مقاصد سورة الحج - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 39 )           »          تعظيم خطاب الله عزوجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          رسـائـل الإصـلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-01-2021, 07:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد سورة الحج

مقاصد سورة الحج
أحمد الجوهري عبد الجواد







نور البيان في مقاصد سور القرآن












"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".







(22) سورة الحج



أحبتنا الكرام، أحبة القرآن، هذا هو لقاؤنا القرآني الذي نتعرف من خلاله على تفسير سور القرآن تفسيراً إجماليّاً نجمع فيه بفضل الله تعالى وتوفيقه أطراف السورة وما حولها من ظلال، وما فيها من عِبَرٍ عامة، لنتعرف عليها بهذا الشكل المجمل، أما السور ففيها آيات، وأما الآيات فتحمل عظاتٍ وعبر ودروساً نافعات، فبقي في كل سورة خيرٌ عظيم، بل الخير كله، فإننا في حديثنا هذا لا نقول كلّ شيء وإنما هو غيضٌ من فيض، وقطرةٌ من بحر فعجائب القرآن لا تنتهي، وما نتكلم في هذه الدروس إلا بحديثٍ عام مجمل عن السورة، أما تفاصيلها فذاك قولٌ يطول.







نسأل الله تعالى أن يرزقنا من هذا كله ما ينفعنا وما يقربنا إليه، وما يرضِّيه عنا حتى نلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان.







أيها المستمعون الكرام، لقاؤنا هذا مع سورة الحج، بعد سورة الأنبياء، وسورة الحج هكذا سماها الله تعالى كما سمى كل سورةٍ باسمها، فهذا هو الراجح أن الله تعالى هو الذي سمى سور قرآنه وأجزاء كلامه سبحانه وتعالى، سماها بالحج، والحج في لغة العرب التي أُنزل القرآن بها يعني القصد، حجّ فلانٌ إلى كذا إذا قصد إليه، حج فلانٌ إلى فلان إذا قصده وذهب إليه وأتاه[1]، لكنه في شرع الله تعالى صار هذا الاسم عنواناً على عبادة معينة من العبادات، القصد إلى جهةٌ معينة وهي البيت الحرام بمكة المكرمة وما حولها من أرض النسك، بنسكٍ مخصوص وأعمالٍ معينة[2] شرعها لنا ربنا وبينها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: "خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"[3].







إنما القصد هو المعنى اللغوي لكلمة الحج، وهو المعنى العام لهذه الكلمة، وهذا له ظلاله على السورة كما سيتبين إن شاء الله، وليست لها أسماء أخرى[4]، وورد في فضل هذه السورة وخصوصياتها ما رواه أبو داود والترمذي رحمهما الله تعالى عن عقبة بن عامرٍ رضي الله تعالى عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أفُضِّلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم[5]، ففي بعض سور القرآن ترد سجدة تلاوة، وهي الآية التي فيها أمرٌ أو ذكرٌ للسجود ويسجد عندها القارئ من باب السنة والتطوع، يسجد إن شاء، وإن لم يسجد فلا حرج عليه، وإن سجد فله ثوابٌ على سجدته هذه وتسمى سجدة تلاوة، وهي سجدةٌ واحدةٌ قد لا يُكبِّر فيها أو يكبر ولا تسليم منها ولا ركوع فيها ولا قراءة إنما سجودٌ ودعاء[6]، ويقال فيها مثلما يقال في السجود الذي في الصلاة من التسبيح والدعاء، سبحان ربي الأعلى ويدعو بما شاء[7].







سورة الحج سورةٌ فازت بسجدتين من هذه السجدات، وكان هذا من فضلها، ونوَّه بعض العلماء على فضل هذه السورة بأنها نزلت في كل الأحوال، نزلت منها آياتٌ بالليل وآياتٌ بالنهار، آياتٌ في السفر وآياتٌ في الحضر والإقامة، نزلت منها آياتٌ في السِلم، ونزلت منها آيات أثناء الحرب، نزلت منها آياتٌ محكمة، ومنها آياتٌ متشابهة، نزلت منها آياتٌ نُسخت وآياتٌ لم تنسخ، فجاءت على كل الأحوال[8].







أما نزول هذه السورة، زمان ومكان النزول، فإنها اشتبهت على العلماء بما فيها وفي بدايتها خاصة من نداء الله تعالى بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وهذا النداء غلب وكثر في مكة قبل الهجرة، أما بعد الهجرة فكان النداء غالباً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فقالوا: هي مكية، وكذلك لما في أولها من ذكر القيامة والتهديد بها ومن التذكير ببداية خلق الإنسان ومراحله، ومن الحديث عن البعث، ومن التهديد بمصائر الأمم السابقة، قالوا: لذلك فهي مكية، والبعض نظر إلى ما فيها من الإذن بالقتال ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، قالوا: إذاً هذا السورة مدنية؛ لأن القتال لم يُشرع إلا في المدينة، وفيها كذلك حديثٌ عن الحجّ، حديثٌ شبه طويل، شبه مفصّل، بادئاً بذكر تحديد مكان البيت لإبراهيم ليبنيه ويرفع قواعده، ثم بأذان إبراهيم عليه السلام في الناس طاعةً لأمر الله، يؤذن فيهم بالحج، ثم بعض الأحكام المتعلقة بالحج، والحج لم يُفرض إلا بعد الهجرة فقال: بعض العلماء إنما هي سورةٌ مدنية، فاختلفوا فيها، ورأيٌ جمع بين الرأيين وقسم السورة نصفين فقال: نزل بعضها في مكة قبل الهجرة في أواخر العهد المكي، ونزل بعضها الآخر في أوائل العهد المدني، وهذا قولٌ حسنٌ يجمع بين الرأيين ويضع كل آية في مكانها وفي زمانها، جزى الله العلماء عنا في هذا البيان خيراً، فسورة الحج منها ما هو مكيٌ ومنها ما هو مدني، وهذا يضاف إلى خصائصها – كما سبق القول –[9].







مسيرة هذه السورة وسياقها بدأها الله تعالى واستفتحها كما اختتمها بحديثٍ يشير إلى عظمة الله تبارك وتعالى، إلا أنه في بدايتها نبَّه على عظمته سبحانه وتعالى في الدار الآخرة التي يُكذِّب بها المجرمون، فيقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ومن الذي يحدث الساعة ويزلزل الأرض والدنيا؟ إنه الله سبحانه وتعالى، هذه آثار قدرته في الدنيا والآخرة ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا أي من الهول والفزع ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، شدة عذاب المولى سبحانه وتعالى أسقطت الحوامل وأذهلت المرضعات عن أولادهن حتى سقط الولد من بين يدي ومن على ثدي أمه، لم تحمله ولم تشعر بسقوطه، وانفصل الحمل عن الرحم، فقد سابت كل العضلات في الجسم فانفتحت فتحة الرحم ونزل ما فيه من حمل، هذا من الهول، وتنظر إلى الأحياء أمامك تجدهم كأنهم سكارى مشدوهين، أعينهم شاخصة، أبصارهم متطلعة، وجوههم خائفة مذهولة، قلوبهم واجفة، أبصارها خاشعة.. وهكذا، الويل قد طمَّهم وعمَّهم كأنهم سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، إلى آخر هذا الحديث الذي يبين عظمة الله تعالى إلى أن يقول ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.







ثم تمضي الآيات لمجادلة هذا الإنسان المجادل ومحاورته وبيان الحق له، فإن كثيراً من الناس من يجادلون ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ *كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ والإنسان يتبعه، وهذا قَدَر الشيطان الذي قدَّره الله عليه وجزاء ضلاله، كتب الله عنده أن من يتبع الشيطان فإنه يضل ويوم أن يهتدي يهتدي إلى عذاب السعير والعياذ بالله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ العِطْف هو العنق، يلوي رقبته إلى ناحيةٍ هكذا من باب الكِبْر والغطرسة، وكأنه صاحب حق ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذا حالٌ من الناس، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.







وهكذا الناس حالهم عجيب مع ربهم، فالله يبين لهم ويوضح لهم، إلى أن يبين لهم مصارعهم في الآخرة ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، أما المؤمنون ففي الجنة ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ، إلى أن يبين الله تعالى للناس الكافرين مصارع الأمم الغابرة السابقة، وفي هذا الحديث مواساةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المُصاب العظيم الذي أتعبه وأحزنه وهو أن قومه كذبوا به، وكان يتمنى لهم الإيمان والجنة والخير، فيقول الله تعالى ﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ إلى أن يقول ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ أهلكها الله تعالى بعد أن ظلمت، فما ترك منها إلا آثار، فتلك بئرٌ معطلة لا يردها أحد، ولا يأخذ من ماءها أحد حتى ركن الماء فيها وأسن وصار متغيراً طعماً ولوناً ورائحةً، فالديَّارون هنا والسكان ذهبوا وهلكوا فبقيت البئر معطلةً، وذاك قصرٌ مشيد وليس فيه أحد، أما أهله وسكانه فذهبوا وأهلكهم الله تعالى ولم تنفعهم حضاراتهم في شيء، ومن الأمم من أجَّلها الله تعالى ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا أمليت أي أخرت لها، مددت لها في العمر، أخرت عذابها وهلاكها ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، لكن الكل هلك في النهاية بذنبه، وأخذه الله تعالى بجرمه، فاتقوا الله يا كفار هذه الأمة فلستم بخيرٍ من أولئكم، وليست لكم براءةٌ في كتابٍ سابق.







ثم تمضي الآيات بعد ذكر كفار مكة حيث أشار الله إليهم بأنهم يصدون عن المسجد الحرام يتواصل الحديث عن البيت الحرام، وأن إبراهيم الذي بناه عليه سلام الله لم يختر مكانه بنفسه، وإنما هذا بيت الله، الله تعالى هو الذي أذن ببنائه وبُني قديماً بأيدي الملائكة، ثم تهدم بناؤه بفعل السيول والأمطار وما إلى ذلك، إلى أن جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام فدلَّ الله نبيه إبراهيم على أماكن قواعد البيت، وهذه السورة هي التي تحدد هذه المعلومة ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ بوأنا أظهرنا وحددنا لإبراهيم مكان البيت، وفي سورة البقرة ما يشير إلى هذا لكن ليس تصريحاً كهذه الآية ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فالقواعد موجودة ولكنها كانت ضائعة المعالم، فأظهرها الله لإبراهيم وأمره برفعها، فهي موجودةٌ من قبل إبراهيم، وكأن الله أنشأ هذا الكون وجعل لنفسه فيه بيتاً ليحج الناس إليه وليتجه الناس إليه، وليوحده الخلق من دون غيره، ولذلك في هذه الآية عجب ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا سبحان الله، كنا ننتظر أن يقال في غير القرآن وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن ارفع قواعد البيت، وشيد البيت تشييداً عظيماً وعظموا البيت، وفي النهاية ألا تُشرك بي شيئا، لكن الله يختصر هذه المسافات الكلامية ليظهر لنا أن مقصوده من اتخاذ بيتٍ أن يُعبد وحده لا شريك له، فكأن الغاية والهدف من تحديد أماكن قواعد البيت لإبراهيم عليهم السلام ليرفعها، الهدف الأساس في ذلك ألا تُشرك بي شيئا، هذا هو المقصود.







وبُني البيت، وذكر الله بعض أحكام الحج وأعماله في هذه السورة بعد أن أعلن أنه قال لإبراهيم ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، ثم ذكر الله تعالى بعض الأحكام ومنها وأهمها أحكام البُدْن، والبُدن هي الأنعام التي يسوقها الحجاج معهم هدية للبيت الحرام، أو كفارةً عن شيء فعلوه في الحج، فإنه يذبح هدياً ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فإما أن يذبح هدياً واجباً عليه، وإما أن يذبح هدياً إهداءً للبيت الحرام تعظيماً للبيت، إذاً القصد لله والعبادة لله والذبح أيضاً لا يكون إلا لله، فالذبح لغير الله حرامٌ وشرك، من أعد ذبيحةً لغير الله فقد أشرك مع الله تبارك وتعالى.







وهكذا تمضي السورة إلى بيان ضلال الإنسان، مع أنه يسجد لله كل شيء، ويخضع لله كل شيء بالعبادة، ولا تعبد الخلائق أحداً غير الله، كل الخلائق تسير في صفٍ واحد، أو في طابورٍ واحد، تسير في فلكٍ واحد هو فلك توحيد الإله الواحد سبحانه وتعالى، لا يشذ ولا يضل عن هذا الفلك وعن هذا الركب المبارك إلا الإنسان المجادل ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، شذّوا ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، هكذا يشير الله تعالى إلى الإنسان أن منظومة الكون كلها إنما تسير في فلكٍ واحد وفي حركة متناسقةٍ مع بعضها لا تصطدم أبداً إلى الأبد، أما حركتك أيها الإنسان الكافر فهي الحركة الوحيدة التي تصطدم مع ثوابت الكون، ومع متغيرات الكون، ولا تتوافق مع شيء، فهي حركةٌ مفسدة، حين يدور ترسٌ في ماكينة عكس حركة التروس كلها تفسد الماكينة كلها، ومر بنا في سورة مريم ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، هم في الأرض يقولون هذا الكلام الباطل، هذا الكلام الآثم وأثره يمتد إلى السماء، ويتعمق إلى عمق الأرض، ويصعد إلى الجبال، ليهدم الكون من حولهم عليهم وعلى غيرهم ﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا لأنهم داروا دورةً معكوسة، تحركوا حركةً مضادةً لحركة المخلوقات كلها، ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَأليس هذا شيئاً عجيباً، أليس هذا شيئاً جميلاً يثير الدهشة في النفس، كل هذه المخلوقات التي ترونها والتي لا ترونها تسير حركةٌ واحدة في اتجاه واحد متناسق ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ سبحاً منتظماً، إلا الإنسان هو الذي يسبح عكس التيار، ﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثيرٌ من الناس من أمثالكم يا كفار هذه الأمة، أمثالكم من البشر كثيرون يسبحون مع المسبحين، يدورون مع دورة الكون المنتظمة المتسقة، فلماذا أنتم تخالفون؟ ﴿ وكثيرٌ حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم.



يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-01-2021, 07:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد سورة الحج

مقاصد سورة الحج (2)
أحمد الجوهري عبد الجواد




نور البيان في مقاصد سور القرآن


"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".

(22) سورة الحج
أحبتنا الكرام، أحبة القرآن، هذا هو لقاؤنا القرآني الذي نتعرف من خلاله على تفسير سور القرآن تفسيراً إجماليّاً نجمع فيه بفضل الله تعالى وتوفيقه أطراف السورة وما حولها من ظلال، وما فيها من عِبَرٍ عامة، لنتعرف عليها بهذا الشكل المجمل، أما السور ففيها آيات، وأما الآيات فتحمل عظاتٍ وعبر ودروساً نافعات، فبقي في كل سورة خيرٌ عظيم، بل الخير كله، فإننا في حديثنا هذا لا نقول كلّ شيء وإنما هو غيضٌ من فيض، وقطرةٌ من بحر فعجائب القرآن لا تنتهي، وما نتكلم في هذه الدروس إلا بحديثٍ عام مجمل عن السورة، أما تفاصيلها فذاك قولٌ يطول.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا من هذا كله ما ينفعنا وما يقربنا إليه، وما يرضِّيه عنا حتى نلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان.

أيها المستمعون الكرام، لقاؤنا هذا مع سورة الحج، بعد سورة الأنبياء، وسورة الحج هكذا سماها الله تعالى كما سمى كل سورةٍ باسمها، فهذا هو الراجح أن الله تعالى هو الذي سمى سور قرآنه وأجزاء كلامه سبحانه وتعالى، سماها بالحج، والحج في لغة العرب التي أُنزل القرآن بها يعني القصد، حجّ فلانٌ إلى كذا إذا قصد إليه، حج فلانٌ إلى فلان إذا قصده وذهب إليه وأتاه[1]، لكنه في شرع الله تعالى صار هذا الاسم عنواناً على عبادة معينة من العبادات، القصد إلى جهةٌ معينة وهي البيت الحرام بمكة المكرمة وما حولها من أرض النسك، بنسكٍ مخصوص وأعمالٍ معينة[2] شرعها لنا ربنا وبينها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: "خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"[3].

إنما القصد هو المعنى اللغوي لكلمة الحج، وهو المعنى العام لهذه الكلمة، وهذا له ظلاله على السورة كما سيتبين إن شاء الله، وليست لها أسماء أخرى[4]، وورد في فضل هذه السورة وخصوصياتها ما رواه أبو داود والترمذي رحمهما الله تعالى عن عقبة بن عامرٍ رضي الله تعالى عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أفُضِّلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم[5]، ففي بعض سور القرآن ترد سجدة تلاوة، وهي الآية التي فيها أمرٌ أو ذكرٌ للسجود ويسجد عندها القارئ من باب السنة والتطوع، يسجد إن شاء، وإن لم يسجد فلا حرج عليه، وإن سجد فله ثوابٌ على سجدته هذه وتسمى سجدة تلاوة، وهي سجدةٌ واحدةٌ قد لا يُكبِّر فيها أو يكبر ولا تسليم منها ولا ركوع فيها ولا قراءة إنما سجودٌ ودعاء[6]، ويقال فيها مثلما يقال في السجود الذي في الصلاة من التسبيح والدعاء، سبحان ربي الأعلى ويدعو بما شاء[7].

سورة الحج سورةٌ فازت بسجدتين من هذه السجدات، وكان هذا من فضلها، ونوَّه بعض العلماء على فضل هذه السورة بأنها نزلت في كل الأحوال، نزلت منها آياتٌ بالليل وآياتٌ بالنهار، آياتٌ في السفر وآياتٌ في الحضر والإقامة، نزلت منها آياتٌ في السِلم، ونزلت منها آيات أثناء الحرب، نزلت منها آياتٌ محكمة، ومنها آياتٌ متشابهة، نزلت منها آياتٌ نُسخت وآياتٌ لم تنسخ، فجاءت على كل الأحوال[8].

أما نزول هذه السورة، زمان ومكان النزول، فإنها اشتبهت على العلماء بما فيها وفي بدايتها خاصة من نداء الله تعالى بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وهذا النداء غلب وكثر في مكة قبل الهجرة، أما بعد الهجرة فكان النداء غالباً: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فقالوا: هي مكية، وكذلك لما في أولها من ذكر القيامة والتهديد بها ومن التذكير ببداية خلق الإنسان ومراحله، ومن الحديث عن البعث، ومن التهديد بمصائر الأمم السابقة، قالوا: لذلك فهي مكية، والبعض نظر إلى ما فيها من الإذن بالقتال ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، قالوا: إذاً هذا السورة مدنية؛ لأن القتال لم يُشرع إلا في المدينة، وفيها كذلك حديثٌ عن الحجّ، حديثٌ شبه طويل، شبه مفصّل، بادئاً بذكر تحديد مكان البيت لإبراهيم ليبنيه ويرفع قواعده، ثم بأذان إبراهيم عليه السلام في الناس طاعةً لأمر الله، يؤذن فيهم بالحج، ثم بعض الأحكام المتعلقة بالحج، والحج لم يُفرض إلا بعد الهجرة فقال: بعض العلماء إنما هي سورةٌ مدنية، فاختلفوا فيها، ورأيٌ جمع بين الرأيين وقسم السورة نصفين فقال: نزل بعضها في مكة قبل الهجرة في أواخر العهد المكي، ونزل بعضها الآخر في أوائل العهد المدني، وهذا قولٌ حسنٌ يجمع بين الرأيين ويضع كل آية في مكانها وفي زمانها، جزى الله العلماء عنا في هذا البيان خيراً، فسورة الحج منها ما هو مكيٌ ومنها ما هو مدني، وهذا يضاف إلى خصائصها – كما سبق القول –[9].

مسيرة هذه السورة وسياقها بدأها الله تعالى واستفتحها كما اختتمها بحديثٍ يشير إلى عظمة الله تبارك وتعالى، إلا أنه في بدايتها نبَّه على عظمته سبحانه وتعالى في الدار الآخرة التي يُكذِّب بها المجرمون، فيقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ومن الذي يحدث الساعة ويزلزل الأرض والدنيا؟ إنه الله سبحانه وتعالى، هذه آثار قدرته في الدنيا والآخرة ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا أي من الهول والفزع ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، شدة عذاب المولى سبحانه وتعالى أسقطت الحوامل وأذهلت المرضعات عن أولادهن حتى سقط الولد من بين يدي ومن على ثدي أمه، لم تحمله ولم تشعر بسقوطه، وانفصل الحمل عن الرحم، فقد سابت كل العضلات في الجسم فانفتحت فتحة الرحم ونزل ما فيه من حمل، هذا من الهول، وتنظر إلى الأحياء أمامك تجدهم كأنهم سكارى مشدوهين، أعينهم شاخصة، أبصارهم متطلعة، وجوههم خائفة مذهولة، قلوبهم واجفة، أبصارها خاشعة.. وهكذا، الويل قد طمَّهم وعمَّهم كأنهم سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، إلى آخر هذا الحديث الذي يبين عظمة الله تعالى إلى أن يقول ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

ثم تمضي الآيات لمجادلة هذا الإنسان المجادل ومحاورته وبيان الحق له، فإن كثيراً من الناس من يجادلون ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ *كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ والإنسان يتبعه، وهذا قَدَر الشيطان الذي قدَّره الله عليه وجزاء ضلاله، كتب الله عنده أن من يتبع الشيطان فإنه يضل ويوم أن يهتدي يهتدي إلى عذاب السعير والعياذ بالله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ العِطْف هو العنق، يلوي رقبته إلى ناحيةٍ هكذا من باب الكِبْر والغطرسة، وكأنه صاحب حق ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذا حالٌ من الناس، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

وهكذا الناس حالهم عجيب مع ربهم، فالله يبين لهم ويوضح لهم، إلى أن يبين لهم مصارعهم في الآخرة ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، أما المؤمنون ففي الجنة ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ، إلى أن يبين الله تعالى للناس الكافرين مصارع الأمم الغابرة السابقة، وفي هذا الحديث مواساةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المُصاب العظيم الذي أتعبه وأحزنه وهو أن قومه كذبوا به، وكان يتمنى لهم الإيمان والجنة والخير، فيقول الله تعالى ﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ إلى أن يقول ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ أهلكها الله تعالى بعد أن ظلمت، فما ترك منها إلا آثار، فتلك بئرٌ معطلة لا يردها أحد، ولا يأخذ من ماءها أحد حتى ركن الماء فيها وأسن وصار متغيراً طعماً ولوناً ورائحةً، فالديَّارون هنا والسكان ذهبوا وهلكوا فبقيت البئر معطلةً، وذاك قصرٌ مشيد وليس فيه أحد، أما أهله وسكانه فذهبوا وأهلكهم الله تعالى ولم تنفعهم حضاراتهم في شيء، ومن الأمم من أجَّلها الله تعالى ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا أمليت أي أخرت لها، مددت لها في العمر، أخرت عذابها وهلاكها ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، لكن الكل هلك في النهاية بذنبه، وأخذه الله تعالى بجرمه، فاتقوا الله يا كفار هذه الأمة فلستم بخيرٍ من أولئكم، وليست لكم براءةٌ في كتابٍ سابق.

ثم تمضي الآيات بعد ذكر كفار مكة حيث أشار الله إليهم بأنهم يصدون عن المسجد الحرام يتواصل الحديث عن البيت الحرام، وأن إبراهيم الذي بناه عليه سلام الله لم يختر مكانه بنفسه، وإنما هذا بيت الله، الله تعالى هو الذي أذن ببنائه وبُني قديماً بأيدي الملائكة، ثم تهدم بناؤه بفعل السيول والأمطار وما إلى ذلك، إلى أن جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام فدلَّ الله نبيه إبراهيم على أماكن قواعد البيت، وهذه السورة هي التي تحدد هذه المعلومة ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ بوأنا أظهرنا وحددنا لإبراهيم مكان البيت، وفي سورة البقرة ما يشير إلى هذا لكن ليس تصريحاً كهذه الآية ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فالقواعد موجودة ولكنها كانت ضائعة المعالم، فأظهرها الله لإبراهيم وأمره برفعها، فهي موجودةٌ من قبل إبراهيم، وكأن الله أنشأ هذا الكون وجعل لنفسه فيه بيتاً ليحج الناس إليه وليتجه الناس إليه، وليوحده الخلق من دون غيره، ولذلك في هذه الآية عجب ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا سبحان الله، كنا ننتظر أن يقال في غير القرآن وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن ارفع قواعد البيت، وشيد البيت تشييداً عظيماً وعظموا البيت، وفي النهاية ألا تُشرك بي شيئا، لكن الله يختصر هذه المسافات الكلامية ليظهر لنا أن مقصوده من اتخاذ بيتٍ أن يُعبد وحده لا شريك له، فكأن الغاية والهدف من تحديد أماكن قواعد البيت لإبراهيم عليهم السلام ليرفعها، الهدف الأساس في ذلك ألا تُشرك بي شيئا، هذا هو المقصود.

وبُني البيت، وذكر الله بعض أحكام الحج وأعماله في هذه السورة بعد أن أعلن أنه قال لإبراهيم ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، ثم ذكر الله تعالى بعض الأحكام ومنها وأهمها أحكام البُدْن، والبُدن هي الأنعام التي يسوقها الحجاج معهم هدية للبيت الحرام، أو كفارةً عن شيء فعلوه في الحج، فإنه يذبح هدياً ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فإما أن يذبح هدياً واجباً عليه، وإما أن يذبح هدياً إهداءً للبيت الحرام تعظيماً للبيت، إذاً القصد لله والعبادة لله والذبح أيضاً لا يكون إلا لله، فالذبح لغير الله حرامٌ وشرك، من أعد ذبيحةً لغير الله فقد أشرك مع الله تبارك وتعالى.

وهكذا تمضي السورة إلى بيان ضلال الإنسان، مع أنه يسجد لله كل شيء، ويخضع لله كل شيء بالعبادة، ولا تعبد الخلائق أحداً غير الله، كل الخلائق تسير في صفٍ واحد، أو في طابورٍ واحد، تسير في فلكٍ واحد هو فلك توحيد الإله الواحد سبحانه وتعالى، لا يشذ ولا يضل عن هذا الفلك وعن هذا الركب المبارك إلا الإنسان المجادل ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، شذّوا ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، هكذا يشير الله تعالى إلى الإنسان أن منظومة الكون كلها إنما تسير في فلكٍ واحد وفي حركة متناسقةٍ مع بعضها لا تصطدم أبداً إلى الأبد، أما حركتك أيها الإنسان الكافر فهي الحركة الوحيدة التي تصطدم مع ثوابت الكون، ومع متغيرات الكون، ولا تتوافق مع شيء، فهي حركةٌ مفسدة، حين يدور ترسٌ في ماكينة عكس حركة التروس كلها تفسد الماكينة كلها، ومر بنا في سورة مريم ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، هم في الأرض يقولون هذا الكلام الباطل، هذا الكلام الآثم وأثره يمتد إلى السماء، ويتعمق إلى عمق الأرض، ويصعد إلى الجبال، ليهدم الكون من حولهم عليهم وعلى غيرهم ﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا لأنهم داروا دورةً معكوسة، تحركوا حركةً مضادةً لحركة المخلوقات كلها، ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَأليس هذا شيئاً عجيباً، أليس هذا شيئاً جميلاً يثير الدهشة في النفس، كل هذه المخلوقات التي ترونها والتي لا ترونها تسير حركةٌ واحدة في اتجاه واحد متناسق ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ سبحاً منتظماً، إلا الإنسان هو الذي يسبح عكس التيار، ﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثيرٌ من الناس من أمثالكم يا كفار هذه الأمة، أمثالكم من البشر كثيرون يسبحون مع المسبحين، يدورون مع دورة الكون المنتظمة المتسقة، فلماذا أنتم تخالفون؟ ﴿ وكثيرٌ حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم.

تمضي السورة أحبتي الكرام على هذا النظام، وهي تحدث عن عظمة الله تعالى، إلى أن تقول في الختام بنداءٍ عام على كل الأنام ﴿ يا أيها الناس الكل يسمع في كل أرجاء الدنيا، في كل أرجاء الأرض ﴿ يا أيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له ضرب الله مثلاً ينبغي أن تستمعوا له وأن تنصتوا له وأن تفكروا فيه، فما يضرب الله الأمثال في القرآن إلا للتفكر والتعقل ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون، والمتفكر هذا يسعى إلى العلم فيعقل المثل وحكمته ﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، أما الجاهلون فإنهم لا يفهمونها، الجاهلون الذين يلغون عقولهم، والذين ينادي الله عليهم بقوله ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، أمثال هؤلاء لا يفهمون المثل الذي يضربه الله، ولا يدركون حكمته، أما المتفكر، أما المتعلم فهذا يصل إلى مقصود الله عز وجل ﴿ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كل هذه الآلهة المزعومة في نظركم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، هذا يعتبر أسلوب تحدٍّ كأن الله يقول لهم إني أتحداكم في آلهتكم أن تخلق ولو ذباباً، ﴿ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ اجمعوهم جميعاً وليكن بينهم تعاوناً صناعي وثقافي وعلمي حول صناعة الذباب وهو مخلوقٌ صغير مهين، وضرب المثال بالمخلوق المهين للإنسان إنما هو قصدٌ لإهانته، كما علم الله ابن آدم الأول أن يقبر أخاه في الأرض على يد غراب، علمه الدرس على يد غراب، فهو تعليمٌ لكن يتضمن توبيخاً وتهزيئاً لهذا الإنسان الذي لم يصل بفكره أن يكون مثل الغراب، وهؤلاء الآلهة المزعومة لا تصل أن تكون مثل ذباب، فما بالكم بعبَّادها، إنهما لا يحصلون قيمة التراب، ما أقبحهم وما أرداهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، ويتصاعد الله تعالى في التحدي أكثر وأكثر فيقول ﴿ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، هذا تحدٍ كما قلت، تحدي لهذه الآلهة المزعومة التي لم تخلق شيئاً ولا تستطيع أن تخلق ذباباً، إذاً ما تستحق أن تُشرِّع، ولا تستحق أن تعبد ولا يُركع لها ولا يُسجد، إنها لا تستحق هذا، بل هي أضعف من هذا لو وقف الذباب على طعام أحدها فأخذ منه ولو كان فرعون نفسه الذي قال: أنا ربكم الأعلى، ولو كان النمرود الذي حاجّ إبراهيم، ولو كان غيره من الحكام والولاة الكبار الذين استعبدوا الناس من دون الله وأعلموهم أنني أنا الله، أو أنني أنا ربكم، أو أنني أنا الذي أُعبد، على اختلاف عباراتهم، الواحد من هؤلاء وهو ملكٌ كبير وعنده مملكة وله قوة ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ لو وقف الذباب على إناء أحدهم أو طعام أحدهم فأخذ منه ما أخذ لا يستطيع أن يسترد ذلك من الذباب، فإن حركة الذباب خفيفةٌ سريعةٌ مترددةٌ لا يضبطها الإنسان ولا يستطيع متابعتها، يقبض الإنسان على الإنسان ولا يقبض على الذبابة إلا بشق الأنفس، ويوم أن يقبض على الذبابة ليأخذ ما أخذت من طعامه يجده قد دخل إلى جسدها دخولاً لا يستطيع أن يسترده، إعجازٌ علمي لم يعرفه العلماء إلا الآن في هذه الآونة المتأخرة، سبق القرآن به ليُعلم الناس أن الذباب لا يأكل في معدة، فلو أدخل طعاماً في معدته نستطيع أن نسترجعه بشكل أو بآخر، وإنما تأكل الذبابة طعامها عن طريق الامتصاص فيدخل إلى جسدها مباشرةً، ليس في معدة إنما يدخل غذاءً، كما يأخذ أحدنا محلولاً يدخل إلى دمه لا نستطيع أن نسترده من دمه وأن نفصل بين المحلول وبين الدم تبارك الله رب العالمين، تبارك الله أحسن الخالقين.
يتبع







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 18-01-2021, 07:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد سورة الحج

مقاصد سورة الحج (2)
أحمد الجوهري عبد الجواد



هكذا تنتهي السورة بقول الله تبارك وتعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوابعدما قال ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أكثر من مرة، قال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سبحانه وتعالى ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.



تتناسب هذه السورة مع ما قبلها من سورة الأنبياء بأن سورة الأنبياء أشارت في خواتيمها إلى الدار الآخرة واليوم الآخرة وعلامات ذلك ﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، ثم تأتي سورة الحج لتبدأ بدايتها بذكر يوم القيامة، فكأنه حديثٌ موصولٌ بين السورتين تنبيهاً على عظمة الله سبحانه وتعالى الذي حجز عن الناس يأجوج ومأجوج بذلك السد وبذلك الصرف، صرفهم عن أن يصعدوه ويتجاوزوه وجعلهم يحاولون خرقه وثقبه، لأن هذا أشد وأشق عليهم، ولا يكون هذا إلا يوم القيامة أو قرب الساعة فإذا فتحت يأجوج ومأجوج جاءت القيامة وأذنت الدنيا بالرحيل، ولاحظ الناس هذا الهول فحدث لهم ما حدث مما تقصه علينا سورة الحج.



فكلام الله متناسقٌ مترابطٌ ما أجمله وما أروعه، نحمد الله على نعمة القرآن، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا فيه الفهم والبيان، وأن يرزقنا وأن يعقبنا فيه العمل الصالح على الدوام، إن ربنا هو الرحيم الرحمن، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

♦♦♦♦♦



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد..

أيها الأحبة الكرام، فهذه سورة الحج بمعنى القصد، وهي سورةٌ من عجائبها أنها نزلت في أحوال مختلفة، فمنها المكي ومنها المدني، ومنها الحضري ومنها السفري، ومنها الليلي والنهاري.. وهكذا، وهي سورةٌ تبدأ وتنتهي ببيان عظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته العظيمة، تبدأ ببيان عظمة الله في الدار الآخرة وما يُحدث من آيات عظيمة، وتنتهي بعظمة الله في الدنيا حيث الخلق والرزق وما إلى ذلك، وما بين هذا وذاك حديثٌ عن ذلك الإنسان المعاند المعارض، الكافر الجاهل الذي يُهين نفسه بكفره بالله وانقطاعه عن الله عز وجل، مع أن حركة الكون كلها تدور في فلك التوحيد لله سبحانه، تعترف وتُقر بحركتها في صمتٍ لا نسمعه وبصوتٍ الله يعلمه ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فإنها جميعاً تسبح إلهاً واحداً بصمتٍ لا نسمعه وبصوتٍ الله يعلمه، وما يشذ عنها إلا ذلك الإنسان، فاحمد الله يا مسلم أنك وُفِقت لتدور مع هذه الدورة المتناسقة، فكأن الله تعالى يقصد من هذه السورة هدفاً مهماً ينادي من أجله جميع الناس، أولها ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وفي أواخرها ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، ينادي على الناس بأجمعهم أن اقصدوا ووجهوا الوجهة واستقبلوا ربكم سبحانه وتعالى الذي خلق ورزق في الدنيا، وأعرضوا بظهوركم عن الآلهة التي تعجز عن خلق ذباب، فكيف تجيب دعائكم، كيف تعطيكم ثواب على طاعتكم، أين جنتها؟ أين نارها؟ كيف تخافون منها وليست لها نار؟ وكيف تطمعون فيها وليست عندها جنة؟.. أقبلوا على الله، أيها الناس جميعاً أقبلوا على الله، فالله هو الذي خلقكم ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، وكما أحياكم وخلقكم أحيا غيركم، انظروا إلى الأرض من تحت أقدامكم ﴿ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إلهٌ بهذا القدر العالي العظيم يُعرض عنه ويُكفر به، وعبدون وتتجهون وتحجون إلى أصنامٍ لا تستطيع أن تخلق ذباباً ولو اجتمعت له، بل هي أضعف من أن تسترد من الذباب من خطفه منها، بل هي أضعف من ذلك هي أضعف من الذباب، كما قال تعالى ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، وإذا قلت إن هذا البطل أضعف من ولدي الصغير فقد أهنت البطل، وقال القائل:

ألم تر أن السيف ينقص قدره *** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟

ألا تعلم أن السيف يُهان وتنقص قيمته ويساء إليه لو قارناه في قوته بعصا ضعيفة، حين تقول السيف أحدُّ من هذه العصا فقد أهنت السيف، وقد أنزلت كرامة السيف في الأرض، فحين يُقال ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وهي هذه الآلهة التي تجري وراء الذباب لتسترد ما أخذ من طعامها ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وهو الذباب، أي ضعفت الآلهة وضعف الذباب فكأن الله تعالى بهذا يُهين تلك الآلهة، ويُبين شدة ضعفها حين يقارنها بهذا المخلوق الضعيف، لعل الناس يفهمون.



