بين الوساطة والشفاعة ... دراسة في الحكم الشرعي
خلق الله الخلق فجعلهم درجات، وقد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والأعمال والعقول وغير ذلك، وكل ذلك من أجل أن يتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا، فيجعل كلًّا منهم في خدمة الآخر والسعي في سد حاجته، فالغنيُ يخدمُ الفقير بجاهه وماله، والفقير يخدم الغني بعمله وسعيه، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
ومن أعظم أبواب النفع للمسلمين باب الشفاعة الحسنة، يقول سبحانه وتعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء: 85]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) [رواه مسلم، (5857)]، وجاء في الحديث: (المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة؛ فرَّج الله عنه بها كربة عن كرب يوم القيامة) [متفق عليه، رواه البخاري، (2442)، ومسلم، (6743)]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهرًا) [رواه الطبراني في الكبير، (665)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2623)].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة؛ قال: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان رسوله ما شاء)[رواه البخاري، (6028)]، قال الإمام الشافعي: (الشفاعات زكاة المروات) [كشف الخفاء، العجلوني، (1/129)].
ومرة جاء رجلٌ إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة قضاها، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن بن سهل: (علام تشكرنا، ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟) [الآداب الشرعية، ابن مفلح، (2/270)]، ثم أنشأ يقول:
فُرضت علي زكاة ما سلكت يدي وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت بجد، فإن لم تستطع فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
1. عدم تضييع من له حق أو الإضرار به:
فكم من الناس يشفع ويتوسط ويتوسل في أمور يضيع بها حقوق المسلمين لنفع صاحبه أو قريبه، وهذا من المحرمات، ومن البلايا التي ابتُلي بها أهل الزمان، وهي من الشفاعة السيئة: {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وكان اللهُ على كل شيءٍ مقيتًا}[النساء: 85]، وقد يشفع إنسان ما بجاهه ومنزلته وبكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين، ويظلمهم ويأكل أموالهم بالباطل. 2. ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه:
فلابد أن يكون المشفوع فيه مما أذن فيه الشرع وأحله، وإلا كان من الشفاعة السيئة المحرمة.
3. ألا تكون الشفاعة في حدٍ من حدود الله:
وقد عدَّها ابن القيم من الكبائر، واستدل بحديث ابن عمر المرفوع: حالت شفاعته دون حدٍ من حدود الله؛ فقد ضاد الله في أمره رواه أبو داود في سننه، (3599)، وصححه الألباني، (3597)، وعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلم أسامة رسول الله، فقال: (تشفع في حد من حدود الله؟!)، ثم قام صلى الله عليه وسلم فخطب، فقال: يا أيها الناس، إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمد يدها[رواه البخاري، (6788]
4. عدم أخذ مقابل على هذه الشفاعة والواسطة:
والدليل ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة مرفوعًا: من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها؛ فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا[رواه أبو داود في سننه، (3543)، حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (3541، ومن الناس من يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه ليعين شخصًا في وظيفة أو نقل آخر من دائرة لأخرى أو من منطقة إلى أخرى، أو حتى يُدخل مريضًا المستشفى لعلاجه، أو ليُخرج أوراقًا يمكث بها الناس في بعض الديار والبقاع، ويأخذ على هذا مبلغًا ماليًّا يشترطه.
وظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق كما يقول الشيخ العلامة ابن باز، فلو شفعت أخي المسلم لأخيك وجاءك بهدية ـ بدون أن تشترطها ـ فلا تأخذها، وأجرك على الله، ولا تجعل بابًا للشيطان يُفسد عليك أعمالك الصالحة التي تبتغي بها وجه الله، لا تقبل هدية ولا مال، ولا خدمة أخرى مقابل شفاعتك وواسطتك، فإن "الشفاعات زكاة المروات".
وإذا قلنا بتحريم أخذ الهدية على الشفاعة والواسطة ولو لم تُشترط، فإنه لا يدخل في ذلك استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها في الدوائر، مقابل أجرة معلومة؛ فهذا باب آخر غير مسألة الشفاعة والواسطة، فهو من باب الإجارة، فكأنك تستأجر فلان ليُطارد لك معاملتك وينجزها، فهذا جائز لا شيء فيه، وهو ليس من باب بذل الجاه والشفاعة والمكانة مقابل المال، فهذا هو المحرم.
5. ألا يتضمن ذلك تقديم غير الكفاءات على أصحابها:
الوساطة نوعان؛ محمودة ومذمومة، والوساطة المحمودة أن تساعد شخصًا ما للحصول على حق يستحقه أو إعفائه من شرط لا يجب عليه الوفاء به، أو تساعده في الحصول على حق لا يلحق الضرر بالآخرين، أما الوساطة المذمومة فهي أن تقوم بهذا الدور لحصوله على حق لا يستحقه أو إعفائه من حق يجب عليه دفعه؛ مما يلحق الضرر بالآخرين، وقد أشار إليها القرآن الكريم؛ حيث قال عز من قائل: [COLOR=window****]{وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وكان اللهُ على كل شيءٍ مقيتًا}[النساء: 85].
وتعتبر الوساطة المذمومة أحد مظاهر الفساد الإداري، وقد انتشرت في الوقت الحاضر انتشارًا واسعًا كانتشار النار في الهشيم في عموم المؤسسات العربية، حتى إنها أصبحت تُعرف باسمها العربي كأحد مصطلحاتها في المراجع الأجنبية Wasta والواسطة المذمومة كالمرض تنتشر في البيئات التنظيمية غير الصحية؛ لذا فإن عجز المؤسسات عن تقديم الخدمات المناطة بها قد دفع المواطنين إلى البحث عن واسطة لتسهيل الحصول على بعض الخدمات.
كما أن بعض المواطنين قد استمرأ الحصول على خدمات هو في الواقع لا يستحقها، ولاشك أن تكاسل بعض الموظفين من رؤساء ومرءوسين وإهمالهم وتقصيرهم في أداء المهام الوظيفية الموكلة لهم قد ساعد في انتشار هذه الظاهرة إلى حد بعيد.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: (أولًا: إذا ترتب على توسط من شفع لك في الوظيفة حرمان من هو أولى وأحق بالتعيين فيها من جهة الكفاية العلمية التي تتعلق بها والقدرة على تحمل أعبائها والنهوض بأعمالها مع الدقة في ذلك، فالشفاعة محرمة؛ لأنها ظلم لمن هو أحق بها، وظلم لأولي الأمر، وذلك بحرمانهم من عمل الأكفأ وخدمته لهم ومعونته إياهم على النهوض بمرفق من مرافق الحياة، واعتداء على الأمة بحرمانها ممن ينجز أعمالها ويقوم بشئونها في هذا الجانب على خير حال، ثم هي مع ذلك تولد الضغائن وظنون السوء، ومفسدة للمجتمع، وإذا لم يترتب على الوساطة ضياع حق لأحد أو نقصانه؛ فهي جائزة بل مرغب فيها شرعًا، ويُؤجر عليها الشفيع إن شاء الله، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان رسوله ما شاء)[رواه البخاري، (6028)].
ثانيًا: المدارس والمعاهد والجامعات مرافق عامة للأمة يتعلمون فيها ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ولا فضل لأحد من الأمة فيها على أحد منها إلا بمبررات أخرى غير الشفاعة، فإذا علم الشافع أنه يترتب على الشفاعة حرمان من هو أولى من جهة الأهلية أو السن أو الأسبقية في التقديم أو نحو ذلك؛ كانت الوساطة ممنوعة لما يترتب عليها من الظلم لمن حُرِم أو اضطُر إلى مدرسة أبعد فناله تعب ليستريح غيره، ولما ينشأ عن ذلك من الضغائن وفساد المجتمع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم).