العبودية - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4416 - عددالزوار : 852404 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3947 - عددالزوار : 387709 )           »          هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 1051 )           »          أوليــاء اللــه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          المشكلات النفسية عند الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          هل المديرون بحاجة للحب؟هل تحب وظيفتك ومكان عملك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          وأنت راكع وساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          لماذا تصاب المرأة بالقولون العصبي بــعد الــزواج؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          لطائف تأخير إجابة الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-01-2021, 09:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي العبودية

العبودية


الشيخ عبدالرحمن الباني



الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّد وعلى سائرِ إخوانه المرسَلين، وعلى آله وصحْبه، ومَن دعا بدعوتِه وتمسَّك بسُنته وجاهَد في سبيل الله إلى يَومِ الدِّين.
وبعدُ:
فإنَّ الناسَ اليوم إذا ذُكِرت (العبودية) نفرَت نفوسُهم، واشمأزَّتْ قلوبهم؛ وذلك لِمَا ذاقوا مِن شرور (العبودية) التي عرَفوها وألِفوها، وأعني بها: عبوديةَ الناس للناس، وخضوعَ بعضِهم لبعض.
ولكنَّ ابنَ تيمية في هذه الرسالة يُحدِّثنا عن (العبودية) المحبَّبة إلينا، تلك العبودية التي تُرادِف التحرُّرَ من الوثنيَّات أيًّا كان نوعُها، والتي تُخلِّصنا من الطواغيت المتكاثِرة التي تُريد أن تغتالَ جوهرَ إنسانيتنا.
تلك العبودية التي تُقارِنها الفضيلةُ والسعادة، والتي تردُّ على الإنسان كرامتَه، وترفع منزلتَه.
إنَّها عبوديتنا لله الذي خَلَقَ الإنسانَ مِن العدم، ونفَخ فيه من رُوحه، وأسجد له ملائكتَه، وأسكَنه جَنَّته، تلك العبودية التي نَنحني بها لله، ثم ترتفع بها جباهُنا فلا نذلُّ لجبَّارٍ في الأرض أبدًا، مهما علاَ، ونسير في الطريقِ إلى الخير في الدُّنيا والآخِرة، فلا تقِف أمامنا عقبة أبدًا، حتى نظفرَ بإحدى الحُسنَيينِ: النصر أو الشهادة.
تلك (العبودية) التي تَرْجم القاضي عياضٌ (476-544هـ)[2] عن شُعورِ كلِّ مؤمنٍ نحوَها حين تغنَّى بها فقال:
وَمِمَّا زَادِنِي شَرَفًا وَتِيهًا
وَكِدْتُ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِيَ تَحْتَ قَولِكَ: يَا عِبَادِي
وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا


ولو أنَّ الناسَ استجابوا للدعوة الكريمة التي أعْلَنها بأمر ربِّه، رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل بِضعة عشرَ قرنًا، بهذا القول الخالِد: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، ولو أنَّ الناسَ استجابوا لهذه الدعوةِ، لعاشوا جميعًا في حريَّةٍ وفضيلة، وسعادةٍ وسلام.
وهذه.
رسالة العبودية

مِن أمتعِ وأنفعِ ما قرأتُ مِن الرسائل، ولقدْ قرأتُها منذُ سنوات، فوجدتُ علمًا غزيرًا، وتحقيقًا دقيقًا، وتوجيهاتٍ نافعةً.
وقد لاحظتُ أنَّ ابن تيمية - رحمه الله - يعرِض لنا فيها نظريةً كاملةً عن معنى (العبودية) في الإسلام.
وعى نظريةً غنيةً بالأفكار المترابِطة التي يشتقُّها مِن النصوص الشرعيَّة، والدلالة اللُّغوية، ويُؤيِّدها بالمسلَّمات العلميَّة النفْسيَّة والاجتماعيَّة، وهذا جانبٌ من جوانبِ الطرافةِ في نظريته.
ونحن سنعرِض باختصارٍ نظريتَه ونذكُر مزاياها ومنهجَه فيها، مشيرين إلى بعض النتائج التي نَنتهي إليها من ذلك كله:
1- يقول ابن تيمية: "المخلوقون كلُّهم عبادُ الله: الأبرار منهم والفجَّار، والمؤمنون والكفَّار، وأهل الجنَّة وأهل النار؛ إذ هو ربُّهم كلهم ومليكُهم، لا يخرجون عن مشيئتِه وقدرته... فهو سبحانه ربُّ العالمين وخالقُهم ورازقُهم، ومُحييهم ومميتُهم... سواء اعترَفوا بذلك أو أنْكروه، وسواء علِموا ذلك أو جهلوه.
لكنَّ أهلَ الإيمان منهم عرَفوا ذلك وآمَنوا به؛ بخلافِ مَن كان جاهلاً بذلك؛ أو جاحدًا له مستكبرًا على ربِّه...) (انظر ص: 50 - 51، وانظر أيضًا ص: 104).
وكأنَّ ابنَ تيمية يُريد أن ينبِّه إلى أنَّ العبودية لله نوعان:
عبوديةٌ قسريَّة، تتمثَّل في كونِ اللهِ ربَّنا ومالكَنا، وكونِنا خاضعين للقوانين التي جرَى عليها الكونُ والسُّنن التي نظَّم بها الخليقة، فنَحنُ عِباد الله - بهذا المعنى - شِئنا أم أبَيْنا.
وهناك نوعٌ آخرُ مِن العبودية، نستطيع أن نُسمِّيَه (الخضوع الإرادي) أو الانقياد الشرعي، هو الإقرارُ لله وحْدَه بالعبادة والطاعة فيما شرَعه لنا من قوانين، لا تُصبح نافذة وجارية في الواقِع إلا بتدخُّل مِن إرادتنا.
وهو ما يُعبِّر عنه ابنُ تيمية بـ(عبودية الإلهيَّة).
هذه هي الخُطوة الأولى مِن نظريته.
2- وأمَّا الخُطوة الثانية فيُعبِّر عنها قولُه: "وكلُّ مَن استكبر عن عبادةِ الله، لا بدَّ أن يَعبُدَ غيره، [ويذل له]" (ص: 100).
ويسوق الحُجَّة عليه بقوله: "فإنَّ الإنسانَ حسَّاسٌ يتحرَّك بالإرادة، وقد ثبَت في "الصحيح" عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((أصدقُ الأسماء: حارثٌ وهماَّم))، فالحارث: الكاسِب الفاعِل، والهمَّام: فعَّال مِن الهم، والهمُّ أوَّل الإرادة، فالإنسان له إرادةٌ دائمًا، وكلُّ إرادة فلا بدَّ لها مِن مُراد تنتهي إليه، فلا بدَّ لكلِّ عبدٍ مِن مرادٍ محبوب، هو منتهى حبِّه وإرادته، فمَن لم يكن الله معبودَه ومنتهى حبِّه وإرادتِه، بل استكبر عن ذلك، فلا بدَّ أن يكونَ له مرادٌ محبوب يستعبده غيرُ الله، فيكون عبدًا لذلك المرادِ المحبوب: إمَّا المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتَّخذه إلهًا مِن دون الله؛ كالشمس والقمَر، والكواكب والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتَّخذهم أربابًا، أو غير ذلك ممَّا عُبِد مِن دون الله" (ص: 100 - 101).
وهنا يُبيِّن لنا ابنُ تيمية أنَّ الإنسان على مفترَق طريقين لا ثالثَ لهما، فإمَّا أن يختارَ العبودية لله، وإمَّا أن يرفُضَ هذه العبودية، فيَقع - لا محالةَ - في عبوديةٍ لغير الله.
3- وهو - كما رأيت - يُقِيم هذا الجزء مِن نظريته على الأُسس النفْسيَّة، والتحليل الدقيق للطبيعة البشريَّة.
فالإنسانُ لا ينفكُّ عن وصفِ العبودية؛ لأنَّه كائنٌ حيٌّ ذو حاجاتٍ ومطامعَ، ولأنَّ له قلبًا؛ فإما أن يكون عبدًا لله، وإلاَّ فهو عبدٌ لغيره، وبتعبيرٍ آخَر: إنْ لم يَرْضَ أن يكون عبدًا لله استعبدتْه حاجاتُه ومطامعُه، وأهواؤه وشهواته، وطواغيتُ الجنِّ والإنس، وما يُزيِّنون لبني آدم من معبودات.
ومِن هذا يتَّضح أنَّ العبودية لله تُحرِّرهم من كل عبودية أخرى، شعرُوا بها أو لم يشعروا، رَضُوا بها أو سخِطوا:
"فالعبدُ لا بدَّ له مِن رِزق وهو محتاجٌ إلى ذلك، فإذا طلب رِزقَه مِن الله صار عبدًا لله فقيرًا إليه، وإذا طلبَه مِن مخلوقٍ صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه" (ص: 82).
"والإنسانُ لا بدَّ له مِن حصولِ ما يحتاج إليه مِن الرِّزق ونحوه، ودفْع ما يضرُّه..." (ص: 85).
"وكلُّ مَن علَّق قلبه بالمخلوقين أن يَنصروه أو يرزقوه أو أن يَهدوه، خضَع قلبه لهم، وصارَ فيه مِن العبوديةِ لهم بقدْر ذلك، وإنْ كان في الظاهر أميرًا لهم مُدبِّرًا لأمورِهم متصرفًا بهم، فالعاقلُ ينظُر إلى الحقائق لا إلى الظواهر" (ص: 87).
وهنا يبلغ ابنُ تيمية أعماقَ الحقيقة النفسيَّة حين يقول:
"فالحريَّةُ حريَّةُ القلْب، والعبودية عبودية القلْب، كما أنَّ الغِنى غِنى النفْس" (ص: 88).
ويقول: "الرِّقُّ والعبوديةُ في الحقيقةِ هو رِقُّ القلْب وعبوديته، فما استرقَّ القلبَ واستعبده فهو عبدُه" (ص: 81).
ولا يلْبَث أن يبلغ الآفاقَ الاجتماعيَّة والسياسيَّة حين يتحدَّث عن بعضِ مظاهر العبوديَّة لغيرِ الله، تلك التي تَبدو ظاهرًا بعيدةً كلَّ البُعد عن أن يكون صاحبها عبدًا، فيقول: "... وكذلك طالِب الرئاسة والعلوِّ في الأرْض قلبُه رقيقٌ لمن يُعينه عليها، ولو كان في الظاهر مُقدَّمَهم والمطاعَ فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموالَ والولايات، ويعفو عما يَجترحونه؛ ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهرِ رئيسٌ مطاعٌ، وفي الحقيقة عبدٌ مطيع لهم.
والتحقيق أنَّ كِليهما فيه عبوديةٌ للآخَر، وكِليهما تاركٌ لحقيقةِ عبادةِ الله" (ص: 91).
وهو يُبيِّن أنَّ سبيلَ التحرُّر إنَّما هو كمالُ العبودية لله: "ولن يستغنيَ القلبُ عن جميعِ المخلوقات إلاَّ بأنْ يكونَ الله هو مولاه الذي لا يَعبُد إلا إيَّاه، ولا يستعين إلاَّ به، ولا يتوكَّل إلا عليه، ولا يفرَح إلا بما يحبُّه ويرضاه... فكلَّما قوِيَ إخلاصُ دِينه لله، كَمُلتْ عبوديتُه لله واستغناؤه عنِ المخلوقات" (ص: 102).
و"كلَّما ازدادَ القلب حبًّا لله، ازداد له عبوديةً، وكلَّما ازداد له عبوديةً، ازدادَ له حبًّا، وفضَّله عمَّا سواه" (97).
4- ونظريةُ ابنِ تيمية في (العبودية) هي - في الوقت نفْسه - نظرية في الأخلاق والفَضيلة:
"وقد بيَّن [الله][3] أنَّ عبادَه المخلِصين، هم الذين يَنجُون مِن السيِّئات التي زيَّنها الشيطان.." (ص: 78).
"قال تعالى في حقِّ يوسف: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، فالله يصرِف عن عبدِه ما يَسوءُه مِن الميل إلى الصُّوَر والتعلُّق بها ويَصرِف عنه الفحشاءَ بإخلاصه لله" (ص: 90).
ومَن كانت عبوديتُه لله وجهادُه في سبيله، فعمَلُه كلُّه فضيلة، وهو لا ينحرف في أيِّ شأنٍ مِن الشؤون؛ إلاَّ عندما يَزيغ عن هذه العبودية.
5- وهي أيضًا نظريةٌ في السعادة، فلا أسعدَ ممَّن كان عبدًا لله، ولا أشقَى ممَّن عبَدَ غير الله.
"إنَّ القلْب - كما يقول ابن تيمية - إذا ذاق طعمَ عِبادة الله والإخلاص له، لم يكُن عنده شيءٌ قطُّ أحلى مِن ذلك، ولا ألذّ ولا أمتَع ولا أطيب" (ص: 90).
ومَن كان عبدًا لغيرِ الله كيف يَكون عزيزًا؟! وكيف يكون سعيدًا؟! سواء في دُنياه أمْ في أخراه؟!
يقول ابنُ تيمية في عرْض هذا الجانب مِن نظريته: "القلْبُ فقيرٌ بالذات إلى الله مِن وجهين: مِن جِهة العبادة وهي العِلَّة الغائيَّة، ومِن جِهة الاستعانة والتوكُّل وهي العلَّة الفاعلة، فالقلب لا يَصلحُ ولا يُفلح، ولا يَنعَم ولا يُسرُّ، ولا يلتذُّ ولا يطيبُ، ولا يسكُن ولا يطمئنُّ إلاَّ بعبادة ربِّه وحبِّه والإنابة إليه، ولو حصَل له كل ما يلتذُّ به مِن المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكُنْ؛ إذ فيه فقرٌ ذاتي إلى ربِّه مِن حيث هو معبودُه ومحبوبُه ومطلوبُه، وبذلك يحصُل له الفرحُ والسرور، واللذة والنِّعمة، والسكون والطُّمأنينة.
وهذا لا يَحصُل له إلا بإعانةِ الله له؛ فإنَّه لا يقدِر على تحصيلِ ذلك له إلاَّ الله فهو دائمًا مفتقرٌ إلى حقيقة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، فإنَّه لو أُعين على حصولِه كل ما يحبُّه ويطلبه ويشتهيه ويُريده ولم يحصلْ له عبادة لله، فلنْ يحصُل إلاَّ على الألَم والحَسْرة والعَذاب، ولن يَخلُصَ مِن آلام الدُّنيا ونكَدِ عيشِها إلاَّ بإخلاص الحبِّ لله؛ بحيث يكونُ الله هو غايةَ مرادِه ونهايةَ مقصوده، وهو المحبوبُ له بالقَصدِ الأوَّل، وكلُّ ما سِواه إنَّما يحبُّه لأجْله، فلا يحبُّ شيئًا لذاتِه إلا الله، ومتى لم يحصُلْ له هذا لم يكُن قد حقَّق حقيقة (لا إله إلا الله) ولا حقَّق التوحيدَ والعبودية والمحبَّة لله، وكان فيه مِن نقْص التوحيد والإيمان، بلْ مِن الألم والحسرةِ والعذاب بحسبِ ذلك..." (ص: 97 - 98).
ويُمكن أن نتبيَّن هذه الحقيقة، وهي حُصول السعادة بالعبوديَّة لله دون غيرِه، وذلك باستقراء أحوال عِباد غيرِ الله صنفًا صنفًا، هل نجِد فيهم سعيدًا؟ "فالرَّجُل إذا تعلَّق قلبه بامرأةٍ - ولو كانت مباحةً له - يبقَى قلبُه أسيرًا لها تتحكَّم فيه...
تتحكَّم فيه تحكُّمَ السيِّد القاهر الظالم في عبدِه المقهور الذي لا يستطيع الخلاصَ منه، بل أعظم؛ فإنَّ أسْر القلبِ أعظمُ مِن أسْر البدن، واستعباد القلب أعظمُ مِن استعباد البَدن؛ فإنَّ مَن استُعبِد بدنه واسترقَّ وأُسِر لا يُبالي إذا كان قلبُه مستريحًا مِن ذلك مطمئنًّا، بل يُمكنه الاحتيالُ في الخَلاص.
وأمَّا إذا كان القلبُ - الذي هو مَلِك الجِسم - رقيقًا مستعبدًا متيمًا لغيرِ الله، فهذا هو الذلُّ والأَسْر المحْض والعبودية الذليلة لما استُعبِد القلْب" (ص: 87-88).
"... وهؤلاء عُشَّاق الصور، مِن أعظمِ الناس عذابًا وأقلِّهم ثوابًا..." (ص: 89).
و"هكَذا أيضًا طالِب المال؛ فإنَّ ذلك المالَ يَستعبده ويسترقُّه..." (ص: 92).
ومَن كانتْ عبوديته لله فإنَّه "يطلبُه مِن الله ويرغَب إليه فيه فيكون المالُ عندَه - يستعمله في حاجتِه - بمنزلةِ حِمارِه الذي يركبه وبِساطِه الذي يجلس عليه... مِن غير أن يستعبده فيكون ﴿ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21]..." (ص: 92).
وإذا علَّق العبدُ قلبَه بما لا يحتاج إليه: "صار مُستعبَدًا له، وربَّما صار مُعتمِدًا على غير الله، فلا يبقَى معه حقيقةُ العبادة لله ولا حقيقةُ التوكُّل عليه، بل فيه شُعبةٌ من العبادة لغيرِ الله، وشُعبة مِن التوكُّل على غيرِ الله، وهذا مِن أحقِّ الناس بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((تَعِس عبْدُ الدِّرهمِ، تَعِسَ عبْدُ الدينار، تَعِس عبْدُ القطيفة، تَعِس عبْدُ الخميصة))" (ص: 92).
تلك هي النظريةُ في أساسِها العام وخُطوطِها العريضة، ويَحسُن أن نتبيَّن الآن أهمَّ خصائصها ومزاياها:
1- فهي أولاً: لا تُهمِل الجانب الانفعالي (العاطفي) في الحياة الدينيَّة، بل تُعنَى به، وتعتبره مقوِّمًا أساسيًّا من الدِّين، وركنًا هامًّا مِن مفهوم العبودية، خلافًا للعرْض الجاف، الخالي مِن العنصر العاطفي، الذي ألِفْناه لدَى علماء الكلام:
"فأهلُ الإيمان لهم مِن الذَّوق والوَجْد مِثل ما بيَّنه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله في الحديث الصحيح: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَد حلاوةَ الإيمان: مَن كان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، ومَن كان يحبُّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، ومَن كان يَكره أن يَرجِع في الكفرِ بعد إذ أنْقذَه الله منه كما يَكره أن يُلقَى في النار))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاق طَعمَ الإيمان مَن رضِي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا))" (ص: 67-68، وانظر ص93-94).
وهو لا يُقيم نظريتَه على أساسٍ عاطفيّ، إلا بعدَ أن ينقِّيَه من الشوائب والانحرافات (ص: 111-131).
وهو - إذْ يعنى بالجانبِ العاطفيِّ الانفعاليِّ - يبرز في نظريتِه الدِّينيَّة، وفي تفسير (العبودية) جانب الحبِّ، ويؤيِّد مذهبَه باللُّغة وبالآيات الكثيرة التي جاءَ في بعضها مكانةُ الحبِّ ومنزلته حتى لدَى المشركين، "ومِن المعلوم أنَّ المؤمنَ أشدُّ حبًّا لله؛ ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]" (ص: 96).
وهو يُقدِّم لنا تحليلاً نفسيًّا رائعًا لأثر (المحبَّة) في السلوك الإنساني وكونها دافعًا من أهمِّ الدوافع، ويُطبِّق ذلك في مجال محبَّة المؤمن لربِّه ومعبوده، وذلك حيث يقول: "ومعلومٌ أنَّ الحبَّ يحرِّك إرادة القلْب، فكلَّما قويتِ المحبَّةُ في القلْب طلَب القلب فعلَ المحبوبات، فإذا كانت المحبَّة تامَّةً، استلزمت إرادةً جازمةً في حصولِ المحبوبات، فإذا كان العبد قادرًا عليها حصَّلها، وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدِر عليه من ذلك كان له أجرٌ كأجر الفاعل" (ص: 95).
ويقول: "لا يستحقُّ المحبة ولا الخضوعَ التامَّ إلا الله" (ص: 49).
"وكلُّ محبَّة لا تكون لله فهي باطِلة" (ص: 120).
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 23-01-2021, 09:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العبودية

العبودية


الشيخ عبدالرحمن الباني




فالمحبَّةُ عنصرٌ أساسي في العبودية، ولا عبودية بدون محبَّة؛ قال: "والمقصود هو: أنَّ الخُلَّة والمحبَّة لله تحقيق عبوديته، وإنَّما يَغلَط مَن يَغلَط في هذه من حيثُ يتوهَّمون أنَّ العبودية مجرَّد ذُلٍّ وخضوع فقط لا محبَّة معه، وأنَّ المحبة فيها انبساطٌ في الأهواء أو إدْلال لا تحتمله الربوبيَّة" (ص: 111-112).



فهو كما ترَى يربط بيْن المحبَّة لله وبيْن العبوديَّة وهما لا ينفكَّان،وهو يذكُر ما يترتَّب على هذا التصوُّر الخاطِئ للعبودية مجرَّدة مِن المحبَّة، وللمحبَّة مُجرَّدة من الخضوع، فيتوهَّم بعضُهم العبودية مجرَّد ذلٍّ لا محبَّة معه، ويتوهَّمون المحبة انبساطًا في الأهواء وإدلالاً؛ ولذا نفر قوم من ذكر المحبة إذلالاً بلا خشية، وطلَب بعضهم الإمساكَ عن الكلام في المحبَّة...

فأساسُ العبوديَّة الحبُّ لا الخوف، هذا مع العلم أنَّه يُقرِّر أنَّ الخوفَ جزءٌ من الدِّين، وأنَّه داخل في الإيمان وأنَّه ممَّا يناسب العبودية الحقَّة؛ (ص: 44، ثم ص111-112).

وابنُ تيميةَ يُعنَى بعرْض هذه الناحية والدِّفاع عنها عناية كبيرة، ثم ينقُل قول بعض السَّلف: "مَن عبَد الله بالحبِّ وحْدَه فهو زِنديقٌ، ومَن عبَدَه بالرجاء وحدَه فهو مرجِئ، ومَن عبَده بالخوف وحده فهو حَروريٌّ، ومَن عبَدَه بالحبِّ والخوف والرجاء فهو مؤمنٌ موحِّد" (ص: 112).

وبعد؛ فهذا الحبُّ ليس شيئًا شكليًّا، ولا هو دعوى عريضة لا يُصدِّقها العمل، ولا هو محلَّة معها فِعل المخالَفات والمعاصي، بل هذا الحبُّ وثيقُ الرِّباط بالعملِ والجِهاد في سبيلِ الله: (ومعلومٌ أنَّ المحبوبات لا تُنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبَّةً صالحة أو فاسدة" (ص: 96).

"وقدْ جعَل اللهُ لأهل محبَّته علامتين: اتِّباع الرسول والجهاد في سبيله؛ وذلك لأنَّ الجهادَ حقيقةُ الاجتهاد في حصولِ ما يحبُّه الله مِن الإيمانِ والعمل الصالح، ومِن دفْع ما يبغضه الله من ﴿ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ [الحجرات: 7]" (ص: 94. وانظر ص: 113-116).

2- ومِن خصائص نظرية ابنِ تيمية في (العبودية) فَهمُه لها بمفهومِها الواسعِ الآفاق، الشامِل لجميع مناحي الدِّين والحياة؛ خلافًا لما عليه أكثرُ الناس حتى المتديِّنون اليوم، فهو يقول: "العبادةُ هي اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرْضاه مِن الأقوال والأعمال، الباطِنة والظاهِرة..." (ص: 44).

ويقول: "فالدِّين داخلٌ كلُّه في العبادة..." (ص: 47)، وهو يذكر أنَّ مِن عبادة الله وطاعته: "الأمْر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، بحسبِ الإمكان، والجهاد في سبيله لأهلِ الكفر والنِّفاق..." (ص: 61).

ثم يقول: "وكلُّ ذلك مِن العبادة" (ص: 62).

ومِن العبادة الأخذُ بالأسباب: "فكلُّ ما أمَر الله به عبادَه مِن الأسبابِ فهو عبادة" (ص: 70).

3- ونظريتُه تتضمَّن القولَ بوَحدةِ أصولِ الأديان المنزلَة مِن الله، وذلك على وجهٍ صحيحٍ شرْعيٍّ وعقليّ: فقد تبيَّن أنَّ الأنبياء جميعًا بُعِثوا بأمر واحد هو الدعوة إلى عبادة الله وحده:
يقول عن العبودية: "وبها أَرْسل [الله] جميع الرُّسل... وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]..." (ص: 44 - 45).

ويقول: "وهذا هو حقيقةُ دِين الإسلام الذي أرْسل الله به رُسلَه، وأنزل به كُتبه وهو أن يستسلمَ العبدُ لله لا لغيرِه، فالمستسلم له ولغيرِه مشرِك والممتنع عن الاستسلام له مستكبر..." (ص: 99).

"ولَمَّا كان الكِبر مستلزمًا للشرك والشرك ضدُّ الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفِره الله... كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدِين الإسلام فهو الدِّين الذي لا يقبل الله غيره لا مِن الأوَّلين ولا مِن الآخرين...

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ ﴾ [آل عمران: 19]... وقال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ [آل عمران: 83]..." (ص: 103-104).

ويقول خلالَ كلامِه على الإخلاص لله واتِّباع شريعته: "وهذا هو أصلُ الدِّين... وبه أرْسل الله الرُّسل، وأنْزَل به الكتُب، وإليه دعَا الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعليه جاهَد..." (ص: 121).

4- وهي نظريةٌ إصلاحيَّة - أعْني ذات أثَر إصلاحي - بما حوتْ مِن التحقيق والتوجيه؛ فقد دَفَع ابنُ تيمية - خاصَّة في الجانبِ النقدي مِن نظريته، وهو الجانب الذي لا يتَّسع المجال لعرْضه - ألوانًا مِن الضلال الذي وقَع فيه المسلمون ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104]، وأنَّهم يَزدادون توغلاً في الإسلامِ ورُقيًّا في درجاتِ الخاصَّة، وخاصَّة الخاصَّة، مع أنَّهم يزدادون عنه بُعدًا، كشأنِ مستدبرِ الهدف كلَّما سار خُطوةً أو شوطًا ابتعَد عنِ الهدف بقدْر سيره!!

فابنُ تيمية - حين بيَّن المفاهيمَ المنحرِفة للعبودية، والشوائب المضلَّة عنها - قد قدَّم للمسلمين خيرًا كثيرًا بما أصلَح مِن حالهم الفكريَّة والسلوكيَّة.

وهو قدْ أغلق بالعِلم والحُجة على المسلمين بابًا، بل أبوابًا مِن الشرِّ جاءَهم من قِبل الأهواء المنحرِفة والفلسفات الضالَّة، والتخليط، وفوضى المنهج، ووضْع الشيء في غيرِ موضعه، بل تحريف الكَلِم عن مواضعه؛ (انظر مثلاً: ص: 59).

أ- فمِن ألوان الضلال والانحراف القولُ بالشهود - ما سموها (الحقيقة) - المؤدِّي إلى الجبر، وتعطيل التكاليف الشرعيَّة، والمُفضِي في الحقيقة إلى الرِّضا بالمعصية والقُعود عن إنكار المنكَر وتغيير الفساد، والاحتجاج للذُّنوب وللشرك!!

ب- ومنها (القول بوَحْدةِ الوجود)[4] المتضمِّن كفرًا هو شرٌّ مِن كفر أهل الكتاب والمشركين الذين بُعِث فيهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وظلَّ في خصومتهم وحربِهم - حتى هدَى الله مَن هدَى - بضعةً وعشرين عامًا، هي مدة حياته المبارَكة - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد البعثة.

وهو يكشِف عن مفهومِ العبودية المعكوسِ عند القائلين بهذه الضلالة، بل يُبيِّن انمِحاءَ حقيقة العبودية ومعناها لديهم - وهي رُوح الدِّين وقِوامه - وذلك (أعني الانمحاء) تحتَ سلطان وَحْدةِ الوجود.

ج- وقد أبان ابنُ تيمية مدَى ضِيق النظر عندَ المعتزلة (القدرية) الذين لم يَسعْهمبعد إثبات الأمر والنهي (الحُكم التكليفي) أن يُقرُّوا بالقدَرِ (الذي هو الحُكم التكويني)، كما ضاقَ نِطاق الجبرية الذين - حين أثبتوا الحُكم التكوينيَّ - عجَزوا عن إثبات الحُكم التكليفي؛ (انظر: ص: 63-64).

د- وهو يُبيِّن أنَّ التحقُّق بالعبودية لا يُسلَكُ إليه الطريقُ المخالف للشرع، مِن الغناء وآلات اللهو التي تهيج محبة مطلقة، بل إنَّما يُسلَك إليه السبيل الشرعي، فكما لا يُعبَد إلا الله، فإنَّه لا يُعبَد الله إلاَّ بالطريق التي شرَعها ورَضِيها.

ومِن أجملِ ما في هذه النظرية بيانُه هذين الأصلين، ورَبْطُهما ربطًا طوعيًّا بالشهادتين:

فشهادتُنا "أن لا إله إلا الله" تَقتضي ألاَّ نَعبُدَ غيره.
وشهادتُنا "أنَّ محمدًا رسولُ الله" تَقتضي أنَّ مهمَّةَ الرسالة تبيانُ الطريقة المرضية لله في عبادته، وأنَّ الخروج عن هذه الطريقة يَتنافَى مع هذه الشهادة بل يَنقُضها.

وقدْ أكَّد هذا المعنى بآياتٍ بيَّنت أنه يُشترَط شرطانِ في العمَل؛ ليكون مقبولاً:
1- أن يكونَ صالحًا، ولا يكون صالحًا إلاَّ ما كان مُوافِقًا لشَرْع الله الذي جاء به نبيُّه ورسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

2- أن يكون لا يُرادُ به إلاَّ الله؛ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]؛ (تراجع الصفحات: 71، 120و148).

يقول ابنُ تيمية في نقْد الطرق المنحرفة: "ولهذا يَميل هؤلاءِ ويُغرَمون بسماع الشِّعر والأصوات [والآلات الموسيقيَّة] التي تُهيِّج المحبَّة المطلَقة التي لا تختصُّ بأهلِ الإيمان، وهؤلاء الذين يَتَّبعون أذواقَهم ومواجيدَهم مِن غيرِ اعتبار لذلك بالكتاب والسنَّة، وما كان عليه سَلَفُ الأمَّة" (ص: 68-69).

ويقول: "وطريقُ الحقيقةِ عندهم: هو السلوكُ الذي لا يتقيَّد صاحبُه بأمرِ الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويَجِده في قلبِه مع ما فيه مِن غفلة عنِ الله - جلَّ وعلا - ونحو ذلك" (ص: 66-67).

هـ- وهو يرَى أنَّ الاختيارَ مِن الدِّين - بأخْذ بعضه وترْك بعضه - من الضلال، فيقول خلالَ كلامه على الذين يرَوْن إسقاطَ التدبير: "ومِن هؤلاء طائفةٌ - هم أعلاهم عندَهم قدْرًا - وهو مُستمسِكون بما اختاروا بهواهم مِن الدِّين في أداء الفرائِض المشهورة واجتناب المحرَّمات المشهورة، لكن يضلون بترْك ما أُمِروا به مِن الأسباب التي هي عبادة، ظانِّين أنَّ العارف إذا شهِد القدَر أعْرَض عن ذلك مِثل مَن يجعل التوكُّلَ منهم أو الدعاء منهم، ونحو ذلك مِن مقامات العامَّة دون الخاصَّة، بناءً على أنَّ مَن شهِد القدَر عَلِم أنَّ ما قُدِّر سيكون، فلا حاجةَ إلى ذلك، وهذا ضلالٌ مبين..." (ص: 69-70).

وقد ذكَر ابنُ تيمية ناصحًا باتِّباع أسلوب القرآن، والأخْذ بالعِلم للوصولِ إلى الحقائقِ الشرعيَّة والوقوف عندها، وذلك حين كلامِه على المفاهيم المختلفة لِمَا يُسمَّى (الفَناء)، فقال:
(بل الكُمَّل [مِن المؤمنين الذين لا يَهتدون إلا بهَديِ الكتاب والسنَّة] تكون قلوبهم ليس فيها سِوى محبَّةِ اللهِ وإرادته وعبادته، وعندهم مِن سَعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمورَ على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقاتِ قائمةً بأمر الله مُدبَّرةً بمشيئته، بل مستجيبة له، قانِتة له، فيكون لهم فيها تبصرةٌ وذِكرى، ويكون ما يشهدونه مِن ذلك مؤيِّدًا وممدًّا لما في قلوبِهم مِن إخلاص الدِّين وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحْدَه لا شريكَ له.

وهذه هي الحقيقةُ التي دَعا إليها القرآنُ وقام بها أهلُ تحقيق الإيمان، والكُمَّل من أهل العرفان، ونبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - إمام هؤلاء وأكملُهم" (ص: 131).

و- وقد بيَّن الطريقة الصحيحة في ذِكر الله، وهي ذِكرُه في جُمَل تامَّة، وأورد حديثَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((أفضلُ الذِّكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدُّعاء: الحمدُ لله))" (ص: 136).

وناقَش طريقة الذِّكر بالاسم المفرَد وحْدَه مناقشةً علميَّةً رصينة، ونبَّه إلى أنَّه "قدْ وقَع بعضُ مَن واظب على هذا الذِّكر بالاسمِ المفرَد وبـ(هو) في فنون مِن الإلحاد وأنواع مِن الاتِّحاد" (ص: 138).

5- وابنُ تيميَّة في هذه النظرية - عدا كونه مُصلحًا دينيًّا أو مصلحًا للعقيدة الدينيَّة - هو مصلحٌ أخلاقي واجتماعي؛ إذ يُقدِّم معالجةً ناجعة لبعضِ المشكلات النفْسيَّة والانحرافات الجنسيَّة.

وما أحوجَ الأُمَّةَ التي تملأ أغانيها وإذاعتها بالحبِّ الجنسي، وهي غافلةٌ عن خطرِه وضرره في أبنائها وبناتِها وكيانها العام، ما أحوجَها إلى أن تَعِي مِثل هذا الكلام الطيِّب الذي يقدِّمه (ص: 88 -90) خاصَّة، والعدو محيطٌ بها مِن كلِّ جانبٍ، والخطر محدِق بها مِن كلِّ جِهة[5].

وما أحوجها أيضًا وهي مِن جهة أخرى على أبواب خطرٍ آخَر، وهو معالجة أمراضها النفسيَّة والاجتماعيَّة بطرائقِ الغرب في العِلاج النفْسي القائم على الإلحاد والتنكُّر لهداية الله وحِكمة النبوَّة، ما أحوجَها إلى الحذَر من أن تنصرفَ - عن ذلك الهدي إلى تلك (العيادات السيكولوجيَّة) التي يتولاَّها أحيانًا الدجَّالون، وأحيانًا المنحرفون الذين يحتاجون هم أنفُسهم للمعالجة، وجدير بها أنَّ تنصرِف عن هذه الأساليب الملتوية إلى علاجِ النبوَّة المستمد مِن الخالق، وإلى الحِكمة المستمدة مِن النبوة:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36].
﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

أليس مِن الواجب أن نُفيدَ مَن توجيه الذي: ﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7]، ﴿ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]، ﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 119].

6- وتبدو قيمةُ نظرية ابنِ تيمية مِن النواحي الآتية:
أ- فهي نظريةٌ قائمةٌ على الملاحظات والحقائق النفسيَّة، وقد مرَّتْ أمثلة لهذا الجانب، ومِن ذلك قوله: "...فظنوا أنَّ كمال المحبَّة أن يحبَّ العبدُ كلَّ شيء حتى الكُفر والفسوق والعِصيان، ولا يُمكن لأحدٍ أن يحبَّ كلَّ موجود، بل يحب ما يُلائِمه وينفعه، ويبغض ما ينافيه ويضرُّه" (ص: 116).

وهو هنا يردُّ المنحرفين إلى الأوضاعِ النفْسيَّة السليمة، والحالات الطبيعيَّة السويَّة.

ب- وهي تتضمَّن توجيهاتٍ تربويةً قيِّمة، ومِن ذلك ما يُمكن أن يُعتبَر قاعدةً أخلاقيةً وتربويةً عامَّة على أساس حبِّ الله: "والإنسان لا يَترُك محبوبًا إلا بمحبوبٍ آخَرَ يكون أحبَّ إليه منه، أو خوفًا مِن مكروه، فالحبُّ الفاسد إنَّما ينصرِف القلب عنه بالحبِّ الصالح، أو بالخوف مِن الضرر..." (ص: 90).

جـ- وهذه النظريةُ لها - عدَا عن جانبها النفْسي والتربوي - مداها الاجتماعي والسِّياسي: وقد مرَّ وصفُه للمسيطر المتسلِّط وهو مِن أحكمِ وأدقِّ ما يُوصَف به، حيث قال: إنَّه مُستعبَد لمن دونه، وعبدٌ لمن يُعينونه على مقاصدِه، يطلب رِضاهم بما يبذل لهم مِن المال ويُغضي عن مظالمهم أو مطالبِهم للناس، وهو بذلك يمدُّ لهم في البغي والطُّغيان، وقد بيَّن أنَّ كلَّ مَن ترك عبودية الله، فهو مستعبد لغيرِه مِن المخلوقاتِ شاءَ أم أبَى.

7- ومِن أهمِّ خصائص نظرية ابنِ تيمية في (العبودية) كونُها موفِّقةً - على هدى وبصيرة - بين العقل والنقل، بين الدِّين والفلسفة، وبتعبيرٍ آخَر - هو لابن تيميَّة - بين العقل الصريح[6] والنقْل الصحيح، كما هو الاتِّجاه العام للفِكر التَّيمي، أو للفلسفة التيميَّة إنْ صحَّ هذا التعبير.

وهذا التوفيقُ بيْن العقل والنقل مبثوثٌ في الرِّسالة كلها، بل هو منهجُها ورُوحها، ومع ذلك يُراجَع على سبيل المثال مناقشتُه للقائلين بالاتِّحاد (ص: 127-129).

فهو يُبيِّن أنَّ دعوى (الاتحاد) إنْ صدَق فيها أحد، فليستْ أكثر مِن اضطراب عقلي، أو اضطراب في التمييز - على حدِّ تعبيره.

أمَّا أنْ يكون اتحاد في واقِع الأمْر وحقيقته فهذا محال؛ قال: "...وظنُّوا أنَّه اتحادٌ في واقع الأمر، وأنَّ المحبَّ يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرقٌ في نفْس وجودهما! وهذا غلَط؛ فإنَّ الخالق لا يتَّحد به شيءٌ أصلاً، بل لا يُمكِن أن يتَّحد شيءٌ بشيءٍ إلا إذا استحالاَ وفسدتْ حقيقة كلٍّ منهما وحصَل مِن اتحادهما أمرٌ ثالث لا هو هذا ولا هذا..." (ص: 128).

8- وهو في عرْضِه للنظرية والدِّفاع عن الحقِّ الذي تضمنته معتدلٌ لا يُغالي، يقبل ما كان صوابًا ممَّا عند الآخرين ويردُّ الخطأ، ويلتمس السببَ لوقوعِ مَن وقع فيه حتى، ولو كان كُفرًا صريحًا، فيقول مثلاً في نوعٍ مِن الفناء وهو ألاَّ يحب العبدُ إلاَّ ما يحبه الله، ولا يَرْضى إلا ما يُرضِي الله: (وهذا المعنى - إن سُمِّي فناءً أو لم يسمَّ - هو أوَّل الإسلام وآخِره، وباطِن الدِّين وظاهره" (ص: 127).

ويقول فيمَن يُسقِطون التكاليف: "وقولُ هؤلاء كفرٌ صريح، وإنْ وقَع فيه طوائفُ لم يعلموا أنه كفرٌ" (ص: 64)، ثم يلتمس العلاجَ الشرعيَّ لهم، وهو ما أوجبه اللهُ على العلماء مِن البيان والإقناع بالحُجَّة، ثم يُبيِّن متى يؤخذون بالجزاء وأنَّه يكون بعدَ البيان مِن أهل العلم والإصرار والعناد على مخالفةِ الحقِّ مِن جِهة الأخْذ بالضلال، فيقول: "فمَن لم يعرفْ ذلك عرَّفه... فإنْ أصرَّ على اعتقاد سقوط الأمْر والنهي، فإنه يُقتَل..." (ص: 65).

وهو في كثيرٍ من الأحيان يشخِّص الداء بذِكْر مظاهره، ثم يبيِّن أسباب الوقوع فيه، ثم يَذكُر العلاج.

9- وابنُ تيمية يَنزِع نزعةً مثالية في نظريته، نزعةً تردُّ على الإنسانية كرامتَها، وتحتفظ للإنسان بمنزلتِه العُليا فوقَ عالَم الكائنات الحيَّة التي لا تطاوله في منزلته ولا تنازعه في قِمَّته التي وضَعَه الله فيها بِما وضَع فيه مِن عنصر العقل والإدراك، وابتغاء الحقِّ والخير، وأهلية التكليف؛ يقول ابن تيمية: "والقَلبُ خُلِق يحبُّ الحقَّ ويُريده ويطلبه، فلما عرَضتْ له إرادةُ الشرِّ طلَب دفْع ذلك، فإنَّها تُفسِد القلب كما يفسد الزرعُ بما ينبُت فيه من الدَّغَل" (ص: 90-91).
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 23-01-2021, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العبودية

العبودية


الشيخ عبدالرحمن الباني




ويقول:
"والقلب فقيرٌ بالذاتِ إلى الله مِن وجهين: مِن جِهة العبادة؛ وهي العلة الغائيَّة، ومِن جِهة الاستعانة والتوكل؛ وهي العِلَّة الفاعلة، فالقلب لا يَصلُح ولا يُفلح، ولا ينعم ولا يُسرُّ ولا يلتذُّ ولا يطيبُ، ولا يسكُن ولا يطمئنُّ إلاَّ بعبادة ربِّه وحبِّه والإنابة إليه، ولو حصَل له كل ما يلتذُّ به مِن المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكُنْ؛ إذ فيه فقرٌ ذاتي إلى ربِّه مِن حيث هو معبودُه ومحبوبُه ومطلوبُه..." (ص: 97).




وهذه النزعةُ في الوقتِ نفْسِه ليستْ نزعةً خياليَّة تُهمِل الواقع، ولكي ترتفعَ به عن طريق (التسامي) أو (الإبدال) ممَّا لمحه علماءُ النَّفْس والتربية، وما عرَفوا الطريق الحق إليه: (والأنبياء - كما يقول ابنُ تيميَّة في كتاب "النبوات" - قدْ بُعثوا بتكميل الفِطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها).

وقدْ مرَّ قوله: "ولا يمكن لأحدٍ أنْ يحبَّ كلَّ موجود، بل يحبُّ ما يلائمه..." (ص: 116).

وقوله: "الإنسانُ لا يترك محبوبًا إلا بمحبوبٍ آخَر.." (ص: 90).

ومِثل ذلك قوله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم": "إنَّ النفوسَ لا تترُك شيئًا إلاَّ بشيءٍ، وإنَّ النَّفْس خُلِقت لتعملَ لا لتترك"[7].

10- هذه نظريةُ ابنِ تيمية في (العبودية)، وهي - كما قلنا - نظريةٌ في الدِّين.

وقد يقول قائل: إنَّ العبوديةَ ليستِ المحبَّة والتذلل - كما ذكَر ابن تيمية - فقط، ولا بدَّ أن يُلحظَ فيها استنادُها إلى (الإيمان).

وهذا الكلام حقٌّ، وهو يؤكِّد مِن الدِّين جانبه الأصلي، جانب الاعتقاد، إلا أنَّ العبادة من حيثُ هي - أعني في مفهومها العام ودَلالتها اللُّغوية الأصليَّة - أمرٌ يَتعلَّق بالسلوكِ بالدرجة الأولى.

أمَّا العبادة بالمعنى الدِّيني - أو في المجال الدِّيني - فلا بدَّ أن يُلحَظ فيها قيامها على العقيدة؛ أي: على الإيمان بالقوَّة الغيبيَّة؛ ولذا ينبغي الْتِماس أساسها في موضوع الإيمان.

والنظرية الكاملة في الدِّين تتكوَّن في الحقيقة مِن نظريتين:
1- نظرية: الإيمان.
2- نظرية: العبودية.

الأولى: تَتعلَّق بالفِكر والاعتقاد.
والثانية: تَتعلَّق بالسلوك والعَمل.

وهُمَا جانبَا الحياة الدينيَّة.

ومَن شاء أن يستكملَ نظريةَ ابن تيمية في (الدِّين)، فيحسن أن يَرجِع إلى كتبه الأخرى، ومنها: كتاب "الإيمان"[8]، وكتاب "النبوات".

1- تلك هي النظريةُ مِن ناحية محتواها ومضمونها، أمَّا مِن ناحية (أسلوبها) أو (شكلها)، فلعلَّ أهمَّ خصائص النظرية (الشكليَّة) أنَّها قائمة على أصول منهجيَّة، وبتعبيرٍ آخرَ منهجيتها، وهي بمنهجيتها تُجدِّد في حياة المسلمين الفكرية المنهجَ الأصيل في فَهمِ الإسلام وتَناوُلِ قضاياه، وهي مِن هذه الوجهة ذات أثَرٍ إصلاحي هام، كالتراث التيميِّ كلِّه؛ ذلك أنَّ ابن تيمية ظهَر في الوقت الذي امتاز بأمرين:
أ- طُغيان الفلسفات المنحرِفة والأفكار الضالَّة، واختلاط الحقائق والأباطيل، والْتِباس الأصيل مِن الدِّين بالدخيل.
ب- ضَعْف رُوح المنهج عندَ كثيرٍ مِن أهل العلم في الوقتِ نفْسه.

ومزية ابن تيمية بصورةٍ عامَّة - وبالإضافة إلى ما في تُراثه من السَّعَة والعُمق، بل بما فيه من السَّعة والعُمق - الكشف عن وجهِ الحقِّ فيما اختلَط على الناس بأسلوبه الرَّصين ومنهجه المحكَم[9]؛ ولذا يمكن أن يُعتبَر ابنُ تيمية مِن كبار أعلام الفِكر النَّقدي المنهجي، كما أنَّه مِن أعلام الفِكر الموسوعي في الإسلام.

ولا يتَّسع المجالُ هنا لأكثر مِن أن نمرَّ بمنهجِ ابن تيمية في بنائه لنظرية العبوديَّة.

2- فما هي الأصولُ المنهجيَّة التي اصطنعها ابنُ تيمية فيها؟
أ- إنَّ نظريتَه قائمةٌ على الرُّجوع إلى النصوص الثابتة، وجمعها واستيحائها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ مِن أجزائها، فهي نظريةٌ مخضَلَة أو مشبَعة بالفَهم الدقيق والاستيحاء الدائِم للنُّصوص الشرعيَّة مِن كلام الله وكلامِ رَسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو دائمًا يستدلُّ بالنصِّ على ما يقول، بل كأنَّه إنَّما يُفسِّر النصَّ ويذكُر مضمونه بيْن يدي إيراده، ثم يَذكُره فينكشف معناه.

وهو إدراكٌ بعيدُ الغور لرُوح النصوص ودَلالتها، وهو بحقٍّ قدْ جاءَ بفلسفة إسلاميَّة صميمة، ومِن الخَطأ الشائع ذِكْر أمثال الفارابي (260-339هـ) وابن سينا (370-428هـ) وإخوان الصَّفا في فلاسفة الإسلام؛ لأنَّهم لم يُقيموا فلسفتَهم على عمودِ الإسلام، بل قدْ ناهضوه وعمِل (إخوان الصفا) بمنهجهم وفلسفتهم لهدمه دِينًا ودولة.

وليستْ نِسبتُهم إلى الإسلام أكثرَ مِن أنهم وُجِدوا في بيئةِ الإسلام، وفي زمَن سُلطانِ الإسلام[10].

وحِكمة ابن تيمية هي حِكمةُ القرآن وحِكمةُ النبوَّة، معروضةٌ مِن خلال المشكلات الفِكريَّة التي عاصرها وعالَجها، وقدْ جاءَ بفِكرٍ أصيل سبَق به زمانه.

واستيحاء ابنِ تيميَّة للآيات القرآنيَّة يُذكِّرنا بدعوة محمَّد إقبال إلى استمداد الحِكمة مِن القرآن، وهو كتاب الحِكمة، ومصدرُ الحياة ومنبَع القوَّة، ويُذكِّرنا بعتب إقبال على (المسلم الذي لا يَستمدُّ حياتَه مِن حِكمة القرآن رأسًا)[11].

ومِن الأمثلة الدقيقة لاستيحاء ابنِ تيمية مِن النصوص قوله: "فالحريَّةُ حريةُ القلْب، والعبوديةُ عبوديةُ القلْب..." (ص: 88)، فهو قد استفاده مِن الحديث الشريف: ((ليس الغِنَى عن كثْرَة العرَض، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْس)).

والخطوة الثانية في نظريته قدِ استفاد فيها - كما رأيت - مِن الحديث الشريف: ((أصدقُ الأسماء: حارثٌ وهمَّام))؛ (ص: 100).

وهكذا فابنُ تيميَّة يُجدِّد عرْضَ حِكمة القرآن وحِكمة النبوَّة علينا، وما أكثرَ استنباطه منهما!

هذا، ومِن المعلوم أنَّ (النص) في قضايا الدِّين مثل (التجرِبة) في مَيدانِ العلوم الطبيعية، يقِف العالِمُ أمامهما ويستنطقهما، ولا يَفرض عليهما رأيًا سابقًا.

ب- وهي نظريةٌ قائمةٌ على تحكيم اللُّغة، لا على مصادمتها أو الاحتيال عليها، كما يفعل الآن بعضُ الجَهلَةِ والمنحرفون، وكما فعَل الباطنيُّون مِن قَبل؛ إذ تجاهلوا، في سبيلِ مآربهم، مِن تقويض سلطان الإسلام على نفوس أهله، وهدم دولة المسلمين - تجاهلوا كلَّ مُقتضيات اللُّغة وقواعدها.

وقدْ بدأ كلامَه على العبودية بتحليل لُغويٍّ انتهى منه إلى أنَّ العبودية هي كمالُ المحبة مع كمال الخُضوع والتذلُّل، فمَن كان خاضعًا دون محبَّة لم يكن عابدًا، ومَن كان محبًّا دون خضوعٍ ليس مِن العبودية في شيء، ومِن هنا قال: إنَّ العبودية الحق لا تكون إلا لله (تراجع الصفحات: 49 - 51 و107).

وفي رِسالته حقائقُ وأبحاث لُغويَّة ممتعة، وهو هكذا دائمًا مع اللُّغة ومع قواعدها، ومِن مزاياه المشهورة ما كان عليه مِن العلم باللُّغة العربيَّة إلى الحدِّ الذي لا يُدانيه فيه إلا الأفذاذ.

ج- ومِن أبرز معالِم منهج ابن تيميَّة في الكشف عنِ الحقِّ وبيانه والبرهان عليه اعتماد (المنهج التاريخي):
فهو يلاحِظ التطوُّر الذي طرَأ على أوضاع المسلمين الثقافيَّة والعمليَّة، وكيف كانوا وإلى أيِّ شيءٍ صاروا[12]، وهو بهذا يشتقُّ دليلاً شرعيًّا تاريخيًّا يتلخَّص في الفِكرة الآتية: الدِّين الحقُّ ما كان عليه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه، وهذه قضيَّة مقرَّرة تؤيِّدها البراهين الكثيرة والآيات والأحاديث، ومنها قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((خيرُ الناس قرْني، ثُم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(رواه مسلم (2533)، فما لم يكُن يومئذ دِينًا فلا يكون بعدهم دِينًا، وكأنَّه يقول للمنحرفين: إنَّ ما أنتم عليه مِن هذا القول، أو العمل في الدِّين لم يَجِئْ به الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يَعرِفْه السلف (المسلمون الأوَّلون)، بل هو ما كان عليه الجاهليُّون، وهو ما جاءَ الإسلام لنقضه والقضاء عليه، وتخليص الناس مِن شرِّه، والنَّظر في التاريخ يَشهَد لذلك، وهو يَقضي بيننا وبينكم.

وفي هذا (المنهج التاريخي) هدايةٌ لِمَن أنْصَف وأرادَ الله له الخير، وهذا مثالٌ من استعانته بهذا المنهج:
فهو بعدَ أن زيَّفَ أقوالَ القائلين بما يُسمُّونه (الحقيقة)، و(إسقاط التكاليف) يقول: "لم يَكُن في السَّلفِ مِن هؤلاءِ أحد" (ص: 64).

وقدْ كثُرتْ مِثل هذه المقالات في المستأخِرين، وأمَّا المتقدِّمون مِن هذه الأمَّة، فلم تكُن هذه المقالات معروفةً فيهم، وهذه المقالات هي محادَّةٌ لله ورسولِه ومعاداة له، وصدٌّ عن سبيله، ومشاقَّة له..." (ص: 65).

ثم يقول: "ولا ريبَ أنَّ المشركين الذين كذَّبوا الرسولَ يَتردَّدون بيْن البدعة المخالِفة لشَرْعِ الله والاحتجاج بالقدَرِ على مخالفةِ أمر الله" (ص: 65).

وقدِ استخدَم (المنهج التاريخي) حين حقَّق القولَ فيما يسمُّونه بالفناء، فقَبِل ما جاءَ به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان عليه أصحابُه، ورَفَض ما لم يكُن كذلك؛ قال: "وهذا الفناءُ كلُّه فيه نقصٌ، وأكابر الأولياء - كأبي بكْر وعُمر والسابقين الأوَّلين مِنَ المهاجرين والأنصار - لم يَقعوا في هذا الفناء، فضلاً عمَّن هو فوقَهم مِن الأنبياء، وإنَّما وقَع شيءٌ مِن هذا بعدَ الصحابةِ..." (ص: 129).

وكذلك فعَل حين حقَّق القول في عدم شرعية ذِكر الله بالاسم المفرد، قال: "ولم يَذكُر ذلك أحدٌ مِن سلَفِ الأمَّة" (ص: 137).

د- ومِن ذلك، وهو في الحقيقة ما يتردَّد بين (المنهج اللُّغوي) و(المنهج التاريخي) تنبيهه إلى تغيُّر معانِي الألفاظ، وتغليب بعضِ الاصطلاحات على بعض، أو بالأحْرى حمْل الألفاظ القديمة لمعانٍ جديدة.

وقدْ نبَّه الغزاليُّ في "الإحياء" (1/53-56) إلى ما عَرَض مِن التطور لبعضِ الألفاظ والمصطلحات الشرعيَّة في فصل بعنوان: (بيان ما بدِّل مِن ألفاظ العلوم)، وابن تيميَّة يستعمل هذا المنهَج في مختلف المجالات، ومِن ذَلك مجال الاصطلاحات اللُّغويَّة، تُراجَع مناقشته لمعنى (الاسم) في موضوعِ الذِّكر (ص: 138- 145).

هـ- ويُلاحَظ بصورةٍ عامَّة أنَّ ابن تيميَّة في إصلاحه المنهجي (أعْني: صلاحَه لفوضى المنهج الفِكري)، لم يعالج انحرافَ المنهج لدَى الباطنيَّة وأمثالها باعتمادِ المنهجِ الظاهري مثلاً، ولم يعالج شططَ غُلاة القياسيِّين بإنكار القياس، وبهذا يكون كمَن يُعالج الدَّاءَ بالداء، وإنما جاءَ بردِّ الأمور إلى طَبيعتها، فكان منهجه الفِكري أخلدَ وأبقى، وأبلغ أثرًا في الإصلاح - كأيِّ علاجٍ صحيح - فإنَّ الذين يعالجون الانحرافَ بالانحرافِ، لا يَزيدون على أن يجعلوا حياةَ الناس انحرافَين بديل الانحراف الواحِد! وتظل الأمَّة مِن بعدهم بحاجةٍ إلى علاج.

ولذا كان سبيلُه العودةَ بأصول منهج الفِكر الإسلامي إلى الأوضاعِ الطبيعيَّة السويَّة، في جميعِ مناحيه.

وأكَّد بصددِ القياس أنَّه "لم يَرِد في الشرع الإسلامي - أي: في كتاب الله وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمرٌ ولا نهيٌ يُخالِف القياسَ الصحيح... فكل نصٍّ في الإسلام: منطبِق على مقتضَى العقل والحِكمة وموافِق لِمَا يوجِبه القياس" أي: القياس الصحيح[13].

3- وبيانًا لمنهجه الذي أقام عليه نظريتَه في (العبودية) فخلَّصها من الشوائب والانحرافات والمفاهيم الخاطئة، التي طرأتْ على الفِكر الإسلامي، نذكُر ما يُشير إليه هو مِن أصولٍ فِكريَّة خلالَ كلامه:
أ- فهو يقول: "وأصْلُ كلِّ ضلالِ مَن ضلَّ هو بتقديم قياسِه على النص المنزل مِن عند الله، وتقديم اتِّباع الهوى على اتِّباع أمْر الله؛ فإنَّ الذوقَ والوَجْدَ ونحو ذلك هو بحسبِ ما يحبُّه العبدُ ويهواه، فكلُّ محبٍّ له ذوقٌ ووجدٌ بحسبِ محبَّته وهواه" (ص: 67).

وفي هذا الأصل يُبيِّن أهمية النصِّ، وموقِفَ العالِم منه، ويضع حدًّا للتفريق بين ما هو (ذاتي) يختلف مِن فرْد إلى آخَر، وبين ما هو (موضوعي) تتلاقَى عندَه أفكارُ العلماء ذَوي الاختصاص.

ب- ويقول: "وجِماعُ الدِّين أصلان: ألاَّ نَعبُدَ إلا الله، ولا نَعبدُه إلا بما شرَع، لا نعبده بالبِدع، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله.

ففي الأولى: ألاَّ نعبُدَ إلاَّ إيَّاه.
وفي الثانية: أنَّ محمدًا هو رسوله المبلِّغ عنه، فعلينا أن نُصدِّق خبرَه ونُطيع أمرَه.

وقد بيَّن لنا ما نَعبُد الله به، ونهانا عن مُحدَثات الأمور، وأخبر أنَّها ضلالة؛ قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]..." (ص: 148).

ومثل ذلك قولُ ابنِ تيميَّة: "والعبادةُ والطاعةُ والاستقامةُ ولزومُ الصراط المستقيم ونحو ذلك مِن الأسماء، مقصودُها واحدٌ ولها أصلان:
أحدهما: ألاَّ يعبدَ إلا اللهُ.
والثاني: ألاَّ يعبدَه إلا بما أَمَر وشَرَع، لا يعبده بغيرِ ذلك مِن الأهواء والظنون..." (ص: 71).

ويقول: "فكلُّ عمَلٍ أُريد به غيرُ الله لم يكُن لله، وكل عملٍ لا يُوافق شرْعَ الله لم يكُنْ لله، بل لا يكون لله إلاَّ ما جمَع الوصفين: أن يكونَ لله، وأن يكونَ موافقًا لمحبَّةِ الله ورسولِه، وهو الواجب والمستحب.

وهذا الأصلُ هو أصلُ الدِّين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيقُ الدِّين، وبه أَرْسَل الله الرُّسلَ وأنزل الكتُبَ، وإليه دعا الرسولُ وعليه جاهَد، وبه أمَر وفيه رغَّب، وهو قُطْبُ الدين الذي تدور عليه رَحاه" (ص: 120-121).

ج- وابن تيمية - رحمه الله تعالى - يُنبِّه إلى المنهج الخاطِئ في فَهم الدين، وتناول قضاياه، ويُنبِّه إلى أنَّه ليس من (التفويض) أبدًا اعتقادُ نقيض مدلول اللفْظِ، فيقول: "وهؤلاء... عُمدتُهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعْلُهم ما يرونه وما يهوَونه حقيقةً، ويأمرون باتِّباعها دون اتِّباع أمْر الله ورسولِه، نظير بدع أهل الكلام مِن الجهميَّة وغيرهم الذين يجعلون ما ابتدعوه مِن الأقوال المخالِفة للكتاب والسُّنَّة حقائقَ عقليَّةً يجب اعتقادُها دون ما دلَّت علية السمعياتُ، ثم الكتاب والسنة، إمَّا أن يُحرِّفوا القولَ فيهما عن مواضعه، وإما أن يُعرِضوا عنه بالكلية فلا يَتدبَّرونه ولا يَعقِلونه، بل يقولون: (نُفوِّض معناه إلى الله) مع اعتقادِهم نَقيضَ مَدلولِه!!" (ص: 67).

د- ومِن الأصول التي اعتمدَها عدمُ قَبول المتناقضات، وتقديم (المبادئ) على (الرجال)، ومِن ثَمَّ عدَم التسليم والقَبول بما نُقِل عن المشايخ ممَّا يخالف الدِّين: فهو "إمَّا كذبٌ عليهم، وإما غلطٌ منهم" (ص: 115، وانظر ص119 و126).

وقدْ رأى أنَّ القَبول بما قال السابقون كيف كان، إنَّما هو دَيدنُ أهل الكتاب، وهو لا يَليق بالإسلام الذي برَّأه الله مِن الاختلاف والتعارض: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وحَفِظ أصوله، وألْهَم أهله إلى منهجِ البحث فيه، وجعَلَه حُجَّةً على الناس إلى يومِ القيامة، ولم يَرْضَ من أحدٍ غيرَه.

وهكذا طارَدَ ابنُ تيمية - بالحُجَّة والمنطق - مظاهرَ السُّخْفِ والانحراف التي لحِقَتْ بعقول المسلمين وعقائدهم وأعمالهم، سواء في موضوع (العبودية) أو غيرها، وخَلَّص الفِكر مِن مِثل هذه السخافات بقوله: "وكثير مِن السالكين سَلَكوا في دعوى حبِّ الله أنواعًا مِن أمور الجهل بالدِّين: إما مِن تَعدِّي حدود الله، وإما مِن تَضييع حقوقِ الله، وإما مِن ادِّعاء الدعاوى الباطلة التي لا حَقيقةَ لها كقولِ بعضهم: أيُّ مُريدٍ لي ترَك في النار أحدًا فأنا بريءٌ منه!!

فقال الآخر: أيُّ مريدٍ لي ترَك أحدًا مِن المؤمنين يَدخُل النار فأنا منه بريء!!".

قال ابن تيمية: "فالأوَّل: جعَل مُريدَه يُخرِج كلَّ مَن في النار.
والثاني: جعَل مُريدَه يمنع أهلَ الكبائر مِن دخول النار.

ويقول بعضُهم: إذا كان يومُ القيامة نَصبتُ خيمتي على جهنَّمَ حتى لا يَدخلَها أحد.

وأمثال ذلك مِن الأقوال التي تُؤثَر عن بعضِ المشايخ المشهورين، وهي إما كذبٌ عليهم، وإما غلطٌ منهم" (ص: 114-115).

لقدْ كان اطِّلاعي على هذه الرسالة - أوَّل مرة - غُنمًا، وكان خبَر تجديد طبعها بُشرَى، فوجدتُ أقلَّ الواجب - عندما دَعاني المكتبُ الإسلامي إلى تقديمها بعدَ طبعها - أن أقرَأَها مِن جديد في هذه الطبعة، وأُقدِّمها، وإنْ كان غيري مِن أهل العلم أَوْلَى مني بهذا التقديم، وإني لأرجو أن يُتيحَ الله لها طبعةً جديدة محقَّقة على نسخة مخطوطة، أو أكثر في الظاهرية أو غيرها.

وأنا أخشى عادةً مِن المقدِّمة - فكيف وقدْ طالت - أن تقطَع عن قِراءة ما بعدَها، كما أني أخْشَى أن تَحُولَ بين القارئ وبين رُوح النصِّ المقدَّم وحقائقه؛ ولذا أُوصي القارئَ الكريم ألاَّ يُقلِّدني في رأي ارتأيته، ولا في فَهمٍ فَهمتُه، والحقُّ على خلافِ ما رأيت، إلا أنِّي أردتُ فائدةَ القارئ على كلِّ حال، وأسأل الله لي وله الهدايةَ والتوفيق إلى الحقِّ مِن الأفكار، والخير مِن الأعمال.

وإني أعتقِدُ أنَّ هذه الرسالة مِن أفضل ما يُهدَى لأرباب الفِكر وأهل العِلم وطلاَّب الحقِّ والخير، وأنا أرجو لشبابنا خيرًا كثيرًا في قِراءتها وقراءة أمثالِها مِن تراث ابن تيمية، ذلك المجدِّد والمصلِح العظيم.

وبعد، فأليستْ دِراسة التراث التَّيمي - وقد أرْبى على ثلاثمائة مؤلَّف - ضرورةً مِن ضرورات نهضتنا؛ وذلك لبنائها على أصولنا - لا على أصول غيرنا؟!

أوَليسَ عجيبًا أن تبقَى جامعاتنا في العالم الإسلامي والوطن العربي وكليَّات الشريعة، والحقوق، والآداب والفلسفة، والتربية، فيها؛ مصروفةً عن دِراسة هذا التراث وإحيائِه ونَشْرِه والإفادة منه، مع ما يُقدِّمه مِن العونِ؛ ليكونَ تفكيرنا أكثرَ غِنًى وازدهارًا، وأصالةً ونقاءً؟!


هل ننتظِر - للقيام بهذا الواجب - إشارةً مِن أوربة أو غير أوربة، ويكون شأنُنا مع هذا المفكِّر الأصيل والعبقري العظيم كشأنِنا حتى الآن - في الغالب - لا نَنتبِه إلى عَظمةِ العظيم فينا إلا إذا نبَّهنا الغربُ إليه، أو لا نقرّ لإنسانٍ بالعظمة حتى يكونَ مِن الغرب أو مِن أولياءِ الغرْب؟!

هذا ما يسَّر الله لنا، والخيرَ أرْدَنا، وآخِرُ دعوانا أنِ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 2 - 5][14].


[1] هذه مقدِّمة الشيخ عبدالرحمن الباني لكتاب "العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد زهير الشاويش، وتخريج محمد ناصر الدِّين الألباني، المكتب الإسلامي ببيروت، ط7 ، 1426هـ - 2005م.

[2] هو عِياضُ بن موسى بن عِياض، عالِمُ المغرب، وإمامُ أهلِ الحديث في وقتِه، مِن تصانيفه: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، و"الغنية"، وُلِد في سبتة سنة 476، وتُوفِّي بمراكش سنة 544، وقد زَعَم بعضُهم أنَّ شيخَ الإسلام ابن تيمية قد انتقَص القاضي عياضًا! والحقُّ يقال: إنَّه أثْنى عليه بما هو أهلُه في أكثر من موضعٍ في كتبه، وعابَ عليه إيرادَه الواهيات في كتابه "الشفا".

[3] زِيادة اقتضاها المقام.

[4] ويلحق به ما يُسمُّونه: (وحْدة الشهود، والاتحاد، والحلول)، تعالى اللهُ عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

[5] جاءتْ هذه الملاحظةُ والنصيحة في أوائل عام1382 هـ (في الطبعة الأولى)، وما تزال الحال هي الحال - على ما يَبتغي العدوُّ ويُنكِر الناصح المشفق - ونحن الآن في عام 1389 هـ (وفي الطبعة السابعة 1426 هـ) - على ما كنَّا فيه، مع ما أصابنا مِن أحداثٍ ضِخام فيها لِمَن اعتبر عِبرةٌ زاجرة.
﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]، والله المستعان، وواجِب التذكير مستمر، كتَب الله الهدايةَ لجميعِ المسلمين.

[6] ويعبر عنه أحياناً ابن تيمية بـ (العقل السليم) كما ورد في ص (97)، ولابن تيمية كتاب كبير عنوانه "بيان موافقة صريح المعقول لصحيح"، ويسمى أيضاً "درء تعارض العقل والنقل"، وكان مطبوعاً (بعضه) على حواشي "منهاج السنة" له. وصدر جزآن فقط ـ فيما أعلم ـ من الطبعة الثانية بمطبعة أنصار السنة بمصر. (ثمّ طُبع كاملاً بتحقيق د.محمد رشاد بن توفيق سالم 1347-1407هـ) رحمه الله). الذي قام ببحثٍ وافٍ في الفكر التيمي عامةً، وفي هذا الجانب العظيم من فلسفته بوجهٍ خاص، وقد كانت رسالته للحصول على الدكتوراة في مذهب ابن تيمية في التوفيق بين العقل والنقل.

[7] يُراجع كتاب: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لأبي الحسن النَّدوي (1332-1420هـ) ط2 ص: 144، وفيه كلامٌ جيِّد بشأن النزعة الخياليَّة غير الفطرية لدَى غير المسلمين.

[8] طبَعَه المكتب الإسلامي للمرَّة الأولى سنة 1381 هـ بدمشق، مِن غير ذِكْر اسم المحقِّق والمخرِّج، ثم طبع بعدَ ذلك مرات، وذكر أنَّه من تحقيق الشيخ الشاويش، وتخريج الشيخ الألباني - رحمه الله.

[9] ونحن اليوم - بعدَ أن غُلبنا لأوربة (وأمريكا) سياسةً وحضارةً، وفكرًا ومنهجًا - أصبحنا في أشدِّ الحاجة إلى أن نَعرِف منهجَنا الإسلامي الأصيل.

[10] وابن تيمية قد زَيَّف انحرافاتهم، وبيَّن تناقُضَ أقوالهم بمنهجه العقلي النقلي، والشرعي الفلسفي، وهذا الجانب النقدي يؤلِّف شطر فلسفته، وممَّن نبَّه إلى أنَّهؤلاء ليسوا هم فلاسفة الإسلام، وأنَّ فلسفتهم ليست هي الفلسفة الإسلامية: الشهيد سيِّدُ قطب - رحمه الله - في كتابه: "العدالة الاجتماعيَّة في الإسلام".

[11] يراجع كتاب "روائع إقبال" للنَّدوي.

[12] يقول الأستاذ محمد كرد علي (1293-1372هـ) في ترجمته لابن تيمية: (ولو ادعينا أنه لم يأت عالم [مثله] يعرف ما طرأ على الدين ومذاهب أهله فيه ساعة ساعة ويومًا يومًا ما قدر أحد على رد دعوانا) ص16، ط. المكتب الإسلامي.

[13] يراجع كتاب: "القياس في الشرع الإسلامي" الذي نشَرَه الأستاذ السيد محب الدين الخطيب (1303-1389هـ)، وهو مجموعٌ كتَبه في هذا الباب ابنُ تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وانظر مجلَّة "الزهراء" (4/569).

[14] وقدْ نقَّحتُ هذه المقدمة على فترات آخِرها يوم الثلاثاء 15 جمادى الأولى سنة 1389 هـ.
(وقد سرَقها مَن سرَق الكتاب، قبل أن تُنقَّح وتصحَّح، ولا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله.
واليوم نُعيد نشرَها مع هذا الكتاب، وقد مضَى عليها رُبُع قرن، والأمَّة ما زالت بحاجةٍ إلى ما كتَبَه أستاذُنا الفاضل الشيخ عبدالرحمن الباني - حفظه الله تعالى -.. زهير الشاويش.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 137.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 135.13 كيلو بايت... تم توفير 2.81 كيلو بايت...بمعدل (2.04%)]