رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة - ملتقى الشفاء الإسلامي

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : أبـو آيـــه - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858959 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393332 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215663 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 54 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-08-2023, 06:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة

رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة
المصطفى المرابط



إن من الموضوعات الشعرية التي أثارتها القصيدة العربية القديمة في المرحلة الجاهلية، واحتفت بها احتفاءً كبيرًا، وشكلت مصدرًا للإلهام الشعري؛ حيث كان الشعراء من خلالها يعمدون بشكل رمزي إلى تصوير واقعهم المتغير، وإلى نقل مشاهد وفصول دقيقة من حياتهم اليومية، وما تعرفه من أحداث وما يطرأ فيها من مستجدات، ويلجؤون إليها للتعبير عن حياة التنقل وعدم الاستقرار المحفوفة بالمخاطر التي وسمت واقعهم المعيش وتحكمت فيه، موضوع أو ظاهرة معركة البقرة الوحشية؛ حيث شكلت قصة هذا الحيوان العظيم الفريد، ذي المشاعر الفياضة بالأمومة والعطف والحنان، بما حملته من حوادث ووقائع، وبما ترتبت عليها من نتائج مأساوية وانكسارات وأحزان وجراحات نفسية عميقة، وسيلة ثمينة بين يدي الشاعر العربي القديم مكَّنته من بعث رسائله وترجمة معاناته وآلامه، وما يجري معه في علاقاته الإنسانية التي تربطه بمحيطه الاجتماعي.

والنموذج الشعري الذي يحضرنا من ديوان الشعر العربي الجاهلي في هذا الباب، هو للشاعر زهير بن أبي سلمى أحد فحول الشعراء المصنف في مقدمة الطبقات الشعرية.

يقول زهير بن أبي سلمى:
تبادر أغوال العشي وتتقي
علالة ملوي من القد محصد
كخنساء سفعاء الملاطم حرة
مسافرة مزؤودة أم فرقد
غدت بسلاح مثله يتقى به
ويؤمن جأش الخائف، المتوحد
وسامعتين تعرف العتق فيهما
إلى حذر مدلوك الكعوب، محدد
وناظرتين تطرحان قذاهما
كأنهما مكحولتان، بإثمد
طباها ضحاء، أو خلاء، فخالفت
إليه السباع، في كناس ومرقد
أضاعت فلم تغفر لها خلواتها
فلاقت بيانا عند آخر معهد
دما عند شلو، تحجل الطير حوله
وبضع لحام، في إهاب مقدد
وتنفض عنها غيب كل خميلة
وتخشى رماة الغوث من كل مرصد
فجالت على وحشيها وكأنها
مسربلة، في رازقي معضد
ولم تدر وشك البين حتى رأتهم
وقد قعدوا أنفاقها كل مقعد
وثاروا بها من جانبيها كليهما
وجالت وإن يجشمنها الشد تجهد

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-08-2023, 06:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة


فأنقذها من غمرة الموت أنها
رأت أنها إن تنظر النبل تقصد
نجاء مجد ليس فيه وثيرة
وتذبيبها عنها بأسحم مذود
وجدت فالقت بينهن وبينها
غبارًا كما فارت دواجن غرقد
بملتئمات كالخذاريف قوبلت
إلى جوشن خاظي الطريقة مسند
إلى هرم تهجيرها ووسيجها
تروح من الليل التمام، وتغتدي[1]

وبالعودة إلى سياق هذه القصيدة في الديوان، نجد أن الشاعر زهير بن أبي سلمى كان قد قالها في غرض المدح؛ حيث مدح فيها هرم بن سنان بن أبي حارثة، وهو من كبار الشخصيات في القبيلة ويعد من أعيانها، ومن أصحاب الكلمة والشأن والمهابة بين أفرادها، كما نجده يفتتحها بالتقليد الشعري المعروف لدى الشعراء القدماء، من ذكر الديار العافية، والأطلال والرسوم الدارسة، ووصف الحال الذي آلت إليه؛ حيث غدت قفرة مهجورة لا حياة فيها، مسكنًا للأشباح والأرواح؛ يقول زهير:
غشيت ديارا بالنقيع، فثهمد
دوارس قد أقوين من أم معبد
أربت بها الأرواح كل عشية
فلم يبقَ إلا آل خيم منضد
وغير ثلاث كالحمام خوالد
وهاب محيل هامد متبلد
وقفت بها رأد الضحاء مطيتي
أسائل أعلامًا ببيداء قردد[2]


ثم بعد ذكره الديار ووصفها وسؤالها، انتقل الشاعر إلى ناقته رفيقته، رمز الوفاء التي كانت تؤنسه في الوحدة وتساعده وقت الشدة وترافقه في رحلاته الدائمة التي لا تنتهي، يقول:
فلما رأيت أنها لا تجيبني
نهضت إلى وجناء كالفحل جلعد
جمالية لم يبق سيري ورحلتي
على ظهرها من نيها غير محفد
متى ما تكلفها مآبة منهل
فتسعف أو تنهك إليه فتجهد

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 30-08-2023, 06:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة


ترده ولما يخرج السوط شأوها
مروحا، جنوح الليل، ناجية الغد
كهمك إن تجهد تجدها نجيحة
صبورا، وإن تسترخ عنها تزيد
وتنضح ذفراها بجون كأنه
عصيم كحيل، في المراجل، معقد
وتلوي بريان العسيب، تمره
على فرج محروم الشراب، مجدد
تبادر أغوال العشي، وتتقي
علالة ملوي، من القد، محصد[3]

لقد أضفى الشاعر على ناقته العظيمة كما هو ظاهر من الأبيات، أجمل الصفات وأحسنها، فهي القوية في بنيتها الجسدية، والنشيطة في حركاتها، والسريعة في مشيها، لا تخاف الليل مهما أظلم، وتواجه المخاطر مهما صعبت، وتبادر براكبها ما يخاف أن يهلكه أو يؤذيه، متجشمة مصاعب الطريق ووعورتها، فلا يهدأ لها بال حتى تلحقه بالمنزل الذي يبيت فيه، ثم يشبه الشاعر ناقته في الأخير ببقرة وحشية قصيرة الأنف؛ يقول:
كخنساء سفعاء الملاطم حرة *** مسافرة مزؤودة أم فرقد[4]

فالخنساء هي البقرة قصيرة الأنف، السفعاء وهي السوداء في حمرة، الملاطم الواحد ملطم وهو الخد، المزؤودة؛ أي: المذعورة المرتعبة الخائفة، والفرقد هو ولد البقرة[5].

إن الشاعر زهير بن أبي سلمى هنا لم يشأ أن يشبه ناقته بالثور الوحشي، ولكنه آثر أن يشبهها لنشاطها الزائد ولقوتها المفرطة بالبقرة الوحشية التي يرافقها في طريقها فرقدها، وهو ولدها الصغير بطل الحكاية، ثم يستطرد بعد ذلك في وصف هذه البقرة من سائر الجوانب جسديًّا ونفسيًّا؛ يقول:
غدت بسلاح، مثله يتقى به
ويؤمن جأش الخائف، المتوحد
وسامعتين، تعرف العتق فيهما
إلى جذر مدلوك الكعوب، محدد
وناظرتين تطرحان قذاهما
كأنهما مكحولتان، بإثمد[6]


لقد اعتادت هذه البقرة الوحشية التي تشبه ناقة الشاعر في قوتها ونشاطها، على الخروج في الصباح الباكر من أجل الرعي رفقة فرقدها الصغير، وسلاحها الوحيد الذي يحميها ويحقق لها قدرًا من الثقة في النفس وتتكئ عليه في مواجهتها الأخطار المحتملة، ويرفع الفزع عن صغيرها حديث العهد بالحياة، هو قرونها الحادة الفتاكة التي تكفي ضربة مباشرة واحدة منها للإطاحة بأقوى الأعداء والمهاجمين وجبرهم على الفرار.

إن ملمح المعركة من أجل البقاء أو الصراع مع الموت المتربص واضح وجلي هنا، فحتى الطبيعة الخلقية للحيوان – وجود قرون للبقرة الوحشية – توحي بحضور رمزي للموت في جميع مناحي الطبيعة، وبكونية موضوعة الموت وحتميته، وتعدد أسبابه، والصراع من أجل البقاء، وتحقيق الخلود، وجدلية الحياة والموت أيضًا.

ويستطرد زهير في وصف هذه البقرة الوحشية موضوع القصة، ويعرض بعضًا من أعضاء جسدها بدقة كبيرة، قبل أن ينتقل عقب ذلك إلى رصد تفاصيل الفاجعة التي ستحل بها وبفرقدها؛ يقول:
طباها ضحاء أو خلاء فخالفت
إليه السباع في كناس ومرقد
أضاعت فلم تغفر لها خلواتها
فلاقت بيانًا عند آخر معهد
دما عند شلو تحجل الطير حوله
وبضع لحام في إهاب مقدد
وتنفض عنها غيب كل خميلة
وتخشى رماة الغوث من كل مرصد

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 30-08-2023, 06:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة


فجالت على وحشيها وكأنها
مسربلة في رازقي معضد
ولم تدر وشك البين حتى رأتهم
وقد قعدوا أنفاقها، كل مقعد[7]

الذي حدث في هذه القصة كما يرد في القصيدة، أن البقرة الوحشية، وبينما كانت منشغلة وهي ترعى عند وقت الضحى في الخلاء، غفلت عن فرقدها، وكانت قد تركته في مرقده في حمى كناسها، أي في بيتها، فأتت إليه في تلك اللحظة السباع وأكلته، لقد كان صغيرًا ضعيفًا غير قادر على الحركة، أو دفع الخطر عن نفسه، لذلك ما إن خرجت أمه للرعي حتى هجمت الذئاب المتربصة على بيتها قاصدة إياه، وفاتكة به وبجسده الهش، وكما هو حال المصدوم دائمًا، لم تصدق البقرة ما يجري معها في بداية الأمر، فظلت بعض الوقت مشدوهة حائرة هائمة بذهنها غير مصدقة ما يجري حولها، تبحث عما يشفي غليلها ويذهب عنها حيرتها، ويرفع الشك باليقين، لقد ظلت تذهب وتجيء في المكان كالمجنون الذي فقد شيئًا غاليًا، إلى أن تكشفت الأمور ووجدت الجواب في آخر موضع عهدت فيه فرقدها، ولنا أن تخيل هول الصدمة عندما وقعت عينا المسكينة أول مرة على ما تبقى من جسد صغيرها الذي قطعت أوصاله، وتمزقت أعضاؤه إلى أشلاء، وتحول إلى قطعة من لحم قد تحجلت حولها الطيور، هذه الطيور الكاسرة التي جعلت تتسابق عما تبقى بعدما أكلت الذئاب ما أكلت من الفرقد، غير آبهة بمقدار المأساة وحجم الحزن الذي خيَّم على الأم المكلومة في فلذة كبدها.

لكن يا ليت الأمر قد وقف عند هذا الحد المأساوي؛ حيث ما إن كادت البقرة الوحشية تكتشف هول المصيبة التي ألمت بها، وقبل أن تلتقط أنفاسها وتستوعب ما جرى، حتى وجدت نفسها أمام خطر آخر محدق، يحيط بها ويتهدد حياتها، يقول زهير:
وثاروا بها من جانبيها كليهما
وجالت، وإن يجشمها الشد تجهد
تبذ الألى يأتينها، من ورائها
وإن تتقدمها السوابق تصطد


لقد وجدت البقرة نفسها محاطة بكلاب صيد شرسة وهائجة، ومستعدة للفتك بكل من تلاقيه في طريقها، فبدا لها وكأن اليوم هو يوم موتها ونهايتها هي كذلك، بعدما فتكت الذئاب بصغيرها، لكنها تقرر المقاومة وصد هجمات الكلاب، ويجبرها الخوف من الموت والتمزق ومن تحول جسدها إلى بقايا قطع لحم تعبث بها الطيور، كما حدث مع فرقدها على الفرار والجري بأقصى سرعة ممكنة، فتسبق الكلاب التي تأتي خلفها، وتصيب بقرنيها الكلاب الأخرى التي تتقدمها وتسبقها.
فأنقذها من غمرة الموت أنها *** رأت أنها تنظـر النبل تقصـد

