نور البيان في مقاصد سور القرآن: آل عمران - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 03-12-2020, 06:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي نور البيان في مقاصد سور القرآن: آل عمران

نور البيان في مقاصد سور القرآن: آل عمران
أحمد الجوهري عبد الجواد
نور البيان في مقاصد سور القرآن

"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".


سورة آل عمران
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهدِيهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفِرُه، ونعوذُ به - سبحانَه - من شرورِ أنْفُسنَا ومن سيئاتِ أعمالِنَا، من يهدِهِ اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ؛ فلا هادِيَ له، ولنْ تجدَ له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أنْ لا إله إلا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبِيَّنَا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولِهِ.

اللهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ النَّبيِّ وأزواجِهِ أمهاتِ المؤمنينَ وذُرِّيتِهِ وأهلِ بيتِهِ، كما صَلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
نشهدُ ربَّنَا أنَّه بلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ للأُمَّةِ، وكُشفتْ به الغُمَّةُ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ؛ حتَّى أتاهُ اليقينُ؛ فتركَ الأُمَّةَ على مَحَجَّةٍ بيضاءَ؛ ليلُها كنهارِهَا، لا يزيغُ عنهَا إلَّا هالِكٌ.
اللهمَّ كما آمَنَّا به ولم نرهُ؛ فلا تُفَرِّقْ بينَنَا وبينَهُ حتَّى تدخِلَنَا مُدْخَلَهُ، وتُسْقِينَا من يدِهِ، وتَحْشُرنَا في جماعتِهِ، وتجعَلَنا يومَ القيامةِ في الفردوسِ الأعلى في مَعِيَّتِهِ؛ إنَّكَ على كُلِّ شيءٍ قديرٍ.

أمَّا بعدُ:
أيُّهَا الإخوةُ المسلمونَ الأحبابُ؛ ففي سلسلةِ الحديثِ عن مقاصدِ سورِ القرآنِ الكريمِ نعيشُ هذه اللَّحظاتِ معَ سورةِ آلِ عمرانَ، وتِلْكُمُ السُّورةُ هكذا سَمَّاهَا اللهُ -تعالى-؛ كما عَرفْنَا أنَّ أسامِي السورَ القرآنيةَ إنِّما هيَ من عندِ اللهِ -تبارك و-تعالى-، يُبلِّغُها الوحيُ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فيُبلِّغُها النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- لأصحابِهِ وأُمَّتِهِ، فوقفتْ الأُمَّةُ عندَهَا دونَ تغييرٍ ولا تبديلٍ؛ حتَّى جاءَتْنَا هذه السورةُ وغيرُها من سورِ القرآنِ؛ كُلُّ سورةٍ باسمِهَا الذي كانَ يعرِفُهُ الصَّحابةُ في عهدِ نزولِ الوحي؛ وإلى الآنَ لم يتغيرْ ولم يتبدلْ؛ دَلَّ ذلك على أنَّه من عندِ اللهِ؛ بدليلِ قولِ اللهِ -تعالى- ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82][1].

سورتُنا - آلَ عمران - سورةٌ افتتحَهَا اللهُ -تعالى- كعددٍ من السورِ بحروفٍ مفردةٍ موحدةٍ (أ ل م)، ويخبرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن فضلِ قارئِ القرآنِ، وأنَّ من قرأَ القرآنَ فلهُ بكُلِّ حرفٍ حسنةً، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها؛ ولَمَّا كانَ العربُ -في لغتِهِم- يعرفونَ أنَّ الحرفَ يطلَقُ على الحرفِ المعروفِ، ويطلقُ -كذلك- على الكلمةِ، ويُطلقُ على الجملةِ؛ بيَّنَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه يقصدُ الحرفَ الذي هوَ الحرفُ؛ فمثَّلَ بـ (أ ل م)؛ فقال: «لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ»[2]، وهذه حروفٌ لَها شأنُها في التفسيرِ، ولها إعجازُها في القرآنِ الكريمِ، ولها جَلَالُها في كلامِ اللهِ ربِّ العالمينَ.

سورةُ آلِ عمرانَ سورةٌ نزلتْ بعدَ الهجرةِ، والآياتُ الثلاثُ والثمانونَ منْ أوَّلِها نزلتْ في وفدِ نجرانَ من النَّصارى[3]؛ جاءُوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في العامِ التَّاسعِ من الهجرةِ؛ فكأنَّ هذه السورةَ نزلتْ في أواخرِ الزَّمانِ، والعهدِ المدني قبلَ وفاةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعامٍ أو يزيدُ قليلًا؛ وهكذا يتحدَّدُ زمانُ السورةِ؛ حيثُ بدأَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يستقبلُ الوفودَ[4]، وكانَ من ضمنِ هذه الوفودِ التي قدمتْ على النبي -عليه الصلاة والسلام- للتفاوضِ في الإسلامِ وما إلى ذلك؛ كان قُدُومُها متأخِرًا، وكان من ضمنِ هذه الوفودِ؛ وفدُ نجرانَ، وهمْ وفدٌ من النَّصارى، وهذا يَدُلُّنَا على أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كانَ يمدُّ يدَه بالمسالَمَةِ والمعايَشةِ الكريمةِ التي تحفظُ للإنسانِ حُقُوقَهُ؛ كان يمدُّ يدَه بهذا الخيرِ وهذا السلامِ الحقيقيِّ لغيرِ المسلمينَ؛ ليعيشُوا في أمنٍ، وليأمنَ المسلمونَ من شَرِّهم؛ كما قالَ ربُّنا ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]؛ كُلُّكُم أسرةٌ واحدةٌ؛ أبوكُم آدمُ، وأُمُّكُم حواءُ، وما بينكُم من فوارقِ إنِّما هيَ للتعارفِ؛ ليعرفَ الإنسانُ نسبَهُ؛ وليُعْرَف فلانٌ بسلالتِهِ؛ جاءَ من عائلةِ كذا، ومن بني كذا؛ تمييزًا فقطْ، لا تميزًا على غيرِهِ وتكبرًا على سواهُ؛ فالقرآنُ والدينُ يدعونَا إلى التعايُشِ مع كُلِّ أصنافِ النَّاسِ: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6].

سورةُ آلِ عمرانَ سورةٌ فاضلةٌ عظيمةٌ؛ فقد وردَ في الحديثِ الصحيحِ أنَّها تشتملُ على اسمِ اللهِ الأعظمِ؛ في قولِ اللهِ -تعالى- في أوَّلِ آياتِها: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 2][5]، وجاءتْ فيها هذه الجملةُ التي افتُتحتْ بها أعظمُ آيةٍ في القرآنِ؛ وهيَ آيةُ الكرسي؛ كما أنَّه سبقَ أنْ سمعنَا الحديثَ عن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حيثُ قال: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ»[6]؛ جماعتانِ من الطيورِ المتلاحمةِ المتراصَّةِ في أفقِ السَّماءِ حينَ تهاجِرُ من مكانٍ إلى مكانٍ فهي -أيضًا- تشبِهُ الغمامةَ والسَّحابةَ؛ فهيَ تُظِلُّ من تحتِها كذلك.

سورةُ البقرةِ، وسورةُ آلِ عمرانَ؛ كُلٌّ منهُما تأتِي يومَ القيامةِ كأنَّها غمامةٌ وسحابةٌ تحاجَّانِ عن صاحبِهِمَا يومَ القيامةِ، الذي يقرأهُمَا؛ يطلبُ معانِيهِمَا؛ يعملُ بما فيهِمَا؛ يُحِبُّهمَا؛ تأتِي هذه السورةُ ومثلُها سورةُ البقرةِ تأتِي وتحاجَّ وتدافعَ بينَ يدي اللهِ -تباركَ و-تعالى- عن صاحبِهَا يومَ القيامةِ؛ يعني: تشفعَ لهُ.
وما أحوجُ أحدُنا إلى شفاعةٍ بينَ يديِ ربِّهِ يومَ القيامةِ: ﴿ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19]، ﴿ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ [الدخان: 41]، ولكنَّ سورةَ البقرةِ وسورةَ آلِ عمرانَ كُلٌّ منهُمَا تملِكُ شفاعةً بينَ يدي اللهِ -تعالى-؛ فإنِّهما من كلامِ اللهِ؛ فكأنَّ اللهَ -تعالى- هوَ الذي يشفعُ لنا بكلامِهِ، ونعمَ الشفاعةُ؛ فهيَ سورةٌ فاضلةٌ عظيمةٌ.

أمَّا موضوعَاتُهَا -حديثُها الطويلُ على طولِها-؛ فهِيَ مائتي آية؛ فإنِّها في بدايتِها تتحدثُ عن وفدِ نجران –كما قُلنا– وفي خلالِ بقيَّتِها تواجِهُ أهلَ الكتابِ وخاصةً النَّصارى، تواجِهُهُم بالحُجَّةِ والبيِّنَةِ والبيانِ الواضحِ؛ حيثُ كانُوا يدَّعونَ أنَّهم أبناءُ اللهِ وأحباؤُه كما قالَها اليهودُ من قبلِهم؛ فقالوا مثلَهم دونَ وَعيٍ؛ فالقرآنُ يبيّنُ لهم أنَّ الأمرَ ليسَ بالادعاءِ؛ نحنُ أحفادُ إبراهيمَ فلنَا الفضلُ، ولنا النجاةُ، ولنا الخيرُ، بلْ إبراهيمُ كانَ نصرانيًا، كقولِ اليهودِ تمامًا؛ قالوا: كان إبراهيمُ يهوديًّا، ونحنُ أولادُه وأحفادُه من إسحاقَ، ونحنُ كذلك العربُ أولادُه من إسماعيلَ؛ فلنا بهِ نسبٌ والحمدُ للهِ؛ فإنْ كانتْ النَّجاةُ بإبراهيمَ؛ فنحنُ معكُم، والكُلُّ ينجُو، ولكنْ ليسَ الأمرُ بالانتسابِ: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101]؛ إنِّما بالعملِ بالإيمانِ الصحيحِ.

وحَدَّدَ اللهُ -تعالى- هَوِيَّةَ إبراهيمَ الدِّينيَّةِ والشَّرعيةِ؛ فقالَ: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67]، وأبيَنَ أنَّه كانَ -عليه السلام- مسلمًا؛ ليسَ معناهَا أنَّه كانَ يتَّبِعُ نبِيَّنَا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قبلَ أنْ يأتي النبيُّ محمدٌ -عليه الصلاة والسلام-، وما كان إبراهيمُ يتَّبِعُ القرآنَ الذي أنزلَهُ اللهُ إلينا، ولكنْ مسلمًا؛ أي: مستسلمًا للهِ -تبارك و-تعالى- على الدِّينِ الذي شَرَعَهُ اللهُ، وعلى الشَّريعةِ التي أنزَلَها اللهُ إليهِ، ولذلِكَ يقولُ اللهُ -تعالى- في هذِه السورةِ، وفي بداياتِهَا: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران: 19]، ويقولُ -أيضًا-: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]؛ أنْ نستسلِمَ للهِ -تبارك و-تعالى- بالشَّريعةِ التي شرعَهَا لنَا، وبالمنهجِ الذي اختارَهُ لنَا؛ سَمَّانَا المسلمينَ، وأنزلَ إلينا القرآنَ، وبعثَ إلينا خيرَ إنسانٍ؛ وهوَ نبيُّنَا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، نُسلِّمُ للهِ على هذا المنهجِ، وكان إبراهيمُ مُسَلِّمًا بما شرعَ اللهُ له من المنهجِ وبما آتاهُ من الوحي، لكنْ ما كانَ إبراهيمُ يهودِيًّا، ولم يكنْ كذلك نصرانِيًّا، ولم يكنْ مشركًا، ولا شيءَ من ذلكَ؛ إنِّما كانَ حنيفًا؛ أي: موحِدًا مائِلًا إلى اللهِ -تبارك و-تعالى-، لا يستميلُهُ شيءٌ عن اللهِ؛ كُلَّمَا تقابلَ أمرُ اللهِ معَ أمرِ غيرِهِ؛ مالَ إبراهيمُ إلى حقِّ اللهِ وإلى أمرِ اللهِ؛ قال اللهُ له: اذبحْ ولدَكَ؛ فضَحَّى بولده؛ وأعَدَّ نفسَه للذبحِ، وهيئَ الأمرَ لذلكَ، ولو تركَهُ اللهُ -تعالى-؛ لنَفَّذَ الأمرَ وذُبحَ إسماعيلُ؛ فمالَ إلى مَحبَّةِ اللهِ وفضَّلَ اللهَ وآثرَهُ على ولدِهِ إسماعيلِ بنِ إبراهيمَ -عليهما سلامُ اللهِ-؛ ولهذا يقولُ اللهُ -تعالى- للنَّصارى -أيضًا- حينَمَا تَشَبَّثُوا بما هُمْ عليه، وتمَسَّكُوا بما أخذُوه وما وَرِثُوه من ديانةِ آبائِهم، وقد جاءَهُم الحقُّ مصدقًا لِمَا بينَ يديهِ ومهيمنًا عليه في القرآنِ الكريمِ، فلم يُقْبِلُوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤمنوا به-؛ فقالَ اللهُ لهم -مبَيِّنًا أنَّ الأمرَ ينبَغِي أنْ يكونَ بالحيادِ؛ نحنُ المسلمينَ نقولُ: نحنُ على حقٍّ، وأنتمْ تقولون: إنكم على حقٍّ: إذًا تعالُوا نبتهلْ إلى اللهِ، دعاهُم اللهُ -تعالى- إلى المباهلةِ[7]؛ وذلك أنْ يخرجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه بأزواجِهِم وأولادِهِم، وأنْ يخرجَ النَّصارى كذلك بأزواجِهِم وأولادِهِم في أرضٍ فضاءٍ، والجميعُ يَبْتهِلُ إلى اللهِ -تعالى- أنْ ينزلَ لعنَتَهُ على الكاذبينَ، من كان كاذبًا في ادِّعائِهِ أنَّه هوَ الخيرُ، وأنَّه هوَ الحقُّ؛ فاللهُ يهلكُه: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61]، همّ النبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك واستعَدَّ لهُ ودعا لهُ، همَّ النَّصارى أنْ يخرجُوا لهذه المباهلةِ؛ ولكنْ قامَ فيهم أحدُ رُهبانِهم يرجُو لهم الخيرَ والسلامةَ في الدنيا؛ فقالَ: ارجعوا؛ واللهِ لا تباهلونَ هذا الرجلَ ويرجعُ واحدٌ منكم.
(واللهِ لا تباهلونَ هذا الرجلَ)؛ يعني: لو باهلتُمُوه ودعوتُم اللهَ معهُ بما دعاكُم إليه؛ لنْ يرجعَ منكُم أحدٌ[8].

فهذا راهبٌ[9] قارئٌ للإنجيلِ، وقارئٌ للتوراةِ، ويعرفُ الدينَ، ويعرفُ أنَّ نبيَ اللهِ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هوَ الحقُّ، ولكنْ لم يؤمن لِمصالِحِ شخصيةٍ يخشَى عليها أنْ تضيعَ، ورُبَّما كانَ يكتمُ إيمانَهُ –الله أعلم– لكنَّه رَجَا الخيرَ في الدنيا لقومِهِ فنهَاهُم عن هذه المباهلةِ ورَدَّهُم عنهَا؛ فلم يباهِلُوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وبقيتْ هذه المباهلةُ إلى اليومِ دعوةً إلى الحقِّ، وتمييزًا بينَ الحقِّ والباطلِ؛ منْ أرادَ؛ فلنباهِلَ ولنخرجَ ولندعُو اللهَ -تعالى- أنْ ينزِّلَ لعنَتَه على الكاذبينَ الظَّالِمينَ، ولكنْ لن يقبلَ عاقلٌ هذه المباهلةَ.

أمَّا الأتباعُ الذين لا يعلمونَ شيئًا؛ فإنِّهم قد يقعونَ جرأةً فارغةً في هذه المباهلةِ ولا يرجعُ منهم أحدٌ إلى أهلِهِ أبدًا.
فسورةُ آلِ عمرانَ جاءتْ تُكَمِّلُ حديثَ سورةِ البقرةِ، وفيها قِصَّةُ آلِ عمرانَ؛ وهمْ عمرانُ وامرأتُه حَنَّةَ بنتُ فاقوذ[10]، وابنتهُما مريمُ، وابنُهمَا هارونُ، وولدُ مريمَ سيدُنَا عيسى -عليه السلام- وعلى الجميع الرَّحمةِ، أسرةٌ فاضلةٌ، أسرةٌ يهوديةٌ، ولكنَّها كانت طائعةً للهِ -تبارك و-تعالى-.

في هذه السورةِ -أيضًا- دعوةٌ للمؤمنينَ إلى التزامِ منهجِ اللهِ، وأنْ لا يكونوا كالذينَ تفرَّقُوا من قبلِ؛ وهمْ أهلُ الكتابِ، اختلفُوا وتَفَرَّقُوا؛ حتَّى صارَ بعضُهم يُكفِّرُ بعضًا، أصحابُ الْمِلَّةِ الواحدةِ يُكفِّرُ بعضُهم بعضًا، فلا تكونُوا مثلَهُم ولا تسعُوا إلى تكْفِيرِ بعضٍ، وتقطيعِ رقابِ بعضٍ، واستحلالِ دماءِ بعضٍ؛ فكُلُّكُم تقولونَ: لا إله إلَّا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، إلهُكُم واحدٌ، نبِيُّكُم واحدٌ، قرآنُكُم واحدٌ، منهجُكُم واحدٌ؛ فلا تفترِقُوا وإنْ اختلفتْ بكُم بعضُ الطُّرقِ فالاختلافُ واردٌ، ولكنْ هذه الأصولُ ثابتةٌ لا خلافَ عليها، ولا تَفَرُّقَ حولَها، فعندَكُم ما تجتمعونَ بهِ أكثرَ مما يختلفونَ وتفترقونَ عليه؛ فلا تقعُوا فِيمَا وقعُوا فيه، وإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نَبَّأَ بهذه الفُرقةِ؛ فقال: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»[11] وفي رواية: «كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً»، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»[12]؛ أي: منْ وافقَ دِينُه وعملُه الصَّالِحِ وعبادتُه للهِ -تباركَ وتعالى- عبادةَ ودينَ وعملَ رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام- وأصحابُه الكرامُ.

ما اسمُه؟ وما اسمُ جماعتِهِ؟ وما بلدُه؟ وما زمانُه؟ وما نسبُه؟
كُلُّ هذا لا دخلَ له؛ المهِمُّ أنْ يوافقَ في تَديُّنِهِ تَدَيُّنَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، هذا الحديثُ أقولُ: وإنْ قالَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يستسْلِمُ أحدُنا لَهُ، ولا يقولُ: الأُمَّةُ لا بُدَّ أنْ تفترقَ رغمًا عَنَّا، لا بُدَّ أنْ تفترقَ، فماذا نفعلُ؟ لا بُدَّ أنْ أكونَ في جماعةٍ وأتعَصَّبُ لَها، وأنْ أُبْغِضَ الآخرينَ، وأُنْكِرَ وجودَهُم؛ هذا خَطأٌ، وإنْ كان هذا قدرًا للهِ سَيُقَدَّرَ على هذه الأمةِ، وستفْتَرِقُ الأُمَّةُ هذا الافتراقَ الكبيرَ؛ فأنَا عن نَفْسِي أنجُو بنفْسِي من هذه الفُرْقَةِ؛ فلا أنْضَمُّ إلى أحدٍ، ولا أنحازُ إلى أحدٍ، ولا أُبغضُ أحدًا تَوجَّهَ إلى قبلةِ المسلمينَ، وصلَّى إليهَا، ونطَقَ بالشَّهادتينِ، وقرأَ القرآنَ، وفعلَ ما يدعُو إليه الدِّينُ؛ لا أُبْغِضُه أبدًا؛ وإنِّما أتعاونُ معهُ فيما يُرْضِي اللهُ -تعالى-، وفِيما يُرْضِي رسولُ اللهِ -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]؛ فينبغِي أنْ تكونَ بينَنَا رابِطةُ الإسلامِ حتَّى وإنْ افترقَ المسلمونَ؛ علينا أنْ ننجُو من هذِه الفُرْقةِ، وأنْ نكونَ خارجَهَا وخارجَ حُدُودِهَا، وإنِّما ننظرُ دائمًا وننشدُ دائمًا ونطلبُ دائمًا ما كانَ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كانَ عليه أصحابُه معَهُ ومنْ بعدَهُ.

هذا هوَ طريقُ النَّجاةِ، وهذه هيَ الفِرْقةُ النَّاجيةُ؛ وإنْ لم يكنْ لَها اسمٌ معروفٌ؛ جماعةُ كذا، فِرقةُ كذَا؛ ليسَ لَها اسمٌ يُمَيِّزُهَا غيرَ مَا سَمَّاهَا اللهُ -تعالى-: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78].

هذه السورةُ تَدُورُ في هذه الأفلاكِ، وتناقشُ هذه الأمورَ، لكنْ ما هدفُهَا؟ ما مُلَخَّصُها؟
مُلَخَّصُ هذه السورةِ: أنَّها جاءتْ تقولُ: إنَّ بني إسرائيلَ الذين سَمِعْتُم خبرُهُم مُفَصَّلًا في سورةِ البقرةِ، وكان خبرًا أسودَ، سيئًا يُغْلِقُ القلبَ عن حُبِّهم وعن الرِّضَا بهم، ويملأُ النَّفسَ غضبًا عليهِم.

ليسُوا سواءَ؛ ليسُوا كُلُّهم كذلك، بلْ منهم صَالِحُونَ، منهم طَيِّبُونَ، ولو طيبةً فِطْريَّةً، وصلاحٌ دينِيٌّ؛ فمِنْهُم النَّصارى؛ أُمَّةُ النَّصَارى جزءٌ من بني إسرائيلَ، اختارهُم اللهُ -تعالى- واختارَ منهُم النبي الذي يأتِي بعدَ موسى وهوَ سيدُنا عيسى -عليه السلام-، وحينَ يصطفِي اللهُ نبِيًّا من أُمَّةٍ؛ فقد اصطَفَى هذه الأُمَّةَ واختارَهَا وجعلَ وَحْيَهَا ينزلُ فِيهَا؛ فاختارَ هذه الأُمَّةَ بدءًا من آلِ عمرانَ؛ فكان النَّصارى، اللهُ -تعالى- يقولُ عن النَّصارى -بعدَ أنْ قالَ عن اليهودِ والمشركينِ ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82]- ولتجدَنَّ؛ كُنَّا ننتظِرُ -حسبَ ما سبقَ- أنْ يقالَ: ولتجدَنَّ أخَفَّهُم عداوةً، أقَلَّهُم عداوةً، أهْوَنَهُم عداوةً؛ لا، ما ذكرَ العداوةَ بالْمَرَّةِ؛ ولكنْ ذكرَ القُرْبَ؛ قال: ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً ﴾[المائدة: 82] أسلوبٌ يفترقُ تمامًا عن الأسلوبِ الذي عَبَّرَ بهِ عن اليهودِ والمشركينِ: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾[المائدة: 82]، ثُمَّ بيَّنَ السببَ؛ لماذا كانَ هؤلاءِ أقربُ مودةً لنا؟ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 82]؛ يعني: لأنَّ منهُم ﴿ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا[المائدة: 82]؛ هؤلاءِ همْ علماءُ النَّصارى وعُبّادُهم: ﴿ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ[المائدة: 82]؛ أي: فيهم أهلُ عبادةٍ، وأهلُ علمٍ، وأهلُ صلاحٍ، حسب ما جاءهم من المنهج الذي سبق قبل ذلك، وأنهم لا يستكبرون عن الحق إذا رأوه، ولذلك قال بعدها ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 83]؛ إذًا لو سمع يسمع بوعي ويسمع بعقل، فإذا رأى الحق بكت عينه ودمعت عينه لما عرف من الحق، أين كان هذا الحق قبل ذلك؟ لماذا لم أسبق إليه غيري؟ ولعلها دموع فرح -أيضًا-؛ لأنّه وجد الحق واهتدى إليه، وقالوا: هذه الآية نزلت في النجاشي ملك الحبشة[13]؛ كان ملكاً عظيماً ولكنه كان نصرانياً؛ فلما هاجر إليه المسلمون الأوائل في أرض الحبشة[14]؛ فراراً من إيذاء وظلم قريش وكفارها استقبلهم استقبالاً حسناً عظيماً، وأكرم هؤلاء الضعفاء المطرودين من بلادهم أو الفارّين بدينهم؛ فلما جاء وفد قريش ليؤلب الأمور بينهما؛ بين الملك وبين هؤلاء اللاجئين المسلمين حتى يأخذهم بقوته وسلطانه وسطوه ولو أن يخرجهم من بلاده ويردهم إلى أهاليهم؛ لم يفعل ذلك، إنما سمع من هؤلاء، وسمع من هؤلاء، وبفطنته وذكائه وعدله وسماحته؛ قارن بين الكلاميين؛ فوجد أن قريشاً تبغي وتظلم وتدعي وتفتري، وجد أنَّ هؤلاء المستضعفين معهم الحق، وفرّوا بالحق، ويريدون الحق، ونبيهم نبي حق -عليه الصلاة والسلام-، فلذلك آمن به وهو في مكانه لم يره أبداً طول عمره؛ لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم-، أسلم به من بُعد وآمن به واتبعه من بُعد؛ بكت عينه حينما سمع من جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- قصة ميلاد عيسى في سورة مريم، قال: اقرأ علي شيئاً مما أنزل على صاحبكم؛ يعني: أرني عينة مما تقولون عنه إنه قرآن، وأنه كلام الله، فقرأ عليه جعفر -بكل حنكة وذكاء- ما شاء الله وحسن اختيار، قرأ عليه الآيات التي يحبها فجاءه بقصة مريم وميلاد عيسى حسبما ورد في سورة مريم؛ فلما سمعها النجاشي بكى، وشهد أنَّ هذا لا يفرق عمَّا جاء به موسى وعيسى قيدَ شعرة، وأسلم وأعلن إسلامه بين وفد المسلمين؛ راح وفد قريش وأخبروا الرهبان والكهّان أنَّ ملككم أسلم وتبع هؤلاء الذين جاءوا من عندنا، فكان قد كتب اسم المسيح -عليه السلام- عيسى عبد الله ورسوله، كتبها في صحيفة ووضعها في جيبه، فلما جاءه الأحبار والرهبان يتحققون من هذا الأمر حتى إن كان قد أسلم عزلوه وفعلوا به ما يفعلون، قالوا له أأسلمت؟ قال من قال لكم، قالوا سمعنا ذلك، ماذا تقول في عيسى؟ قال عيسى هو كما هنا وأشار إلى جيبه وفيه الصحيفة، فظن الرهبان أنه يشير إلى قلبه؛ يعني: عيسى كما كان من قبل هو الآن ابن الله.. وكذا كما يقولون؛ ففهموا هذا فعفوا عنه وظلَّ على ملكه، بينما هو يشير إلى الصحيفة التي فيها أن عيسى عبد الله ورسوله، هكذا كان ملهماً، وكان موفقاً لمثل هذه الحيلة التي يستبقي بها المُلك ليحكم بعدله، ولكي يحفظ حياته؛ ليؤمن بربه -سبحانه وتعالى-، ودعا له النبي -عليه الصلاة والسلام- دعوة بظهر الغيب، وكان النجاشي يتمنى أن يكون خادماً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: ليتني كنت عنده فأصبّ عليه وضوءه[15]، يا ليتني أكون عند نبيكم هذا ونبينا، طبعاً آمن به -صلى الله عليه وسلم-، ليتني كنت عنده فأصبّ عليه ماء الوضوء ليتوضأ.

هكذا تواضع قلب منفتح للحق، لذلك عبّر الله عن النصارى بهذه الطيبة الفطرية؛ فقال ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة: 82]، فالذين يعترفونَ أنَّهم نصارى؛ همْ أقرب الناس إلينا مودة، ومن رفض هذا؛ فالقرآن لا يقول غير هذا: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾[المائدة: 82]، وبيّن السبب؛ بوجود القسيسين والرهبان فيهم والعبّاد والعلماء الصالحين الذين إذا رأوا الحقَّ لا يتكبرون عنه، وكم أيٍ كثيرٌ منهم أسلم حينما سمع الحق عبر طول هذا الزمان.

