|
من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
الراحلون سحرا
الراحلون سحرا نهى الطرانيسي قبل صياح الدِّيَكة السابق لأذان الفجر، أُوقظ نفسي رغم عيني المُثقلة بالنوم، أسحَب نفسي بخفةٍ من وسط أطفالي. أضع بحذرٍ شديد قِطَعَ الجُبن البيضاء داخل دَلْوٍ ضخم من الألومنيوم، أُغطيه بغطاء قماش خفيف يسمح بمرور النسيم داخلَه، أما الآخر فأَحشوه بالقش الكثيف ليَحتضن البيض، ثم أُسدل قطعة القماش فوقه. أحمل واحدًا فوق رأسي، والآخر تحمِله شقيقتي، ننطلق خارجًا، حان الفجر، بزغت الشمس وتسلَّلت أشِعَّتُها من بين الأشجار، وما تلبَث حتى تزيد مِن قسوتها فوق رؤوسنا الخالية من أي ظِلٍّ، ونحن جلوس في الصندوق الخلفي غير المسقوف لعربة النقل. رحلة نقوم بها على مَضضٍ دائمًا من المركز التائه عن الراحة إلى العاصمة، أحيانًا نَبيت بغرفة البدروم قريبًا من السوق، ولا نبارح العاصمة حتى تنتهي بِضاعتنا. نَفترش الأرضَ كلَّ صباح، ونأخذ في النداء، لا نسْأَم، نفتعل النِّكات مع الزبائن، وبداخلنا قلقٌ لا يهدأ على أبنائنا الذين تركناهم خلفَنا. طبيعة هذه المنطقة لا تختلف كثيرًا عن بيئتي الريفية، الحديث بصوت مرتفع من الرجال والنساء على السواء، السُّمرة البادية على وجوههم، ملابسهم التي تعلوها ذرَّاتُ تراب الطريق غير الممهدة، عبث الأطفال بيننا، عدم اكتراث الأمهات لما يفعلون، إلحاحهم عليَّ للإسراع بتلبية طلباتهم سواء بمناداتي بصوتٍ عالٍ، أو بِنَقْري على كتفي ويدي لأَتنبَّه لهم. وسط حِدَّة أصواتهم يأتيني صوت حَيِيٌّ، يَخفُتُ ثم يعود مرات متفرِّقة، حتى أفيق لبُرهة مِن صَخَب الواردين، أَرمُق سيدة غريبةً عنهم وعنَّا مع ارتدائها - كبقية نساء المنطقة - عباءةً منخفضة الجودة. سألتها تكرارًا: ماذا تريدين؟ كانت ترُدُّ على سؤالي في كل مرة، لكن أذني لم تستطع التعرف على طبقة صوتها المنخفضة، مدَّت يدها لتأخذ ما تريد، كانت يدها بيضاءَ غضَّةً، لا خطوط غائرة تملأُ كفَّيها، أصابعها نحيلة ليستْ بالغليظة مِن جرَّاء عملٍ شاقٍّ. رتَّبت أكياسها لتتهيَّأ للمغادرة، ورغم قلة أغراضها كنتُ ألحَظ عدمَ اتِّزان خُطاها، وتخبُّط الأكياس بجانبيها وبالمارة حولها، نظرات الارتعاد بعينيها مِن هرولة السيارات يمينًا وشمالًا، جعلتْها تُخفِق في محاولة العبور سريعًا، صرختْ رُعبًا مِن هوْل السيارات القريبة، استجمعتْ قواها بعد مساعدة المحيطين لها للوقوف، لَمْلَمَتْ أغراضها الباقية بعد دهْس جزءٍ منها ليس باليسير، ثم غاصت في الزحام. غاب عقلي خلفَ خُطاها، أعجَب لأحوال الدنيا المتقلبة، فزِعت من شرودي على صوت إحداهنَّ: (رُبع جِبنة قَرِيش)!
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |