شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         دور المسجد في بناء المجتمع الإنساني المتماسك السليم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          ملامح الشخصية الحضارية في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المثنى بن حارثة الشيباني فارس الفرسان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أدب الحديث على الهاتف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المدرسة الإسماعيلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          أثر صحبة العلماء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          أحكام خطبة الجمعة وآدابها***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 94 - عددالزوار : 74458 )           »          علمني هؤلاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الحب المفقود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-02-2020, 03:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد

شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد
محمد لطفي الدرعمي




شرح حديث النزول لإمام ابن عبدالبر المالكي



من كتابه التمهيد[1]




الحمد لله جلَّ في عليائِه، نحمدُه سبحانه على جزيلِ عطائِه، ونشكرُه على إفضالِه ونعمائه، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمَّدٍ خاتمِ أنبيائِه، وعلى آله وصَحْبه وجميعِ نسائِه؛ فإنهم خِيرةُ أوليائِه، وعلى مَن اقتفى أثرَه واهتدى بهَدْيه إلى يوم لقائِه، وبعد:

فهذا شرح حديث النزول للإمام ابن عبدالبر المالكي رحمه الله، استلَلْتُه من كتابه (التمهيد)، وهو كتاب عظيمٌ، عمدةٌ في المذهب، ولمَّا كان قولُه رحمه الله في هذا البابِ على مذهبِ السلف الأوَّلين، أحببتُ أن تعمَّ فائدتُه باستلاله مفردًا، فخرَّجتُه وضبطتُه، وقسَّمتُه فِقراتٍ؛ ليسهلَ فهمُه ويتَّضِح أمرُه، وأشرتُ إلى بعض مواطن الأحاديث، والله المستعان.



قال الإمام أبو عمر ابن عبدالبر المالكي في التمهيد:

"مالك عن ابن شهاب، عن أبي عبدالله الأغر، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقَى ثُلُث الليلِ الآخرُ، فيقول: مَن يَدْعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألُني فأُعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفِرَ له؟))[2].

1- هذا حديثٌ ثابتٌ من جهة النقل، صحيحُ الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحَّتِه، رواه أكثر الرواة عن مالكٍ هكذا، كما رواه يحيى.

2- ومِن رُواة الموطأ مَن يرويه عن مالك عن ابن شهاب عن أبي عبدالله الأغر، لا يذكر أبا سلمة.

3- وهو حديث منقولٌ من طرق متواترةٍ ووجوهٍ كثيرةٍ، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد رُوي عن الحُنيني عن مالك عن الزهري عن أبي عُبيد مولى ابن عوف عن أبي هريرة، ولا يصح هذا الإسناد عن مالك، وهو عندي وهم، وإنما هو عن الأعرج عن أبي هريرة.

وكذلك لا يصح فيه رواية عبدالله بن صالح عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وصوابه عن الزهري عن الأعرج وأبي سلمة جميعًا عن أبي هريرة.




4- ورواه زيد بن يحيى بن عُبيدالله الدمشقي، وروح بن عبادة، وإسحاق بن عيسى الطباع عن مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة.

5- وفيه دليلٌ على أن الله عز وجل في السماءِ على العرشِ مِن فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو مِن حجَّتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: "إن الله عز وجل في كل مكانٍ وليس على العرشِ"!




6- والدليل على صحة ما قالوه[3] أهل الحق في ذلك:

قولُ الله عز وجل: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5].

وقوله عز وجل: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ ﴾ [يونس: 3].

وقوله: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [فصلت: 11].

وقوله: ﴿ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 42].

وقوله تبارك اسمه: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10].

وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ﴾ [الأعراف: 143].

وقال: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ﴾ [الملك: 16].

وقال جل ذكره: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1].

وهذا من العلو.

وكذلك قوله: ﴿ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].

و﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ﴾ [غافر: 15].

و﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ [النحل: 50].

والجهمي يزعُمُ أنه أسفل!

وقال جل ذكره: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ﴾ [السجدة: 5].

وقوله: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ﴾ [المعارج: 4].

وقال لعيسى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55].

وقال: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: 158].

وقال: ﴿ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [فصلت: 38].

وقال: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19].

وقال: ﴿ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴾ [المعارج: 2، 3]، والعروج هو الصعود.



7- وأما قوله تعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ ﴾ [الملك: 16]، فمعناه: مَن على السماء؛ يعني على العرش، وقد يكون (في) بمعنى على، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [التوبة: 2]؛ أي على الأرض[4].




وكذلك قوله: ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]، وهذا كله يعضده قوله تعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ﴾ [المعارج: 4]، وما كان مثله مما تلَوْنا من الآيات في هذا الباب.




8- وهذه الآيات كلها واضحاتٌ في إبطال قول المعتزلة.




9- وأما ادعاؤهم المجازَ في الاستواءِ، وقولُهم في تأويل استوى استولى، فلا معنى له؛ لأنه غيرُ ظاهر في اللغة.




10- ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحدٌ، وهو الواحد الصمد[5].




ومِن حق الكلام أن يُحمَل على حقيقته حتى تتَّفِق الأمةُ أنه أُريد به المجازُ؛ إذ لا سبيلَ إلى اتِّباع ما أُنزِل إلينا مِن ربنا إلا على ذلك، وإنما يُوجَّه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهِه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم.




11- ولو ساغ ادِّعاء المجاز لكل مدَّعٍ، ما ثبت شيء من العبارات، وجلَّ اللهُ عز وجل عن أن يُخاطِب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين.




12- والاستواء معلومٌ في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه.




13- قال أبو عُبيدة في قوله تعالى: ﴿ اسْتَوَى ﴾، قال: علا، قال: وتقول العرب استويتُ فوق الدابة، واستويتُ فوق البيت، وقال غيره: استوى؛ أي: انتهى شبابه واستقرَّ، فلم يكن في شبابه مزيدٌ[6].




14- قال أبو عمر: (الاستواءُ: الاستقرارُ في العلو)، وبهذا خاطبنا الله عز وجل، وقال: ﴿ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ [الزخرف: 13]، وقال: ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ [هود: 44]، وقال: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ﴾ [المؤمنون: 28]، وقال الشاعر:

فأوردتُهم ماءً بفيفاءَ قَفْرةٍ ♦♦♦ وقد حلَّق النجمُ اليَمانيُّ فاستوى




وهذا لا يجوز أن يتأوَّل فيه أحدٌ استولى؛ لأن النجم لا يستولي.




15- وقد ذكر النَّضر بن شُمَيل - وكان ثقةً مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة - قال:

"حدثني الخليل - وحسبُك بالخليل - قال: أتيتُ أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم مَن رأيت، فإذا هو على سطحٍ، فسلَّمنا فردَّ علينا السلام وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرينَ ولم ندرِ ما قال، قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليلُ: هو مِن قول الله عز وجل: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [فصلت: 11]، فصعِدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير وماء نمير، فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلامًا، فلم ندرِ ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركةً، لا خير فيها ولا شر، قال الخليل هو مِن قول الله عز وجل: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]".




16- وأما نزع مَن نزع منهم بحديثٍ يرويه عبدالله بن واقد الواسطي عن إبراهيم بن عبدالصمد عن عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.

فالجواب عن هذا أن هذا حديث منكر عن ابن عباس، ونقلته مجهولون ضعفاء!

فأما عبدالله بن داود الواسطي وعبدالوهَّاب بن مجاهد، فضعيفان، وإبراهيم بن عبدالصمد مجهولٌ لا يعرف.

وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقَلوا أو أنصفوا؟!




17- أمَا سمِعوا الله عز وجل؛ حيث يقول: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 36، 37]؟! فدلَّ على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعونُ يظنه كاذبًا.



فسبحان مَن لا يقدر الخلقُ قدرَه

ومَن هو فوق العرشِ فردٌ موحَّدُ



مَليكٌ على عرشِ السماءِ مُهيمنٌ

لعزَّته تعنُو الوجوهُ وتَسجُدُ






وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول في وصف الملائكة:



فمِن حاملٍ إحدى قوائمِ عرشِهِ

ولولا إلهُ الخلقِ كَلُّوا وأبلدوا



قيامٌ على الأقدامِ عانون تحتَهُ

فرائضُهم من شدةِ الخوف ترعدُ






18- قال أبو عمر: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾ [الزخرف: 84]، وبقوله: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 3]، وبقوله: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾ [المجادلة: 7]، الآيةَ، وزعموا أن الله تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى.

قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إلهٌ معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير، فظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش، والاختلاف في ذلك بيننا فقط، وأسعد الناس به مَن ساعده الظاهر.




19- وأما قولُه في الآية الأخرى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾، فالإجماع والاتفاق قد بيَّن المرادَ بأنه معبودٌ مِن أهل الأرض، فتدبَّر هذا، فإنه قاطع إن شاء الله.




20- ومن الحجة أيضًا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع، أن الموحِّدين أجمعين - من العرب والعجم - إذا كربهم أمرٌ، أو نزلت بهم شدة، رفَعوا وجوهَهم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يؤنِّبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.




21- وقد قال صلى الله عليه وسلم للأَمَةِ التي أراد مولاها عتقَها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: ((أين الله؟))، فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: ((مَن أنا؟))، قالت: رسولُ الله، قال: ((أعتِقْها، فإنها مؤمنة))، فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.




22- أخبرنا عبيد بن محمد قال: حدثنا عبدالله بن مسرور قال: حدثنا عيسى بن مسكين قال: حدثنا محمد بن سنجر قال: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم قال: أطلقتُ غُنيمة لي ترعاها جارية لي في ناحية أُحُدٍ، فوجدت الذئب قد أصاب شاةً منها، وأنا رجل من بني آدم، آسفُ كما يأسَفون، فصكَكْتُها صكَّةً، ثم انصرفتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه، فعظم عليَّ، قال: فقلتُ: يا رسول الله، فهلَّا أعتِقُها، قال: ((فأتِني بها))، قال: فجئتُ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: ((أين اللهُ؟))، فقالت: في السماء، فقال: ((مَن أنا؟))، قالت: أنت رسول الله، قال: ((إنها مؤمنة، فأعتِقْها))[7].




مختصرٌ، أنا اختصرتُه من حديثه الطويل من رواية الأوزاعي، وهو من حديث مالك أيضًا، وسيأتي في موضعه من كتابنا إن شاء الله[8].




23- وأما احتجاجُهم: لو كان في مكانٍ لأشبهَ المخلوقاتِ؛ لأن ما أحاطَتْ به الأمكنةُ واحتوَتْه، مخلوقٌ - فشيءٌ لا يلزَم، ولا معنى له؛ لأنه عز وجل ليس كمثلِه شيءٌ من خلقه، ولا يُقاس بشيء مِن بريته، لا يُدرَك بقياس، ولا يُقاس بالناس، لا إله إلا هو، كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسماوات والأرض وما بينهما، وهو الباقي بعد كل شيءٍ، وخالق كل شيء لا شريك له.




24- وقد قال المسلمون وكلُّ ذي عقلٍ: (إنه لا يُعقَلُ كائنٌ لا في مكانٍ منا، وما ليس في مكانٍ، فهو عدمٌ).




25- وقد صح في المعقول، وثبت بالواضح من الدليل، أنه كان في الأزل لا في مكانٍ، وليس بمعدوم، فكيف يقاسُ على شيءٍ مِن خلقه، أو يجري بينه وبينهم تمثيلٌ أو تشبيه؟!




تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، الذي لا يبلغ مَن وصفه إلا إلى ما وصَف به نفسه، أو وصفه به نبيُّه ورسولُه [صلى الله عليه وسلم]، أو اجتمعَتْ عليه الأمة الحنيفيَّة عنه.




26- فإن قال قائل منهم: إنَّا وصَفنا ربَّنا أنه كان لا في مكانَ، ثم خلق الأماكن، فصار في مكان، وفي ذلك إقرارٌ منا بالتغيير والانتقال؛ إذ زال عن صفتِه في الأزل وصار في مكان دون مكان.

