دفاع عن النحو والفصحى - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النحو وأصوله
التسجيل التعليمـــات التقويم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 11-03-2021, 05:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دفاع عن النحو والفصحى

دفاع عن النحو والفصحى(11)



د. إبراهيم عوض




ما أسهلَ الهدمَ على أي متطاول أو أهوج امتلأت نفسه بشهوة الحقد والتدمير! لكن العبرة بالمقدرة على البناء وتقديم البديل، إن الكاتب يعترض مثلًا على مفهوم "نائب الفاعل" ومصطلحه قائلًا: "إن الأفعال المبنية للمجهول هي الأفعال التي حُذِف فاعلها وناب عنه غيرُه، وفي هذا التقسيم الرهيب نجد أن النحاة أيضًا قد اهتموا بالحركة في آخر الكلمة، وهي الضمة في حالنا، ونسُوا المنطق وإعمال العقل"، ثم يضرب جملة "كُسِر الزجاجُ" مثلاً على ذلك المبني للمجهول، ليعقب بقوله: "لقد لاحظ النحاةُ أن كلمة "الزجاج" في مثالنا السابق قد جاءت مرفوعة، فسمَّوْها "نائب فاعل"؛ لأنها نابت عنه في حركة الرفع، ضاربين عُرْضَ الحائط بكل المعايير والمقاييس المنطقية، ويطلبون مِن الطلاب أن يفهموا ويحفظوا تلك القواعد التي لا تتطابق فيها الدلالات والمدلولات، ثم كيف لنا أن نقول في إعراب "كُسِر": فعل ماضٍ مبني للمجهول؟ كيف نبني أمًرا على المجهول؟ وهل يبنى شيء على ما يسمى المجهول؟ فالمجهول غير معروف، فكيف نبني عليه؟ ما هذا الكلام؟ وما هذه المعاني التي لا نرى عند فكفكتها إلا الخروج عن كل ما يمكن تصوره في عقولنا من مفاهيم وأفكار؟"[1].

والواقع أنني لم أملِكْ نفسي عند قراءة هذه السطور من القهقهة... وطريقةُ تفكيره هنا قد أيقظَتْ من بين ركام الذكريات في ذهني الدليلَ الذي كان يستدل به شيخٌ أمِّيٌّ بقريتنا في صبايَ البعيد على أن أبا بكرٍ الصِّدِّيق كان يكبُرُ النبيَّ عليه السلام سنًّا؛ إذ كان هذا الأميُّ العجوز يضيف قائلًا: "والدليل على ذلك أن الرسولَ كان يناديه: يا أبي بكر"، يظن أنه كان يقول: "يا أبي" على سبيل التبجيل؛ لأنه في سن أبيه! فهذا من ذاك، وعقل الأستاذ أوزون وعقل ذلك الأميِّ متطابقانِ كحذوِك النَّعْلَ بالنعل! وكنا نحب لو أن الأستاذ المؤلف النِّحرير قد فطَّنَنا إلى وجه الصواب في هذا الموضوع، لكنه أبى إلا أن يحرِمنا من علمه الغزير، ويتركنا في الظلام الحالك نتخبَّط، كان الله في عوننا!

ومع ذلك فلنحاول، على ما في عقولنا من كلال وقصور، أن نبحث الأمر، لعلنا مستطيعون أن نبلغ فيه ما يشفي صدور قوم جاهلين حائرين، إنه يستغرب كيف يبنى أمرٌ على مجهول، حسن، أوليس كثير جدًّا من الأبنية في العالم مبنيًّا على مجهول؟ ألا تقيد كثير من القضايا في المحاكم ضد مجهول؟ أليس بين البشر من هم مجهولو الأب والأم؟ أوليست حياتنا نحن بني الإنسان مبنيَّةً - في أغلبها - على مجهول ما دمنا لم نؤتَ مِن العلم إلا أقل القليل؟ إنني أستطيع أن أمضي في ضرب هذه الأمثلة فلا أنتهي، بَيْدَ أني أضيف هذا المثال ثم أكُفُّ بعده، فأقول: ألست أنا الآن أردُّ على زكريا أوزون وأنا لا أعرف عنه شيئًا؛ فهو بالنسبة لي، وكذلك بالنسبة للقراء الذين سيقدر لهم أن يقرؤوا كتابي، مجهول؟ ألست، وأنا أكتب هذا الكتاب، أجهل ما إذا كان سينشر أو لا، وأي دار نشر ستنشره إن قُيِّض له أن يُنشَر؟ هل منعني شيء من هذا أن أكتبه وأتحمس له؟

أما "ما معنى مصطلح "المبني للمجهول"؟" فهو أن الفعل صِيغَ على أساس أن الفاعل مجهول؛ فهو إذًا لم يُبْنَ لفاعل معلوم، بل لفاعل مجهول، فسمي من هنا "مبنيًّا للمجهول"، أيجد القارئ في هذا التفسير أدنى صعوبة؟ بَيْدَ أن كاتبنا اللَّوذعيَّ لا يسَعُ عقله أن يفهم ذلك التفسير، وأترك للقارئ الحُكم على مِثل ذلك الرجل الذي لا يعجبه مع هذا أحد! ثم إن ذلك التركيب معروف في اللغات الأخرى، فلماذا الإنكار على العربية وحدها؟ وإذا كان ذلك التركيب لا يعجب صاحبنا، فأين البديل الذي يطرحه عوضًا عنه؟ وفضلاً عن هذا ففي الإنجليزية والفرنسية يسمُّون هذا التركيب: "passibe voice/ voix passive"؛ أي: "صوت سلبي"، فماذا يقول السيد المؤلف في هذا؟ أتراه سيصبح مستنكرًا أن يُبنَى الفعل على صوت سلبي؟ لا إِخالُه يفعل ذلك؛ فالعِفريت الذي عليه لا يهيج ولا يُستفَزُّ إلا إذا ذُكرت اللغة العربية والنحو العربي والنحاة العرب! إنه عِفريتٌ تخصُّصُه الرغبةُ في تحطيم لغة القرآن! بل إن هذه اللغات تظل محتفظة للاسم الذي يحل محل الفاعل باسم "الفاعل" رغم أنه لم يفعل الفعل، ولا تحقَّق من خلاله الفعل، بل وقع عليه الفعل، إن اللغة العربية تسمِّيه في هذه الحالة "نائب الفاعل"، وهي تسميةٌ في موقعها تمامًا؛ إذ إن "الفاعل" قد غاب وحل هذا محله وناب عنه، فقد جاء بعد الفعل مباشرة في المكان الذي يشغله الفاعل، كما تغيَّرت حالته من النصب إلى الرفع، فأيُّ هذه اللغات هي اللغة الأكثر دقة؟ أليست لغة القرآن؟ ولكن ماذا نفعل للذين في وجوههم عيونٌ ولكنهم لا يبصرون، وفي أدمغتهم أمخاخٌ إلا أنهم لا يفهمون؟


ومن اعتراضاته التي يكتفي فيها بالرفض والتصايح ثم لا يقدم البديل (وما أكثر ذلك كما قلت!) رفضُه إعراب "الياء" الملحقة بالفعل في "أكرمني ربي" وأشباهها من الجُمل على أنها ضمير متصل في محل نصب مفعول به، قائلاً في تهكُّم مضحك: "ما معنى ذلك؟ وما هذا الأسلوب في المحاكمة والتفكير؟"، ونتساءل: أين المحاكمة هنا؟ ومن يحاكم من؟ ولا تسمع لسؤالك غير رجع الصدى! ومنها أيضًا تعليقه على إعراب "الواو" التي قبل "العصا" في بيت المتنبي المشهور:
لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معه
إنَّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيد[2]


بأنها "واو الحال"؛ إذ يتساءل في غضب نزق: "ماذا نعني بقولنا: إن الواو (وهي حرف) حالية؟ إن هذه التسمية لا مبرر لها (حتى لو قال بعضهم بأن الجملة بعدها في محل نصب حال)، ولا مدلول لها، وهي وهم لتأويل وهمي يأتي بعدها"[3]، ثم ينتقل إلى شيء آخر وكأنه قد قال كلمة الفصل التي لا تحتاج إلى مزيد، مع أنه لم يقُلْ شيئًا!

ومن هذا الوادي كذلك سخَطُه على من يعرب "ما" والفعل التالي لها في قوله تعالى: ﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ [التوبة: 118] بأنها "مصدرية غير ظرفية"، وأنها وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بحرف الجر، تقديره "برحبها"، قائلًا: "ما هذا التفكير والتأويل العقيم؟ وما حاجتنا إلى تأويل أو استبدال... "بما رحبت"... بـ"رحبها"؟ ما هو الدافع؟ وما هو الهدف؟ وما هي الغاية؟ وما الفائدة من مصطلح "مصدرية ظرفية وغير ظرفية"؟ ما هذه المصطلحات التي أفقدت اللغةَ جمالها وجعلتها وهمًا لا حقيقة؟ وهل هذا التخيل الخيالي يغني الآيات الكريمة السابقة ويوصلنا إلى معناها الحقيقي أم يبعدنا عنه؟"[4]، ثم لا يشغل نفسه ولو لِثوانٍ في اقتراح البديل، متصورًا أن في الفهم العامي لهذه الآية التي يأخذها "شَرْوَة" دون تدقيقٍ وتعميقٍ الغُنْيةَ كلَّ الغُنْية، معيدًا إيانا بهذه الطريقة إلى ماضي البشرية السحيق أيام أن كانت الأمور تدرك إدراكًا شاحبًا لا يتعلق منها إلا بخطوطها العراض! وعلى ذلك قِسْ سائر تعبيراته المنفعلة التي ترمي أشداقها بالزَّبَد في كل اتجاه دون أن تقدم لك شيئًا، والتي يمكنك أن تجد بعضًا آخر منها في الصفحات 28، 29، 32، 41، 64، 65، 68، 75، 134... إلخ.


[1] ص 42 - 44.

[2] صدق المتنبي: "إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد!"، ومنهم عبيد الفكر والعقيدة: سِحَنُهم كسِحَنِنا، وأسماؤهم كأسمائنا، ولكن قلوبهم تُبغِضنا وتُبغِض مقومات وجودنا وحضارتنا!

[3] ص80.

[4] ص 100 - 101.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 11-03-2021, 05:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دفاع عن النحو والفصحى

دفاع عن النحو والفصحى(12)



د. إبراهيم عوض






.. وإلى جانب ما مر ينبغي أن نضيف ما قاله في مسألة "المصطلحات"؛ إذ ثمة مصطلحات ينبغي في رأيه أن تغير، ومنها مصطلح "الحرف"، مثل: "قد، ومن، والواو، وهل، ولم، وما، وإلى، وسوف... إلخ"، فهو يرى أن استعمال هذا المصطلح لتلك الكلمات وغيرها هو استعمال خاطئ، ويجب نبذُه والاستعاضة عنه بكلمة "الأداة"، وشبهته أن "عن" مثلاً مؤلَّفة من حرفين لا حرف واحد، و"إلى" مؤلفة من ثلاثة أحرف، و"لكن" من أربعة... وهكذا، فلا تطابق إذًا بين الدالِّ والمدلول[1]، ومن الواضح أنه لا يفهم معنى كلمة "مصطلح"، وأنه لا يتطابق عادة مع المعنى اللغوي الأصلي للكلمة؛ فـ: "الصلاة" مثلاً تعني في الأصل "الدعاء"، لكنها في الاصطلاح تعني شيئًا آخرَ أوسع من الدعاء، وأكثر تعقيدًا، وعلى هذا فليس هناك أدنى خطأ في استعمال مصطلح "حرف" للدلالة على "قد" أو "سوف"، أو غيرهما من الكلمات المكونة من أكثرَ من حرف، وهذا لو كان الحرف يعني فعلاً في أصل اللغة الألف والباء والتاء... إلى آخره، لكن هل هناك دليل على هذا؟ إن هذه الكلمة لم ترِدْ في القرآن الكريم بمعنى "الحرف الهجائي"، أما بالنسبة للشِّعر الجاهلي فإن الانطباع الذي عندي أنه، مثل القرآن، يخلو مِن استعمال هذه الكلمة بالمعنى الذي نتحدث عنه الآن، لكنَّ هناك حديثًا يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا أقول: "ألم" حرف، ولكن "ألف" حرف، و"لام" حرف، و"ميم" حرف"))، فإذا صح هذا الحديث يكون الرسول عليه السلام قد استعمل كلمة "حرف" للدلالة على كلمة من ثلاثة أحرف، وللدلالة أيضًا على كل حرف من أحرفها الثلاثة، وبذلك لا نستطيع أن نجد في ذلك الحديث حجَّةً لدعم هذا الرأي أو ذاك، وأيًّا ما يكن فكلمة "حرف" كانت تعني في البداية "طرَف الشيء"؛ كما جاء في الآية 11 من سورة "الحج"، ولو أخذنا برأي السيد أوزون فسوف نعترض على استخدامه بمعنى "الحرف الهجائي" أيضًا.



ثم ماذا يقول في استعمال القرآن الكريم للفظ "كلمة" إشارةً إلى عبارة مكونة من عدة كلمات لا من كلمة واحدة، وذلك في قوله عز شأنه: "قال (أي الكافر): ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 99، 100]؟ فالكلمةُ هنا تشير إلى قول الكافر: "رب، ارجعونِ لعلي..."، كذلك ما العمل في "الحروف" المكونة من حرف واحد مثل "الواو والباء والتاء واللام والسين وهمزة الاستفهام؟ أنستبقي لها مصطلح "الحرف"؟ ونفس الشيء يقال عن "الأداة" التي يقترحها ذلك الهمام؛ إذ "الأداة" (كما نعرف جميعًا) هي الآلة التي يستخدمها كل صاحب حِرْفة في عمله، ومن ثَمَّ فمن السهل الاعتراض عليها بذات الطريقة التي يعترض بها السيد أوزون على مصطلح "الحرف"، ولسوف ندخل بتلك الطريقة في متاهة لا يمكننا الخروج منها!



ومن ذلك اعتراضُه المتكرر على مجيء "المبتدأ" متأخرًا عن الخبر، وسخريَّتُه من هذا، وتأكيد أنه تناقض؛ إذ كيف يكون "مبتدأً" (أي تبتدئ به الجملة) ومع ذلك يتأخر إلى وسطها أو آخرها؟[2]، وواضح أنه يأخذ كلمة "المبتدأ" على معناها الحرفي، غافلًا عن أن هذا اصطلاح، وفي الاصطلاح لا تبقى الكلمة على معناها اللُّغوي الأول، بل يعتريها بعض الانزياح من خلال توسيع المعنى أو تضييقه، أو الانتقال به من الحقيقة إلى المجاز... وهلم جرًّا؛ فـ: "الفاعل" مثلًا في النحو لا يشترط فيه أن يكون قد فعل الفعل، كما هو الوضع مع أفعال مثل "مرض" و"عطش" و"مات"، أما الأمر في "الجرِّ" فأوضح كثيرًا؛ إذ ما علاقة "الجر" على المعنى الذي نعرفه بكسر الاسم مثلًا؟ وعلى هذا يقاس استعمال مصطلح "المبتدأ"، الذي قد يأتي فعلًا في أول الكلام؛ كما في قوله تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، أو يتأخَّر عن الخبر؛ كما في عنوان الفلم المشهور: "في بيتنا رجل"، ولم يشترط النحاة في المبتدأ أن يأتي في أول الكلام؛ فقد جاء في شرح ابن عقيل مثلًا أن "المبتدأ" اسمٌ أو بمنزلته، مجرَّد عن العوامل اللفظية أو بمنزلته، مُخبَرٌ عنه، أو وصفٌ رافعٌ لمكتفًى به"[3]، بل إنهم نصوا نصًّا على مجيئه في عدد من الحالات متأخرًا عن خبره، وهذا متعالم لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ومع ذلك فإن من الممكن المجادلة بأن المبتدأ إن تأخر في بعض التراكيب عن خبرِه، فليس هذا هو الوضع الأصلي له، بل الوضع الأصلي هو تصدُّره للجملة، وهذه عملية يقوم بها الذهن تلقائيًّا، وفي التوليدية التحويلية في النحو ما يسمونه بـ: "البنية العميقة للجملة"، والمقصود بذلك التركيب الأصلي الذي يمكن أن يدخل عليه مع هذا من التحوير ما يتولَّد معه تراكيب أخرى تخالف ذلك التركيب، وفي اللغة الإنجليزية والفرنسية يقابل الـ "subject/sujet" المبتدأ، وهذا الـ "subject/ sujet" موضعه عندهم في صدر الكلام، لكن هذا لا يمنع أن يتأخر في بعض الحالات عن الخبر (the predicate predicat، وهو ما يسمونه: "inversion"؛ أي: "الانقلاب"، أو باصطلاح النحاة عندنا: "التقديم والتأخير"، وحتى في الحياة العملية كثيرًا ما يتقدم المرؤوس على الرئيس، كما هو الأمر عند إلقاء الحاكم خطابًا مثلًا؛ إذ يسبقه المذيع ليعلن عن هذه الخطبة للجمهور، كما كان الملوك قديمًا يأمرون طبَّاخيهم أن يتذوَّقوا الطعام الذي يقدمونه لهم قبل أن يمدوا هم أيديهم إليه؛ حتى يطمئنوا إلى أنه غير مسموم، ولكن يا ويل من تسول له نفسه، في غير هذه الحالة، أن يمد يده إلى الأكل قبلهم! وفي كل بلاد العالم يجلس المدرس في صدر الفصل مواجهًا التلاميذ، ورغم ذلك قد تضطره الظروف أن يترك هذه الصدارة ويقف وراءهم في آخر الغرفة، وذلك عند قيامه باستخدام آلة عرض الشرائح والصور مثلاً، ثم ألم تسمَعْ يا سيد أوزون أن لكل قاعدةٍ شواذَّ؟ هداك الله! ولا تكن مناكفًا، فكلما قال النَّحْويون شيئًا قلت أنت عكسه، كأنك "الشريك المخالف"!



وأعجب من ذلك وأدعى إلى الدهشة استنكارُ كاتبنا مصطلح "الأسماء الموصولة"، ودعوته إلى تسميتها هي أيضًا "أدوات"، وشُبهته في هذا أنها "ليست معارف"[4]، بما يعني أن "الأداة" عنده تقابل "المعرفة"، والمعرفة أحد قسمي "الاسم" من حيث التعريف والتنكير؛ أي: إنه يعد الأسماء الموصولة "أسماء"، لكنها غير معرفة، ومع ذلك وضعها هي و"الحروف" في سلة واحدة مطلِقًا عليها جميعًا: "أدوات"، فأي اضطراب في الفهم والتصنيف هذا؟! واضح أن الرجل قد زجَّ بنفسه فيما لا يفهم أو يحسن، وهي جرأةٌ منه لا أملِك إلا أن أعترف بأني أحسده عليها؛ إذ إني من الذين إذا فكروا في كتابة شيء شعَروا بالرهبة، واتهموا أنفسهم، وتريَّثوا قبل الاعتراض على شيء، وراجعوا ما يعِنُّ لهم قبل تسجيله على الورق، ونظروا في الآراء الأخرى التي قيلت في الموضوع لعلها أن تنبِّهَهم إلى أخطاء يستدركونها قبل إذاعتها على الجمهور، ثم هم يتهمون أنفسهم ويحبون أن يضعوا في حسبانهم بعد ذلك كلِّه أن من الممكن أن تكون بعضُ الأخطاء قد تسرَّبت إلى ما كتبوه، أما السيد أوزون فإنه، فيما هو بيِّنٌ مِن الكتاب الذي بين أيدينا، يهجم على موضوعه رغم قلة البضاعة مِن الفهم والتصور والقراءة، غيرَ مبالٍ بالموقع الذي تقعه كلماته واعتراضاته؛ إذ يكفي أن يطلق لقلمه العِنان فيكتب القلم ما يخطر له، والقلم (كما نعرف) جمادٌ لم يُرزَق للأسف عقلًا ولا مقدرة على المراجعة والتثبُّت، ولا يعرف شيئًا اسمه التشكك!



أما لماذا يرفض المؤلف العبقري أن يعد "الاسم الموصول" معرفة، فيتضح من المثال التالي الذي ضربه، وهو: "جاء الذي لا يعرفه أحد"؛ إذ يعلق بأننا "عندما نقول: "جاء الذي لا يعرفه أحد" يتضح تمامًا أن "الذي جاء" غيرُ معروف من أي شخص، فكيف يكون معرفة؟"[5]، ناسيًا أن عبارة "الذي لا يعرفه أحد" قد عرَّفت به وبيَّنت لنا أنه غير معروف لنا، وهو ما يميزه عن الباقين الذين نعرفهم، وهذا هو التعريف المراد عند النحاة، لا التعريف بمعنى أن الشخص معروف الاسم والسن ولون البشرة والطول والعرض والوظيفة والبلد وتاريخ الميلاد والأسرة التي ينتمي إليها... إلخ، يعرف ذلك عنه القاصي والداني والدنيا جمعاء، وإلا فليس هناك من الأشخاص المعارف إلا أقل القليل، وهم الذين طبَّقت شهرتهم الآفاق، وكانت لهم سمعة عالمية، وإن أمكن التشكيك حتى في هؤلاء؛ لأنه لا يوجد إنسان يعرفه كل أحد على وجه البسيطة! ومع ذلك فمن الممكن مجاراة السيد أوزون على فهمه هذا السقيم؛ كي نريح أنفسنا من عناء مثل هذه المناقشات الفارغة، فنقول: لا مانع عندنا من إخراج "الاسم الموصول" في هذا المثال وأشباهه من "المعارف" وإدخال الأمثلة الباقية فيها؛ كقولنا: "هَلَّ علينا الذي ألَّف كتابًا بعنوان "جناية سيبويه" بطلعته البهية"، وأنا على يقين أنه سيوافقنا على هذا الحل السعيد الذي سيملأ قلبه نشوة وحبورًا، بل سيرجع عن اعتراضه على المثال السابق ويقول: "خلاص! الاسم الموصول من أعرف المعارف، وليس معرفة فقط"! أوليس مضحكًا أن يتصدى إنسان بهذه العقلية للنحو وقضاياه؟ بل هو مضحك غاية الإضحاك، ولكنه ضحِكٌ كالبكاء، وقديمًا قيل: "شرُّ البلية ما يضحك"!



وبالمناسبة فزكريا أوزون، رغم اعتراضه العنيد اللدود على مصطلح "الحرف" و"الاسم الموصول" ودعوته إلى الاستعاضة عنهما بمصطلح "الأداة"، قلما يستخدم هذا المصطلح الأخير، بل يجري على استخدام المصطلحين المرفوضين في معظم الحالات، وهو ما يدل على أن الرجل يكتب ما يكتب دون وعي؛ فهي حالات نفسية غير مترابطة يمر بها مرًّا دون أن يكون له موقف محدد، إنها تحبير صفحات والسلام، كي يقال: إنه كاتب، فقد قلناها، والحمد لله، وأثلجنا صدره! لكن أي كاتب؟ هذا هو مربط الفرس! وبالمناسبة أيضًا فالإنجليز والفرنسيون والألمان يسمُّون هذه الأسماء الموصولة: "ضمائر"، وإني أعلن أسَفي المرَّ؛ لأنهم قد خيبوا كالعادة ظن السيد أوزون فلم يسموها "أدوات"، رغم أنهم ليسوا من ذرية سيبويه، أو يمُتُّون بالقرابة للزمخشري أو ابن عقيل أو الصبان!





[1] انظر ص25، 32.




[2] انظر مثلًا ص 29، 30، 123، 137.




[3] شرح ابن عقيل /1/167.




[4] انظر ص 60.




[5] ص60.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 11-03-2021, 05:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دفاع عن النحو والفصحى

دفاع عن النحو والفصحى(13)



د. إبراهيم عوض



ومن المصطلحات التي سخِر كاتبنا منها ومن النحاة بسببها مصطلحُ "الفعل المضارع"، الذي يقترح أن يغير إلى "الفعل الحاضر"؛ حتى "يصبح أقرب إلى الذهن"، ثم يعقب قائلاً: إن "السادة النُّحاة مع ذلك لم يغيِّروا "قرآن" سيبويه وأتباعه ليقولوا: "فعلاً حاضرًا" عوضًا عن "فعل مضارع"... إلخ"، وعنده أن النُّحاة قد سمَّوْه "مضارعًا"؛ لأنه "يضارع الاسم في حركاته: فهو مرفوع مرة، ومنصوب مرة، ومجزوم أخرى"[1]، ومن الجليِّ أنه يخلط بين حالات الإعراب (وهي الرفع والنصب والجزم)، والحركات (من ضم وفتح، إضافة إلى السكون، وهو انعدام الحركة)[2]، وهذا أمر غريب ممن يرى في نفسه القدرة على مناطحة سيبويه ونظرائه، ومن الجلي أيضًا أنه لا يعرف أن "المضارعة" لا تعني هذا الذي قال، وبخاصة أن "الجزم" ليس من حالات الإعراب في الأسماء، بل يقول النحاة: إن "شَبه الفعل المضارع للاسم (والمقصود "اسم الفاعل" لا الاسم بإطلاق) حاصلٌ في اللفظ، والمعنى: أما شبَهه إياه في اللفظ فلأنه يجري معه في الحركات والسكنات (يقصدون أن "ينصر" مثلاً يبدأ بحرف متحرك هو الياء، يليه حرف ساكن هو النون، فحرف متحرك هو الصاد، كما هو الحال في "ناصر" (اسم الفاعل منه)، فهو يبدأ بمتحرك هو النون، يليه ساكن هو ألف المد، فمتحرك هو الصاد، وهذا كما يرى القارئ الكريم شيء مختلف عما يقوله زكريا أوزون)، وكذلك في تعيين الحروف الأصلية والحروف الزائدة (في أن كلاًّ منهما مكوَّنٌ من نفس العدد من الحروف الأصلية، ونفس العدد كذلك من الحروف المَزيدة، والأصلية هنا ثلاثة، هي النون والصاد والراء، والمزيدة حرف واحد هو الياء في الفعل، والألف في اسم الفاعل)، وأما شبهه إياه في المعنى فلأن كلاًّ منهما صالح للحال والاستقبال، ثم تقوم قرينة لفظية تخصصه بأحدهما"[3]، ويمكن التمثيل لدلالتهما على المستقبل بقوله تعالى في الآية 23 من سورة الكهف: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24]، فاسمُ الفاعل هنا يتعلق بالمستقبل لا بالحاضر، والقرينة هي كلمة "غدًا"، أما المضارع فإنه يدلُّ على الاستقبال قولاً واحدًا مع "السين وسوف ولن"، وكثيرًا مع "قد"، وأحيانًا دون أي حرف من هذه الأحرف؛ إذ قد نقول: "أفعل ذلك إن شاء الله" بمعنى "سأفعل"، كما قد يدل على الاستمرار أو على العادة، فلا يختص بزمن دون زمن؛ كقولنا: "تدور الأرض حول الشمس"، و"ينام سعيد ظهرًا، ويذهب إلى المقهى مساءً"، وعلى هذا فالمصطلح والتعريف اللذان ساقهما السيد أوزون ليسا أكثرَ مِن كلام فارغ كمعظم ما قاله في كتابه الفَطِير الذي يريد أن يطاول به الجوزاء، ويهدم الرواسي الشمَّاء!

والسيد أوزون يرفض إعراب الجمل جملة وتفصيلًا، مؤكدًا أن "ما يسمى إعراب الجمل"، سواء كان لها محل من الإعراب أو لا، ما هو إلا وهمٌ وإضاعة للوقت، علينا التخلص منه؛ لأن في ذلك عين الصواب، وصحة المعنى، ومطابقته للحقيقة والواقع"[4]، والوقع أنه ليس للواقع أي مدخل في ذلك عكس ما يهرِفُ به الكاتب؛ إذ ما دخل الواقع في أن تُعرَب الجُمَل أو لا؟ هل في ذلك مصادمة لسنَّة من سنن الكون؟ أبدًا، هل فيه عدوان على حقوق الإنسان؟ هل يمثِّلُ خروجًا على مبادئ الأمم المتحدة؟ هل يمنع الشمسَ من الشروق صباحًا؟ أبدًا أبدًا، إذًا فكل ما قاله لا يساوي شَرْوَى نَقيرٍ!

وبالله ماذا نفعل أمام مثل هذه الجملة: "محمد يلعب الكرة في الحديقة"، أو تلك: "قال سعيد: إني قادم بعد أسبوع"، إن "محمد" (في الأولى) مبتدأ ("subject" في الإنجليزية)، فأين خبره (the predicate)؟ إنه "يلعب الكرة في الحديقة"، وعبارة "قال سعيد" (في الثانية) هي فعل وفاعل، ولا بد معهما من مفعول، وإلا فماذا قال؟ ومفعوله هو جملة: "إني قادم بعد أسبوع"، ترى ما الخطأ في هذا الكلام؟ وما الذي فيه مما يخالف الواقع؟ ليس من المعقول أن نقول: إن "محمد" مبتدأ ثم نسكت، أو نقول: إن "قال سعيد" فعل وفاعل ثم نكتفي بذلك، إن الكلام على هذا النحو يكون ناقصًا، ولا بد للناقص من أن يكمل، إن هذا قانون من قوانين الحياة والواقع، أما الذي يخالف الواقع وقوانينه فهو كلام السيد أوزون الذي لا نستطيع أن نعرف له رأسًا من ذيل.

إنني أفهم بل أحبِّذُ الدعوة إلى عدم الإسراف في التفاصيل الإعرابية الخاصة بالجُمَل والاكتفاء بالقول: إن هذه الجملة خبر أو مفعول أو حال... إلخ، وبخاصة لغير المتخصصين، إن النَّحْويين عندما يقولون: إن الجملة الفلانية المكونة من فعل وفاعل أو من مبتدأ وخبر مثلًا في محل نصب حال، إنما يريدون أن يكون الطالب على ذُكْرٍ مِن القاعدة العامة لا تغيب عن عينيه أبدًا؛ إذ معنى "في محل نصب" أنها تحتلُّ موضعًا حُكمَ الاسم الذي يحتله عادة هو النصب، صحيح أن إعراب الجمل لن يقدم ولن يؤخر؛ لأنه لن تظهر عليها أية علامة إعرابية، لكن إعرابها (كما قلت) يذكر بالقاعدة ويثبِّتها في أذهان الطلاب، ويملأ الفراغ الناقص الذي أشرت إليه آنفًا، ومثلها الأسماء والأفعال التي يتعذَّرُ ظهور علامة الإعراب على آخرها، أو يستثقل الذوقُ العربي العام ذلك، أما الجُمَل التي لا محل لها من الإعراب فليس هناك ما يدعو إلى الاشتغال بها.

وإلى القارئ هذا الاقتباس من كتاب "إعراب الجمل وأشباهه" للدكتور فخر الدين قباوة، إذ قال: إن الجمل قسمان: "الجمل التي لا تحل محل المفرد (أي: لا تحل محل الاسم)، وهي لا محل لها من الإعراب؛ لأنها لم تستخدم في موضع المفرد، ولا يمكنها أن تقدَّر به ليتيسر تقدير حركات الإعراب التي قد تظهر على ذلك المفرد...، والجمل التي تحل محل المفرد، وهي تأخذ إعرابَه تقديرًا؛ لأنها وقعت في موضعه وقامت مقامه... ولا بد ها هنا من الإشارة إلى ناحية ذات أهمية، وهي أن الجملة التي لها محل من الإعراب يجب أن تكون واقعةً في موقع المفرد، والموقع له بطريق العاريَّة، وإلا فقد وقعت الجملة في موقعها الأصلي، وهو موقع ما لا محل له من الإعراب، كالذي تراه في صلة "أل" الموصولة"[5].

وما دمنا في الحديث عن الجمل، فلا بأس أن نستطرد قليلاً فنقول: إن من المستحسن القول في الجمل الفعلية والاسمية: إن الأُولى تتكون من فعل وفاعل ومفعول / أو مفعولين (إلا إذا حُذف الفاعل وقام المفعول مقامه، فيكون عندنا فعل ونائب فاعل، أو فعل ونائب فاعل ومفعول)، أو من فعل وفاعل وتتمة، وذلك في الأفعال التي تسمى - حسب المصطلحات الحالية - أفعالًا ناسخة، وهي "كان وأخواتها" و"كاد وأخواتها"، والمقصود بـ "الفاعل" هو ما نُطلِق عليه حاليًّا "اسمها"، وبـ "التتمة" ما نطلق عليه "خبرها"، وهذه التتمة إن كانت اسمًا فهي منصوبة، وإن كانت جملة فهي تتمة فقط، وأما النوع الثاني فيتكون من مبتدأ وخبر، فإذا دخَل عليهما "إن وأخواتها" قلنا: إن "المبتدأ" منصوبٌ في هذه الحالة، وفي جملة الاشتغال إذا كان المشتغَل به مرفوعًا كان مبتدأ، وما بعدها خبر، وإذا كان منصوبًا كان مفعولًا به، والضمير العائد عليه تأكيد له.

ونفس الشيء أدعو إليه فيما يتعلق بإعراب الكلمات التي تلزم حالة واحدة لا تعدوها أصلًا أو عادة، سواءٌ كانت مبنية أو معربة، مثل: أسماء الإشارة، وأسماء الاستفهام، والأفعال الماضية، والضمائر، والحروف، ومثل "الفتى" في كل حالاتها الإعرابية، و"القاضي" في الرفع والجر وما إلى ذلك، فنقول مثلًا في إعراب "مثُل الفتى أمام القاضي": "مثُل" فعل ماضٍ، و"الفتى" فاعل، و"أمام" ظرف مكان منصوب بالفتحة، و"القاضي" مضاف إليه، أما في تراكيب النداء والإغراء والتحذير وما أشبه فيكفي أن نقول في "يا عبدالله": "يا" حرف نداء، و"عبد" منصوب بالفتحة، و"لفظ الجلالة" مضاف إليه مجرور بالكسرة، ولا داعي أبدًا أن نقول: إن "يا" بمعنى "أدعو"، و"عبد" منصوب على المفعولية... إلى آخر هذه التأويلات التي لا معنى لها، وبالمثل نصنع في "البدار" و"الأسد" و"إياك والأسد": فـ"البدار" اسم مغرًى به منصوب بالفتحة، و"الأسد" اسم محذَّر منه منصوب بالفتحة كذلك، أما لماذا نُصِبا فلأن العرب تنصب مثل هذين اللونين من الأسماء، لا لأن المعنى في الأول "الزم البَدار" وفي الثاني "تجنَّب الأسد"، فهما مفعول بهما، هذا كلام يشوِّش ذهن الطالب ويشغَلُه عما هو ألزم له وأهم، وهو سبب من أسباب نفور عامة الطلاب من قواعد اللغة؛ لأنها تبدو لهم ألغازًا عويصة مصطنعة لا جدوى منها ولا صدى لها في الواقع، ونحن معهم في ذلك، وقل مثله في جملة "ما أجملَ الزهورَ!" و"أجمِلْ بالزهور!"، فكل من "ما أجمل " و"أجمل بـ" هي "صيغة تعجب"، و"الزهور" في الأولى منصوبةٌ على التعجب، وفي الثانية مجرورة بـ "في"، وكفى الله المؤمنين القتال!

وكذلك أرفع صوتي إلى التقليل من التقديرات ما أمكن؛ إذ ما معنى أن نقدر فعلًا بعد "إذا" و"إنْ" الشرطيتين في قوله تعالى: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وقوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9]؟ ويجيب النحاة بأن "إذا" و"إن" لا يجوز أن تليهما جملة اسمية، وسؤالنا بدورِنا هو: ومَن الذي أفتى بأن ذلك لا يجوز، وقد تكرر هذا التركيب في القرآن وفي الشِّعر القديم كثيرًا جدًّا؟ أوَبعد ذلك كله نُصِرُّ على أن التقدير في الآيتين الكريمتين هو "إن انشقت السماء انشقت"، "وإن اقتتل طائفتانِ من المؤمنين اقتتلوا"؟ أوَيصحُّ أن نضع قاعدة من وهمِنا أو بناءً على استقصاء ناقص ثم نخضع لها الجمل التي تخالفها قسرًا وبِلَيِّ الذراع حتى لو كانت جملًا قرآنية؟ إن هذا هو الذي لا يجوز، كذلك ما معنى القول بأن عبارة "في الخزانة" من قولنا: "الفلوس في الخزانة" متعلقة بمحذوف تقديره "كائنة أو موجودة أو... أو..." خبر لـ "الفلوس"؟ لماذا لا نقول مباشرة: إن "في الخزانة" هي الخبر، ونريح وتستريح؟ كذلك ما معنى القول: إن الفعل المضارع "نكرم" في قولنا: "ألا تأتينا فنكرمَك" منصوب بـ "أن" مضمرة وجوبًا؟ لماذا لا نقول: إنه منصوب بعد "واو المعية"[6] وكفى؟ وأيضًا: ما لزوم القول بأن "لعمرك" مبتدأ خبره محذوف، وتقدير الكلام: "لعمرك قسمي إن الأمر كذا وكذا"؟ لم لا نقول ببساطة: إن "لعمرك" هي "أداة قسم"، ولا تقدير ولا يحزنون؟

وعلى مثل ذلك النحو لا داعي أبدًا للقول بأن "أنتم" مثلاً في قوله تعالى: ﴿ لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ [سبأ: 31] هي مبتدأ محذوف الخبر، وأن أصل الكلام: "لولا أنتم موجودون...".

والعجيب أن النحاة، رغم هذا، يقولون: إن الخبر في هذا الموضع محذوف وجوبًا؛ أي: لا يمكن ذكره، فما دام ذكره غير ممكن، فكيف عرفوا أن ها هنا خبرًا وأن تقديره "موجود"؟ إن هذا اعتساف غير مقبول، والأحجى أن نقول: إن الاسم الذي يقع بعد "لولا" الشرطية يكون مرفوعًا، وكفى، وليس شرطًا أن يأتي بعدها جملة؛ إذ الكلام لا يحتاج إلى هذا البتة، فقولنا: "لولا أنت" معناها "بدونك"، وهو (كما ترى) كلام تام لا يحتاج إلى تقدير خبر محذوف، والأحجى أيضًا أن نقول في: "نعم الرجل زيد": إن "زيد" بدل من "الرجل"، لا إنه مبتدأ حُذف خبره وجوبًا؛ إذ لو كان هنا فعلاً خبر، كما يقول النحاة، فلماذا وجب حذفه؟ والأحجى كذلك: عدم تقدير خبر محذوف في قولهم: "أنت وحظك"؛ إذ المعنى واضح دون تقدير كلمة "مقترنان" في نهاية الجملة، وإعراب الكلام هو: "أنت" مبتدأ، وعبارة "وحظك" سدَّت مسدَّ الخبر، والمعنى "أنت مرتبط بحظك"؛ أي: إن "الواو" لا تدل على العطف، بل تعني ارتباط ما قبلها بما يليها، وما دام الكلام يستقيم بهذه الطريقة المباشرة، فلماذا نلجأ إلى اللف والدوران؟

وبالمثل أحب أن أعلن استنكاري لقول النحاة في إعراب "ما" في قوله تعالى مثلا: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 159]: إنها "زائدة"؛ إذ الواقع أن لها وظيفة تؤديها هنا، ألا وهي التأكيد! فبدلاً من أن نسميها: "ما الزائدة"، فلنقل: "ما المؤكدة"؛ لأنه لا يعقل أن يستخدم القرآن أو أي إنسان عاقل كلمة لا معنى لها، إن النحاة في استخدامهم لهذا الاصطلاح إنما يبغُون الإشارة إلى أن المجرور لا بد أن يأتي بعد حرف الجر لا يفصل بينهما شيء، لكن ما دام قد تكرر مجيء "ما" في القرآن والشِّعر القديم بين الجار والمجرور، فمعنى ذلك بكل بساطة أن هذا يجوز، وحينئذ ينبغي أن نقول: إن "الباء" حرف جر، و"ما" مؤكدة، و"رحمة" مجرورة، ولا داعي لهذا المصطلح الذي يسيء (من حيث لا يقصد نحاتُنا الكرامُ بطبيعة الحال) إلى القرآن الكريم، أو إلى الشعراء والكتَّاب، وهم الذين ميزهم الله بعبقرية البيان.


[1] ص 35.

[2] علاوة على أن علامات الإعراب ليست دائمًا حركات، بل قد تكون حروفًا، أو حذفًا للحروف.

[3] شرح ابن عقيل /1 /27/ هـ1.

[4]ص116 - 117.

[5] د. فخر الدين قباوة / إعراب الجمل وأشباهه / ط 3 / دار الآفاق الجديدة / بيروت / 1401هـ - 1981م / 31 - 33.

[6] لاحظ أنني لا أقول: منصوب بواو المعية، بل بعد واو المعية؛ ذلك أن سبب النصب هو أن العرب تنصب المضارع في مثل هذا التركيب، إلا إذا فهمنا نسبة النصب إلى "واو المعية" على أنه مجازٌ من مجازات الكلام للتسهيل وتذكير الطلاب بالقاعدة.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 11-03-2021, 05:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دفاع عن النحو والفصحى

دفاع عن النحو والفصحى(14)



د. إبراهيم عوض




.. ولا تتوقف عبقرية صاحبنا عند الإفتاء في النحو، بل يضيف إليه الإفتاء في سكِّ الكلمات الجديدة للمخترعات، ومصطلحات العلوم، ومستجدات الأفكار، والأوضاع والأنظمة والأطعمة والملابس، وما إلى ذلك، ورأيه أنه "يتوجب علينا ألا نضيع الوقت فيما يقابل المفردات والمصطلحات العلمية الإنجليزية في اللغة العربية، وأن نعيد النظر فيما يسمى بمجامع اللغة العربية ومهامها؛ فالعرب منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا، أي على مرِّ قرن من الزمن، لم يقدِّموا مصطلحًا واحدًا في مجال العلوم والتكنولوجيا، في حين أنهم قدموا آلاف الكتب الدينية والأدبية التي لا تُسمِن ولا تغني من جوع، وإن طلابنا اليوم بحاجة ماسة إلى تقويم في لغة العلم السائدة اليوم، اللغة الإنجليزية، خاصة في المجالات العلمية؛ لأنهم عندما يريدون التحصيل العلمي العالي فإنهم يحصلون عليه من البلاد الغربية وبلغتهم العلمية، مع وجوب المحافظة على لغتنا العربية التي ربما تعُود إلى القيادة والريادة عندما يتطور أهلها فِكريًّا وعلميًّا، ويتخلصون من شوائب التراث وعُقَدِ الماضي التي تلازمهم، كما أن تسمية المخترعات هي من حق الأمم التي أوجدتها وأبدعتها، ولا يحق لغيرها أن يغيِّرها، فنحن نقول: "راديو" عما سمَّوْه عندنا "مذياع"، ونقول: "تلفزيون" أو "T.V." عما سموه "الرائي"، ونقول: "كمبيوتر" عوضًا عن "الحاسوب"، و"تليفون" عوضًا عن "الهاتف"، وغير ذلك من المسميات التي جاءت من الغرب والتي لم يفلح أهل مجامع اللغة العربية في تعريبها أصلاً"[1].

وإن نصيحة السيد أوزون في هذه السطور بوجوب المحافظة على اللغة العربية لَمِما يضحك الثكالى واليتامى معًا؛ إذ أين هي اللغة العربية وقد دعا جنابه إلى نبذِها واصطناع العامية بدلًا منها ثم مسخها بعد ذلك بالألفاظ المأخوذة من الإنجليزية؟ ولا أدري لم الإنجليزية بالذات، وعندنا اليابان والألمان والفرنسيون والروس وغيرهم من الأمم المتقدمة التي تخترع وتولد الأسماء الجديدة لما تخترعه؟ وهو يرى أن نترك كلمات "حاسوب" و"مذياع" وأمثالهما ولا نستخدم إلا "كمبيوتر" و"راديو"... إلخ؛ لأنها هي الكلمات الصحيحة، والأخرى خطأ، فتأمل! وإلى أن يتقدم العربُ العالَمَ ويصبحوا مخترعين ويُضْحِيَ من حقهم حينئذ، وحينئذ فقط، أن يستخدموا للأفكار والمخترعات الجديدة ألفاظًا من لغتهم تكون هذه اللغة قد استحالت إلى مثل مرقعة الدراويش! وكل هذا بفضل العبقرية الأوزونية التي تصطنع في عملياتها التفكيرية قدميها الضخمتين المفلطحتين بدلًا من عقلها، إن كان عندها عقل!

بارك الله فيك يا مولانا! ترى من أين جئتنا بفتواك العبقرية بتحريم سكِّ المصطلحات والتسميات الخاصة بالاختراعات ومستحدثات الأفكار على العرب بحجة أنهم لم يخترعوا مدلولاتها، فمن المحرم عليهم إذًا أن يخترعوا لها ألفاظًا من لغتهم؟ يا لك من فقيه! طيب، وماذا نفعل بالمسميات الجديدة التي ولدناها من لغتنا؟ أنرمي بها في صندوق القمامة ونستعيض عنها بمسميات إنجليزية مهدرين هكذا ما بذلناه من وقت وجهد في التعريب، ومتخلين دون أي داعٍ عن عزتنا القومية؟ ولكن لماذا هذا كله؟ وما الذي يؤذي نفسك في أن نستخدم كلمات من عندنا لمخترعات لم تصنع عندنا؟ أولا بد في رأيك أن نستورد الأمرين معًا: المخترعات وأسماء المخترعات؟ أرجو من القارئ الكريم أن يتصور أي مسخ مشوَّه ستكونه لغتنا لو أخذنا بهذه المقترحات الأوزونية الفذة[2].

إن صاحب هذه الدعوة لهو في أحسن الأحوال:
كالعِيسِ في البيداء يقتلها الظَّما
والماء فوق ظهورها محمولُ


إن لغتنا، والحمد لله، برغم تخلُّف أصحابها قد أثبتت عبقرية عجيبة (لا كعبقرية صاحبنا) في مجاراة العصر، مع احتفاظِها بقواعدها وأسسها في الاشتقاق والتركيب، وإن إنسانًا يَضيق بمثل هذه اللغة لهو إنسان قد حرَمه الله نعمة الذوق والعقل، ولا يستحقُّ شرف الانتماء إلى هذا الإبداع البياني!

لكن ليس هذا بغريب على مَن يقول بعدم أهمية الأدب والدراسات الدينية، إن مِثل هذا القائل لأقرب إلى الجمادات منه إلى البشر! وأنا حين أقول ذلك لا أفتئت عليه في شيء؛ فإن مما يميزنا عن الجماد أن لنا عواطفَ وعقيدة وأخلاقًا تتطلب التغذية والإشباع، وإن إنسانًا لا يجد للأدب والدِّين من معنًى لهو إنسان عارٍ عن هذا كله، بل لسوف أضرب مثالاً واحدًا يدل على أنه قد عدم العقل أيضًا؛ إذ من المخترعات الحديثة المرناء (المرناء رغم أنفه، وعلى شجي حلقه، ومَغْص بطنه، وصداع رأسه)، فما فائدة هذا المرناء يا ترى إذا خلا من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات والأغاني مثلاً؟ أليست هذه الفنون كلها فنونًا أدبية؟ ثم ألا يحتاج الناس أن يشاهدوا فيه أيضًا البرامج الدينية التي تذكِّرهم بربهم وتحيي موات قلوبهم وتبصرهم بأمور إسلامهم؟ ألا يدل هذا المثل على أن الرجل لا يعرف كيف يفكر، وإنما هي حالات تهيجية تعروه فينطلق رافسًا ومحطمًا كل ما يلقاه في طريقه؟ إن في هذا الضغن الذي يتناثر من فمه مع زَبَد شِدْقيه كالحمم لبرهانًا على شيء وراءه، وصدق المولى الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [محمد: 30]، وها هو ذا الرَّجل يحقر الكتب الدينية ويراها عديمة الفائدة! وهذا يفسِّر لنا المغزى الكامن وراء بعض من أهدى لهم كتابه؛ إذ أهداه، ضمن مَن أهداه إليهم، "إلى كل من أحب الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم ومعتقداتهم"، إن الكتاب في اللغة والنحو، فما دخل حب الناس على اختلاف أديانها ومعتقداتها هنا؟ إن هذا لحنٌ من القول! ولو كان صادقًا في هذا الحب الكبير لقد كان أولى الناس بحبه هم أهلَه وعشيرته من المسلمين، لكن المقصود هو حب أهل الأديان الأخرى، وكراهية المسلمين ولغة الإسلام والكتب التي تؤلف في الإسلام!

إنه يهاجم القديم على طول الخط، القديم العربي والإسلامي وحده، وإلا فكل الأمم التي يقول لنا: إنه يحبها تحافظ على كثير من قديمها، ترى هل ترك الإنجليز أو الطليان أو الإسبان نحوهم؟ وهل كفُّوا عن التأليف في قضايا الدِّين؟ وهل توقفوا عن الإبداع الأدبي؟ فلماذا لا يحقر إلا أدب العرب وكتاباتهم الدينية؟ إن مَن يتخذ مِن نبذ القديم مبدأً له لهو إنسان معتوه، فليس بنبذ القديم، لمجرد أنه قديم، تتقدم البشرية، بل ينبذ ما ثبت خطؤه أو ضرره، أما ما لا يزال صالحًا من ذلك القديم فلا يفرِّط فيه إلا أبله، لنستمع إلى ما يقول: "إن عقدة القديم هي عقدة الشرق الإسلامي بأسره، وخاصة العرب، فما جاء من القديم صحيح، وكل ما يعارضه وما خرج عنه خاطئ، أو مشكك فيه، وهذه المشكلة المعضلة أوصلت الأمة العربية والإسلامية إلى ما وصلت إليه اليوم، فكم من إنسان عربي وُلد عبقريًّا فذًّا[3]، ومات جاهلاً مكبوتًا أمام عُقَدِ الماضي وحاكميته! ولو قال أحدنا: أنا أرى كذا في الدِّين أو اللغة أو الأدب القديم سارع حُماةُ الديار، ولا ندري مَن نصَّبهم ليكونوا حُماةَ الديار والماضي، ليقولوا: ومن أنت لترى؟ مَن أنت مِن العلماء السابقين الذين رأوا وبحثوا وعملوا؟ وما عليك إلا الطاعة والتطبيق"[4].

وجوابي على سؤاله هو: نصَّبهم الذي نصَّبك لهدم القديم جملة وتفصيلاً في نزقٍ ورعونة! لقد نصَّبت نفسك لهذا، وهم نصَّبوا أنفسهم لذلك، ولكنَّ ثمة فرقًا ضخمًا بينكما: فأنت ترى هدم أهم مقومات الأمة: اللغة والأدب والدين، أما هم فينافحون عن هذه المقومات، فشتان هم وأنت! أما تباكيك على العبقريات الموءودة فليس لك حق فيه؛ إذ ما دامت العبقريات الموءودة هي مِن نوع عبقريتك فلا عليهم أن يَئِدوها ويريحونا من هذا التخلف العقلي! لقد رأينا ورأى معنا القراء أي لون مِن العبقرية عبقريتك؛ فأنت لا تكاد تفهم شيئًا في النحو: لا مصطلحاته، ولا مفاهيمه، ولا تراكيبه، ولا... ولا... أنت لا تفهم إلا شيئًا واحدًا، هو الحقد على لغة القرآن، والرغبة الأثيمة في تحطيمها، وهيهات ثم هيهات! فليس بمستطاعِ الصرصور أن يهدم الهملايا بقرنيه! فاذهب واجلِسْ إلى قدمَيْ مَن يعلمك العقل أولاً، ثم النحو والصرف واللغة ثانيًا؛ (لأنك لا تستطيع أن تتعلم نحوًا ولا صرفًا ولا لغة دون أن يكون لك عقل يفكر تفكيرًا سليمًا)، ثم تعالَ بعد ذلك وادخل من باب النظر في هذه العلوم في تواضع وخشوع، وادرُسْ ما كتب فيها دراسة متأنية متعمقة ممحصة، وليس يطلب منك عاقلٌ أن تخِرَّ ساعتها أعمى أبكمَ أصمَّ على كل ما كُتِب وقيل، بل المطلوب منك هو التسلُّح بالنظرة الناقدة، والمتحلية مع ذلك بالتجرد والعدل والإنصاف، والرغبة في بلوغ الحق، لا بالولع بالهدم والتحطيم والحقد، إن مِن العيب على الأطفال الصغار التطاول على الحكماء الكبار، وليس من المعقول أن يطمح إنسان إلى التزبُّبِ قبل أن يتحصرم، لا بل هو مستحيل، فاذهب - كما قلت لك - فاقرأ وحاول أن تفهم وتتعمق، ثم تعالَ بعد ذلك كله (إن أفلَحْتَ في الفهم والتعمق) فأجِلْ نظرتك الناقدة في كتب سيبويه، والزمخشري، وابن عقيل، وابن هشام، والأشموني، وغيرهم، وعندئذ قد تستطيع أن تبصر فعلاً ما هو بحاجة إلى إعادة نظر، أو تبديل، أو استدراك، أو تسهيل، أو حذف... إلخ، إنهم حقًّا ليسوا إلا بشرًا، ولكن هذه الحقيقة لا تعطي لكل مَن هبَّ ودبَّ الحقَّ في التهجم عليهم والتهكم بهم، وإلا صارت الحياة كلها بهذه الطريقة عبثًا في عبث، اذهب إذًا فاقرأ وافهم وتوسع وتعمق، ثم تعالَ! أما قبل ذلك فكلاَّ وألفُ كلا، ولن يفيدك تصايحك وبكاؤك ولطمك خدودَك وشقك لهدومك، فهذا كله سلوك حمقى الأطفال الذين لا يصلح لهم ولا يصلحهم إلا ضربهم على أصابعهم؛ كي يقلعوا عن هذا السخف! ولو أننا أصخنا لكل متبلد كسول وعمِلنا على إرضائه، لَمَا تقدمت البشرية خطوة واحدة في مدارج الحضارة والرقي، الحضارة، يا هذا، جِدٌّ وكَدٌّ وعرَق، والتعليم وتحصيل الثقافة هو أبو الجِدِّ وأمُّه، وجدوده وأسلافه، أما الكسالى الذين يريدون أن يأكلوا وهم نائمون فسوف يفرمهم قطار الحياة فرمًا، وكفانا، أيها العرب والمسلمون، نوم وتثاؤب، وتخلُّف وخزي وعار ومذلة؛ فالدنيا من حولنا جادة، ونحن هازلون، والبركة في أمثال زكريا أوزون ممن لا يحبون أن يبذلوا جهدًا ويريدون أن تنزل الدنيا رغم ذلك على حُكم كسَلهم وهزلهم! وهذا هو المستحيل بعينه.

إن مَن يريد أن يسهل النحو فلا مَعْدَى له عن البناء على ما مضى (بناءً واعيًا ناقدًا، لا بناء العُمْي الذين ليس عندهم فهم ولا تقدير لِما يفعلون وما فعله مَن سبقوهم)، أما الحِرانُ والإصرار كل حين على هدم ما سبق، فليس له من معنًى إلا العودة إلى نقطة الصفر في كل مرة، وهذه طريقة تعوق التقدم، وتهبِط بنا إلى مستوى العجماوات، حيث لا وجود للتراكم المعرفي، ولا فرصة لإحراز أي تقدم، إن الطائر يبني عشَّه بنفس الطريقة التي كان يتبعها أول طائر خلَقه الله، وعلى نفس النموذج، أما نحن البشر فشتان بين الجُحر أو الكهف الذي كان يسكنه الإنسان الأول وبين القصور والدارات والعمائر التي نبنيها اليوم، وكذلك فالبقرة تقتفي نفس الأسلوب الذي كانت تقتفيه جَدَّتها الأولى قبل ما لا أدري كم من ألوف السنين أو من ملايينها في تناول طعامها، أما نحن بني الإنسان فيا لها من آماد شاسعة تذهل اللُّبَّ تلك التي تفصل بين الطريقة البدائية التي كان أسلافنا الأولون يقتطعون بها اللحم النِّيءَ من جسد الحيوان الذي كانوا يقتلونه أو يصادفونه ميتًا في فجر التاريخ السحيق (أو بالأحرى في ليله الدامس) وبين الأسلوب المتحضر الراقي الذي نعد أطعمتنا ونتناولها اليوم به!

لقد تعددت المحاولات التي قام بها علماء النحو ومَن يهتمون مثلهم بهذا الفرع من العلم لتيسيره، ولم يحدُثْ أن عالِمًا محترمًا اعتمد أسلوب الركل والرفس الذي لجأ إليه زكريا أزون ووجد من يشجعه وينفخ فيه، حتى خيلوا إليه (ويا للمصيبة!) أنه خبير في هذا الميدان، على الرغم من أن هذا الميدان هو مِن الميادين التي لا يصلح فيها الركل والرفس ولا يليق؛ لأننا لسنا في إسطبل للخيول أو حظيرة للحُمُرِ، بل في مجال بحث وعلم، إن أداة البحث والعلم هي العقل، لا الأقدام والسيقان! لقد اجتهد رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وعلي الجارم، ومصطفى أمين، ومحمد أحمد برانق، وعبدالمتعال الصعيدي، وإبراهيم مصطفى، وعباس حسن، وشوقي ضيف، ومحمد كامل حسين، وغيرهم في محاولة تسهيل النحو، وتحبيبه إلى طلاب العلم، فلم يهيجوا هذا الهيجان الأرعن الذي طالعَنا بوجهه القبيح المنفر في كتاب "جناية سيبويه"، بل قرؤوا وهضموا وناقشوا وقارنوا، وقلبوا الأمر على وجوهه قبل أن ينتضوا القلم ليكتبوا، ونستطيع نحن أن نختلف معهم في هذا أو نوافقهم في ذاك؛ لأن هناك أسسًا مشتركة بيننا وبينهم من الفهم والتحصيل، أما في حالة زكريا أوزون فأين تلك الأسس المشتركة، والرجل جاهل لم يحصِّل شيئًا ينفعه في حاضره أو مستقبله؟ لذلك قلت له: "اذهب واقرأ"، بل أقول له كما قال الشيخ لسعيد مهران في رواية "اللص والكلاب": "توضأ واقرأ"، توضَّأْ يا سيد زكريا من هذه الرعونة! توضأ من ذلك الحِقد على العربية وما تَعنيه وترمز إليه! توضأ من جهلك وقلة حيلتك! توضأ من تطاولك (وأنت القَزَمُ الشَّخْت الهزيل) على فحول العلماء! توضأ من وهمك أنك عبقري وأن مِن حقك أن تقارع الفحول! لو كنتَ عبقريًّا - كما تتوهم - لكنتَ تريَّثْتَ وقرأت فأتقنت القراءة، وأدَرْتَ الموضوع في رأسك فأحسنت الإدارة، وقلبته تقليبًا حتى ينضَجَ ويستوي قبل أن يخطر في بالك أن تمتشق القلم وتخُطَّ به على الورق، إن الإمساك بالقلم لهو من السهولة بحيث يستطيع أيُّ أمِّيٍّ أن يفعله، وكذلك الخط على الورق، ولكن أي خط؟ إن ثمة فرقًا بين نكش الدجاج وكتابة العلماء! فاختر لنفسك المعسكر الذي تحب أن تعتزي إليه: فإن كنت تريد أن تكونَ مع الدجاج فمكانك لا تبرحه، فأنت معها، أما إن كانت تبغي أن تحشر في صحبة العلماء المحترمين فقد شرحتُ لك السبيل، وأنت بعدُ حُرٌّ، وذنبك على جنبِك، وانظر لا يخدعنك أمثالك ممن يخلعون عليك الألقاب، فليس بنافع للقردِ أن يثني على جمال خِلقته قردٌ مثلُه! ومتى كانت الألقاب قادرة على أن تجعل من الجبان شجاعًا، أو من الشحيح جَوَادًا، أو من العَيِيِّ فصيحًا، أو من الجهول عالِمًا؟ إذًا لَمَا كان شيء أسهل من طريق المجد والعظمة، بَيْدَ أنه في واقع الأمر وحقيقته طريق وَعْرٌ، قلما سلِمَت فيه الأقدام من العِثار والانزلاق! فما بالك إذا كانت القدمُ التي تسير فيه ضخمة مفلطحة غبية؟


[1] ص 160 - 161.

[2] وليس معنى هذا أن اللغة (أية لغة) يمكن أن تخلو من الألفاظ الأجنبية تمامًا، لكنَّ ثمة فرقًا بين تسرب بعض هذه الألفاظ إليها بين الحين والحين بحكم الضرورة وبين فتح الأبواب أمامها على مصاريعها دون ضابط ولا رابط، وبخاصة إذا كان في مقدورنا إيجاد مقابلات عربية لها؛ كـ: "القرص المدمج" للسي - دي، و"الحاسوب" للكمبيوتر، و"المرناء" للتلفزيون، و"والمسرة" للتليفون، و"السيارة" للأوتوموبيل، و"القنبلة" للبمبة، "وكرة القدم" للفوتبول، و"كرة الطاولة" للبنج بونج، و"التسلل" للأوف سايد، و"فاتح الشهية" للأيرتيف، و"الشطيرة" للساندويتش.. وهلم جرًّا، وبالمناسبة فقد كان رأي سلامة موسى من رأي زكريا أوزون، لكن اللغة العربية لم تحفِلْ بما كان ينادي به، وطوَّحَته في سلة القمامات!


[3] كعبقرية زكريا أوزون التي ينضح بها كتابه هذا.

[4] ص 157.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 11-03-2021, 05:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دفاع عن النحو والفصحى

دفاع عن النحو والفصحى(15)



د. إبراهيم عوض





وعودة إلى الذين دعَوْا إلى تسهيل النحو واجتهدوا فيه نقول: إننا (مع احترامنا لجهودهم وجهود كل غيور على العربية وقواعدها ورغبتهم في تثقيف الألسنة الناطقة بها كي تصبح ألسنة بصيرة ماهرة بطرق الكلام الصحيح الفصيح) نرى أن جهودَهم المخلِصة لن تؤتيَ ثمارها المرجوَّة وعلى أوسع نطاق كما يحبون ونحبُّ إلا إذا توفرت لها بعض الشروط المهمة؛ فأولاً: كيف يُرجى لهذه الجهود الكريمة أن تحقق هدفها، والعرب بوجه عام، متعلمين منهم وغير متعلمين، لا يُحِلُّون لغتهم من نفوسهم وحياتهم المحل اللائق بها؟ إن الشعور القومي والدِّيني الرشيد غائبٌ أو على الأقل غائم عند الأغلبية منا، وهذا الشعور ينسحب أول ما ينسحب على اللغة، حتى إن العربي لا يعتزُّ بلغته، ولا يشعر أن مِن واجبه بل مما يشرِّفُه ويرفع ذِكره بين الناس أن يُحْكِمَها ويتقنها نطقًا وكتابةً وتذوقًا، بل إن العربية لتتعرض على ألسنة كثير من أبنائها لسيولٍ من التهكم، لا أظن لغة أخرى في العالم تتعرض ولا لعُشْرِ مِعشاره، وبخاصة في التمثيليات والمسرحيات وشرائط الخيالة، مما لا يعادله في قوة تأثيره أية وسيلة أخرى، وكثير من العرب يحرصون أشد الحرص على ترصيع كلامِهم بألفاظٍ وعبارات أجنبية، رغبةً منهم في التباهي بأنهم متحضِّرون، مع أنهم قد يكونون من أحطِّ طبقات المجتمع في الذوق والثقافة، لكنه الإحساس بالدُّونية والنقص!



ويرجع هذا، فيما يرجع إليه، إلى أن الإسلام ولغته والعرب الذين نشروهما في أيام عزتهم ومجدهم ورجولتهم وفحولتهم في أرجاء المعمورة يشكِّلون منذ وقت بعيد هدفًا دائمًا لدعاية شياطين الاستعمار والاستشراق والتبشير المسمومة، هؤلاء الشياطين الذين لم يتركوا في الغالب مكرمةً فينا أو في لغتنا ودِيننا إلا مسَخوها وقلَبوها مذمَّةً وعارًا، يُلحُّون على ذلك إلحاحًا لا يعرف كَلَلًا ولا مَلَلًا، ولا يتوقف لحظة من ليل أو نهار، ويصطنعون فيه كل الأساليب التي تخطر والتي لا تخطر على البال، ويتفننون فيها تفنُّنًا بغية كسرنا، بل تحطيمنا، حتى لا تقوم لنا بعد ذلك قائمة، فيسهُل عليهم مضغُنا وابتلاعُنا، إنها حرب ضَرُوس رهيبة، وهذه بعض نتائجها المحزنة! ومن أسرار نجاحهم في هذا الميدان أن العربَ في هذه الفترة من تاريخهم قومٌ متخلفون عن الغرب وأهله تخلُّفًا شنيعًا، وهذا التخلف يتخذه أولئك الشياطين حجة على أننا وكل ما يتعلق بنا في الحضيض الأسفل، وفي ذات الوقت نراهم يتخذون من الأساليب والأسباب ما هو كفيل باستمرار هذا التخلف، إنها لعبة معقدة، ولكن هكذا هي! ومن مظاهر تخلُّفنا أننا نميل إلى الكسل، ولا نتخذ لأي شيء عدته، كما ينبغي أن تتخذ العدة؛ إذ إن الجِدَّ بطبيعته متعِب ومزعج، والكسالى البُلَداء يكرهون أي شيء يتعبهم، ويحبون أن يظلوا في غطيطِهم لا يزعجهم مزعج، ولتكُنِ النتائجُ ما تكون، ولْتنصَبَّ عليهم المصائب من كلِّ حدَب وصَوْب كما يحلو لها، فلكل ذلك ربٌّ اسمه الكريم، وساعتها سيفرجها ربنا! أما "كيف" فليس هذا أوان التفكير في ذلك "الكيف"، بل أوان الاستغراق في "الكيف" الآخر، وعلى ذلك فأغلبنا لا يحبون العلم؛ لأنه يستلزم السهر، وإرهاق العين والمخ، وتناول الدواء المرِّ، فضلاً عن أن نتائجه لا تظهر لساعتها، بل تحتاج وقتًا طويلًا، ثم لماذا نتعب أنفسنا، ونحن نستطيع أن نحصل بالاستيراد على كل ما نريد؟ حتى إن مدينة القاهرة على جلالة قدرها، فيما قرأت، قد استوردت أجانبَ لجمعِ قمامتها، ولا تزال القمامة رغم هذا تملأ جنباتها.



الطالب العربي عليه إذًا أن يُقبِلَ بجمع همته على العلم إن أراد تقدمًا، أما أن يبقى في مكانه لا يريد أن يبارحه ثم يشكو من صعوبة النحو، فذلك لن يقضي على المشكلة، وبالمناسبة فالذي يشكو من النحو يشكو عادةً من غيرِ النحو، والطالب الجادُّ لا يشكو من هذا ولا من ذاك، ولقد أتقن كثيرٌ منا لغتهم منذ وقت مبكر، وهم لا يمتازون عن غيرهم امتيازًا ملحوظًا في الذكاءِ، لكنه الحب والعمل والتعب والسهر والرغبة في الإنجاز والمعرفة بأن حلاوة الحياة لا تسلِّمُ نفسَها إلا لمن صبر على تجرُّع مرارتها طويلاً، هذه هي طبيعة الأمور، لكن قومي لا يعلمون، أو يعلمون ولكنهم يتجاهلون! قل لي بربك: لماذا أتقن أجدادنا لسانهم بدليل خلوِّ مؤلفاتهم من الأخطاء النَّحْوية والصرفية، على حين أن كثيرًا جدًّا من مؤلَّفاتنا الآن تعِجُّ بمظاهر العجز الفاضح عن السيطرة على قواعد اللغة؟ إنه الفرق بين الجِدِّ والهزل، بين العمل والكسل، بين الشعور بالعزة والإحساس بالهوان، بين الثقة بالنفس والارتياب اليائس فيها وفي قدراتها! أتكون لغتُنا ونحوُها أصعبَ من لغة الصينيين أو لغة اليابانيين مثلاً؟ إن نحوَ لغة الضاد لم يتغير في شيء، اللهم إلا أنه الآن أصبح يعرض بطريقة أسهل، فلماذا أتقنه على صعوبةِ طريقته الأقدمون، وكثُر منا العاجزون عن ذلك، رغم أن طريقة عرضه قد أصبحت أيسرَ وأكثر جاذبية؟



ومعروف أن الإنسان إذا لم تكن عنده رغبة حقيقية وإرادة لعمل الشيء، فإنه يجده صعبًا، ولا يُحسنه، مهما حاول المشرفون عليه أن يدفعوه إلى التعلم وبذل الجهد، ويَزيد الطِّين بِلَّةً أن التعليم الآن بعد أن صار مجانيًّا، وبعد أن أصبح وجاهة اجتماعية في بلاد العرب - أضحى يضمُّ مَن لديه استعداد، ومن ليس له من الاستعداد شيء يذكر، ولم يعُدْ مقصورًا على مَن يختاره بشوق ولهفة كما كان الحال قديمًا أيام أن كان لا يذهب إلى حلقة الدرس إلا مَن يحب العلم وعلى استعداد لدفع ضريبته، أما الآن فكلُّ الصبيان والشبَّان تقريبًا يذهبون إلى المدارس والجامعات، وأغلبيتهم الساحقة لا تدرك قيمة العلم، ولا تتذوق له معنى، إنما هو وقت فراغ يمضيه الواحد منهم مع لِدَاتِه، وإني لأذكر إلى الآن تعليق إحدى الطالبات البريطانيات ممن كنا نعلِّمُهن اللغة العربية في آداب عين شمس في الثمانينيات عندما رأت الزحام الهائل للطلبة والطالبات في طرقات الجامعة يقتُلون وقتهم في الثرثرة والجلوس في ظلال الأشجار وتبادل النكات والقهقهات، إذ قالت في دهشة: "هذه ليست جامعة؛ بل ناديًا اجتماعيًّا!"، فهل من المستغرب أن يكونوا ضعفاء في اللغة وقواعدها؟ إنهم ضعفاء في كل شيء لا في اللغة وحدها، وثقافتهم ضحلة تبعث على الرثاء! وأنا حين أقول هذا لا أقوله انطلاقًا مما يسمى بـ"صراع الأجيال"؛ بل من واقع تجربتي الطويلة في التعليم. لا نكران في أن هناك طلابًا على مستوى راقٍ من الثقافة والإخلاص في الدرس والمقدرة على التعبير السلس الجميل، لكنهم قلة قليلة، كما كان الطلاب قبل ثلاثة عقود من الزمان أفضل منهم الآن إلى حد بعيد.




وهذا يقودنا للتنبيه إلى أن إتقان لغةٍ ما لا يمكن أن يقوم على فراغ، بل لا بد من ثقافةٍ واسعة عميقة تربط الإنسان باللغة التي يتعلَّمها، وتقيم بينه وبينها ألفة بل صداقة ومحبة، إن النحو ليس قواعد تحفظ والسلام، بل هو نظام ثقافة، ولا بد له من مادة واسعة وثرية يطبق عليها، ترى هل يمكن أن يتعلم شخصٌ ما فنَّ تنسيقِ الزهور مثلاً دون أن يكون بين يديه زهور كثيرة ومتنوعة يمارس عليها ذلك الفن؟ فكيف بالله يتحمس إنسان لإتقان لغة قد حرَم نفسه أطايبها، وأقام بين عينيه وبين مواطن الحسن والروعة فيها سدًّا كثيفًا؛ فلم يتعرف إلى إبداعات امرئ القيس، وعنترة، والحطيئة، وعمر بن أبي ربيعة، وابن قيس الرُّقيَّات، وأبي نواس، وبشار، وابن الرُّومي، والبحتري، وابن المعتز، والمتنبي، والبهاء زهير، وحافظ، وعلي محمود طه، والسياب، ومحمود درويش، ولا إلى روائع ابن المقفع، والجاحظ، وابن قتيبة، والطبري، وأبي الفرج الأصفهاني، وأبي حيان التوحيدي، وابن حزم، والغزالي، والحريري، والشدياق، والمنفلوطي، وشكيب أرسلان، وكرد علي، وجبران، والريحاني، والعقاد، والمازني، وطه حسين، وزكي مبارك، وغازي القصيبي... إلخ... إلخ؟ إن إنسانًا قد حرمه الله هذا المتعة العلوية لَفقيرٌ مسكين! ولعل القارئ لا يزال يذكر إزراء السيد أوزون بالأدب، الذي يعُدُّه عديم الجدوى، فهذا يفسر له الكثير!



لقد لاحظتُ على كثير من طلبتي في الماجستير والدكتوراه أنهم لا يهتمون بالقراءة لكبار الكتَّاب، بل يقتصرون في الأغلب الأعم على قراءة الرسائل التي كتبها زملاؤهم؛ أي إنهم يأخذون اللغة عن شبَّان أمثالهم لا يزالون في بداية الطريق ولم يكتسبوا الأسلوب بعدُ، فهم بمثابة الأعمى الذي يسترشد في الطريق بأعمى مثله، كما لاحظت أنهم لا يقرؤون في العادة كتابًا أو مقالًا إلا إذا كان ينفعهم نفعًا مباشرًا في الرسالة التي يعدونها، أفيصحُّ إذًا أن نفاجأ برداءة أساليبهم وما يطبع تفكير أكثرهم من سقم وفوضى واستعصائهم على الإصلاح؟ إن صدورنا، على رغم تصبُّرنا وما نأخذ به أنفسنا من التسامح وطول البال، لَتَضيق أشد الضيق ونحن نرى الطالب مِن هؤلاء يعود مرة بعد مرة بعد مرة بعد مرة... إلى اجتراح نفس الأخطاء التي نصلحها له ونشرح له وجه الصواب فيها مردفين له كل هذا بالأمثلة الموضحة، ثم يقول زكريا أوزون: إن النحو العربي لا علاقة له بالمنطق ولا بالعقلانية، إنه هو نفسه أكبر دليل على صحة ما أقول؛ إذ يتصدى لمهمة جليلة لم يستعدَّ لها ولا بواحد على مائة مما تستلزمه هذه المهمة الجليلة من استعداد.



كذلك ينبغي التنبيه إلى أن تدريس النحو يتجه في الغالب، وبكل أسًى وأسف إلى حفظ القواعد، أما التطبيق فلا يلقَى العناية الكافية ولا اللائقة، وعادة ما يقتصر على الإعراب، والنتيجة أن كثيرًا جدًّا من الطلاب يحفظون القواعد عن ظهر قلب، لكنهم لا يستطيعون أن يعربوا، وأن كثيرًا جدًّا من الماهرين في الإعراب لا يستطيعون رغم ذلك أن يقرؤوا أو يكتبوا على نحو سليم، وبهذا تحوَّل حفظُ قواعد النحو والإعراب إلى هدفٍ في حد ذاته، مع أنهما في حقيقة الأمر ليسا أكثر من وسيلة إلى النطق الصحيح، والكتابة البريئة من العيوب والأخطاء، واكتساب الحساسية التعبيرية عما يستكنُّ في أطواء النفس من المشاعر والخلجات، وما يدور في الذهن من أفكار ومعانٍ، وما تجيش به الحياة حولنا من مرئيات ومسموعات ومشمومات وملموسات.



ولست أنسى، عندما كُلِّفتُ أنا وزملائي - قبل حصولنا على درجة الدكتوراه - بأن ندرِّسَ النحو لطلاب القسم في آداب عين شمس تدريسًا تطبيقيًّا، كيف أني لم أبالِ كثيرًا بمسألة الإعراب أو ترديد نصوص القواعد، بل جعلت كل وُكْدي تقريبًا إلى تدريب الطلاب على قراءة بعض المقالات لكبار الصحفيين المشهورين بحيوية الموضوع، وحلاوة الأسلوب، بحيث يقرأ أحد الطلاب وينصت الباقون إليه، فإذا أخطأ رفعوا أيديهم وبينوا موضع الخطأ وذكروا وجه الصواب، مع الإشارة السريعة إلى القاعدة التي تحكم ذلك، بالإضافة إلى تكليفهم بكتابة نحوِ صفحة في البيت يحضرونها معهم، ويقرأ كل منهم صفحته بنفس الطريقة التي يقرؤون بها المقال الصحفي، ثم نختم الدرس بأن أقرأ أنا عليهم نصًّا أختاره، وأتعمَّد اجتراح خطأ في كل جملة من جُمَله، ومن يكتشف ما وقعتُ فيه يرفع يده ويصوبه... وهكذا، وقد ذكر لي أكثرُ مِن طالب متفوِّق بعد ذلك بسنوات أنهم قد أفادوا أكبرَ الفائدة من هذه الدروس، وأنهم كانوا يحبونها، ولكن لا بد أن أشفع هذا بالقول بأن ذلك الحب لم يكن عامًّا بين الطلبة، أقول هذا وأقول معه بأنني لستُ متخصِّصًا في النحو ولا في الدراسات اللغوية، بل في النقد والأدب، والطريف أنني أنا وأحد أصدقائي بالقرية كنا نفعل شيئًا من هذا عندما كنا في آخر المرحلة الإعدادية، فقد كنا نصعد في مئذنة الجامع الكبير في قيلولة الصيف في أوائل ستينيات القرن الماضي، ونجلس هناك في مهب النسيم العليل ينفحنا من شجرة "ذقن الباشا" المجاورة للمسجد، وفي أيدينا كتاب من كتب الأدب، أذكر منها "الزنبقة" لحسين عفيف، فيقرأ أحدنا فيه على حين ينصت الثاني له، وإذا ما أخطأ نبَّهه إلى خطئه، ولست أدعي أننا كنا نتنبه دائمًا للخطأ والصواب، ولكنها كانت الخطوات الأولى على طريق عِشق اللغة وإتقان القراءة والكتابة الصحيحة.



كذلك ينبغي أن تكون التطبيقات في البداية من الكتابات العصرية، والمقالات التي يؤلفها الصحفيون المشهورون بجمال أسلوبهم وحيوية ما يكتبون؛ فإن ذلك أقمنُ أن يزيل من نفوس الطلبة الرهبةَ والوحشة، ويُشعِرهم بأنهم يتنفسون هواءً طبيعيًّا، فلا يرتبط النحو والصرف في أذهانهم بالتكلف والتقعر، أوصي بهذا لأن الأساليب العصرية تخلو من التراكيب النادرة التي لم تعُدْ تُستَخْدم، والتي يرهق الذهنَ إعرابُها مع ذلك إرهاقًا.



فإذا ما قبض الطالب على أزِمَّةِ النحو في استعمالاته المعاصرة، قدمت له بعض النصوص القديمة إلى جوار النصوص الحديثة... وهكذا، ولا بد في أثناء ذلك كله مِن تفهيم الطلاب أن الإعراب هو السبيلُ إلى التعبير السليم الحساس عما بنفس الكاتب، فضلًا عن أنه يتيح له حرية لا نظير لها في أية لغة أخرى لتنويع طرائق التعبير واصطياد أدق الأفكار والأحاسيس بأوجز طريق[1]، وأنه أيضًا السبيل إلى فهم ما يريد ذلك الكاتب، فلم يؤتَ به للزينة الفارغة ولا للتحكم المرهق.



كذلك ينبغي ألا يُرَدَّ استعمالٌ أو إعراب يمكن أن يوجد له وجه، فلا يبدو النَّحْوي كالشريك المخالف، الذي أخذ على عاتقه معاندة الآخرين بكل طريق، ومن المستحسن هنا الاستعانة بالتسجيلات والشرائط التي يستمع إليها الطالب، ويحتذي ما تقدمه له من نماذج احتذاءً يقوم على كثرة التكرار حتى تنطبع الصيغ والتراكيب السليمة في ذهنه، وينطق بها لسانه دون تفكير كأنها سليقة فيه.



ولقد تعلمتُ اللغة الإنجليزية في أكسفورد على نفسي أكثر مما تعلمتها على أيدي المدرسين بعد أن عرفت كلمة السر هذه، فكنت حريصًا على أن أشتري كل ما تقع عليه عيني من كتب لتعليم تلك اللغة، ثم أعكف على تمارينها النحوية حلاًّ واحتذاءً نطقيًّا لِما فيها من نماذج حتى أحسستُ أن لساني قد نشِط من عقاله، واستقام بعد اعوجاج، ثم عدت بعد ذلك إلى الفرنسية، التي كنت قد درستُها في المدرسة في مصر ونسيتها إلى حدٍّ كبير في غمرة انشغالي بتعلم لغة جون بول، فبدأت دراستها من جديد بذات الطريقة، وبلغت فيها في مدى زمني جد قصير ما لم أستطع بلوغه في السنوات الطوال التي صرمتها في تعلمها في أرض الوطن، ونفس الشيء صنعته في لندن مع الفارسية في آخر شهرين قضيتهما هناك عقب حصولي على درجة الدكتوراه، ثم مع الألمانية، التي درستها في معهد جوته بالقاهرة، واستطعت بعد عدة شهور أن أقرأ بها ترجمات القرآن الكريم، وإن كنت قد أهملتُ للأسف هاتين اللغتين فيما بعدُ حتى أُنسيتهما؛ لعدم توفر المؤلَّفات المكتوبة بهما في مصر إلا في نطاقات المتخصصين الضيقة.



ولكن قبل ذلك كله لا بد من توفر الهمة والإرادة والرغبة الصادقة، بل العارمة عند الطالب، وإلا فلو ذوَّبنا له قواعد النحو والصرف في كوب من الشربات وسقيناه إياه بـ "الملعقة الصيني" كما تقول الأغنية الشعبية، فلا أمل في أن يتعلمها؛ لأن عقله لن يتفاعل معه، بل سيرفضها كما يرفض الجسم عضوًا غريبًا عليه.



الهمة والإرادة:

هاتان هما كلمة السر والسحر التي تنفتح بها الأبواب، وتذلل بها الصِّعاب، وتعنو للإنسان شُمُّ الجبال والهضاب! وبدونها لن يفلح عباقرة الأرض جميعًا في تعليم إنسان أي شيء.



لقد كثُر القول في عصرنا: إن النحو العربي صعب، فهل يا ترى يتقن طلابنا نحو الإنجليزية أو الفرنسية أفضل مما يتقنون نحو العربية؟ أستطيع أن أجيب من واقع خبرتي الطويلة في التعليم بملء فمي وبملء يقيني معًا بالنفي، إن أشباه العوامِّ والدجالين من الذين يُزْرُون بالنحو العربي هم الذين يتوهَّمون أو يريدون أن يتوهم الآخرون أن الجواب الصحيح على ذلك السؤال هو: "نعم"؛ إذ يكفي أن يلوي شخص ما لسانه أمامهم بلغة أجنبية - كالإنجليزية مثلًا - حتى يقولوا: انظروا كيف يتكلم الإنجليزية ويتصرَّفُ في نحوِها بسلاسة لا يستطيعها في لغة أمته! وشتان بطبيعة الحال بين لَيِّ اللسان بهذه اللغة الأجنبية أو تلك وبين إتقانها ومعرفة قواعدها، لكن ما للعوامِّ والدجالين وهذا؟



بقيت مسألة، وهي الشُّبهة التي يرفعها في وجه النحو والصرف الكارهون للعربية وأساليبها العجيبة وتراثها الثَّري العظيم؛ إذ يقولون: ولماذا لا نسكن أواخر الكلمات التي تعرب بالحركات، ونلزم فيما يعرب بالحروف وضعًا واحدًا، أو لماذا لا نترك كل إنسان يحرك أواخر الكلمات أو يختار الحرف الذي يجعله في نهايتها حسب هواه، ونجري في تركيب الجملة العربية على وتيرة واحدة لا تتغير، كما هو الحال في اللغات الأوروبية المعروفة لنا ونريح ونستريح؟ لكنَّ قائلي هذا الكلام قد فاتهم عدة أشياء: فمنها أننا سنغير لغتنا تغييرًا عنيفًا يرجُّها رجًّا وينقلها من حال إلى حال تبدو معه اللغة التي أُلِّف بها تراثنا على مدار ستة عشر قرنًا ويزيد كأنها لغة أجنبية لا بد من صرف الوقت والجهد لتعلمها من جديد، وقد نتقنها بعد هذا كله أو لا نتقنها، كما هو شأننا مع اللغات الأجنبية، ويأتي على رأس هذا التراث كتاب الله الكريم، الذي يظن زكريا أوزون ومَن أَزَّه على هذا الكلام العجيب أنه يستطيع أن يختلنا في شأنه بالقول بأن القرآن شيء مختلف، وأننا لن نتعرض للغته على أي وضع، بل يبقى له الإعراب، وهل يستطيع أحد، بعد أن نسقط ذلك الإعراب من لغتنا الجديدة، بل بعد أن نطرح عنا اللغة الفصحى جملة ونركن إلى العامية (بل العاميات التي لا تكاد تنتهي عدًّا)، أن يفهم لغة القرآن؟ إن هذا منطق إبليسيٌّ لا يمكن أن يدور إلا في عقول الشياطين! وهو، في حال أوزون، ترديد ببغائي لِما أذكر أني قرأته عند أحد النصارى ممن يَدْعون إلى الأخذ بالعامية وإهمال الفصحى، فانظر أيها القارئ إلى ما تهجس به الضمائر الملتوية، ثم يأبى الله إلا أن يفضح نياتها السود فيطفو على ألسنتهم ذكر القرآن، الذي إنما يتكلفون هذا كلَّه لحربه ومحوِه من الوجود في صمت لا يستفز مشاعر الغيارى من العرب والمسلمين، إلا أنه سبحانه يُنطِق ألسنتهم بما تريد قلوبهم أن تخفيه في أطواء كهوفها المسكونة بعقارب الحقد وأفاعيه!



ثم سؤال آخر: أيهما أحسن خطة وأبرَكُ عُقُبًا؟ ألاَّ يكونَ للجملة العربية إلا تركيب واحد لا تعدوه كالفقير الذي لا يعرف إلا لونًا أو اثنينِ من الطعام لا يغيِّرهما على توالي الأيام والأعوام، أم أن يظل لها ثراؤها الذي نعرفه والذي يتيح للكاتب والمتكلم أن يتفنن كما يحب في بنائها بالتقديم والتأخير، والحذف والإضافة، والاعتراض والتلوين في أمان وثقة ويُسْرٍ بحيث يبدو النص الأدبي، وبخاصة عند أولئك الذين تشربوا عبقرية الأسلوب العربي، حديقة حالية بفاتن مختلف الأوراق والثمار والأزهار والألوان والعطور وأنغام النحل والطيور؟ سيقول أوزون ومَن وراءه: بل نفضِّل الوتيرة الواحدة! لكن أوزون وأمثاله نسُوا أو يتناسون أنهم لا يملكون وحدهم هذه اللغة أولًا، وأنهم ليسوا ممن يُنصَتُ إليهم؛ لِما ظهر من جهلهم وسوء طويتهم ثانيًا، وأنهم إن رضُوا بهذا فلن نرضى نحن الذين أنعم الله علينا بالقدرة على تمييز هذه الفتنة الرائعة العبقرية في لغة القرآن الكريم والاستمتاع بها وتقديرها حق قدرها، وكما أنه من غير المعقول أن ترتد البشرية على أعقابها فتعود إلى تغطية أجسادها بأوراق الشجر بدلًا من الملابس الجميلة التي يتفنَّن المصممون والصناع والخياطون في إخراجها لنا كي ننعم بملمسها وشكلها وألوانها وتفصيلها، أو أن نرجع القهقرى فنصنع كما تصنع الذئاب؛ إذ تتناول طعامها بنهش جثث الحيوانات النافقة وتترك المائدة والأطباق والأكواب فتأمل وتعجب! ولم يكتفِ العارض بذلك الهراء، بل جعل كاتبنا العاطل عن العلم حلقة في سلسلة تبدأ بابن جني من العصر العباسي وتصل إلى الشيخ إبراهيم اليازجي في العصر الحديث، مسوِّيًا على هذا النحو المضحك بين البعوضة والنسور! وواضح أن كاتب العرض المذكور لا يعرف شيئًا عن موضوعه، وإلا لما قال مثلًا: إن المؤلف يدعو إلى التخفيف من قواعد الإعراب؛ إذ إن زكريا أوزون إنما يدعو إلى نبذ اللغة العربية جملة، والاستعاضة عنها بالعامية، وهو ما يعني القضاء على الإعراب نهائيًّا، لا التخفيف منه، كما يهرِفُ صاحب العرض.



الحق أن السيد أوزون بحاجة مُلحة للعودة إلى قاعة الدرس؛ كي يسد ثغرات الجهل الكثيرة التي يعاني منها، أما أن يكون أستاذًا أو خبيرًا لغويًّا، أو ما أشبه من ألقاب الخبص هذه، فذلك من نكد الدنيا، ولقد استفزَّ هذا التدجيل كاتبًا فلسطينيًّا حرًّا هو د. رفيق حسن الحليمي، فانبعث للرد عليه مهاجمًا أصحاب القلوب المريضة والنيات الخبيثة الذين يعملون بكل جهدهم للقضاء، لا على النحو فقط، بل على كل ما هو عربي وإسلامي، واصفًا إياهم بأنهم أصحاب أقلام مأجورة، ويحرِّكهم التعصب العِرقي والنعرة الإثنية، ويبدو أنه يومئ إلى أن أوزون ليس عربي الأصل، كما يؤكد د. الحليمي بحق أن العيبَ ليس في لغتنا، بل فينا نحن، فحياتنا متردية في كل جوانبها، لا في اللغة فحسب، وهو ما أبرزناه بما فيه الكفاية فيما مر من صفحات، وبحق أيضًا يؤكد أن الكتاب يفتقد المنهجية العلمية والموضوعية، وأنه يعكس حالة مرَضية عصابية مزمِنة من الإفلاس والتدهور والخضوع التام لذاتية مسرفة من أحد أدعياء الثقافة والإصلاح[2].






[1] ونضرب مثالًا واحدًا لما نريد قوله، وهو أننا نستطيع أن نقول في الفصحى: "ضرب محمد عليًّا، وضرب عليًّا محمد، عليًّا ضرب محمدٌ، وعليًّا محمد ضرب، ومحمد ضرب عليًّا، ومحمد عليًّا ضرب"، ولكل تركيب من هذه التركيبات شِيَة خاصة به في المعنى، أما في العامية فليس أمامنا إلا أن نقول: "محمد ضرب علي"، وقد ورد هذا المثال في كتاب "مستويات العربية المعاصرة في مصر" للدكتور السعيد محمد بدوي (دار المعارف بمصر / 56)، وبطبيعة الحال فإن الأمر أعقد من ذلك وأوسع، لكنه مثال يشير إلى ما وراءه.




[2] يمكن للقارئ الرجوع إلى الرد كاملًا في موقع صحيفة "الرأي العام" على "المشباك" (الإنترنت).









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 142.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 139.26 كيلو بايت... تم توفير 3.59 كيلو بايت...بمعدل (2.52%)]