الأربعــون الوقفيــة - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 32 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859160 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393481 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215764 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 05-03-2024, 09:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (21)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية - فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
الحديث الحادي والعشرون:
انتفاع الواقف بوقفه
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوقُ بَدَنَةً فقال له: «اركبها» قال: يا رسول الله إنها بَدَنَةٌ، قال: «اركبها ويلك» في الثانية أو في الثالثة».
- بوّب البخاري لهذا الحديث: باب هل ينتفع الواقف بوقفه؟ والذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «‏رأى رجلا يسُوق بَدَنَة»: أَيْ نَاقَة‏، في يوم شديد الحر، ‏ ‏فقال له ‏النبي صلى الله عليه وسلم رفقاً به وشفقة عليه، ‏اركبها . ‏فأجاب «إِنَّهَا بَدَنَة»: أَيْ هَدْي ظَنًّا أَنَّهُ لَا يَجُوز رُكُوب الْهَدْي مُطلقًا؛ ‏فقال: «اركبها» - مغلظاً له الخطاب - «ويلك» في الثانية ‏‏أو في الثالثة. ووَيْلَكَ: كلمة تقال عند التحذير من شيء معين.
- قال في الفتح: «الظاهر أن الرجل ظن أنه خفي كونها هديا فلذلك قال إنها بدنة، والحق أنه لم يخف ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكونها كانت مقلدة؛ ولهذا قال له لما زاد في مراجعته: «ويلك»، واستدل به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبا أم متطوعا به، لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك».
وقد امتثل الصحابي لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وركبها بعد أن تباطأ في الطاعة ظناً منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف أنها بدنة، جاء ذلك في رواية أخرى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : «أن نبِي اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً, فقال: اركبها، قال: إنها بدنةٌ، قال: اركبهَا، فرأيتُهُ رَاكِبَهَا, يُسَايِرُ النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها».وهذا من رفقه صلى الله عليه وسلم على صحابته لأنه كان محتاجا لركوبها، وقد وقع في تعب وجهد.
وسبب تسمية البُدْن بهذا الاسم، قال الإمام البخاري: قال مُجاهد: سُميتْ البدنَ لِبدنِهَا، وقال النووي: قال أَهْل اللغة: سُميت الْبَدَنَة لعظمها، ويطلق على الذكر والأنثى، ويطلق على الإبل والبقر والغنم، هذا قول أكثر أهل اللُّغة، ولكن معظم استعمالهَا في الأحاديث وكُتب الفقه، في الإبل خاصة.
وفي حُكم ركوب البُدن الْمُهْدَاة: قال أبو الزبير: سألت جابر بن عبد الله عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اركبها بالمعروف حتى تَجِد ظَهْرًا. رواه مسلم.
قال ابن بطال: من جعل بدنة أو شيئاً لله، فله أن ينتفع به كما ينتفع غيره، وإن لم يشترطه، وقال ابن قدامة: وله ركوبه عند الحاجة على وَجه لا يَضرّ بِه. قال أحمد: لا يَركبه إلاّ عند الضرورة ، وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي.
- قال العلماء: إن كلمة ويلك أو ويحك مما تجري على اللسان بدون نية الشتم و اللعن كـ «ثكلتك أمك» و«تربت يداك»، ويقصد بها التوبيخ والإغلاظ أو التنبيه لا حقيقة الشتم و اللعن. قال القرطبي: قالها له تأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه، فهي كلمة تجري على اللسان, وتستعمل من غير قصد إلى ما وضعت له، وتستعمل للتغليظ على المخاطب، بدون قصد معناها، وإنما تجري على ألسنة العرب في الخطاب، لمن وقع في مصيبة فغضب عليه.
ومن هذا الحديث وغيره استدل العلماء على جواز انتفاع الواقف بوقفه، مثل ما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه في وقفه بئراً في المدينة المنورة؛ حيث أوقفها على المسلمين وجعل دلوه كإحدى دلاء المسلمين، ووقف أنس دارا له في المدينة فكان إذا حج مر بالمدينة فنزل داره؛ فمن وقف مسجداً يكون هو وأولاده من جملة المصلين، ولمن وقف معهداً أو مدرسة تحفيظ للقرآن الكريم فيكون أولاده من جملة الدارسين من الطلبة.
- فوائد من الحديث: فيه جواز ركوب البدنة والانتفاع بها، وأُخذ منه جواز أن ينتفع الواقف من وقفه، وفيه تكرار الفتوى حيث كرر له النبي أمره بجواز ركوب الناقة، وإن كانت هدياً.
وفيه رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته، وفيه أن المشقة تتطلب التيسير، وفيه جواز الشِّدّة في الإنكار، ولاسيما إذا لم يجدِ الرفق شيئا، وفيه الندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر، وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه.
وفيه أن ويلك كلمة من كلمات الزجر، تجري على اللسان من غير قصد وقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه جواز استخدام الكلمات التي فيها زجر لمن لم يمتثل لما فيه مصلحته وتخفيف الأمر عليه .
وفيه أنه يجوز للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، وكل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر كلمات لغرض التأديب والزجر، وليكون الكلام أوقع في النفس.
نحمد الله تعالى أن جعلنا من أتباع هذا الدين العظيم، الذي اتّسم بصفات وانفرد بخصائص، منها: شموله وكماله وربانيته، وأنّه يُصلح كل زمان ومكان، ونظام الوقف من أنظمة إصلاح البلاد والعباد، فهو تشريع رباني ونظام إسلامي، شرع لتخفيف المشقة وتوفير الاحتياجات المتعددة، فهو نظام يمتاز بالشمولية والاتساع والمرونة، ومن يتصفح ويطالع ما كتبه الأئمة من فقهائنا رحمهم الله تعالى حول الوقف وأحكامه وغاياته يرى الأبواب المتعددة والمسائل المتنوعة التي تعدت حاجة الإنسان إلى حاجة الشجر والبيئة والحيوان.
كما اهتم ودأب العلماء والفقهاء على العمل من أجل تعزيز دور نظام الأوقاف في تحقيق مقاصد شريعة الإسلام؛ لأنّ الوقف باقٍ أصله ودائمةٌ منفعته، وآثاره الحميدة في جلب الخير والمنفعة للمجتمع تتحقق فور الانتهاء من وقف عين للصرف من ريعها أو الاستفادة منها، وهذه المنفعة ليست قاصرةً على الفقراء وحدهم، بل تتعدّى ذلك إلى أهدافٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ، وأغراضٍ خيّرةٍ شاملةٍ.
ولم يقتصر أداء نظام الوقف في الإسلام على المسلم وحده، بل توجد أوقاف عامة تشمل المسلم وغيره، كما وجدت أوقاف خصصت للإنفاق على غير المسلمين، وإصلاح معاشهم وإعانتهم، وتأليف قلوبهم ودعوتهم. وقد يشمل الوقف في مصارفه المسلمين غالبًا، لكنه لا يمتنع من الصرف على غيرهم إن كان الوقف عامًا، أو يدخلون فيه أحيانًا بحكم الضرورة، أو لخلطتهم بالمسلمين في بلادهم ودُورهم فلا يميزون عنهم إلاّ إذا نص الواقف أو الحابس على ذلك واشترطه؛ كمن سبّل أو أوقف بئرًا للعامة، ولم يشترط أو ينصّ على أن يكون للمسلمين فقط؛ فإنّ هذا الخير يعمّ كل إنسان أو حيوان، وهكذا.
والوقف حقق البناء الإسلامي للمجتمع المسلم، ذلك البناء الذي جعل هذه الأمة سعيدة في داخلها, مرهوبة من أعدائها, وجعل الإنسان المسلم لا يحمل في نفسه إلا الخير والرحمة والسمو الإنساني والحضاري، كريم النفس, معطاء الفضل, لا يعرف الغدر ولا الخيانة ولا البطش والظلم.
ونظام الوقف ذو غاية عظيمة، ومقاصد نبيلة، وفي مقدمتها الرحمة في تشريعه ومقاصده ومصارفه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، فقد راعى نظام الوقف ومقاصده ومصارفه الرحمة بالخلق؛ لرفع أو دفع حاجتهم، وإعانتهم في حياتهم الدينية والدنيوية.حيث أجازت شريعة الإسلام الوقف على الفقير والغنيّ، والقريب والغريب، كما أجازته على أهل الذمّة الذين يعيشون داخل المجتمع الإسلامي بشروطٍ وضوابطَ حدّدها فقهاء المسلمين، وأبقت الباب مفتوحاً أمام الناس أن يُوقفوا من أموالهم وثرواتهم جزءاً منها ليُنفق في وجوه الخير والبرّ والإحسان، وبما يحققّ منفعة الناس التي هدفت الشريعة إلى إصلاحهم وحرصت على تحقيق مصالحهم.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 06-03-2024, 07:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (22)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلت، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها، أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
الحديث الثاني والعشرون:
وقف المنقول من الخيل والإبل
- عن ابن عباس قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحِجَّنِي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت أحِجَّنِي على جملك فلان، قال: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله[ فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك، قالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه، فقالت: أحجني على جملك فلان، فقلت: ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله».
إن الوقف نظام إسلامي فيه من المقاصد والأبعاد والغايات والمرونة ما يحقق الغاية التي شرع لها، وتطبيقاته حققت نجاحات على مر العصور. فهو صدقة جارية يعم خيرها ويكثر نفعها، وسبب من أسباب سد حاجات المسلمين، وإعانتهم على أمور دينهم ودنياهم، وصفحات التاريخ حافلة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار الوقف وامتثال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النبي لإعمار الأرض في حياتهم، وللأجر المستمر بعد مماتهم، كانوا بذلك قدوة للأمة على مر العصور قولاً وفعلاً، وأضحى الوقف سلوكاً جماعياً واعياً ارتضاه المسلمون رغبة في خيري الدنيا والآخرة، مما أبهر العالم أجمع بهذا العطاء.
وفي الحديث، الرجل هو أبو طليق، قالت له امرأته عندما علمت أن رسول الله سيحج، «أحِجَّنِي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم »؛ فأجابها أن ليس لديه ما يحجها عليه، قالت: أحِجَّنِي على جملك فلان، أي أعطني جملك لأحج عليه، قال: جملي حبيس في سبيل الله، أي وقف لله تعالى للغزو والجهاد، فأتي النبي[ وأخبره ما دار بينه وبين زوجته في شأن الحج على جمله الذي أوقفه في سبيل الله، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم : «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله».
- وقوله: «ذاك حبيس في سبيل الله»، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، دليل على أنه يجوز وقف المنقول كالحيوان وغيره، قال الخطابي: «فيه من الفقه جواز إحباس الحيوان، وفيه أنه جعل الحج من السبيل».
- ويقول الإمام الشوكاني: «فيه دليل على أنه يجوز وقف الحيوان»، والحيوان من المملوك المنقول الذي تبقى عينه بعد الانتفاع به غالباً، ولو لم يجز وقفه لما رتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأجر العظيم، ولأنه يحصل فيه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فصح وقفه كالعقار، والفرس الحبيس، ولأنه يصح وقفه تبعاً لغيره، فصح وقفه منفرداً كالعقار.
والحديث فيه دلالة على أن الحج من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في (الاختيارات العلمية): «ومن لم يحج حجة الإسلام وهو فقير، أعطي ما يحج به، وهو إحدى الروايتين عن أحمد»، وقد رواه أبو عبيد في (الأموال) عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: أما إنه في سبيل الله. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في «الفتح». ورواه أبو عبيد بسند صحيح. انتهى كلام الألباني من كتاب «تمام المنة».
والعلماء أجازوا أن يأكل الواقف من غلة وقفه بالمعروف كالناظر المعين تماماً، إن كان الواقف ناظراً على وقفه، وله أيضاً أن يستخدم ما وقفه من دابة، وما شابهها مثل السيارة وأنه لا حرج في ذلك.
وفي اتخاذ الإبل من مال الله ليحج بها الناس، قال الإمام مالك: بلغني أن عمر ابن الخطاب اتخذ إبلاً من مال الله يعطيها للناس، يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه. قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال الله؛ لأن أولى ما صرف فيه مال الله ما يستعان به على أداء فرائض الله، فينبغي للأئمة أن يأنسوا في ذلك بفعله.
فوائد من الحديث
فيه صحة وقف المنقول من الخيل والإبل والمعدات الحربية، وفيه من وقف شيئًا على صنف من الناس وزوجه منهم دخل فيه، فإذا وقف على طلاب العلم وولده منهم دخل فيهم واستحق العطاء أيضًا وهكذا، وفيه جواز استفادة الواقف من وقفه عند الحاجة، وفيه أن من مصارف الوقف إعانة الحجيج على أداء شعائرهم.
وفيه حرص الصحابة الكرام أن يكون عملهم موافقا للشرع، فكانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بما يشكل عليهم ويمتثلوا لأمره صلى الله عليه وسلم .
وفيه أن الإبل من الدواب التي كان العرب يجاهدون عليها، وفيه مشروعية إرسال السلام إلى الغائب، وعليه العمل عند المسلمين.
والجهاد في سبيل الله تعالى من أفضل الأعمال والقربات التي حث عليها الإسلام. وذهب الفقهاء إلى أن الأوقاف التي تكون في الثغور البرية والبحرية، ولم يحدد لها واقفها مصرفا معينا، تكون مخصصة للجهاد.
ولا شك أن الرباطات الكثيرة التي كانت تنتشر على ثغور البلاد الإسلامية في القديم كانت تعتمد على الأوقاف، وكان الرباط مؤسسة تجمع بين وظائف التربية الدينية وإعداد المجاهدين وإعداد العدة اللازمة من سلاح وطعام، وكانت تلحق بها أجنحة لصناعة الأسلحة، والأوقاف هي المورد الدائم للنفقات الضرورية لكل هذه الوظائف.
فالأوقاف كانت الحجر الأساس الذي قامت عليه الكثير من المؤسسات الخيرية والتطوعية والإنتاجية والتعليمة والصحية والتنموية، وقد نشأت بأموال الأوقاف مؤسسات خاصة بالمرابطين في سبيل الله حيث توقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد، حتى إن الغربيين كانوا يفدون في أيام الهدنة لشراء السلاح؛ مما حدا بالعلماء في وقتها للإفتاء بتحريم بيع السلاح لأعداء الإسلام.
وبهذا النظام قاومت الأمة الإسلامية أعداءها على مر العصور، وصدت جيوش الاستعمار في العصر الحديث، ولم ينجح المستعمر في اختراق حدودها إلا بعد أن ضعفت مؤسسة الوقف وتقلص دورها في حياة المسلمين. وهذا لا يعني أن الجيوش الإسلامية لم تكن كغيرها تنهزم، ولكن هزيمتها لا تعني انهزام الأمة كلها؛ فقد كانت الأمة بمؤسساتها الوقفية والمجتمعية والتنموية تقاوم المعتدي وترده على أعقابه، ولم تنهزم الأمة قط هزيمة مدمرة إلا بعد أن تقلص دور الأمة لحساب سلطة الدولة الحديثة، حقاً لقد تراجعت الأمة وفقدت مؤسساتها الوقفية التي مولت صناعة الحضارة الإسلامية.
نظام أثبت نجاحه على مر العهود، وآثاره وإنجازاته شاهدة على ذلك النجاح؛ ولهذا تكالب جهد العلماء والفقهاء، وجهد الخلفاء والأمراء، وجهد الخيرين والواقفين، وجهد عامة الأمة، في إيجاد الأوقاف وإنشائها، ورعايتها وحمايتها، ونمائها وديمومتها.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 06-03-2024, 08:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (23)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
الحديث الثالث والعشرون:
أوقاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم
عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، قال: «كان فيما احتج به عمر أنه قال: كانت لرسول الله[ ثلاثُ صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله[ ثلاثة أجزاء،جزأين بين المسلمين وجزءا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين».
‏ الوقف نظام إسلامي عملي، ونشأ هذا النظام أصلا من الصدقات الجارية المستمر عطاؤها، والمرجو دوام نفعها، وحديث مالك بن أوس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، دلالة على مشروعية الوقف، واعتماد النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا النظام بوصفه نهجاً، حيث اختار أن تكون الأموال التي بإمرته وقفاً لله تعالى، يبقى أصلها ويدوم نفعها.
‏ والحديث مفاده أن مما استدل به عمر رضي الله عنه على أن الفيء لا يقسم، وذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكروا عليه ذلك القول، حينما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا، والصفايا جمع صفية، وهي ما يصطفى ويختار. وأوضح المعنى الخطّابي بالآتي»: الصفي ما يصطفيه الإمام عن عرض الغنيمة من شيء قبل أن يقسم من عبد، أو جارية، أو فرس، أو سيف، أو غيرها», أي اختار صلى الله عليه وسلم لنفسه هذه المواضع الثلاثة: بنو النضير، وخيبر، وفدك.
‏ و(بنو النضير)‏: قبيلة من قبائل اليهود كانت تسكن في المدينة المنورة، تجرؤوا بعد معركة أحد، فأظهروا العداوة والغدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، وشاركوا المنافقين والمشركين بمؤامراتهم ضد رسالة دولة الإسلام ، ووصل بهم الغدر أن تآمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله ليعلمه بما هموا به، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة، ولا يساكنوهم فيها، وحاصرهم لأيام حتى استسلموا وخرجوا منها وكان ذلك في السنة الرابعة للهجرة. وكانت أموال وديار بني النضير خالصة لرسول الله[ يضعها حيث يشاء، ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه.
و(خيبر): مدينة تقع شمال المدينة المنورة، وهي منذ أقدم العصور ولا تزال واحة واسعة خصبة معطاء وذات عيون ومياه غزيرة، ومن أكبر واحات النخيل في جزيرة العرب. كانت سكنى اليهود، فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في السنة السابعة للهجرة، بعد أن أضحت منطلق المكائد على المسلمين وإقامة الأحلاف العسكرية مع أعداء الإسلام. وقسم النبي صلى الله عليه وسلم أرض خيبر ثلاثة أجزاء .
وأما (فدك): فهي قرية تقع في أطراف الحجاز قرب مدينة خيبر في شبه الجزيرة العربية، وقد قذف الله الرعب في قلوب ساكنيها من اليهود بعد فتح خيبر، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالحوه على النصف من فدك، بمثل ما صالح أهل خيبر، فقبل منهم ذلك فكانت فدك لرسول الله خالصة؛ لأنه لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.
وكان صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك مع الخُمس له خاصة وليس ذلك لواحد من الأئمة بعده، قالت عائشة رضي اللَّه عنها «كَانَتْ صَفِيَّة مِنْ الصَّفِيّ»، أي: من صَفِيّ المغنم‏.
فأما أموال بني النضير الحاصلة من عقارهم فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم حبساً، أي موقوفة.
لنوائبه)، أي: لحوائجه وحوادثه من الضيفان والرسل وغير ذلك من السلاح والكراع، قال الطيبي: هي جمع نائبة وهي ما ينوب الإنسان، أي: ينزل به من المهمات والحوائج، فكانت أموال بني النضير خالصة لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وكان يزرع تحت النخل في أرضهم فيدخل من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح.
(وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل) أي يصرف ما يأتيه منها إلى أبناء السبيل، وقيل: يحتمل أن يكون معناه أنها كانت موقوفة لأبناء السبيل، أو معدة لوقت حاجتهم إليها وقفاً شرعياً.
(وأما خيبر فجزأها): أي قسمها وجعلها (رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزأين بين المسلمين, وجزءا نفقة لأهله): في شرح السنة: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن خيبر كانت لها قرى كثيرة فتح بعضها عنوة، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منها خمس الخمس، وفتح بعضها صلحا من غير قتال وإيجاف خيل وركاب، فكان فيئا خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه حيث أراه الله تعالى من حاجته ونوائبه ومصالح المسلمين, فاقتضت القسمة والتعديل أن يكون الجمع بينه وبين الجيش أثلاثا.
فوائد من الحديث : الوقف والحبس بمعنى واحد, وتسمى الأوقاف أحباساً، والقول: وقفت الشيء وقفاً أي حبسته، وسمي وقفاً لأن العين موقوفة، وحبساً لأن العين محبوسة. وباب الوقف في بعض كتب الفقه، يسمى باب الحبس أو الأحباس، وفي بعض الدول العربية يطلق على وزارة الأوقاف، مسمى : وزارة الأحباس والشؤون الإسلامية.
وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بادر بالوقف، وجعل مصارفه فيما يُصلح الدنيا، وحينما كان يحث صحابته على فعل الخير فإنه كان يسبقهم بالفعل والعمل.
وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قدوة لصحابته، في تلمس حاجة ابن السبيل، وقد أسهمت هذه السنة، وهي الوقف لابن السبيل في العهود الإسلامية على تيسير طلب العلم والتنقل بين المدن والقرى، وأسهمت في نشر العلم الشرعي، وتسهيل السفر لطلبته إلى مراكز الحضارة ووجود العلماء.
وقيل: لولا هذه الموقوفات التي خصصت بأعيانها أو ريعها لابن السبيل لتعسر التنقل والسفر، ولما رأينا كتب الحديث والفقه، وكذلك كتب الرحالة، حيث عرفت في الكثير من المدن والقرى أوقاف سميت بـ: أوقاف الضيافة، جعل إنفاق ريعها في تقديم الضيافة للضيف الذي يحل على المدينة أو القرية من خارجها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان من أجود الناس في بذل الخير والصدقة، وقد أفرد أصحاب كتب السير أبواباً خاصة في بيان صدقاته وإنفاقه في الخير, ورجح الكثير من أهل العلم أن أول صدقة جارية (وقف) في الإسلام هي صدقة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال الحافظ في الفتح: وفي مغازي الواقدي إن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم .
ولهذا كان الإقبال والحرص الشديدان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقف أنفس ما يملكون، فحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم قد بادر بنفسه إلى تطبيق هذا النظام الرباني، وأوقافه معروفة مشهورة في عهده, وحثهم على الوقف والحبس لله تعالى، فبادروا وتنافسوا بالخير، وأبدعوا في رعاية أوقافهم، وأنابوا عليها من يُحسن حمايتها وديمومتها، فالخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا ولن ينقطع، فهو موصول في الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 06-03-2024, 08:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (24)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.

الحديث الرابع والعشرون :
الوقف تجارة رابحة
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، قال أبوالدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض قال : «نعم يا أبا الدحداح» قال أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي - قال ابن مسعود - وحائط له فيه ستمئة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل».
وفي رواية أخرى عن زيد بن أسلم قال: «لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، جاء أبو الدحداح الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ إنما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة، قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة».
وأبو الدحداح رضي الله عنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين سارعوا إلى البذل والإنفاق في سبيل الله تعالى، بعد ما علموا أن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، وتيقنوا أن من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة، فكان مثالاً يحتذى في التضحية والفداء، عرف بين الصحابة بصاحب التجارة الرابحة.
لما نزلت هذه الآية والتي فيها الحث على الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله ونصرة الدين، وعلى الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم، بادر أبو الدحداح رضي الله عنه إلى التصدق ببستانه ابتغاء ثواب ربه، وهو على يقين بأن ذلك لا يضيع عند الله تعالى، بل يردّ الثواب مضاعفاً إلى سبعمئة ضعف وأكثر، وتكون تلك الصدقة مفتاحاً للجنة.
لقد عرف المسلمون معنى الآية، ووثقوا بثواب الله ووعده، فبادروا إلى الصدقات، لقد كان لأبي الدحداح بستانان مثمران، وقد جعل خيرهما صدقة لله تعالى، فجاء إلى أفضل بستان يملكه واسمه الجنينة، وطلب من أم الدحداح أن تخرج منه، فقد جعله صدقة جارية لله تعالى؛ فأبقى بستانا لدنياه، وجعل الآخر لأخراه.
وهذا من توفيق الله تعالى لأبي الدحداح أن يُسر له هذا الأمر العظيم، وهذا لم يتيسر لأناس كُثر، فالخير توفيق من الله تعالى، والوقف فضل من الله على عباده، فيا فوز من وفق إلى عمل الخير، ويا حسرة من جمع المال والعقار والمراكب والبساتين، ومضى من الدنيا بعد أن عمر فيها متاعه، إلى آخرةٍ خربها ولم يستثمر بها شيئاً يذكر من صدقة أو عمل ينفعه.
وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كم من عِذْقٍ معلق (أو مدلى) في الجنة لأبي الدحداح». وفي السنن الكبرى للبيهقي: «قتل ابن الدحداحة شهيدا يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة».
وهكذا كان أبوالدحداح من المسارعين في الخيرات، المتسابقين في الباقيات الصالحات. وقد كان كذلك من الفرسان الشجعان، قاتل في أحد حتى أصيب إصاباتٍ بالغة، وبقي شجاعاً مقداماً، حتى آخر أنفاسه يدافع عن الإسلام والمسلمين.
لقد أعطى أبو الدحداح درسين لمن بعده؛ الأول : في الجود والسخاء ، والبذل والعطاء. والثاني: في الثبات في مواقف الفتنة والبلاء، وعدم النكوص، فقد قدم أنفس أمواله لله تعالى، وقدم نفسه في سبيل الله، فرضي الله عنه وأرضاه.
مات أبوالدحداح ولكن ذكره وعمله استمر إلى يوم الدين، وصدقته ستبقى دافعاً للأمة للبذل والعطاء، فالموفق من وفق للخير، والتعيس الذي عطل يديه عن البذل والعطاء وفعل الخيرات، وصدق الشاعر:
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بد يوما أن ترد الودائع
فوائد من الحديث : فيه أن الوقف كان يطلق عليه في عهد الصحابة مسمى الصدقة، والصدقة الجارية في أصلها صدقة، ولكن جعلت في عين تحبس ليستمر نفعها وأجرها.
وفيه أن الصحابة رضوان الله عليهم امتازوا بسرعة الاستجابة لأمر الله تعالى، وكانوا مثالاً للسخاء والعطاء، وكانوا يختارون أجود أموالهم وأنفسها لتكون صدقة ووقفاً لله تعالى .
وفيه أن الصحابة كانوا يبذلون الخير والسعادة تملأ قلوبهم بوعد الله لهم الأجر العظيم، ولا يتبعون ذلك الإنفاق مناً ولا أذى.
وفيه حُسن مناداة الزوج لزوجته، وحسن الإجابة منها، فمن أحسن اللفظ فتحت له الآذان، وفيه حسن تربية الصحابة لزوجاتهم، وثقت زوجاتهم في فعل أزوجاهن، وتربيتهن على المشاركة في الأجر، وفيه جواز إعلان الصدقة وإشهارها والإشهاد عليها.
فالخير في الأمة لا ينقطع، وقد رأيت خلال زيارتي لبعض المؤسسات الوقفية في إسطنبول – تركيا، صيف عام ( 1432هـ-2011م ) ، وقفاً مكوناً من ثماني فلل في غاية الجمال، في موقع يندر أن تجد له مثيلا في الدنيا، أعدها مالكها لتكون مسكناً له ولأبنائه، وحكى لي المقربون من الواقف قصة هذا الوقف، فالواقف رجل ميسور الحال، وقبل أن يستلم مفاتيح مسكنه الجديد بأيام، قدر الله تبارك وتعالى أن يستمع ذلك الرجل إلى موعظة بليغة عن فضل الصدقة الجارية، وإذا به يطلب من أحد أبنائه أن يحضر له الموثق الشرعي في ساعة متأخرة من الليل، وامتثل الابن وأحضر الموثق مستغرباً، وإذا به يكتب وثيقة الوقف لتلك البنايات ويُشهد عليها الشهود. وحينما سئل: لماذا لم تنتظر الصباح، فأجاب: خشيت أن يتغلبني الشيطان من المساء إلى الصباح، وأرجع عن صدقتي، فأردت أن أمضيها قبل أن أنام، ووقفه الآن من المدارس العجيبة والرائعة التي تتبع فيها أحدث النظم التعليمية، وحققت نتائج وجوائز على المستويين المحلي والعالمي؛ فالوقف يقطع مداخل الشيطان والهوى عن الرجوع في الصدقة.
وثقافة الوقف في تركيا من الموروثات التي انتقلت من جيل إلى جيل ، وقد كتب محمد الفاتح – رحمه الله - في وثيقة وقفياته: بأنه قد أوقف ذلك الوقف من ماله الخاص الذي اكتسبه بفضل من الله تعالى ثم عرق جبينه. وكان محمد الفاتح حتى عندما يحاصر دولة ما، أو ينتظر الإمداد لفتحها، يأمر جنوده بشق الطرق وحفر الآبار ويقيم فيها الأوقاف، وحينما يسأل عن ذلك الفعل، فكان يقول: نحن مأمورون بإعمار الأرض.
وكتب أحدهم من الغرب عندما درس أوقاف تركيا، فقال : إن الإسلام جعل من الأتراك أكثر متصدقين في العالم؛ ففي العهود الإسلامية أنشئت أوقاف خلدها التاريخ، حققت مقاصدها، وكانت روائع وثقها التاريخ، وما خطه الرحالة في كتبهم، والتراجم في كتب السير، أرشدنا إلى أوقاف لم تكن في الحسبان، فقد خصص في أوج حضارتنا وقف لكل مطلب وحاجة، ووراء كل وقف دافع وحكاية، فالوقف دلالة على أن هناك واقفا، وموقوفا عليه (الجهة التي ستستفيد من الوقف أو ريعه) ، ووقفا (عقارا أو بستانا أو كتابا ...) ، ووثيقة وقف (حدد فيها الواقف شروطه) . وناظرا يرعى الوقف، وأحياناً مجلسا للنظارة، وعاملين في الوقف، ومنتفعين منه.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 07-03-2024, 08:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (25)




جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وأحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .
الحديث الخامس والعشرون:
الوقف جريان للحسنات
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: من مات مرابطًا في سبيل الله، ومن علم علمًا أجري له ما عمل به، ومن تصدق بصدقة، فأجرها يجري له ما جرت، ورجل ترك ولدًا صالحًا فهو يدعو له».
الأيام تمضي، والعمر قصير، والحياة زائلة، والفرصة في بذل الخير في الدنيا لن تتكرر، وقد أنعم الله على عباده وهيأ لهم من الأعمال ما يستمر فيها الأجر إلى بعد الممات، فجعل الحسنات تزداد للمتصدقين والمحسنين وهم في قبورهم، يغنمون من الحسنات ما لم يكن في الحسبان، ومنهم أناس يكسبون من الحسنات بعد مماتهم أكثر مما كسبوه في حياتهم، وهؤلاء تحقق في وقفهم الإخلاص لله عز وجل، ومتابعة هدي النبي[، وبذلوا من الأسباب واجتهدوا ليدوم عطاء وقفهم.
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن أربعة تستمر فيها الأجور حتى بعد الموت، فلا ينقطع ثوابها بموت أصحابها، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته الواسعة على عباده، أن المسلم يستطيع أن يعمل من الأعمال في حياته ما يستمر معها الأجر والثواب، ولا ينقطع بعد موته، وتفصيلها الآتي:
- أولا: من مات مرابطا في سبيل الله، فمن مات وهو ملازم ساحة الحرب، ومرابط في الثغور للذب عن المسلمين، ولفتح البلاد ونشر الإسلام، فإن أجره مستمر لا ينقطع؛ فالمرابط في سبيل الله عمله عظيم وأجره أعظم، فقد بذل نفسه للجهاد في سبيل الله، ولنشر دينه، فنال هذا الأجر الدائم.
- ثانياً: من علم علما أجري له عمله ما عمل به: ومن علم علما وعلمه غيره ثم مات فيجري عليه ثوابه مدّة دوام العمل به بعده، كالدعوة إلى الله تعالى، وتعليم الناس الخير ونشر العلم النافع بينهم، وما زلنا نذكر علماء ماتوا من مئات السنين ونترحم عليهم وندعو لهم، بعد أن تركوا لنا علماً نتعلمه منذ أكثر من ألف عام، وكلما كان العلم أكثر نفعاً وأوسع انتشاراً كان أعظم ثواباً.
- ثالثاً: من تصدّق بصدقة فأجرها يجري له ما وجدت، أي وإنسان تصدّق بصدقة جارية كوقف فيجري له أجره مدّة بقاء العين المتصدّق بها، كحفر الآبار، وبناء المساجد وغيرها من الأعمال الصالحة التي يجري أجرها ما جرت ولا تنقطع بإذن الله تعالى، فمن أسس وقفاً فهو له صدقة جارية، ولو مات الواقف فإن أجره مستمر، ما دام الوقف مستمراً.
فمن بنى هذا المسجد, كل صلاة تؤدى في هذا المسجد، وكل كلمة تقرأ من كتاب الله تعالى في المسجد، وكل أذان يرفع كل صلاة، وكل درس علم ينعقد، في صحيفة من أسهم في بناء هذا المسجد وتأسيسه، وكذلك كل وقف استمر نفعه ودام عطاؤه.
- رابعاً: ورجل ترك ولدا صالحا يدعو له، أي إنسان ترك ولداً - ذكرا أو أنثى- فهو يدعو له بالرحمة والمغفرة، فدعاؤه أسرع قبولا من دعاء البعيد، فإذا عمل الولد الصالح أعمالاً صالحة فإن لوالديه اللذين أحسنا تربيته وتعليمه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء، وهذه صدقة جارية يوفق لها الفقير والغني.
ومن صلاح الأبناء وبرهما بوالديهما بعد موتهما، المحافظة على استمرار ما خلفاه من أوقاف وصدقات جارية، كمن بنى مسجدًا أو أوقف عقارًا جعل ريعه في أوجه البر، أو ترك علمًا نافعًا، أو حفر بئرًا، أو كفل يتيمًا، ونحو ذلك، فإنه ينبغي على البررة والأوفياء من أهله المحافظة على استمرار تلك الأوقاف والصدقات الجارية، حتى يثابوا على ذلك، ويجري أجرها على ميتهم بعد موته بإذن الله تعالى.
ولا يشترط في الوقف أن يكون ذا قيمة عالية، بل إن الله تبارك وتعالى يسر أعمالا كثيرة تجري بها الحسنات بعد الممات لجميع خلقه، فيمكن للمسلم أن يوقف مصحفًا لوالديه يلحقهما الأجر العظيم عند تلاوته. يقول سماحة الشيخ بن باز رحمه الله: المصحف إذا خلفه الميت فهو ينفعه إذا وقفه، أي: جعله وقفًا ينفعه أجره.. وينفع الميت الوقف الذي يوقفه بعده في سبيل الخير، من بيت أو أرض أو دكان أو نخيل، أو ما شابه ذلك فينتفع هو بهذا الوقف إذا انتفع به الناس.
ومن فضل الله تعالى أن هذه الأجور العظيمة ممكنة التحقق بإقامة الوقف الذي هو صدقة جارية يجري ثوابها للمسلم في حياته وبعد مماته، كمن رابط في سبيل الله تعالى، ومن علم علما ونشره بين العباد، ومن ترك ولداً صالحا، ومن حفر بئراً أو أوقف مدرسة أو عقاراً وغيره، وهذا فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء.
- ومن فوائد الحديث: أن فيه دلالة على أن الميت ينفع بما تسبب لنفسه في حياته من عمل صالح، وفيه أن النماء الحقيقي لعمل المسلم هو ما استمر نفعه ودام أجره، والذي لا ينتهي بموته.
وفيه أهمية اغتنام الحياة والأوقات، بالمبادرة والحرص على الاستكثار من الأعمال الصالحة، والصدقات الجارية ذات النفع المتعدي، التي تجري أجورها ونفعها في الحياة وبعد الممات .
وفيه الحث على تربية الأبناء تربية صالحة، والاجتهاد في تربيتهم على طاعة الله وخشيته والقرب منه، والحرص على استمرار الخير في أبنائهم، وذلك بتوصيتهم على دوام فعل الخير، ورعاية أعمال الخير التي أنشأها والدهم في حياته، وفيه حث الأبناء للاجتهاد في الدعاء للآباء في حياتهما وبعد مماتهما وانقطاع أعمالهما.
وفيه حث المسلم أن يعمل من الأعمال التي يستمر فيها الأجر بعد الموت، فالذي يفتح باب خير فأجره مستمر، ومن أعظم أعمال العبد تلك الأعمال التي لا تنتهي بموت صاحبها، وكما يحرص الإنسان على الكسب في الدنيا، وينشط لتجديد أعماله ليدوم ربحها، فعليه أن يستثمر لآخرته .
وفيه حث للواقف على الحرص في أن يدوم نفع وقفه، وأن يبذل الأسباب التي يستمر معها الوقف في عطائه، فيرعاه في حياته، ويجعل عليه القوي الأمين من ذريته أو غيرهم ليديره إدارة رشيدة لحفظ أصوله، وتحصيل ريعه، وصرفه في المصارف الشرعية المحددة، وتنميته وصيانته حتى يبقى على حالة يدوم معها الانتفاع به، ويحقق مقاصده.
والأعمال الواردة في الحديث، أعمال تبقى للإنسان بعد وفاته، وتجري لها الحسنات إلى ما بعد الممات، وكم من الناس من يتمنى أن تكون له مثل تلك الآثار والأعمال الصالحة التي يجري ثوابها ويدوم أجرها بعد مماته، ولكنه يسوف ويفرط ويهمل حتى يأتيه الموت، فلا يستطيع حينئذ أن يقدم ما كان يتمناه فقد انقطع عن دار العمل وانتقل إلى دار الجزاء والحساب.
فالحياة فرصة عظيمة للأحياء في أن يعملوا وأن يتزودوا بالأعمال الصالحة التي يدوم أجرها، وشتان بين عبدين: عبد تطوى بموته صحيفة حسناته، وعبد تجري عليه الأجور والحسنات العظيمة لتملأ صحيفة حسناته، ويرفع الله تعالى درجاته، حتى يحين الفصل بين العباد.



اعداد: عيسى القدومي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 07-03-2024, 10:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (26)




جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية، وينفع به قولاً وعملا، ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
الحديث السادس والعشرون:
بناء المساجد صدقة جارية
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجداً، يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتا في الجنة(1). وفي رواية: «بنى الله له مثلَه في الجنة»(2).
فضل الله سبحانه وتعالى بعض الأماكن على بعض، ومن تلك الأماكن التي فضلها الله عز وجل على غيرها المساجد، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(3)، والعمارة المراد بها إقامة البناء وتشييده، وتلك من علامات الإيمان بالله والخشية والهداية.
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بفضل بناء المساجد، فمن بنى مسجداً لله تعالى، كبيراً كان أم صغيراً، لا يريد به رياء ولا سمعة، مخلصاً عمله لله وحده، طالباً رضا الله ومغفرته، بنى الله له بيتا في الجنة.
فقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض على بناء المساجد، ووعد مشيديها بالثواب الجزيل والأجر العظيم؛ لمكانتها في الإسلام، وحاجة المسلمين إليها في سائر البلاد والأزمان، وهذا الأجر العظيم والثواب الجزيل مشروط بشرطين كسائر الطاعات: الأول: أن يكون خالصاً لله تعالى ويبتغي به وجه الله عز وجل، والثاني: أن يكون موافقاً للشرع الذي أمر الله تعالى.
- والبخاري زاد في رواية: «بنى الله له مثله في الجنة»، والمماثلة الواردة في الحديث جاءت لإيضاح أن الجزاء من جنس العمل، فهي تعني المثلية في الكم لا في الكيف؛ لأن موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما صرح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، قال النووي: «يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم أمرين: أحدهما أن يكون مثله، معناه: بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والثاني: معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا»(4). وقال الألباني: «أي مثله في الشرف والفضل والتوقير؛ لأنه جزاء المسجد، فيكون مثلاً له في صفات الشرف»(5).
وترغيباً في بناء المساجد في الأمكنة المحتاجة إليها ولو كانت صغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من بنى مسجداً قدر مفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة» (6). ومفحص القطاة(7): موضعها الذي تجثم فيه وتبيض، والقطاة طائر من أنواع الحمام، كأنها تفحص عنه التراب أي تكشفه، والفحص: البحث والكشف. وخص القطاة بهذا لأنها لا تبيض في شجرة ولا على رأس جبل إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطير، فلذلك شبه به المسجد؛ ولأنها توصف بالصدق، ففيه إشارة إلى اعتبار إخلاص النية وصدقها في البناء(8). ومعلوم أن مفحص القطاة مكان صغير جدًا، لا يمكن بحال أن يتسع لمصل، فدل على أن أيّ تبرع يُسهم في بناء مسجد موعودٌ صاحبه بأجر عظيم.
وللمساجد مكانة عظيمة في الإسلام، فهي بيوت الله عز وجل، وقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه إضافة تعظيم وتشريف، فقال: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}(الجن-18)، وهي أحب البقاع إليه، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب البلاد إلى الله مساجِدُها»(9).
والمسجد قاعدة أساسية تنبعث منها الدعوة الإسلامية، ورسالته هي رسالة الإسلام، رسالة التوحيد والهداية والاعتصام بحبل الله تعالى، فهو مكان إعلان العبودية الخالصة لله عز وجل، وهو مكان أداء الصلاة التي هي عماد الدين، وفيه تُعقد ألوية الحرب، ومنه تنطلق قوافل الفاتحين، وفيه تعقد حلقات العلم لشرح أصول الدين وفقهه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»(10). وكذلك كانت المساجد في عهودها الزاهرة جامعات علم ومنابر هدى ومراكز إشعاع في عواصم العالم ومدنه الكبرى مثل المدينة، ومكة، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، والقيروان، وغيرها.
وأهمية المسجد لا تقتصر على كونه مكاناً لأداء الصلوات فحسب، بل هو أهم مكان للمجتمع الإسلامي فهو يؤدي دوراً اجتماعياً بارزاً لمساعدة المجتمع في النهوض بأعبائه الاجتماعية، وعمارة المساجد تكون إما حسية أو معنوية، فعمارتها الحسية تكون بالبناء والترميم والصيانة، وتوفير ما تحتاج إليه من خدمات، والعمارة المعنوية تكون بالصلاة وحلقات تحفيظ القرآن الكريم والمحاضرات والدعاء والدروس العلمية.
ولا أدلّ على تلك الأهمية من فِعله صلى الله عليه وسلم حين وطئت قدماه الشريفتان دار هجرته المدينة، فكان أول عمل قام به صلى الله عليه وسلم هو بناء مسجده الذي أسس على التقوى من أول يوم، فكان المسجد هو الركيزة الأولى واللبنة الأساس في تكوين المجتمع المسلم، حيث لم يكن مقصورا على إقامة الصلوات والدروس العلمية، بل ملتقى المسلمين، ومنطلق دعوتهم، ومركز توجيه الجيوش.
وقد أمر الشارع ببناء المساجد وبتشييدها وتعميرها، ولكنه نهى عن المبالغة في زخرفتها، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد»؛ لأنها بنيت لذكر الله؛ ولإقامة الصلاة، ولتعليم الناس أمور دينهم، ولهذا لابد أن تصان من بعض الأمور التي لا تليق ولا تناسب الأغراض التي بنيت المساجد من أجلها؛ فلا يُقبَر في المسجد أحد، لا أمام القبلة ولا في الجهات الأخرى، مهما كان الموصي بذلك، فلا تنفذ وصيته، ولو كان الذي بناه، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(11)، وقال: «إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد»(12).
ومن فوائد الحديث: فيه دلالة على أن الأجر المذكور يحصل ببناء المسجد، لا أن يجعل الأرض مسجدا من غير بناء، وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء، والتنكير في «مسجد» للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير(13)، وفيه أن كل من اشترك في بناء مسجد، وساهم في حصة ولو قدر موضع سجود، فله الأجر العظيم من الله تعالى.
وفيه حث وترغيب في بناء المساجد في الأمصار والقرى، والمحال ونحوها بحسب الحاجة، وفيه أن العمل بلا إخلاص لا نفع فيه، فالذي يبني المساجد للرياء والسمعة والمباهاة ليس بانيا لله، فلا يناله الأجر الوارد في الحديث، يقول ابن حجر في الفتح: «وفيه إشارة إِلى دخول فاعل ذلك الجنَّةَ؛ إذ المقصود بالبناء له أن يسكنهُ، وهو لا يسكنهُ إلا بعد الدخول، ولا يحصل له هذا الوعد المخصوص بدخول الجنة لمن بناه بالأجرة لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر بالجملة»(14).
ووقف المساجد لا يحتاج إلى طول سنين ليحقق غاياته، فمنذ أن يؤذن فيه للصلاة، وإلى ما شاء الله من السنين، يحقق مقاصده ويقدم وظيفته العبادية والتعليمية والدعوية والاجتماعية، وتعود بالمصالح على العباد لدنياهم وأخراهم، فالمسجد ليس حصراً على كبير دون صغير، ولا لغني دون الفقير، ولا لعرق دون غيره.
ووقف المساجد أمر قد يسره الله لكل من أخلص النية في بناء المساجد، وهذا أمر محسوس وملموس(15)، ومساهمات الخيرين حتى في الدول الفقيرة تجعل تكلفة بناء المساجد أقل من المنشآت التي في مساحته، ولو تعذر على المتبرع إكمال بناء مسجده، فإنه لا يبقى معلقاً، فيكمل المسجد ويصلى فيه من مساهمات أهل الحي ومن حولهم.
الهوامش
1 - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل بناء المساجد والحث عليها، برقم: 533.
2 - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب من بنى مسجداً، برقم 450. ومسلم في صحيحه برقم: 533. ولفظه: «من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله».
3 - سورة التوبة، الآية 18.
4 - صحيح مسلم بشرح النووي، ( 3/13).
5 - صحيح الترغيب والترهيب، ( 1/227).
6 - رواه البزار – واللفظ له – والطبراني في الصغير، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 269 ( 1/227).
7 - مفحص قطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه، أي تكشفه وتنحيه لتبيض فيه، أنظر المصباح المنير: ص 176.
8 - أنظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، (2/239).
9 - أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 671.
10 - أخرجه مسلم في صحيحه، برقم2699.
11 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم: 1390، ومسلم في صحيحه، برقم: 529.
12 - أخرجه أحمد في مسنده، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، برقم 278.
13 - انظر: نيل الأوطار باب فضل من بنى مسجداً، ج2/626.
14 - انظر: فتح الباري، (2/194-195).
15 - وذلك خلال عملي في القطاع الخيري، فإن المسجد أسرع المشاريع إنجازا، والجميع يحرص على أن تكون له مساهمة فيه، وهذا مشاهد.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 08-03-2024, 11:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (27)


جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.





الحديث السابع والعشرون:
الوقف دواء لصاحبه
عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر بئر ماء لم يشرب منه كبدٌ حرَّى من جن ولا إنس، ولا طائر إلا أجره الله يوم القيامة».
من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الوقف، استثماراً للمال في دنياهم لآخرتهم، والموفق من وفق لهذا النهر العظيم من الحسنات الجارية، والمحروم من حرم هذا الخير الجزيل، فمعه لا تُطوى صحائف الأعمال، بانتهاء آخر صفحات الحياة، بل تزداد فيها الحسنات أضعافا مضاعفة.
فالوقف عمل تقدمه في حياتك، يستمر أجره إلى يوم الدين، فهو صاحب لا يمكر، ومعين لا يغدر، صديق يلازمك في حياتك، ولا يتخلَّى عنك عند موتك، يلحق بك في قبرك، ويتبعك في يوم نشرك وحشرك، عمل صالح ممدود لا يفارقك، فهو من عملك الذي لا ينقطع أجره ما دام نفعه.
يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعظم شأن حفر الآبار وسقي الماء لمن يحتاجه، وبذله في سبيل الله، وتسبيله للناس حتى يستفيدوا منه، فهو مادة الحياة، وبه حياة المخلوقات؛ وأن حفر الآبار لسقيا الناس، أو لسقيا الدواب، من الصدقات الجارية التي يستمر بها الأجر والثواب ما دام النفع حاصلاً.
وفي الحديث أن من حفر بئر ماء، مخلصاً لله تعالى، فكل من شرب منه وانتفع به حي من الأحياء على ظمأ، «كبد حرى»: أي كبد عطشى، من الإنس والجن، ومن الطير وغيره، إلا كان له الأجر العظيم من الله تعالى، ويجد هذا الأجر يوم القيامة وقد سجلت الحسنات في صحائفه.
وسقي الماء وحفر الآبار من أفضل الصدقات؛ لقوله: «أفضل الصدقة سقي الماء».
وعن سعد بن عبادة، رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله! إن أمي ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: «الماء» فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعد.
وحفر الآبار وسقي الماء وتوفير برادات الماء في المساجد والأسواق، وأماكن تجمع الناس، خاصة في الدول الحارة، لا يكلف من المال الكثير، وأجره عظيم منة ورحمة من الله بعباده، ولعلها تكون تلك الصدقة الجارية إن كانت خالصة لله تعالى ظلا للمتصدق يوم القيامة، كما في حديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل امرئ في ظل صدقته، حتى يقضى بين الناس».
وهذا الفضل والحث على حفر الآبار وحبس الماء أسهم في توافر الأمن المائي للمسلمين منذ بداية نشأة الدولة الإسلامية في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد شاع الوقف لهذا الوجه من البر في سائر أنحاء العالم الإسلامي، لعظم فضلها وثوابها، بدءاً من حض النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على شراء بئر رومة، فاشتراه عثمان رضي الله عنه والتزم الشرط الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو: «أن يجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين»، أي أن يجعله وقفاً عاماً للناس كافة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما بعده من العصور. وحفر سعد بن عبادة رضي الله عنه بئراً وأوقفه، وكذلك علي رضي الله عنه حفر بئراً في أرضه ينبع وأوقفها والبئر معها وغيرهم الكثير من الصحابة الذين حرصوا كل الحرص على وقف الآبار وسقي الماء وتوفيره لابن السبيل، وأسهم نظام الوقف كذلك في انتشار الأسبلة، التي ترى آثارها إلى الآن في حاضرة العالم الإسلامي، والتي تمثل روعة معمارية ووفرت مياه الشرب في الشوارع والطرق.
ومن سقي الماء في عصرنا الذي نعيش توفير محطات لتحلية الماء للأسبلة، فالكثير من الدول العربية والإسلامية تعاني ارتفاع نسبة الملوحة في الماء، وتلوثه مما يؤدي إلى أمراض خطيرة كالفشل الكلوي، وأمراض السرطان وغيره، حتى إن بعض مزارع الحيوانات منعت من استعمال هذه المياه، وميسور الحال يستخدم المياه المعالجة والصالحة للشرب، أما الكثير من الفقراء فإنه لا يستطيع شراء الماء النقي؛ لذا قامت بعض المؤسسات الخيرية بطرح مشروع وحدات التحلية بسعات مختلفة، لتوفير المياه الصالحة للفقراء وأهل العوز، وذلك كمجال من مجالات الصدقة الجارية لمدهم بما يحتاجونه من المياه الصالحة للشرب،. وهو من المشاريع الناجحة والتي تم تنفيذها، وحققت نفعها في سقي الماء.
والصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء من المرض وغيره، وهذا أمر معلوم عند من جربه، والصدقة الجارية بنية الشفاء دواء للأمراض البدنية كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «داووا مرضاكم بالصدقة»، يقول ابن شقيق: « سمعت ابن المبارك وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن قرحةٌ خرجت في ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجتُ بأنواع العلاج، وسألت الأطباء فلم أنتفع به، فقال: اذهب فانظر موضعاً يحتاج الناس فيه الماء فاحفر هناك بئراً؛ فإني أرجو أن ينبع هناك عينٌ ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ».
وفي الوقف واختيار الأنفع منه، تخلق بأخلاق الكرماء الفضلاء، وتلمس لحاجة أهل العوز، قال ابن القيم رحمه الله: «وقد دل النقل والعقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى الله رب العالمين، وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمه بمثل طاعته، والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه».
ومن فوائد الحديث: فيه حض على حفر الآبار، وسقي الماء وحبسه، لمنفعة الإنسان وما دونه من الحيوان والنبات، وفيه الحث على الرفق بالحيوان، ورحمته، والإحسان إلى كل طير وحيوان حي بسقيه ونحوه، وفيه أن في سقي البهائم والإحسان إليها أجراً، وفيه الحث على الإحسان إلى الأحياء بالطعام والشراب.
وفيه عظيم فضل الله وسعة رحمته، فهو يعطي العطاء الجزيل على العمل القليل.
وفيه أن الإنسان يؤجر على إحسانه للإنس والجن، وفيه أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى، وذلك لشدة حاجة الناس إلى الماء، وعدم استغنائهم عنه، فالإحسان في بذل الماء لمن يحتاج إلى شربه، وتمكينه منه فعل عظيم، وله ثواب جزيل. وفيه حث للواقفين والمتصدقين ونظار والجهات المشرفة، على حسن رعاية الأوقاف، والحرص على استمرار عطائها ونفعها؛ لأن أجر الوقف يستمر ما دام ينتفع به.
ومن علامات التوفيق للعبد أن يفتح على يديه من الخير ما يوفر للناس مشربهم ومطعمهم، في أماكن هم بأمس الحاجة فيها للماء، وقد تعددت مجالات سقي الماء، وتيسَّرت كثير من الأسباب المعينة على توفيره، فلا تحقرن من الخير شيئاً، فرب شربة ماء يبل بها الظمآن غلته، لا تكلف الكثير تنال بها الأجر العظيم ويدفع بها عنك البلاء، ويجيرك بها من سوء القضاء.
والوقف من أسباب انشراح الصدر، وقد لمست هذا من جُلَ المتبرعين الذين أنشأوا الأوقاف، فكانت سعادتهم كبيرة في التواصل مع الجهة المشرفة على مشروعهم الوقفي، ولمست فيهم الارتياح والرضا النفسي الكبير، خاصة عند زيارة المشاريع، وبذلهم للأسباب ليدوم النفع والعطاء لوقفهم.
وجدتهم كذلك حريصين كل الحرص كلما أنجز لهم وقف أن يكون لهم مشروع وقفي آخر، وبعضهم يصرح: بأنني لمست بعد هذا الوقف البركة في نفسي، ومالي وأولادي، وأهلي. وآخرون قالوا: كلما انتهينا من مشروع وقفي تضاعفت أرباح تجارتنا وبورك لنا في أعمالنا وصحتنا وأبنائنا؛ فالسعادة الحاصلة في الصدقة الجارية لا ينالها إلا من جربها، فلا تحرم نفسك يا مسلم من هذه السعادة.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 08-03-2024, 11:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (28)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.



الحديث الثامن والعشرون:
وقف جزء من المال
عن كعب بن مالك- رضي الله عنه – قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، قلتُ أُمْسِكُ سهمي الذي بخيبر.
بوب البخاري لهذا الحديث في كتاب الوصايا: «باب إذا تصدق أو أوقف بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز»؛ وفيه خبر كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن جيش المسلمين في غزوة تبوك، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب تخلفه، فصدق القول مع النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يتخلف لعذر يقبل، ولم يختلق الأعذار الواهية؛ فطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي حتى يقضي الله بأمره، وقد نهى رسول اللهصلى الله عليه وسلم الناس عن كلام الثلاثة الذين خلفوا، فكان يخرج إلى السوق، فلا يكلمه أحد، وتنكر له الناس امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم .
وهو في هذه الحال أتته صحيفة من ملِك غسَّان بأن يلحق بهم ليواسوه، أرادوا أن يفتنوه، وإذا به يحرقها في التنور، وبعد هذه الشدة والضيق سمع صوتاً يقول: أبشر يا كعب بن مالك، فخر ساجداً، وأعطى الفارس الذي بشره ثوبه، ولبس غيره، فقد نزلت توبته على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا نبي الله، إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً، وأن أنخلع من مالي كلهُ صدقة. فقال: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك».
فأراد كعب بن مالك رضي الله عنه أن يُكفِّر عن ذنبه بتخلفه عن جيش المسلمين الخارج إلى تبوك، بأن ينخلع من ماله، كما يخلع الإنسان ثوبه، أي بأن يتصدق بكل ماله. ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بكعب بن مالك رضي الله عنه وعياله، ويقينه بصدق كعب وتأثره بتوبة الله عليه، وأن اندفاعه بقراره التبرع بكل مَاله قد يؤثر عليه سلبًا مستقبلاً, وقد يؤدي به إلى العِوز والحاجة؛ لذلك وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم خير توجيه، بأن يمسك بعض ماله، وأن يتصدق ببعضه، ففعل، فقد تصدق وأبقى لنفسه وعياله سهمه الذي غنمه من خيبر؛ لكيلا يحتاج إلى الناس.
فالصدقة دليل صدق الإيمان وقوة اليقين وحسن الظن برب العالمين، وهي برهانٌ على صحة إيمان العبد وتصديقه بموعود الله ووعيده، وعظيم محبته له؛ قال صلى الله عليه وسلم : «والصدقة برهان»، فالصدقة حجة على إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه، فمن تصدق بطيب نفس تورث القلب حلاوة الإيمان، وتذيق العبد طعمه، وتعمق يقينه بالله عـز وجل، وتخلص توكله عليه، وتوجب ثقته بالله وحسن الظن به.
واختلف العلماء في التبرع بكل المال، وقال ابن بطال: «واتفق مالك والكوفيون والشافعي وأكثر العلماء على أنه يجوز للصحيح أن يتصدق بكل ماله في صحته، إلا أنهم استحبوا أن يبقي لنفسه منه ما يعيش به خوف الحاجة وما يتقي من الآفات، مثل الفقر وغيره؛ فإن آفات الدنيا كثيرة وربما يطول عمره ويحصل له العمى أو الزمانة مع الفقر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، ويروى: «أمسك عليك ثلث مالك» فحض على الأفضل.. ومذهب مالك أنه يجوز إذا كان له صناعة أو حرفة يعود بها على نفسه وعياله وإلا فلا ينبغي له ذلك».
واستدل بعض أهل العلم على أن الصدقة لا حد لها، وليس شرطاً ألا تخرج عن الثلث بأحاديث كُثر، ومنها هذا الحديث – حديث كعب - حيث لم يحدد له النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة بالثلث، قال الشوكاني رحمه الله: «دل حديث كعب أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع مالِه أن يُمسك بعضه ولا يلزم من ذلك أنه لو نجَّزهُ لم ينفَّذْ، وقيل: إن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال, فمن كان قوياً على ذلك يعلم من نفسه الصَّبرَ لم يُمنع, وعليه يتنزَّلُ فعل أبي بكر الصِّديق، وإيثار الأنصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ, ومن لم يكن كذلك فلا, وعليه يتنَزَّلُ: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى»، وفي لفظ: «أفضلُ الصدقة ما كان عن ظهر غنى».
وفي الموسوعة الفقهية: «يستحب أن تكون الصدقة بفاضل عن كفايته, وكفاية من يمونُهُ, وإن تصدق بما ينقص مؤنة من يمونه أثم. ومن أراد التصرف بماله كله، وهو يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة فله ذلك، وإلا فلا يجوز.
ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفقة نفسه عن الكفاية التامة، وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية، وقال المالكية: إن الإنسان ما دام صحيحا رشيدا فله التبرع بجميع ماله على كل من أحب، قال في «الرسالة»: ولا بأس أن يتصدق على الفقراء بماله كله لله، لكن قال النفراوي: محل ندب التصدق بجميع المال أن يكون المتصدق طيب النفس بعد الصدقة بجميع ماله، لا يندم على البقاء بلا مال، وأن ما يرجوه في المستقبل مماثل لما تصدق به في الحال، وألا يكون يحتاج إليه في المستقبل لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته، أو يندب الإنفاق عليه، وإلا لم يندب له ذلك، بل يحرم عليه إن تحقق الحاجة لمن تلزمه نفقته، أو يكره إن تيقن الحاجة لمن يندب الإنفاق عليه؛ لأن الأفضل أن يتصدق بما يفضل عن حاجته ومؤونته ، ومؤونة من ينفق عليه».
وقد أجمع أهل العلم على أن من أراد الصدقة بماله كله، ولا عيال له، ويعلم من نفسه حسن التوكل، والثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس، والصبر عن المسألة مما في أيديهم، جاز واستحب له ذلك، أما إن لم يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر على الضيق، أو ما لا عادة له به، فيمنع من ذلك، ومقدار الصدقة يختلف باختلاف أحوال الناس، في الصبر على الفاقة والشدة، والاكتفاء بأقل الكفاية.
ومما يستفاد من الحديث: رفق النبي صلى الله عليه وسلم بصحابته ومعرفته بأحوالهم، وحرصه على مصالحهم في الدنيا، ونيلهم خير الجزاء في الآخرة، وفيه أن مع حاجة الأمة للمال إلا أن الرحمة به وبمن يعول تقتضي أن يُمسك المسلم بعض ماله.
وفيه كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته وإرشادهم إلى ما فيه فوزهم وسعادتهم، وفيه أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للواحد خطاب للجميع، ما لم يدل دليل على التخصيص.
وفيه جواز التصدّق من الحيِّ في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدّق به، وقال لسعد بن أبي وقاص في مرضه: «الثلثُ والثلثُ كثيرٌ»، وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».
وفيه دليل على إمساك ما يُحتاج إليه من المال أولى من أن إخراجه كله في الصدقة، وقد قسموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان، فإن كان لا يصبر كره أن يتصدق بكل ماله، وأن كان يصبر: لم يكره، وفيه دليل على أن الصدقة لها أثر في محو الذنوب، ولأجل هذا شرعت الكفارات المالية، وفيها مصلحتان، كل واحدة منهما تصلح للمحو، إحداهما: الثواب الحاصل بسببها وقد تحصل به الموازنة، فتمحو أثر الذنب، والثانية: دعاء من يتصدق عليه فقد يكون سببا لمحو الذنوب.
وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله، وفيه أن الصدقة تخرج عن طيب نفسٍ من المتصدق، وأن يُراعي حاجاته لكيلا يندم على صدقته بعد مضيها، وفيه أن الصدقة شكر لله تعالى على نعمه، وهي دليل على صحة إيمان مؤديها وتصديقه.
وفيه أن الصدقة مع التوبة دليل على صدق توبة باذلها؛ ولهذا سميت صدقة، وفيه استحباب أن يكون المال المعطى كصدقة أو وقف، من أجود وأنفس مال المتصدق وأحبه إليه، وهذا فِعل الصحابة والسلف إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله تعالى، وفيه مبادرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى تنفيذ وصايا النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه الحث على الصدقة ببعض المال، وفيه الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عن أمور دينهم، وفيه ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الرغبة في الخير وحرصهم على الأجر في الآخرة، وفيه صدق توبة كعب بن مالك رضي الله عنه، وصدقه مع الله تعالى، ومع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وفيه أنه لا يجب على الإنسان أكثر مما يطيق ويستطيع.
لقد اتصفت الشريعة الإسلامية بالتوازن والرحمة والحكمة والشمول، فحضت على الإنفاق، وفتحت مجال الصدقات واسعًا أمام المسلمين, لينفق ذو سَعَةٍ من سَعَتِه, ولتسعد الأمة بكاملها بسخاء أغنيائها ومنفقيها، ومع ذلك رعت حاجات الإنسان، وحاجات من يعول، وقوة تحمل المتصدق حتى لا يندم على صدقته.



اعداد: عيسى القدومي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 08-03-2024, 06:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (29)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .



الحديث التاسع والعشرون
الوقف يولج الجنة
عن جعفر بن محمد عن أبيه: « أن علي ابن أبي طالب، قطع له عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يَنْبُعَ، ثم اشترى علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى قطيعة عمر رضي الله عنه أشياء، فحفر فيها عيناً، فبينما هم يعملون فيها، إذ تفجر عليهم مثل عُنُقِ الجَزُور من الماء، فأُتى علي، وبُشِّرَ بذلك، قال: بَشِّر الوارث، ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وابن السبيل، القريب والبعيد، وفي السلم، وفي الحرب، ليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ليصرف الله بها وجهي عن النار، ويصرف النار عن وجهي».
الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا أحرص الناس على فعل الخير، وأسرعهم إليه، وحرصوا كذلك على معرفة أفضل أبوابه، وحينما علموا أن الوقف مما يدوم نفعه ويستمر أجره، تنافس وأوقف الصحابة الكرام، ومنهم : أبو بكر، وعمر، وعلي، وسعد، والزبير، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وحكيم بن حزام، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك وغيرهم، رضي الله عنهم.
فالوقف من الصدقات المندوبة، غير أنه أفضلها وأدومها وأعمها؛ لهذا كان اختيارهم للوقف عملاً صالحاً، فهو باب عظيم من أبواب التعاون على البر والتقوى، ففيه يعين الناس بعضهم بعضاً على البر والتقوى، والوقف صدقة ليست بواجبة، وإنما يتطوع بها المسلم ويبذلها لوجه الله تعالى، فالوقف سنة مستحبة، ولا سيما مع حاجة الناس إليها .
والحديث فيه خبر وقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحُسن إكرام عمر رضي الله لآل رسول الله[، فقد أقطع عمر ابن الخطاب عليًا رضي الله عنهما أرضاً بينبع. وحينما طلب على رضي الله عنه من بعض عماله حفر بئر في أرضه بينبع، والتي تعرف بكثرة مائها، فبينما هم يحفرون، وإذا بالماء يتفجر من الأرض عيناً جارية، وجاءه مخبر فأخبره أنه قد نبع في بستانه عين متدفقة مثل عنق الجزور من الماء، أي كعنق البعير من الماء، والجزور هو اسم لما يذبح من الإبل خاصة، فقال: «بشر الوارث» :أي بشر الفقراء الذين يرثون الاستفادة من هذه الأرض، فالمراد بالوارث من أوقفها عليه.
وأوقف -رضي الله عنه- أرضه بينبع على ستة أصناف، وهم: الفقراء، والمساكين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والقريب، والبعيد، وفي حالتين: حال السلم، وحال الحرب للفتوحات ورد المعتدين، وللمرابطين في الثغور، راجياً الثواب والمغفرة، وأن تكون له تلك الصدقة ذخراً ليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، من أجل أن يقي الله بها وجهه -رضي الله عنه- عن النار، ويصرف النار عن وجهه.
ثم كتب بوقفه كتاباً، وأحضر شهودا فأشهدهم على ما كتب، وفيه: «هذا ما أمر به علي بن أبي طالب وقضى في ماله: إني تصدقت بينبع ووادي القرى والأذينة وراعة في سبيل الله ووجهه، أبتغي مرضاة الله، يُنفق منها في كل منفعة في سبيل الله ووجهه، وفي الحرب والسلم والجنود وذوي الرحم القريب والبعيد، لا يُباع ولا يوهب ولا يورث حيًا أنا أو ميتًا، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، ولا أبتغي إلا الله عز وجل، فإنه يقبلها وهو يرثها وهو خير الوارثين، فذلك الذي قضيت فيها بيني وبين الله عز وجل».
وكان من حرص الصحابة رضي الله عنهم على رعاية أوقافهم، أن تولوا نظارة أوقافهم في حياتهم، ومنهم علي رضي الله عنه، فقد كان ناظراً لوقفه حتى وفاته، وهذا ما أخبرنا به الشافعي، رحمه الله، حيث قال: «ولم يزل علي رضي الله عنه يلي صدقته - بينبع - حتى لقي الله تعالى».
ووقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جملة وقوفات الصحابة -رضوان الله عليهم-، فقد حرص الصحابة على الوقف، وكانوا يتخيرون لأوقافهم أثمن وأنفس ما يملكون؛ لأنهم أرادوا أن يعمروا آخرتهم، بما يحبون من نفائس أموالهم وكرائمها، وكانوا -رضي الله عنهم- إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى.
وفي وقوفات الصحابة، روى الخصاف في أحكام الأوقاف عن محمد بن عبد الرحمن عن أسعد بن زراة قال: «ما أعلم أحداً من أصحاب رسول الله[ من أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلا وقد وقف من ماله حبساً، لا يشترى، ولا يورث ولا يوهب، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأكد ذلك القرطبي بقوله: «إن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة».
وللحديث فوائد ودلالات: ففيه حرص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على توجيه الهمة إلى الدار الآخرة وثوابها، وفيه أن تحبيس الأموال في سبيل اللّه هو شكر للمنعم جل جلاله، واعتراف بنعمته وفضله، ودليل لصحة إيمان مؤديها وتصديقه، وفيه سرعة شكر الله المنعم المتفضل بنعمه، وفيه أن شكر نعمة المال يكون بالإنفاق منه.
وفيه أن الوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد وهو المنع من التصرف، وفيه أن وقوفات الصحابة كثيرة جداً، ومنها وقف علي -رضي الله عنه- أرضه بينبع، وفيه فضيلة من فضائل علي -رضي الله عنه- الجمة وسخاؤه، وصدق إيمانه، وفيه دلالة على حُسن العلاقة بين الخليفتين عمر وعلي رضي الله عنهما، وبين الآل والأصحاب.
وفيه الحرص على أن يكون ريع الوقف لأناس هم بأمس الحاجة للعون والمساندة وتخفيف آلامهم وعوزهم، وفيه حرص الصحابة الكرام على الصرف في سبيل الله ففيه نشر الإسلام وعز المسلمين وحفظ كرامتهم وأوطانهم، وفيه جواز تحدث الإنسان بنعم الله تعالى عليه وفضله على عبده، وفيه أن العمل الصالح والصدقة والوقف توفيق من الله تعالى، وفيه حث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة دون كسل أو تأخير أو تسويف.
فالوقف صورة من صور الصدقات، وهو في أصله صدقة، ينال بها واقفها أجر المتصدق، وينال بها أجر الصدقة الجارية، التي يستمر ثوابها ما دام نفعها، فيحوز بذلك الأجرين، ومعه يمتد العمل ويمتد الأجر، وهذا من فضل الله تعالى وعطائه على عباده، أن شرع لهم من الصدقات، ما يحبس أصلها ويستمر نفعها، لتكون صدقة جارية، ينال أجرها ما دام نفعها، مما يحقق مصالح العباد في حال الحياة وبعد الممات. وأنواع الوقوف متعددة، ومصارفها ولمن تحبس لهم كثيرة أيضاً، وكلما كان الوقف أعم وأكثر نفعاً كان أفضل.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 08-03-2024, 08:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (30)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.



الحديث الثلاثون:
وقف المنقولات
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر حَمَلَ على فرس له في سبيل الله أعطاها رسول الله[ لهُ، فَحَملَ عليها رجلاً، فأخبر عمر أنه قد وقفها يبيعها، فسأل رسول[ أن يبتاعها فقال: «لا تبتعها ولا ترجعن في صدقتك».
الحديث أورده البخاري في باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت، وفيه بيان وقف المنقولات، من الدواب والأمتعة والسلاح والنقد من المال، وابتدأ البخاري الباب مستدلاً بقول الزهري على جواز وقف المنقولات: «وقال الزهري فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله، ودفعها إلى غلام له تاجر يتجر بها، وجعل ربحه صدقة للمساكين والأقربين، هل للرجل أن يأكل من ربح ذلك الألف شيئا، وإن لم يكن جعل ربحها صدقة في المساكين؟ قال: ليس له أن يأكل منها».
وفيه قصة عمر مع فرسٍ سميّ «الورد» من جودته وجماله وقوته، أهداه تميم الداري رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلملعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتصدق به عمر لرجل على أن يستخدمه ويركب عليه في الجهاد في سبيل الله، فأُخبر عمر بأن الرجل يعرضه للبيع. فسأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، أن يشتريه من الرجل الذي يريد بيعه، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ألا تشتره، وعَدّ النبي صلى الله عليه وسلمأن الشراء رجوع في الصدقة.
«وسبيل الله»: هو الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وتطلق على كل ما شرعه الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، كما تطلق مراداً بها الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، كما في حديث ابن عمر، والصدقة في سبيل الله، إما تكون صدقة، أو تكون وقفاً، فإن كان قصد المتصدق حبس أصل الصدقة وتسبيل منفعتها، فهو: وقف وحبس، وإن كان قصده تمليك ذات المتصدق به أو الموهوب فهو صدقة فقط.
قال الحافظ في الفتح في معنى «وقف الدواب والكراع والعروض والصامت»: «الكراع اسم لجميع الخيل، فهو بعد الدواب من عطف الخاص على العام‏،‏ والعروض بضم المهملة جمع عَرْض وهو جميع ما عدا النقد من المال‏.‏ والصامت: الذهب والفضة‏ من النقد».
وقصة فرس عمر دالة على صحة وقف المنقولات، فيلحق به ما في معناه من المنقولات إذا وجد الشرط: وهو تحبيس العين، فلا تباع ولا توهب بل ينتفع بها، والانتفاع في كل شيء بحسبه‏، واستدل العلماء من هذا الحديث وغيره على صحة وقف المنقولات، وما كان منه تحبيساً في سبيل الله، فهو وقف لا يجوز الرجوع فيه عند الجمهور. قال ابن بطال: «ما كان من الحمل على الخيل، تمليكا للمحمول عليه، بقوله: هو لك، فهو كالصدقة، فإذا قبضها لم يجز الرجوع فيها، وما كان منه تحبيساً في سبيل الله، فهو كالوقف لا يجوز الرجوع فيه عند الجمهور».
والأوقاف المنقولة هي تلك الأوقاف التي تؤسس بالنقود والمنقولات والدواب وما أشبه ذلك، ووقف النقد يعني: الوقف الذي يكون فيه الموقوف مالاً نقدياً سواء أكان ذهباً أو فضة أو شيئاً فيه شيء منهما أو كان عملة معدنية أو ورقية مما يعد ثمناً للأشياء وقيماً للسلع ووسيلة للتبادل، والفقهاء اختلفوا في وقف العملة المعدنية اختلافاً كثيراً، وأرجح الأقوال: جواز وقف النقود الورقية لما يتحقق من خلال وقفها من منافع ومصالح، ولما في ذلك من فتح باب من أبواب الوقف يتحقق به غرض الواقف ومقصود الشارع ومصلحة الموقوف عليهم، والغرض من وقف النقود هو إقراضها قرضاً حسناً لمن ينتفع بها ثم يرد بدلها، أو وقفها لاستثمارها وتوزيع عوائدها الربحية على الموقوف عليهم.
وفي حكم الرجوع في الصدقة أو الهبة أو الوقف، بوب البخاري باباً أسماه: باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، وأورد فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه»، أي العائد في هبته إلى الموهوب، يشابه أخس الحيوانات في أخس أحوالها؛ ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض، إلا هـبة الوالد لولده.
وقال بعض أهل العلم: إن ذلك الفرس لم يكن وقفاً؛ لأن الوقف لا يباع أصله ولا يوهب، وكيف لا يُنهى بائعه أو يمنع من بيعه إن كان وقفاً؟ نقل ابن حجر في الفتح قول الإسماعيلي: «لعل معناه أن عمر جعله صدقة يعطيها من يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلمالرجل المذكور فجرى منه ما ذكر، ويستفاد من التعليل المذكور أيضا أنه لو وجده مثلا يباع بأغلى من ثمنه لم يتناوله النهي.
وقيل: إن الرجل أراد بيعه لأن عمر رضي الله عنه أهداه إياه ليجاهد عليه، هبة منه، وتمليكاً للرجل؛ إذ لو أعطاه إياه حمل تحبيس لم يجز بيعه.
وقيل: بلغ إلى حالة لا يمكن الانتفاع به فيما حبس فيه. وقيل: إنه لم يحسن القيام عليه، وقصر في مؤونته وخدمته، وقيل أي لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته.
ومما يستفاد من الحديث: جواز وقف المنقولات التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أعيانها كالأسلحة والآلات والأواني، وفيه أن الصدقة والوقف لا رجوع فيهما مطلقا، ولا يجوز للواقف الرجوع عن الوقف أو فسخه؛ لأنه مؤبد، وفيه أنه متى ثبت الوقف، فإن العين لا يجوز أن تباع، ولا أن توهب، ولا أن تورث، وفيه جواز بيع الموقوف إذا بلغ غاية لا يتصور الانتفاع به فيما وقف له. ويستنبط منه جواز وقف الحلي للبس والعارية على ما ذهب إليه أكثر الفقهاء لأنها من الأعيان المباحة التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها.
وفيه حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على الخير، وفيه رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله واستشارته في أمور الدين، وفيه أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلمهو خطاب للجميع ما لم يأت دليل يدل على التخصص، وفيه حُسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مبادرة وامتثال الصحابة رضوان الله عليهم لقول وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى الصدقة والوقف واختيار أنفس أموالهم وأعزها لتكون قربة إلى الله تعالى، وفيه توجيه لكافة الأمة أن على المسلم الامتثال وفعل ما يرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلممن أعمال الخير. وفيه حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى البذل في الجهاد وأبوابه الذي هو ذروة سنام الإسلام.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 181.53 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 175.63 كيلو بايت... تم توفير 5.90 كيلو بايت...بمعدل (3.25%)]