ثم تبدو البقرة وكأنها تدرك جيدًا خطر الصيادين الرماة أصحاب الكلاب، الذين إذا لحقوا بها قتلوها وأردوها أرضًا بنبالهم التي لا تخطئ مرماها، لذلك بادرت وسارعت بالعدو هربًا بعدما عرفت أن الكلاب هي كلاب صيد مدربة يتعقبها الصيادون، وتحضر هنا التجربة الذاتية للبقرة الوحشية في الصحاري والخلوات؛ حيث اعتادت على المطاردات التي احتفظت ذاكرتها بفصولها ومخاطرها.
نجاء مجد ليس فيه وتيرة
وتذبيبها عنها بأسحم مذود
وجدت، فألقت بينهن وبينها
غبارًا كما فارت دواخن غرقد
بملتئمات كالخذاريف قوبلت
إلى جوشن خاظي الطريقة مسند
كأن دماء المؤسدات بنحرها
أطبة صرف في قضيم مصرد
إلى هرم تهجيرها، ووسيجها
تروح، من الليل التمام، وتغتدي[8]


وفي الأخير تمكنت البقرة الوحشية من النجاة ومن الإفلات من خطر الموت المحقق الذي أحاط بها من كل جانب وكاد يخطفها، وذلك بفضل مجهودها الفردي، وسرعتها في الجري والعدو،

ودفاعها بقوة وشراسة عن نفسها، وإصرارها على الانتصار والحفاظ على الحياة.

لقد نظمت القصيدة كما هو معلوم في غرض المدح، لذلك انتهت المعركة بانتصار البقرة على الكلاب؛ حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقتل البقرة وتنهزم مادامت تشبه ناقة الشاعر القوية والنشطة، التي ستنقله مخترقة الفيافي والمفازات المقفرة لتصل به إلى ممدوحه العظيم ذي الشأن والمهابة، لقد كان شعراء الشعر العربي القديم أذكياءَ في منظوماتهم وقصائدهم، بل منسجمين إلى حد بعيد مع سياق وظروف نظمهم، وذلك عندما منحوا الانتصار والفوز في أشعارهم المدحية للثور الوحشي والبقرة الوحشية، بينما انتصروا للكلاب في قصائدهم الرثائية. ذلك أنه في غرض المدح يستمر الزمن وتستمر معه الحياة، ودفقات المعاني الشعرية الحسنة، وتنساب الألفاظ العذبة والأوصاف الإنسانية الجميلة التي يضفيها الشاعر على ممدوحه بسخاء، وكثيرًا ما كانت قصائد المدح تتضمن دعوات صريحة للممدوح بالحياة والمدد في العمر، بل إن المدح في كنهه وجوهره دعاء للممدوح بالخير والسداد في العمل والرأي، والفلاح في الحياة، ومن هنا كان لابد للثور والبقرة الوحشية التي تشبه ناقة الشاعر من الانتصار في المعركة؛ حتى يتمكن من متابعة المسير في الطريق بما يسمح بمتابعة ذكر مناقب الممدوح وأوصافه الحسنة، كما أن مقتل الثور والبقرة الوحشية لا ينسجم والدعاء للممدوح بالخير والعمر المديد، هذا بينما في قصيدة الرثاء يتوقف الزمن كلية وتتوقف معه الحياة، ولا يتبقى غير الذكريات الجميلة التي يعود إليها الشاعر وينبش فيها، ويصدح بأحداثها ومواقفها عاليًا، وتُهيمن الأحزان وتسيطر لغة البكاء والدموع الحارة على الفضاء، فلا يكاد المتلقي يسمع غير صوت الأنين والحشرجة، ولا يرى غير الظلام الدامس والليل المدلهم؛ حيث يخيم شبح الموت، والرثاء كالمدح، غير أنه مدح - لميت كما ذكر ذلك ابن رشيق في كتابه العمدة في محاسن الشعر وآدابه – وهو أيضًا دعاء للمرثي، لكن ليس دعاء للحياة الهنيئة أو للمدد في العمر، ولكن دعاء بالرحمة والمغفرة والسكينة لروحه التي تكون قد انتقلت إلى الإقامة في عالم آخر مجهول، لذلك كان من الانسجام مع السياق العام للقصيدة الرثائية وغرضها الأساسي أن ينهزم الثور والبقرة الوحشية، ويسقط مقتولًا أمام كلاب الصيد القوية والمدربة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30-08-2023, 06:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة


مشهد فناء الوعل:
لقد حضر الحيوان في القصيدة الشعرية العربية القديمة حضورًا قويًّا وبارزًا؛ حيث لم يكسر رتابة الحياة، وسكون الصحراء، وجمود الأمكنة، غير مشاهدة الأنواع المختلفة من الحيوانات، التي زخرت بها شبه الجزيرة العربية، ومتابعة تحركاتها والتعايش معها، واتخاذ بعضها رفيقًا وصاحبًا وفيًّا، ويعد حيوان الوعل من المخلوقات التي حظيت بالعناية الشعرية؛ حيث ذكرت في عدد كثير من القصائد، واحتفى بها عدد من الشعراء، نظرًا لنمط عيشها الملهم للأفكار والموحي بالمعاني الشعرية الجديدة.

والوعل وهو اسم جامع لأنواع الوعول كالأعصم، والصدع، والأيل، والأروي، وجمع وعل وعول وأوعال، والأنثى وعلة، ويظل اسم الأروى أكثر شهرة، وهو اسم للجمع واحدتها الأروية[9].

والوعل حيوان من خصوصياته أنه يتخذ قمم الجبال العالية مسكنًا له، يلتصق بها ويتشبث بحجرها وترابها، ربما طبيعته وخلقته التي تميِّزه أوحت له باتخاذ المرتفعات والقمم مسكنًا، وملجأً يأمن فيها من بطش الحيوانات الضارية الأخرى، لكن مشهد تشبثه بالجبال، وامتناعه زمنًا طويلًا في معاقلها، شكل للشاعر الجاهلي صورة قيمة موحية تستحق أن يسرح الخيال في تأملها ومحاكاتها وتوظيفها في أغراضه الشعرية، وقد اشتهرت بين الشعراء الجاهليين للوعل صورتان: صورة الحيوان الخائف المتوجس الذي دفعه خوفه إلى صعود الذرا والجبال العالية طلبًا للأمن وبحثًا عن السكينة، وحفاظًا على الحياة، يقول النابغة الذبياني:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل[10]

وصورة الكائن ذي القوة والمنعة الذي يتحدى الطبيعة وأسباب الموت، الذي يتهدد سائر المخلوقات؛ حيث يصعد إلى قمم الجبال والمعاقل العالية، ويتخذها مقامًا يسكنها وحده؛ يقول عدي بن زيد:
ليس للمرء عصرة من وقاع الداء
هر تغني عنه سنام عناق
قد تبينت في الخطوب التي
قبلي فما بعدها لليوم باقي
وأرى الشاهق المدل به الأر
وى دوين السماء وعر المراقي
ودلال العزيز بالجمع ذي الأر
كان كلا معاذه غير واقي
لا يعري ريب المنون ذوي العي
ش ولا من حياته برماق
كل حي تقوده كف هاد
جن عين يغشيه ما هو لاقي[11]


ولكن الدهر لا يرحم أي مخلوق موجود على الأرض، مهما كانت قوته، ومهما تسلق أسباب السماء، ومهما تمسك بعلل الفرار وسبل النجاة من الموت، وهو حتى إذا أمهل هذا الوعل القوي المتمنع وقتًا طويلًا من الزمن، فإنه يميته ويقضي عليه، ويفنيه في اللحظة المناسبة وبالوسيلة الأنسب؛

يقول الأفوه الأودي:
والدهر لا يبقى على صرفه *** مغفرة في حالق مرمريس[12]

ومعنى البيت أن قساوة الدهر والزمن لا مثيل لها في الكون إنه لا يبقي أحدًا على حاله، فحتى الوعول القوية المتشبثة في قمم الجبال الملساء، وفي غيرها من الأماكن المرتفعة، ينال منها وتؤذيها نوائبه وصروفه وتصيبها آلته الحادة المدمرة، ويسقطها أرضًا.

[1] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37 – 38 – 39.

[2] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 36.

[3] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37.

[4] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37.

[5] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37.

[6] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 38.

[7] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 38.

[8] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 39.

[9] مشهد الحيوان في القصيدة الجاهلية ص 276.

[10] ديوان النابغة الذبياني ص 144.

[11] ديوان عدي بن زيد ص 154.

[12] ديوان الأفوه الأودي ص 83.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 94.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 91.08 كيلو بايت... تم توفير 3.54 كيلو بايت...بمعدل (3.74%)]