فكأن السورة أحبتي الكرام نداء على الناس جميعاً أن يتوجهوا إلى الله، وأن يحجوا إلى الله بقلوبهم وبأبدانهم بغض النظر عن الحج الأكبر إلى مكة وأرض المناسك، إنما ينبغي أن تكون القلوب دائماً قاصدةً إلى الله، النوايا دائماً متجهة إلى الله، العبادة دائماً مصروفةً إلى الله، لا تفعل شيئاً إلا أن تفعله لله ولا تسأل شيئاً إلا أن تسأله من الله ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.



أما ما يفعله الجاهلون من العكوف على الأصنام، كانوا يضعون الأصنام على جبل الصفا وجبل المروة وعند الكعبة وداخل الكعبة، حتى إذا حجوا البيت الحرام حجوا لأصنامهم وآلهتهم الباطلة، وأذن الله برفع هذا كله ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، طهر الله ذلك بإبراهيم عليه السلام، ثم بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وهكذا، وإبراهيم وهو يبني البيت في سورة إبراهيم يقول في دعائه ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ.



إذاً المقصود والهدف من هذه السورة أن يتوجه الناس جميعاً إلى الله وحده لا شريك له بالعبادة كلها، لماذا كان الله وحده؟ لماذا لا نعبد مع الله غيره؟ لأنه وحده هو الذي خلق، ووحده هو الذي ملك، ووحده هو الذي أحيا، ووحده هو الذي يميت، ووحده هو الذي يرزق، ووحده هو الذي يبعث العباد والخلق يوم القيامة، هل عندكم من شركاء بهذه الصفات أو ببعضها؟ لا أحد، إذاً فتبارك الله أحسن الخالقين، وتبارك الله رب العالمين،



وقالها الله مرتين أيضاً في القرآن، في فواتح سور ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وفي السورة الأخرى ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، الذي ملك وبيده الملك وهو على كل شيء قدير هو الحقيق والجدير والمستحق سبحانه وتعالى وحده لا شريك له أن ينزل قرآناً وفرقاناً وأن يشرع أحكاماً وأن يحكم حياة عباده ليأخذهم إلى الطريق المستقيم، ثم ينتهون إلى جنات النعيم.



اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا بهداية القرآن، وأكرمنا بكرامة القرآن، وشرفنا بشرافة القرآن، وألبسنا تيجان القرآن في الدنيا ويوم القيامة، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم انفعنا بما أسمعتنا وعلمتنا، وعلمنا دائماً ما ينفعنا، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ونسألك يا ربنا علماً نافعا، وقلباً شاكرا، ولساناً ذاكرا، وبدناً على البلاء صابرا، ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح، اللهم أحينا بالقرآن، وتوفنا على القرآن، وابعثنا مع القرآن، واجعله لنا في الدنيا رفيقا، وفي القبر مؤنسا، وفي القيامة شفيعًا، وإلى الجنة قائدًا، وعن النار حجاباً مستورًا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم يا شافي الأمراض اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم اللهم أمواتنا وأموات المسلمين، اللهم ارحم أمواتنا وأموات المسلمين، واقض حوائج المحتاجين، واكشف الكرب عن المكروبين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.



عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم.. وأقم الصلاة.





[1] انظر: لسان العرب (1/ 457)، والقاموس المحيط (ص 234).




[2] انظر: المغني: (3/ 217)، اللباب (1/ 177)، كشاف القناع (2/ 437).




[3] أخرجه مسلم (1297)، وأبو داود (1970، 1971)، وأحمد (3/ 337).




[4] التحرير والتنوير (18/ 179).




[5] أخرجه أبو داود (1402)، حسنه النووي والمنذري وضعفه ابن حجر والألباني، انظر التلخيص (488)، والمشكاة (1030).




[6] يكبر من سجد سجود التلاوة في الخفض، لما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا" [أخرجه أحمد (2/ 17)، والبخاري (1025)، ومسلم (575)]، ولا يكبر في الرفع من السجود؛ لعدم ثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ولأن سجود التلاوة عبادة، والعبادات توقيفية، يقتصر فيها على ما ورد، والذي ورد التكبير في الخفض لسجود التلاوة لا للرفع منه، إلا إذا كان سجود التلاوة وهو في الصلاة فيكبر للخفض والرفع؛ لعموم الأحاديث الصحيحة الواردة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يكبر في كل خفض ورفع.

ثانيًا: لا يتشهد عقب سجود التلاوة ولا يسلم منه؛ لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وهو من العبادات، وهي توقيفية، فلا يعول فيه على القياس على التشهد والسلام في الصلاة.




[7] أدعية سجود التلاوة الثابتة بالسنة الصحيحة دعاءان:

الأول: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾، أخرجه الترمذي 2/ 474 وأحمد 6/ 30 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1/ 220 والزيادة له.

الثاني: اللهم أكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"، أخرجه الترمذي 2/ 473 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/ 219).




[8] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 1)، فتح القدير، للشوكاني: (3/ 621).




[9] انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/ 1).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 112.41 كيلو بايت... تم توفير 2.80 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]