قيل له: وكذلك زعمتَ أنت أنه كان لا في مكان، وانتقل إلى صفةٍ هي الكونُ في كل مكان، فقد تغيَّر عندك معبودك، وانتقل مِن (لا مكان) إلى كل مكان، وهذا لا ينفكُّ منه؛ لأنه إن زعم أنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن، فقد أوجب الأماكن، والأشياء موجودةٌ معه في أزله، وهذا فاسد!

فإن قيل: فهل يجوز عندك أن ينتقلَ مِن لا مكان في الأزل إلى مكان؟

قيل له: أما الانتقال وتغيُّر الحال، فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه؛ لأن كونه في الأزل لا يُوجِب مكانًا، وكذلك نقله لا يوجب مكانًا، وليس في ذلك كالخلق؛ لأن كونَ ما كونه يُوجِب مكانًا من الخلق ونقلتُه تُوجِب مكانًا ويصير منتقلًا من مكان إلى مكان، والله عز وجل ليس كذلك؛ لأنه في الأزل غيرُ كائنٍ في مكان، وكذلك نقلته لا تُوجب مكانًا، وهذا ما لا تقدر العقول على دفعه.

ولكنا نقول: استوى مِن لا مكان إلى مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحدًا.

ألا ترى أنا نقول: له العرش، ولا نقول له سرير، ومعناهما واحد.

ونقول: هو الحكيم، ولا نقول هو العاقل.

ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول صديق إبراهيم، وإن كان المعنى في ذلك كله واحدًا.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 16-02-2020, 03:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد

شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد
محمد لطفي الدرعمي







27- لا نُسمِّيه ولا نصِفُه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه، على ما تقدَّم ذكرنا له من وصفه لنفسه لا شريك له، ولا ندفع ما وصف به نفسه؛ لأنه دفع للقرآن.
وقد قال الله عز وجل: ï´؟ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ï´¾ [الفجر: 22]، وليس مجيئُه حركةً ولا زوالًا ولا انتقالًا؛ لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسمًا أو جوهرًا، فلما ثبت أنه ليس بجسمٍ ولا جوهر، لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا نقلة[9].
ولو اعتبرت ذلك بقولهم: جاءت فلانًا قيامتُه، وجاءَه الموتُ، وجاءه المرضُ، وشبه ذلك مما هو موجودٌ نازلٌ به، ولا مجيء؛ لَبَانَ لك، وبالله العصمة والتوفيق.


28- فإن قال: إنه لا يكون مستويًا على مكان إلا مقرونًا بالتكييف.
قيل: قد يكون الاستواء واجبًا، والتكييف مرتفعًا، وليس رفعُ التكييف يُوجِب رفع الاستواء، ولو لزم هذا لزم التكييف في الأزل؛ لأنه لا يكون كائنٌ في لا مكان إلا مقرونًا بالتكييف، وقد عقَلْنا وأدرَكْنا بحواسِّنا أن لنا أرواحًا في أبداننا، ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفية (على عرشه) يوجب أنه ليس على عرشه.


29- أخبرنا عبدالوارث بن سفيان قال: حدَّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن عبدالله الخزاعي قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حرس، عن عمه أبي رُزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلُقَ السماء والأرض؟ قال: ((كان ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء))[10].

30- قال أبو عمر: قال غيره في هذا الحديث: ((كان في عماء، فوقه هواء وتحته هواء))، والهاء في قوله: (فوقه وتحته) راجعةٌ إلى العماء.


31- وقال أبو عُبيد: العَماء هو الغمام، وهو ممدود.
وقال ثعلب: هو عَمى مقصور؛ أي: في عمى عن خلقه، والمقصود الظُّلَم، ومَن عمي عن شيء، فقد أظلم عليه[11].


32- أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن عبدالمؤمن قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا سريج بن النعمان قال: حدثنا عبدالله بن نافع قال: قال مالك بن أنس: (الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه مكان)[12].
قال: وقيل لمالكٍ: ï´؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾ [طه: 5]، كيف استوى؟ فقال مالكٌ رحمه الله: (استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء)[13].


33- وقد روينا عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنه قال في قول الله عز وجل: ï´؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾ [طه: 5]، مثلَ قول مالك هذا سواء.
34- وأما احتجاجهم بقوله عز وجل: ï´؟ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ï´¾ [المجادلة: 7]، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين - الذين حملت عنهم التأويل في القرآن - قالوا في تأويل هذه الآية: (هو على العرش، وعلمه في كل مكان)[14]، وما خالفهم في ذلك أحدٌ يُحتجُّ بقوله.


35- ذكر سنيد عن مقاتل بن حيان عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ï´؟ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ï´¾ [المجادلة: 7]، الآيةَ، قال: (هو على عرشه، وعلمه معهم أين ما كانوا).
قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثلَه.
قال سنيد: وحدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بَهْدلة عن زِرِّ بن حُبيش عن ابن مسعود قال: (الله فوق العرش لا يخفَى عليه شيء من أعمالكم)[15].
قال سنيد: وحدثنا هشيم عن أبي بشر عن مجاهد قال: (إن بين العرش وبين الملائكة سبعين حجابًا؛ حجاب من نور وحجاب من ظلمة).


36- وأخبرنا إبراهيم بن شاكر قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن عثمان قال: حدثنا سعيد بن جبير وسعيد بن عثمان قالا: حدثنا أحمد بن عبدالله بن صالح قال: حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زِرِّ عن عبدالله بن مسعود قال: (ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة، والعرش على الماء، والله تبارك وتعالى على العرش يعلم أعمالكم)[16].


37- قال أبو عمر: لا أعلم في هذا الباب حديثًا مرفوعًا إلا حديث عبدالله بن عميرة، وهو حديث مشهور بهذا الإسناد؛ رواه عن سماك جماعةٌ؛ منهم: (أبو خالد الدالاني، وعمر بن أبي عمرو بن أبي قيس، وشعيب بن أبي خالد، وابن أبي المقدام، وإبراهيم بن طهمان، والوليد بن أبي ثور)، وهو حديث كوفي.


38- أخبرنا عبدالله بن محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود، وأنبأنا عبدالوارث: حدثنا قاسم: حدثنا محمد بن إسماعيل قالا: حدثنا محمد بن الصباح الدولابي البزار قال: حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبدالله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبدالمطلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى سحابة مرَّت، فقال: ((ما تُسمُّون هذه؟))، قالوا: السحاب، قال: ((والمُزْن))، قالوا: والمُزْن، قال: ((والعنان))، قالوا: نعم، قال: ((كم تَرَون بينكم وبين السماءِ))، قالوا: لا ندري، قال: ((بينكم وبينها إمَّا واحدة، أو اثنتين[17]، أو ثلاث وسبعون سنةً، والسماء فوقها كذلك بينهما مثل ذلك))، حتى عدَّ سبع سماوات، ((ثم فوق السماءِ السابعة بحرٌ، بين أعلاه وأسفله كما بين سماءً إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانيةُ أَوْعالٍ[18]، بين أظلافِهم ورُكَبِهم مثلُ ما بين سماء إلى سماء، ثم اللهُ فوق ذلك)).


وفي رواية فروة بن أبي المغراء هذا الحديث عن الوليد بن أبي ثور قال في الأَوْعالِ: ((ما بين رؤوسهم إلى أظلافهم مثل ذلك))؛ يعني ما بين سماء إلى سماء، ((ثم فوقهم العرشُ، ما بين أعلاه وأسفله مثل ذلك، ثم الله فوق ذلك)) [19].
وفيه حديث جُبير بن مطعم مرفوعًا أيضًا.


39- وأخبرنا عبدالوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا يحيى بن مَعين قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعتُ محمد بن إسحاق يُحدِّث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاع العيال، ونهكت الأموال، فاستَسْقِ الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك، أتدري ما تقول؟))، وسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يُسبِّح حتى عُرِف ذلك في وجوهِ أصحابه، ثم قال: ((ويحَك، إنه لا يُستَشفَع بالله على أحدٍ مِن خلقه، شأن الله أعظمُ من ذلك، ويحك، وتدري ما الله؟ إن الله على عرشه، على سماواته وأرضه لهكذا - وأشار بأصابعه الخمس - مثل القُبَّة))، وأشار يحيى بن معين بأصابعه كهيئة القبَّة، ((وإنه ليئِطُّ أَطِيطَ الرَّحْل بالراكب))[20].


40- أخبرني أبو القاسم خلف بن القاسم قال: حدثنا عبدالله بن جعفر بن الورد قال: حدثنا أحمد بن إسحاق بن واضح قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق قال: حدثنا عبدالله بن موسى الضبي قال: سألتُ سفيان الثوري عن قوله تعالى: ï´؟ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ï´¾ [الحديد: 4]، قال: علمُه.
قال علي بن الحسن: وسمعتُ ابن المبارك يقول: "إن كان بخراسانَ أحدٌ من الأبدال، فهو معدانُ".


41- قال أبو داود: وحدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثنا يحيى بن موسى وعلي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك قال:
الرب تبارك وتعالى على السماء السابعة على العرش، قيل له: بحدٍّ ذلك؟ قال: نعم، هو على العرش فوق سبع سماوات.
قال: وحدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثني محمد بن عمرو الكلابي قال: سمعتُ وكيعًا يقول: كَفَر بِشْر بن المِرِّيسي في صفته هذه، قال: هو في كل شيء، قيل له: وفي قَلَنْسُوَتِك هذه؟ قال: نعم، قيل له: وفي جوفِ حمار؟ قال: نعم.


42- وقال عبدالله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجَهْميَّة.


43- وأما قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ((ينزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا))، فقد أكثر الناسُ التنازعَ فيه.
والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزلُ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُصدِّقون بهذا الحديث، ولا يُكيِّفون.
والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة.


44- وقد قال قومٌ من أهل الأثر أيضًا: إنه ينزلُ أمرُه وتنزلُ رحمته، ورُوِي ذلك عن حبيب كاتبِ مالكٍ وغيره، وأنكره منهم آخرون، وقالوا: هذا ليس بشيء؛ لأن أمرَه ورحمته لا يزالانِ ينزلان أبدًا في الليل والنهار، وتعالى المَلِكُ الجبَّار الذي إذا أراد أمرًا قال له كُنْ فيكون، في أي وقت شاء، ويختصُّ برحمته مَن يشاء متى شاء، لا إله إلا هو الكبيرُ المتعالِ.


45- وقد روى محمد بن علي الجبلي - وكان من ثقاتِ المسلمين بالقيروان - قال: حدَّثنا جامع بن سوادة بمصر قال: حدثنا مطرف عن مالك بن أنس أنه سُئِل عن الحديث: ((إن الله ينزلُ في الليل إلى سماء الدنيا))، فقال مالك: يتنزَّل أمرُه.
وقد يحتمل أن يكون كما قال مالكٌ رحمه الله على معنى أنه تتنزَّل رحمتُه وقضاؤه بالعفو والاستجابة، وذلك من أمرِه؛ أي أكثر ما يكون ذلك في ذلك الوقت، والله أعلم؛ ولذلك ما جاء فيه الترغيب في الدعاء.
وقد روي من حديث أبي ذر أنه قال: يا رسول الله، أيُّ الليل أسمع؟ قال: ((جوف الليل الغابر))؛ يعني الآخر، وهذا على معنى ما ذكرنا، ويكون ذلك الوقت مندوبًا فيه إلى الدعاء، كما ندب إلى الدعاء عند الزوال وعند النداء وعند نزول غيث السماء، وما كان مثله من الساعات المستجاب فيها الدعاء، والله أعلم.


46- وقال آخرون: ينزل بذاتِه.
أخبرنا أحمد بن عبدالله أن أباه أخبره قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح بمصر قال: سمعت نُعَيم بن حماد يقول: حديث النزول يردُّ على الجهمية قولَهم، قال: وقال نُعيم: ينزل بذاته وهو على كرسيِّه.


47- قال أبو عمر: ليس هذا بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة؛ لأن هذا كيفيَّة، وهم يفزعون منها؛ لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عيانًا، وقد جلَّ الله وتعالى عن ذلك، وما غاب عن العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نتعدَّى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير، فإنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.


48- قال أبو عمر: أهل السنة مُجْمِعون على الإقرار بالصفات الواردة كلِّها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملِها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يَحُدُّون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج، فكلهم يُنكِرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن مَن أقرَّ بها مُشبِّه، وهم عند مَن أثبتها نافُون للمعبود.
والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسُنَّة رسوله، وهم أئمة الجماعة، والحمد لله.


49- روى حرملة بن يحيى قال: سمعت عبدالله بن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: (مَن وصف شيئًا من ذات الله مثل قولِه: ï´؟ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ï´¾ [المائدة: 64]، وأشار بيده إلى عنقه، ومثل قوله: ï´؟ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]، فأشار إلى عينَيْه أو أذنِه أو شيئًا من بدنه - قُطِع ذلك منه؛ لأنه شبَّه اللهَ بنفسِه!
ثم قال مالك: أما سمعت قولَ البراء حين حدَّث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُضحَّى بأربعٍ من الضحايا))، وأشار البراء بيده كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده، قال البراء: ويدي أقصرُ مِن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكَرِه البراءُ أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إجلالًا له، وهو مخلوقٌ، فكيف الخالق الذي ليس كمثله شيء؟!


50- أخبرنا عبدالله بن محمد بن بكر: حدثنا أبو داود: حدثنا هارون بن معروف: حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزالُ الناسُ يتساءلون حتى يقولوا: هذا خلق الله الخلق، فمَن خلق الله؟ فمَن وجد من ذلك شيئًا فليَقُلْ: آمنتُ بالله)).


51- وأخبرنا عبدالله حدثنا محمد: حدثنا أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو: حدثنا سلمة بن الفضل: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني عتبة بن مسلم مولى بني تميم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، قال: ((فإذا قالوا ذلك، فقولوا: الله أحدٌ، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم ليتفُلْ عن يساره ثلاثًا، وليستعِذْ باللهِ من الشيطان الرجيم))[21].


52- وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال: (لا تقومُ الساعةُ حتى تكونَ خصومةُ الناسِ في ربِّهم)[22].
وقد رُوي ذلك مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم[23].
وقال سحنون: مِن العلم بالله الجهلُ بما لم يُخبِر به عن نفسه.
وهذا الكلام أخذه سحنون عن ابن الماجشون، قال: أخبرني الثقة عن الثقة عن الحسن بن أبي الحسن قال: لقد تكلَّم مُطرِّف بن عبدالله بن الشخِّير على هذه الأعواد، بكلامٍ ما قيل قبله ولا يقال بعده، قالوا: وما هو يا أبا سعيد؟ قال: قال: الحمد لله الذي مِن الإيمانِ به الجهلُ بغيرِ ما وصف مِن نفسِه.


53- أخبرنا أحمد بن محمد قال: حدثنا الحسن بن سلمة قال: حدثنا ابن الجارود قال: حدثنا سحنون بن منصور قال: قلتُ لأحمد بن حنبل: ينزلُ ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ حين يبقى ثُلُث الليل الآخر إلى السماء الدنيا، أليس تقول بهذه الأحاديث، و((يرى أهل الجنة ربَّهم))[24]، وبحديث ((لا تُقبِّحوا الوجوه؛ فإن الله خلق آدم على صورته))[25]، و((اشتَكَتِ النار إلى ربها حتى يضع الله فيها قَدَمَه))[26]، وأن موسى عليه السلام لطم مَلَك الموت صلوات الله عليه[27]؟
قال أحمد: كل هذا صحيح.
وقال إسحاق: كل هذا صحيح، ولا يَدَعُه إلا مبتدعٌ أو ضعيف الرأي.
قال أبو عمر: (الذي عليه أهل السُّنة وأئمة الفقهِ والأثرِ في هذه المسألة وما أشبهها، الإيمانُ بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديقُ بذلك، وتركُ التحديد والكيفيَّة في شيء منه).


54- أخبرنا أبو القاسم خلف بن القاسم قال: حدثنا عبدالله بن جعفر بن الورد قال: حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم عن أحمد بن نصر أنه سأل سفيان بن عُيَينة قال:
حديث عبدالله: ((إن الله عز وجل يجعَلُ السماءَ على أصبع))[28]، وحديث: ((إن قلوبَ بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن))[29]، و((إنَّ الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق))[30]، وأنه عز وجل ((ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة)) ، ونحو هذه الأحاديث، فقال:
هذه الأحاديث نَرْويها ونُقِرُّ بها كما جاءَتْ بلا كيف.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 16-02-2020, 03:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,491
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد

شرح حديث النزول لابن عبدالبر (ت 463 هـ) من كتابه التمهيد
محمد لطفي الدرعمي






55- قال أبو داود: وحدثنا الحسن بن محمد قال: سمعت الهيثم بن خارجة قال: حدثني الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات، فقالوا: (أمِرُّوها كما جاءَتْ بلا كيف).


56- وذكر عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: شهِدتُ زكريا بن عدي سأل وكيع بن الجراح، فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث - يعني مثل (الكرسي موضع القدمين)، ونحو هذا - فقال: أدركتُ إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعرًا يُحدِّثون بهذه الأحاديث، ولا يُفسِّرون شيئًا.
قال عباس بن محمد الدوري: وسمعت أبا عُبيد القاسم بن سلَّام، وذكر له عن رجل من أهل السنة أنه كان يقول: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية والكرسي موضع القدمين، وضحك ربنا من قنوط عباده، وأن جهنم لتمتلئ، وأشباه هذه الأحاديث، وقالوا: إن فلانًا يقول: يقع في قلوبنا أن هذه الأحاديث حق، فقال: ضعفتم عندي أمره، هذه الأحاديث حق لا شك فيها، رواها الثقاتُ بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسير هذه الأحاديث لم نُفسِّرها، ولم نذكر أحدًا يُفسِّرها.
وقد كان مالكٌ يُنكِر على مَن حدَّث بمثل هذه الأحاديث؛ ذكره أصبغ وعيسى عن ابن القاسم قال: سألت مالكًا عمَّن يحدث الحديث: ((إن الله خلق آدم على صورته))، والحديث: ((إن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة))، وإنه يدخل في النار يده حتى يخرج مَن أراد، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، ونهى أن يحدث به أحدًا.
وإنما كرِه ذلك مالكٌ خشيةَ الخوض في التشبيه بكيف هاهنا.


57- وأخبرنا أحمد بن عبدالله بن محمد بن علي قال: حدثني أبي قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: سمعت ابن وضاح: سألتُ يحيى بن مَعِين عن التنزُّل، فقال: أقرَّ به ولا تحدَّ فيه بقولٍ، كل مَن لقيتُ من أهل السنة يُصدِّق بحديث التنزُّل.
قال: وقال لي ابن معين: صدِّقْ به ولا تَصِفْه.


58- وحدثنا أحمد بن سعيد بن بشر قال: حدثنا ابن أبي دليم قال: حدثنا ابن وضاح قال: سألت يحيى بن معين عن التنزل، فقال: أقرَّ به ولا تحدَّ فيه.


59- وأخبرنا محمد بن عبد الملك قال: حدثنا عبدالله بن يونس قال: حدثنا بقي بن مخلد قال: حدثنا بكار بن عبدالله القرشي قال: حدثنا مهدي بن جعفر عن مالك بن أنس أنه سأله عن قول الله عز وجل: ï´؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾ [طه: 5]، كيف استوى؟ قال: فأطرق مالكٌ، ثم قال: (استواؤه مجهول، والفعل منه غير معقول، والمسألة عن هذا بدعةٌ).


60- قال بقي: وحدثنا أيوب بن صلاح المخزومي بالرملة قال: كنا عند مالك؛ إذ جاءه عراقي، فقال له: يا أبا عبدالله، مسألة أريد أن أسألك عنها، فطأطأ مالكٌ رأسَه، فقال له: يا أبا عبدالله، ï´؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾ [طه: 5]، كيف استوى؟


قال: (سألتَ عن غير مجهول، وتكلَّمت في غير معقول، إنك امرؤ سوء، أخرجوه)، فأخذوا بضبعَيْه فأخرجوه.


61- وقال يحيى بن إبراهيم بن مزين: إنما كرِه مالكٌ أن يتحدَّث بتلك الأحاديث؛ لأن فيها حدًّا وصفةً وتشبيهًا، والنجاةُ في هذا الانتهاءُ إلى ما قال الله عز وجل ووصف به نفسه، بوجه، ويدين، وبسط، واستواء، وكلام، فقال: ï´؟ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ï´¾ [البقرة: 115]، وقال: ï´؟ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ï´¾ [المائدة: 64]، وقال: ï´؟ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه ï´¾ [الزمر: 67]، وقال: ï´؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾ [طه: 5]، فليقل قائلٌ بما قال الله، ولينتَهِ إليه ولا يَعْدُهُ[31] ولا يُفسِّره، ولا يَقُلْ كيف؛ فإن في ذلك الهلاك؛ لأن الله كلَّف عبيده الإيمان بالتنزيل، ولم يُكلِّفْهم الخوضَ في التأويل الذي لا يعلمه غيره.


62- وقد بلغني عن ابن القاسم أنه لم يرَ بأسًا برواية الحديث أن الله ضحك؛ وذلك لأن الضحك من الله والتنزل والملالة والتعجب منه، ليس على جهةِ ما يكون من عباده.

63- قال أبو عمر: الذي أقول إنه مَن نظر إلى إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وعبدالرحمن، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجًا - علِم أن الله عز وجل لم يعرِفْه واحدٌ منهم إلا بتصديقِ النبيِّينَ بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا مِن قِبَل حركة، ولا مِن باب الكل والبعض، ولا مِن باب كان ويكون، ولو كان النظرُ في الحركة والسكون عليهم واجبًا، وفي الجسم ونفيِه والتشبيه ونفيه لازمًا، ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجبَ ما نطق القرآن بتزكيتِهم وتقديمهم، ولا أطنَبَ في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملِهم مشهورًا أو من أخلاقهم معروفًا، لاستفاض عنهم ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات.


64- وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) عندهم مثلُ قول الله عز وجل: ï´؟ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ï´¾ [الأعراف: 143]، ومثلُ قوله: ï´؟ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ï´¾ [الفجر: 22].
كلُّهم يقول: ينزل ويتجلَّى ويجيء بلا كيف، لا يقولون كيف يجيء وكيف يتجلَّى وكيف ينزل، ولا مِن أين جاء ولا من أين تجلى ولا من أين ينزل؛ لأنه ليس كشيءٍ من خلقه، وتعالى عن الأشياء، ولا شريك له.


65- وفي قول الله عز وجل: ï´؟ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ï´¾ [الأعراف: 143]، دلالةٌ واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجلِّيًا للجبل.
وفي ذلك ما يُفسِّر معنى حديث التنزيل[32]، ومَن أراد أن يقفَ على أقاويل العلماء في قوله عز وجل: ï´؟ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ï´¾ [الأعراف: 143]، فلينظُرْ في تفسير بقي بن مخلد ومحمد بن جَرير، وليقِفْ على ما ذَكَرا مِن ذاك؛ ففيما ذكرا منه كفاية، وبالله العصمة والتوفيق[33].


66- وفي قول الله عز وجل: ï´؟ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ï´¾ [الأعراف: 143]، دلالةٌ واضحةُ لمَن أراد الله هُداه، أنه يُرى إذا شاء، ولم يشأ ذلك في الدنيا بقوله: ï´؟ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ï´¾ [الأنعام: 103]، وقد شاء ذلك في الجنةِ بقوله: ï´؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 22، 23]، ولو كان لا يراه أهل الجنة لما قال: ï´؟ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ï´¾ [الأعراف: 143].
وفي هذا بيان أنه لا يُرى في الدنيا؛ لأن أبصار الخلائق لم تُعْطَ في الدنيا تلك القوةَ.
والدليلُ على أنه ممكن أن يُرى في الآخرة بشرطِه في الرؤية، ما يمكن من استقرار الجبلِ ولا يستحيل وقوعه، ولو كان محالًا كونُ الرؤية لقيَّدها بما يستحيل وجودَه، كما فعل بدخول الكافرين الجنة قيَّد قبل ذلك بما يستحيل من دخول الجَمَل سَمَّ الخياط.
ولا يشك مسلمٌ أن موسى كان عارفًا بربِّه وما يجوز عليه، فلو كان عنده مستحيلًا لم يسأَلْه ذلك، ولَكَان بسؤاله إياه كافرًا كما لو سأله أن يتَّخِذ شريكًا أو صاحبة، وإذا امتنع أن يُرى في الدنيا بما ذكرنا، لم يكن لقوله: ï´؟ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 23] وجهٌ إلا النظر إليه في القيامة على ما جاء في الآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل اللسان.
وجعل الله عز وجل الرؤيةَ لأوليائه يوم القيامة، ومنعها من أعدائه، ألم تسمَعْ إلى قوله عز وجل: ï´؟ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ï´¾ [المطففين: 15]، وإنما يحتَجِب الله عن أعدائه المكذِّبين، ويتجلَّى لأوليائه المؤمنين، وهذا معنى قول مالكٍ في تفسير هذه الآية[34].


67- وأما قوله في تأويل قول الله عز وجل: ï´؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 22، 23]، فإن أشهب روى عن مالكٍ أنه سمِعه وسُئِل عن قول الله تعالى: ï´؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 22، 23]، قال: (ينظرون إلى الله عز وجل، قال موسى: ï´؟ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ï´¾ [الأعراف: 143].
وعلى هذا التأويل في هذه الآية جماعةُ أهل السنة وأئمة الحديث والرأي.


68- ذكر أسد بن موسى قال: حدثنا جَرير عن ليث عن عبدالرحمن بن سابط في قوله تعالى: ï´؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 22]، قال: مِن النعمة، ï´؟ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 23]، قال: تنظر إلى الله.


69- قال: وحدثنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلَّى بنا عمار بن ياسر وكان في دعائه: ((اللهم إني أسألك النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك))[35].


70- وقد جاء أن موسى قال له ربُّه حينئذٍ: لن تراني عينٌ إلا ماتت، إنما يراني أهلُ الجنةِ الذين لا تموت أعينُهم، ولا تَبلَى أجسادُهم[36].


71- وجاء عن الحسن أنه قال: لمَّا كلَّم موسى ربَّه دخل قلبَه من السرور بكلامه ما لم يدخل قلبَه مثلُه، فدعَتْه نفسُه إلى أن يريه نفسه.
وعن قتادة وأبي بكر بن أبي شيبة وجماعة مثل ذلك.


72- وذكر سنيد عن حجاج عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله: ï´؟ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الأعراف: 143]، قال: أول مَن آمن بك أنه لا يراك أحدٌ إلا يوم القيامة، ولو كان فيها عهِد إلى موسى قبل ذلك أنه لا يرى لم يسأَلْ ربَّه ما يعلم أنه لا يعطيه إياه، ولو كان ذلك عنده غيرَ ممكنٍ لَمَا سأله ما لا يمكن عنده.
وأهلُ البدع المخالفون لنا في هذا التأويل يقولون: إنَّ مَن جوَّز مثل هذا وأمكن عنده، فقد كَفَر، فيلزمهم تكفيرُ موسى نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بتكفيره كفرًا وجهلًا!


73- حدثنا محمد بن عبدالملك قال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ((أما إنكم ستُعرَضون على ربكم فترونه كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته))[37]، وذكر الحديث.
قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ï´؟ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى ï´¾ [يونس: 26]، قال: الجنة، ï´؟ وَزِيَادَةٌ ï´¾، قال: هو النظر إلى وجه الله عز وجل[38].
ورواه الثوري عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن سعيد بن يمان عن أبي بكر الصديق مثله.


74- وحدثنا إبراهيم بن شاكر قال: حدثنا عبدالله بن محمد بن عثمان قال: حدثنا سعيد بن جبير وسعيد بن عثمان قالا: حدثنا أحمد بن عبدالله بن صالح قال: حدثنا يزيد بن هارون/ وأخبرنا عبدالوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا عفان/ وحدثنا عبدالوارث حدثنا قاسم حدثنا إبرهيم بن عبد الرحمن قال: حدثنا عفان بن مسلم وعبيد الله بن عائشة قالوا: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي علي عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، لكم عند الله موعد يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ أَلَم يُبيِّض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويُجِرْنا من النار، ويدخلنا الجنة؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه))[39].
وقال إبراهيم: وقال الآخر: ((فينظرون إلى الله تعالى))، قال: ((فوالله، ما أعطاهم الله شيئًا أقرَّ لأعينهم ولا أحب إليه من النظر إليه))، ثم تلا هذه الآية: ï´؟ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ï´¾ [يونس: 26]، واللفظ لحديث عبدالوارث.
والآثار في هذا المعنى كثيرة جدًّا.


75- فإن قيل: فقد روى سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد في قول الله عز وجل: ï´؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 22]، قال: حسنةٌ، ï´؟ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ï´¾ [القيامة: 23]، قال: تنظر الثوابَ؛ ذكره وكيع وغيره عن سفيان.
فالجواب: أنَّا لم ندَّعِ الإجماع في هذه المسألة، ولو كانت إجماعًا ما احتجنا فيها إلى قولٍ، ولكن قول مجاهد هذا مردودٌ بالسُّنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقاويلِ الصحابة وجمهورِ السلف، وهو قولٌ عند أهل السنة مهجورٌ.
والذي عليه جماعتهم ما ثبَت في ذلك عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وليس من العلماء أحدٌ إلا وهو يُؤخَذ من قوله ويُترَك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومجاهد وإن كان أحد المقدَّمينَ في العلم بتأويل القرآن، فإن له قولينِ في تأويل اثنينِ؛ هما مهجوران عند العلماء، مرغوب عنهما؛ أحدهما هذا، والآخر قوله في قول الله عز وجل: ï´؟ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ï´¾ [الإسراء: 79].


76- حدثنا أحمد بن عبدالله حدثنا أبو أمية الطرسوسي حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد: ï´؟ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ï´¾ [الإسراء: 79]، قال: يوسع له على العرش فيجلسه معه.
وهذا قول مخالفٌ للجماعة من الصحابة ومَن بعدهم، فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية، أن المقام المحمود الشفاعة.
والكلام في هذه المسألة من جهةِ النظر يطولُ، وله موضعٌ غيرُ كتابنا هذا.
وبالله التوفيق



[1] وهو المسمَّى (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)، ويقع هذا الشرح في المجلد (7/ 128 - 160)، من مصورة مكتبة ابن تيمية، عن ط/ وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب، سنة 1387 هـ، 1967م، وهذا الجزء السابع تحقيق/ عبدالله بن الصديق.

[2] موطأ مالك برواية يحيى (570)، ت/ بشار معروف، ومن طريق مالك رواه البخاري (1145)، ومسلم [168 - (758)].

[3] هذا على لغة (أكلوني البراغيث)، ومنه قوله تعالى: ï´؟ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ï´¾ [الأنبياء: 3].

[4] ينظر: مغني اللبيب لابن هشام (2/515)، ت/ الخطيب.

[5] "قال داود بن علي: كنا عند ابن الأعرابي، فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله: ï´؟ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾؟ قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبدالله، إنما معناه استولى، فقال: اسكتْ، لا يقال استولى على الشيء حتى يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى"؛ العرش للذهبي (2/ 14)، وينظر: العلو للذهبي 2180، ولسان العرب، باب الياء فصل السين مع الواو.

[6] لسان العرب، باب الياء فصل السين مع الواو، والعرش للذهبي (1/226).

[7] مالك (2251)، ومسلم [33 - (537)].

[8] ينظر: التمهيد (9/113)، و(22/ 75 - 81).

[9] "لم ينطِقْ أحدٌ من السلف ولا الأئمة الأُوَل في حق الله تعالى بالجسم لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا بالجوهر والتحيُّز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجمَلة، لا تحق حقًّا، ولا تُبطِل باطلًا، ولهذا لم يذكُرِ الله تعالى في كتابِه فيما أنكره على اليهود وغيرِهم من الكفار ما هو مِن هذا النوع، بل هذا هو مِن الكلام المُبتدَع الذي أنكره السلفُ والأئمة"؛ اهـ، من: مجموع الفتاوى (3/ 81، 307).

[10] في مصادر التخريج: ((كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشَه على الماء))؛ رواه أحمد (16188)، وابن ماجَهْ (182)، والترمذي (3019)، وقال: وهذا حديث حسنٌ، وحسَّنه الذهبي في العلو (26).

[11] قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 304): "قال أبو عُبَيد: (لا يُدرَى كيف كان ذلك العَماء)، وفي رواية: ((كان في عمًا)) بالقصر، ومعناه ليس معه شيءٌ، وقيل: هو كل أمرٌ لا تُدرِكُه عقول بني آدم، ولا يبلغ كُنْهَه الوصفُ والفِطَن".

[12] ينظر: العلل للإمام أحمد، رواية ابنه عبدالله (1248)، (4783)، وعبدالله بن أحمد في السنة (11، 213، 532)، ومجموع الفتاوى (5/183)، ودرء التعارض (6/262)؛ لابن تيمية، وقال: (كل هذه الأسانيد صحيحة)، وصحَّحه الألباني في مختصر العلو ص140.

[13] ينظر: الدارمي في الرد على الجهمية ص66 (104)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (664)، وصحَّحه الذهبيُّ في العلو ص138 (377).

[14] ينظر: تفسير الطبري ت/ شاكر (23/237).

[15] ينظر: اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (659)، وصححه الذهبي في العرش (2/394)، والعلو (173).

[16] الطبراني في الكبير (8987).

[17] كذا في التمهيد، وفي سنن أبي داود: ((فإن بينكم وبينها إمَّا واحدةً أو اثنتينِ)).

[18] الأَوْعال، على وزن أَقْفال، ومفردها (الوَعِل) بفتحٍ فكَسْرٍ: وهي الأَرْوَى، وتُجمَع كذلك على وعول؛ والمعنى؛ أي: ملائكةٌ على صُورةِ الأَوْعال؛ النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 207)، ومختار الصحاح (و ع ل).

[19] رواه أحمد (1770)، ط/ شاكر، وقال العلامة أحمد شاكر: "ضعيفٌ جدًّا"، وأبو داود (4723)، والترمذي (3320)، وقال: حسن غريب، ويُنظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1247) لبيان تفصيل ضعفه.

[20] رواه أبو داود (4726)، وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (1/ 5): "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده مضطرب جدًّا"، وينظر: السلسلة الضعيفة للألباني (2639) لبيان تفصيل ضعفه.

[21] في التمهيد: (ويستعيذ)، والحديث رواه البخاري (7296)، وأبو داود (4722)، واللفظ له.

[22] الإبانة الكبرى لابن بطة (616)، واللفظ له، والرد على الجهمية للدارمي (22)،

[23] ينظر: علل الدارقطني (1959).

[24] ينظر: البخاري (554)، ومسلم (211)، (297).

[25] ينظر: مسلم (115)، والسُّنة لابن أبي عاصم (518)، واللفظ له.

[26] ينظر: البخاري (6661)، (7449)، ومسلم (35).

[27] ينظر: البخاري (1339)، ومسلم (157).

[28] ينظر: البخاري (4811).

[29] ينظر: مسلم (17).

[30] ينظر: المراسيل لأبي داود (75).

[31] في التمهيد: يعدوه.

[32] كذا، ولعل صوابه النزول.

[33] ينظر: تفسير الطبري (13/97) ت/ شاكر، (10/418) ت/ التركي.


[34] قال الإمام مالك بن أنس في هذه الآية: "لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه"؛ تفسير القرطبي (19/ 261).

[35] ينظر: مسند أحمد (18325).

[36] ينظر: نوادر الأصول للحكيم الترمذي (635)، والفردوس بمأثور الخطاب للديلمي (3243)، وقال محقق التمهيد: إسناده ضعيف.

[37] ينظر: البخاري (554).

[38] ينظر: الرد على الجهمية للدارمي (190)، والسنة لابن ابي عاصم (483)، والسنة لعبدالله بن أحمد (471).

[39] ينظر: البخاري (22)، ومسلم (297).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 130.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 127.25 كيلو بايت... تم توفير 2.80 كيلو بايت...بمعدل (2.15%)]