الإسلام والسمو الروحي للإنسان - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ولا تبغوا الفساد في الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          تحرر من القيود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          فن التعامـل مع الطالبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 784 )           »          العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 131 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 19 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 30 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 94 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-10-2020, 07:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي الإسلام والسمو الروحي للإنسان

الإسلام والسمو الروحي للإنسان (1)


سيد مبارك






الإسلام رسالة الله للعالمين (5)

المبحث الخامس: الإسلام والسمو الروحي للإنسان (1)


الحمد لله رب العالَمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فبادئ ذي بدء نقول: إن الإنسان - كما هو معلوم - روحٌ وجسد، والروح باقية خالدة، تسمو وتترقى في النعيم السرمدي، إن كان صاحبها من أهل اليمين؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ﴾ [المطففين: 18 - 25].

وتَشقى وتُعذَّب في أسفل سافلين في النار، إن كان صاحبها من أهل الشِّمال، والعياذ بالله؛ قال تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 41 - 46].

ومعلوم في عقيدتنا أن الرُّوح سرٌّ من أسرار الله تعالى، حجَب أمرها عن خَلقه، فلا يستطيع الإنسان مهما بلَغ من العلم في دنيا الناس أن يدريَ عنها شيئًا؛ قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85].

قال السعديُّ: وهذا متضمن لردع مَن يسأل المَسائل التي لا يقصد بها إلا التعنُّت والتعجيز، ويدَع السؤال عن المهم، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية، التي لا يتقن وصفَها وكيفيتها كلُّ أحد، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.

ولهذا أمَر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85]؛ أي: من جملة مخلوقاته، التي أمرها أن تكون فكانت، فليس في السؤال عنها كبيرُ فائدة، مع عدم علمكم بغيرها[1]؛ اهـ.

قلت: ومن العجيب أن يختلف الفضلاء من أهل العلم في بيان المقصود بالرُّوح إلى أقوال كثيرة، ووجه العجب أنها من الأمور التي أستأثر الله بعِلمها، ومن الخطأ الذي ينبغي أن يترفعَ عنه العقلاء والفضلاء من الناس الخوضُ في أمرٍ سدَّ الله الباب لمعرفته، وجعله سبحانه سرًّا من أسراره التي لا يطلعُ عليها أحد، لا نبيٌّ مرسَل، ولا ملَك مقرَّب.

وليس مقصودنا في هذا المبحث بيانَ هذه الأقوال ومناقشتها، وبيان عليلها من سقيمها، وما تؤيده الأدلةُ والشواهد وما تنفيه؛ فهو علمٌ لا ينفع، وجهل لا يضر، رغم يقيننا أن فضول الإنسان وغروره لا يحُده حد، وسيظل هذا المخلوق الضعيف يسعى للتنقيب والبحث إلى أبعدِ مدًى، ليدرك أسرار الحياة في دنياه، ولو حجب الله عنه أسبابها ومسبباتها، ولن يرده قول الحق تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85]، إلا مَن رحم ربي، وهو الهادي إلى صراطه المستقيم.

وأنا على يقين أن كل محاولات بعضِ العلماء الماديين وغرورهم الذي تجاوز كل الخطوط الأخلاقية والدينية، لن تفتُر أبدًا، وتجارِبهم لن تنتهي لمعرفة أسرار الكون والحياة، وكذلك الفلاسفة وشطحاتهم الفكرية، وأمثالهم ممن لا يؤمنون بالإله الحق من أهل الألحاد، لن يكفوا ألبتة عن السعي إلى معرفة سر الروح وكُنهها، وستذهب دومًا محاولاتهم الدنيئة هباءً منثورًا، والمؤمن بالله - عز وجل - لا يجري وراء سراب وشطحات وغرور هؤلاء، ولكن يرضى بما فتَح الله عليه من أسرار للسمو بالروح والجسد معًا، بشريعة سماوية وتعاليم غاية في السمو، تترقى بالنَّفس البشرية، وتتجانس مع الفطرة السوية، ما دام حيًّا يُرزق في هذه الحياة الدنيا.

وعليه أن يتأسى بالملائكة المقربين، الذين عرَفوا الحق، وآمَنوا أنَّ إلى الله - جل في علاه - المنتهى في العلم والحكمة، فقالوا كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32].

والروح - كما هو معلوم لمن يتدبَّر كتاب الله عز وجل - لها مدلولات كثيرة في القرآن، وما يَعنينا هنا من أمر الروح ما جاء ذكرها مرتبطًا بالجسد، وبدهيٌّ لا حياة للجسد إلا بها، والمتأمِّل للقرآن الكريم يجد أن الله تعالى يخاطب الرُّوح والجسد ويسميهما نفسًا[2]، وهي التي أقسم الله - جل وعلا - بها في سورة الشمس، فقال - جل في علاه -: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].

قال ابن كثير في تفسيرها ما مختصره: "قوله: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾؛ أي: خلَقها سويَّة مستقيمة على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تُحسُّون فيها من جدعاء؟))[3].

وقوله: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾؛ أي: فأرشَدها إلى فجورها وتقواها؛ أي: بيَّن لها ذلك، وهداها إلى ما قُدِّر لها.

قال ابن عباس: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾: بيَّن لها الخير والشر، وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحَّاك، والثَّوري.

قوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾: يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكَّى نفسه؛ أي: بطاعة الله - كما قال قتادة - وطهَّرها من الأخلاق الدَّنيئة والرَّذائل"[4]؛ اهـ.

قلت: ولا يخفي أن الروح مرتبطة بجسد صاحبها، وهذا الجسد إلى فَناء، ويصير إلى أصله الذي خُلق منه، وهو التراب؛ قال تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ما مختصره: "والرُّوح المدبِّرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الرُّوح المنفوخة فيه، وهي النَّفس التي تفارقه بالموت؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما نام عن الصلاة: ((إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردَّها حيث شاء))[5]، وقال له بلال: يا رسول الله، أخَذ بنفسي الذي أخَذ بنفسك[6]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]، قال ابن عباس وأكثرُ المفسِّرين: يقبضها قبضين: قبض الموت، وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموتُ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمًّى حتى يأتيَ أجلها وقت الموت، وقد ثبت في الصحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا نام: ((باسمِك ربِّي وضعتُ جَنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي، فاغفِرْ لها وارحَمْها، وإن أرسلتَها، فاحفَظْها بما تحفظ به عبادَك الصالحين))[7].

ثم قال - رحمه الله -: وفي الحديث الصحيح: ((إن الرُّوح إذا قُبِض، تبِعه البصر))[8]؛ فقد سمَّى المقبوضَ وقت الموت ووقت النوم رُوحًا ونَفْسًا، وسمى المعروج به إلى السماء روحًا ونفسًا، لكن يسمَّى نفسًا باعتبار تدبيره للبدن، ويسمى رُوحًا باعتبار لُطفه؛ فإن لفظ "الرُّوح" يقتضي اللُّطف؛ ولهذا تسمَّى الريح رُوحًا"[9]؛ اهـ.

قلت: والسمو والترقي بالروح والجسد له أسباب ومسببات خلقها الله، ويسَّر للإنسان بلطفه وكرمه الوصول إليها، والإحساس بنتائجها في دنياه الفانية، وجعله مخيَّرًا في سلوك الطريق المستقيم، أو الطريق المظلم، الذي يُهين النفس، وينحط بالجسد، ويزري بالروح ومكانتها.

قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 4 - 10].

قال السعدي: يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده ويقاسيه من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد، وأنه ينبغي له أن يسعى في عملٍ يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم.

وإن لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذابَ الشديد أبد الآباد.

ويحتمل أن المعنى: لقد خلقْنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقومِ خِلقة، يقدر على التصرُّف والأعمال الشديدة، ومع ذلك، فإنه لم يشكرِ الله على هذه النعمة العظيمة، بل بطِر بالعافية، وتجبَّر على خالقه، فحسب - بجهله وظلمه - أن هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرُّفه لا ينعزل؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ [البلد: 5]، ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه؛ فـ ﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ﴾ [البلد: 6]؛ أي: كثيًرا، بعضه فوق بعض.

وسمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا؛ لأنه لا ينتفع المنفِقُ بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندمُ والخَسَار والتعب والقلَّة، لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير؛ فإن هذا قد تاجَر مع الله، وربح أضعافَ أضعافِ ما أنفق.

قال الله متوعدًا هذا الذي يفتخر بما أنفق في الشهوات: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ [البلد: 7]؛ أي: أيحسب في فعله هذا أن الله لا يراه ويحاسبه على الصغير والكبير؟
بل قد رآه الله، وحفِظ عليه أعماله، ووكَّل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير وشر.

ثم قرره بنعمه، فقال: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ﴾ [البلد: 8، 9] للجمال والبصَر والنُّطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نِعم الدنيا، ثم قال في نعم الدِّين: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]؛ أي: طريقَيِ الخير والشر، بيَّنَّا له الهُدى من الضلال، والرُّشد من الغي.

فهذه المِنَن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على نعمه، وألا يستعين بها على معاصيه، ولكن هذا الإنسان لم يفعَل ذلك[10]؛ اهـ.

قلت: وذلك إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولا ريب أن الغايةَ من الدنيا وما فيها للإنسان السوي هي الفوز بالحياة الحقيقية، وفيها أعلى درجات الترقي والسمو للنفس البشرية في دار الخلد والمقامة؛ كما قال الحقُّ - تبارك وتعالى - في كتابه الكريم: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].

قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: الحياةُ الدائمة الحق، الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد.

وقوله: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى"[11]؛ اهـ.

ولا يخفى على مَن له أدنى بصيرة بما يصلح الإنسان للسمو بالنفس روحيًّا وجسديًّا أن رسالة الإسلام وتعاليمه فيها ما يشبع نهمه، ويروي ظمأه؛ لأنها رسالة تخاطب الوجدان، وتترقى بالسرائر، كما سوف نبين في هذا المبحث، وسيكون مدخلنا لبيان ذلك في ثلاثة محاور على الأقل:
المحور الأول: بيان حقيقة ارتباط النفس البشرية وسموها بخالقها ورازقها في الإسلام.

المحور الثاني: بيان أن رسالة الإسلام وتعاليمه تسمو بالعلاقات بين البشر.

المحور الثالث: بيان أن تعاليم الإسلام تسمو بالإنسان مع نفسه التي بين جنبيه.

وها هي المحاور الثلاثة مع الشرح والبيان بالأدلة الشرعية؛ ليدرك الحاقدون والجاهلون بالإسلام حقيقته وسمو تعاليمه، وكمال شريعته، وأنه البلسم الشافي والكافي لِما أصاب الحياةَ الإنسانية من ضمور وجروح؛ لإهانتها للنفوس روحيًّا وجسديًّا بتعاليم وشرائع وفلسفات تحتقر النفس، وتزدري الروح والجسد، بدلاً من السمو والرقي، لعل وعسى يدرك الجميع قبل فوات الأوان أن الخلاص والنجاة في الرسالة الخاتمة، والمنهج الرباني، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله المستعان، وعليه التكلان.

المحور الأول:
بيان حقيقة ارتباط النفس البشرية وسموها بخالقها ورازقها في الإسلام:
نبدأ ونقول - بحول الله وقوته -: إن ارتباط النفس البشرية بخالقها ورازقها - جل وعلا - ارتباطٌ فطري، حتى من قبل أن يكون هناك وجود للبشرية في عالَم الأرواح منذ الأزل، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].

قال السعدي - رحمه الله -: "أي: أخرَج من أصلابهم ذريتَهم، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنًا بعد قرن.

وحين أخرَجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم ﴿ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 172]؛ أي: قرَّرهم بإثبات ربوبيَّته، بما أودعه في فِطَرهم من الإقرار بأنه ربُّهم وخالقهم ومَليكهم.

قالوا: بلى، قد أقررنا بذلك، فإن الله تعالى فطَر عباده على الدِّين الحنيف القيِّم.

فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغيَّر وتبدَّل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة؛ ولهذا ﴿ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]؛ أي: إنما امتحنَّاكم حتى أقررتم بما تقرَّر عندكم، من أن الله تعالى ربُّكم؛ خشيةَ أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجَّة الله ما قامت عليكم، ولا عندكم بها عِلم، بل أنتم غافلون عنها لاهُون.

فاليوم قد انقطعت حجتُكم، وثبتت الحجَّة البالغة لله عليكم"[12]؛ اهـ.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فالنفس بفطرتها إذا تُركت، كانت مقرة لله بالإلهية، مُحبَّةً له، تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها ما يزيِّن لها شياطين الإنس والجن، بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل"[13].

سمو النفس وارتقاؤها في الإيمان بالإله الحق:
لا يغيب عن العقلاء أن الإنسانَ بفطرته منذ الخليقة، يبحث عن الإله الحق، الذي ينفع ويضر، ويملِك مقادير كل شيء، وقد تهتدي رُوحه لميثاق الفطرة وشَهادتها لله بالوحدانية، وقد تضلُّ عنه، ولكنه دومًا يشعر الإنسان - لضَعْفه كمخلوق - بالنَّقص وبحاجتِه إلى قوًى أكبرَ منه قادرة على إحساسه بعبوديته لها، سواء كان يعبدُ الله أو يعبد شيئًا غير الله.

وقد كانت رحمة الله بعباده أن أرسل لهم الرسل والأنبياء مبشِّرين ومنذرين؛ لسدِّ هذا النقص، وبيان الطريق إليه؛ حتى لا تكون لهم حُجَّة، وختمهم بنبي الإسلام، وختم الرسالات برسالة الإسلام، وارتضاه لهم دِينًا ومنهاجًا، وفي تعاليمه كل ما تهفو إليه النفسُ من راحة وسكينة، ورضًا وسمو، وحب وسلام.

قال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165].

قال السعدي: أرسلهم مبشِّرين لمن أطاع الله واتَّبعهم: بالسعادة الدنيوية والأخروية، ومنذرين مَن عصى الله وخالَفهم: بشقاوة الدارين؛ لئلا يكون للناس على الله حُجَّة بعد الرسل فيقولوا: ﴿ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ [المائدة: 19].

فلم يبقَ للخَلْق على الله حُجَّة لإرساله الرسل تترى، يبينون لهم أمر دينهم، ومراضيَ ربهم ومساخطَه، وطرق الجنة، وطرق النار؛ فمن كفَر منهم بعد ذلك، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.

وهذا من كمال عزَّته تعالى وحكمته، أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضًا من فضله وإحسانه؛ حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظمَ ضرورة تقدر، فأزال هذا الاضطرار، فله الحمدُ، وله الشكر، ونسأله كما ابتدأ علينا نعمتَه بإرسالهم، أن يتمَّها بالتوفيقِ لسلوك طريقهم؛ إنه جَوَاد كريم[14]؛ اهـ.

وينبغي أن نلفت النظر هنا إلى أن الفارق بين شعور المرء بالجلال والسمو في محبَّته للخالق - جل في علاه - وقُربه منه، يختلف بين إنسان وإنسان، وليس ذلك بسبب الجنس أو اللون أو الدِّين، بل في ماهية المعبود: أهو الله سبحانه وتعالى، الخالق الواحد الأحد المستحقُّ للعبادة، أم غيره من الآلهة التي يزيِّنها الشيطان لأوليائه وهي لا تملِكُ لهم ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟!

ومعلوم للعقلاء أن النفس البشرية إن استجابت لنداء الفطرة، ستتجلى لها عظمةُ الله وقدرته، وسترى آلاءَه ونعمه التي لا تحصى، وستذوب في حبِّه ومناجاته، والمحروم هو مَن اتَّبَع هواه، وضل عن سبيل الله وعبَد غيرَه.

ويبيِّن ذلك ابن القيم - رحمه الله - فقال بتصرف ما مختصره: وأعرَفُ الأُمَّة به أشدهم له حبًّا؛ ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به.. ثم قال: وهل في الوجود محبة حقٌّ غيرُ باطلة إلا محبته سبحانه؟ فإن كلَّ مَحبة متعلقة بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها، وأما محبته سبحانه، فهو الحقُّ الذي لا يزول ولا يبطل، كما لا يزول متعلقها ولا يفنى، وكل ما سوى الله باطل، ومَحبَّة الباطل باطلٌ.

فسبحان الله! كيف يُنكِر المَحبَّة الحقَّ التي لا محبة أحقُّ منها، ويعترف بوجود المحبة الباطلة المتلاشية؟ وهل تعلقت المحبة بوجود محدث إلا الكمال فى وجوده بالنسبة إلى غيره؟ وهل ذلك الكمال إلا من آثارِ صُنع الله الذي أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كله إلا له، فكل من أحب شيئًا لكمالِ ما يدعوه إلى محبته، فهو دليل وعبرة على محبة الله، وأنه أَولى بكمال الحب من كل شيء.. ولكن إذا كانت النفوس صغارًا كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة، فإنها تبذُل حبَّها لأجلِّ الأشياء وأشرفها[15]؛ اهـ.

وبدهيٌّ أن من أحب شيئًا أطاعه، ورضي بقوله، وقدَّم محبته وما يرضيه على ما تحبه وتبغيه نفسه التي بين جنبيه، ولا عجب أن قال الصادق المعصوم مبلغًا عن الله تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيَنَّه، وإن استعاذني لأُعيذَنَّه))[16].
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27-10-2020, 07:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإسلام والسمو الروحي للإنسان

الإسلام والسمو الروحي للإنسان (1)


سيد مبارك



نبي الإسلام الأسوة الحسنة للسمو والرقي:


إن اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بهديه يصل بالإنسان لدرجةٍ عالية من السمو والسكينة، والله تعالى لا يأمر البشرية كافة باتباع النَّبي الخاتم المبعوث للناس كافة بالرسالة الخاتمة، التي ارتضاها دِينًا لهم، إلا لأنه إليه المنتهى في السمو الإنساني، وغاية الكمال في الخُلق والأدب الراقي، الذي دلَّت عليه شمائلُه، فاصطفاه من خَلْقه، وأنعم عليه بالقُرب منه بما لَم يستطِعْ ملَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل أن يدنو دنوه؛ كما جاء في حديث الإسراء والمعراج؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ثمَّ عُرِجَ بي حتَّى ظَهَرْتُ لمُستوًى أسمَعُ صَرِيفَ الأقلامِ))[17].

لهذه الدرجة من السمو الروحي بين العبد وربِّه وصل النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وما كان ذلك إلا لصفاء سريرتِه، وحبِّ الله له، الذي جعل محبَّتَه وطاعتَه شرطًا لمحبَّة الله ومحبته لمن اهتدى بهديِه وتأسى بسنَّته؛ فقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31، 32].

ولهذا كلِّه؛ لا عجَب أن يأمر اللهُ - جل في علاه - أن نتأسى به، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

قال السعدي: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]؛ حيث حضر الهيجاءَ بنفسه الكريمة، وباشَر موقفَ الحرب، وهو الشَّريف الكامل، والبطَلُ الباسل، فكيف تشحُّون بأنفسكم عن أمر جادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فيه؟

فتأسَّوْا به في هذا الأمر وغيره.

واستدلَّ الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأصل أن أمتَه أسوتُه في الأحكام، إلا ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به.

فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة.

فالأسوة الحسنة في الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن المتأسِّي به سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله، وهو الصراط المستقيم.

وأما الأسوة بغيره، إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة؛ كقول الكفار حين دعَتْهم الرُّسل للتأسِّي بهم: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22].

وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلُكُها ويوفَّق لها من كان يرجو اللهَ واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه - يحثُّه على التأسِّي بالرَّسول صلى الله عليه وسلم[18]؛ اهـ.

وها هي أمثلة بالأدلة الشرعية عن السمو بالنفس، الذي وصل إليه رسولُ الله، وكيف نتأسى به لتسموَ أنفسنا إلى خالقها ومَليكها - جل في علاه -:
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثِر من الصلاة لله تعالى؛ لأنها الصلةُ بين العبد وربِّه، ودليلٌ على صِدْق العبودية من العبد للمعبود جل في علاه، ويُطيل فيها حتى تتورَّم قدماه، فتقول له أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لِمَ تصنعُ هذا يا رسولَ الله وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر؟ قال: ((أفلا أحبُّ أن أكونَ عبدًا شكورًا))[19].

يقول ابن العثيمين: مغفرة الذنوب المتقدِّمة والمتأخِّرة ثابتة بالقرآن والسنَّة، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، لا أحدَ من الناس يُغفَر له ما تقدم وما تأخر إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما غيره، فيحتاج إلى توبة من الذنب، وقد يغفر الله له - سبحانه وتعالى - بدون توبةٍ ما دون الشرك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام نجزم بأنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولهذا قال: ﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ [الشرح: 2، 3][20]؛ اهـ.

قلت: والإنسان الذي يتأسى بالنبيِّ، ويصلي لله تعالى في إخلاص وصدق، سوف يستشعر عظَمةَ الله أمامه، ويعمل ما يُرضيه عنه، وينتهي عما يغضبه منه، وسوف تسمو نفسُه وتترقى عن المنكَر والفحش بسبب الصلاة؛ ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].

قال السعدي: "والفحشاء: كل ما استُعظِم واستُفحِش من المعاصي التي تشتهيها النفوس.

والمنكر: كل معصية تنكِرها العقول والفِطَر.

ووجهُ كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكَر: أن العبد المُقِيم لها، المتمِّم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبُه، ويتطهَّرُ فؤاده، ويزدادُ إيمانه، وتقوَى رغبته في الخير، وتقلُّ أو تعدم رغبته في الشر؛ فبالضرورة مداومتُها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكَر؛ فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها.

وثَمَّ في الصلاة مقصودٌ أعظمُ من هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر الله، بالقلب واللسان والبدن؛ فإن الله تعالى إنما خلَق الخَلْق لعبادته، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة، وفيها من عبوديات الجوارح كلها ما ليس في غيرها"[21]؛ اهـ.

قلت: ومن قُرب وسمو النبي من الله تعالى كثرةُ ذِكره له - جل جلاله - في كل أحيانه، كما هو معروف ومأثور عنه صلى الله عليه وسلم، كان يذكرَ الله في دخول المسجد، والخروج منه، وعند الطعام والشراب، وعند سماع الأذان، ودخول البيت، والخروج منه، وعند النوم والاستيقاظ، وغير ذلك كثير.

ومن ثَم علينا أن نتأسى به في الذِّكر والاستغفار، وكذلك في الصيام، والصَّدقات، وحُسن الجوار، وحُسن الخُلق مع الناس، وكل عبادة يراد بها وجهُ الله تعالى، والتقرب إليه؛ لتسمو أنفسنا روحيًّا وجسديًّا، وتترقى وتصعد وتنهلُ من رحمة الله وكرمه وفضله وإحسانه لأوليائه وأحبَّائه من خَلْقه، حتى يذكره - جل في علاه - كلما ذكَره، وعمِل ما يُرضيه؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].

والحاصل مما سبق أن العبدَ إن أراد السمو روحيًّا وجسديًّا في علاقته بالخالق، فينبغي أن ننبه لأمرين؛ ليكون سموُّ النفس في علاقتها مع الله تعالى على أساس من تعاليم الشرع؛ أي: الكتاب والسنَّة النبوية، وليس الشائع بين الناس من بدعٍ وعادات وشركيات ما أنزَل الله بها من سلطان...، وها هما الأمران بشيء من التبسيط والبيان، والله المستعان.

الأمر الأول: التزام المنهج الشرعي في طريق العبد للارتقاء والسمو:
والمقصود بالمنهج الشرعيِّ الطريقُ أو السبيل الذي يبين للعباد أحكامَ وشريعة الله تعالى: دينًا ودنيا، ولا يكونُ ذلك إلا بطاعةِ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الميل عن الطريق القويم، وسبيل الرشاد، واتِّباع سنن الذين من قبلنا من المغضوب عليهم والضالين، لمن أراد الفلاح والرقي والسمو بالنفس، ويدل على ذلك آيات بينات من القرآن، منها:
قوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48].

وقوله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

والآيات في ذلك كثيرةٌ، ومن السنَّة النبوية الصحيحة:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تركتُ فيكم أمرينِ لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتابَ الله وسنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوضَ))[22].

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن أُمِّر عليكم عبدٌ حبَشي؛ فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور؛ فإن كل مُحدَثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة))[23].

فالنَّفسُ البشرية أحوجُ إلى معرفةِ طريق السموِّ الذي لا يخالطه رياء، ولا يشُوبه تصنُّع، ولا يُفتِّر حماسها وسموها خمولٌ وضعف، أو بلاء يصيب الجسد، أو هوى متبع، أو ما أشبه ذلك، بل النفس مجبولةٌ ومفطورة على الحقِّ، وهو أحقُّ أن يتَّبع؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [يونس: 35].

ومن طُرق أو سبل الوصول للسمو الروحي والجسدي على سبيل المثال فيما يخص التوحيد ما نوضحه في السطور التالية:
لا يكون سموٌّ ربانيٌّ في قلب العبد تجاه معبوده بمخالفةِ ما كان عليه النبيُّ وأصحابه والرَّعيل الأول من توحيد الله في أسمائه وصفاته، بلا تمثيل، أو تكييف، أو تعطيل، كما يفعل بعض الصوفيين في عصرنا هذا من تصوُّف لا علاقة له بالتوحيد، بل كله شِركيات، وضلال ما بعده ضلال؛ فمن منكراتهم وشركهم شَدُّ الرِّحال إلى المقبورين وسؤالهم، والذبح لهم، والتمسح بقبورهم، والاستعانة بهم من دون الله تعالى، وغير ذلك مما أحدَثوه من بِدَع في الدِّين بالصلوات المستحدَثة، والأذكار والأدعية المبتدَعة التي تكثُرُ فيها الشركيات، وهم يزعمون أنها توصلهم للنشوة والارتقاء والسمو في رحاب الله، وهو ظن فاسد؛ لأنه ليس في اتِّباع الشيطان والهوى أيُّ سمو أو رفعة للنفس، بل هو جهل وضلال، وإنهاك النفس بتنطع مذموم، وشعائر شيطانية لا دليل لها من كتاب أو سنة، ولهذا حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السبيل فقال: ((هلك المتنطِّعون)) قالها ثلاثًا[24].

قال النووي - رحمه الله -: أي المتعمِّقون الغالُون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم؛[25] اهـ.

قلت: فكلُّ مَن يتشدد في عبادة أو يزيد عليها ما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو واهمٌ إن ظن أن نفسه سوف تتطهر وتسمو، حتى لو شعَر بذلك، فهذا الشعور لا يدوم، وبعده ندم وحسرات لو كانوا يعلمون.

وقال ابن القيم: كان الصحابةُ أقل الأمَّة تكلفًا؛ اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86].

وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: مَن كان منكم مستنًّا، فليستنَّ بمن قد مات؛ فإن الحيَّ لا تؤمَن عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمد، كانوا أفضلَ هذه الأمة؛ أبرها قلوبًا، وأعمقها عِلمًا، وأقلها تكلُّفًا، اختارهم الله تعالى لصُحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلهم، واتَّبِعوهم على أثرهم وسيرتهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم[26] اهـ.

قلت: وكفى بقوله تعالى مبينًا حالهم ومسعاهم، هم ومن على شاكلتهم: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 103 - 105].

قال السعديُّ مبينًا تفسيرها ما نصه: "أي: قل يا محمد، للناس - على وجه التحذير والإنذار -: هل أُخبركم بأخسرِ الناس أعمالاً على الإطلاق؟ ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 104]؛ أي: بطَل واضمحلَّ كلُّ ما عملوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صُنعه، فكيف بأعمالهم التي يعلَمون أنها باطلة، وأنها محادَّة لله ورسله ومعاداة؟

فمن هم هؤلاء الذين خسِرت أعمالهم؛ فـ ﴿ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]؟

﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ﴾ [الكهف: 105]؛ أي: جحَدوا الآيات القرآنية، والآيات العيانية، الدَّالة على وجوب الإيمان به، وملائكته، ورُسله، وكتبه، واليوم الآخِر.

﴿ فَحَبِطَتْ ﴾ بسبب ذلك ﴿ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾؛ لأن الوزن فائدته مقابلة الحسنات بالسيئات، والنظر في الراجح منها والمرجوح، وهؤلاء لا حسنات لهم؛ لعدم شرطها، وهو الإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، لكن تُعدُّ أعمالُهم وتحصى، ويقرَّرون بها، ويُخزَون بها على رؤوس الأشهاد، ثم يُعذَّبون عليها؛ ولهذا قال: ﴿ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ ﴾ [الكهف: 106]؛ أي: حُبُوط أعمالهم، وأنه لا يقام لهم يوم القيامة ﴿ وَزْنًا ﴾؛ لحقارتِهم وخِسَّتهم، بكفرهم بآيات الله، واتِّخاذهم آياتِه ورسلَه هُزوًا يستهزئون بها، ويسخَرون منها، مع أن الواجبَ في آيات الله ورسله، الإيمانُ التام بها، والتعظيم لها، والقيام بها أتم القيام، وهؤلاء عكسوا القضية، فانعكس أمرُهم، وتعِسوا، وانتكسوا في العذاب"[27] اهـ.

الأمر الثاني: تطهير القلب والجوارح من الآفات:
لا يخفى أن القلبَ هو أخطرُ جوارح الإنسان، كما هو معلوم للعامة والخاصة، ولا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبُه، والقرآن الكريم يخاطب القلوبَ في كثيرٍ من آياته؛ كقوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

والسنَّة بيَّنت خطورة هذه الجارحة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثيرٌ من الناس؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرضه ودِينه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراعٍ يرعى حول الحمى يوشِكُ أن يواقعَه، ألا وإن لكل ملِكٍ حِمًى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب))[28].

قلت: ومن الأهمية التنبيه هنا إلى أن القلب لو زاغ وتكبَّر وطغى عن أمر الله، لن يستقيم على الطريق، وسوف يضل السبيل، ويطبَعُ الله عليه، فلا يهتدي لطريق السمو والارتقاء بالنفس إلا إذا تاب وأناب إلى الله تعالى، وهو القائل: ﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155].

وقال ابن القيم ما مختصره:
"كمالُ صلاح النفس غِناها بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغُها إلى درجة الطمأنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب، وصلاح النفس متقدِّم على إصلاحها، هكذا قيل، وفيه ما فيه؛ لأن صلاحَ كل واحد منهما مقارِن لصلاح الآخر، ولكن لما كان القلبُ هو الملِكَ، وكان صلاحُه صلاحَ جميع رعيَّته - كان أَوْلى بالتقديم"[29] اهـ.

ولا يغيب عن فطنة القارئ الكريم أن الإنسان تختلف طبيعةُ نفسه باختلاف الظروف والأحوال؛ فقد يجد نفسه في بعض الأحوال مقبلاً على الله، يخشع في صلاته، يبكي في دعائه وقنوته، يُكثِر من قراءة القرآن وتدبُّره، يحافظ على أذكار الصباح والمساء، يحبُّ كل خير.

وفي أحوال أخرى يجد نفسه ساهيًا لاهيًا، لا يخشع في صلاته، وربما يتكاسل عن أدائها في أوقاتها، وربما يصليها منفردًا تاركًا فضل الجماعة دون عذر، هاجرًا لكتاب الله لا يقرأ فيه إلا بين الفينة والفينة، قليل الدعاء والذِّكر، وغير ذلك.

ومن ثَمَّ ينبغي تطهيرُ القلب من آفاته؛ من حقد، وحسد، وحرص على دنيا، وما أشبه ذلك؛ فهي تُعيق سموَّ النفس، وتطبع على القلب غشاوةً لا تزولُ إلا بتطهيره من آفاته المهلكة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بالإخلاص والصبر على المكارهِ واليقين بالله تعالى، سوف نرى العجب العُجاب، وسنعرف أنفسنا جيدًا، وندرك سُبل تحقيق غايتنا وأمانينا، ونصل بأنفسنا إلى أعلى درجات غنى النفس، والسمو بها، التي بها تحيا القلوب وتستقيم على أمر الله تعالى.

هذا وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس الغِنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنَى النفس))[30].

وهذا حقٌّ لا مِرية فيه، فمتى استغنت النفسُ، استغنى القلب عن اللجوء لغير الله تعالى، واستقام على الطَّريق القويم.

ونكتفي هنا بما ذكرناه عن المحور الأول، وللحديث بقية إن شاء الله، لبيان المحور الثاني والثالث، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبيِّ الأمين، وآله وصحبه أجمعين.


[1] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 466).

[2] جاء في اللسان لابن منظور مادة: روح (2/455): والجمع: أرواح، والرُّوح: النَّفْس، يذكَّر ويؤنَّث .. قال أبو بكر بن الأنباري: الروح والنَّفس واحد، غير أن الروح مذكَّر، والنفس مؤنثة عند العرب، وفي التنزيل: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85]، وتأويل الروح أنه ما به حياة النَّفس؛ اهـ.

[3] أخرجه البخاري برقم/ 1296 - باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم برقم / 4803 - باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.

[4] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (8/411).

[5] انظر صحيح أبي داود للألباني برقم/ 466 - باب من نام عن الصلاة أو نسيها.

[6] انظر صحيح أبي داود للألباني (461 - 463)، وهو في الإرواء برقم/236.

[7] أحرجه البخاري برقم/5845 - باب التعوذ والقراءة عند المنام، ومسلم برقم/4889 - باب ما يقول عند النوم.

[8] أخرجه مسلم برقم/1523 - باب في إغماض الميت والدعاء له.

[9] انظر مجموع الفتاوى (9/289) - فصل الرُّوح المدبرة.

[10] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 924).

[11] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (6 /249).

[12] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 308).

[13] انظر مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية (8/205) - باب أنعم الله على بني آدم بأمرين.

[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1 /214).

[15] انظر طريق الهجرتين؛ لابن القيم (1/319).

[16] أخرجه البخاري برقم/6021 - باب التواضع.

[17] جزء من حديث أخرجه البخاري برقم/3094 - باب ذِكْر إدريس عليه السلام.

[18] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1 /660).

[19] أخرجه البخاري برقم/4460 - باب: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك.

[20] انظر تفسير القرآن؛ لابن العثيمين - تفسير سورة الشرح (32/4).

[21] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/632).

[22] انظر حديث رقم/2937 في صحيح الجامع للألباني.

[23] انظر حديث رقم/ 2549 في صحيح الجامع للألباني، وهو في الصحيحة برقم/2735.

[24] أخرجه مسلم برقم/4823 - باب هلك المتنطعون.

[25] انظر: المنهاج في شرح صحيح مسلم؛ للنووي - (9/26).

[26] انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان؛ لابن القيم (1/159).

[27] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/478).

[28] أخرجه مسلم برقم/3996 - باب أخذ الحلال وترك الشبهات، والبخاري برقم/50 - باب فضل من استبرأ لدِينه.

[29] انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين؛ لابن القيم (1/34).

[30] أخرجه البخاري برقم/5965 - باب الغنى غنى النفس، ومسلم برقم/1741 - باب ليس الغنى عن كثرة العرض.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27-10-2020, 07:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإسلام والسمو الروحي للإنسان

الإسلام والسمو الروحي للإنسان (2)
سيد مبارك




الإسلام رسالة الله للعالمين (5)

المبحث الخامس: الإسلام والسمو الروحي للإنسان (2)



الحمد لله رب العالَمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد أوضحنا في مقالتنا السابقة من هذا المبحث بيانًا شافيًا لحقيقة السمو بالنفس روحيًّا وجسديًّا للإنسان في إطار الشريعة الخاتمة وتعاليمها السَّمحة، وذكرنا أن السموَّ له ثلاثة محاور على الأقل:
المحور الأول: بيان حقيقة ارتباط النفس البشرية وسموها بخالقها ورازقها في الإسلام.
المحور الثاني: بيان أن رسالة الإسلام وتعاليمه تسمو بالعلاقات بين البشر.
المحور الثالث: بيان أن تعاليم الإسلام تسمو بالإنسان مع نفسه التي بين جنبيه.

وقد بيَّنَّا باستفاضة المحور الأول وأدواته ووسائله وشروطه؛ ليكون سمو المخلوق وارتباطه بالخالق - جل في علاه - في إطار شرعي وتعاليم الإسلام؛ حتى لا يضلَّ ولا يشقى في السمو بالنفس باتباع معتقداتٍ شِركية، وتعاليم شيطانية، ما أنزل الله بها من سلطان، تخرجه من الإيمان إلى الكفر، والعياذ بالله.

وفي هذه المقالة نبيِّن المحور الثاني والثالث، وسبل ووسائل السمو والترقي بالنفس البشرية في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان المسلم بصفة خاصة، وغير المسلم بصفة عامة، ثم علاقته بنفسه التي بين جنبيه في إطار تعاليم الإسلام، والله المستعان، وعليه التُّكلان.

المحور الثاني: بيان أن رسالة الإسلام وتعاليمه تسمو بالعلاقات بين البشر:
لا يخفى أن العلاقات الإنسانية والاجتماعية في دنيا الناس قد تتخذ صورًا مثل التعاون والتسامح والمحبة والتكافل والتمسك بالفضائل... وغير ذلك من الأعمال الصالحة، ومكارم الأخلاق، ولا يختلف مفهومها بين البشر منذ فجر البشرية، بل هي صورٌ من صور الرُّقي والتحضُّر في كلِّ عصر ومصرٍ.

والاختلاف الوحيد الذي يجب التنبيه إليه أن الله تعالى يجزي من شاء كيفما شاء لعمله الصالح إن دخَل في هذا الدِّين بعد أن بعث الله رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم وشهِد شهادة الحق؛ لأنها رسالةُ الله للعالَمين، وليس لغير المنتمي لهذا الدين جزاءٌ من الله تعالى عن عمله الصالح إلا الخسران المبين، اللهم إلا من سبق ومات قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ممن لم يدرك دعوته ومات على الحنيفية السَّمحة.

ودليل ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15].

قال أبو جعفر الطبري - رحمه الله - في تفسيرها:
وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجَّة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم[1]؛ اهـ.

قلت: والسمو بين الإنسان وأخيه الإنسان في رسالة وتعاليم الإسلام أمرٌ لم تصل إليه أكثر الأمم تحضرًا في عالمنا المعاصر، ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته وسنته في التطبيق العمَلي لكتاب الله تعالى: تعاليمُ من السماء، من إلهٍ حق واحد أحد لنبيٍّ حقٍّ ورسول خاتم جمع خِصالَ الأوَّلين والآخرين، وارتقى بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان رُوحيًّا وجسديًّا، ما يشهد به القاصي والداني، ولو تدبرها ووعاها البشر في العالم المتحضر كله على اختلاف عقيدتهم وثقافتهم ولغاتهم بكل حيادية وإنصاف، ما وسِعهم إلا أن يتبعوها وينهلوا من سموها وبهائها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكيف لا؟ وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله - تبارَك وتعالى - بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخله الله الإسلام، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلام، وذلاًّ يذلُّ اللهُ به الكفر))[2].

ولبيان هذا المحور نوجزه في أمرين:
الأول: بيان حقيقة ودلائل السمو الرُّوحي بين المسلم وأخيه المسلم.
الثاني: بيان حقيقة ودلائل السمو الرُّوحي بين المسلم وغير المسلم.
وعلى السطور التالية الأدلة الشرعية من القرآن والسنَّة في بيان هذين الأمرين، وما توفيقي إلا بالله العليم الخبير.

الأمر الأول: وصايا القرآن والسنة للسمو في علاقة المسلم مع أخيه المسلم:
ولبيان هذا الأمر نقول: إن في القرآن والسنَّة وصايا جامعة كافية لوضع قواعد وبنود شرعية في تنظيم العلاقات بين المسلم وأخيه المسلم، لنشر مكارم الأخلاق للترقي والسمو فيما بينهما، وعقاب وإلزام الخارجين عنها إن استحقوا العقاب لجهرهم بالمعاصي، وإضرارهم بقِيَم المجتمع لسبب من الأسباب التي يبيح الشرع العقاب فيها، إما لنشر الفتن والإلحاد بين الناس، أو الدعوة للفاحشة، أو الإضرار بالآخرين بالغش والسرقة وشَهادة الزور، ونحو ذلك، أو بأي وسيلة من الوسائل الموجودة في دنيا الناس؛ فرسالة الإسلام تجمع بين الترهيب والترغيب، تارة بالنصح والإرشاد والتوجيه، وتارة أخرى بالزجر والوعيد والعقاب.

ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم:
1- الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة والقول الحسن:
وهذه هي أسمى الأعمال وأوجبُها، بل هي مهمة المصطفَيْنَ من الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والدعوة إلى الله تعالى وتوحيده وإخلاص العبودية له - جل في علاه -: من أجلِّ الحقوق التي ينبغي أن يقوم بها المسلم تجاه أخيه المسلم.

قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].

قال السعدي: هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر؛ أي: لا أحد أحسن قولاً؛ أي: كلامًا وطريقة وحالة، ﴿ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾ بتعليم الجاهلين، ووَعْظِ الغافلين والمُعرِضين، ومجادلة المبطِلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، ثم قال: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تُسخِطه ولا ترضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم.. ثم أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخَلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابِلْه بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك فاعفُ عنه[3]؛ اهـ.

2 - حرمة السخرية والتنابز بالألقاب ونشر العداوة:
نهى القرآنُ عن السخرية بالآخرين والتنابز بالألقاب؛ لأنه يؤدي إلى نشر الحقد والكراهية بين أفراد المجتمع، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ [الحجرات: 11].

قال ابن كثير ما مختصره: ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيحِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الكِبْر بطَرُ الحقِّ، وغَمْص الناس))، ويروى: ((وغمط الناس))، والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام؛ فإنه قد يكون المحتقَرُ أعظمَ قدرًا عند الله، وأحب إليه من الساخر منه المحتقِر له؛ ولهذا قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ﴾ [الحجرات: 11]، فنص على نهي الرِّجال، وعطف بنهي النساء.

وقوله: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾؛ أي: لا تلمزوا الناس، والهمَّاز اللَّمَّاز من الرجال مذموم ملعون؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]؛ فالهمز بالفعل، واللمز بالقول، كما قال: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]؛ أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة، وهي: اللَّمْزُ بالمقال؛ ولهذا قال ها هنا: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾[الحجرات: 11]، كما قال: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]؛ أي: لا يقتُلْ بعضُكم بعضًا[4]؛ اهـ.

3 - التحذير من الظلم وسوء الظن بالمسلم دون بيِّنة:
نهى القرآنُ عن سوء الظن من غير قرينة؛ لأنه يؤدي إلى الظُّلم وضياع الحقوق، وما يتبع ذلك من الأقوال، والأفعال المحرَّمة، وربما إلى الاقتتال لمجرد ظنون تُهلِك الحرث والنسل، وتمحو الأمن والأمان في القلوب تجاه الآخرين؛ ولهذا قال تعالى مخاطبًا أهل الإيمان: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].

والآيات في ذلك كثيرة يضيق بها المقام هنا، ونكتفي بما ذكرنا، والله المستعان.

ومن السنَّة النبوية ما لا يحصى من الأحاديث والوصايا للتواصل والتراحم والسمو بالنفس في تعامل المسلم مع أخيه المسلم، تارة بالترغيب، وتارة أخرى بالترهيب، منها على سبيل المثال:
1- حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبْتُم؟ أفشوا السلامَ بينكم))[5].

2- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((خمس تجبُ للمسلم على أخيه: ردُّ السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز))[6].


3- وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ مالُه وعِرْضُه ودمُه، حسب امرئٍ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم))[7].


4- ومنها حديثُ ابن عمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجتِه، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه بها كربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن ستَر مسلمًا ستره اللهُ يوم القيامة))[8].


ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (( سِبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحُرمة دمِه))[9].



ومنها حديث أَنَسٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه))[10].


وهذه الحقوقُ التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم تهدف إلى بناء مجتمع قائم على الفضيلة، وإنكار الذات، حريصٍ على نشر المحبة والتواضع والسماحة، ونحو ذلك من مكارم الأخلاق؛ للسمو بالمسلم في علاقته مع أخيه المسلم بأسلوب عملي، متخذًا منه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ لأن الله تعالى جعله بفضله وكرمه ورعايته منذ مولده إلى أن مات فيه الكمال الإنساني في السمو والرقي، ومن ثم ليست سنته القولية والفعلية مجرد أقوال تقال، ونصائح مجردة، أو أعمال لا طاقة للمسلم بالقيام بها، بحجة أنه نبي ورسول، بل كل مسلم قادر على أن يتأسى به في أقواله وأعماله، إلا ما جاء الدليل على أنها من خصائصه التي لا تحل لغيره، وهي معروفة وليست في حاجة لبيان.

الأمر الثاني: وصايا القرآن والسنَّة للسمو في علاقة المسلم بغير المسلم:
يتبع المسلم في علاقته بغير المسلم تعاليم ووصايا من رب الأرض والسماء، الإله الواحد الحق الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له شريك في الملك، وفيها لكل البشرية في أرجاء المعمورة بيان شافٍ لطريق الحق والرشاد في كيفية التعامل الراقي بين الإنسان مع أخيه الإنسان دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة.

وما على المسلم إلا أن يمضي قدمًا متبعًا لا مبتدعًا بخطوات واثقة رصينة في العمل بهذه الوصايا من نصوص الوحيين في علاقته بغير المسلم، رغم أشواك وعقبات الطريق وعوائق الدعوة لله تعالى من فئة من شرار الخلق وأولياء الشيطان من أحفاد أبي جهل، وهم في كل عصر ومصرٍ، وذلك بلا تردد أو خوف، وبتوكُّلٍ على من بيده الأسباب والمسببات - جل في علاه - ويقين بنصره تعالى وتمكينه للمسلمين في القريب العاجل، إن لم يكن اليوم فغدًا، وإن غدًا لقريب، وذلك بلا كلل أو ملل؛ لأنه طريق واضح جلي، حتى يقضي اللهُ أمرًا كان مفعولاً.

ومن أمثلة الوصايا القرآنية في التعامل الراقي مع غير المسلمين:
قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].

قال السعدي: أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصِلوهم، فإن صلتَهم في هذه الحالة لا محذورَ فيها ولا مفسدة، كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلمًا: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]؛[11] اهـ.

قلت: وفي السنَّة الصحيحة الكثير من الوصايا النبوية في كيفية تعامل المسلم مع أهل الذمة من اليهود والنصارى.

ولقد شدَّد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على من يهتك حرمة دمائهم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتل مُعاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحَها توجد من مسيرةِ أربعين عامًا)) [12].

وقد ذكرنا بعضًا من هذه الوصايا القرآنية والنبوية في المبحث الثالث من هذه الدراسة "الإسلام والمجتمع المثالي" في معرِضِ حديثنا عن حقوق أهل الكتاب في ديار الإسلامِ من منظور الشريعة، ما يغنينا عن إعادته هنا، منعًا للتَّكرار، فليرجع إليه.

ومن ثم لنا الحق أن نفخر بإسلامنا وقرآننا ونبينا المبعوث للناس كافة، ونعظم حرصه الشديد صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه ووصاياه على حقوق أهل الكتاب ومن جرى مجراهم، وسمو التعامل معهم من منظور وسطية الإسلام وحرية العقيدة، كما بينا حقيقتها وشروطها سلفًا.

وكلُّها وصايا نبويَّة لا تصدُرُ إلا من قلب اصطفاه الله ليكون للعالَمين بشيرًا ونذيرًا، ويكون لمن عمل بقوله نبراسًا ومنهاجًا؛ ليطهِّر نفسه من كل صفة ذميمة، وكل حقد وغل يصيب قلوب البشر على اختلافِ عقيدتهم ولُغاتهم وعادتهم.

المحور الثالث: بيان أن تعاليم الإسلام تسمو بالإنسان مع نفسه التي بين جنبيه:
من المعلوم أن النفس البشرية في اتزانها وعقلانيتها وإيمانها تارة، وفي هياجها وكفرها وإلحادها تارة أخرى، لا تخرج عن أمرين، والإنسان مخيَّر بينهما، ومسؤول عنها وعن اختيارِها؛ لأنها نفسه التي بين جنبيه؛ فلو ترك العِنان لها وحاد بها عن الطريق، فقد أهلكها وخسِر وخاب، وإن روَّضها وزجرها، فقد أفلح وفاز، وفي هذا المعنى قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 27-10-2020, 07:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإسلام والسمو الروحي للإنسان

وهذان الأمران هما:
الأول: أنه في حاجة إلى طاقة ليجدد حيويتها ونشاطها دومًا:
ونقصد بالطاقة القدرة على السمو بالنفس بما يرضي الله تعالى من الطاعات والعبادات الشرعية، التي تهيج خمول النفس وتردُّدها وسلبيتها، وترتقي بها، وتعلو بهمتها، وتشع وتؤثر في جوارح صاحبها بطاقة خلاَّقة إيجابية ومثمرة، فمن المعلوم أن الإيمانَ يَزيدُ وينقص؛ يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي والآفات.

فكما أن حلاوة المعصية تهيج النفس إلى حين، وتجدد حيوتها ما ظلت لذتها، ثم يعقبها ندم وخزي وتأنيب ضمير، فكذلك الطاعة تزيد من تهيج النفس للسمو والرقي وعلو الهمة ولذة لا تدانيها لذة يقذفها الله في قلب المؤمن إلى أن تفتُرَ عزيمته، وتقل طاقته، ولكن يعقبها رضًا وسكينة وراحة، ومحاولات مستمرة للعلوِّ والسمو والقرب والأنس بالله تعالى.

وما نريد قوله مما ذكرناه آنفًا أن الطاعات التي أمَرنا الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم بالعمل بها والإكثار منها، والمعاصي التي أمرنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بتجنُّبها والبُعد عنها حتى تصبح بفضل الله ونية صاحبها طاعةً وعبادة يثاب عليها العبد؛ لأنه تركها لله تعالى - هي المصدر الرئيسي للطاقة المتجددة دومًا، سلبًا وإيجابًا، بحسب استعداد النفس، وقدرة صاحبها، وعلو همته على ترويضها وتهذيبها والسمو بها.

والإسلام يدعو أتباعه إلى الطاعة والعبادة، ويبيِّنُ لهم أنها الغاية من الخَلق والوجود، ويعلن لهم هذه الحقيقة دومًا في كثيرٍ من آياتِ القُرآن والسنَّة النبوية.

قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما مختصره:
فالدِّين كلُّه داخل في العبادة، وقد ثبت في الصحيح أن جبريلَ لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: فما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبَعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيرِه وشره))، قال: فما الإحسان؟ قال: ((أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، ثم قال في آخر الحديث: ((هذا جبريل جاءكم يعلِّمُكم دينكم))[13]، فجعل هذا كله من الدين[14]؛ اهـ.

قلت: ولا يخفى على أولي الألباب أن الطاعات ثقيلة على النفس، والمعصية خفيفة، وسبب ذلك كما لا يخفى نقصان المحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهما ينبوع كل طاقة خلاَّقة في قلوب المؤمنين, والدليل على ذلك من القرآن والسنَّة ما يلي:

قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].

قال ابن كثير في تفسيرها ما مختصره: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبةَ الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرعَ المحمديَّ والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيحِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ))؛ ولهذا قال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾؛ أي: يحصُلْ لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظمُ من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ، وقال الحسنُ البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون اللهَ، فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [15]؛ اهـ.

قلت: فهذا دليلٌ بيِّن أن محبة الله ورسوله سبب في اتباع الحق، وفي اتباع الحقِّ سموُّ النفس وفلاحها.

أما الدليل من السنَّة، فحديث عبدالله بن هشام رضي الله عنه، قال: كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو آخِذٌ بيدِ عمرَ بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسولَ الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحَبَّ إليك من نفسِك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر))[16].

قال ابن حجرٍ العسقلاني - رحمه الله - في شرح الحديث ما مختصره: أي: لا يكفي ذلك لبلوغ الرُّتبة العليا حتى يضاف إليه ما ذكر، وعن بعض الزُّهاد: تقديرُ الكلام: لا تصدُقُ في حبي حتى تُؤْثِرَ رضاي على هواك، وإن كان فيه الهلاك، قوله: "فقال له عمر: فإنه الآن يا رسول الله لأنت أحبُّ إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر))":
قال الخطَّابيُّ: حب الإنسان نفسَه طَبْعٌ، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار؛ إذ لا سبيلَ إلى قلبِ الطِّباع وتغييرها عما جُبِلَت عليه، قلت: فعلى هذا فجواب عمر أولاً كان بحسَب الطبع، ثم تأمَّل فعرَف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليه من نفسه؛ لكونه السببَ في نجاتها من المهلِكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار؛ ولذلك حصل الجواب بقوله: ((الآن يا عمر))؛ أي: الآن عرفتَ فنطقتَ بما يجب؛ [17] اهـ.

قلت: والحاصل مما سبق أن التطبيق العملي، والارتقاء بالنفس للوصول إلى أعلى درجات السمو الرُّوحي لها: علامتُه ألا يكون هناك شيء أحب إليها من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يتيسَّر لها ذلك إلا إذا أخلص صاحبُها نيتَه له جل وعلا، وبالصبر على المكاره واليقين والتوكل عليه - سبحانه وتعالى - سوف يرى العَجَب العُجاب.

قال ابن القيِّمِ - رحمه الله - ما مختصره:
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال، استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضًا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجِبٌ لفقرِها إلى الشهوات، فكلٌّ منهما موجِبٌ للآخر.

وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].

ثم قال - رحمه الله -: وإذا صارت النفس حرةً طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النُّور الذي وقع في القلب، ففاض منه إليها، استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به عن الأمر المسخوط، وبرِئَتْ من المراءاة، ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا كان الدِّينُ كله في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ [هود: 112].

وقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13][18]؛ اهـ.

الأمر الثاني: أنه في حاجة لمعرفة طبيعتها، وطرق ترويضها؛ لتستقيم على طريق السمو والرقي، ولا تحيد عنه:
ولا يغيب عن أولي الألباب أن النفس البشرية عمومًا مطبوعةٌ على الفطرة، ومع اختلاطها بالناس - ومنهم الصالح والطالح - وتلذُّذِها بشهوات الدنيا وغير ذلك: تتغيرُ طبيعتها حسب درجة تأثرها، ومدى الخَلَل الذي أصابها طوال فترة تمرُّدها وبُعدها عن الله تعالى ومبارزته بالمعاصي، ومن أجل ترويضِها لتستقيم وتترقى؛ ينبغي معرفةُ سبل علاج الخلل الذي أصابها، وتلك هي الخطوة الأولى، وكل إنسان أدرى بحقيقة نفسه التي بين جنبيه بناءً على أقواله وأفعاله دِينًا ودنيا.

ثم يبدأ محاسبته لها عن الخطأ، وإصلاح الخلل الذي أصابها، وتهذيبها وتقويمها للأفضل، وتلك هي الخطوة الثانية، مع العلم أن إقرارَ الإنسان بالذنب والتقصير في حق الله تعالى ثم حق نفسه في إهمال اتخاذ العُدَّة، وسبل الفلاح والنجاة لنفسه التي بين جنبيه - هو البداية الصحيحة لقدرته على ترويضها، وكبح جماح نفسه، وتمردها وهياجها[19].

ثم يبدأ الخطوة الثالثة في علاج الخلل، إما بالتدرج في العلاج، أو بالعزيمة وقوة الإرادة من مرة واحدة حسب استعداد صاحبها وقوة إيمانه ويقينه وتوكله على خالقه - جل في علاه - ملتمسًا هدي القرآن والسنَّة، ثم يبدأ الخطوة الرابعة، ثم الخامسة وهكذا، حسبما يرى صاحبها؛ حتى تستقيم على أمر الله تعالى في النهاية.

ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، ومنعًا للإطالة اثنتين من القواعد الأساسية من القرآن والسنَّة الصحيحة، التي لا سبيل لإصلاح النفس إلا بالعمل بهما، وينبغي للمرء أن يحث نفسه التي بين جنبيه ويروِّضها على ذلك؛ ليصقل قدرته على كبح جماحها، وانطلاقها لإرضاء ملذاتها وشهواتها بلا حساب أو عقاب، حتى تعلو همته، ويمضي بها في طريق الاستقامة، وهو سبيله الوحيد للنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، وما التوفيق إلا من عند الله العليم الخبير.

القاعدة الأولى: الحذر من تزكيتها؛ حتى لا تغتر برحمة الله تعالى:
من الخطورة أن يغتر الإنسان بتزكية الناس له لأمر من الأمور الدينية أو الدنيوية، فضلاً عن تزكيته لنفسه أمام الناس وما فيه من رياء وتصنع ممقوت قد يؤدي إلى إحباط العمل، ويكفي علمه أن الله تعالى يعلم سريرته وعلانيته، ولا يغره بالله الغَرورُ، ولقد نهى اللهُ تعالى عن ذلك فقال: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32].

وحتى يتضح المقصود بتزكية النفس؛ نذكر قول العلامة ابن العثيمين - رحمه الله - في تفسيرها، قال ما مختصره: أي: لا تزكوها، وتقول: عملت كذا وكذا، وصلَّيت، وزكَّيت، وصُمت، وجاهدت، وحججت، لا تقل هكذا، تُدل بعملك على ربك، هذا لا يجوز.

فإن قال قائل: أليس الله يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9]؟

فالجواب: بلى، لكن معنى ﴿ مَنْ زَكَّاهَا ﴾؛ أي: من عمِل عملاً تزكو به نفسه، وليس المعنى ﴿ مَنْ زَكَّاهَا ﴾: مَن أثنى عليها ومدحها بأنها عملت وعملت، بل المراد عمل عملاً تزكو به نفسه، فلا معارضة بين الآيتين؛ ولهذا نقول: من زكى نفسه بذِكر ما عمل من الصالحات، فإنه لم يُزَكِّ نفسه، فمن زكى نفسه بمدحها فإنه لم يزكِّ نفسه، وفرق بينهما؛ فالتزكية التي يحمد عليها الإنسان أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا تزكو به نفسه، والتزكية التي يُذَمُّ عليها أن يُدلَّ بعمله على ربه ويمدح، وكأنه يمنُّ على الله، يقول: صليت، وتصدَّقتُ، وصمت، وحججت، وجاهدت، وبررتُ والدي وما أشبه ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يزكيَ نفسَه.

ثم قال - رحمه الله -: ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32] يعني: إن كنتَ متقيًا لله، فالله أعلمُ بك، ولا حاجة أن تقول لله: إني فعلت وفعلت[20]؛ اهـ.

وفي السنَّة الترهيب من ذلك:
ففي حديث يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميتُ ابنتي بَرَّة، فقالت لي زينبُ بنت أبي سلمة: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسُميت بَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزكِّوا أنفسكم، الله أعلمُ بأهل البِرِّ منكم))، فقالوا: بمَ نسميها؟ قال: ((سموها زينب))[21].

قلت: وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن التزكية في مجرد اسم قد يؤدي إلى ضرر، فلا ريب أن تزكيةَ الإنسان لنفسه أو لغيره لطاعة أو لمال أو علم أو حسب ونسب.. وما أشبه ذلك فيها ضرر أكيد وهلكة للنفس، وسببٌ لتمردها وضعفها من باب أولى، لماذا؟

لأنه قد يؤدي إلى الغرور والعُجْب والزَّهو بالنفس، وقد يوسوس له الشيطان بأنه لا حاجة لطاعة أخرى؛ فقد صار من الأولياء والنُّجَباء، وقد يقذف في قلبه الكِبْر، فيظن أنه أعلمُ أهل الأرض، ولا حاجة له للتعلُّم؛ فقد صار من الفقهاء، وهكذا، حتى تهلكه التزكية، ويهمل ما تحتاجه نفسه من طاقة ليجدد ضعفها وفتورها.

القاعدة الثانية: مجاهدتها لرد كيد الشيطان وتلبيسه لها:
ينبغي مجاهدة الشيطان وتلبيسه للنفس بكافة الطرق الشرعية؛ لأن عداوته لا تزول أبدًا، بل هو - لعنه الله - يبرِّر طاعةَ ضعاف الإيمان له في الدنيا ومعصيتهم لله تعالى إلى نفوسهم؛ كما قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22].

وفي السنَّة بيَّن النبي خطورة تلبيسه للإنسان بقوله: ((إنَّ الشَّيطانَ يجري من الإنسان مجرى الدَّمِ، وإني خشِيتُ أن يلقيَ في أنفسِكما شيئًا))[22].

قال ابن الجوزي في كتابه النفيس "تلبيس إبليس" (1/50) ما مختصره: وإنما يدخل إبليس على الناس بقدر ما يمكنه، ويزيد تمكُّنُه منهم ويقلُّ على مقدار يقظتهم وغفلتهم، وجهلهم وعِلمهم، واعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسُّور أبواب، وفيه ثُلَم[23]، وساكنه العقل، والملائكة تتردد إلى ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض فيه الهوى، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانعٍ، والحرب قائم بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثُّلَم، فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه، وجميع الثلم، وألا يفتُرَ عن الحراسة لحظة، فإن العدوَّ ما يفتُرُ، قال رجل للحسَنِ البصري: أينامُ إبليس؟ قال: لو نام لوجدنا راحة.

ثم قال -رحمه الله -: وهذا الحصن مستنيرٌ بالذِّكر، مشرق بالإيمان، وفيه مرآة صقيلة، يتراءى فيها صور كل ما يمر به، فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان، فتسودُّ حيطانُ الحصن، وتصدأ المرآة، وكمال الفكر يرد الدخان، وصَقْلُ الذِّكر يجلو المرآة، وللعدو حملات، فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكرُّ عليه الحارس فيخرج، وربما دخل فعاث، وربما أقام لغفلة الحارس، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان فتسودُّ حيطان الحصن، وتصدأ المرآة، فيمر الشيطان ولا يدري به، وربما جرح الحارس لغفلته وأُسِر واستُخدم وأقيم يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته، وربما صار كالفقيه في الشر؛ اهـ.

قلت: ولا يخفى أن في القرآن والسنَّة الكثير من القواعد والمبادئ التي تطلق عِنان النفس في رحاب السمو والترقي، وما يشيعه ذلك في النفس من سكينة وراحة، وتوكل ويقين، وبصيرة يميز بها صاحبها طريقَ الحق والرشاد من طريق الكفر والضلال، فيتبعه بثقة وإيمان، ولا يُلقِي بنفسه إلى التهلُكة، ولكن فيما ذكرناه الكفايةُ لبيان مقصودنا في هذا المبحث.

وبعد لقد طرحنا في هذه الدراسة جوانب عديدة تبين عظمة الإسلام وأثبتنا أن تشريعاته وتعاليمه السمحة فيها البلسم الشافي للبشرية من كل داء وأنه مصدر سعادتها وتقدمها وفلاحها دينا ودنيا وكنت أريد أن أبين جوانب أخرى عديدة عن عظمة رسالة الإسلام ولكن ستطول بنا مادة هذه الدراسة في هذه العجالة وما في هذا من تشتيت للقارئ الكريم وكما ذكرنا في المقدمة نريدها مختصرة ووجيزة ولكن إن شاء الله تعالى عندما ييسر لنا الأمر سنزيد فيها ما يفتح الله به علينا وننشرها في كتاب لأهميتها لبيان عظمة الإسلام من جوانب أخرى، ونبرهن بالأدلة الشرعية من نصوص الوحيين أنه حقاً رسالة الله للعالمين لذا نكتفي بما ذكرنا والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وآله وصحبه أجمعين.


[1] جامع البيان في تأويل القرآن؛ لأبي جعفر الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر - الناشر: مؤسسة الرسالة (17 / 402 /283).

[2] سبق تخريجه.

[3] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 749).

[4] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (7/ 376).

[5] أخرجه مسلم برقم/ 81 - باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.

[6] أخرجه البخاري برقم/ 1164 - باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم، باب الأمر باتباع الجنائز - باب من حق المسلم للمسلم رد السلام.

[7] انظر صحيح الترمذي برقم/ 2010, وأبو داود برقم/ 4882 للألباني.

[8] أخرجه البخاري برقم/ 2262 - باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه.

[9] انظر حديث رقم: 3596 في صحيح الجامع.

[10] أخرجه البخاري برقم/ 12 - باب من الإيمان أن يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه.

[11] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي - الناشر: مؤسسة الرسالة (1/ 856).

[12] أخرجه البخاري من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما برقم/ 2930 - باب إثم من قتل معاهَدًا بغير جُرم.

[13] أخرجه مسلم برقم/ 10 - باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، والبخاري نحوه برقم/48 - باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم.

[14] انظر كتاب العبودية؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/48) - باب مراتب الحب - نشر المكتب الإسلامي - بيروت.

[15] انظر: تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع (2/ 32).

[16] أخرجه البخاري برقم/ 6142 - باب كيف كانت يمين النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

[17] انظر: شرح ابن حجر للحديث في كتابه "فتح الباري، شرح صحيح البخاري".

[18] انظر كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص/41) - فصل: في تفسير غنى النفس.

[19] للمزيد من البيان انظر كتابي: "من أنت وماذا تريد؟"، وهو منشور في مواقع كثيرة؛ كصيد الفوائد والمشكاة، وغيرهما، وراجع مقالتي: "سبل علاج النفس وتهذيبها" على شبكة الألوكة، وفيهما ما يكفي ويشفي، والله المستعان.

[20] تفسير العلامة محمد العثيمين - مصدر الكتاب: موقع العلامة العثيمين (11/ 25).

[21] أخرجه مسلم برقم / 3992 - باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسَن.

[22] أخرجه البخاري من حديث علي بن الحسين برقم/ 1897 - باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه.

[23] الثُّلَم: جمع ثُلْمة، كغُرْفة وغُرَف، وهي في الأصل: موضع الكسر من القدح.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 167.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 163.90 كيلو بايت... تم توفير 3.35 كيلو بايت...بمعدل (2.00%)]