقال: لم قال هنا:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ ، ولم يقل:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبِّي ؛ كما قال من قبل:﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني ؟ ويجاب عن ذلك بأنه لما قال هنا:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ ، فُهِم منه أنه قال لهم: ربي وربكم واحد، وهو الذي فطرني وفطركم. وفي ذلك تحقيق للحق، وتنبيه على بطلان ما هم عليه من الآلهة أربابًا من دون الله تعالى. وأيضًا لو أنه قال:﴿ إِنّي آمَنْتُ بِرَبِّي ، لكان جواب قومه عليه: ونحن آمنا بربنا. ومثل هذا قوله عليه الصلاة والسلام:﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (الشورى: 15).
وفي قوله:﴿ فَاسْمَعُون - كما ذكر الفخر الرازي- فوائد:
أحدها: أنه كلامُ مُتَرَوٍّ متفكِّر. فإن المتكلم، إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، يتفكَّر.
وثانيها: أنه ينبه القوم، ويقول: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا: لِمَ أخفيت عنا أمرك ؟ ولو أظهرته، لاتبعناك.
وثالثها: أن يكون المراد: السماع الذي بمعنى القَبول. يقول القائل: نصحته، فسمع قولي. أي: قبله.
وقرأ الجمهور:﴿ فَاسْمَعُونِ ، بكسر النون، على نية الياء. وروى أبو بكر عن عاصم:﴿ فَاسْمَعُونَ ، بفتح النون. قال أبو حاتم: هذا خطأ، لا يجوز؛ لأنه أمر: فإما حذف النون، وإما كسرها على نية الياء. وأثبت الياء يعقوب، فقرأ:﴿ فَاسْمَعُونِي .
ثامنًا- ويسدل بعد ذلك الستار على الدنيا وما فيها من حطام، وعلى القوم وما هم فيه من كبر وعناد، وما هم عليه من كفر وشرك، ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة، ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق، ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين. ونرى هذا الرجل، الذي جهر بكلمة الحق، وقذف بها في وجوه قومه الطغاة، نراه في الجنة ينعم بما ادَّخر الله له فيها من كرامة، تليق بمقام المؤمنين المخلصين الصابرين، ونسمعه، وهو يتمنى أن يعلم قومه بما غفر له ربه، وجعله من عباده المكرمين؛ وذلك قوله تعالى:
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ ﴾
وظاهر قوله تعالى:﴿قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ أنه إِذْنٌ له بدخول الجنة حقيقة، إكرامًا له بعد أن قتله قومه ؛ كسائر الشهداء. قال قتادة: أدخله الله الجنة، وهو فيها حي يرزق. وقيل: معناه: وجبت لك الجنة، فهو خبر بأنه قد استحق دخولها. ولا يكون ذلك إلا بعد البعث. ولم يأت في القرآن أنه قتل ؛ ولهذا قال الحسن: لما أراد قومه قتله، رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السموات، وهلاك الجنة، فإذا أعاد الله الجنة، دخلها. وجمهور المفسرين على القول بأنه قتل. وذكر ابن عطيَّة أن الأحاديث والروايات تواترت بأنهم قتلوه. وقول قتادة الذي تقدم ذكره، ليس نصًّا في نفي القتل.
وقال تعالى:﴿ قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ﴾، ولم يقل:﴿ قِيلَ لَهُ ادْخُلِ الجَنَّةَ؛ لأن الغرض من ذلك هو بيان المقول، لا المقول له، لظهوره وللمبالغة في المسارعة إلى بيانه.وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الدنيا. وفيه - أيضًا- دلالة على ن أن الجنة مخلوقة.
والجملة استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك، وقع جوابًا عن سؤال نشأ من حكاية حاله ومقاله ؛ كأنه قيل: كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلُّب في دينه، والتسخِّي بروحه لوجهه تعالى ؟ فقيل:﴿ قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ ﴾.وكذلك قوله تعالى:﴿ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ هو استئناف آخر لبيان حاله، وقع جوابًا عن سؤال نشأ من حكاية حاله ؛ كأنه قيل: فماذا قال عند نيله تلك الكرامة ؟ فقيل:﴿ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ ﴾:﴿ بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ ﴾.
وفى معنى تمنِّيه قولان: حدهما أنه تمنى أن يعلم قومه بحاله ؛ ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته، إرغامًا لهم. والثاني: أنه تمنى أن يعلموا بذلك ؛ ليؤمنوا مثل إيمانه، ويصيروا إلى مثل حاله التي صار إليها.
وقوله:﴿ بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ إشارة إلى أن العمل الصالح يوجب أمرين: أولهما الغفران. وثانيهما: الإكرام ؛ كما قال تعالى:﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (سبأ: 4). وهذا الرجل كان من المؤمنين الصالحين ؛ ولذلك وجبت له المغفرة، ووجب له الإكرام.
و﴿ مَا في قوله:﴿ بِما غَفَرَ لي رَبّي إما موصولة، وإما مصدرية. وكونها موصولة أنسب وأجود ؛ لإبهامها ووقوعها على الجنس العام، وهو- هنا- جنس الذنوب. ولو جعلت مصدرية، لما دلت على هذا المعنى. ولا يجوز تفسيرها- إن كانت موصولة- بـ﴿ الَّذِي؛ لما يُرَاد به من التعيين لِمَا يعقل، والاختصاص به دون غيره ؛ ولأنه لا يقع على الجنس العام، كما تقع عليه ﴿ مَا .وهذا هو أحد أوجه الفروق الدقيقة بين معنى ﴿ مَا هذه، ومعنى ﴿ الَّذِي.. هكذا كان جزاء المؤمنين الصادقين: غفران من جنس الذنوب كلها، وإكرام يجعل صاحبه مستغنيًا عن كل أحد، ويدفع جميع حاجاته بنفسه.
تاسعًا- أما الكفرة الطغاة فقد كانوا أهون على الله تعالى من أن يهلكهم بأن ينزل عليهم جندًا من السماء ؛ كالحجارة، والريح، وغير ذلك ؛ كما فعل بكفار مكة يوم بدر والخندق.وما كان ليرسل ذلك على الأمم قبلهم، إذا أراد إهلاكهم ؛ بل يبعث عليهم عذابًا يدمرهم. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
﴿ وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ

يتبــــــــــع
  #663  
قديم 18-05-2008, 11:01 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .....مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين
وهوخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه توعُّد لقريش أن يصيبهم ما أصاب قوم هذا الرجل من الهلاك ؛ إذ هذا هو المروِّع لهم من هذا المثل.فنفى الله عز وجلأن يكون أنزلعلى قوم هذا الرجل، من بعد قتله جندًا من السماء ؛ ليهلكهم،ولله ﴿ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾(الفتح: 4، و 7). وما صَحَّ في حكمه الله جل وعلا أن ينزل في إهلاكهم جندًا من جنوده التي لا يعلمها إلا هو ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾(المدّثر: 31). فالأمر عند الله تعالى أهون من ذلك بكثير وأيسر.
فـ﴿ مَا الأولى نفيٌ لإنزال الجند من السماء على أولئك القوم، أريد به الاستغراق والشمول لكل فرد من أفراد الجنس ؛ ولهذا أدخلت ﴿ مِنْ على لفظ ﴿ جُنْدٍ في قوله:﴿مِنْ جُنْدٍ ﴾. و﴿ مَا ﴾ الثانية توكيدٌ للأولى على سبيل الجحد.. والسر في هذا النفي وتأكيده هو أنه تعالى قدَّر لكل شيء سببًا، وأجرى سنَّته في هلاك من أهلك من الأمم المكذبة على بعض الوجوه دون بعض ؛ حيث أهلك بعضهم بالحاصب، وبعضهم بالصيحة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالإغراق، وبعضهم بالمطر ؛ كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:
﴿ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(العنكبوت: 40) -﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ (الأعراف: 84) - ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ (الشعراء: 173، والنمل: 58).
هذه هي ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً(الأحزاب: 62)،﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾(فاطر: 43).
ولم يجعل سبحانه وتعالى إنزال الجند من السماء في إهلاك المكذبين إلا من خصائص محمد صلى الله عليه وسلم في الانتصار له من قومه، خلافًا لهؤلاء القوم الذين عاجلهم بالهلاك، إن كانت إلا صيْحَة واحدة، أخمدت أنفاسهم، وجعلتهم أثرًا بعد عين:
﴿ إِِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ
قال المفسرون: أرسل الله تعالى عليهم جبريل- عليه السلام- فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة،فإذا هم صرعى بائدون عن آخرهم، لم يبق فيهم روح تتردد في جسد. وفي ذلك إشارة إلى تهوين شأنهم، وتصغير قدرهم، وإيماء إلى تفخيم شأن الرسول.
وقراءة الجمهور:﴿ إِِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً﴾، بنصب﴿ صَيْحَةً ﴾، على الخبر. أي: ما كان عذابهم إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ومعاذ بن الحارث القارىء برفع ﴿ صَيْحَة، على أنها فاعل لفعل الكون. والمعنى: ما وقعت، أو حدثت إلا صيحة واحدة.
وضعَّف أبو حاتم، وكثير من النحويين هذه القراءة، بسبب لحوق تاء التأنيث ؛ إذ الأصل عندهم أن لا يلحق ﴿ كانَ تاء التأنيث ؛ لأن الفعل إذا كان مسندًا إلى مابعد ﴿إِلاّ من المؤنث، لم تلحق العلامة للتأنيث، فيقال: ما قام إلا هند. ولا يجوز: ما قامت إلا هند،عند البصريين إلا في الشعر، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة. وقرأ ابن مسعود، وعبد الرحمن بن الأسود:﴿إِلاّ زقْيَةًواحِدَةً﴾، بدلاً من:﴿ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً﴾،من زقا الديك، أو الطائر، إذا صاح.
و﴿إِذا فيقوله تعالى:﴿فَإِذا هُمْ خامِدُونَ هي الفجائية. أي: فاجأهم الخمود إثر الصيحة مباشرة. و﴿خامِدُونَ ﴾: ساكنون موتى، لاطئون بالأرض.كنَّى به عن سكونهم بعد حياتهم تشبيهًا بالرمادالذي خمدت ناره وطفئت بعد توقُّدها ؛ كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ** يحور رمادًا بعد إذ هو طالع
ويسدل الستار على مشهد هؤلاء القوم البائس المهين الذليل.وفي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار فيها الإنسان الضلالة على الهداية والباطل على الحقّ، يصِحُّ أن يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله:
﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون
وهو تذييل من كلام الله تعالى واقع موقع الرثاء للأقوام المكذبين للرسل، شامل لقوم هذا الرجل المقصودين بسَوْق المثل السابق، واطراد هذا السَنن القبيح فيهم. وقوله تعالى:﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ نداء للحسرة عليهم ؛ كأنما قيل لها: تعالَيْ يا حسرة ! فهذه من أحوالك التي حقُّك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسَّر عليهم المتحسِّرون، ويتلهَّف على حالهم المتلهِّفون. وأجيز أن يكون ذلك من الله تعالى على سبيل الاستعارة، تعظيمًا للأمر وتهويلاً له. وحينئذٍ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله تعالى ؛ كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني. ويعضِّد ذلك قراءة من قرأ:﴿ يَا حَسْرَتَا ﴾ ؛ لأن المعنى عليها: يا حسرتي.
وقرأ ابن عباس، والضحاك، وعلي بن الحسين، ومجاهد، وأبي بن كعب:﴿ يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ ﴾، على الإضافة إليهم، لاختصاصها بهم، من حيث إنها موجهة إليهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:«يا ويلا العباد»، وهو قول حسن مع قراءته. وقرأ الأعرج بن جندب، وأبو الزناد:﴿ يَا حَسْرَهْ على الْعِبَادِ ﴾، بالوقف على الهاء، إجراء للوصل مجرى الوقف ؛ وذلك للحرص على بيان معنى التحسر، وتقريره للنفس. والنطق بالهاء في مثل هذا أبلغ في التشفيق وهز النفس ؛ كقولهم: أُوْه، ونحوه.
وتنكير الحسرة في قراءة الجمهور:﴿ يَا حَسْرَةًللتكثير. والألف واللام في ﴿ الْعِبَادِيحتمل وجهين: أحدهما: للمعهود،وهم الذين أخذتهم الصيحة، فيا حسرة عليهم. وثانيهما: لتعريف الجنس المستعمل في الاستغراق، وهو استغراق ادعائي، رُوعِيَ فيه حال الأغلب على الأمم التي يأتيها رسول لعدم الاعتداء في هذا المقام بقلة الذين صدَّقوا الرسل ونصروهم ؛ فكأنَّهم كلهم قد كذبوا.
والحسرة: التلهفات التي تترك صاحبها حسيرًا. أي: شديد الندم والتلهف على نفع فائت. وحرف النداء هنا لمجرد التنبيه على خطر ما بعده ؛ ليصغي إليه السامع. وكثُر دخوله في الجمل المقصود منها إنشاء معنى في نفس المتكلم دون الإِخبار، فيكون اقتران ذلك الإِنشاء بحرف التنبيه إعلانًا بما في نفس المتكلم من مدلول الإِنشاء ؛ كقولهم: يا خيبة. يا لعنة. يا ويلي. يا فرحي. يا ليتني، ونحو ذلك قوله تعالى:﴿ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً(النساء: 73). وقوله تعالى:﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً(الفرقان: 28).
و﴿ الْعِبَادِ اسم للناس، وهو جمع: عبد. والعبد هو الممْلوك. وجميع الناس عبيد لله تعالى ؛ لأنه خالقهم والمتصرف فيهم. قال تعالى:﴿ رزقاً للعباد ﴾. ويجمع على: عبيد، وعباد. وغلب الجمع الأول على عبد بمعنى مملوك، وغلب الجمع الثاني على عبد بمعنى آدمي، وهو تخصيص حسن من الاستعمال العربي. ومن الأول قول الله عز وجل:﴿ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (آل عمران: 182). ومن الثاني قوله تعالى:﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(البقرة: 207)، وقوله:﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا(الكهف: 65).
ثم قال عز وجل:﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾، فبين سبحانه وجه التحَسِّر عليهم، وسبب ندامتهم ؛ لأن قوله:﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾، وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية، فإنه لما عُمِّم على جميع العباد، حدث إيهام في وجه العموم، فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضُرِبَ بهم المثل، ومن ضُرِب لهم في تلك الحالة الممثل بها، ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم، ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا، فعُلم وجه الحسرة عليهم إجمالاً من هذه الآية، ثم تفصيلاً من قول الله تعالى بعد:﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾(يس: 31).
والاستثناء في قوله: ﴿ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ مفرغ من أحوال عامة من الضمير في:﴿ مَا يَأْتِيهِمْ ﴾. أي: ما يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلا في حال استهزائهم به.وتقديم ﴿ بِهِ ﴾ على ﴿ يَسْتَهْزِءُونَ؛ للاهتمام بالرسول المشعر باستفظاع الاستهزاء به، مع تأتِّي الفاصلة بهذا التقديم،فحصل منه غرضان من المعاني، ومن البديع.
هذا هو المثل الذي ضربه الله عز وجل للمشركين الذين واجهوا دعوة الإسلام في بدايتها بالتكذيب، ضربه لهم في قصة أصحاب القرية المكذبين الذين انتهى أمرهم فجأة بصيحة واحدة أخمدت أنفاسهم، وجعلتهم نسيًا منسيًّا. ويبدأ الحديث بعدها بالتعميم في موقف المكذبين بكل ملة ودين، ويعرض صورة البشرية الضالة على مدار القرون، وينادي على العباد نداء الحسرة وهم لا يتعظون بمصارع الهالكين الذين يذهبون أمامهم، ولا يرجعون إلا يوم الدين.
يمكن مرسالة المؤلف على الإيميل التالي:
  #664  
قديم 15-06-2008, 04:09 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

مثل عيسى عند الله تبارك وتعالى




قال الله تبارك وتعالى:﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾( آل عمران: 59-60)
أولاً- ذكر الله تبارك وتعالى هاتين الآيتين الكريمتين من سورة آل عمران في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى، لمَّا قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم وفدٌ من نصارى نجران، وناظروه في المسيح- عليه السلام- وأنزل الله تعالى فيه ما أنزل، فبين فيه قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود، والنصارى ؛ وذلك قوله تعالى:﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾( مريم: 34 ).
أما اليهود فقد ارتضوا الجريمة مركبًا، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا الحق معهم، وقالوا في المسيح: إنه ولِدَ- كما يولَد الناس- من ذكر وأنثى، وإن ميلاده كان على فراش الإثم والفاحشة، مع قولهم لعنهم الله: إنه ساحرٌ وكذاب. وأما النصارى فقد قصُرَت مداركهم عن إدراك قدرة الله تعالى، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة، وهي أن الله تعالى قدير على كل شيء، يخلق ممَّا يشاء، وكيف يشاء ما يشاء من يشاء، فقالوا في المسيح: إنه ابْنُ الله ؛ كما قالت اليهود: عُزَيْرٌ بْنُ الله، فردَّ الله تعالى عليهم قولهم، ووبَّخهم على افترائهم وكذبهم بقوله:﴿ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾( التوبة: 30). وقالوا أيضًا: إن الله هو المسيح، تجسَّد بشرًا في جسد عذراء، وإنه ثالث ثلاثة، مع دعوة المسيح- عليه السلام- لهم إلى عبادة الله تعالى وحده، وتحذيره لهم من الشرك وعواقبه الوخيمة. وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه:
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾( المائدة:72-73 )
وقد نهى الله تعالى النصارى عن الغلوِّ في دينهم، وأن يقولوا على الله تعالى غير الحق، وبين في أكثر من آية أن المسيح بن مريم رسول كغيره من الرسل، خلقه بكلمة منه، وبنفحة من روحه ؛ كما خلق هذا الوجود كله بنور من نوره، وفيض من فيضه، فقال سبحانه:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ﴾( النساء:171 )
وأقرب مثل لعيسى عند الله تعالى هو مثل آدم:﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾. والعرب تضرب الأمثال لبيان ما خفيَ معناه، ودقَّ إيضاحه. ولمَّا خفي سِرُّ ولادة عيسى- عليه السلام- من غير أب ؛ لأنه خالف المعروف، ضرب الله تعالى له المثل بآدم الذي استقرَّ في الأذهان، وعُلِمَ أنه خُلِقَ من غير أب، ولا أمٍّ.
ثانيًا- وقوله تعالى:﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ ﴾ مشبَّهٌ. وقوله:﴿ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ مشبَّه به. ولا بد من مشابهة معنوية بين من ضُرِبَ له المثل، ومن ضُرِبَ به من وجه واحد، أو أكثر، ولا يُشْترَط المشابهة بينهما في جميع الوجوه. والمعنى الذي وقعت فيه المشابهة بين آدم، وعيسى- عليهما السلام- كونُ كل واحد منهما خلق من غير أب ؛ ولهذا صحَّ أن يكون كل واحد منهما طرفًا في تشبيه واحد أداته الكاف التي دلَّت على أن ما بينهما تشابهٌ في الخَلْق في أحد الوجوه.
فالتشبيه بينهما واقع على أن المسيح خلق من غير أب ؛ كما خلق آدم من غير أب، ولم يكن التشبيه واقع بينهما على أن المسيح خلق من تراب، فكان بينهما فرق من هذه الجهة. وإن كان قد شبِّه الأول بالثاني لكونه خلق من تراب، فلأن خلقهما يرجع في الحقيقة إلى التراب. وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة، قال:« الناس ولد آدم، وآدمُ من تراب ».
فإذا جاز ادعاء البُنُوة والإلهيَّة في عيسى لكونه مخلوقًا من غير أب، فجواز ادِّعائها في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل. وإذا كان ذلك باطلاً، فدَعْواه في عيسى أشدُّ بطلانًا، وأظهر فسادًا، لأنه خلق من غير أب، وآدم خلق من غير أب وأم.
ومن هنا كان الغرض من التشبيه في هذا المثل هو إقامة الدليل والحجة على المحاجين بخلق عيسى عليه السلام من غير أب، مع اعترافهم بخلق آدم من غير أب وأم، فشبه الغريب بالأغرب، والبعيد بالأبعد. فإذا اعترف بالأغرب والأبعد، كان الاعتراف بالغريب والبعيد أولى، وهذا يقتضي حسم النزاع.
وأما قوله تعالى:﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ فالمراد به: أن نسبة المسيح إلى الله تعالى لا تزيد على نسبة آدم إليه شيئًا، في كونه خلْقًا غيرَ معتاد للمحاجِّين فيه. وإنما ذكر تعالى هذا القيد الذي قيَّد به مثل عيسى ؛ لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجبًا للمسيح نسبة خاصة عند الله، وهي البُنُوَّة والإلهيّة، فكان لابد من ذكر هذا القيد.
فإن قيل: لماذا خلق الله تعالى عيسى من أنثى بلا ذكر خلافًا للمعتاد ؟ فالجواب عن ذلك: أن الله جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه، وأن يبين عموم هذه القدرة في خلق النوع البشري على الأقسام الممكنة، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى ؛ كما قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾( النساء: 1 )، وخلق عيسى– عليه السلام- من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى ؛ كما قال:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ﴾( الحجرات: 13 ).
ثالثًا- وأما قوله تعالى:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فهو تفصيلٌ لما أُجْمِلَ في المثل، وتفسيرٌ لما أُبْهِمَ فيه، ببيان وَجْهِ الشَّبَه. والضمير في ﴿ خَلَقَهُ﴾ لآدم، لا لعيسى ؛ إذ قد عَلِمَ الكلُّ أن عيسى لم يُخلَق من تراب، فدل ذلك على أن محل التشبيه هو قوله تعالى:﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
والخَلْقُ في اللغة أصلُه: التقديرُ المستقيمُ. ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء ؛ كقوله تعالى:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾( الأنعام: 1 ). ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء ؛ كقوله تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾( الروم: 20 )، وقوله تعالى:﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾( النساء: 1 ).
ولسائل أن يسأل: لمَاذا قال تعالى هنا:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾، ولم يقل:﴿ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، أو من صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ ؛ كما أخبر تعالى في قوله:﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ﴾( ص: 71 )، وقوله عز وجل:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾( الحجر: 28 ) ؟
والجواب عن ذلك: إنما عُدِل عن ذكر الطين الذي هو مجموع الماء والتراب، والصلصال الذي هو الطين اليابس، إلى ذكر مجرَّد التراب، لمعنى لطيف ؛ وذلك أنه أدنى العنصرين، وأكثفهما. فلما كان المقصود محاجَّة من ادَّعى في المسيح- عليه السلام- البُنُوَّةَ والإلهية، مثَّله بآدم، ثم أتى بما يصَغِّر من أمر خلقه عند من اعترف بخلقه من غير أب وأم ؛ فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمسَّ في المعنى من غيره من العناصر ؛ ونحو ذلك قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾( الحج: 5 ). ونظير الآية قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ﴾( الرعد: 45 )، فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر؛ لأنه أتى بصيغة الاستغراق، وليس في العناصر الأربعة ما يعمُّ جميع المخلوقات إلا الماء ؛ ليدخل فيها الحيوان البحري.. وفي ذلك من مشاكلة اللفظ للمعنى ما لا يخفى على من يعرف جوهر الكلام، ويدرك أسرار البيان.
وقوله تعالى:﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ معطوف على قوله:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ بـ﴿ ثُمَّ ﴾، وهي لترتيب المُخْبَر عنه، أو للتراخي الرُّتَبِي ؛ لأن المعنى: ابتدأ خلقه بشرًا من جنس التراب، ثم قال له:﴿ كُنْ ﴾، فكان إنسانًا بنفخ الروح فيه. فإنَّ تكوينه بقول:﴿ كُنْ ﴾ أرفع رتبة من قول:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ الذي هو أسبق في الوجود. والتَّكوين المشار إليه بـ﴿ كُنْ ﴾ هو تكوينه على الصفة المقصودة بإيجاد الروح فيه، ونقله من طور البشرية إلى طور الإنسانية. فبهذه الكلمة كان عيسى كلمةً من الله تعالى، وبهذه الكلمة كان آدمُ أيضًا كلمةً من الله تعالى.
وعلى هذا الذي ذكرناه يكون الترتيب في الآية الكريمة ترتيبًا زمانيًّا ؛ إذ بينَ خلق آدم بشرًا من تراب، وجعله إنسانًا بإيجاد الروح فيه، زمان طويل ؛ ولهذا لم يكن خلقه إبداعيًّا كما كان خلق المسيح عليه السلام.
ومذهب أكثر المفسرين على أن ﴿ ثُمَّ ﴾ لترتيب الخبر. وإلى هذا ذهب البغوي، فقال في ذلك ما نصُّه:« فإن قيل: ما معنى قوله:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، ولا تكوين بعد الخلق ؟ قيل: معناه: خلقه، ثم أخبركم أني قلت له: كن فكان، من غير ترتيب في الخلق ؛ كما يكون في الولادة، وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أعطيتك أمس درهمًا. أي: ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا ».
وفساد هذا القول ظاهر لمن تأمله أدنى تأمل ؛ وإلا فكيف يقاس كلام الله الذي هو الأعلى في البلاغة والفصاحة بقول مصطنع لا يمتُّ إليهما بأية صلة ؟ كيف يكون قوله تعالى:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، مثل قول الرجل:« أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا » ؟
تأمل الآية جيدًا، ثم انظر كيف تفكَّك نظمها، ومُسِخَ معناها مَسخًا بهذا التقدير، هكذا: خلقه اليوم من تراب، ثم أخبره أمس أنه قال له: كن فيكون. فالمعنى على هذا التقدير:﴿ قَالَ لَهُ ﴾ في الأزل:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، ﴿ ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾.
أما قوله تعالى:﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ فهو ظاهر المعنى، لا يحتاج إلى تأويل، وقد بينا السر في اختيار لفظ التراب دون لفظ الطين ولفظ الصلصال.. وأما قوله تعالى:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فظاهر ﴿ كُنْ ﴾ يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في الحال، فأمره سبحانه بين الكاف والنون. وظاهر ﴿ فَيَكُونُ ﴾ يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في المستقبل المتراخي. وفي ذلك ما يسأل عنه: كيف يقول سبحانه للشيء:﴿ كُنْ ﴾، ثم لا يكون واقعًا في الحال ؟ ولو كان ما أمر الله تعالى به واقعًا في الحال، لكانت صياغة الآية هكذا:﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان ﴾، فكيف يكون هذا ؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة، وبين إمضاء ما قدرت على الفور وفي الحال ؟
وقد اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في الإجابة عن هذا السؤال، وذهب أكثرهم إلى القول بأن المراد بقوله تعالى:﴿ فَيَكُونُ ﴾ حكاية حال ماضية، وأن أصل الكلام( كُنْ، فَكَانَ ). قالوا: وإنما عبَّر بصيغة المضارع المقترن بالفاء دون الماضي، بأن يقال( فَكَانَ ) ؛ لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت. ومن جهة أخرى، فإن صيغة المضارع في هذا المقام، تُنْبِىءُ عمَّا كان، وتُومِىءُ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل ؛ كما كان في الماضي.
ولكن هذا الذي قرَّروه- وإن كان يبدو لأول وهلة قولاً صحيحًا- هو خلافُ الظاهر، ويأباه نظم الكلام ومعناه. وبيانه: أن قول الله تعالى للشيء ﴿ كُنْ ﴾ لا يقتضي وقوع ذلك الشيء في الحال ؛ إذ قد يكون الأمر موقوتًا بوقت، أو يكون متعلقًا بأسباب لا بدَّ أن يقترن حدوثه بها. وهذه الأسباب لا متعلَّق لها بقدرة الله ؛ وإنما مُتعلَّقُها بالشيء ذاته الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألَّا يظهر ؛ إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به، وهذا ما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى:﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾( يس: 82 ). وذلك الشيء المراد معلومٌ قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه. وبذلك كان مُقدَّرًا مَقضِيًّا ؛ فإن الله سبحانه يقول، ويكتب ممَّا يعلمه ما شاء ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر:« إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ».
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:« كان الله، ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض ».
وفي سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:« أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: ما أكتب ؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة ».
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن أن المخلوق قبل أن يخلَق، كان مَعلومًا، مُخْبَرًا عنه، مَكتوبًا فيه شيء، باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني، ليس ثابتًا في الخارج ؛ بل هو عدمٌ مَحضٌ، ونَفْيٌ صِرفٌ. وإذا كان كذلك، كان الخطاب مُوَجَّهًا إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة وخُلِق، ثم كُوِّن ؛ كما قال تعالى:﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾( النحل:40 ). فالذي يُقال له:﴿ كُنْ ﴾ هو الذي يُرادُ. وهو حين يُرادُ قبل أن يُخلَق، له ثُبوتٌ وتَميُّزٌ في العلم والتقدير. ولولا ذلك، لما تميَّز المُرَادُ المَخلوقُ من غيره.
فثبت بذلك أن الله تعالى، إذا أراد أن يْكوِّن شيئًا معلومًا لديه، توجَّه سبحانه إلى ذلك الشيء بالخطاب بقوله:﴿ كُنْ ﴾، ﴿ فَيَكُونُ ﴾. أي: يوجد ذلك المُكَوَّنُ عَقِبَ التكوين، لا مع ذلك في الزمان ؛ ولهذا أتى سبحانه بصيغة الاستقبال مسبوقة بفاء التعقيب. وكونُ الفاء للتعقيب يُوجِبُ أن يكون الثاني عَقِبَ الأول، لا معه.
بقي أن تعلم أن ( الفاء ) تفيد التعقيبَ، والتسبيبَ. فلو قيل( كن، فكان )، لم تدلَّ الفاء إلا على التسبيب، وأن القول سببٌ للكون. فلما قال عز وجل:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، دلَّت الفاء مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر. وهذا لا يعني استعقابه في الحال، من غير مهلة ؛ لأن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال، إذا لم يوجد معه قرينة تقيده به، وتقصره عليه ؛ وإلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار بلا انقطاع ؛ لأنه موضوع لما هو كائن، لم ينقطع. وعليه فإن بناء الفعل ( يكون ) لا يدل بصيغته على الحال ؛ وإنما يدل على المستقبل المتراخي. وهذا يعني أن آدم خلق وسُوِّيَ بشرًا من تراب الأرض وطينها، ثم صاِر إنسانًا عاقلاً بنفخ الروح فيه ؛ وذلك هو المراد بقوله تعالى:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، بعد ذلك أمرت الملائكة بالسجود له، وهذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة:
﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾( ص: 71- 72 ). والآية الكريمة:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾( الحجر: 28- 29 ).
ولو امتثل الناس قول الله تعالى:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(العنكبوت: 20 )، لعرفوا كيف ابتدأ الخلقُ، ولو عرفوا، ما اختلف اثنان منهم في تفسير هذه الآية الكريمة، وغيرها من الآيات التي لا تنطق بالحق إلا لمن استنطقها من أولي النهى والبصائر ؛ كقول الله تبارك وتعالى:﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾( السجدة: 7- 8 ). وقوله جل وعلا:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾( المؤمنون: 12- 13 ).. إلى غير ذلك من الآيات التي نمر عليها، ونحن عنها غافلون.
رابعًا- ثم بين تعالى أن ما أخبر به عباده في أمر عيسى- عليه السلام- هو الحق الذي لا يحوم حوله باطلٌ، فقال سبحانه:﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾. فـ﴿ الْحَقُّ ﴾ على هذا خبر لمبتدأ محذوف. أي: ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام ﴿ الْحَقُّ ﴾، فحذف ؛ لكونه معلومًا. و﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ حال من الحق.. وقيل: هو مبتدأ، استؤنف بعد انقضاء الكلام، وخبره قوله تعالى:﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾. وهذا كما تقول: الحق من الله، والباطل من الشيطان. وقيل غير ذلك.
أما الامتراء فهو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المَبْنيَّة على الأوهام، لا على الحقائق ؛ ومنه: المِراء. قال تعالى:﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أَحَدًا ﴾( الكهف: 22 )، وأَصله في اللغة: الجِدال، وهو مأخوذ من قول العرب: مَرَيْتُ الناقة والشاة، إذا أردت حلبها ؛ فكأن الشاكَّ يجتذب بشكِّه مراءً كاللبن الذي يجتذب عند الحلب. يقال: قد مارى فلان فلانًا، إذا جادله ؛ كأنه يستخرج غضبه. ومنه قيل: الشكر يمتري المزيد. أي: يجلبه.
وقد أكد سبحانه وتعالى أن ما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو الحق بتأكيدات ثلاثة: أولها: التعريف في لفظ ﴿ الْحَقُّ ﴾. أي: ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذي لا يخالطه باطل. وثانيها: كونه من عند الله تعالى. وكل شيء من عنده سبحانه فهو صدق، لا ريب فيه. وثالثها: النهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق ؛ لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان وتسليم وبدون جدل، أو امتراء.
وأما النَّهْيُ عن الامتراء في قوله تعالى:﴿ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ فهو موجَّه في ظاهره إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الرازي:« وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكًا في صحة ما أنزل عليه ؛ وذلك غير جائز. واختلف الناس في الجواب عنه: فمنهم من قال: الخطاب، وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنه في المعنى مع الأمة. والثاني: أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: فدُمْ على يقينك، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء ».
وقال الألوسي:« ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلى الله عليه وسلم، بل ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين: إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم، إذا سمع مثل هذا الخطاب، تحركت منه الأريحية، فيزداد في الثبات على اليقين نورًا على نور. والفائدة الثانية: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم، فينزع وينزجر عمَّا يورث الامتراء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني، إذا خوطب بمثله، فما يظن بغيره ؟ ففي ذلك ثبات له صلى الله عليه وسلم، ولطف بغيره ».
وقيل: بل المقصود من هذا النهي: التعريض بالنصارى الذين قال الله تعالى فينهم:﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾( مريم: 34 ). والله تعالى أعلم بمراده، وما ينطوي عليه كلامه من أسرار، سبحانه وتعالى !

محمد إسماعيل عتوك
باحث
في الإعجاز البياني للقرآن
[email protected]


التعديل الأخير تم بواسطة القلب الحزين ; 21-06-2008 الساعة 05:59 PM. سبب آخر: تنسيق الخط
  #665  
قديم 22-06-2008, 06:37 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا


صورة للتوراة وهي الكتاب المقدس لدى اليهود

قال الله عز وجل في حق اليهود :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾( الجمعة : 5 )
أولاً- هذا مثل ضربه الله تعالى لأحبار بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به عموم اليهود، مَثَّلهم فيه في حملهم للتوراة، وعدم انتفاعهم بها بحمار يحمل أسفارًا. فكما أن الحمار لا ينتفع بما في تلك الأسفار من العلوم النافعة، ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ؛ كذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة ؛ لأنهم نبذوها وراء ظهورهم، وتركوا العمل بها، واقتنعوا من العلم بأن يحملوها دون فهم، وهم يحسبون أن ادخار أسفارها، وانتقالها من بيت إلى بيت كافٍ في التبجح بها، وتحقير من لم تكن بين أيديهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾( آل عمران : 187 ).
ووجه ارتباط الآية بما قبله أنه تعالى، لمَّا أثبت في الآيات السابقة التوحيد والنبوة، وبيَّن سبحانه في النبوة أنه ﴿ هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾( الجمعة : 2 )، أخذت اليهود ذلك ذريعة لإنكار سعة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث إليهم، فعند ذلك نزلت الآية.
والمشهور عن اليهود أنهم كانوا ينتظرون مبعث الرسول منهم ؛ ليجمعهم بعد فرقة، وينصرهم بعد هزيمة، ويعزهم بعد ذل، ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾( البقرة : 89 ). أي : يطلبون الفتح بذلك النبي المنتظر، ويقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث،﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾( البقرة : 89 ).
وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون ذلك النبي المنتظر من العرب، لا من اليهود. فقد علم الله تعالى أن اليهود قد فرغ عنصرهم من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية، وأنهم لم يعودوا يصلحون لحمل الأمانة ؛ لأنهم زاغوا وضلوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة والهداية، فأزاغ الله قلوبهم، فلم تعد صالحة للهدى، وكتب عليهم الضلال أبدًا لفسقهم. وفي ذلك يقول الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾( الصف : 5 ).
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله تعالى، وانتهى دورهم في حمل أمانته، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال، ولم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة، التي لا تحملها إلا القلوب الحيَّة، البصيرة، المدركة، الواعية، المتجردة، العاملة بما تحمل، والعالمة لما تحمل ؛ ولذلك مثَّلهم الله تعالى بالحمار الذي يحمل أسفارًا.
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ مثل، وقوله :﴿ مَثَل الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ مثل آخر، وبين المثلين وجه شَبَهٍ، دلَّت عليه كاف التشبيه ؛ وهو عدم الانتفاع بما من شأنه أن يُنتفَع به انتفاعًا عظيمًا لسمو قيمته، وجلال منزلته.. وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف ؛ ولذلك ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾.
وقد أوضح الله تعالى هذا المعنى في موضع آخر، فقال :﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(البقرة : 146 ). فأخبر سبحانه أنهم يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في كتابهم بأنه النبي الموعود ؛ كما يعرفون أبناءهم، بحيث لا يلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم. وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلاً منهما يتعذر الاشتباه فيه، ومع ذلك فقد جحد فريق منهم رسالته، ولم تنفعهم معرفتهم به.
فبنوا إسرائيل﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾. أي : كُلِّفوا أن يقوموا بحقها ﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾. أي : لم يفوا بما كلفوا به، ولم يعملوا بموجبه ؛ لأن حملَ التوراة يبدأ أولاً بالفهم والفقه والإدراك، وينتهي ثانيًا بالعمل ؛ لتحقيق مدلولها في عالم الضمير، وعالم الواقع، ولكن سيرة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم، وكما هي في حقيقتها- لا تدل على أنهم قدَّروا هذه الأمانة حقَّ قدرها، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثَمَّ كان مثلهم في ذلك ؛ كمثل الحمار يحمل أسفارًا.. بل كانوا أسوأ حالاً من حال ذلك الحمار ؛ لأن الحمار لا فَهْمَ له ولا فقه ولا إدراك، فهو لا يدري : أسفرٌ على ظهره، أم صخر، أم غير ذلك ؟ وهؤلاء القوم لهم قلوب وعقول ؛ ولكنهم لم يستعملوها فيما ينفعهم ؛ بل استعملوها فيما يضرهم، فأوَّلوا التوراة، وبدلوا فيها، وحرفوا ؛ ولهذا كانوا :﴿كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾( الأعراف : 179 ).
وفي التعبير عن تكليفهم العمل بما في التوراة، وعن تركهم لذلك التكليف بقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ إشعارٌ بأن هذا التكليف منه جل وعلا لهم، كان عهدًا مؤكدًا عليهم، حتى لكأنهم تحملوه ؛ كما يتحمل الإنسان شيئًا قد وضع فوق ظهره، أو كتفيه، ولكنهم نبذوا هذا العهد، وألقوا بما فوق أكتافهم من أحمال، وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم انقياد الأعمى لقائده.
فقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾ ليس من الحِمل على الظهر، وإن كان مشتقًّا منه ؛ وإنما هو من الحَمالة، بفتح الحاء، بمعنى : الكفالة والضمان. ومنه قيل للكفيل : الحَميل. و﴿ ثُمَّ ﴾ في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ أداة عطف للتراخي الرتبي ؛ فإن عدم وفائهم بما عُهِدَ إليهم أعجب من تحملهم لهذه العهود ؛ ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾( الأحزاب : 72 ).
والأسفار واحدها : سِفْرٌ، بكسر السين، وهي الكتب الكبار الجامعة للعلوم النافعة، على ما تشعر به صيغة التنكير﴿ أَسْفَارًا ﴾. وأوثر لفظ السِّفر، لما فيه من معنى الكشف. وقد قيل : سُمِّيَ السِّفر سِفرًا ؛ لأنه إذا قرىء يسفِر يسفر عن الحقائق. أي : يبيِّنها ويوضِّحها. وقيل : يعني كتابًا، بلغة كنانة. وقيل : الكتاب بالنبطية يسمَّى : سِفْرًا. والسَّفَرَةُ، محركةً : الكَتَبَةُ، جمع : سافِر، وهو بالنَّبَطِيَّة : سافرا. والسَّفَرَةُ : كتَبَةُ الملائكة الذين يحصون الأعمال. قال الله تعالى :﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾( عبس : 15 ). وما بأيديهم هو الأسفار.
وجملة ﴿ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ حال من الحمار ؛ لكونه معرفة لفظًا. أو صفة له ؛ لأن تعريفه ذهني، فهو في معنى النكرة، فيوصف بما توصف به على الأصح. ونسب أبو حيان للمحققين تعيُّنَ الحالية في مثل ذلك. ويؤيد الوصفية قراءة ابن مسعود :﴿ كَمَثَلِ حِمَارٍ ﴾، بالتنكير.
ثالثًا- ولسائل أن يسأل : لماذا قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ ﴾، فمثَّلهم بالحمار، ولم يمثِّلهم بالإبل، فيقول :﴿ كَمَثَلِ الإِبِلِ ﴾، مع أن المشهور عن العرب أنهم يستعملون الإبل في حمل أثقالهم وأمتعتهم، وكانوا يسمُّونها : سفينة الصحراء ؟ ويجاب عن ذلك بأن الله تعالى جعل الإبل آية من آياته، ودعا إلى النظر في خلقها نظر تأمل وتفكر واعتبار، فقال سبحانه :﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾( الغاشية: 17 )، وجعلها أيضًا من شعائر دينه، فقال سبحانه :﴿ الْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾( الحج : 36 ). وأهل الكفر والضلال لا يحسُن أن يمثَّلوا بما جعله الله تعالى آية من آياته، وشعيرة من شعائره ؛ وإنما يمثَّلون بما هو مَثَلٌ للسَّوْء، وليس هناك مثلٌ أسوأ من مَثَل الحمار في هذا المقام، يمثَّلون به، فكان هذا التمثيل إشعارًا بكبر مقت الله تعالى لهم، وغضبه عليهم.
وأما لفظ ﴿ الْحِمَارِ ﴾ فيقع على الذكر والأنثى، ويجمع على : حمير، وحُمُر. ويستخدم منذ القدم فــي حمل الأمتعة وحرث الأرض، وهو شديد التحمل والصبر. وتخصيصه- هنا- بالتمثيل به ؛ لأنه كالعلَم في الجهل والبَلَه والضلال، وأنه مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك هو في استعمال العرب، والحديث الشريف. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا ».
لقد شبه الله تعالى الذين كلفوا بالتوراة (وهم اليهود) ولم ويحملوا هذه الأمانة بالحمار الذي يحمل فوق ظهر كتباً دون أن يفهم ما فيها أو يستفيد منها
وإنما شبِّه هذا المتكلم بالحمار يحمل أسفارًا ؛ لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع، وقد تكلف المشقة، وأتعب نفسه في حضور الجمعة. والمشبه به كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه. فالجامع بينهما هو عدم الانتفاع.
وعن علي بن الجعد قال :« سمعت شعبة، يقول : مَثَل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية، مَثَل الحمار عليه مِخْلاةٌ، لا عَلَفَ فيها ». وقال حماد بن سَلمَة :« من طلب الحديث، ولم يتعلم النَّحْوَ. أو قال : العربية، فهو كمَثَل الحمار تُعلَّق عليه مِخْلاةٌ، ليس فيها شعير ».
ومن تجنُّب العرب لذكر الحمار مجردًا أنهم يكنون عنه، ويرغبون عن التصريح باسمه، فيقولون : الطويل الأذنين. وقد عُدَّ في مساوىء الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركبه استنكافًا، وإن بلغت منه الرِّجلة. وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعًا، وتذللاً لله تبارك وتعالى. وقالوا في وصف الحمار : إذا وقفته أدلى، وإن تركته ولَّى، كثير الرَّوْث، قليل الغَوْث، لا تَرْقَأُ به الدماء، ولا تُمْهَر به النساء. وقالوا : الحمار حيوان وقِح شهْواني شبِق لدرجة أنه لا يرعوي عن مواقعة أنثاه في قارعة الطريق، على عكس غيره من الحيوانات ؛ كالجمل والخروف.
ويشتهر الحمار من بين الحيوانات كلها بصوته العالي الذي يُعَدُّ من أقبح الأصوات وأوحشها، ويسمَّى صوته : نهيقًا، وأوله شهيق، وآخره زفير. وقد وصفه القرآن الكريم بأنه أنكر الأصوات على الإطلاق ؛ لما يسببه من إزعاج وأذى. قال تعالى على لسان لقمان الحكيم يعظ ابنه :﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾( لقمان : 19 ).
والغضُّ من الصوت هو التنقيص من رفعه وجَهارته، وهو أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه، ورفعه يؤذي السمع، ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرق الغشاء داخل الأذن. وقد شبِّه الرافعون أصواتهم في الآية السابقة بالحمير وأصواتهم، ولم يؤت بأداة التشبيه ؛ بل أخرج ذلك مخرج الاستعارة. وهذا أقصى المبالغة في الذم، والتنفير من رفع الصوت.
وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به. قال الحسن رضي الله عنه :« كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات، فرُدَّ عليهم بأنه لو كان خيرًا، فُضِّل به الحمير ». وقال سفيان الثوري رضي الله عنه :« صياح كل شيء تسبيح ؛ إلا نهيق الحمير ». وعن صهيب- رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« إذا نهق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ». وفي الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إذا سمعتهم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله ؛ فإنها رأت ملكًا. وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان ؛ فإنه رأى شيطانًا ».

قيل : إن سبب قبحه يكمن في قلة حركته وعدوه، خلافًا للحصان الذي اشتهر بكثرة حركته، وشدة عدوه، وخفة صوته ؛ ولهذا سمِّيَ صوت الحمار نهيقًا، وسمِّيَ صوت الحصان صهيلاً. قال تعالى :﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴾( العاديات : 1 ). والضَّبْحُ هو صوتٌ بين الصهيل والحمحمة، لا يزعج الإنسان ؛ كما يزعجه النهيق. وقد اكتسبه الحصان بفضل عدوه ؛ لأن العدو يذيب الشحوم المتراكمة حول الأحبال الصوتية، بعد أن تتعرض تلك الأحبال للإحْماء والشدِّ من خلال رياضة العدْو، فيَشْبَه ذلك شدَّ أوتار المعازف ؛ لكي تحصل على صوت عالٍ ذي نبرة رفيعة جميلة.
وأما صورة الحمار فهي صورة كريهة في القرآن والسنة، ولكراهتها حرِّمت علينا لحومها. جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله :« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل ». وروي عنه أيضًا :« أكلنا زمن خيبر الخيل، وحُمًر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي ». وفي مجمع الزوائد عن بن مسعود- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« إن نفس المؤمن تخرج رشحًا، وأن نفس الكافر تسيل ؛ كما تخرج نفس الحمار ».
رابعًا- فهل بعد ذلك كله يوجد مَثَلٌ أسوأ من هذا المَثَل الذي مَثَّل الله تعالى به أولئك اليهود في جهلهم وضلالهم وتكذيبهم بالتوراة والقرآن ؟ ولهذا ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾. و﴿ بِئْسَ ﴾ لفظ جامع لأنواع الذمِّ كلها، وهو ضد ﴿ نِعْمَ ﴾ في المدح، وهما جامدان، لا يتصرفان ؛ لأنهما أزيلا عن موضعهما. فنِعْم منقول من قولك : نَعِم فلان، إذا أصاب نعمة. وبِئْس منقول من بَئِس فلان، إذا أصاب بؤسًا. فإذا قلت : بِئْس الرجل، دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه. وإذا قلت : نِعْم الرجل، دللت على أنه قد استوفى المدح الذي يكون في سائر جنسه. وعليه فإن هذا المثل قد دل على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر أمثال السَّوْء. وفيه تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب، أن يتعلم معانيه، ويعلم ما فيه، ويعمل بما فيه من أمر ونهيٍ ؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق أولئك اليهود. فهو تنديد باليهود، وفي الوقت نفسه تحذير لعامة المسلمين من أن يكونوا كاليهود، في عدم الانتفاع بما فيه دواء من كلِّ داء، وشفاء لما في الصدور.
ومن هنا قيل : هذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن، أو العلم، فترك العمل به، ولم يؤده حقه، ولم يرعه حق رعايته.. روي عن ميمون بن مهران أنه قال :« يا أهل القرآن ! اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم »، ثم تلا هذه الآية.
وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا ﴾ فاعل ﴿ بِئْسَ ﴾، وقد أغنى ذكره عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو مثل القوم المكذبين، فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإِبهام على شرط التفسير ؛ لأنه قد سبقه ما بيَّنه بالمثَل المذكور قبله في قوله :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾، فصار إعادة لفظ المثل ثقيلاً في الكلام أكثر من ثلاث مرات. وهذا من أساليب القرآن البديعة وتفنُّنانه في النظم.
وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ إخبار عنهم بأن سوء حالهم، لا يرجَى لهم منه انفكاك ؛ لأن الله تعالى حرَمَهم اللطف والعناية بإنقاذهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم دون نظر، وجحودهم لآيات الله تعالى دون تدبر.
قال السيوطي في الدر المنثور :« أخرج ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعب، فقال : أسلم كعبٌ في زمان عمر. أقبل، وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر، فقال : يا كعبُ ! أسلم. قال : ألستم تقرؤون في كتابكم :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾، وأنا قد حملت التوراة. فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلاً من أهلها، يقرأ هذه الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ﴾( النساء : 47 ).
فقال كعب : يا رب آمنت ! يا رب أسلمت ! مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع، فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين ».
خامسًا- بقي أن نشير إلى أن أكثر المفسرين يجعل التشبيه في هذا المثل من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد، وهو عدم الانتفاع بالمحمول ؛ كالتشبيه في قول الشاعر :
كالعيس في البَيْداء يقتلها الظما ** والماء فوق ظهورها محمول
والظاهر مما تقدم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي المركب ؛ فهو تشبيه صورة مركبة من عدة أجزاء بصورة أخرى مثلها، ووجه الشبه مركب أيضًا من مجموع كون المحمول كتبًا نافعة، وكون الحامل لها حمار لا علاقة له بها، بخلاف ما في البيت السابق ؛ لأن العيس في البيداء يمكن أن تنتفع بالماء، لو حصلت عليه. أما الحمار فلا ينتفع بالأسفار، ولو نشِرت بين عينيه. وفي ذلك إشارة أيضًا- كما تقدم- إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كليَّة أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل بها، فنقلها الله تعالى إلى قوم أحق بها وبالقيام بأعبائها.
محمد إسماعيل عتوك
باحث
في الإعجاز البياني للقرآن
[email protected]

  #666  
قديم 22-06-2008, 06:43 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

مثل الحياة الدنيا ـ 3 ـ


قال الله تعالى :﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾( الحديد : 20 )
أولاً- هذا مثل ثالث ضربه الله تعالى لعباده، يكشف لهم فيه عن وجه هذه الحياة الدنيا، ويبين لهم حقيقتها المزيفة بما يجعلها مُشاهَدة لأولي البصائر ؛ وذلك بعد أن أخبر سبحانه عنها بأنها : لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد، فأعلم بذلك أنها أتفه من أن يتشبَّث بها الإنسان، وأن النفس البشرية لو علمت حقيقتها ومآلها ومصيرها، لأبغضتها، ولآثرت عليها الآخرة التي هي خير وأبقى ؛ فما الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة إلا عرض عاجل، وظل زائل، ومتاع فان.
ومناسبة هذا المثل لما قبله : أن الله تعالى بعد أن ذكر حال الفريقين في الآخرة : فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، وذكر ما وقع من الفريق الثاني من الكفر والتكذيب بسبب ميلهم إلى الدنيا، وإيثارهم لها على الآخرة، بين لهم سبحانه في هذا المثل أن الدنيا التي اطمأنوا إليها، وآثروها على الآخرة هي من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، تزهيدًا فيها وتنفيرًا عن العكوف عليها، وترغيبًا في الآخرة.
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾ تصوير لهذه الحياة الدنيا من بدايتها إلى نهايتها بصورة هزيلة زهيدة، تهوِّن من حقيقتها، وتقلل من شأنها، وتدعو النفوس للترفُّع عنها ، واتخاذها مطيَّة للآخرة.
وافتتاح الكلام بقوله تعالى :﴿ اعْلَمُوا ﴾ يؤذن بأن ما سيُلقَى بعده من الكلام جدير بأن يتوجه الذهن إليه، وفيه حثٌّ للمخاطبين على التفكُّر والتأمُّل والتدبُّر، وتعريض بغفلتهم عن أمر مهمٍّ. وذلك من أساليب الكلام البليغ أن تفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر، أو طلبِ فَهْمٍ، بهذه الصيغة الطلبية، لفتًا لذهن المخاطب ؛ كما في قوله تعالى :

﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾( البقرة : 260 )
﴿ اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾( المائدة : 98 )
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾( الأنفال : 28 )
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾( المائدة : 49 )

وتأتي ﴿ أَنَّمَا ﴾ المفتوحة الهمزة بعد هذه الصيغة الطلبية، فتفيد معنى القصر كما تفيده ﴿ إِنَّمَا ﴾ المكسورة الهمزة. وقد أفادت هنا قصر حقيقة الحياة الدنيا على ما تلاها من صفات أجريت عليها ؛ وهي كونها :﴿ لَعِبٌ ﴾، و﴿ َلَهْوٌ ﴾، و﴿ َزِينَةٌ ﴾، و﴿ تَفَاخُرٌ ﴾، و﴿ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾.
أما اللعب فهو الإقبال على الباطل، ويعبَّر به عن كل فعل لا يقصد به مقصدًا صحيحًا. وأما اللهو فهو الإعراض عن الحق، ويعبر به عن كل ما به استمتاع. وقيل : اللعب ما يشتغل به الإنسان، ولا يكون فيه ضرورة في الحال، ولا منفعة في المآل. ثم إن استعمله الإنسان، ولم يشغله عن غيره، ولم يثْنِه عن أشغاله المهمة فهو اللعب، وإن شغله عن مهماته فهو اللهو ؛ ولهذا جاز الجمع بينهما حيث وردا في القرآن. وقيل : كل اشتغال بما لا غنى به ولا منفعة فيه، فهو لعب ولهو ؛ كذلك هي الحياة الدنيا بخلاف الاشتغال بأعمال الآخرة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾( الأنعام : 32 ).
قال ابن عباس- رضي الله عنهما- :« هذه حياة الكافر ؛ لأنه يزجيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتُطوَى على أعمال صالحة، فلا تكون لعبًا ولهوًا».
وأما الزينة فهي اسم لما يتزين به الإنسان من الملابس الفاخرة، وما يتخذه من المراكب البهية، والمنازل العالية، وغير ذلك ممَّا يفعله من أجل أن يكون في أعين الناس مهيبًا جميلاً. ومن هنا قيل : الزينة هي التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء. ويقال : زانه كذا وزيَّنه، إذا أظهر حسنه.
قال تعالى :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾. ثم عقَّب على ذلك بقوله :﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾( آل عمران: 14 )، مشيرًا إلى أن ذلك كله ؛ إنما هو متاع الحياة الدنيا، وأن متاعها قليل سريع الانقضاء، مهما طالت مدته، وأن نعيم الآخرة هو النعيم الذي لا يفنى، ولا ينقضي.
وأما التفاخر فهو من الفخر. والفخر هو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان ؛ كالمال والولد والجاه. وصيغ منه التفاخر على زنة : التفاعل ؛ لأن شأن الفخر أن يقع بين اثنين ؛ كما أنبأ به تقييده بقوله تعالى :﴿ بَيْنَكُمْ ﴾. ومن صوره : التباهي، والعُجْب، وعنه ينشأ الحسد، وأغلبه يكون في طور الكهولة.
وأما التكاثر فهو من الكثرة. والكثرة، وخلافها القلة، يستعملان في الكمية المنفصلة ؛ كالأعداد. قال تعالى :﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ ﴾( البقرة : 249 ). وجيء به على زنة : التفاعل للدلالة على المبالغة في الفعل، بحيث ينزَّل منزلة من يغالب غيره، ويباريه في كثرة المال والولد، وغير ذلك. وقوله تعالى :﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾( التكاثر : 1 ) المراد به : الأموال والأولاد، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾( الكهف :34 ). ومن بَدَهيِّة العقل أن كل ما كان سريع الانقضاء يقبُح بالعاقل أن يفتخر به، أو يفرح بسببه. وكيف لعاقل أن يفتخر بكثرة المال والولد، والله تعالى يقول، وقوله الحق :﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾( الكهف : 46 ).
هذه هي حقيقة الحياة الدنيا التي تكمُن وراء كل ما يبدو فيها من جِدٍّ حافل، واهتمام شاغل :﴿ لَعِبٌ ﴾، و﴿ َلَهْوٌ ﴾، و﴿ َزِينَةٌ ﴾، و﴿ تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ ﴾، و﴿ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾. والحياة الدنيا- كما يقول سيد قطب- حين تقاس بمقاييسها هي، وتوزن بموازينها، تبدو في العين وفي الحِسِّ أمرًا عظيمًا هائلاً، ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود، وتوزَن بميزان الآخرة، تبدو شيئًا زهيدًا تافهًا، لا قيمة له.. وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة
من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة.
ثالثًا- ولتصوير هذه الحقيقة في صورة محسوسة تقربها إلى العقول والأذهان ضرب الله تعالى لها هذا المثل العجيب على طريقة القرآن المبدعة، شبهها فيه سبحانه بمثل غيث أصاب أرضًا، فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق، يعجب الكفار لنضارته، ثم يهيج، فيُرَى مُصفرًّا، ثم يتحطم، فتلعب به الريح، وتفرقه في جهات هبوبها، فيضمحل ويتلاشى :
﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ﴾
فالمشبه هو حقيقة الحياة الدنيا المعجبة، والمشبَّه به هو النبات المعجب الذي نبت عن الغيث، وقد اجتمعا في شدَّة الإعجاب، ثم في التغيير بالانقلاب. وفي ذلك الاحتقار للدنيا، والتحذير من الاغترار بها، والسكون إليها.
وكان حق كاف التشبيه أن تدخل على مثل النبات، فيقال : كَمَثَلِ نَبَاتِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ.. ؛ لأنه هو المشبه به في الحقيقة. والأصل في أداة التشبيه أن يليها المشبه به، ولكن قدِّم الغيث على النبات تصويرًا لهيئة النبات من مبادئها، وإظهارًا لمواقع الحسن فيها ؛ ولهذا كان تقديمه أولى.
والمتأمل في المشبه به يرى أنه في حقيقته تصوير لحياة الإنسان بصورة حياة النبات. فكما يمر النبات في حياته بأطوار الطفولة والشباب والشيخوخة ثم ينتهي إلى حطام، فكذلك يمر الإنسان بهذه الأطوار نفسها ثم ينتهي إلى فناء ؛ ولهذا جيء بلفظ مثل عقب كاف التشبيه :﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ ﴾. أي : كمثل نبات غيث. ومَثلُه هو المطابق له في تمام أحواله وصفاته. والمراد به هنا : الإنسان. والدارس لأطوار الخلق التي تبدأ بمرحلة الطفولة، وتنتهي بمرحلة الشيخوخة، يوقن تمامًا أن الحياة الدنيا هي بمثابة لحظة في تاريخ الإنسان الطويل، وأنها معْبَرٌ إلى الآخرة، وأن ﴿ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾. أي : هي الحياة التي لا أبدَ لها، ولا نهاية لأبدها ؛ ولهذا لما ذكر تعالى ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء، ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من عذاب الله الشديد، ومن مغفرته ورضوانه الذي هو سبب النعيم، فقال سبحانه :﴿ وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾ ؛ كأنه قيل : والحقيقة هاهنا، لا في الحياة الدنيا.

واختلف المفسرون في تأويل ﴿ الْكُفَّارَ ﴾، فقال بعضهم : هو من : كَفَر الحَبَّ. أي : ستره في الأرض بالتراب ؛ فهم الزُّرَّاعُ. وقيل : خُصُّوا بالذكر هنا ؛ لأنهم أهل البصر بالنبات والزراعة، فلا يعجبهم إلا المُعْجَبُ حقيقة الذي لا عيب له. فإذا أعجبهم- مع علمهم به- فهو في غاية ما يستحسن.
وقال آخرون : هو من الكُفْر بالله، وهو الصحيح ؛ لأنه لو أراد الله تعالى الزُّرَّاع، لذكرهم باسمهم الذي يعرفون به ؛ كما ذكرهم في قوله :﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾( الفتح : 29 ). وجه تخصيصهم بالذكر أنهم أشدُّ تعظيمًا للحياة الدنيا، وإعجابًا بزينتها وحرثها، وأنهم لا يرَوْنَ سعادة إلا سعادتها، وأنها الحياة التي لا حياة بعدها، ﴿ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾( الأنعام : 29 ). أما المؤمنون فإنهم إذا رأوا مُعْجَبًا، انتقل فكرهم إلى قدرة موجده عز وجل، فأعجبوا بها ؛ ولهذا قال أبو نواس في النرجس :
عيونٌ من لُجَيْـنٍ شاخِصاتٌ ** على أَطُرَافِها ذَهَبٌ سَبيكُ
على قُضُبِِ الزَّبَرْجَدِ شاهداتٌ ** بأنَّ اللهَ ليسَ لُهُ شَريـكُ
والذين كفروا لا يتخطى فكرهم عمَّا أحسَّوا به، فيستغرقون به إعجابًا.
رابعًا- تأمل بعد ذلك قوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ﴾ كيف اختار سبحانه الفعل ﴿ يَهِيجُ ﴾ للتعبير عن حال النبات، بعد بلوغه مرحلة النضوج والإعجاب.. إنه يثور ؛ كما يثور الرجل من شدة الغضب، فتراه مصفر الوجه. أو كما يثور الثور الهائج، فترى الزبد يخرج من فمه، ثم يهدأ ويسكن ؛ كذلك حال النبات ﴿ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ﴾. أي : يثور، فتراه مصفرًّا ؛ وكأنه يعلن بذلك عن اقتراب أجله، ثم يكون بعد ذلك حطامًا تلعب به الريح، وتفرقه في جهات هبوبها.
والهَيَجَانُ هو الاضطراب والثوران، ومنه سميت الحرب بالهيجاء ؛ لأن فيها يضطرب المقاتلون، ويثور بعضهم على بعض. وفي حديث عليٍّ رضوان الله عليه :« لا يهيج على التقوى زرع قوم ». أراد : من عمل عملاً صالحًا، لا يفسد عمله، ولا يبطل ؛ كما يهيج الزرع، فيهلك.
والحُطَامُ هو المتكسِّرُ من النبات وغيره، وهو صيغة مبالغة من الحَطْم. أي : الكَسْر. يقال : حَطيم وحُطَام بمعنى : محْطوم، أو متحَطَّم ؛ كعجيب وعُجَاب، بمعنى : معجَب ومتعجَّب منه. ونظيره : الهشيم. والفرق بينهما : أن الهشيم يختص بما هو رطب جاف. أما الحُطَام فيختص بما هو صلب يابسٌ كالزجاج، والحطمة من أسماء النار ؛ لأنها تحطم ما يلقى فيها حطمًا. وعن بعض العرب : قد تحطَّمت الأرض يبسًا، فأنشَبُوا فيها المخالب، وهي المناجل. أي : تكسَّرت زروع الأرض، وتفتتت لفرط يبسها، فجزُّوها. وقد ثبت للعلماء أن الزرع يحتوي في سوقه وورقه على نسب كبيرة من الزجاج ؛ ولهذا نراه يتكسر حين يصفرُّ ويَيْبَس ؛ كما يتكسر الزجاج الصلب. ومن هنا نجد القرآن الكريم يستعمل لفظ الحطم للزرع اليابس المتكسر.. وكذلك استعمل القرآن الحطم
للنمل، في قول النملة محذِّرة رعيتها :﴿ يَا أَيُّهَا ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾( النمل : 18 )، فقد أثبت العلم أن جسم النملة يحتوي على نسبة كبيرة من الزجاج، وأنه مغلف بغلاف صلب جدًّا قابلٍ للتحطم ؛ كالزرع اليابس، وكالزجاج الصلب ؛ وذلك يشكل إعجازًا علميًّا من إعجاز القرآن إلى جانب إعجازه البياني الذي يسمو فوق كل بيان !
وعَطْفُ كلٍّ من جملة ﴿ يَهِيجُ ﴾، و﴿ يَكُونُ حُطَامًا ﴾ بثُمَّ لإفادة التراخي الرتبي ؛ إذ أن وصول النبات إلى درجة من الهَيَجَان، وبلوغ منتهاه، لا يتأتى إلا بعد زمن طويل من بدء زراعته، وهو أعظم دلالة على التَّهُيُّؤِ للزوال، ثم الهلاك. وهذا هو الأهم في مقام التزهيد في الحياة الدنيا الفانية، والإعجاب بها.
أما جملة ﴿ فَتراهُ مُصْفَرًّا ﴾ فظاهر عطفها بالفاء يشير إلى أن اصفرار النبات مقارن لهيجانه، ومترتب عليه. والمعنى المراد خلاف ذلك ؛ لأن هيجان النبات يعني اصفراره، وأخذه في اليبس، خلافًا لما عليه الجمهور من أن ﴿ يَهِيجُ ﴾ معناه : ييبس، أو يجفُّ. ولو كان المعنى على ما قالوا، لوجب أن يقال : ثم يهيج، فيصفَرُّ، ولكن جاء التعبير القرآني هكذا :﴿ فَتراهُ مُصْفَرًّا ﴾، فدلَّ على أن المترتب على هيجان النبات هو رؤيته مُصفرًّا، لا اصفراره.. فتأمل !
وببلوغ النبات هذه المرحلة من اليَبَس والتكسُّر ينتهي شريط الحياة كلها.. ينتهي بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة.. ينتهي بمشهد الحطام..! هذه هي حقيقة الحياة الدنيا في سرعة انقلابها على المعجبين بها، وإدبارها عنهم.. إنها كمثل هذا النبات الذي يثور بعد بلوغه مرحلة النضج والإعجاب، فيُرَى مصفرًّا معلنًا عن اقتراب أجله، ثم ينتهي إلى يبَس، فيضمحل ويتلاشى ؛ وكأنه لم يكن. فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحق أن يحسب حسابه، وينظر إليه، ويستعد له. فإذا انقلبت الدنيا، وكانت الآخرة، استحالت إلى عذاب شديد لمن انهمك فيها، ومغفرة من الله ورضوان لمن طلب بها الآخرة :﴿ وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾. فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا التي تشبه في حقيقتها مَثَلَ ذلك النبات المعجب الذي يبلغ أجله، ثم ينتهي إلى حطام.. إنها حساب وجزاء، ودوام، يستحق الاهتمام. وفي ذلك تنفير من الانهماك في الدنيا، والعكوف عليها، وتزهيد فيها، وإشارة إلى فخامة شأن الآخرة، وعِظَم شأنها، ترغيبًا في تحصيل نعيمها المقيم، فهي الحياة التي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا، ولا تنتهي إلى حطام كما ينتهى ذلك النبات.

وقدم سبحانه ذكر العذاب على المغفرة والرضوان في قوله تعالى :﴿ وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾ ؛ لأنه من نتائج الانهماك فيما فصَّل من حقيقة الحياة الدنيا وأحوالها.. وفي مقابلة العذاب الشديد بالمغفرة والرضوان إشارة إلى غلبة الرحمة، وأنه من باب :« لن يغلب عسر يسرين ». وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى، مع وصف المغفرة والرضوان بأنهما من الله تعالى إشارةٌ إلى غلبتمها أيضًا، ورَمْزٌ إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى. أما تنكير العذاب، والمغفرة، والرضوان فلإفادة معنى التعظيم.
خامسًا- وقوله تعالى بعد هذا الترهيب والترغيب :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ تقرير للمثل وتأكيد له. أي : هي متاعٌ لمن أقبل عليها، واطمأن بها، وركن إليها، ولم يجعلها ذريعة للآخرة، ومطيَّة لنعيمها. وهذا المَتاع ليس له حقيقة ذاتية ؛ لأنه يستمد قوامه من الغُرور الخادع ; كما أنه يُلهِي ويُنسِي، فينتهي بأهله إلى غرور خادع.. وهي- كما قال سيد قطب- حقيقة لا يقصد القرآن بها العزلة عن حياة الأرض ، ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطَها الله تعالى بهذا الكائن البشري، حين قال للملائكة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً ﴾ بعد نفخ الروح فيه ؛ وإنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية، والقيم النفسية ، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل، وجاذبيته المقيَّدة بالأرض.. والحياة الدنيا تكون تافهة لا قيمة لها ولا وزن حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى.. حين تعاش لذاتها مقطوعة عن منهج الله تعالى فيها. ذلك المنهج الذي يجعلها مزرعة الآخرة ؛ ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحق وراثة الدار الباقية. وهذا هو الذي تشير إليه الفقرة الثانية في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴾ (محمد : 36 ). فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبًا ولهوًا، ويطبعها بطابع الجِّد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة، المتصلة بالملأ الأعلى. ويومئذ لن يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعًا، ولا مقطوعًا ؛ فعنه ينشأ الأجر الأوفى، في الدار الأبقى !
وفي المستدرك على الصحيحين عن سعد بن طارق، عن أبيه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« نعمت الدار الدنيا لمن تزوَّد منها لآخرته، وبئست لمن صدَّته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ربه. فإذا قال العبد : قبَّح الله الدنيا، قالت الدنيا : قبَّح الله أعصانا لربه ».
وروي عن سعيد بن جبير- رضي الله عنه- أنه قال :« الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة، فنعم المتاع، ونعم الوسيلة ».
سادسًا- بقي أن نشير إلى أن علماء النحو والبلاغة والتفسير مجمعون على أن التشبيه في هذا التمثيل هو تشبيه بين مثل، ومثل : الأول هو مثل الحياة الدنيا. والثاني هو مثل غيث أعجب الكفار نباته. وتقدير الكلام على قولهم : اعلموا أنما مَثَلُ الحياة الدنيا كمثل غيث أعجب الكفار نباته، بإضافة لفظ ﴿ مَثَل ﴾ في طرف المشبه، وبذلك يتطابق آخر الكلام مع أوله، ولا دليل لهم على ذلك سوى وجوده في طرف المشبه به.
ولكن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون المشبه هو الحياة الدنيا نفسها، لا مثلها ؛ ولهذا لم يؤت بلفظ ﴿ مَثَل ﴾ في طرف المشبه، خلافًا لما جاء في المثل الأول والثاني ؛ وهما قوله تعالى :
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ ﴾( يونس : 24 )
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ﴾( الكهف : 45 )

فالمشبه في هذين المثلين هو:﴿ مَثَل الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، والمشبه به هو :﴿ مَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾ ؛ وهو تشبيه بين وجودين : الأول ذهني، والثاني خارجي.
وأما المشبه في هذا المثل الذي نحن بصدده فهو :﴿ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ نفسها، لا مثلها. والمشبه به هو :﴿ مَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ ؛ وهو تشبيه بين وجودين : الأول خارجي، والثاني ذهني.
وهذا هو أحد أوجه الفرق بين هذا المثل، وبين المثلين السابقين ؛ إذ يتوقف على مراعاته صحة المعنى. ومما يبين لك هذا الفرق أن الله تعالى وصف الحياة الدنيا في آخر هذا التمثيل بأنها ﴿ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾، على سبيل الحصر، فقال جلَّ شأنه :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾. أي : الحياة الدنيا انتفاعٌ باطلٌ فان يخدع صاحبه، حتى يظن أنه لا دار سواه، ولا معاد وراءه ؛ ولهذا كانت الدنيا حقيرة بالنسبة إلى الدار الآخرة. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِيْ الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاع ﴾( الرعد : 26 ).
ولفظ المتاع في اللغة قد يطلق ويراد به الحياة الدنيا نفسها ؛ كما في الآية السابقة.. وقد يطلق ويراد به زينة الحياة الدنيا وما فيها من نعيم ؛ كما في قوله تعالى :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ﴾( آل عمران : 14 ).. ومن هنا ينبغي أن نفرق بين المتاع الذي يراد به الحياة الدنيا نفسها، وبين المتاع الذي يراد به زينة الحياة الدنيا ونعيمها. تأمَّل- إن شئت- قول الله تعالى :﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾( غافر : 38 )، فسترى أن المراد بالمتاع - هنا- هو الحياة الدنيا ذاتها ؛ ولهذا قوبلت بالدار الآخرة التي هي دار القرار.
ولما كانت الحياة الدنيا ذاتها متاعًا، وكان ما فيها من زينة ونعيم متاعًا أيضًا، عبَّر الله تعالى عن الأول بأنه ﴿ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾، بضم الغين، وعبَّر عن الثاني بأنه ﴿ الْغَرُورُ ﴾، بفتح الغين. والفرق بينهما : أن الأول هو الباطل الذي يعجب صاحبه، وأن الثاني هو الذي يغرُّ صاحبه، وكل شيء يغُرُّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، حتى يعصي الله تعالى، ويترك ما أمره به سبحانه، فهو غَرورٌ، بفتح الغين.
وأصل الغَرور من : غرَّ فلانٌ فلانًا، إذا أصاب غُرَّته. أي : أصاب غفلته، ونال منه ما يريد. والمراد به : الخداع، والأخذ على غرة. ولهذا حذَّر الله تعالى من العُجْب بالدنيا ذاتها، ومن الاغترار بزينتها ونعيمها، فقال جلَّ شأنه :﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾( لقمان : 33 ). أي : لا تغرنكم الدنيا. فإن كان لكم حظ فيها ينقص من دينكم، فلا تؤثروا ذلك الحظ، ولا يغرنكم بالله الغَرور. قال الفراء :« يريد به زينة الأشياء في الدنيا. وقيل : المراد به : الشيطان يغر الناس بالوعد الكاذب والتمنية ».
ولما أراد الله تعالى أن يحذر عباده من الاغترار بمتاع الدنيا الفاني، ضرب لهم المثل الأول والثاني، شبه فيهما ذلك المتاع في إقباله وإدباره بنبات الأرض في هلاكه وبواره، فقال سبحانه في المثل الأول :
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ.. ﴾. وقال في المثل الثاني :
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ.. ﴾
فأتى بلفظ ﴿ مَثَل ﴾ في طرف المشبه، دون المشبه به. ومَثَلُ الحياة الدنيا في إقبالها وإدبارها هو متاعُها الزائل ونعيمها المنقضي.
ولما أراد الله تعالى أن يحذر عباده من الإعجاب بالدنيا ذاتها، وأن يحقرها في عيون المعجبين بها، ضرب لهم هذا المثل الذي شبه فيه الدنيا على أنها متاع زائل يعجب أصحابه بمثل نبات غيث يعجب الكفار، ثم يهيج، فيُرَى مصفرًّا، ثم يكون حطامًا، فقال سبحانه :
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾
فأتى بلفظ ﴿ مَثَل ﴾ في طرف المشبه به، دون المشبه. ومَثَلُ النبات في مروره بطور الطفولة، ثم الشباب، ثم الشيخوخة- كما ذكرنا آنفًا- هو الإنسان الذي يمر بهذه المراحل نفسها.
وكون الدنيا ذاتها متاع الغرور يعني : أنها في حقيقتها :﴿ لَعِبٌ، وَلَهْوٌ، وَزِينَةٌ، وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ﴾. وكونها كذلك يعني : أنها تافهة حقيرة. ولتفاهتها وحقارتها لم تشبه بالنبات ذاته ؛ وإنما شبهت بحالة من حالاته، وهي كونه معجبًا لفئة مخصوصة، هي فئة الكفار ؛ وذلك أبلغ في ذمِّها وتحقيرها وازدرائها وتصغير أمرها. وهذا ما أكده الله تعالى بقوله :﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾( العنكبوت : 64 )، فأشار سبحانه وتعالى إليها بقوله :﴿ هذه الحياة الدنيا ﴾ إشارة تحقير.
وكيف لا تكون كذلك، وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة ؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرًا شربة ماء ».
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :« ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمِّ، فلينظرْ بمَ يرجع ».
وعن المستورد بن شداد، قال : كنت مع الرَّكْب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السَّخْلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أترون هذه هانت على أهلها، حتى ألقوها ؟ قالوا : من هوانها ألقوها يا رسول الله ! قال : فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها ».. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تؤكد على ذمِّ هذه الحياة الدنيا، وتحقيرها، وهوانها على الله تعالى ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« مالي، وللدنيا ؟ إنما مثلي، ومثل الدنيا ؛ كراكبٍ قالَ في ظل شجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها ». أي : استظل في ظل شجرة في يوم شديد الحر.
وفي المستدرك على الصحيحين، من حديث أبي بكر، قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يدفع عن نفسه شيئًا، ولم أرَ معه أحدًا، فقلت : يا رسول الله ! ما الذي تدفع عن نفسك ؟ قال :« هذه الدنيا، مُثِّلت لي، فقلت لها : إليكِ عنِّي، ثم رجعَت، فقالَت : إن أفلتَّ منِّي، فلن ينفلت منِّي مَنْ بعدك ».. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول :« الدنيا خضرة حلوة، فاتقوها ».
ويُعلم مما تقدَّم أن الحياة الدنيا التي ذمَّها الله تعالى، وذمَّها رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ إنما هي التي تلهي عن ذكر الله تعالى، ولا تُتَّخَذُ مطيَّة للآخرة ؛ لأن الدنيا في الحقيقة جُعِلَت مبنى للآخرة، ومزرعة لها، ومنها زاد الجنة، ومنها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله تعالى، ومحبته وذكره ؛ ابتغاءَ مرضاته. وخيرُ عيش ناله أهل الجنة في الجنة ؛ إنما كان بما زرعوه في الحياة الدنيا من أعمال البر والإحسان، فإن لم تكن كذلك، فهي مذمومة ملعونة ؛ كما جاء في الحديث الذي رواه التِّرمِذِيُّ عن أبي هريرة، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالم، أو متعلم ».
ونختم بقول الشاعر أبي الفرج الساوي :
هي الدنيا تقول بملء فيها ** حَذارِ حَذارِ من بطشي وفتكي
فلا يغرُرْكُمُ مني ابتسـام ** فقولي مضحك والفعل مبكـي

بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
نستقبل رسائلكم على الإيميل التالي:
[email protected]
  #667  
قديم 22-06-2008, 06:45 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

القرآن الكريم لا يُقاس بغيره


لبديع الزمان سعيد النورسي
إن القرآن الكريم لا يمكن أن يقاس بأي كلام آخر، إذ إن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة:
الأول: المتكلم. الثاني: المخاطب. الثالث: المقصد. الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الأدباء.
فلابد من أن تنظر في الكلام إلى: مَن قال؟ ولمن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟ فلا تقف عند الكلام وحده وتنظر إليه.
ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الأربعة، فبإنعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها.
نعم إن الكلام يستمد القوة من المتكلم، فإذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن إرادة المتكلم وقدرته حسب درجته. وعند ذاك يكون الكلام مؤثراً نافذاً يسري سريان الكهرباء من دون إعاقة أو مقاومة. وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة.
فمثلاً: (يا أرضُ ابلعي ماءكِ ويا سماءُ أقلعي) (هود:44) و (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين). (فصلت:11)
فانظر إلى قوة وعلو هذه الأوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والإرادة. ثم انظر إلى كلام إنسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا ارض وانشقي يا سماء وقومي أيتُها القيامة!
فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم أين الأوامر الناشئة من فضول الإنسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيه.. وأين الأوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله؟!
نعم! أين أمر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ : (تقدّم) وأين هذا الأمر إذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به؟ فهذان الأمران وإن كانا صورة واحدة، إلاّ أن بينهما معنىً بوناً شاسعاً،كما بين القائد العام والجندي.
ومثلاً: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (يس:82) و (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) (البقرة:34) انظر إلى قوة وعلو الأمرين في هاتين الآيتين. ثم انظر إلى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟
نعم! أين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام مُحسن في آن إحسانه، كلٌ يصور أفاعيله، ويطابق فعله قوله. أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا لكذا، افعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا… وهكذا يبين فعلَه للعين والأذن معاً، فمثلاً:
(أفلم ينظروا إلى السماءِ فوقَهم كيف بنيناها وزيّناها ومالَها من فروج * والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تَبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب * ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد * والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد * رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج) (ق:6-11).
أين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة، وأين كلام الناس على وجه الفضول عن أفعال لا تمسهم إلاّ قليلاً؟ فلا تكون نسبته إليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة إلى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة.
إن بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى (أفلم ينظروا) إلى (كذلك الخروج) على وجه أفضل يتطلب منا وقتاً طويلاً فنكتفي بالإشارة إليه ونمضي إلى شأننا:
إن القرآن يبسط مقدّمات ليرغم الكفار على قبول الحشر، لإنكارهم إياه في مستهل السورة. فيقول: أفلا تنظرون إلى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيباً منتظماً.. أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص أو فطور..؟ أوَلا ترون كيف بسطنا الأرض وفرشناها لكم، وثبتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها؟ أوَلا ترون أنا خلقنا فيها أزواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها أرجاء الأرض كافة؟ أوَلا ترون كيف أُرسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي؟ أوَلا يرون أنني أُحيي الأرض الميتة، بذلك الماء. وآتي ألوفاً من الحشر الدنيوي. فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الأرض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر؛ إذ تموت الأرض في القيامة وتبعثون انتم أحياء.
فأين ما أظهرته الآية في إثبات الحشر من جزالة البيان - التي ما أشرنا إلا إلى واحدة من الألف منها - وأين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟
إن نسبة سائر الكلام إلى آيات القرآن، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا، إلى النجوم نفسها.
نعم! أين كلمات القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبينها، وأين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره؟
أين الكلمات الحية حياة الملائكة الأطهار.. كلمات القرآن الذي يفيض بأنوار الهداية وهو كلام خالق الشمس والقمر.. وأين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير أهواء النفس.
نعم! كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الأطهار والروحانيين المنوّرين؟ إنها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم. وقد أثبتتْ هذه الحقيقة مع الكلمة الخامسة والعشرين جميع الكلمات الأربع والعشرين السابقة. فدعوانا هذه ليست ادعاء وإنما هي نتيجة لبرهان سبقها.
نعم! أين ألفاظ القرآن التي كل منها صدف درر الهداية ومنبع حقائق الإيمان، ومعدن أسس الإسلام، والتي تتنـزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه إلى الإنسان، فأين هذا الخطاب الأزلي المتضمن للعلم والقدرة والإرادة، من ألفاظ الإنسان الواهية المليئة بالأهواء؟
نعم! إن القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت أغصانها في جميع أرجاء العالم الإسلامي، فأورقت جميع معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره وأحكامه، وأبرزت أولياءه وأصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة، وأثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستور عمل ومنهج حياة.. نعم أين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال وأين منها كلام البشر المعهود. أين الثرى من الثريا؟
إن القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ أجمعين منذ أكثر من ألف وثلاث مائة سنة وإن كل فرد وكل أمة وكل بلد قد أخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ.. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الألفة، ولا تلك الوفرة، ولا مرور الزمان، ولا التحولات الهائلة، بحقائقه القيمة ولا بأسلوبه الجميل، ولم تشيّبه ولم تتمكن من أن تفقِدهُ طراوته أو تسقط من قيمته أو تطفئ سنا جماله وحسنه.
إن هذه الحالة وحدها إعجاز أي إعجاز.
والآن إذا ما قام أحدٌ ونظم قسماً من الحقائق التي أتى بها القرآن حسب أهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم أراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن بغية الاعتراض على بعض آياته وقال: لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن. فلا شك أن كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:
إن بنّاءً شيد قصراً فخماً، أحجاره من جواهر مختلفة، ووضع تلك الأحجار في أوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته. وبدأ يبدّل نقوش الأحجار واوضاعها، ويجعلها في نظام حسب أهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً. ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه، ثم بدأ يقول: انظروا إن لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة أكثر من بنّاء القصر! فانظروا إلى جواهري الثمينة!
لا شك أن كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا.
من كتاب الكلمات (الكلمة الخامسة والعشرون) لبديع الزمان سعيد النورسي، رحمه الله.
ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي.
  #668  
قديم 22-06-2008, 07:03 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

شبابية القرآن وفتوته


بديع الزمان سعيد النورسي، رحمه الله
إنَّ القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته، حتى كأنه ينـزل في كل عصر نضراً فتياً.
نعم! إنَّ القرآن الكريم لأنه خطاب أزلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم أنْ تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً وهو كذلك كما كان. حتى إنَّه ينظر إلى كل عصر من العصور المختلفة في الأفكار والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر ووفق مقتضياته ملقناً دروسه ملفتاً إليها الأنظار.
إنَّ آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتُبدَّل. إلاّ أنَّ أحكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور.
نعم، إنَّ هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ أُذنيه عن سماع القرآن أكثر من أي عصر مضى، وأهل الكتاب منهم خاصة، أحوج ما يكونون إلى إرشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ(يا أهل الكتاب).. (يا أهل الكتاب) حتى كأنَّ ذلك الخطاب موجّه إلى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ (أهل الكتاب) يتضمن معنى: "أهل الثقافة الحديثة" أيضاً!
فالقرآن يطلق نداءه يدوّي في أجواء الآفاق ويملأ الأرض والسبع الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول:
(يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم..)! (آل عمران 64)
فمثلاً: إنَّ الأفراد والجماعات مع أنَّهم قد عجزوا عن معارضة القرآن، إلاّ أنَّ المدنية الحاضرة التي هي حصيلة أفكار بني البشر وربما الجن أيضاً قد اتخذت طوراً مخالفاً له وأخذت تعارض إعجازه بأساليبها الساحرة. فلأجل إثبات إعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة (قل لئن اجتمعت الإنس والجن..) لهذا المعارض الجديد الرهيب نضع الأسس والدساتير التي أتت بها المدنية الحاضرة أمام أسس القرآن الكريم.
فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها: إنَّ ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي "القوة" وهي تستهدف "المنفعة" في كل شئ. وتتخذ "الصراع" دستوراً للحياة. وتلتزم بـ"العنصرية والقومية السلبية" رابطةً للجماعات. وغايتها هي "لهو عابث" لإشباع رغبات الأهواء وميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس وإثارة الهوى. ومن المعلوم أنَّ شأن "القوة" هو "التجاوز". وشأن "المنفعة" هو"التزاحم" إذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتهم. وشأن "الصراع" هو "التصادم" وشأن "العنصرية" هو"التجاوز" حيث تكبر بابتلاع غيرها.
فهذه الدساتير والأسس التي تستند إليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلتها عاجزة -- مع محاسنها - عن أن تمنح سوى عشرين بالمائة من البشر سعادة ظاهرية، بينما ألقت البقية إلى شقاء وتعاسة وقلق.
أما حكمة القرآن فهي تقبل "الحق" نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلاً من "القوة".. وتجعل " رضى الله ونيل الفضائل" هو الغاية والهدف، بدلاً من "المنفعة".. وتتخذ دستور "التعاون" أساساً في الحياة، بدلاً من دستور "الصراع".. وتلتزم رابطة "الدين" والصنف والوطن لربط فئات الجماعات، بدلاً من "العنصرية والقومية السلبية".. وتجعل غاياتها "الحدّ من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور وتطمين مشاعرها السامية لسوق الإنسان نحو الكمال والمثل العليا لجعل الإنسان إنساناً حقاً".
إنَّ شأن "الحق" هو "الاتفاق".. وشأن "الفضيلة" هو"التساند".. وشأن "التعاون" هو إغاثة كل للآخر". وشأن "الدين" هو "الاخوة والتكاتف". وشأن "إلجام النفس وكبح جماحها وإطلاق الروح وحثها نحو الكمال" هو "سعادة الدارين".
وهكذا غُلبت المدنية الحاضرة أمام القرآن الحكيم، مع ما أخذت من محاسنَ من الأديان السابقة ولا سيما من القرآن الكريم.
وسنبين لكم أربعة مسائل فحسب من بين آلاف المسائل:
المسألة الأولى:
إنَّ دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنَّها آتية من الأزل فهي باقية وماضية إلى الأبد. لا تهرم أبداً ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان.
فمثلاً: إنَّ المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وأنظمتها الصارمة ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الأخلاقية لم تستطع أن تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل انهارت أمامهما وهي في قوله تعالى:
(وآتوا الزكاة) (البقرة: 43) و (..وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) (البقرة: 275)..
سنبين هذا الظهور القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة:
إنَّ أس أساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الإنساني إنَّما هو كلمة واحدة.. كما أنَّ منبع جميع الأخلاق الرذيلة كلمة واحدة أيضاً. كما اُثبت ذلك في (إشارات الإعجاز).
الكلمة الأولى: (إن شبعتُ، فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع).
الكلمة الثانية: (اكتسبْ أنتَ، لآكل أنا، واتعبْ أنت لأستريح أنا).
نعم، إنَّه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع لا بالمحافظة على التوازن القائم بين الخواص والعوام، أي بين الأغنياء والفقراء، وأساس هذا التوازن هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، وإطاعة العوام واحترامهم للخواص.
فالآن، إنَّ الكلمة الأولى قد ساقت الخواص إلى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام إلى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والأمان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث أوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين وأصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد.
فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الأخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزت عن أن تصلح بين تلك الطبقتين من البشر كما عجزت عن أن تضمد جرحَيْ الحياة البشرية الغائرَين.
أما القرآن الكريم فإنَّه يقلع الكلمة الأولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمة الثانية من أساسها ويداويها بحرمة الربا.
نعم، إنَّ الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا: (الدخول ممنوع). وتأمر البشرية: (أوصدوا أبواب الربا لتنسد أمامكم أبواب الحروب). وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.
الأساس الثاني:
إنَّ المدنية الحاضرة لا تقبل تعدد الزوجات، وتحسب ذلك الحكم القرآني مخالفاً للحكمة ومنافياً لمصلحة البشر.
نعم، لو كانت الحكمة من الزواج قاصرة على قضاء الشهوة للزم أن يكون الأمر معكوساً، بينما هو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات وبتصديق النباتات المتزاوجة:
أنَّ الحكمة من الزواج والغاية منه إنَّما هي التكاثر وإنجاب النسل. أما اللذة الحاصلة من قـضاء الشــهوة فهي أجرة جزئية تمنحها الرحمة الإلهية لتأدية تلك المهمة. فما دام الزواج للتكاثر وإنجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً وحقيقةً، فلا شك أنَّ المرأة التي لا يمكن أن تلد إلاّ مرة واحدة في السنة، ولا تكون خصبة إلاّ نصف أيام الشهر، وتدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها، لا تكفي الرجل الذي له القدرة على الإخصاب في أغلب الأوقات حتى وهو ابن مائة سنة. لذا تضطر المدنية إلى فتح أماكن العهر والفحش!
الأساس الثالث:
إنَّ المدنية التي لا تتحاكم إلى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة: (للذَكَرِ مثلُ حظ الأُنثيين) (النساء:11) التي تمنح النساء الثلث من الميراث (أي نصف ما يأخذه الذكر).
ومن البديهي أنَّ اغلب الأحكام في الحياة الاجتماعية إنَّما تسنّ حسب الأكثرية من الناس، فغالبية النساء يجدن أزواجاً يعيلونهن ويحمونهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون إلى إعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن.
فإذا ما أخذت الأُنثى الثلث من أبيها (أي نصف ما أخذه الزوج من أبيه) فإنَّ زوجها سيسد حاجتها. بينما إذا اخذ الرجل حظين من أبيه فإنَّه سينفق قسطاً منه على زوجته، وبذلك تحصل المساواة، ويكون الرجل مساوياً لأخته. وهكذا تقتضي العدالة القرآنية. [1]
الأساس الرابع:
إنَّ القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادة الأصنام، يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الأصنام. أما المدنية الحاضرة فإنَّها تعدّ الصور من مزاياها وفضائلها وتحاول أن تعارض القرآن. والحال إنَّ الصور أياً كانت، ظلية أو غيرها، فهي: إما ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى متجسم! حيث تهيج الأهواء وتدفع الإنسان إلى الظلم والرياء والهوى.
ثم إنَّ القرآن يأمر النساء أن يحتجبن بحجاب الحياء، رحمةً بهن وصيانة لحرمتهن وكرامتهن ولكيلا تهان تلك المعادن الثمينة معادن الشفقة والرأفة وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة تحت أقدام الذل والمهانة، ولكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها[2]. أما المدنية فإنَّها قد أخرجت النساء من أوكارهن وبيوتهن ومزقت حجابهن وأدت بالبشرية أن يجنَّ جنونها. علماً أنَّ الحياة العائلية إنَّما تدوم بالمحبة والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة والاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما الولع بالصور فإنَّه يفسد الأخلاق ويهدمها كلياً، ويؤدي إلى انحطاط الروح وتردّيها، ويمكن فهم هذا بالآتي:
كما أنَّ النظر بدافع الهوى وبشهوة إلى جنازة امرأة حسناء تنتظر الرحمة وترجوها يهدم الأخلاق ويحطها، كذلك النظر بشهوة إلى صور نساء ميتات أو إلى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن - يزعزع مشاعر الإنسان ويعبث بها ويهدمها.
وهكذا بمثل هذه المسائل الأربع فإنَّ كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادة البشر في الدنيا، كما تحقق سعادته الأبدية في الآخرة.
فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة.
وأيضاً، فكما أنَّ المدنية الحاضرة تخسر وتُغلب أمام دساتير القرآن المتعلقة بحياة الإنسان الاجتماعية، فيظهر إفلاسها - من زاوية الحقيقة - إزاء إعجاز القرآن المعنوي، كذلك فإنَّ فلسفة أوربا وحكمة البشر - وهي المدنية - عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس والعشرين السابقة، ظهرت عاجزة وظهرت حكمة القرآن معجزة، وإن شئت فراجع "الكلمة الثانية عشرة والثالثة عشرة" لتلمس عجز حكمة الفلسفة وإفلاسها وإعجاز حكمة القرآن وغناها.
وأيضاً، فكما أنَّ المدنية الحاضرة غُلبت أمام إعجاز حكمة القرآن العلمي والعملي، كذلك آداب المدنية وبلاغتها فهي مغلوبة أمام الأدب القرآني وبلاغته. والنسبة بينهما أشبه ما يكون ببكاء يتيم فَقَد أبوَيه بكاءً ملؤه الحزن القاتم واليأس المرير، إلى إنشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصير الأمد غناءً ملؤه الشوق والأمل.. أو نسبة صراخ سكير يتخبط في وضع سافل، إلى قصائد حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الأنفس والأموال وبلوغ النصر. لأنَّ: الأدب والبلاغة من حيث تأثير الأسلوب، إما يورثان الحزن وإما الفرح. والحزن نفسه قسمان:
إما أنَّه حزن منبعث من فقد الأحبة، أي من عدم وجود الأحبة والأخلاء، وهو حزن مظلم كئيب تورثه المدنية الملوثة بالضلالة والمشوبة بالغفلة والمعتقدة بالطبيعة، وإما أنَّه ناشئ من فراق الأحبة، بمعنى أنَّ الأحبة موجودون، ولكن فراقهم يبعث على حزن ينم عن لوعة الاشتياق. فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.
أما الفرح والسرور فهو أيضاً قسمان:
الأول: يدفع النفس إلى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية من أدب مسرحي وسينمائي وروائي.
أما الثاني: فهو فرح لطيف بريء نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها ويحث الروح والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الأصلي، على مقرهم الأبدي، على أحبتهم الأخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر ويشوّقه للجنّة والسعادة الأبدية وعلى رؤية جمال الله تعالى.
ولقد توهم بعض قاصري الفهم وممن لا يكلفون أنفسهم دقة النظر: إنَّ المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بـعـضهم لبعـض ظهيراً) ظنوها صورة محالة ومبالغة بلاغية! حاشَ للّه! بل إنَّها بلاغة هي عين الحقيقة، وصورة ممكنة وواقعة وليست محالة قط.

فأحد وجوه تلك الصورة هو أنَّه:
لو اجتمع أجمل ما يقوله الإنس والجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه، فلا يماثل القرآن قط ولن يماثله. لذا لم يظهر مثيله.
والوجه الآخر: إنَّ المدنية وحكمة الفلسفة والآداب الأجنبية التي هي نتائج أفكار الجن والإنس وحتى الشياطين وحصيلة أعمالهم، هي في دركات العجز أمام أحكام القرآن وحكمته وبلاغته. كما قد بيّنا أمثلة منها.
المصدر: كليات رسائل النور، المجلد الأول (الكلمات). تأليف: بديع الزمان سعيد النورسي، رحمه الله.
ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. الطبعة الأولى، استانبول 1992 نشر: دار سوزلر للنشر.
عنوان الأستاذ: إحسان قاسم الصالحي:
[email protected]

[1] هذه فقرة من اللائحة المرفوعة إلى محكمة التمييز، ألقيت أمام المحكمة، فأسكتتها وأصبحت حاشية لهذا المقام: (وأنا أقول لمحكمة وزارة العدل الموقرة!
إنَّ إدانة من يفسّر أقدس دستور إلهي وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاث مائة وخمسون مليوناً من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاث مائة وخمسين عاماً. هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدّق به ثلاث مائة وخمسون ألف مفسر، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادنا السابقون في ألف وثلاث مائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانة هذا المفسر قرار ظالم لابد أن ترفضه العدالة، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولابد أن تردّ ذلك الحكم الصادر بحقه وتنقضه). المؤلف.
[2] إن اللمعة الرابعة والعشرين تثبت بقطعية تامة: أن الحجاب أمر فطري جداً للنساء بينما رفع الحجاب ينافي فطرتهن. المؤلف.
  #669  
قديم 22-06-2008, 07:13 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

قصة ابن المقفع ومحاولة تقليد القرآن الكريم


يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً )[الإسراء : 88].
إن أول خاصة يتنبه إليها الباحث في العلوم القرآنية هو ذلك التحدي الصريح إلى الناس كافة، منذ أربعة عشر قرنا، وبخاصة أولئك الذين ينكرون رسالة القرآن، ولم يستطع أحد من عباقرة البشر أن يرد التحدي إلى الآن. لقد أعلن القرآن بصوت عال، لا إبهام فيه ولا غموض :
قال تعالى :(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 23].
إنه أغرب تحد في التاريخ، وأكثره إثارة للدهشة، فلم يجرؤ أحد من الكتاب في التاريخ الإنساني – وهو بكامل عقله – أن يقدم تحديا مماثلا، فإن مؤلفا ما لا يمكن أن يضع كتابا، يستحيل علي الآخرين أن يكتبوا مثله، أو خيرا منه.. فمن الممكن إصدار مثيل من أي عمل إنساني في أي مجال، ولكن حين يدعي أن هناك كلاما ليس في إمكان البشر الإتيان بمثله ثم تخفق البشرية علي مدي التاريخ في مواجهة هذا التحدي، حينئذ يثبت تلقائيا أنه كلام غير إنساني وأنها كلمات صدرت عن صميم المنبع الإلهي Divineorigin، وكل ما يخرج من المنبع الإلهي لا يمكن مواجهة تحدياته.
وفي صفحات التاريخ بعض الوقائع، غر أصحابها الغرور فانطلقوا يواجهون هذا التحدي.ومن هذه الوقائع قصة ابن المقفع(1) فقد أوردها المستشرق (ولاستن) في كتابه وعلق عليها قائلا:
(. . . إن اعتداد محمد بالإعجاز الأدبي للقرآن لم يكن علي غير أساس، بل يؤيده حادث وقع بعد قرن من قيام دعوة الإسلام(2).
والحادث كما جاء عن لسان المستشرق هو أن جماعة من الملاحدة والزنادقة أزعجهم تأثير القرآن الكبير في عامة الناس فقرروا مواجهة تحدي القرآن، واتصلوا لإتمام خطتهم بعبد الله بن المقفع(727م)، وكان أديبا كبيرا وكاتبا ذكيا. يعتد بكفائته فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة. . وأخبرهم أن هذا العمل سوف يستغرق سنة كاملة واشترط عليهم أن يتكفلوا بكل ما يحتاج إليه خلال هذه المدة. .
ولما مضي علي الاتفاق نصف عام عادوا إليه، وبهم تطلع إلي معرفة ما حققه أديبهم لمواجهة تحدي رسول الإسلام ؛ وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصل، وجدوه جالسا والقلم في يده وهو مستغرق في تفكير عميق، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه علي الأرض، بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة كتبها ثم مزقها.
لقد حاول هذا الكاتب العبقري أن يبذل كل مجهود عساه أن يبلغ هدفه، وهو الرد علي تحدي القرآن المجيد... ولكنه أصيب بإخفاق شديد في محاولته هذه، حتي اعترف أمام أصحابه، والخجل والضيق يملكان عليه نفسه أنه، علي الرغم من مضي ستة أشهر حاول خلالها أن يجيب علي التحدي، فإنه لم يفلح في أن يأتي بآية واحدة من طراز القرآن ! وعندئذ تخلي ابن المقفع عن مهمته مغلوبا مستخذيا. (3).
المصدر: نقلا عن كتاب الإسلام يتحدى لوحيد الدين خان.
الهوامش:

(1) أبو محمد عبدا الله المعروف بابن المقفع، مؤلف وكاتب من البصرة تقول بعض المصادر أن والده كان من أصل فارسي مجوسي لقب أبوه بالمقفع لأنه اتهم بالاختلاس لمال الخراج، فضرب على يده فتشنجت
(2)Mohammad:His Life & Doetrinep.143
(3) وردت فى التاريخ أمثلة أخرى حاول أصحابها مواجهة هذا التحدى , غير أنهم أخفقوا إخفاقا ذريعا ومن هؤلاء مسيلمة بن حبيب الكذاب , وطلحة بن خويلد الأسدى والنضر بن الحارث وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندى , وأبو الطيب المتنبى , وأبو العلاء المعرة , صاحب كتاب " الفصول والغايات فى مجاراة السور والآيات " أنظر للتفصيل كتاب الرافعى : إعجاز القرآن ـ المترجم .
  #670  
قديم 23-06-2008, 09:41 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

من أغراض القصة في القرآن الكريم


بقلم سيد قطب رحمه الله
_ كان من أغراض القصة إثبات الوحي والرسالة. فمحمد _ صلى الله عليه وسلم _ لم يكن كاتباً ولا قارئاً، ولا عرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود والنصارى؛ ثم جاءت هذه القصص في القرآن _ وبعضها جاء في دقة وإسهاب كقصص إبراهيم ويوسف وموسى وعيسى. فورودها في القرآن اتخذ دليلاً على وحي يوحى... والقرآن ينص على هذا الغرض نصَّاً في مقدمات القصص أو في أعقابها.
جاءت في أول سورة "يوسف": "إنا أنزلناه قرآنا عربيَّاً لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن، وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين".
وجاء في سورة القصص" قبل عرض قصة موسى: "نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون". وبعد انتهائها "وما كنتَ بجانب الغرْبيّ إذ قضينا إلى موسى الأمرَ، وما كنتَ من الشاهدين، ولكنا أنشأنا قروناً فتطاوَلَ عليهمُ العمرُ، وما كنت ثاوياً في أهل مَدْيَنَ تتلو عليهم آياتنا، ولكنا كنا مرسلين. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا, ولكنْ رحمةً من ربك، لتنذرَ قوماً ما أتاهم من نذير منْ قبلكَ لعلهم يتذكرون".
وجاء في سورة "آل عمران" في مبدأ عرضه لقصة مريم: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنتَ لديْهم إذ يُلقون أقلامَهم أيهم يكفلُ مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون".
وجاء في سورة "ص" قبل عرض قصة آدم: "قل هو نَبأ عظيمُ. أنتم عنه معرضون. ما كان ليَ منْ علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون. إنْ يُوحى إليَّ إلا إنَّما أنا نذير مبين. إذ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بَشراً من طين...".
وجاء في سورة "هود" بعد قصة نوح: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك،ما كنتَ تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا".
2 _ وكان من أغراض القصة: بيان أن الدين كله من عند الله، من عهد نوح إلى عهد محمد. وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة، والله الواحد رب الجميع، وكثيراً ما وردت قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في صورة واحدة، معروضة بطريقة خاصة، لتؤيد هذه الحقيقة. ولما كان هذا غرضاً أساسياً في الدعوة، وفي بناء التصور الإسلامي فقد تكرر مجيء هذه القصص، على هذا النحو، مع اختلاف في التعبير، لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في النفوس.
نضرب لذلك مثلاً ما جاء في سورة "الأنبياء":
"ولقد آتينا موسى وهارونَ الفُرقان وضياء وذكراً للمتقين، الذين يخشوْن ربهم بالغيب، وهم من الساعةُ مشفقون. وهذا ذكرٌ مبارَك أنزلناه أفأنتم له منكرون؟
"ولقد آتينا إبراهيمَ رُشْدَه من قبلُ، وكنا به عالمين. إذ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون؟ قالوا: وجدْنا آباءنا لها عابدين" إلى قوله: "وأرادوا به كيْداً فجعلناهم الأخسرين، وَنجيَّناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين. ووهبنا له إسحاق ويعقوبَ نافلةً وكلاً جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمةً يَهدوُن بأمرنا، وأوحينا إليهم فعلَ الخيرات، وإقامَ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين.
3 _ وكان من أغراض القصة بيان أن الدين كله موحد الأساس _ فضلاً على أنه كله من عند إله واحد _ وتبعاً لهذا كانت ترد قصصَ كثير من الأنبياء مجتمعة كذلك. مكررة فيها العقيدة الأساسية، وهي الأيمان بالله الواحد على نحو ما جاء في سورة "الأعراف":
"لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال: يا قوم اعبدوا اللهَ ما لَكم من إله غيره... إلخ".
"وإلى عاد أخاهم هوداً" يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره... إلخ"
فهذا التوحيد لأساس العقيدة، يشترك فيه جميع الأنبياء في جميع الأديان، وترد قصصهم مجتمعة في هذا السياق. لتأكيد ذلك الغرض الخاص.
4 _ وكان من أغراض القصة بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة موحدة؛ وأن استقبال قومهم لهم متشابه _ فضلاً على أن الدين من عند إله واحد، وأنه قائم على أساس واحد _ وتبعاً لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة أيضاً، مكررة فيها طريقة الدعوة. على نحو ما جاء في سورة "هود".
"ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه: إني لكم نذير مبين. ألا تعبدوا إلا الله. إني أخاف عليكم عذابَ يوم أليم. فقال الملأ الذين كفروا من قومه، ما نَراك إلا بَشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذُلنا باديَ الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين"... إلى أن يقول: "ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله، وإلى أن يقولوا له: " يا نوحُ قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فائتنا بما تعدُنا إن كنت من الصادقين"... إلخ.
"وإلى ثمودَ أخاهم صالحاً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه. إن ربيً قريبٌ مجيب. قالوا: يا صالحُ، قد كنتَ فينا مَرْجُواً قبل هذا. أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا، وإننا لفي شكّ مما تدعونا إليه مريب"... إلخ.
5 _ وكان من أغراض القصة بيان الأصل المشترك بين دين محمد ودين إبراهيم بصفة خاصة، ثم أديان بني إسرائيل بصفة عامة؛ وإبراز أن هذا الاتصال أشد من الاتصال العام بين جميع الأديان. فتكررت الإشارة إلى هذا في قصص إبراهيم وموسى وعيسى:
"إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى". "أم لم يُنبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفي. ألا تَزرُ وازرةٌ وزْرَ أخرى". "إن أوْلى الناس بابراهيمَ للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا". "ملةَ أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل". "وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين..." إلى أن يقول: "وأنزلنا إليك الكتابَ بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومُهيمناً عليه".
6 _ وكان من أغراض القصة بيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية ويهلك المكذبين، وذلك تثبيتاً لمحمد، وتأثيراً في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان : "وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادَك. وجاءك في هذه الحق وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين". وتبعاً لهذا الغرض كانت ترد قصص الأنبياء مجتمعة، مختومة بمصارع من كذبوهم. ويتكرر بهذا عرض القصص كما جاء في سورة "العنكبوت":
"ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فَلبثَ فيهم ألفَ سنة _ إلا خمسين عاماً _ فأخذهم الطوفان وهم ظالمون، فأنجيناه وأصحابَ السفينة، وجعلناها آية للعالمين".
وإبراهيمَ إذ قال لقومه: اعبدوا الله واتقوه، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون..." إلى أن يقول: "فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرّقوه. فأنجاه الله من النار. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون"... إلخ.
"فكلاً أخذْنا بذنبه. فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الصيحةُ، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا. وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يَظلمون". وتلك هي النهاية الواحدة للمكذبين.
7 _ وكان من أغراض القصة تصديق التبشير والتحذير، وعرض نموذج واقع من هذا التصديق، كالذي جاء في سورة "الحجر":
"نَبئ عبادي أني أنا الغفورُ الرحيمُ، وأن عذابي هو العذاب الأليم..." فتصديقاً لهذا وذلك، جاءت القصص على النحو التالي:
"ونبَئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه، فقالوا: سلاماً. قال: إنَّا منكن وجلون. قالوا: لا توْجَلْ. إنا نبشرك بغلام عليم"... إلخ. وفي هذه القصة تبدو "الرحمة".
ثم: "فلما جاء ألَ لوط المرسلون. قال إنكم قومٌ منكرون. قالوا: بل جئناك بما كانوا فيه يَمترون، وأتيناك بالحق وإنا لَصادقون. فأسرِ بأهلك بقطع من الليل، واتبّعْ أدبارهم، ولا يلتفتْ منكم أحدٌ، وامضوا حيث تُؤمرون. وقضينا إليه ذلك الأمرَ: أن دابرَ هؤلاء مقطوعٌ مٌصبْحين..." وفي هذه القصة تبدو "الرحمة" في جانب لوط، ويبدو "العذاب الأليم" في جانب قومه المهلكين.
8 _ وكان من أغراض القصة بيان نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه، كقصص سليمان وداود وأيوب وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى، فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى، ويكون إبرازها هو الغرض الأول، وما سواه يأتي في هذا الموضع عرضاً.
9 _ وكان من أغراض القصة، تنبيه أبناء أدم إلى غواية الشيطان، وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم آدم، وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى، وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسة في النفس تدعو إلى الشر، وإسنادها إلى هذا العدو الذي لا يريد بالناس الخير!
ولما كان هذا موضوعاً خالداً، فقد تكررت قصة آدم في مواضع شتى.
10 _ وكان للقصة أغراض أخرى متفرقة: منها:
بيان قدرة الله على الخوارق: كقصة خلق آدم، وقصة مولد عيسى. وقصة إبراهيم والطير الذي آبَ إليه بعد أن جعل على كل جبل منه جزءاً. وقصة "الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها". وقد أحياه الله بعد موته مائة عام.
وبيان عاقبة الطيبة والصلاح، وعاقبة الشر والإفساد. كقصة ابني آدم. وقصة صاحب الجنتين. وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم. وقصة صد مأرب. وقصة أصحاب الأخدود.
وبيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة، والحكمة الإلهية البعيدة الغيبة. كقصة موسى مع "عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدُنا علماً" وسنعرضها بالتفصيل في مناسبة أخرى.
إلى آخر هذه الأغراض التي كانت تساق لها القصص فتفي بمغزاها.
----------------------------------
المصدر : التصوير الفني في القرآن
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 17 ( الأعضاء 0 والزوار 17)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 252.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 246.26 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.32%)]