علوم السلف لا تفسد بالتقادم

[ابوالوليد المسلم]

علوم السلف لا تفسد بالتقادم
إبراهيم يوسف منصور



وقفتُ على منشور يزعم كاتبه أن كل أسلافنا من علماء الشريعة العاملين المسددين الراشدين المرشدين.. - كذا قال - لو كانوا اليوم أحياءً بيننا، لغيروا ما قرروه في كتبهم في زمانهم... ويقول بالنص:

(ولو اطلع النووي وابن القيم وابن تيمية والعز ابن عبد السلام والماوردي والسرخسي والكاساني صاحب البدائع، والسمرقندي صاحب التحفة وابن عابدين صاحب الحاشية.. على حالنا، وعاشوا زماننا، لقرروا لنا غير الذي قرروه في كتبهم الأولى..)
ثم دافع عن هذا الزعم بما يظنه تأصيلا وتحصينا لادعائه هذا فقال:
(كلام الله تعالى هو الصالح لكل زمان ومكان. وليس كلام الفقهاء)
------------
فكتبتُ تعقيبا عليه:
هذه الدعوى ليست بناء على واقع، وإنما هي بناء على غيب يتوقعه الكاتب..
والعجيب أنه يقرر دعواه جازما معمِّما بكلمة "كل العلماء.." وكأن ذلك الغيب عنده رأي عين.
فماذا لو كان الواقع خلاف ما توقعه؟!
وماذا لو لم يشاركه جمهور أهل الفهم في هذا التوقع أصلا؟
ثم لم يبين لنا الكاتب: هل سيكون التغيير المتوقع من العلماء الثقات السابقين لما قرروه، تغييرا جذريا شاملا ناسخا لكل ما سبق، لا يبقي ولا يذر؟
أم سيكون تغييرا جزئيا انتقائيا في مسائل وفهوم معينة؟
فمن الذي سيعيِّن تلك المسائل إذن؟
هل نفوّض تعيينها إلى منصور كيالي، أم إلى عدنان إبراهيم، أم إلى محمد حبش؟ أم إلى أحمد عبده ماهر، أم إلى الشيخ ميزو....، أم يتقلد تعيين ذلك، الكاتبُ نفسه؟
ثم إن الدعوة إلى هذه الأوهام المبنية على أوهام وتوقعات، كما هو واضح، ليست إلا دعوة إلى هدم القديم بلا إنشاء بديل جديد.
فهي دعوة أبعد ما تكون عن الجِد، وأشبه ما تكون بالهزل والاستظراف.
فمن كان يرى اهتراء علم الفقه مثلا، عبر القرون، فليبادر بإنشاء فقه بديل غير ذلك الفقه المهترئ.
ليوفر للناس بديلا لا بد منه.
أما أن يُزهِّد الناس في التراث الفقهي الهائل، بتوهم أن أصحابه لم يعودوا يقتنعون به، من غير أن يعرِّفنا بالفقه الذي يقتنع به السابقون لو كانوا معاصرين.. فهذا كلام غير مسؤول ولا مقبول.
وقلْ مثل ذلك في علوم الحديث ورجاله وشروحه ومصطلحه.
وفي علوم القرآن وتفسيره ولغته.
وفي علوم العربية ولغتها وبلاغتها وأدبها..

لا أرى في هذه الدعوى إلا تنفيرا من العلوم والمعارف والأحكام الشرعية المؤصلة في تصانيف الأسلاف الثقات من ذوي العلم والدين والعدالة والعبادة والأمانة والخشية.. ليغرق المسلمون في فوضى الفتاوى المهلهلة التي يدعيها كل دعيّ. والتي يموج بها الفضاء الإلكتروني.
هذه الدعوى صورة من صور محاولة التحرر من رِبقة الأحكام الشرعية بذريعة أن الثابت هو كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس كلام الفقهاء ولا المفسرين.
ونقول أجل، الثابت القرآن والسنة. ولكن القرآن نفسه يأمرنا بسؤال أهل العلم في قوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [سُورَةُ النحل: ٤٣]
وقوله تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: ٨٣]
نعم قد يكون اجتهادُ هذا العالم أو ذاك، وحكمُه في هذه المسألة أو تلك، قد جانب الصواب..
فإذا عرفنا الصواب بقرينته تحولنا إليه وهجرنا ذلك الاجتهاد، أيّا كان قائله.
فأما أن نحكم ببطلان جميع علم السلف بذريعة التقادم، لأنهم كتبوه لأهل زمانهم المختلف عن أهل زماننا في كثير من الظروف والملابسات.. فهذه محاولة لتقويض الشريعة والتحرر من أحكامها.
وهناك اليوم صورة أخرى أجرأ من هذه على التحرر من أحكام الشريعة. وهي التي يمثلها المتَسَمَّون بالقرآنيين. الذين يزعمون أن الثابت هو القرآن وحده، وينكرون الحديث النبوي وأحكامه، بذريعة قطعية ثبوت القرآن، دون الحديث.
وأجرأ من هؤلاء وهؤلاء من يحاولون التحرر حتى من أحكام القرآن.. ولا يصرحون بإنكار له ولا تكذيب.
ولكنهم يعبثون في تفسيره، ويَخرجون على الناس بفهوم منكورة غير مسبوقة، ويتذرعون بقول سيدنا علي رضي الله عنه: (القرآن حَمَّال أوجه).
وكل هذا وذاك تعبير عن ضيق ذرعهم بالأحكام الشرعية، فهم يحاولون كيدها والصد عنها بمختلِف الذرائع.
ولكن هيهات.. فإنهم يناطحون رواسي الجبال، فما أزرَوا إلا بأنفسهم، وما كيدهم إلا في ضلال.
أذكر أني حضرتُ قبل سنين مجلسًا ضم الطبيب د خالص جلبي، فسمعته يقول في سياق كلام من جنس كلام هذا الكاتب الذي يدعو إلى اطِّراح علوم السلف: (لو كان ابن كثير حيا لأحرق تفسيره.)
فضحكنا لهذا التوهم الساذج.
وما زلت أستطرفها وأتملح بها كما نتملح بأوهام البسطاء.
وقد سبق لي رد على هذه الدعوة المريبة، بمقالة منشورة على موقع الرابطة، عنوانها: ( ما كان الأستاذ زهير جديرا بهذا )، اضغط هنا لفتحها