فسورة آل عمران جاءت تضيف إلينا معلومةً بعد ما قالت سورة البقرة: إنَّ بني إسرائيل قومٌ غضب الله عليهم ولعنهم، قومٌ قتّالون للأنبياء، قومٌ لا يعاشرون، قومٌ لا يصاحبون، ينقضون العهد، يفعلون كذا، يكذبون، يفترون؛ كلها سيرةٌ عن بني إسرائيل تغلق القلب عن محبتهم أو الانفتاح لهم، ولكن الله يُحق الحقَّ فأراد أنْ يكمّل لنا المعلومة؛ فيقول: ليس كل بني إسرائيل بهذا الوصف السيئ؛ فلا تضربوا عنهم صفحاً جميعاً، بل منهم صالحون وخاصةً النَّصارى، هؤلاء طيبون بالفطرة، وعندهم صلاحٌ ديني في علمائهم، ورهبانهم أصلح من أحبار اليهود؛ فعلماء اليهود مضللون وضالون بخلافِ القسيسين والرهبان؛ فهؤلاء ألين قلباً، وألين جانباً، وأقرب مودةً، وكذلك أتباعهم الذين يقرون بأنَّهم نصارى.

ومن -هنا- يبدأ القلبُ ينفتح بعض الشيء لمن قالوا: إنا نصارى، الواحد يخالطهم في الحياة بجوارٍ أو بصحبة في عمل أو نحو ذلك وهو يحتفظ بشيءٍ من الأمن؛ بخلاف ما لو كان جارُك يهودياً، أو صاحبك في العمل يهودياً أو كذا؛ فينبغي أنْ تحذر منه أشدَّ الحذر؛ فقد قتلوا أنبياء الله، واستحلوا دماءَهم؛ فكيف يفعلون بك؟
فالمسألة فيها فارقٌ كبير؛ من هؤلاء الذين ذمهم الله في سورة البقرة قوم آل عمران؛ أسرةٌ في غاية الصلاح، من هؤلاء الذين ذمهم الله في سورة البقرة؛ قومٌ يؤمنون بآيات الله، ويقيمون الليل، ويؤدون الصلوات، ويقبلون على الإسلام، ويأخذون الحق حيثُما كان، ولذلك تجد في أوَّلِ السورة بعد أنْ كان عنوانها (آل عمران)؛ يعني: أهل عمران؛ هذه الأسرة عنوان السورة.

وفي أول السورة يقول الله -تعالى-: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ [آل عمران: 2، 3]؛ هذا هو القرآن، ويقول عن الكتب السابقة: ﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾[آل عمران: 3]، جاء بعدها -أيضًا- بالفرقان الذي هو القرآن؛ ليُشعر وليعلن بأنَّ القرآن هوَ خاتم الرسالات، وإن كان أخبر عن إنزاله من قبلِ في أول الآية؛ فيأتي به بعد ذلك في ترتيبه الزمني: ﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 3]؛ فهذا تلميحٌ بأنَّ هذه السورة ستتكلم عن أصحاب الكتابين؛ عن أهل الكتاب.

وفي آخر السورة يبيّن الله -تعالى- أنَّ من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، في الآية قبل الأخيرة يقول الله -تعالى-: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ[آل عمران: 199]؛ يا مسلمون، ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا[آل عمران: 199]؛ هكذا من هذه الإشاراتِ في أول السورةِ وآخرِها؛ تشعر أن السورة ستتحدث عن أهلِ الكتابِ، وأن منهم من آمن، وأن منهم فريقاً طيباً؛ هو موضوع هذه السورة، وقد برز في عنوانها (آل عمران)، من آل عمران؟
قلنا: الرجل الصالح الذين اسمه: عمران، وامرأته: حنة بنت فاقوذ، وولدهما: هارون، وأخته: مريم -عليهم جميعاً رحمة الله-، هذه أسرةٌ طيبة؛ وإن كانت أسرةً يهودية؛ لأنَّ عيسى لم يأت إلى الوجود بعدُ؛ إنما تفرّع عن هذه الأسرة الطيبة.

امرأة عمران؛ هكذا حالها كانت عاقراً لم تلد، ويوماً -كما ذُكر- رأت بعض الطيور يُطعم أفراخه؛ عصفوراً كان أو غيره، أمٌ من أمهات الطير تطعم أفراخها فتشوقت إلى الأمومةِ؛ وقد رأت الأمومة أمامها في شكلِ طائر، وفي حياة طائر؛ فتمنت على الله؛ فرزقها الله حملاً، وأصلح حالها؛ وحملت بحمل لا تعرف إنْ كان ذكراً أم أنثى، إنْ كان مشوهاً أو غير مشوه، إنْ كان صحيحاً أو مريضاً، إنَّما هو حمل، قبل أن تعلم عنه شيئاً؛ قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران: 35]؛ خالصاً، معنى (محرراً)؛ أي: خالصاً لك، ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران: 35]؛ وهي لا تدري عن حملها شيئاً تفصيلياً، ليس -كما في أيامنا- بالسونار، ونحو ذلك، إلى أنْ وضعته، ماذا نذرت؛ ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي [آل عمران: 35]؛ كيف تقدمُه لله؟ ستذبحه لله؟ ستحفظه التوراة؟ فلم يكن الإنجيل قد نزل من بعد، ماذا ستفعل به؟
إنها نذرته خادماً في بيت الله في المسجد الأقصى، أرأيت كيف نذرت!

فهذا العمل عملٌ شريف، عملٌ عظيم؛ أن يخدم أحدنا في بيت من بيوت الله؛ أياً كانت هذه الخدمة، فلا تحرم نفسك، وكانت خادمةٌ لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأةٌ سوداء عجوز كبيرة في السن[16]، لا يأبه بها الناس ولا يلتفت إليها الرجال، ولكنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- افتقدها يوماً من الأيام، لم يجدها لم يرها؛ فسأل عنها؛ فَقَالُوا: مَاتَت، قَالَ: «أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا»[17]، قالوا: ماتت ودفناها يا رسول الله، هكذا عُرف الناس يستهينون بخدام المساجد، بمن ينظف لهم المسجد، ينظرون إليه نظرةً أنَّه أقل من غيره، لكن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ينظر نظرةً عالية نظريةً شرعية، انظر كيف رفع هذه المرأة؛ فقال: «أَفَلَا آذَنْتُمُونِي»؛ أي: أما كنتم تخبروني بوفاتها، قالوا: كُنْتَ نَائِمًا فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ[18]؛ يعني: أمرها لا يستحق أنْ نوقظك ونزعجك[19]؛ فنحن نكفيك هذا الأمر، ولكن لو مات واحدٌ من كبار الصحابة سيوقظونه حتماً ولابد، لكن هذه امرأةٌ وتنظف المسجد ندفنها نحن، صلوا عليها ودفنوها.

« أَفَلَا آذَنْتُمُونِي» قالوا: كُنْتَ نَائِمًا فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ يا رسول الله، قال -عليه الصلاة والسلام-: قولةً لم أرها لأحد آخر، لم أرها لصاحب وظيفة أخرى حسبما قرأت واطلعت وأكرمني الله به من بعض الفهم لم أرها كرامةً وتكريماً لواحد آخر غير هذه المرأة التي كانت تقُمُّ؛ أي: تنظف مسجد رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، قال -صلى الله عليه وسلم-: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا» فدلوه عليه؛ فَأَتَى الْقَبْرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، قال الله تعالى: ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 103]، من يفوز بسكن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وصلاته على قبره امرأةٌ كانت تنظف المسجد، فعلينا أنْ ننظر إلى هذا الصِنف من الناس نظرةً رفيعة، نظرةً عالية، لا نستهن، لا يسخر بعضكم من بعض؛ ﴿ لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ [الحجرات: 11]؛ كما قال: ﴿ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات: 11].
هكذا نذرت حنة بنت فاقوذ -رحمها الله- حملها أيًّا كان، وكما يكون؛ نذرته خادماً؛ ويقال له: سادن؛ يعني: (خادم) في المسجد الأقصى.

﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36] الكلام فيه إدراج؛ يعني: الله -تعالى- أدخلَ جملة في سياقٍ معين؛ كان تتابع الكلام - كلام أم مريم- كان تتابعه هكذا في غير القرآن يقال: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها، هذا كلام أم مريم؛ ولكن الله وضع جملة والله أعلم بما وضعت؛ لغرض معين؛ إنِّما كلامُها هي الذي قالته: رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى؛ كأنها تعتذر لله، حسب ما ورثت من جاهلية اليهود أنَّ الولد خير من البنت، أنَّ الذكر خير من الأنثى، أو حسب ما كانت تفهم أنَّ الرجل أو الذكر أقوى على خدمة البيت -بيت الله- من المرأة؛ حيث لا يأتيه حيضٌ ولا نفاس فلا ينقطع أبدًا عن المسجد؛ إنِّما المرأة في أيام حيضها وأيام نفاسها لا تستطيع أن تجلس في المسجد إلَّا أنْ تدخل دخولاً عابراً عاجلاً وتخرج، فلعلها كانت تفهم هذا وتقصده، أيًّا ما كان الأمر؛ فهي تعتذر إلى الله أنَّها لم تقدم الصنف الأحسن والأجود في خدمة بيتك يا رب.

﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]؛ ولم تقل -بأدب عظيم- لم تقل: إنك أعطيتنيها أنثى، إنك رزقتني أنثى، المسألة عندك أنت؛ إنما نسبت النقص إلى نفسها كما تفهم؛ فقالت: ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا ﴾ [آل عمران: 36]؛ وكأنَّها هي السبب في التأنيث والتذكير، هذا أدبٌ مع الله ﴿ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]؛ ويقطع الله كلامها ويقول: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ [آل عمران: 36]؛ يعني: ليس الله جاهلاً بنوعية هذا المولود حتَّى تخبره الأم، لا، هو يعلم من قبل، ولكنها تقول هذا على سبيل الاعتذار، وليس على سبيل تعليم الله؛ فالله يعلم من قبل.
﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36] في أداء هذا العمل.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 155.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 153.34 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (1.14%)]