#1
|
||||
|
||||
كيف نؤسس نظرية للنقد العربي؟
كيف نؤسس نظرية للنقد العربي؟ د. وليد قصاب لم يهتمَّ نقدنا العربيُّ القديم بإنشاء نظرية متكاملة في النقد الأدبي، أو بتأسيس المذاهب والمدارس على طريقة النقد الحديث في هذه الأيام، بل كان – في مجمله – نقداً جزئياً قلَّ أن تناول العمل الأدبيَّ بأكمله. كان – في أغلبه – على شكل آراء متناثرة مبعثرة، يتَّسم كثير منها بالأصالة والعُمق، ويتَّفق مع أحدث ما توصَّلت إليه المناهج النقديَّة الحديثة، ولكن الطابع العامَّ لهذه الآراء النقدية كان الإيجاز والجزئيَّة، ولم يأخذ شكلَ النظرية، أو المذهب، أو المنهج، بالمفهوم العلميِّ المعاصر. في العصر العباسي نَضِجَ النقد العربي نضجاً كبيراً، وبدأ – في القرنين الرابع والخامس الهجريين خاصة – يتَّجه إلى العُمق والتكامل، وراح يعالج قضايا نقديَّة هامَّة: كاللفظ والمعنى، والطبع والصَّنعة، والقديم والحديث وغيرها، ثم تبلورت فيه شبه نظرية متكاملة للشعر تمثَّلت فيما عُرِف بمصطلح ((عمود الشعر)) الذي تحدَّث عنه – على خلاف في التصوُّر والأهداف – كلٌّ من الآمدي والقاضي الجرجاني والمرزوقي.. كما تشكَّلت على يدَيْ عبدالقاهر الجرجاني نظريةٌ نقدية بلاغية لغوية هي ((نظرية النَّظْم)) التي حاولت الخروج من عباءة الجزئية إلى ثوب النصِّ المتكامل، واجتهدت – بمهارة واقتدار مشهودَين – أن تتجاوزَ ثنائية ((اللفظ والمعنى)) الحادَّة إلى معالجة النصِّ الأدبيِّ في إطار من التكامل بين هذين العنصرين من خلال النَّظم أو ما أصبح يُعرف في الدراسات الحديثة بالأُسلوب. ولكنَّ النقد العربيَّ القديم لم يُرزَق – للأسف الشديد – بعد الآمدي والجرجانيَّين وحازم القرطاجَنِّي – نقاداً كباراً على هذا المستوى، يكملون مسيرة التنظير الجادِّ له، ويستفيدون من الإنجازات الهامة التي حقَّقها هؤلاء. ولكن ذلك كلَّه لا يعني – كما يحاول أن يُشيعَ بعض الباحثين المعاصرين – أن هذا النقد التراثيَّ سطحيٌّ، أو عديم الجدوى، أو أنه مما عفَّى عليه الزمن، أو أنه مما ينبغي أن يُتجاوز في أيِّ درس أدبيٍّ حديث.. إن في هذا النقد – كما ذكرنا – نظراتٍ عميقةً، وآراءً سديدة في غاية النفاسة، وإن كثيراً منها ليتَّفق مع أحدث ما توصَّلت إليه الدراسات الأدبية والنقدية المعاصرة، ولكنَّ هذه النظرات متناثرةٌ هنا وهناك، مبعثرةٌ عند هذا الناقد أو ذاك، وهي تحتاج إلى جمع ولملمة، حتى يُضمَّ النظير إلى نظيره، والشبيه إلى شبيهه، ومن جمع المتفرِّق، ولمِّ شتات المبعثر المتناثر، تُصنع نظرية نقدية عربية متكاملة، تقارب عناصرَ الأدب جميعَها. إن النظرية النقدية المنشودَة لن نجدَها متكاملةً عند ناقد عربيٍّ واحد، ولكنها ستكون من صُنعنا، نصنعها من آراء النقَّاد القدماء بعد جمعها، وتصنيفها، وتفريعها إلى قضايا ومسائل تستقصي جميع عناصر العمل الأدبيِّ وأركانه. في نقدنا العربيِّ التراثيِّ كلامٌ كثير على الشكل والمضمون، والصورة الأدبية، والخيال، والعاطفة، وعن طبيعة الإبداع، وماهيَّة الشعر، ووظيفة الأدب، وغير ذلك من القضايا والمسائل. وإذا أُتيح لهذه الآراء المبعثرة من يجمعها وينسِّقها – على النحو الذي ذكرنا – فإن هذا سيكون عملاً عظيماً يسهم في بناء نظرية النقد العربيِّ المنشودَة، ويكون هو اللَّبِنَة الأساس في هذا البناء. ولكنَّ الذي لا ينبغي أن نغفُلَ عن ذكره كذلك، وألا نتحرَّج من الإفصاح به، أن ما خلَّفه لنا نقادُنا العرب القدماء لا يكفي وحدَه لبناء نظريَّة أو منهج لنقد عربيٍّ أو إسلاميٍّ معاصر، بل لابد من أن نستعينَ – في أثناء ذلك كلِّه – بما يُلائمنا من آراء النقد الغربيِّ الحديث، مما لا يخرج عن قيمنا وذوقنا ولغتنا وطبيعة أدبنا العربيِّ والإسلاميِّ، وما أكثرَ ما يتوافر في هذا النقد من آراء قيِّمة، ونظرات صائبة سديدة، بل إن أحداً لا يشك أن ما بلغته الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة من عمق واستقصاء، ومن منهجيَّة وضبط لا يكاد يُقارن بما تركه الأقدمون، ولا يمكن تجاوز ذلك كلِّه وإلا كنا نعيش خارج العصر.. إن الدراسات دائماً تتطوَّر، وإن أي نظرية أو منهج جديد هو حصيلةُ تراكم معرفيٍّ غزير ساهمت في صُنعه أجيال من الأمم والحضارات والشعوب في القديم وفي الحديث. ولكنَّ ما ينبغي أن نفطن إليه، وألا يغيبَ عن تفكيرنا لحظة واحدة، أن أي منهج نقديٍّ عربيٍّ نتبناه في دراساتنا الحديثة يجب أن يكونَ أساسه الأكبر المكين قائماً على تراثنا وثقافتنا وقيمنا العربية والإسلامية الأصيلة، وأن تكونَ الأسس الأخرى الجديدة، أو المقتبَسة، أو المأخوذة من شرق أو غرب، متناغمةً مع هذا الأساس الأكبر، داعمةً له، بل قائمة عليه.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |