|
|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
وقفات مع سورة الحديد
وقفات مع سورة الحديد (1) فهد الشتوي المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه وقفات مع سورة الحديد أقدمها بين يدي القارئ الكريم لعل الله أن ينفع بها. من المعلوم أنه لا يمكن الإلمام بتفسير هذه السورة كله، في مثل هذا البحث الميسر، على أنَّ من معاني هذه السورة ما هو معلوم لا يحتاج إلى بيان، شأنها في ذلك شأن كثير مِن آي القرآن. وعليه؛ فإنَّ التركيز سيكون على محاوَلة معرفة الغرض الأساس للسورة، ومِن ثَمَّ معرفة الأغراض الأخرى في السورة، ومحاولة الربط بين أجزائها، وهو أمرٌ ليس بالميسور، فهو يحتاج إلى إِعمال ذهن، كما أنه يحتاج إلى الإلمام بالتفسير التحليلي للسورة؛ حتى ينتج تمييز الأغراض، ومعرفة الربط. وأمرٌ هو منَ الأهمية بمكان، ولا ينبغي التغافُل عنه، وهو أنَّ القرآن نَزَلَ بلسانِ العرب، وهذا معلوم في الجملة، وإنما الغَرَض هنا هو أنه ينبغي للمُتَخَصِّص في التفسير أن يستنطقَ اللغة؛ حتى تخرجَ له المعاني الجزلة، وتستبين الهدايات الرَّبَّانيَّة منَ الآيات. ولقدِ اهتمَّ العلماء بذلك، حتى تفرسوا في الألفاظ بحثًا عن المعاني؛ بل وغاصوا في الدقيق من ذلك؛ كغوصهم في الجليل منه؛ كل ذلك لأنهم يعلمون جلالة ما يعالجونه من تفسير آي القرآن؛ ولأنهم يعلمون أيضًا أنَّ هذا هو الطريق لمعرفة المعاني، واستخراج مكنونات الكتاب العزيز. قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - مُتَحَدِّثًا عنِ القرآن: "ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا إلا لمعنى زائد، وإن كان في ضِمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وقوله: ﴿ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ [المؤمنون: ٤٠]، وقوله: ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: ٣]، فالمعنى مع هذا أزيد منَ المعنى بدونه، فزيادة اللفظِ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى، والضم أقوى منَ الكسر، والكسر أقوى من الفتح. ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى؛ مثل: "الكُرْه"، و"الكَرْه"، فالكُره هو الشيء المكروه؛ كقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: ٢١٦]، والكَرْه المصدر؛ كقوله: ﴿ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ﴾ [التوبة: 53]، والشيءُ الذي في نفسه مَكْروه أقوى مِن نَفْس كراهة الكَارِه، وكذلك "الذِّبْح"، و"الذَّبْح"، فالذِّبْح: المذبوح؛ كقوله: ﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: ١٠٧]، والذَّبْح: الفِعْل، والذِّبْح: مَذْبُوح، وهو جسد يُذْبَحُ، فهو أكمل من نفس الفعل"[1]. وأما تناول هذه السورة، فسيكون في عدَّة مباحث، كما يلي: المبحث الأول: نزولها. المبحث الثاني: فضلها. المبحث الثالث: غرض السورة الأساس. المبحث الرابع: اسم السورة، وعلاقته بغرضها الأساس. المبحث الخامس: ارتباط السورة بما قبلها، وبما بعدها. المبحث السادس: أغراض السورة المختلفة، وفيه عدة محاور: المحور الأول: علاقة هذه الأغراض بالغرض الأساس للسورة. المحور الثاني: وجه ارتباط هذه الأغراض ببعضها. المحور الثالث: السر في ترتيب هذه الأغراض. المحور الرابع: المقررات اللغوية والبيانيَّة في هذه الأغراض، ووجه ارتباطها بالغرض الأساس للسورة. ثم الخاتمة، وفهرس المصادر والمراجع، ثم فهرس المحتويات، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. المبحث الأول نزولها قال القرطبي - رحمه الله -: "سورة الحديد مدنيَّة في قول الجميع"[2]. إن ما ذكره القرطبي غير مسلم، فقد وقع فيها اختلاف: هل هي مكيَّة أو مدنية؟ قال ابن عاشور - رحمه الله -: "وفي كون هذه السورة مدنية أو مكية اختلاف قوي، لم يختلف مثله في غيرها"[3]. وأكثر المفسرين على أنها مدنيَّة، كما أنَّ طابع السورة هو الطابع المدني، ومواضيعها تشهد بهذا، فقد ذُكِرَ فيها الفتح، وأحوال الناس قبله وبعده، وهذا الفتح سواءٌ قيل إنه فتح مكة، أم صلح الحديبية ظاهرٌ في مدنية هذه الآيات، وكذا ذكر أحوال المنافقين. ولكن أشكل على هذا ما رواه مسلمٌ في صحيحه، عن عبدالله بن مسعود، أنه قال: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الحديد: 16] إلا أربع سنين"[4]. وإسلام ابن مسعود متقدِّم، وعليه فتكون هذه الآية المذكورة قد عوتبوا بها قبل الهجرة، فتكون مكية قطعًا. ولعلَّ الجواب عن هذا أن تكونَ هذه الآية آية مكية في سورة مدنية، وهذا هو الجواب في مثل هذا الضرب منَ الآيات. ولكن يبقى التنبيه إلى أنَّ هذه الآية المكية لم توضَعْ في هذه السورة المدنية إلا لمناسبةٍ مقصودةٍ، وهذه المناسبةُ هي موافقتها لغرض السورة على ما يأتي - بإذْن الله. قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وهذه السورة مدنيَّة باتِّفاق، لم يخاطبْ بها المشركينَ بمكة"[5]، والله أعلم. المبحث الثاني فضلها قال ابن كثير - رحمه الله -: "قال الإمام أحمد: حَدَّثنا يزيد بن عبدربه، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن ابن أبي بلال، عن عِرْبَاض بن سارية، أنه حدثهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: ((إن فيهن آية أفضل من ألف آية))، والآية المشار إليها في الحديث هي - والله أعلم - قوله: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: ٣]"[6]. المبحث الثالث غرض السورة الأساس إن المتأمل في هذه السورة ليلوح له أنها قد اعتنتْ بأمرٍ مهمٍّ بالغ الأهمية في حياة الأمة المسلمة، ألا وهو أمر الإنفاق في سبيل الله، وهذا الغَرَض النبيل لا يمكن أن يَتَمَثَّل في حياة الفرد المسلم، وكذا في حياة الجماعة المسلمة؛ إلا بالإيمان الباعث الأكبر على هذا الغرض الكبير؛ ولهذا فقد قرن الإنفاق بالإيمان في سياق هذه السورة، حتى بدا هذان الغرضان كأنهما غرض واحد. على أنَّ هذين الأمرين مرادان لشأنٍ آخر، هو تحقيق التجرُّد الكامل لله - سبحانه وتعالى - والبَذْل في سبيله. وهذا الغرض قد جاء مصرَّحًا به في أول مقطع بعد مقطع الافتتاح، وهو قوله - تعالى -: ﴿ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 7]. على أنَّ مَقْطع الافتتاح إنما كان كالمهيئ لهذا الغرض الجليل، فقد قررتِ الآيات المفتتح بها عظمة الباري، بتسبيح المخلوقات له، وبَيَّنَت عظيم ملكه، وإحاطته الشاملة للزمان والمكان، فهو الأول ولا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وبَيَّنَت معيَّته الشاملة لخلقه، وعظيم سلطانه وقهره، ثم دعتِ العباد إلى الإيمان والإنفاق. وهذا الغرض ملحوظٌ في جميع السورة، فإن الآيات يوم أن دعتْ إلى هذا الغرض انتقلتْ منه إلى جزاء من حقق هذا الغرض؛ فقال - تعالى -: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]، وهذا الجزاء معلومٌ أنه يُقَرِّر هذا الغرض؛ ولهذا فإنه ذكر بعده الأطراف المناوِئة لهذا الغرض، وذكر جزاءها، ثم حثَّ المؤمنين على الخشوع والخضوع، بل واستحثهم على ذلك، حتى كأنهم قد أبطؤوا. قال سيد قطب - رحمه الله -: "هذه السورة بِجُملتها دعوةٌ للجماعة الإسلامية؛ كي يتحقق في ذاتها حقيقة إيمانها، هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله؛ فلا تضنُّ عليها بشيء، ولا تحتجز دونها شيئًا، لا الأرواح ولا الأموال، ولا خلجات القلوب، ولا ذوات الصدور، وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانيةً، بينما تعيش على الأرض، موازينها هي موازين الله، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين، كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله، فتخشع لذكره، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه"[7]. ثم دعتْ صراحًة إلى هذينِ الغرضين مرة أخرى: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [الحديد: 18 - 19]، وكأنها كررتْ ذلك للتأكيد، والحق أنه تأسيس لا تأكيد، كما يأتي بيانه في موضعه - بإذن الله. وفي قوله: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ ﴾ قراءتان، تقرران هذا الغرض الأساس في السورة على ما يأتي بيانه كذلك في موضعه - بإذن الله. ثم انتقلتِ الآيات إلى التزهيد في الدنيا؛ لقطْع العوائق الدنيوية، التي تجذب الإنسان إليها بحكم الجِبِلَّة البشرية، وعالجتها الآيات بأسلوب متين، لا يترك بعدها لطالب الحق إلا أن يتخلَّص من رهق التراب، وينطلق إلى رحب السماء. والمقطع الأخير من السورة يُبَيِّن الحل الحاسم لجميع طوائف المجتمع، يُبَيِّن الواجب على المؤمنين منَ الأخذ بالكتاب، وإقامة العدل بالميزان، والواجب عليهم كذلك من أخذ القوة في مقارعة الأعداء بالحديد، آلة الحرب وذخر المقاتل، فالمؤمن واجبٌ عليه مجاهدة المنافق، ومجاهَدة الكافر، يجاهد بالكتاب والحجة، ويجاهد بالحديد، وكل ذلك له حدوده وضوابطه الشرعية، والآيات من خلال ذلك تُبَيِّن حقيقة الدعوة، من لدن نوح - عليه السلام - أول الرسل إلى الأرض، معرِّجة على إبراهيم - عليه السلام - الخليل، وهو ونوح أبوا الأنبياء، لم يبعث نبي إلا من ذريتهما، ثم تختم بذكر عيسى - عليه السلام - وحال قومه في تحقيق العبادة، وما حباهم الله به منَ الرأفة والرحمة، وما ابتدعوه منَ الرَّهبانيَّة، التي كانوا أول مَن تنصل منها، والآيات في ذلك تحدد المعالِم الصحيحة للأمة المحمدية، التي تختم السورة ببيان أنها أفضل الأمم، وبأنها قد سبقت الأمم، بما أنعم الله عليها من الإيمان بالله، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما أكرمها به من الأجر المضاعف؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الحديد: 28]. وهذا الفضْل منَ الله يهبه لمن يشاء، وحتى يعلم أهل الكتابين أنَّ الفضْل بيده - سبحانه - وأن الله لا يقبل دينًا سواه، والله أعلم. المبحث الرابع اسم السورة وعلاقته بغرضها الأساس وهذه السورة اسمها الحديد، والحديد معدن معروف، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في خمسة مواضع: قال الله - تعالى -: ﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ﴾ [الإسراء: 50]، وقال تعالى: ﴿ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾[الكهف: 96]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ [الحج: 21]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10]، والخامسة آية الحديد هذه. والحديدُ في هذه الآيات إنما أتى في شأن القوة؛ ففي الإسراء يرد على منكري البعث بأنه سيبعثهم، وإن كانوا يستطيعون أن يمتنعوا من ذلك، فليكونوا ما شاؤوا منَ الخلق العظيم القوي، من الحجارة أو الحديد، أو غير ذلك مما هو عظيم في نفوسهم، فالله سيعيدهم. وفي الكهف استعان ذو القرنين بالحديد في بناء السد بين يأجوج ومأجوج وبين الناس. وفي سورة الحج ذكر الحديد أداة لتعذيب المجرمين في نار جهنم. وفي سبأ ذكر الله الحديد ممتنًّا به على نبي الله الكريم داود - عليه السلام - وأنه ألانه له؛ ليعمل به من آلات الحرب، الدروع وغيرها. وقد علمنا أنَّ سورة الحديد معنيَّة بالأمر بالإيمان والإنفاق، وإعداد العدَّة للجهاد في سبيل الله، حتى بينت تفاضل الناس باعتبار تفاضُلهم في تحقيق هذا الغرض؛ ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10]، وقد بينت السورة في ختامها المقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكُتُب، وهو "أن يقومَ الناسُ بالقسط في حقوق الله، وحقوق خلقه، ثم قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، فمن عدل عن الكتاب قوِّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف"[8]. وكان منَ المعلوم أن مِن أعظم ما تُعَدُّ به العدة، وتنفق فيه الأموال: هو عدة القتال، وأعظم عتاد القتال إنما هو الحديد، فالحديد آلة القوة قديمًا وحديثًا. ولهذا كانتِ المنة على نبي كريم من أنبياء الله بأن ألان الله له الحديد؛ ليعمل آلات الحرب، وهو نبي الله داود - عليه السلام – فقال – تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10، 11]، وكما قال أيضًا في آية أخرى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]. وهذه مع أنها منة من الله فإنها أيضًا حجة على المؤمنين، بأنهم لا بد أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله، وأن يأخذوا من أسباب الصناعة؛ كما أخذ نبي الله داود، وهو - عليه السلام - قدوة، أمرنا بالاقتداء به، كما هو الأمر بذلك لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90]. وداود - عليه السلام - قد ألان الله له الحديد، والمسلمون لو سعوا في إعداد العدة، فإنَّ الله يسخر لهم، ويسهل ما صعب، وقد ذكر الله أيضًا في القرآن قصة ذي القرنين، وذكر فيها ما أخذه هذا العبد الصالح منَ الأسباب لدفع ضرر قوم أشرار، وهم يأجوج ومأجوج، وكان الحديد من أعظم الأسباب التي اتخذها ليجعل سدًّا بين الناس وبين هؤلاء المفسدين، وهو سدٌّ حبسهم الله به حتى يأتي اليوم الموعود؛ كما قال - تعالى -: ﴿ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ [الكهف: 96]، وزبر الحديد: هي قطعه، والقطر: النحاس، وقيل: الحديد المذاب. والحاصلُ: أنَّ ذا القرنين استعان بالحديد؛ بل وعلم مِن شأنه صنعة أنتجتْ هذا السد المانع؛ فإنه أوقد على الحديد حتى جعله نارًا، ثم أفرغ عليه القطر حتى تماسَكَ، وهذا هو الواجب على المسلمين أن يعلموا من صنعة الحديد ما يهيئهم للسبق والمغالبة، وكل زمان له صنعته. قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - : "قال: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]، فذكر أنه أنزل الحديد أيضًا ليتبين مَن يجاهِد في سبيل الله بالحديد"[9]، والله أعلم. المبحث الخامس ارتباط السورة بما قبلها وبما بعدها قال البقاعي - رحمه الله -: "ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة منَ البعث، جاءتْ هذه لتقرير ذلك التنزيه، وتبيينه بالدليل والبرهان، والسيف والسنان؛ فقال - تعالى - كالتعليل لآخر الواقعة: ﴿ سبح ﴾. وقال السيوطي - رحمه الله -: "قال بعضهم وجه اتصالها بالواقعة، أنها قدمت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به". قلتُ: وتمامه أن أول الحديد واقع موقع العلة؛ للأمر به، وكأنه قيل: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: ٩٦]؛ لأنه: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحديد: 1][10]. وأما ارتباطها بما بعدها، فقد قال السيوطي - رحمه الله -: "أقول: لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}﴿ ﴾ [الحديد: 4]، افتتح هذه – أي: المجادلة - بذِكْر أنه سمع قول المجادلة، التي شكت إليه - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - حين نزلت: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات إني لفي ناحية البيت لا أعرف ما تقول"[11]. وأمرٌ آخر، وهو أن سورة الحديد في غرضها الأساس، وهو الدعوة للإيمان والإنفاق وإعداد العدة للجهاد في سبيل الله، أعقبتها سورة المجادلة، التي غرضها الأساس بيان الرقابة الإلهية على العبد في جميع أحواله، في المسموع والمبصر، وفي دقائق أحواله من الجهر والسر والنجوى، في كل أحواله، وكأن سورة المجادلة تقرر غرض سورة الحديد، وتؤكده ببيان الرقابة الإلهية الشاملة لجميع شؤون العبد، والله أعلم. المبحث السادس أغراض السورة المختلفة وسنتناول هذه الأغراض بالدراسة - بإذن الله - من خلال عدة محاور: المحور الأول: علاقة هذه الأغراض بالغرض الأساس للسورة. المحور الثاني: وجه ارتباط هذه الأغراض ببعضها. المحور الثالث: السر في ترتيب هذه الأغراض. المحور الرابع: المقررات اللغوية والبيانية في هذه الأغراض، ووجه ارتباطها بالغرض الأساس للسورة. وعليه؛ فإننا سوف نقسم السورة إلى مقاطع هي أغراض السورة، وسوف ندرسها مقطعًا مقطعًا من خلال المحاور المذكورة آنفًا. يتبع .. [1] "مجموع الفتاوى" 16/537 - 538. [2] "الجامع لأحكام القرآن" 17/235. [3] "التحرير والتنوير" 27/353. [4] "صحيح مسلم"، كتاب التفسير، باب في قوله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الحديد: 16] برقم (3027). [5] "مجموع الفتاوى" 7/231. [6] تفسير ابن كثير 8/5، والحديث في المسند (4/128)، وسنن أبي داود برقم (5057)، وسنن الترمذي برقم (3406)، وقال: حسن غريب، وفي "السنن الكبرى"؛ للنسائي 6/179، برقم (10549)، ورواه الدارمي بإسناد جيد مرسلاً عن خالد بن معدان؛ إذ ليس فيه إلا معاوية بن صالح بن حدير، وقد أخرج له مسلم، ووثَّقه غير واحد انظر: "تهذيب التهذيب" 10/189. [7] "في ظلال القرآن" 6/3475. [8] "السياسة الشرعية" ص 24. [9] "الجواب الصحيح" 2/241. [10] "أسرار ترتيب القرآن" ص 135. [11] السابق ص 136.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: وقفات مع سورة الحديد
وقفات مع سورة الحديد (2) فهد الشتوي المقطع الأول: وهذا المقطع فيه التذكير بعظمة الله وجلاله، وعموم إحاطته وعلمه، وشمول ملكه وقهره، ويبتدئ الأول من أول السورة حتى الآية السادسة، وهي قوله - تعالى -: ï´؟ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ï´¾ [الحديد: 6]. وقد افتتحتِ السورة بالتسبيح للمولى - سبحانه - وهذا التسبيح تَنْزِيه وتعظيم، وهو غرض هذا المقطع، وقد جاء هذا التسبيح بأقوى الصِّيغ الدالة على كمال التنزيه، وتمام الاستغراق لنعوت الجلال، وقد تَبَيَّنَ هذا الكمال، وهذا الاستغراق من عدة أوجه بيانيَّة: الوجه الأول: التعبير بالماضي في فِعل التسبيح؛ للدلالة على أن تسبيحه أمر مستقر، ثبتت دلائله وتمكنت في النفوس بأقوى الدلائل والبينات. الوجه الثاني: أنه أسند التسبيح للاسم الجليل (الله)، ثم أتبعه بإحدى عشرة صفة جامعة للكمال؛ ï´؟ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾ [الحديد: 1-3]. الوجه الثالث: أنه عدَّى فعل التسبيح باللام، وهو يَتَعَدَّى بنفسه، وهذا فيه تأكيد لهذا التنزيه والتمجيد، كما أن في هذا الحرف الدلالة إلى وجوب الإخلاص في ذلك[1]، ثم أعقب هذه الآية التي هي كالعنوان لهذا المقطع، بقوله - تعالى -: ï´؟ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾، ووجه ارتباط هذه الآية بآية الافتتاح، هو كما قال ابن عاشور - رحمه الله -: "ومضمون هذه الجملة يؤذن بتعليل تسبيح الله - تعالى - لأن من له ملك العوالم العليا والعالم الدنيوي حقيق بأن يعرف الناس صفات كماله"[2]. وفي هذه الآية ثلاث جمل، كلها يؤدي معنى الإحاطة العام، فهو - سبحانه - له ملك السماوات والأرض، وهو يحيي ويميت، وهو على كلِّ شيء قدير. والملاحَظ: أنه لم يعطف جملة الإحياء والإماتة على الجملة السابقة لها، ومعنى هذا أنه يجعل هذه الجملة من تفسير الجملة السابقة، فله ملك السماوات والأرض، ومن ملكه أنه يحيي وميت، وأما السر في تخصيص هذين الوصفين - الإحياء والإماتة - فلِما لهما من المزيَّة في إفراد الله بالربوبية؛ لأنه ما من أحد يستطيع جحدهما، كما أن فيهما الدليل القاطع على بالغ الحكمة والقدرة. ولما خص هذين الوصفين بالذكر من عموم ملكه، فقد عطف بالواو عموم قدرته على كل شيء، وهو بهذا يعمم القدرة الإلهية[3]. ثم بيَّن بعد ذلك أن ملكه العظيم للسماوات والأرض ملك دائم لا يزول، فقرر هذا بجملة مستأنفة: ï´؟ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾. وفي هذه الآية: بيان الإحاطة التامة لربِّ العالمين، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الإحاطة، بأسلوب سلبيٍّ، حين أرشد من أراد أن ينام: "أن يضطجع على شقِّه الأيمن، ثم يقول: ((اللهم ربَّ السماوات وربّ الأرض، وربّ العرش العظيم، ربنا وربّ كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شرٍّ أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول؛ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر؛ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء، وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء، اقض عنا الدَّين، وأغننا من الفقر))[4]. وهذا الأسلوب في تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الأسلوب الذي في الآية، فإنه في الآية على الأسلوب الإيجابي، وأما في الحديث ففسر بالأسلوب السلبي، والغرض من هذا الأسلوب هو بيان الإحاطة المطلقة، والله أعلم. وبعد أن بيَّن هذه الإحاطة المطلقة بيَّن معيَّته العامة، وهي معية تقتضي "الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة وسلطانًا، وسمعًا وبصرًا، وغير ذلك من معاني الربوبية"[5]. "ولهذا توعَّد ووعد على المجازاة بالأعمال بقوله: ï´؟ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ï´¾[6]، كل أعمالهم برِّها وفجورها. ثم بَيَّنَ أن له ملك السماوات والأرض، فهو مع إحاطته ومعيته لخلقه، فهو المالِك لكل شيء، ولا شيء يخرج عن قبضته، والأمور في مآلها ترجع إليه، وقد جاء ذِكْر ملكه للسماوات والأرض في أول السورة، لكن "في المرة الأولى جاء ذكرها في معرض الإحياء والإماتة، والقدرة المطلقة، وهنا يجيء ذكرها في معرض رجعة الأمور كلها إلى الله، وهي متصلة بملكية الله للسماوات والأرض ومكملة لحقيقتها. والشعور بهذه الحقيقة يحرس القلب من كلِّ لفتة لغير الله في أي أمر، في أول الأمر وفي آخره، ويحميه من التطلُّع لغير الله في أيِّ طلب، ومراقبة غير الله في أي عمل، ويقيمه على الطريق إلى الله في سرِّه وعلنه، وحركته وسكونه، وخوالجه ونجواه، وهو يعلم ألاَّ مهرب منَ الله إلا إليه، ولا ملجأ منه إلا إلى حماه"[7]. يتبع... [1] انظر: "الكشاف" 4/460، و"التفسير الكبير" 29/180 - 181، "إرشاد العقل السليم" 8/203، و"روح المعاني" 27/164 - 165، و"التحرير والتنوير" 27/356 - 357. [2] "التحرير والتنوير" 27/358. [3] انظر: "روح المعاني" 27/165، و"التحرير والتنوير" 27/358 - 359. [4] "صحيح مسلم" - كتاب الذكر والدعاء - باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم (2713). [5] "شرح العقيدة الواسطية"؛ لابن عثيمين 1/410. [6] "تيسير الكريم الرحمن" ص 778. [7] "في ظلال القرآن" 6/3481.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: وقفات مع سورة الحديد
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: وقفات مع سورة الحديد
وقفات مع سورة الحديد (4) فهد الشتوي المقطع الثالث: ويبتدئ هذا المقطع من قوله تعالى: ï´؟ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ï´¾ [الحديد: ظ،ظ¢]. وينتهي بنهاية الآية الخامسةَ عشرةَ، وهي قوله تعالى: ï´؟ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ï´¾ [الحديد: ظ،ظ¥]. وهذا المقطع مرتبط بما قبله؛ فإنه يقرر الأمر بالغرضين السابقين في صورة عجيبة فريدة، وذلك أنه "حثَّ على النفقة في سبيله؛ لأن الجهاد متوقف على النفقة فيه، وبذل الأموال في التجهز له، فقال: ï´؟ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ï´¾ [الحديد: 11]، وهي النفقة الطيبة التي تكون خالصة لوجه الله، موافقة لمرضاة الله، من مال حلال طيب، طيبة به نفسُه، وهذا من كرم الله تعالى حيث سماه قرضًا، والمال مالُه، والعبد عبده، ووعد بالمضاعفة عليه أضعافًا كثيرة، وهو الكريم الوهاب، وتلك المضاعفة محلها وموضعها يوم القيامة، يومَ كلٌّ يتبين فقرُه، ويحتاج إلى أقل شيء من الجزاء الحسن؛ ولذلك قال: ï´؟ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ï´¾ [الحديد: 12]" [1]. وهذا الجزاء هو النور الذي ينير لهم، يوم أن استنارت قلوبهم بنور الإيمان، والتبشير يقابلهم بالجنات يوم أن استبشرت قلوبهم بحقائق الدين والإيمان، وكان من تمام بيان هذا النعيم أنْ بيَّن لهم حال الفريق الذي كان يشاركهم الصورة الظاهرة في تحقيق الإيمان والإنفاق، وهو في حقيقته حرب على الإيمان والإنفاق؛ بل لهم مؤامرات باطنة يديرونها بينهم، في التواصي على ترك الإنفاق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وينفضُّوا مِن حوله، وكأن الرزق بأيديهم، كما وصف الله كَيْدَهم ذلك في سورة سُميت باسمهم، سورة المنافقون، فقال تعالى: ï´؟ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ï´¾ [المنافقون: ظ§]، وحتى هنا للتعليل - على الصحيح - وليست للغاية؛ لأنها لو كانت للغاية، لكان المعنى: لا تنفقوا على مَن عند رسول الله إلى أن ينفضوا عنه، فإذا انفضوا، فأنفقوا عليهم، وهذا المعنى غير مستقيم، وإنما الصواب: أنها للتعليل، فتكون الآية مبيِّنة كبيرَ كيدِهم في تواطئهم على الكيد للمؤمنين، واتخاذهم الإنفاقَ وسيلةً من وسائل كيدهم للإسلام وأهله؛ ولهذا فقد بيَّن الله أن خزائن السموات والأرض بيده سبحانه ولكن المنافقين عن هذه الحقيقة غافلون لا يفقهون. والله سبحانه بهذا يعلِّمنا أن نتوكَّل عليه وحده في الرزق، فلا تتعلق قلوبنا بأحدٍ سواه، ومِن توكُّلنا أيضًا ألاَّ نجزع من كيد هذا الصنف الخبيث؛ لأنه مهما كاد فإن الأمر والرزق بيد الله، ولهذا فقد أَمَر الله المؤمنين بالتصدي لهذا الكيد الغادر من المنافقين بما هو ضده، وهو أن يتخلص المؤمنون من رقِّ المال، وحبِّ الدنيا، إلى فسحة الإنفاق والبذل، وعالج هذا في نفوسهم حتى تخلص إلى تحقيق هذا الهدف، فبيَّن لهم أن حقيقة المال والولد الذي ليس في طاعة الله، إنما هو اللهو، وإذا كان نظام المال المعروف إنما هو الربح والخسارة، فقد بين لهم أن مَن ألهاه ماله وولده، فربح في الدنيا وازداد، فإنما حقيقة أمره أنه خاسر، والخسارة كلمة مؤذية لا ترغبها النفوس، وتنفر عنها وتهرب، ثم بيَّن لهم أمرًا آخر، وهو أن هذا الإنفاق إنما هو من رزق الله، وبين لهم أن الموت حقيقة هم إليها صائرون، وأن الندم لا بد أن يشملهم بلباسه القاتم إن هم تركوا الإنفاق، وفي هذا توطئة لنفوسهم وتهيئة لا تخفى؛ فقال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ï´¾ [المنافقون: 9، 10]. وهذا الكيد من المنافقين في مسألة الإنفاق يلبس ثوبًا آخرَ، فإنهم مع البخل والشح والتواصي على ذلك، يعمدون إلى كيدٍ آخر، وهو الطعن في المُنفِقين من المؤمنين، فإن كانت النفقة كبيرة قالوا: هذا مُراءٍ بنفقته، وإن كانت النفقة قليلة قالوا: الله غنيٌ عن نفقة هذا، وهم في كل هذا يريدون منع الإنفاق ليس غير. قال ابن كثير رحمه الله: "وهذه أيضًا من صفات المنافقين: لا يَسلَم أحدٌ من عيبهم ولَمزِهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدِّقون يَسلَمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُراءٍ، وإن جاء بشيء يسير، قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا؛ كما قال البخاري: حدثنا عبيدالله بن سعيد، حدثنا أبو النعمان البصري، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت: ï´؟ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ï´¾ [التوبة: 79]"[2]. وهذه السورة سورة الحديد بيَّنتْ كيد هذا الصنف الخاسر في آية واحدة، فبينت كيدهم في قطع النفقة عن المؤمنين، وبينت كيدهم في قطع نفقات الناس، وذلك بأمرهم الناس بالبخل وقطع النفقة؛ فقال تعالى: ï´؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ï´¾ [الحديد: 24]. قال ابن عاشور رحمه الله: "والمراد بـï´؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ï´¾ [الحديد: 24]: المنافقون، وقد وصفهم الله بمثل هذه الصفة في سورة النساء، وأمرهم الناس بالبخل هو الذي حكاه الله عنهم بقوله: ï´؟ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ï´¾ [المنافقون: 7]؛ أي: على المؤمنين. وجملة: ï´؟ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ï´¾ [الحديد: 24]: تذييل؛ لأن ï´؟ وَمَنْ يَتَوَلَّ ï´¾ [الحديد: 24] يعمُّ ï´؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ï´¾ [النساء: 37] وغيرهم، فإنَّ ï´؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ï´¾ [النساء: 37]؛ أي: في سبيل الله، وفي النفقات الواجبة، قد تولوا عن أمر الله، و(مَن): شرطية عامة. وجملة: ï´؟ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ï´¾ [الحديد: 24]: قائمة مقام جواب الشرط؛ لأن مضمونها علة للجواب، فالتقدير: ومن يتولَّ فلا يضر الله شيئًا، ولا يضر الفقير؛ لأن الله غني عن مال المتولِّين"[3]. وهذا المقطع وهو يبين جزاء المؤمنين المنفقين يوم القيامة، وأن جزاءهم على قدر أعمالهم؛ قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين: إنهم يوم القيامة يسعَى نورُهم بين أيديهم في عَرَصَات القيامة، بحسب أعمالهم"[4]. وأما المنافقون، فإنهم يُعطَون هذا النورَ، ثم يُسلب منهم، فيطلبون الاقتباس من المؤمنين؛ لأنهم كانوا في الدنيا معهم، قد حصل لهم نور مِن نور هذا الدِّين، ولكنهم أعرضوا عنه فأظلمت قلوبهم، والجزاء يوم القيامة من جنس العمل، فيُعطون النورَ ثم يسلب منهم، وقد وصف الله حالهم مع هذا النور في الدنيا في سورة البقرة؛ فقال تعالى: ï´؟ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ï´¾ [البقرة: 17]. وأما يوم القيامة، فقد بينتْه هذه الآيةُ من سورة الحديد، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يُسأل عن الورود، فقال: "نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا، انظر أي ذلك فوق الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تَعبُد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك، فيقول: مَن تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتَّبعونه، ويُعطى كلُّ إنسان منهم - منافقٍ أو مؤمنٍ - نورًا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليبُ وحسكٌ تأخذ مَن شاء الله، ثم يَطفَأ نورُ المنافقين، ثم ينجو المؤمنون"[5]، وإذا انطفأ نور المنافقين، حينها يطلب المؤمنون أن يُتم الله لهم نورَهم، فلا يطفأ كما أُطفئ نور المنافقين؛ كما قال الله تعالى في سورة التحريم: ï´؟ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [التحريم: 8][6]. وهذا النور الذي يُعطاه المنافقون يوم القيامة ثم يسلب منهم، هو نور خديعة؛ جزاءً لهم، كما قال تعالى: ï´؟ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ï´¾ [النساء: 142]، وكما قال تعالى: ï´؟ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ï´¾ [البقرة: 15][7]. وهم يُهانون والعياذ بالله في ذلك اليوم أشدَّ الإهانة، فمع هذه الخديعة الكبيرة لهم، والاستهزاء في شأن النور، فإنهم كذلك يُحجز بينهم وبين المؤمنين بسور له باب بين الجنة والنار، فيدخل منه المؤمنون، ويمنع منه المنافقون، فيستغيثون وينادُون المؤمنين: ï´؟ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ï´¾ [الحديد: 14]، وهم يعلمون أنهم لم يكونوا معهم إلا بالانتماء الكاذب، ولم يكونوا معهم على الصدق، وإنما وجدوا الضرورة حين مسهم العذاب، فنادوا بهذا النداء الذي له ظاهر وباطن، ظاهرُه الانتماء الظاهر الكاذب، وباطنه الانفصال التام، وهم في الدنيا كانوا يفعلون مثل ذلك، فكانوا إذا رأوا الحاجة لإظهار هذا الانتماء الكاذب، فعلوه، وإن استغنوا عنه، لم يعلنوه؛ كما قال تعالى: ï´؟ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [النساء: 141]، وجزاؤهم يوم القيامة من جنس عملهم؛ ولهذا فقد أجابهم المؤمنون بما يزيد حسرتهم، وذكروهم بفتنتهم بالكفر والنفاق، والتلبُّث في قَبول الدين، والتردد والشك، حتى وصلتم إلى ما وصلتم إليه. ومن أبلغ الإهانة لهم: أنهم بعد أن يزجَّ بهم في النار، يندمون بأنهم لا ينفعهم شيء، حتى لو أرادت نفوسهم البخيلة الشحيحة أن تفتدي بالمال، فلن يُقبَل منها، المال الذي كانوا يبخلون به، ويحرضون على منعه، لا ينفعهم ذلك اليوم. ومن التهكم بهم: أنهم يعلن لهم بأن النار مأواهم التي يأوون إليها، وأن هذه النار هي ناصرهم في استغاثتهم وندائهم: ï´؟ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ï´¾ [الحديد: 15]، وهذا كما قال تعالى: ï´؟ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ï´¾ [الكهف: 29]، وكما قال تعالى: ï´؟ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ï´¾ [الدخان: 49][8]. هذا وقد كانت الآيات - كما سبق - صارمة في بيان الحسرة، وعظيم الفاجعة التي أصابت هذا الفريقَ المخادع، وهذا كله يبين أهمية تحقيق الإيمان التحقيق الصحيح، الذي لا تشوبه شائبة؛ ولهذا فقد انتقلت الآيات إلى الغرض التالي في السورة، وهو الغرض الصريح في تأكيد هذا المعنى، وذلك حين استنهض همم القوم كالمستبطئ لهم في إدراك قلوبهم الخشوع لله، كما هو في المقطع التالي. يتبع.. [1] "تيسير الكريم الرحمن"، ص 838، 839. [2] "تفسير ابن كثير"، 4/ 184، والحديث رواه البخاري في "صحيحه"، برقم: (1415)، ومسلم في "صحيحه" برقم: (1018). [3] "التحرير والتنوير"، 27/ 413، 414. [4] "تفسير ابن كثير"، 8/ 15. [5] "صحيح مسلم"، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم: (191). [6] انظر: "مجموع الفتاوى"، 7/ 274، 275، 15/ 285. [7] انظر: "معالم التنزيل"، 8/ 35. [8] انظر: "الكشاف" 4/ 464، "البحر المحيط" 8/ 221، "روح المعاني" 27/ 178.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: وقفات مع سورة الحديد
وقفات مع سورة الحديد (5) فهد الشتوي المقطع الرابع: وهذا المقطع آيتان من السورة: ï´؟ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ï´¾ [الحديد: 16، 17]. وقد تبع هذا الاستنهاضَ للمؤمنين، وعتابهم لتحقيق الخضوع والخشوع لرب العالمين - تذكيرُهم بأنه سبحانه هو المتولي لإحياء القلوب وإماتتها. وهذه الآية وإن كانت مكية، فإنها من المكي الذي في السور المدنية، وأما وجه مناسبتها لسياق هذه السورة، فهو ظاهر؛ وذلك أن هذه السورة تستنهض هممَ المؤمنين في التجرد لله سبحانه وهي تدعو إلى الإيمان والإنفاق، وتحذر من مشابهة المنافقين، والكفار، وأهل الكتاب، وهي تبين أنه لا بد من أخذ الكتاب، ونصرة الكتاب، وإعداد العدة، وإقامة العدل، وهذا لا يتم إلا بتعاهد القلب؛ حتى لا يقسوَ كما قستْ قلوب أهل الكتاب قبلنا حين أعرضوا عنه، وهو تحذير جليل، ومعرفة وقت ذلك التحذير مهم جدًا، كما أخبرنا به ابن مسعود رضي الله عنه فإنه إذا كان التحذير قد وقع في وقت متقدم من أوقات الدعوة، فإن التحذير به في هذه السورة المدنية أولى، وهو يبين أهمية الأمر وجلالته. وقد جاء هذا الأسلوب في الاستنهاض على طريقة المضارع المجزوم بحرف (لم) مسبوقة بهمزة استفهام، و"كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ(لم)، إذا تقدمتها همزة الاستفهام - كما هنا - فيه وجهان من التفسير معروفان: الأول منهما: هو أن تقلب مضارعته ماضيَّة، ونفيه إثباتًا، فيكون بمعنى الماضي المثبت؛ لأن (لم) حرف يقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي، وهمزة الاستفهام إنكارية، فيها معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في (لم) فينفيه، ونفي النفي إثبات، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت، وعليه فالمعنى: ï´؟ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ï´¾ [الحديد: 16]؛أي: آن للذين آمنوا. والوجه الثاني: أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول: "بلى"، والمعنى على كلا القولين: أنه حان للمؤمنين وآن لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: جاء الحين والأوان لذلك؛ لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه"[1]. "والخشوع يتضمن معنيين: أحدهما: التواضع والذل، والثاني: السكون والطمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله وطمأنينته أيضًا"[2]، "وخشوع الجسد تَبَعٌ لخشوع القلب، إذا لم يكن الرجل مرائيًا يُظهِر ما ليس في قلبه، فهو سبحانه استبطأ المؤمنين بقوله: ï´؟ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ï´¾ [الحديد: 16]، فدعاهم إلى خشوع القلب لذِكره وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمدُ؛ فقستْ قلوبهم، وهؤلاء هم الذين إذا ذُكر الله وجلتْ قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، وكذلك قال في الآية الأخرى: ï´؟ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ï´¾ [الزمر: 23]، والذين يخشون ربهم هم الذين إذا ذُكر الله تعالى وجلت قلوبهم"[3]. وداء القسوة داء خطير، "وإن قومًا من هذه الأمة، ممن ينسب إلى علم أو دين، قد أخذوا من هذه الصفات بنصيب، يرى ذلك مَن له بصيرة، فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله؛ ولهذا كان السلف يحذرون هذا، فروى البخاري في "صحيحه" عن أبي الأسود قال: بعث أبو موسى رضي الله عنه إلى قُرَّاء البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن، فقال لهم: أنتم خيار أهل البصرة وقُراؤهم، فاتْلُوه ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبِّهها في الطول والشدة بـ"براءة" فأُنسيتها، غير أني قد حفظت منها: "لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى واديًا ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب"، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها: "يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون"، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة"[4]. ولا بد من مثل هذا التحذير؛ لأنه "ليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج. إن هذا القلب البشري سريعُ التقلُّب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع، فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكُّر، تبلَّد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكير هذا القلب؛ حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه؛ حتى يرق ويشف، ولا بد من اليقظة الدائمة؛ كي لا يصيبه التبلد والقساوة. ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد، وقسا وتبلد؛ فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور، وأن يخشع لذكر الله؛ فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار، كذلك القلوب حين يشاء الله: ï´؟ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ï´¾ [الحديد: 17]، وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب كما تحيا الأرض، وما يمدها بالغذاء والريِّ والدفء؛ ï´؟ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ï´¾ [الحديد: 17]"[5]. يتبع... [1] "أضواء البيان" 7/ 811، 812. [2] "مجموع الفتاوى" 7/ 28. [3] السابق 7/ 29. [4] "اقتضاء الصراط المستقيم" 1/ 291، 292، والحديث ليس في البخاري؛ بل هو في "صحيح مسلم"، كتاب الزكاة، باب لو كان لابن آدم واديان لابتغى ثالثًا، برقم: (1050). [5] "في ظلال القرآن" 6/ 3489.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: وقفات مع سورة الحديد
وقفات مع سورة الحديد (6) فهد الشتوي المقطع الخامس: وهو آيتان أيضًا، قول الله تعالى: ï´؟ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ï´¾ [الحديد: 18، 19]. وهاتان الآيتان هما غرض السورة السابقِ ذِكرُه، وكأنه أُعيد تأكيدًا لأهميته، والذي يظهر أن وراء التأكيد تأسيسًا مهمًّا؛ وذلك أن الأمر بالإيمان والإنفاق ذُكر في أول السورة، ثم ورد التعقيب عليه ببيان حال الصنف المخالف، صنف المنافقين، الذين يُظهِرون تمسُّكَهم بهذين الأمرين، وهم منهما براء، وكل ذلك - كما أسلفنا - تأكيد لأهمية الإيمان والإنفاق، أما هنا فهو يبين حال المؤمنين المتصدقين، ولكنه يظهر حالهم أمام صنفٍ آخرَ خاسرٍ، هو صنف الكافرين[1]، وكأن الشأن قد اتضح، فهو إما إيمان وإنفاق، وإما كفر ونفاق. وقد ورد هنا قراءتان في قوله تعالى: ï´؟ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ï´¾ [الحديد: 18]، فقد قرأ "ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد فيهما، من التصديق؛ أي: صدَّقوا الرسول؛ أي: آمنوا بما جاء به، ووافقهما ابن محيصن، والباقون بالتشديد فيهما، من تصدَّق؛ أعني: الصدقة، والأصل المتصدقين والمتصدقات، أدغم التاء في الصاد"[2]. والقراءتان بمنزلة آيتين، وهذا التوجيه المذكور آنفًا توجيهٌ سليم لا غبار عليه، ولكن يَرِد هنا سؤال مهم جدًّا، وهو: لماذا وردت هاتان القراءتان في هذا الموضع؟ والجواب على هذا السؤال، يتعدى مرحلة التوجيه لكل قراءة بمفردها ببيان وجهها من العربية، إلى وجه آخر أعمق، وهو الوجه الذي يبينه السياق، وأظنه القمة في توجيه القراءات؛ لأنه خطوة تتبع الخطوة السابقة، وهي الخطوة الثمرة. وهنا فإننا إذا تأملنا في سياق سورة الحديد الذي قررناه، فإننا نجد أن القراءتين تتوافقان مع هذا السياق؛ بل قل - وبكلام أدق -: إنهما تُحددان السياق، فهما دليل ومدلول عليه. ووجه ذلك: أن القراءتين تفيدان معنيين، فإحداهما تفيد المدح، والحث على الإيمان، وهي قراءة التخفيف، وهذا غرض الإيمان المعروف. وأما القراءة الثانية، وهي قراءة التشديد، فإنها تفيد المدح والثناء للمتصدقين المنفقين، وهذا هو غرض الإنفاق المعروف. وهذه الآية على وَجازتها فيها الحثُّ على النفقة بمؤكدات عديدة، كلها يبين عظمة القرآن، وتمام بلاغته وبيانه: المؤكد الأول: التأكيد بحرف التوكيد (إن) في تقرير فضل المتصدقين والمتصدقات. المؤكد الثاني: العطف بالفعل الماضي على اسم الفاعل: ï´؟ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ï´¾ [الحديد: 18]. قال الرازي رحمه الله: في الآية إشكال، وهو أن عطف الفعل على الاسم قبيح، فما الفائدة في التزامه ها هنا؟ قال صاحب "الكشاف": قوله ï´؟ وَأَقْرَضُوا ï´¾ [الحديد: 18] معطوف على معنى الفعل في ï´؟ الْمُصَّدِّقِينَ ï´¾ [الحديد: 18]؛ لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى صدقوا، كأنه قيل: إن الذين صدقوا وأقرضوا، واعلم أن هذا لا يزيل الإشكال، فإنه ليس فيه بيان أنه لِمَ عدل عن ذلك اللفظ إلى هذا اللفظ؟ والذي عندي فيه أن الألف واللام في المصدقين والمصدقات للمعهود، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذا الوصف، ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة، وهو الإتيان بالقرض الحسن، ثم ذكر الخبر بعد ذلك وهو قوله ï´؟ يُضَاعَفُ لَهُمْ ï´¾ [الحديد: 18] [3]. والذي يظهر - والله أعلم - هو أن كلام الفخر لا يستقيم؛ لثلاثة أوجه: الوجه الأول: هو أن الألف واللام في "المصدقين والمصدقات" لا تكون لمعهود، إلا بدليل نقلي، ولم يذكر الفخر دليلاً نقليًّا على ذلك. الوجه الثاني: هل يقال: إن القرض هو أحسن أنواع الصدقة؟ فإن القرض مال مسترد، والصدقة مال ذاهب نافق، وفرق بينهما. الوجه الثالث: ما المراد بالقرض الحسن في هذه الآية؟ هل المراد به السلف المسترد، أو أن المراد به مطلق الإنفاق؟ وبتحرير هذا يتبين التوجيه، والفخر رحمه الله لم يحرر المراد بالقرض هنا. وعليه؛ فالذي يظهر - والله أعلم - هو أن الألف واللام للجنس، ويبقى السؤال: ما التوجيه إذًا لهذا العدول في التعبير؟ والجواب - والله أعلم -: هو أن المراد بالقرض في الآية هو مطلق النفقة، وليس المراد به خصوص مسمى القرض، الذي هو السلف؛ لأنه قرضٌ أضيف إلى الكريم، وإنما سمي قرضًا؛ ليبين أن العبد مجازى عليه، وإذا كان الأمر على ذلك، فإن معنى الآية يكون كما يلي: 1- على قراءة التشديد في ï´؟ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ï´¾ [الحديد: 18]، فالمعنى: إن المتصدقين بأموالهم والمتصدقات إذا فعلوا ذلك؛ ابتغاء وجه الله، ورغبة في الجزاء المضاعف من الكريم، فإنه يضاعف لهم، فقوله: ï´؟ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ï´¾ [الحديد: 18]كالجملة المعترضة بين الاسم وخبره، فهي قيد في المتصدقين والمتصدقات، أنه إذا كان صنيعهم هذا نفقة في سبيل الله، فإنه يضاعف لهم، وهذا هو السر في العدول عن اسم الفاعل، فلم يقل: والمقرضين الله؛ لأنه لو قال ذلك لكان كأنه صنف آخر من المنفقين غير المتصدقين. 2- أما على قراءة التخفيف، فإن المراد بـï´؟ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ï´¾ [الحديد: 18]: هم المؤمنون والمؤمنات، وعطف بالفعل ولم يعطف باسم الفاعل؛ لأنه أراد مجموع الأمرين - الإيمان، والنفقة في سبيله - حتى تحصل المضاعفة من الكريم، ولو عطف باسم الفاعل لأوهم أنهما صنفان يحصل لهما التضعيف، وقد علمت أن غرض السورة الأساس هو تحقيق الدعوة إلى هذين الأمرين: الإيمان والإنفاق، والله أعلم. قال ابن جرير رحمه الله: "فتأويل الكلام إذًا على قراءة مَن قرأ ذلك بالتشديد في الحرفين - أعني في الصاد والدال -: أن المتصدِّقين من أموالهم والمتصدِّقات، ï´؟ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ï´¾ [الحديد: 18]؛ يعني: بالنفقة في سبيله، وفيما أمر بالنفقة فيه، أو فيما ندب إليه"[4]. وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عما يثيب به المُصَّدقين والمُصَّدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، ï´؟ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ï´¾ [الحديد: 18]؛ أي: دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورًا"[5]. المؤكد الثالث: أنه سمى النفقة في سبيل الله قرضًا، ومعلومٌ أن القرض سبيله الرد، والمعنى: أنك لا بد مجازى على هذه النفقة. المؤكد الرابع: أنه أضاف هذا القرض إلى الله، والله هو أهل الوفاء، وأهل الثناء والمجد، وفي هذا من تعظيم هذه النفقة ما هو ظاهر. المؤكد الخامس: أنه نكَّر القرض؛ ليدل على الإطلاق، فإن النكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق، فلا يتقيد بنوع معين من النفقة؛ بل كل ما جادت به نفس الإنسان فهو مقبول عند الكريم - سبحانه. المؤكد السادس: أنه زاد - سبحانه - في الوفاء على رد القرض بالمضاعفة، وهو أمرٌ غير معهود في شأن القرض، والزيادة هي الأجر الكريم، فما ظنك بها من الكريم الوهاب؟! ثم إنه: لما ذكر فضل المتصدقين، وكان من المؤمنين من لا مال له ليتصدق منه، أعقب ذكر المتصدقين ببيان فضل المؤمنين مطلقًا، وهو شامل لمن يستطيع أن يتصدق ومن لا يستطيع، على نحو التذكير المتقدم آنفًا في قوله: ï´؟ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ï´¾ [الحديد: 10]. وفي الحديث: "إن قومًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ولا أموال لنا"، فقال: ((أَوَليس قد جعل الله لكم ما تصدَّقون به، إن لكم في كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة))"[6]. قال ابن القيم رحمه الله: "فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصِّديقيَّة، والشهادة، والولاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله: ï´؟ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ï´¾" [النساء: 69، 70]. وذكر تعالى هؤلاء الأربع في سورة الحديد، فذكر تعالى الإيمان به وبرسوله، ثم ندب المؤمنين إلى أن تخشع قلوبهم لكتابه ووحيه، ثم ذكر مراتب الخلائق، شَقِيِّهم وسعيدهم، فقال: ï´؟ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ï´¾ [الحديد: 18، 19]، وذكر المنافقين قبل ذلك، فاستوعبت هذه الآية أقسامَ العباد شقيهم وسعيدهم. والمقصود: أنه ذكر فيها المراتب الأربع: الرسالة، والصِّديقيَّة، والشهادة، والولاية، فأعلى هذه المراتبِ النبوةُ والرسالة، ويليها الصِّديقيَّةُ؛ فالصِّديقون هم أئمة أتباع الرسل، ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة، فإن جرى قلم العالم بالصِّديقيَّة، وسال مداده بها، كان أفضل من دم الشهيد الذي لم يلحقه في رتبة الصِّديقيَّة، وإن سال دم الشهيد بالصِّديقيَّة، وقطر عليها، كان أفضل من مداد العالم الذي قصر عنها، فأفضلُهما صدِّيقُهما، فإن استويا في الصِّديقيَّة، استويا في المرتبة، والله أعلم. والصِّديقيَّة: هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علمًا، وتصديقًا، وقيامًا، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل مَن كان أعلم بما جاء به الرسول، وأكمل تصديقًا له، كان أتم صدِّيقيَّة، فالصِّديقيَّة شجرة أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل[7]. والحقيقة أن الآيات في هذا التتابع الفريد، إنما تقطع العوائق التي تعوق النفس المؤمنة عن طلب الإيمان، وعن بذل الإنفاق، وكأنها إلى هذا الحد الذي وصلنا إليه قد نفَّرت هذه النفس عن خلق الكافرين والمنافقين، ولكن قد بقي أن هذه النفس لها عوائق دنيوية تجذبها إليها، فتعوقها عن تحقيق الكمال في الإيمان والإنفاق، فكان المقطع السادس يعالج ذلك. يتبع.. [1] انظر: "التفسير الكبير" 29/ 202. [2] "إتحاف فضلاء البشر" ص 534، وانظر: "التيسير" ص 208، و"السبعة في القراءات" ص 626، وانظر في توجيه القراءات: "الحجة في القراءات السبع" ص 342، "حجة القراءات"؛ لابن زنجلة ص 701. [3] "التفسير الكبير" 29/ 201. [4] "جامع البيان" 22/ 412. [5] "تفسير ابن كثير" 8/ 22. [6] "التحرير والتنوير" 27/ 396، والحديث أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم: (6329)، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، برقم: (595). [7] "مفتاح دار السعادة" 1/ 298، 299.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |