|
|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
:: سلسلة رموز الإصلاح
:: سلسلة رموز الإصلاح العلاّمة عبد الحميد بن باديس أسامه شحادة العلاّمة عبد الحميد بن باديس تمهيد: دور العلامة ابن باديس في استقلال الجزائر عن فرنسا دور مركزي، إذ كان ابن باديس وطِيلة ربع قرن هو رافع لواء الهوية الإسلامية والعربية للجزائر في وجه فرنسا، والمحرض على رفض الذوبان والاندماج في الهوية الفرنسية، حتى كاد أن يعلن الثورة المسلحة عليها لولا أن توفاه الله عز وجل. وهذا الدور المركزي لابن باديس لا يتضح إلا إذا فهمنا تاريخ الجزائر مع الاحتلال الفرنسي الذي استمر 130 عاماً، عانت فيه الجزائر وأهلها أشد المعاناة من التشريد والحبس والقتل ومصادرة الأموال والأراضي فضلاً عن محاربة الإسلام والعروبة، وكانت استراتيجية فرنسا ضم الجزائر لها نهائياً وإرسال فرنسيين لها ليكونوا سكاناً للجزائر بدل أهلها، في نموذج سابق على جريمة المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين اليوم. ولم يقف الجزائريون أمام هذا الوضع مكتوفي الأيدي، بل قاموا بمقاومة فرنسا عسكرياً ومدنياً بحسب ما قدروا عليه، وهو الذي سنفصل فيه قليلاً لنفهم الخلفية التاريخية التي جاء فيها ابن باديس. الاحتلال الفرنسي للجزائر: بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789م أصيبت فرنسا بانهيار اقتصادي وتعرضت لمجاعة قاسية نتيجة للحصار الاقتصادي والعسكري اللذين فرضتهما الدول الأوربية المعادية للثورة الفرنسية، ولم تجد فرنسا أمامها إلا اللجوء إلى الجزائر لشراء القمح منها، فما كان من والي الجزائر الداي حسين باشا إلا أن وضع تحت تصرفها فائض المحصول من الحبوب وأقرضها ربع مليون فرنك دون فائدة لشراء ما يلزمهم، ومن أجل ذلك أسست الحكومة الفرنسية خطاً ملاحياً خاصاً لنقلها. وكانت فرنسا قد اعتمدت شركة يملكها يهوديان وسيطة بينها وبين الجزائر، حيث كانت تشتري من الجزائر بسعر وتبيع لفرنسا بسعر مرتفع بالأجل، مما رتب على فرنسا ديوناً تجارية للجزائر، أخذت تماطل في سدادها. وفي عام 1827 حين قدم قناصل الدول الأجنبية لزيارة حاكم الجزائر الداي حسين لتهنئته بعيد الفطر، جرى حوار بينه وبين "دوقال" قنصل فرنسا وطلب منه أن يبلغ حكومته بضرورة الإسراع في تسديد الديون التي عليها للجزائر، فأساء القنصل الفرنسي الرد، فأمره الداي حسين بالخروج من حضرته، لكن "دوقال" لم يستجب للأمر، فقام الباشا بضربه بالمروحة التي كانت في يده، فكتب القنصل إلى بلاده بما حدث، وادّعى أنه ضُرب ثلاث مرات. فاتخذت فرنسا من هذه الحادثة ذريعة للتخلص من ديونها للجزائر من جهة واستغلالها لمحاولة احتلال الجزائر والاستيلاء على خزينتها التي تحتوي على 150 مليون فرنك!! فأرسلت فرنسا قطعة من أسطولها إلى الجزائر وطلب قائده من الداي حسين الاعتذار للقنصل إلا أنه رفض، فحاصر الفرنسيون الجزائر ثلاث سنوات، تكبدت فيها فرنسا الكثير من النفقات وضربت تجارة فرنسا، دون أن يعتذر الداي لهم. وفي عام 1830 قام ملك فرنسا بإعلان الحرب على الجزائر وأعطاها طابعاً دينياً حيث اعتبرها "حملة مسيحية على بلاد البرابرة المسلمين"، وأنها في صالح كل العالم المسيحي. ومما ساعد على فرض الحصار والاحتلال في النهاية أن الأسطول الجزائري كان قد تحطم في معركة نافارين في شبه جزيرة المورة باليونان عام 1827. جرائم الإحتلال الفرنسي بالجزائر: لنأخذ لمحة سريعة عن جرائم فرنسا تجاه الجزائر والجزائريين ونقارن بين أقوال الفرنسيين أنفسهم، ففي حين كان المنشور الذي وزعه الفرنسيون في بداية الاحتلال يقول: " إننا نحن أصدقاءكم الفرنسيين نتوجه الآن نحو مدينة الجزائر، أننا ذاهبون لكي نطرد الأتراك من هناك، إن الأتراك هم أعداؤكم وطغاتكم الذين يتجبرون عليكم ويضطهدونكم والذي يسرقون أملاككم وإنتاج أرضكم، والذين يهددون حياتكم باستمرار، إننا لن نأخذ المدينة منهم لكي نكون سادة عليها. إننا نقسم على ذلك بدمائنا وإذا انضممتم إلينا، وإذا برهنتم على أنكم جديرون بحمايتنا فسيكون الحكم في أيديكم كما كان في السابق، وستكونون سادة مستقلين على وطنكم. إن الفرنسيين سيعاملونكم كما عاملوا المصريين، إخوانكم الأعزاء، الذين لم يفتأوا يفكرون فينا ويتأسفون على فراقنا طيلة الثلاثين سنة الماضية، منذ خرجنا من بلادهم، والذين ما يزالون يرسلون أبناءهم إلى فرنسا يتعلموا القراءة والكتابة ولكل فن وحرفة مفيدة، ونحن نعدكم باحترام نقودكم وبضائعكم ودينكم المقدس، لأن ملك فرنسا المعظم حامي وطننا المحبوب، ويحمي كل دين. فإذا كنتم لا تثقون في كلمتنا وفي قوة سلاحنا، فابتعدوا عن طريقنا ولا تنضموا إلى الأتراك الذين هم أعداؤنا وأعداؤكم، فابقوا هادئين. إن الفرنسيين ليسوا في حاجة إلى مساعدة لضرب وطرد الأتراك، إن الفرنسيين هم، سيظلون أصدقاءكم المخلصين فتعالوا إلينا وسنكون مسرورين بكم وسيكون ذلك فرصة لكم، وإذا أحضرتم إلينا الأطعمة والأغذية والأبقار والأغنام فنسدفع ثمن ذلك بسعر السوق، وإذا كنتم خائفين من سلاحنا فأشيروا علينا بالمكان الذي يقابلكم فيه جنودنا المخلصون دون سلاح مزودين بالنقود في مقابل التمويل الذي تأتون به". قارن هذا بما جاء في تقرير اللجنة الإفريقية عام 1833 إلى الحكومة الفرنسية التي كانت كلفتها بالتحقيق في الجرائم كما يلي: "لقد حطمنا ممتلكات المؤسسات الدينية وجردنا السكان الذين وعدناهم بالاحترام.. وأخذنا الممتلكات الخاصة بدون تعويض.. وذبحنا أناسا كانوا يحملون عهد الأمان.. وحاكمنا رجالا يتمتعون بسمعة القديسين في بلادهم.. لأنهم كانوا شجعانا..". أما الضابط الفرنسي مونتايناك فيقول: "هذه هي طريقتنا في الحرب ضد العرب.. قتل الرجال وأخذ النساء والأطفال ووضعهم في بواخر ونفيهم إلى جزر الماركيز البولينيزية باختصار: القضاء على كل من يرفض الركوع تحت أقدامنا كالكلاب، لقد أحصينا القتلى من النساء والأطفال فوجدناهم ألفين وثلاثمائة، أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر لسبب بسيط هو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة". أما سيمون دو بوفوار فكتبت تقول: "مند عام 1954 ونحن جميع الفرنسيين شركاء في جريمة قتل جماعي، أتت تارة باسم القمع وطورا باسم إشاعة السلام على أكثر من مليون ضحية رجالا ونساءً وشيوخا وأطفالا حصدوا بالرشاشات خلال عمليات المداهمة والتفتيش، أو حرقوا أحيانا من قراهم أو ذبحوا أو بقرت بطونهم، أو عذبوا حتى الموت. قبائل برمتها أسلمت للجوع والبرد، للضرب للوباء في مراكز التجميع التي ما هي في الواقع إلا معسكرات استئصال ومواخير عند الاقتضاء للنخبة من فرق الجيش، حيث يحتضر أكثر من 500,000 جزائري وجزائرية". ويمكن تعداد صنوف الإجرام الفرنسي تجاه الجزائر بالتالي: 1- توطين الفرنسيين والأوروبيين في أملاك الجزائريين بعد طردهم منها أو قتلهم، وقد وصل عدد المستوطنين إلى مليون مستوطن. 2- إرهاق الجزائريين بالضرائب، رغم فقرهم، ومصادرة أموالهم والتساهل مع المستوطنين. 3- إصدار قانون الأهالي (الأنديجينا)، وهو قانون ظالم يكبّل حياة الجزائريين. 4- مصادرة الأوقاف، ومحاصرة القضاء الشرعي. 5- منع استخدام اللغة العربية أو تدريسها حتى في البيوت. 6- تمكين اليهود من الاستيطان في الجزائر ومنحهم الجنسية الفرنسية، حتى وصل عددهم إلى 30 ألف يهودي. الاحتلال الفرنسي يحارب التعليم ويدعم الطرق الصوفية: عمل الاحتلال الفرنسي على ضرب التعليم في الجزائر، لأن الشعب المتعلم سيكون شوكة في حلق المستعمر والمحتل، ورغم أن الجزائريين كانوا يتفوقون على الفرنسيين بنسبة التعليم قبل الاحتلال الفرنسي لبلادهم، يقول الجنرال فالز في سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبًا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية... وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر كانون الأول عام 1831م، يقول: (لقد بحثتُ قصدًا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب).. وقد أحصيت أكثر من 2000 مدرسة في الجزائر سنة 1830م، ما بين ابتدائية وثانوية وعالية. لكن الاحتلال الفرنسي عمل بكل قوة على محاربة العلم والمعرفة في الجزائر، فالفرنسيون عندما دخلوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، في سلوك همجي بربري. وحاربوا المدارس والتعليم، حتى أنه بعد أقل من قرن على (الاستعمار) أصبح أطفال الشعب الجزائري أميين لا يعرف القراءة والكتابة منهم إلا 5 % سنة 1914، وذلك بفضل سياسات فرنسا وتعاون الطرقيين معها أحباب الجهل والخرافة!! كان الفرنسيون يعرفون أن أصحاب الطرق من مشايخ الصوفية في الجزائر سيكونون خير سند لهم، لأنه يبحثون عن مصالحهم المادية وهو ما يمكن لفرنسا أن تمنحهم إياه في مقابل تسكين الشعب الجزائري وقبوله للاحتلال الفرنسي. ولذلك زادت عدد الطرق وأتباعها بشكل مخيف في الجزائر في عهد الاحتلال، حتى أصبح في العاصمة لوحدها 23 طريقة صوفية، لها 349 زاوية، فيها 57 ألف شيخ و6 ألاف مقدم، ويتبعها 295 ألف مريد، وحصيلة تبرعاتهم 7 ملايين!! يقول مالك بن نبي في مذكراته "مذكرات شاهد القرن" ص 181: "هكذا كان الناس يشهدون كل عام موكب (القادرية) المهيب يأتي إلى (أفلو). راية ترفرف، وعلى رأسها ابن شيخ الطريقة (المقدّم) يلبس الثياب الخضراء من رأسه إلى قدميه، إنها ثياب أهل الجنة، وهو ذو ذكاء شيطاني يعرف كيف يبتزّ من السذاجة العامة للناس كل ما يريد. لقد كان يملك في تلك الفترة في (وادي سوف) بستاناً للنخيل، مؤلفاً من حوالي ألف نخلة، وهو من هبات أولئك الذين يريدون أن يدخلوا الجنة في موكبه". أما علاقتهم بفرنسا فيلخصها شيخ الطريقة التيجانية محمد الكبير في حديثه للكولونيل يسكوني: "إن من الواجب علينا إعانة حبيبة قلوبنا فرنسا ماديا وأدبيا وسياسيا، إن أجدادي قد أحسنوا صنعا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أن تصل إلى بلادنا، ففي عام 1838 م كان أحد أجدادي قد أظهر شجاعة - نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا (عبد القادر الجزائري) وفي عام 1870 حمل سيدي أحمد تشكرات الجزائريين وبرهن على ارتباطه بفرنسا قلبيا، فتزوج من (أوريلي بيكار) وهو أول مسلم جزائري تزوج بأجنبية على يد الكردينال (لا فيجري) على حسب الطقوس المسيحية"، ولا نحتاج لتعليق على هذه الشهادة الصريحة في العمالة والخيانة. ولذلك كانت معركة ابن باديس مع هؤلاء الطرقيين في البداية، ليطهّر الصف الجزائري قبل أن يصطدم بالفرنسيين. حركات المقاومة الجزائرية ضد فرنسا لم يقف الجزائريون مكتوفي الأيدي أمام الاحتلال الفرنسي بل قاوموه وتصدوا له في عدة محاولات كان أبرزها مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري والتي استمرت 15 عاما (1832 – 1847)، ورافقها وتبعها عدد من المحاولات الجهادية لكنها لم تنجح في دحر الفرنسيين وإنما إيقاع خسائر جسيمة بها. كما كانت هناك عدة محاولات سياسية لمقاومة فرنسا عقب الحرب العالمية الأولى مثل حركة الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر، والتي عرفت باسم "وحدة نواب المسلمين" سنة 1919، وحركة "نجم شمال إفريقيا" التي أسسها عدد من العمال المغاربة المهاجرين في فرنسا سنة 1926، وحركة "اتحاد المنتخبين المسلمين الجزائريين" سنة 1927. الإصلاح السلفي في الجزائر قبل ابن باديس: لقد دخلت الجزائر في الإسلام على يد التابعين تحت قيادة أبي المهاجر دينار، ولذلك شهدت الجزائر ظهور العديد من الشخصيات السلفية في تاريخها مثل الفقيه أبي الفضل النحوي من علماء القرن الخامس الهجري، وأبي الحسن علي بن الحق الزويلي (ت 719هـ)، وتلميذه الحافظ ابن مرزوق الحفيد، وأحمد زروق في القرن العاشر الهجري وتلميذه ابن علي الخروبي، مثلما ظهر عبد الرحمن الأخضري (ت 953هـ)، وجاء بعده في القرن الحادي عشر الشيخ عبد الكريم بن الفكون (ت 1073هـ)، والشيخ محمد بن عبدالله الجلالي معاصر أحمد التيجاني الصوفي. ولذلك فالسلفية ليست طارئة على الجزائر بل إن المذهب المالكي الذي يتبعه غالبية الجزائريين هو عين السلفية، ولذلك حين ظهرت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية رأينا بعض الحجاج الجزائريين والمغاربة يؤيدها مثل ملك المغرب المولى سليمان، والسيد محمد السنوسي مؤسس الحركة السنوسية، والمؤرخ الجزائري أبو رواس الناصري الذي كان أول من عرّف الجزائريين بدعوة محمد بن عبد الوهاب. وكان للطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة أو القرويين أو بتأثير الحركة السنوسية دور في حمل الدعوة السلفية والدعوة الإصلاحية، مثل الشيخ ابن الموهوب والشيخ صالح بن مهنا، والشيخ عبد القادر الجاوي (ت 1913) والذي من طلابه الشيخ حمدان الونيسي شيخ ابن باديس، والشيخ مصطفى بن الخوجة (ت 1915) وعمر بن قدور (ت 1915)، وممن ظهر في هذه المرحلة من المصلحين السلفيين الأستاذ محمد بن أبي شنب (ت 1929) والشيخ عبد الحليم بن سماية (ت 1933). ولا ننسي هنا أن مجلة المنار التي يصدرها العلامة رشيد رضا كانت تصل للجزائر وأن محمد عبده زار الجزائر سنة 1903، وقد كان الجزائريون متعلقين بمجلة المنار بصورة كبيرة، لدرجة أنهم طالبوا رشيد رضا بألاّ يتعرض لفرنسا حتى لا تنقطع عنهم المنار!! مولد ونشأة ابن باديس: ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي ابن باديس سنة (1308هـ/ 1889م) في مدينة قسنطينة لأسرة عريقة بالعلماء والأمراء والسلاطين. ومن أشهر رجالات هذه الأسرة المعز لدين الله بن باديس مؤسس الدولة الصنهاجية (حكم: 406-454هـ/1016-1062م) الذي قاوم البدعة ونصر السنة وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة. ومن أجداده العلماء الشيخ المفتي بركات بن باديس دفين مسجد سيدي قمّوش بقسنطينة، والشيخ أحمد بن باديس الذي كان إماما بقسنطينة أيام الشيخ عبد الكريم الفكون في القرن الحادي عشر الهجري. وبقيت أسرته من الأسر التي تشارك في الحكم، فجدّه لأبيه: الشيخ المكي بن باديس كان قاضيا مشهورا بمدينة قسنطينة وعضوا في المجلس العام وفي المجلس البلدي، وعمه أحميدة بن باديس كان نائباً عن مدينة قسنطينة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ورفع عريضة مع ثلاثة من النواب عام 1891م بأنواع المظالم والاضطهادات التي أصبح يعانيها الشعب الجزائري على يد الإدارة الاستعمارية الفرنسية ومن المستوطنين المهاجرين. كما أن من عائلة ابن باديس من كانوا قادة كباراً في ثورة الأمير عبد القادر الجزائري وتم أسرهم وسجنهم في باريس، وأفرج عنهم مع الأمير عبد القادر الجزائري في عام 1852م وتم نفيهم إلى الشام. لقي ابن باديس كل عناية ورعاية من والده الذي توسم فيه النباهة، حتى قال له: "يا عبد الحميد، أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عليك وأقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فأكفني أمر الآخرة، كن الولد الصالح الذي ألقى به وجه الله". وهو ما بقي يعترف به عبد الحميد، فقد قال في حفل ختم تفسير القرآن سنة 1938، وأمام حشد كبير من المدعوين ثم نشره في مجلته الشهاب: "إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي ربّاني تربية صالحة ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها ومشرباً أرده، وبراني كالسهم وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً، وكفاني كلف الحياة... فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر". أتم عبد الحميد بن باديس حفظ القرآن في سن الثالثة عشرة، ثم تتلمذ على الشيخ حمدان الونيسي، والذي نصحه بنصيحة سار عليها ابن باديس طيلة عمره، حين قال له: "اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة"، بل أخذ عليه عهداً ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا. ثم تاقت نفسه للاستزادة من العلم فسافر لتونس في سنة (1327هـ - 1908م) والتحق بجامع الزيتونة وبقي هناك أربع سنوات، فدرس على العلماء وخاصة العلاّمة «محمّد النخلي القيرواني» والشيخ العلامة محمّد الطاهر بن عاشور، واستفاد من الشيخ الخضر حسين والمؤرخ البشير صفر والمصلح المجدد سعد الفياض، وقد كان جاداً في التحصيل حتى أنه اختصر دراسة الزيتونة من سبع سنوات إلى ثلاث سنوات فقط، ومكث بعدها سنة يدرس تطوعا على عادة جامع الزيتونة، وبذلك حصل على شهادة التطويع. ولم يكتف بدروس الزيتونة بل ذهب للجمعية الخلدونية التي كانت تدرس العلوم العصرية مثل الحساب والمساحة والجغرافيا والكيمياء والطبيعيات، فتعلم العلم الشرعي وأصبح على دراية بما يحيط بالأمة من أحوال وتحديات. ثم في عام 1913 عاد لدياره ولم يتجاوز عمره 23 سنة، ليباشر التدريس بالجامع الكبير، بسبب نفوذ والده وعلاقاته بالإدارة الفرنسية، لكن المغرضين من أصحاب الأهواء سرعان ما عارضوه وناصبوه العداء، حتى أنهم أطفأوا النور عليه وهو يدرس بالمسجد، فقرر السفر لبيت الله الحرام في نفس العام. اللقاء بالبشير الإبراهيمي بالمدينة المنورة: في المدينة لقي ابن باديس الكثير من العلماء المجاورين فيها أو الزائرين لها مثله، ومن أبرز من قابل فيها شيخه القديم حمدان الونيسي الذي طلب منه الإقامة عنده في المدينة، وهو الأمر الذي عارضه الشيخ حسين الهندي الذي أشار عليه بالعودة للوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية، وهي النصيحة التي نفذها ابن باديس على أحسن وجه، وبقيت استراتيجيته حيث قال عن نفسه: "فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية، بجميع مدعماتها، في هذا الوطن". أبرز ما حدث مع ابن باديس في المدينة تعرفه على رفيق دربه ونضاله فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي، والذي سبق ابن باديس في سكن المدينة والاستقرار فيها مع والده قبل أكثر من سنة على لقائهما، وبقي هناك حتى 1920، حيث جاء للجزائر ليكمل مع ابن باديس طريق الدعوة التي بدأها. فقد مكث ابن باديس والإبراهيمي ثلاثة أشهر يلتقيان يوميا بعد العشاء وحتى الفجر يتدارسان أحوال الجزائر وكيفية إصلاحه وبث النهضة الدينية والعلمية والسياسية فيه. وقد بين لنا البشير الإبراهيمي محتوى هذه اللقاءات حين قال: "وأشهدُ الله على أن تلك الليالي من عام 1913 هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعيّة العلماء المسلمين والتي لم تبرز للوجود إلا عام 1931». العودة للجزائر: في عودته للجزائر زار ابن باديس بلاد الشام ومصر حيث اجتمع برجال العلم والأدب وأعلام الدعوة السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ الونيسي، فرحب به وأجازه ومنحه العالمية الأزهرية، وقد منحته هذه الرحلة معرفة واقع البلاد الإسلامية مما وسع مداركه وأكسبه خبرة غنية بتجارب سابقة، كما مكنته من التعرف بقادة الإصلاح فيها، ولذلك سنجد فيما بعد أن ابن باديس له صلات بكثير من رجالات الإصلاح في العالم العربي، وأن كثيراً من رجالات الإصلاح يتابع أخبار ومجلات ابن باديس. حين وصل ابن باديس للجزائر، قام بعدة جولات بالقطار لأرجاء الجزائر ليتعرف عليها ويتعمق في فهم مشكلاتها. بداية الدعوة والجهادي الفردي: منذ عودة ابن باديس نهاية عام 1913 وحتى تأسيس جمعية العلماء المسلمين سنة 1930، سيكون ابن باديس شعلة من النشاط والحركة في سبيل نهضة الجزائر وتحررها، من خلال إنشاء جيل جزائري جديد يقوم بهذه المهمة. فمنذ عودته بدأ بإلقاء الدروس في المسجد الكبير ثم تحول للمسجد الأخضر وهو المركز الرئيس لنشاطه ومساجد سيدي قموش وسيدي عبد المؤمن وسيدي بومعزة وسيدي فتح الله، حيث استحصل له أبوه على تصريح بذلك، ولم تقتصر دروسه على الكبار، بل خصص دروساً للصغار أيضاً بعد خروجهم من درس الكتاتيب القرآنية، وهذا أمر لم يكن معهوداً قبله. وكانت دروسه تقام طوال النهار والليل، حيث كان يدرس عشرة دروس في اليوم، يتنقل فيها بين المساجد والنوادي، فانهال عليه الطلاب من كل مكان، حتى أصبح عنده أكثر من ألف طالب، وكان يستعين بأهل الخير على إيوائهم وإطعامهم. وهذا تطلب منه التفكير في إنشاء مدرسة ابتدائية قرب مسجد بو معزة، ثم تنتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست في عام 1917، ثم في سنة 1930 عرفت باسم مدرسة التربية والتعليم، تضمن قانون الجمعية: أنها تسعى "لنشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف العربية والفرنسية، والصنائع اليدوية، بين أبناء وبنات المسلمين"، وذلك من خلال تأسيس مدرسة للتعليم، وملجأ للايتام، وناد للمحاضرات، ومعمل للصنائع، وإرسال بعثات طلابية للدراسة في الكليات والتدرب في المعامل الكبيرة على نفقة الجمعية. ومن سعة أفق ابن باديس أن جعل تعليم الفتيات مجانياً بخلاف الطلاب الذين يدفع المقتدر منهم رسوماً رمزية، وذلك لتشجيع التعليم بين الفتيات. وفي هذا يظهر سبق ابن باديس لإنشاء المدارس والجمعيات وتعليم الفتيات خصوصاً، على كثير من الدعوات والتجمعات العلمانية، ولكن للأسف أن هذا الميراث من السبق الحضاري يتنكر له كثير من محبي ابن باديس اليوم بلسان الحال إن لم يجمعوا لسان المقال أيضاً. ومن هذه المدرسة نشأ جيل كامل في الجزائر متشبع بقيم الإسلام ولغته وآدابه، ويستطيع الخطابة ونظم الشعر وإلقاء المحاضرات، وقد أرسل بعض هؤلاء الطلبة للتوسع في العلم بجامع الزيتونة، وبعض آخر للتدرب في المعامل الكبري، وقد اعتمد ابن باديس على هذا الجيل في إنشاء جمعية العلماء المسلمين والقيام بمشروعه الإسلامي الكبير بمقاومة الاحتلال الفرنسي، بعد أن عمل بهدوء ودون ضجة لسنوات عديدة. ومع تدريسه للطلاب إلا أنه أيضاً كان يخصص يوماً لتعليم العمال ويوماً لتعليم النساء. وبعد أن انتشرت الدروس في المساجد وأنشأ المدرسة، فكر ابن باديس بالتوسع في نشر فكره ومشروعه فدخل عالم الصحافة، ففي البداية تعاون مع جريدة النجاح (تأسست 1919) في الكتابة والتحرير، حيث كان يكتب بأسماء مستعارة هي القسنطيني والعبسي والصنهاجي، ثم وجد أنها لا تلبي طموحه فقام بتأسيس صحيفة "المنتقد" الأسبوعية في عام 1925 والتي شنت حملة قوية على العقائد الفاسدة والخرافات الشائعة، واستمرت "المنتقد" 18 عدداً ثم أوقفت بقرار تعسفي من الإدارة المحتلة. وصحيفة المنتقد جاءت كمرحلة جديدة في دعوة ابن باديس وجهاده، إذ رأى ابن باديس أنه بعد 10 سنوات من التعليم، حان الوقت لمهاجمة الطرقية وخرافاتها بقوة، ولذلك جاء هذا الاسم "المنتقد" والذي يهاجم بشكل مباشر وفي الصميم المبدأ الصوفي الطرقي الضال "لا تعترض فتنطرد"، والذي يراد به إلغاء العقول والتفكير والاكتفاء بدور التبعية والتقليد للشيخ مهما كان موقفه خطأ أو ضلالاً. ولكن قناة ابن باديس لم تهن أو تلين فبعد شهر يصدر جريدة "الشهاب" الأسبوعية تحت شعار "تستطيع الظروف أن تخيفنا، ولا تستطيع بإذن الله إتلافنا"، وفي عام 1929 تحولت إلى مجلة شهرية بسبب المضايقات من قبل الإدارة الفرنسية، وكان شعارها: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".. ومن أجل ضمان استمرار صدور المجلتين أنشأ ابن باديس المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة سنة 1925، ليتجنب عوائق صدورهما إذا كانتا تطبعان في مطبعة مستأجرة!! وفي هذه المرحلة يعود زميله الشيخ البشير الإبراهيمي سنة 1920 ليتعاونا في الإصلاح، ويكون لهما لقاء كل أسبوعين أو شهر على الأكثر، لأن البشير الإبراهيمي جعل مركز نشاطه في مدينة سطيف، وفيما بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين سيتقاسم أقطاب الحركة الإصلاحية المسئولية العلمية في المقاطعات الجزائرية الثلاث، حيث سيبقى ابن باديس مشرفاً على مقاطعة قسنطينة بما تضم من القرى والمدن، فيما يتولى الإبراهيمي مسئولية مدينة تلمسان العاصمة العلمية في الغرب الجزائري، أما الشيخ الطيب العقبي فسيكون مشرفاً على مقاطعة الجزائر. ومن الواضح في مسيرة ابن باديس أنه يحاول أن يتجاوز أخطاء وعثرات تجارب المصلحين الجزائريين السابقين، فهو يتجنب أن تكون دعوته ضيقة النطاق سواء على صعيد الجغرافيا أو الشريحة المستفيدة، كما أنه يتجنب أن تكون دعوته فردية مرتبطة بشخصه ولذلك ينشئ مؤسسات: مدرسة/ مجلة/ مطبعة...، ويسعى للتكامل مع زملائه وعدم حصر الدعوة في مكان محدد فيتوزعون على المناطق ويلتقون دورياً، ويحاول أن يتطور مع الأحداث والمستجدات فلا يبقى بنفس الأسلوب مع تطور دعوته وقوته ولذلك نجده يتنقل من المسجد لفتح جمعية، ثم مدرسة، ثم يرسل بعثات للخارج، جريدة ومجلة، ثم مطبعة. يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
شيخ الإسلام محمد العربي العلوي أسامه شحادة شيخ الإسلام محمد العربي العلوي يزخر المغرب عبر تاريخه بعدد كبير من العلماء الأجلاء الذين ساهموا في بناء الدولة المغربية، بما يقدمونه من إسهامات علمية، ونضالات ومواقف بطولية، واجتهادات فقهية، خاصة وأن الملوك المغاربة كانوا يقربونهم دائما إليهم، ويستشيرونهم في الأمور الهامة المتعلقة بالدولة باعتبارهم أهل الحل والعقد. ويعتبر "الشيخ محمد بن العربي العلوي" واحدا من الوجوه العلمية الكبيرة، التي أفرزتها ظروف مغرب القرن العشرين، الذي تزايدت فيه الأطماع الاستعمارية بشكل خطير، والتي أفضت في النهاية إلى احتلال البلاد، كنتيجة حتمية للضغوط العسكرية والسياسية، والمالية، والفكرية، والتجارية التي مورست على النخبة الحاكمة في المغرب، من قِبل الدول الأوربية الطامعة فيه. ومما زاد الأمر تعقيدا أن أوضاع المجتمع المغربي الداخلية في هذه الفترة، كانت متردية نتيجة الجمود الفكري، وانتشار الخرافات والشعوذة، بسبب كثرة الطرق والزوايا، التي ابتعدت بشكل كبير عن روح الكتاب والسنة، مما أدى إلى تشويه الفهم الصحيح للإسلام. حالة المغرب هذه التي تدعو إلى الشفقة والحسرة، اجتماعيا وفكريا، بسبب طغيان الجهل، وسياسيا واقتصاديا، من جراء الاحتلال الأجنبي، هي التي ستجعل شيخنا يعمل بكل ما أوتي من قوة، ضمن الحركة الوطنية، على شن حرب لا هوادة فيها ضد الجهل والطرقية، وضد المستعمر الغاشم للبلاد، مستعملا في ذلك فكره السلفي، وحسه الوطني. ميلاده، نشأته، ودراسته: هو الشريف المصلح شيخ الاسلام أبو مصطفى محمد ابن العربي، ويمتد نسبه رحمه الله إلى محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية (أخو إدريس الداخل للمغرب، وجد الأدارسة). ولد محمد بن العربي العلوي يوم 7 من ذي الحجة عام 1301 أو 1302 هـ / 1884م، بالقصر الجديد بمدغرة، إحدى واحات "تافيلالت". لعبت أسرته دورا كبيرا في تكوين شخصيته وتوجيهه التوجيه العلي القويم، حيث كانت والدته تعينه على حفظ القرآن الكريم، وتحثه على التحلي بالفضائل والأخلاق الإسلامية. ولم يكن دور والده سيدي العربي بأقل من دور والدته في الحرص على تربيته وتوجيهه التوجيه العلمي الصحيح، لأنه كان الأستاذ والمرجع الذي يستعين به الابن على فهم الدروس واستيعابها، وذلك بطرح بعض الأسئلة عليه، وتتبع عمله، ومراقبته عن قرب لاختبار مدى تقدمه في كل ما يدرسه. وبعد أن أدرك الأب أن ابنه قد حفظ القرآن، وبدأ يشق طريقه في الاتجاه العلمي الصحيح، وإرضاءً لطموحات ولده وإرواءً لعطشه العلمي والفكري والسياسي، اصطحبه إلى فاس، العاصمة العلمية والسياسية في بداية القرن العشرين، ليكون قريبا من أهل العلم ومصادر القرارات حول ما يجري في المغرب من أحداث وتطورات، بعد أن ترك زوجته وأولاده بمدغرة. وبفاس استطاع الشيخ العربي أن يجد لابنه مسكنا في "مدرسة الصفارين"، وبقي مع ولده بفاس بضع سنوات، يخفف من ألم غربته، ويشد أزره، ويذلل معه كل الصعوبات التي تعترض دراسته التي كان يتابعها "بالمدرسة المصباحية"، المركز الرئيسي آنذاك للدراسات العلمية والأدبية والتاريخية والمنطقية والفلكية، بالإضافة إلى التفسير والحديث وغيرها من العلوم. أما أساتذته "بجامعة القرويين" فنذكر منهم: - الفقيه عبد السلام بناني، قرأ عليه "المختصر الخليلي" للخرشي والدردير وجل "صحيح البخاري" وشرح "الألفية" للمكودي، وغير ذلك من المؤلفات. - الفقيه محمد بناني، قرأ عليه "منظومة الخزرجية في العروض" بشرح الزموري. - التهامي جنون، قرأ عليه بعض دروس من "المختصر" للخرشي و"صحيح" الإمام البخاري، وغير هؤلاء العلماء الذين درس عليهم وهم كثير. ويروى أن والده العربي، دخل ذات يوم عليه فوجده منكبا على المطالعة والتحصيل، فقال له: "الآن أودعك لأنك تذوقتها"، يقصد الدراسة، فما مرت بضع سنوات حتى أصبح محمد بن العربي لامعا يشهد له بذلك شيوخه، وفي مقدمتهم شيخ الجماعة آنذاك أحمد بن الخياط. اتجاهه الديني: كان محمد بن العربي العلوي في بدايته صوفيا في "الطريقة التجانية"، التي عرفت انتشارا كبيرا في "تافيلالت" كباقي الطرق الأخرى مثل "الدرقاوية" و"العيساوية" وغيرهما، وكان يدافع عن الطرق وأهلها، إلا أنه بعد عدة عقود من الزمن، سوف يصبح إضافة إلى أستاذه أبي شعيب الدكالي من الذين يضرب بهم المثل في السلفية بالمغرب، وكان السبب المباشر لهذه الهداية، كتابا قدمه له إدريس برادة الكتبي آنذاك بالسبيطريين "بفاس"، وعنوان هذا الكتاب هو "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لابن تيمية، وبعد أن قرأ هذا الكتاب، وأمعن النظر فيه، رأى "الإسلام النظيف الذي يحكم العقل والمنطق والعلم، الإسلام الذي يحرر الإنسانية من العبودية والاستغلال والظلم، ثم اكتشف "المنار" و"الشهاب" و"العروة الوثقى" لجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وبذلك تفتحت بصيرته على كنز لم يحلم به". ومن الأسباب التي يجب الإشارة إليها في هذا التحول، شخصية شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي الذي عاد من المشرق حاملا لواء السلفية الداعية للرجوع إلى الإسلام كما كان في منبعه الأول، فقد اتصل به ابن العربي العلوي وأخذ عنه صحيح الامام البخاري للقسطلاني والموطأ وجامع الترمذي ومقامات الحريري والنخبة في الاصطلاح لابن حجر وتفسير النسفي، فأنار فكره، وقوّى عزيمته، وأخرجه من ربقة التقليد الأعمى، وبذلك انقلب من فقيه عادي إلى مفكر إسلامي، يفضح المشعوذين ويجادلهم بالحجة الدينية والعقلية، وانطلق كالنور يضيء عقول الشباب، وينقيها من الاعتقادات الفاسدة. ومن بعد كان الشيخ العلوي سبباً في خروج الشيخ تقي الدين الهلالي من التيجانية أيضاً بعد أن تناظرا في صحة دعوى التيجاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وعجز الهلالي عن دفع طعون العلوي بكذب هذه الدعوى، فتبين للهلالي ضلال التيجانية، وتحول لمنهج السلف وتتلمذ على الشيخ العلوي حتي أصبح علماً من أعلام الدعوة السلفية. يقول د. "محمد عابد الجابري" أن أصداء السلفية النهضوية في المشرق لم تتطور في المغرب إلى سلفية جديدة فعلا، إلا عبر الشيخ أبي شعيب الدكالي "1878م - 1937م"، ومع السلفي المناضل محمد بن العربي العلوي (1884م - 1964م)، وتلاميذه…"، ويقول "…بالفعل، كان الشيخ محمد بن العربي العلوي نموذجا للعالم السلفي المناضل الشعبي في المغرب، سواء أثناء عقد الحماية أو خلال عهد الاستقلال…" . ولإبراز أهمية هذا الشيخ ودوره في خدمة بلده، أورد الباحث محمد الوديع الآسفي في كتابه "السلفي المناضل محمد بن العربي العلوي" شهادات لشخصيات وزعامات وطنية أخرى، تشيد بالشيخ ابن العربي، وتجمع كلها على إخلاص الرجل وحبه لوطنه، وتسخير علمه لمحاربة الخونة والمشعوذين، ورد كيد المستعمر الغاشم. ومن بين هذه الشخصيات: - الأستاذ علال الفاسي. - الأستاذ محمد المختار السوسي. - المقاوم الدكتور عبد اللطيف بن جلون. - الدكتور محمد زنيبر. - الأديب المقاوم محمد زياد. - الأستاذ أحمد زيادي. - الأستاذ علي يعتة. - المقاوم حسن العرائشي. - شارل أندري جوليان. الوظائف التي تولاها الشيخ: تخرج محمد بن العربي العلوي من "جامعة القرويين" متوجا بأعلى شهادة تمنحها الجامعة آنذاك، بعدما أنهى دراسته بها سنة 1912، فكانت أول وظيفة أسندت إليه، هي تعيينه "عدلا بأحباس فاس الجديد" في آخر نفس السنة، ثم رئيسا للاستئناف الشرعي الأعلى بالرباط عام 1928، ووزيراً للعدل ابتداء من سنة 1938. كما أن الشيخ محمد بن العربي العلوي اختير "أستاذا ومربيا لأبناء الأسرة الملكية منذ العهد الحفيظي"، بل يرجح محمد الوديع الآسفي أن يكون تواجد هذا الشاب الوطني الغيور قرب مولاي عبد الحفيظ عقب التوقيع على معاهدة الحماية في تلك المرحلة الصعبة، كان من جملة الأسباب التي دفعت بالملك المحاصَر إلى التنازل عن العرش، بعدما استشار، واطلع، وشاهد غضب الجماهير في كل أنحاء البلاد. وكان الفقيه ابن العربي يُضرب به المثل في النزاهة والعدل في القضاء في فترات كان الارتشاء والمحسوبية أمرا عاديا، بل أصبح يضرب المثل بنزاهته بين قضاة قبائل الأمازيغ في أحواز فاس فكان يقال: «هذا ما توصّلت إليه من حكم وليس في استطاعتي مع الأسف أن أُحضر القاضي ابن العربي للحكم في قضيتك». كما أسندت إليه أيضاً وظيفة أستاذ بثانوية مولاي إدريس بفاس، حيث وجد هناك شبابا متفتحا حبب إليه دراسة الثقافة العربية، وخلال هذه المدة كان يتطوع لإلقاء دروس بالقرويين، فاجتمعت حوله ثلة من شباب الثانوية الإدريسية، وأخرى من شباب القرويين، في طليعتهم علال الفاسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، وغيرهم كثير، من الذين أصبحوا قادة المغرب فيما بعد وساروا على دربه. ومن الوظائف التي تقلدها في عهد الاستقلال، منصب "وزير مستشار بمجلس التاج"، الذي ظل يشغله حتى سنة 1960". أعماله الفكرية: لقد كان التدريس عند الشيخ محمد بن العربي العلوي جهادا ووسيلة للتربية الخلقية والسياسية، لذلك عندما نقرأ سيرة حياته نجده متمسكا به إلى حد كبير في جميع أطوار حياته، سواء عندما كان طالبا أو أستاذا أو قاضيا أو وزيرا، أو رئيسا لمجلس الاستئناف الشرعي. ففي أي مكان حل به كان التدريس هو شغله الشاغل: فقد كان يدرس في مسجد القرويين بفاس قبل تخرجه وبعده، ودرس في مساجد الرباط وسلا والدار البيضاء، وحتى أثناء عمله قاضيا كانت له ثلاثة دروس أسبوعيا في مادة الأدب مع توجيهات وإرشادات وذلك بالمدرسة الثانوية الإدريسية بفاس، وكان يدرس حتى في منفاه كما حدث له عندما أبعد إلى إيموزار، وقرية القصابي ومدغرة، حيث كان يقوم بجمع الناس حوله والتحدث إليهم، بل كان يخرج في سبيل ذلك إلى الأسواق لتوعية الناس بأعداد كبيرة . وقد تميزت دروسه دائما بطابعها السلفي، في تجاوز كتب الفروع إلى الأصول في كل ما يتصل بالدين والفقه، فأحيى بذلك دروس التفسير التي كانت مهجورة، لِما شاع بين الفقهاء من أن تدريسها يعجل بموت السلطان. وقد تميز محمد بن العربي العلوي بالتجاوب مع أذهان الطلبة والمتتبعين، ومن السير بهم إلى الأمام في التحصيل والمعرفة؛ من خلال حسن العبارة وانتخاب أساليبها، مما يسهل على الطلبة الانتفاع بها، والاستفادة منها لغة وإنشاء، وبيانا، وحسن إلقاء. وكانت له عناية واهتمام بالتوسع في الدراسات اللغوية والأدبية، وهي دراسة لم تكن سوقها رائجة بالبلاد، وبذلك تجاوز بطلبته كتب عصر الانحطاط والركاكة، إلى كتب تعتبر أصولا للغة والآداب العربيين، كـ: "الكامل" للمبرد، و"الأمالي" لأبي علي القالي، "العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"البيان والتبيين" للجاحظ، وهي كتب تزخر بالنماذج الأدبية الرائعة. كما كان من المشاركين الدائمين في مجالس الوعظ والإرشاد ودروس الحديث التي كانت تنظم بالقصر الملكي بالرباط، خصوصا في شهر رمضان، ناهيك عن دروس التوعية ضد الجهل وكيد الاستعمار، التي كان يعطيها بحماس وكثافة واستمرارية وفعالية كما سنفصل ذلك لاحقا. ولم تقتصر جهوده على طلبة العلم بل كان يحرص على هداية الجميع ولذلك كانت له علاقة طيبة ببعض الشباب الذين انضموا تحت لواء بعض الأحزاب السياسية، فحرصاً منه على هدايتهم كان يزورهم في مقرهم ليحاضر فيهم فخطب في مركز الاتحاد الاشتراكي وكانت النتيجة ما ذكره المهدي بن بركة حين قال: "لولا محمد بن العربي العلوي لأصبح جل سياسيي الاتحاد الاشتراكي ملاحدة". غير أن ما يثير الانتباه، في شخصية محمد بن العربي العلوي هو قلة آثاره المكتوبة، باستثناء بعض الأشعار المنسوبة له، والتي أوردها محمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي، وبعض أحكامه الشرعية لما كان رئيسا للاستئناف الشرعي بالرباط. فهل كان شيخنا هذا زاهدا في الإنتاج الفكري فعلا، معتبرا أن الأجيال التي يكونها ويخرجها هي أحسن كتبه وأفيدها؟ أم أن انشغالاته الكثيرة حالت دون اهتمامه بالتأليف؟ أم أن الظروف لم تسمح بعد للباحثين لاكتشاف ما قد يكون خلفه هذا العالم من تآليف؟ بعض جوانب نضاله ضد الجهل والاستعمار: نقسم مضمون هذا المحور إلى قسمين، نخصص الأول منهما لنضال هذا الشيخ ضد الجهل والشعوذة، وخرافات الطرقية الخارجة عن تعاليم الكتاب والسنة، ونتطرق في الثاني لتصديه للإدارة الاستعمارية وسياستها في المغرب، ومن دار في فلكها من المداهنين لفرنسا والمتزلفين لها. 1- نضاله ضد الجهل: فتح محمد بن العربي العلوي عينيه وترعرع وشبّ في مغرب يئن تحت وطأة التكالب الاستعماري، ولم يكد يبلغ الثلاثين من عمره حتى خضعت البلاد للحماية الفرنسية، وانبطحت بذلك تحت ضربات العدو، من دون أن يجد أية حيلة تمكنه من تجنيبه هذا المصير المشؤوم. ولما كان محمد بن العربي العلوي شاهدا على كل التطورات التي أفضت إلى سقوط المغرب، ومتتبعا لكل المراحل الصعبة التي مر بها حتى توقيع عهد الحماية، فإنه تألم وحز في نفسه أن يرى بلاد البطولات والأمجاد، وحامية الأمة العربية الإسلامية في جناحها الغربي ضد التوسع الاستعماري والمسيحية تسقط في براثن الاستعمار؛ ومما زاده وعيا بهذا الوضع المغربي الرديء حكومة ومجتمعا واقتصادا، متابعته لدراسته بجامعة القرويين بفاس العاصمة السياسية والعلمية للبلاد، وتعرفه بنفس الجامعة على الطالب "محمد بن عبد الكريم الخطابي"، "بطل حرب الريف" لاحقا، حيث دارت بين الشابين الغيورين على بلدهما محادثات وحوارات، تركزت كلها حول المصائب التي ألمّت بالبلاد، وما يجب القيام به مستقبلا من أجل إنقاذها من السقوط في الهاوية، دون أن ننسى أن شيخنا كان معلما لأبناء الأسرة المالكة في عهد مولاي عبد الحفيظ كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وإذا أضفنا إلى كل هذا، تشبع ابن العربي بالفكر السلفي، إما أخذا عن شيخه الكبير أبي شعيب الدكالي مباشرة، أو عن طريق قراءة كتابات ابن تيمية، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان الذي زار المغرب، وغيرهم، فإن شيخنا سوف يبذل كل ما في وسعه لتسخير هذه المعرفة وذلك الوعي من أجل يقظة الأمة المغربية. يتبع
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
شيخ الإسلام محمد العربي العلوي أسامه شحادة شيخ الإسلام محمد العربي العلوي ما هي مظاهر ذلك؟ نعتمد في الجواب على هذا السؤال العريض على كتابات قليلة، وفي مقدمتها الكتاب القيم الذي ألفه محمد الوديع الآسفي حول هذه الشخصية الفذة، وهو الكتاب الذي ضمنه شهادات عدد غير قليل من المفكرين والزعماء الوطنيين، تجمع كلها على عظمة هذا الشيخ وتضحياته الكبيرة، وفكره النير، وعمله الدؤوب من أجل الإسهام في تحرير البلاد والعباد، كما أن مؤلفين غيورين آخرين قدموا إسهامات لا يستهان بها في الموضوع، مثل عبد القادر الصحراوي، وعبد السلام بن عبد القادر بن سودة، وعبد الله الجراري، ومحمد بن هاشم العلوي، وأحمد بناني، وعلال الفاسي، وعبد الكريم غلاب، وعبد الهادي التازي، وغيرهم. ولولا تفضل هذه الثلة من العلماء بإسهاماتهم هذه، لما عرفنا شيئا عن هذه القامة الوطنية الشامخة، خصوصا وأن ابن العربي لم يكتب شيئا عن نفسه. • الشهادات الواردة التي أثبتها محمد الوديع الآسفي كثيرة، نكتفي منها بـ: * شهادة الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد: أن الشيخ ابن العربي كان يقول ويدعو ويبشر، فأصبح علما من أعلام الوطنية المغربية، بإبراز الهوية الإسلامية عن طريق نشر اللغة العربية، والتشبث بالتعاليم النبوية الصحيحة. * شهادة الدكتور المقاوم عبد اللطيف بن جلون: الشيخ ابن العربي، كرس حياته ووقته وفكره وجهاده في سبيل إصلاح هذه الأمة وتقويم اعوجاجها، وإيقاظها من رقادها، كما حاول ذلك قبله جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فأصبحت دروسه بمثابة ثورة فكرية ضد الجمود والخرافات والأوهام، قبل الاستقلال وبعده. * شهادة الأستاذ محمد زنيبر: إن تعيين الشيخ ابن العربي العلوي وزيرا للعدل، لم يثنه عن الاشتغال بالتدريس وإفادة الغير، ولعله كان يشعر بأن لديه رسالة نحو مواطنيه لا بد من تأديتها، وصار يلقي دروسا مشبعة بروح سلفية وثيقة، مما جعل الجمهور يقبل عليه ويلتف حول حلقته في المساجد. * شهادة الأستاذ المقاوم محمد العلوي الزرهوني: كانت لهجة الشيخ قوية مقرونة بالتحدي، يتصدى للرجعيين من علماء الدين، فيقارع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، كان ينبه جمهور المواطنين بأن هذه الجماعة ترمي من وراء ذلك إلى تجميد العقول، وبث التواكل والخمول، ودفع الناس إلى الرضوخ والاستسلام، فيتقاعس الناس عن النضال والكفاح، بدعوى أن الله قد قضى ما قضى، وقدر ما قدر، فكان رحمه الله ينعتهم بالجبناء، ويحمل على أهل الزوايا والطوائف الضالة؛ لكل ذلك، كانت رحاب المسجد تغص بالمواطنين الذين كانوا يأتون من سائر الأحياء لسماع درره الغالية. * أحمد زادي: ابن العربي العلوي كان له أثر عميق في تأصيل الوطنية المغربية وتسليحها بالمنهج السلفي المتحرر من رق الأضاليل والخرافات والأوهام. * محمد الحمداوي: كان حربا على الخرافة المحترفة للاكتساب والتضليل، في المسجد والبيت والمنتزه. ومن الذين درسوا على الشيخ محمد بن العربي العلوي، وغرفوا من معينه فاعترفوا له بفضله، وما أسداه من أياد بيضاء لهم، ولأقرانهم من الطلبة والمهنيين، في ثنايا الكتب التي ألفوها، نذكر على سبيل المثال: علال الفاسي في "الحركات الاستقلالية" ومحمد المختار السوسي في "الإلغيات". فالأول يذكر شيخه بإجلال، ويرى فيه الداعي الأساسي لحركة السلفية والمخرج لرجالها لما كان له من الجرأة والإقدام والثبات في مواجهة المستعمر، ورجال الطرق الصوفية المتحالفين معه، وكانت تجتمع بفاس ثلة من الشباب حوله، يضيف نفس المصدر. ونفس الشيء يؤكد عليه صاحب "الإلغيات"، الذي يعترف بفضل شيخه ابن العربي عليه. أما الأستاذ "عبد الكريم غلاب"، فنقرأ في كتابه ما يفيد أن الحركة السلفية والإصلاحية عامة، انطلقت إلى المغرب عن طريق رائدين عظيمين هما: أبو شعيب الدكالي وابن العربي العلوي، وبخصوص هذا الأخير يرى فيه الداعية الأول للسلفية بالمغرب، مما عرضه لاضطهاد السلطات الاستعمارية عدة مرات لتضامنه مع الحركة الوطنية على الخصوص. إن الكل يجمع على الدور الكبير الذي لعبه هذا الشيخ، في الرفع من المستوى الفكري لأبناء بلاده، لإخراجهم من غياهب الجهل أولا، ولتوعيتهم بضرورة طرد المستعمر. وما كان له أن ينجح في مهمته هذه، لو لم يتصف بالصراحة والجرأة الضروريتين، وهو يعلن حربا لا هوادة فيها ضد الفكر الغيبي التواكلي، مما أدى به بعض الأحيان إلى منع وإيقاف عوائد الطرقيين الشنيعة، أثناء زيارتهم إحدى الأضرحة، كما فعل مع "الفرقة العيساوية" بفاس، في خروجها إلى مكناس في شهر ربيع النبوي، لزيارة ضريح شيخهم سيدي بن عيسى، وعندما قصد سدرة عظيمة كانت قبالة ضريح سيدي علي بوغالب بفاس، كان يؤمها الناس من أجل الزيارة والتبرك فحطمها بنفسه، وذلك اقتداء بشيخه أبي شعيب الدكالي الذي عمد إلى قطع شجرة كانت توجد بجوار "ضريح سيدي المنكود" المجاور للسور الأندلسي، بسبب ما يعلق عليها من تمائم وحروز وخرق، وغيرها للتبرك بها. ومن ذلك أيضاً أنه أفشل محاولات بعض الحاقدين الذين سعوا لتأليب الملك على الأستاذ علال الفاسي بسبب دروسه التي كان يقدمها في القرويين والتي هاجم فيها الخرافات وأصحابها من الأولياء المزيفين، فتدخل الشيخ العلوي بصفته عضواً بالمجلس الأعلى لجامعة القرويين ودافع عنه ووضح الأمر للملك. وفي إطار اهتمام شيخنا بمواطنيه رجالا ونساء، ورغم شدته في المحافظة على تعاليم الإسلام، فإنه عمل من أجل إخراج المرأة من غياهب الجهل التي كانت تعيش فيها، ولهذه الغاية ألقي مجموعة من المحاضرات في ضرورة تعليم الفتاة المربية. 2- نضاله ضد الاستعمار: أشير في البداية إلى أنه لا يمكن الفصل بين نضاله ضد الجهل والخرافة، ومواقفه المعادية للاستعمار، لارتباط القضيتين ارتباطا وثيقا. ورغم ذلك، سوف أعمل على رصد بعض هذه المواقف فقط، خصوصا تلك التي اتسمت بالجرأة والشجاعة والإقدام ضد الاستعمار الفرنسي بالمغرب، وجرّت عليه الكثير من المحن والاضطهادات. كانت "جامعة القرويين" هي مدرسة محمد بن العربي العلوي الأولى، التي ولّدت فيه الروح الثورية، وهو ما يزال طالبا بها، للوقوف في وجه المستعمر، الذي جر على البلاد كل أصناف الذل والمهانة، وقد زاد هذا الشعور الثوري تأججا لديه، بعد التقائه بمحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان يتابع دراسته بنفس الجامعة، إذ وجد فيه نفس الروح، ونفس الميولات والتطلعات التي يراها لإنقاذ البلاد من التدهور، فكانا يتبادلان فيما بينهما الأفكار الإسلامية المستقلة والآراء المتحررة من ربقة الجهل والخرافة والتقليد، والتي تدعو إلى الجهاد من أجل حرية الإنسان وكرامته، وعملا معا على نشر أفكارهما بين الفئات الشعبية، وفي مقدمتها الطلبة، بحيث لم يمض غير قليل من الوقت حتى أصبح عدد هام من طلاب العلم وغيرهم من الحرفيين والعمال والفلاحين، يجتمعون لدراسة الأحداث الوطنية والدولية المستجدة. هذا الشعور الجياش نحو وطنه، ورغبته الجامحة في ضرب المستعمر وهزمه أين ما كان هي التي جعلته يبيع كل ما يملك من الكتب النفيسة حتى يستطيع شراء ما يحتاج إليه المقاتل المتطوع؛ ولذلك حاول أن يلتحق بجبهة القتال في حرب الريف، وفي الأطلس، غير أن ظروف الحصار المضروب على البلاد من قبل العدو، حالت دون ذلك، كما أن القائد موحا وحمو الزيان أقدم على تغيير خطته القتالية، بعد أن اكتفى بأبناء المنطقة الثائرة، لمعرفتهم الدقيقة بمسالكها الوعرة. من جهة أخرى، عمد ابن العربي العلوي إلى مراسلة الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، ليسمح له بالالتحاق بأرض فلسطين، بغية الجهاد مساهمة منه في تحريرها، لكن لم يصل له أي جواب. يقول علال الفاسي: "… وما بدأ الجهاد في المغرب ضد الفرنسيين حتى اشترى بندقية، وتوجه مع المجاهدين لمقاومة المهاجمين، ملهبا حماس الجند، ضاربا المثل بشجاعته وصبره". ومن أبرز المحطات النضالية التي سجلها له التاريخ ضد المستعمر موقفه الشجاع سنة 1944، سواء أمام السلطان محمد الخامس، أو أمام المقيم العام الفرنسي، عندما وضعت "عريضة الاستقلال" التي قدمها حزب الاستقلال – الذي أسسه تلميذه علال الفاسي- على طاولة المناقشة، كان ابن العربي العلوي الوحيد من أعضاء الحكومة الذي آمن بالفكرة دون تردد، وأيد "حزب الاستقلال" بآرائه الصارمة في الموضوع، بخلاف بقية أعضاء الحكومة الذي تراجعوا أمام رفض المقيم العام للعريضة، وتهديده لكل من يساند مطالب هذه العريضة، باستثناء ابن العربي العلوي الذي تحدى تهديد المقيم العام، وقدم استقالته من حكومة الصدر الأعظم احتجاجا على هذا الموقف، الذي اتخذته فرنسا من هذا المطلب الوطني، واحتجاجا على تخاذل الهيئة الوزارية وتراجعها، أما رد السلطات الاستعمارية على هذا الموقف، فكان نفي ابن العربي إلى قرية "القصابي" ثم إلى "ميسور"، وبعد ذلك إلى "مدغرة" مسقط رأسه. ومن مواقفه الجريئة الأخرى، وما أكثرها، افتاؤه بوجوب قتل محمد بن عرفة الذي حاولت فرنسا فرضه سلطاناً على المغرب بعد نفيها لملك البلاد محمد الخامس سنة 1953 تطبيقاً للحديث الشريف :"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، ورفض التوقيع على بيعة محمد بن عرفة سلطانا على المغرب، ومن مظاهر وفائه وحبه وإخلاصه لمحمد الخامس، معارضته لتأسيس "مجلس المحافظة على العرش" بعد انسحاب بن عرفة. كشف المؤرخ عبد الكريم الفيلالي في كتابه" التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير" أن هذه المؤامرة ضد السلطان كانت من تدبير التهامي الكلاوي الذي أصدر بيانا وقع عليه 270 من الباشاوات والقواد فيه:" إننا معشر القواد في مختلف الجهات المغربية ومن في دائرتهم من المغاربة رجال حركة المعارضة والإصلاح الممضين أسفله تحت رئاسة سعادة الباشا الهمام السيد الحاج التهامي المزواري الكلاوي، نتقدم بكل شرف إلى سعادة المقيم العام للدولة الفرنسية الفخيمة بما يأتي: بما أن السلطان سيدي محمد بن يوسف خرج عن جميع رجال المغرب العاملين، واتبع طريقا مخالفا للقواعد الدينية بانتمائه للأحزاب المتطرفة غير المعترف بها وتطبيق مبادئها في البلاد، الشيء الذي جعله يسير بالمغرب في طريق الهاوية، فإننا بصفتنا كبراء المغرب وأصحاب الحل والعقد، ومن ذوي الغيرة على الدين الإسلامي نقدم لسعادة المقيم العام وللدولة الفرنسية طلب عزل السلطان عن الحكم وتنحيته عن العرش وإسناد هذا الأمر إلى من يستحقه". بعد انكشاف مؤامرة الكلاوي ضد السلطان الشرعي، خرجت فتوى شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي بكفر الكلاوي ومن معه وإباحة دمائهم، وهي الفتوى التي تبناها 300 عالم من كل أنحاء المغرب، وعززتها فتوى علماء الأزهر" بكفر الكلاوي ومروقه". وبسبب هذا الموقف والفتاوى نفاه الفرنسيون إلى القصابي قرب ميدلت، ثم نقلوه الى قصر السوق نحو عامين، ثم نفوه مرة ثانية من فاس فاختار الإقامة بمصطاف إيموزار وذلك لأنه كان يقوم بدروس بجامع القرويين فتضايقت منها السلطات الاستعمارية، فطلبت منه الانقطاع عن تلك الدروس فأبى الخنوع لإرادتها فقررت نفيه ونفذته في 18 رمضان 1371هـ، ثم رجع الى فاس في آخر رمضان وأقام بمنزله بدرب الورد بالمدينة الجديدة لكنه بقي ممنوعا من دخول المدينة العتيقة لأنها اعتبرت أن منزله خارج المدينة، وعند محاولة فرنسا إبعاد الملك محمد الخامس عن عرشه جعلت الحراسة على باب منزله ومنعته من الخروج منه ومنع جميع الناس من الاتصال به، وبقي الأمر كذلك الى أن نفي مرة ثالثة في 11 ربيع الثاني 1373هـ، وكان المنفى بمدينة تزنيت، ثم رجع إلى منزله بفاس بعد أن قضى عاما كاملا. وبعد عودة محمد الخامس من منفاه عام 1376هـ، وحصول المغرب على استقلاله كان ابن العربي في طليعة المستقبلين للملك المحبوب الذي استقبله بالأحضان، وأسند له بعد ذلك "وزارة التاج" ليصبح مستشارا خاصا به، وعينه قاضياً شرعياً بالقصر الملكي وعضوا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي بيد أنه حضر في الاجتماع مرة واحدة ولم يوقع على القرارات لاصطدام بعض فصولها مع أفكاره، ولما عرض مشروع الدستور الذي نص على أن الحاكم يجوز له التشريع أفتى أن الحاكم هو الشريعة الإسلامية، فتعرض بسبب هذه الفتوى لجملة من المحن وحاربه الوزير رضا أكديرة العلماني ونعته بالضلال، فقدم استقالته من مجلس التاج في 1379هـ/ 1959م، وأعفي من منصب القضاء وأبى أن يتسلم راتبه بعد استقالته. ورجع إلى منزله بفاس وصار يقوم بدروس بين الآونة والأخرى بمسجد السنة بالمدينة الجديدة. والشيخ العلوي كان محل إجماع وقبول من سياسيي المغرب الوطنيين لسابق جهاده ومواقفه المشرفة ولأنه لم ينحز إلى فريق عندما انقسمت الحركة الوطنية إلى حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، بعد رجوع الزعيمين الوطنيين (علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني) من منفاهما وقد غابا فيه تسع سنوات (1937-1946م)، ولذلك قبل الطرفان به رئيساً للجنة الوساطة بينهما، والتي للأسف لم تنجح. منهجه: * التركيز على نشر العلم من خلال التدريس، مع تبسيط العلم وعدم التعقيد في الشرح. * الاهتمام بالشباب لأنهم عماد المستقبل ولم تتمكن خرافات الطرقية من عقولهم. * كانت لديه شدة على المخالفين خاصة أصحاب البدع، وكان يعتقد أن اللين لا يجدي معهم. * المشاركة السياسية ولو تحت قهر الاستعمار، والإصلاح من الداخل. * التمسك بالثوابت الوطنية ضد المستعمر ومحاربة الخونة. * العمل الفردي، والذي تسبب فيما بعد بتغلب التيار الموالي للمستعمر على المغرب، وإقصائه رحمه الله. وفاته رحمه الله: بقي الشيخ ملازما منزله يعيش حياة الكفاف بعد أن رفض راتب التقاعد واعتاش من كد يده حيث كان عنده حلب أربع بقرات وعدد من الدجاج فيتعيش ببيع الحليب والبيض، إلى أن أجاب داعي ربه إثر مرض قصير وذلك عشية يوم الخميس 22 محرم الحرام 1384هـ/ 4 يونيو - حزيران 1964م بمدينة فاس، وفي صباح الجمعة شيعت جنازته من منزله بفاس إلى مرقده الأخير حيث جعل في طائرة خاصة أقلته إلى قصر السوق ثم حمل إلى مدغرة ودفن هناك بجانب والده تنفيذا لوصيته. مصادر للتوسع: * السلفي المناضل الشيخ محمد بن العربي العلوي، د.محمد الوديع الآسفي. * السلفية والإصلاح، د.عبدالجليل بادو. * الحركة السلفية في المغرب، عدة مؤلفين. [1] - أصل مادة هذا المقال من مقال بعنوان (الشيخ محمد بن العربي العلوي العالم العامل والسلفي المناضل ضد الجهل والاستعمار) لأحمد الأزمي، ونشر في مجلة دعوة الحق المغربية، وقد عدلت عليه وأضفت إليه من مقالات أخرى في الإنترنت وبعض المراجع. أسامة شحادة.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي . أسامه شحادة تمهيد: العلامة محمد البشير الإبراهيمي هو الرجل الثاني في تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة في الجزائر وجمعية العلماء المسلمين فيها، بعد العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس. وقد مرت حياة البشير بعدة محطات، هي: النشأة والهجرة لخارج الجزائر، العودة للجزائر والتعاون مع العلامة ابن باديس، تولي رئاسة جمعية العلماء المسلمين بعد وفاة ابن باديس، مغادرة الجزائر ودعم الثورة الجزائرية، العودة للجزائر بعد الاستقلال. وللأسف فإن الكتابات المعمقة عن دوره في الثورة الجزائرية ورفضه لانحراف جبهة التحرير عن المبادئ الكبرى وهي الإسلام والعدل والحرية، لم تتوفر بين يديّ، فجاء الكلام فيها مجملا غير مفصل على أهميته وضرورته في هذه المرحلة من حياة أمتنا والتي تشهد ثورات سلمية على الطغيان والاستبداد الذي تولاه أُناس من جلدتنا عقب زوال الاستعمار. المحطة الأولى: ولد محمد البشير الإبراهيمي سنة (1306هـ /1889م) بمواطن قبيلة «أولاد إبراهيم» غرب مدينة قسنطينة بالجزائر، في بيت علم ودين، ويرجع نسبه إلى إدريس بن عبدالله مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى. حفظ القرآن الكريم ودرس علوم العربية وحفظ الكثير من الشعر على يد عمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي" الذي كان من أبرز علماء الجزائر في زمانه، ومن هنا جاء نبوغ الإبراهيمي في الأدب واللغة، بعد وفاة عمه خلفه في التدريس الإبراهيمي وكان بالكاد يبلغ الرابعة عشرة من عمره حتى جاوز عمره عشرين سنة في 1912. وكان والده قد غادر الجزائر سنة 1908 إلى المدينة المنورة هربا من ظلم الفرنسيين له، فلحقه محمد البشير سنة 1911، وفي طريقه للالتحاق بوالده أقام بالقاهرة ثلاثة أشهر والتقى العلماء فيها وزعماء النهضة الفكرية والأدبية، ومن هؤلاء مشايخ الأزهر: سليم البشري ومحمد بخيت، وحضر عدة دروس في مدرسة الدعوة والإرشاد التي أسسها العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار، والشاعران شوقي وحافظ، ومن ثم واصل سفره عن طريق البحر إلى حيفا، ومنها بالقطار للمدينة المنورة. في المدينة المنورة لازم الشيخ عبد العزيز الوزير التونسي والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، وكان يقضي جل وقته في إلقاء الدروس والمطالعة في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت وأمثالها. وهناك في المدينة سنة 1913 التقى الإبراهيمي بالشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي وكان قد سبقهما في الهجرة إلى المدينة، فكانوا يلتقون للبحث في شؤون الجزائر وسبل النهوض بها ومن هذه اللقاءات تأسست جمعية العلماء المسلمين بعد سبعة عشر عاماً كما مر معنا في ترجمة ابن باديس. بعد قيام الثورة العربية بقيادة الشريف حسين في سنة 1917 قامت السلطات العثمانية بترحيل سكان المدينة المنورة إلى دمشق، لعجزها عن توفير الطعام للجيش والسكان، فرحلت أسرة الإبراهيمي فيمن رُحل. في دمشق تعرف البشير الإبراهيمي على عدد وافر من العلماء على رأسهم علامة الشام الشيخ بهجة البيطار، وهناك باشر الإبراهيمي بالوعظ والإرشاد في الجامع الأموي، والتدريس بالمدرسة السلطانية (مكتب عنبر)، فتخرج على يديه عدد من فطاحل الشام وقادته مثل د.جميل صليبا، ود. عدنان الأتاسي. وقد شارك الإبراهيمي في جهود الإصلاح والنهضة من خلال مشاركته في الندوات والمجالس والنوادى التي كانت تسعى إلى توحيد العرب والمسلمين. ولما دخل الأمير فيصل دمشق طلب من البشير الإبراهيمي أن يعود للمدينة وأن يتولى إدارة المعلاف بها، لكنه فضل العودة إلى وطنه الجزائر. المحطة الثانية: عاد الإبراهيمي إلى الجزائر في مستهل سنة 1920، وكانت لا تزال تحت الاحتلال الفرنسي الظالم، والذي قام البشير دائما بالكتابة عن شروره وأخطاره وعدوانه على الجزائريين، ومما قال فيه: "جاء الاستعمار الفرنسي إلى هذا الوطن كما تجيء الأمراض الوافدة، تحمل الموت وأسباب الموت،... والاستعمار سلّ يحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح وهو في هذا الوطن قد أدار قوانينه على نسخ الأحكام الإسلامية، وعبث بحرمة المعابد، وحارب الإيمان بالإلحاد، والفضائل بحماية الرذائل، والتعليم بإفشاء الأمية، والبيان العربي بهذه البلبلة التي لا يستقيم معها تعبير ولا تفكير". وقال أيضا: "جاء الاستعمار الدنس الجزائر يحمل السيف والصليب، ذاك للتمكن وهذا للتمكين"، وقد قام بـ الاحتلال "استقدام عدد كبير من الرهبان والمعلمين والأطباء، فالراهب ينشر النصرانية ويشكك المسلمين في عقيدتهم، والمعلم يفسد العقول ويبعد الأمة عن لغتها ويشوه التاريخ ويزهد في الدين، والطبيب يداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بجراثيم"، أما فظائع الاحتلال الفرنسي فقد سبق الحديث عنها في ترجمة ابن باديس. وعقب عودته للجزائر تعاون الإبراهيمي مع ابن باديس في استكمال المشروع الذي بدأه لنشر العلم الديني واللغة العربية بحسب جلساتهما في المدينة المنورة، فبدأ الإبراهيمي بالتعليم في مدينة «سطيف»، وكانت له لقاءات دورية مع ابن باديس لمتابعة أخبار النشاط الإصلاحي وتأثيره على الشعب، يقول الإبراهيمي: "فنزن أعمالنا بالقسط، ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبداً، وكنا نقرأ للحوادث، والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين"، يقول الإبراهيمي: "كان من نتائج الدراسات المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا بالمدينة المنورة (1331هـ - 1913م) أن البلاء المنصب على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه ويفسدان عليه دينه ودنياه: 1- استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار. 2- واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب، المتجرون بالدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضىً وطواعية... فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بيني وبين ابن باديس أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني". وهذا كله يدل على أن ابن باديس والإبراهيمي كانا يتصفان بأعلى مهارات التخطيط الاستراتيجي، وكانا يضعان الخطة والخطة البديلة، ولم يكن عملهما ردة فعل، بل فعلا محسوبا ومقدرا، ولذلك يقول: "كانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة، فخيبنا ظنها والحمد لله"، وهذه المنهجية الاستراتيجية المستقبلية ستتضح أكثر بعد رئاسته للجمعية وتوسع نشاطها. وفي سنة 1924 حثه ابن باديس على تأسيس جمعية «الإخاء العلمي» ورغم أنها كانت محاولة غير ناجحة، لكنها أكسبت الإبراهيمي خبرة وضع قانون جمعية العلماء المسلمين بعد عدة سنوات، والتي تأسست في سنة 1931 كردة فعل على الاحتفال المئوي لاحتلال فرنسا للجزائر، واختير الإبراهيمي نائبا لرئيسها ابن باديس، وأنيطت به مهمة الإشراف على نشاط الجمعية في الغرب الجزائري، فرحل إلى تلمسان العاصمة العلمية القديمة وسكن فيها. ولذلك تعد هذه المرحلة (1931-1940) من عمر جمعية العلماء الجزائريين مرحلة تأسيس للثورة الجزائرية ضد فرنسا، فرغم أن الجمعية كانت تعلن عدم الاشتغال بالسياسة، إلا أن مطالب وأهداف الجمعية على الحقيقة "هي نصف الاستقلال" بتعبير الإبراهيمي. في تلمسان سرعان ما نجح الإبراهيمي في إنشاء دار الحديث والتي ضمت مسجداً وقاعة للمحاضرات وأقساماً لطلبة العلم، والتي كانت أول مدرسة للجمعية تبنى بالكامل وليست مبنى مستأجراً أو قائماً، وقد شيدت على الطريقة الأندلسية، وحضر حفل افتتاحها 3000 شخص منهم 700 من الضيوف على تلمسان في مقدمتهم ابن باديس. وكان الإبراهيمي يلقي فيها عشرة دروس في اليوم، وبعد العشاء يقدم محاضرة في أحد النوادي عن التاريخ الإسلامي، هكذا كان الإبراهيمي يفهم منهج التربية والتعليم!! ذلك كله والإبراهيمي عرضة لكثير من المضايقات من الفرنسيين، ولذلك كان يتظاهر بالعمل بالتجارة حتى يبعد أنظار الاحتلال عن دروسه وطلابه. فلما جاءت نذر الحرب العالمية الثانية يقول الإبراهيمي: "اجتمعت بالشيخ ابن باديس في داري بتلمسان، فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من يخلفنا إذا قبض علينا، وقلبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين". وفعلاً فما نشبت الحرب سنة 1940 إلا وصدر القرار بالإقامة الجبرية على ابن باديس ونفي الإبراهيمي إلى الصحراء الجنوبية بقرية آفلو، لأنه رفض أن يلقي أحاديث في الإذاعة لتأييد فرنسا في الحرب، وكان ابن باديس والإبراهيمي قد استبقا الأحداث بتعطيل جرائد الجمعية وجريدة الشهاب الخاصة بابن باديس حتى لا يتعرضا للضغط بتأييد فرنسا، فكان القرار "لتعطيل خير من نشر الأباطيل" في سنة 1939. وقد كتب ابن باديس للإبراهيمي حين علم بنفيه رسالة قال فيها: "الأخ الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي - سلمه الله - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم: (الآن يا عمر)[1]. فقد صنت العلم والدين، صانك الله وحفظك، وتَرِكَتـَك، وعظَّمتها عظَّم الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق، وبيضت محُيَـَّاهما بيض الله محياك يوم لقائه، وثبتك على الصراط المستقيم، وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان. والسلام من أخيك عبد الحميد بن باديس". وبعد أسبوع من نفيه توفي ابن باديس، فانتخبه إخوانه في الجمعية رئيساً للجمعية في غيبته، لكن لأنهم يعلمون مكانته ومنزلته، كما سبق أن انتخبوا ابن باديس رئيساً للجمعية عند تأسيسها في غيبته ودون علمه، فتولى إدارة الجمعية بالمراسلة من منفاه لثلاث سنوات حتى أفرج عنه سنة 1943. وقد كتب الشيخ العربي التبسي باسم إدارة الجمعية برقية تعزية للإبراهيمي بابن باديس وتنصيبه رئيسا للجمعية قال فيها: "... وإن إخوانك أعضاء الإدارة المجتمعين هنا بقسنطينة، قد أسندوا إليكم رئاسة الجمعية، كما أحلوك محل أخيك الراحل في إدارة الجمعية بقسنطينة، وبتولي الإشراف على ما هو للجمعية، وما أمكنها أن تتوصل إليه، على معنى أنك تحل محله في كل الأعمال العلمية والإدارية التي كان هو متوليها.."، وهذا يدل على مقدار مكانته عند أعضاء الجمعية، ومقدار إخلاص وتفاني بقية الأعضاء واحترامهم لرموزهم وقادتهم. وفي ذلك المنفى لم ينقطع عن العلم والتعليم بقدر ما سمح له من لقاءات ومراسلات، وقد أنتج فيها بعض الأعمال العلمية والتي لم تنشر مثل: رواية الثلاثة وهي مسرحية شعرية في 881 بيتاً، وملحمة شعرية على وزن الرجز في 36 ألف بيت، ورسالة الضب. المحطة الثالثة: بعد إطلاق سراحه في أوائل سنة 1943، وضع تحت المراقبة الإدارية حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، فانتقل الإبراهيمي إلى العاصمة الجزائر ليتولى إدارة الجمعية مباشرة، ورعاية مدارسها الحرة، ومساجدها الحرة التي لا تتبع للاحتلال، والنوادي والصحف. فعمل على تنشيط إنشاء مدارس للجمعية جديدة، فأنشأ بدعم من الشعب في سنة واحدة 73 مدرسة بتصميم موحد، في رسالة "للأجيال أنها نتاج فكرة واحدة"، وتواصلت المسيرة حتى بلغ عدد المدارس التابعة للجمعية 400 مدرسة فيها مئات الآلاف من الطلبة بنين وبنات، ويعلّم فيها أكثر من ألف ومئتي معلم، حتى بلغت ميزانية مدارس الجمعية لوحدها في سنة 1952 مئة مليون فرنك فرنسي. ولم يمض على رجوعه من المنفي بضعة سنوات حتى سيق الإبراهيمي للسجن مرة أخرى ضمن 70 ألف جزائري أغلبهم من أتباع الجمعية فضلاً عن 60 ألف قتيل جزائري، قتلتهم فرنسا في ثورة مدبرة لعقاب الشعب الجزائري سنة 1945م، وبقي في السجن قرابة السنة، لقي فيها أهوالاً ومتاعب شديدة، ونقل للمستشفى عدة مرات خلالها. وخرج من السجن بعزيمة قوية، فأعاد المدارس والاجتماعات والمجلات التابعة للجمعية، وفرعها في باريس، فتولى إدارة مجلة البصائر مع إدارته للجمعية، وكان على طريقة رشيد رضا في مجلة المنار فيقوم بكل أعمال المجلة من كتابة ومراجعة، رغم سفراته المتعددة في داخل الجزائر لمتابعة فروع الجمعية ومدارسها، حتى كان يمر عليه عدة ليال لا ينام فيها!! وقام بتأسيس (لجنة التعليم العليا) لوضع برنامج التعليم ومتابعة تطبيقه في مدارس الجمعية، فكان نتاج هذه الجهود العظيمة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن أصبح هناك عشرات الآلاف من الطلبة الذين أنهوا المرحلة الابتدائية ويطلبون الزيادة في العلم، ولذلك خطت جمعية العلماء في سنة 1948م خطوة رائدة في مجال التربية والتعليم بافتتاح «معهد عبد الحميد بن باديس» للتعليم الثانوي في قسنطينة وذلك اعترافاً بفضل ابن باديس، وكان الطلاب قبل ذلك يوفدون إلى «الزيتونة» بتونس و«القرويين» بفاس، وكانت أولى البعثات العلمية الجزائرية إلى الجامعات في المشرق العربي من خريجي معهد ابن باديس. وبلغ عدد طلاب المعهد في السنة الأولى أكثر من ألف طالب من مختلف مناطق الجزائر، وكان يتبع المعهد سكن يستوعب 700 طالب، وهو مجهز بالكامل من أسرة ودواليب ومطابخ ومرافق صحية. وقد تنبه الإبراهيمي لضرورة حماية هذا المعهد من عدوان الاحتلال الفرنسي، فطلب من شيخ جامع الزيتونة الطاهر بن عاشور أن يكون معهد ابن باديس تابعا لجامع الزيتونة، فوافق وكتب لهم خطاباً رسميا بذلك. والذي تولى التنسيق مع شيخ الزيتونة هي جمعية الطلبة الجزائريين بالزيتونة، والذين هم مبتعثون من جمعية العلماء الجزائريين، وهذا جانب آخر من نشاطات الجمعية واهتمامات الإبراهيمي، والذي كان يرسل الطلبة لإكمال دراستهم ويتابعهم ويحثهم على تكوين هيئات ومؤسسات لهم تحفظهم وتقويهم. وأيضاً تابع الإبراهيمي مراكز الجمعية وفروعها بفرنسا والتي كانت أول مراكز إسلامية في أوروبا، والتي تعطلت بسبب الحرب العالمية، فأوفدت الجمعية سنة 1947 مراقبها العام الشيخ سعيد صالحي إلى فرنسا "ليدرس الأحوال ويمهد الأمور"، وسرعان ما عاد النشاط وتوسع ولم يقتصر على العمال الجزائريين بل شمل حتى طلبة الكليات بفرنسا من أبناء الجزائر. واهتمام الإبراهيمي بالجزائر لم يصرفه عن متابعة قضايا المسلمين، ولذلك نجده في سنة 1948م عضواً في جمعية إعانة فلسطين مع قادة الجزائر، فجمعت التبرعات وأوفدت حوالي 100 مجاهد إلى فلسطين، والعديد من البرقيات لنصرة فلسطين للجهات الدولية والعربية، وقام الإبراهيمي بكتابة الكثير من المقالات في القضية الفلسطينية. ولم تتوقف مكائد الإدارة الفرنسية ضد الجمعية، مما استدعى سفر الإبراهيمي لفرنسا سنة 1950 لبحث قضيتين، قضية رفع يد الحكومة الفرنسية عن القضايا الدينية الإسلامية وحرية التعليم العربي للجزائريين، لأن فرنسا ترفع راية العلمانية، ومع ذلك فالصلاة والحج والإفتاء والوقف كله يخضع لفرنسا!! ولبحث قضية حق الجزائريين في فرنسا بتعلم دينهم ولغتهم في فروع الجمعية بفرنسا، والتي سبق أن تأسست في عهد ابن باديس سنة 1936 حين زار فرنسا بصحبة الإبراهيمي، وكانت له لقاءات بالجالية الجزائرية ومحاضرات. وقد زار الإبراهيمي فرنسا مرة ثانية سنة 1952 لحضور اجتماع الدورة السادسة للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، واللقاء بالوفود المشاركة، ولذلك استضاف الوفود العربية وشرح لهم مأساة الجزائر على مأدبة عشاء في فرع الجمعية بباريس. ومن عناية الإبراهيمي بفرع الجمعية بباريس أنه رشح الشيخ الربيع بوشامة للسفر لباريس وتولي العمل هناك قبل سفره للمشرق، لأن الربيع سبق له العمل في فرع باريس من قبل ولأهمية دور مكتب باريس. ولأن الإبراهيمي رجل استراتيجي من الطراز الرفيع فقد تنبه لضرورة البحث عن مستقبل جهود جمعية العلماء الجزائريين، كي يحافظ على مئات المدارس الموجودة والتي تضم آلاف الطلبة والذين يحتاجون إلى نفقات كبيرة لا يمكن للجزائريين وحدهم توفيرها، كما أن الطلبة الذين لم تشملهم مدارس الجميعة هم أضعاف مضاعفة، وكان الإبراهيمي يعرف أن الاحتلال ينتظر اللحظة التي تصل فيها الجمعية لمرحلة العجز المالي فيتوقف عملها دون تدخل منه، وبذلك ينهار المشروع الإصلاحي كاملا وتعود الجزائر لمرحلة الضياع. وقد قدر الإبراهيمي ورفاقه حاجة الجزائر في السنوات الخمس القادمة إلى 150 مدرسة ابتدائية على الأقل في كل سنة ليصل المجموع إلى ألف مدرسة، وثلاثة معاهد ثانوية للذكور ومعهدين، ومعهدين كبيرين للمعلمين ومعهد للمعلمات، أما رجال التعليم العالي فهذه تتكفل بها البعثات. وتدارس الإبراهيمي ورفاقه في الجمعية وتوصلوا لضرورة طلب العون من الحكومات العربية بالدعم المالي وتقديم المنح للطلبة في بلدانهم، فتقرر سفر الإبراهيمي للمشرق العربي للتعريف بالجزائر ومشكلتها والبحث عن يد العون، فغادر سنة 1952، ومكث ثلاث سنوات في هذا المسعي زار فيها مصر والسعودية والكويت والعراق والأردن وكانت سمعة الرجل قد سبقته، فكان، حيثما حلّ، مثار الإعجاب والاعتزاز ومحل الترحيب والإكرام. وكانت الحصيلة بضعة عشر ألف جنيه مصري لا تبني مدرسة واحدة، ومائة منحة للطلبة الجزائريين لا تكفيهم منحهم مصاريف الحياة فينفق عليهم الإبراهيمي آلاف الجنيهات كل سنة!! وخلال سفرته هذه قامت الثورة الجزائرية ولم يستطع الإبراهيمي العودة للجزائر، فاستقر بالقاهرة مشرفاً على مكتب «جمعية العلماء» ساهراً على البعثات العلمية الجزائرية إلى عواصم العالم العربي، وكان منزله بمصر الجديدة ملتقى العلماء والأدباء وقبلة طلبة العلم وأبناء الثورة الجزائرية وقادتها. وكان الإبراهيمي موضع إجلال واحترام لسعة علمه وجهاده الكبير، فتوسط حين وقع الخلاف سنة 1954 بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر، لكن لم تنجح محاولته؛ وبدأت مرحلة جديدة. المحطة الرابعة: مع قيام الثورة ضد فرنسا بالجزائر في 1/11/1954، أصبحت مهمة الإبراهيمي الكبرى دعم الثورة والتحريض على نصرتها، فكان أول قائد جزائري يحتضن الثورة ويؤيدها، مما كان بمثابة الفتوى الشرعية بالنفير العام والجهاد بالمال والنفس والولد، وكان في طليعة من وقع على ميثاق جبهة تحرير الجزائر، لأن الإبراهيمي كان يعتقد أن الثورة هي النتيجة الطبيعية لجهود جمعية العلماء طيلة ثلاثين سنة بتعليم الشباب وبث المعرفة بينهم، إن مكانة الإبراهيمي في الثورة الجزائرية لا يمكن وصفها إلا بأنه «روح الثورة». ولقد شهد رئيس الوفد العراقي في لأمم المتحدة د. فاضل الجمالي أن الإبراهيمي قال في كلمة له بمناسبة استقلال ليبيا في عام 1951: «إنّ الجزائر ستقوم قريبا بما يدهشكم من تضحيات وبطولات في سبيل نيل استقلالها، وإبراز شخصيتها العربية الإسلامية»، وذلك أنه كان يتلمس الانفجار الشعبي في أية لحظة. وشارك الإبراهيمي في تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة والذي يضم تونس والمغرب والجزائر للتحرر من قبضة فرنسا، وافتتاح إذاعة صوت الجزائر من الإذاعة المصرية، وقد كان أول صوت يصدر من هذه الإذاعة هو صوت البشير الإبراهيمي مناديًا الثوار: "لا نسمع عنكم أنكم تراجعتم، أو تخاذلتم"، وأصبح الإبراهيمي لسان الثورة في المقابلات الصحفية والإذاعة المصرية والمنتديات والدول التي زارها داعيا لدعم الثورة، فالتقى بالملوك والرؤساء العرب والشعوب والعلماء والمفكرين، وحين زار باكستان لهذا الغرض أصيب بحادث سيارة وكسر عموده الفقري وألزمه الفراش شهوراً، فطلب أن لا ينشر خبر إصابته فتشمت فرنسا بالثورة الجزائرية. ولدور الجمعية المحوري والهام في الثورة الجزائرية فقد كان أفراد الجمعية هم نواة جيش التحرير الجزائري، وقد أعلنت الجمعية بيانا رسمياً عن دعمها للثورة في مجلتها (البصائر) في عدد 7/1/1956، فقام الاحتلال الفرنسي بحل الجمعية وسحب ترخيصها سنة 1956م. وقد شارك فرع فرنسا بدعم الثورة من خلال تنظيم الجالية المتواجدة في فرنسا وتأطيرها لصالح الثورة. وبقي الإبراهيمي في مصر حتى تحقق الاستقلال وعاد للجزائر سنة 1962، وطيلة تلك الفترة بقي الإبراهيمي شعلة حماس للإسلام والعروبة والجزائر، وشارك مع عدد من العلماء والمفكرين بعقد ندوة أسبوعية فكرية وثقافية بعنوان ندوة الأصفياء، وتم تكريمه بمنحه عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1961م، بعد أن كان عضوا مراسلا منذ سنة 1954، وسبق ذلك أن كان عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ سنة 1945. أما العناوين الكبرى التي عمل الإبراهيمي للدفاع عنها فهي: الدين، اللغة، الوطن. واصطدم من أجل ذلك بالاحتلال والطرق الصوفية المتعاونة معه، والمنبهرين بالغرب من المتفرنسين وغيرهم. المحطة الخامسة: عاد الإبراهيمي إلى بلده الجزائر بعد انتصار الثورة الجزائرية وإعلان الاستقلال، وألقى خطبة أول جمعة تقام في جامع «كتشاوة» في العاصمة وهو المسجد الذي حوله الاحتلال الفرنسي إلى كاتدرائية ضمن سياسته بحرب الإسلام وتنصير الجزائر، حيث داهمت الجيوش الفرنسية الجامع يوم جمعة وهو غاص بالمصلين، فاحتلته وحوّلته إلى كاتدرائية، فكانت خطبته بمثابة إنهاء للمشروع الفرنسي بتنصير الجزائر، ولكن بقي الصراع على هوية الجزائر ومكان الإسلام فيها بين الجمعية وقادة جبهة التحرير، وللأسف فإن المعلومات عن الخلاف بين الإبراهيمي والجمعية من جهة، وقادة جبهة التحرير من جهة أخرى ليست متوفرة وواضحة. فعقب انتصار الثورة الجزائرية وقعت في صفوفها خلافات واسعة، لم يحسمها إلا انحياز هواري بومدين رئيس قيادة الأركان لأحمد بن بلة وتنصيبه رئيساً للجزائر، ومن هنا حصلت القطيعة بين الإبراهيمي والجمعية بسبب هوس بن بلة بالفكر الاشتراكي اليساري، فحصلت القطيعة عندما اتهم الابراهيمي أحمد بن بلّة بتغييب الإسلام عن معادلات القرار الجزائري وذكّر بن بلة بدور الإسلام في تحرير الجزائر والجزائريين من ربقة الاستعمار الفرنسي, وبسبب هذا التصادم وضع الإبراهيمي تحت الإقامة الجبرية وقطع عنه الراتب الشهري وبقي كذلك بدون راتب وتحت الإقامة الجبرية إلى وفاته. فلازم الإبراهيمي بيته، لكن الوفود لم تنقطع عن زيارته، ومع ذلك فقد كتب الإبراهيمي رسالة لقادة الجزائر في سنة 1964 بسبب تفاقم الخلافات فيما بينهم وبسبب الانحراف عن منهج الإسلام الذي عمل في سبيله طيلة عمره، فكتب إليهم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنيّة مرتاح الضمير, إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق والنهوض باللغة- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله – إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن ولذلك قررت أن ألتزم الصمت. غير أني أشعر أمام خطورة الساعة وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – أنّه يجب عليّ أن أقطع الصمت, إن وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل, ولكنّ المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيئ إلى الوحدة والسلام والرفاهية وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تبعث من صميم جذورنا العربية والإسلامية لا من مذاهب أجنبيّة. لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألاّ يقيموا وزنا إلاّ للتضحية والكفاءة وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم, وقد آن أن يرجع إلى كلمة الأخوة التي أبتذلت –معناها الحق – وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبيّ صلىّ الله عليه وسلم, وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيّدوا جميعا مدينة تسودها العدالة والحرية, مدينة تقوم على تقوى من الله ورضوان .. إ.هـ وفاته: وفي يوم الجمعة من 20 محرّم سنة 1385 هجرية الموافق لـ 21 مايو – أيّار سنة 1965 توفي الإبراهيمي عن ستة وسبعين سنة في الجزائر ودفن في مقبرة «سيدي أمحمد» في جنازة مشهودة. آثاره: للإبراهيمي خمسة عشر مؤلفاً في اللغة والأدب والدين ذكرها في ترجمته لنفسه، وفي حفل عضويته بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولكن أكثرها فُقد. وقد جمع هو وبعض أحبابه تراثه في أربعة مجلدات، منها كتاب «عيون البصائر» وهو ما جمعه الإبراهيمي من مقالاته الافتتاحية بجريدة «البصائر». بعض من كلماته: * كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟ أم كيف يتفرقون ويضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى؟ فلو أنهم اتبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان. ولكن الأولين آمنوا فأمنوا واتبعوا فارتفعوا، ونحن فقد آمنا إيماناً معلولاً، واتبعنا اتباعاً مدخولاً، وكل يجني عواقب ما زرع. * تدبر القرآن واتباعه هما فرق ما بين أول الأمة وآخرها وإنه لفرق هائل، فعدم التدبر أفقدنا العلم، وعدم الاتباع أفقدنا العمل. وإننا لاننتعش من هذه الكبوة إلا بالرجوع إلى فهم القرآن واتباعه. ولا نفلح حتى نؤمن ونعمل الصالحات. }فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون{. * أسوأ ما وقع فيه دعاة الثقافة الغربية من عيوب هو الجهل المطبق بحقائق الإسلام، وأن أسوأ ما وقع فيه أنصار الثقافة الإسلامية هو الجهل المطبق بمشاكل العصر ومستلزماته. * إن الأوطان تجمع الأبدان، وإن اللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلفها ويصل بين نكرات القلوب فيعرّفها هو الدين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيقة ولكن التمسوها في الدين والتمسوها من القرآن تجدوا الأفق أوسع. * إذا كان الإسلام دينا وسياسة، فجمعية العلماء دينية وسياسية، قضية مقنعة لا تحتاج لسؤال وجواب، وجمعية العلماء ترى أن العالِم الديني إذا لم يكن عالما بالسياسة ولا عاملا بها، فليس بعالم، وإذا تخلى العالم الديني عن السياسة فمن يصرفها و يديرها. * وإنك لتسمع بعض الألسنة التي تترجم عن قلوب جاهلة أو مريضة تردد هذا السؤال: ما معنى مشاركة العلماء في مؤتمر سياسي؟ كأنهم يريدون تخويفنا بهذا الغول الموهوم "غول السياسة" وتفويت الفرصة علينا بمثل هذه الترهات، وكم أضاعت هذه الترهات على الغافلين من فرص؟ * إنَّنا نجتمع مع الوهابيين في الطريق الجامعة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونُنكر عليهم غلوَّهم في الحقِّ، كما أنكرنا عليكم غلوَّكم في الباطل، فقعوا أو طيروا، فما ذلك بضائرنا، وما هو بنافعكم. مراجع للتوسع: 1- في قلب المعركة، محمد البشير الإبراهيمي، شركة دار الأمة، الجزائر، ط1، 2007. 2- الإبراهيمي ونضال الكلمة، د. محمد زرمان، دار الأعلام، الأردن، ط 1، 2010. 3- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بأقلام معاصريه، شركة دار الأمة، الجزائر، ط2، 2007. 4- البشير الإبراهيمي نضاله وأدبه، محمد مهداوي، دار الفكر، سورية، ط1، 1988. 5- من سير الخالدين بأقلامهم، حسن سويدان، دار القادري، سورية، ط1، 1998. [1]- يقصد قول عمر الذي رواه المصنف في "الأيمان والنذور" أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر".
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
العلاّمة المجاهد علال الفاسي أسامه شحادة العلاّمة المجاهد علال الفاسي تمهيد: العلامة علال الفاسي هو علال بن عبد الواحد بن عبد السلام بن علال، الفاسي الفهري، ينتمى لأسرة عربية عريقة، استقرت ببلاد الأندلس، ثم فرّت منها إلى المغرب بسبب محاكم التفتيش الإسبانية، ومن هذه الأسرة السيدة فاطمة بنت محمد الفهري التي بنت بمالها جامع القرويين الشهير، عام 245 هجرية. ولد علال سنة 1328هـ / 1910م لأحد كبار علماء المغرب في مدينة فاس، الذي كان مدرساً بالقرويين وقاضياً، كما كان أجدادُه من قبله، والفترة التي ولد فيها علال كانت فترة تاريخية صعبة، حيث كانت البلاد الإسلامية تحت حكم الاحتلال الصليبي، وهذه البيئة الصعبة والعائلة العريقة والإرادة الربانية من قبل هي التي جعلت من علال أحد رموز الإصلاح في الأمة. شخصية علال الفاسي تعاني من تعامل مجزوء معها، فالدور السياسي الكبير لعلال الفاسي في استقلال المغرب طغى على دوره الإسلامي الإصلاحي، وغابت صورة علال السلفي العالِم المجدد عن أذهان الكثيرين من السياسيين بل حتى عند الإسلاميين. وغابت صورة علال السياسي، مؤسس الأحزاب، ومسعّر حرب الاستقلال، ورئيس لجنة كتابة الدستور، والوزير والمعارض عن أذهان كثير من طلبة العلم المعجبين بعلال!! إن علال يمتلك عدة شخصيات ضخمة فهو يمتلك شخصية العالم المجدد، وشخصية المفكر الناقد المبدع، وشخصية المجاهد والمقاوم البطل، وشخصية السياسي الذكي. رحلته العلمية: درس علال بداية في الكُتَّاب، حيث تلقى مبادئ الكتابة والقراءة، فحفظ القرآن الكريم مبكراً، ثمّ نقله والده للمدرسة العربية الحرة بفاس القديمة، ثم في عام (1338هـ) التحق بجامع القرويِّين، فالتقى بالعلامة السلفي محمد بن العربي العلوي والذي درس عليه المختصر بشرح الدردير، والتحفة بشرح الشيخ التاودي بن سودة، وجمع الجوامع بشرح المحلي، والكامل في الأدب للمبرد، ومقامات الحريري، وعيون الأخبار لابن قتيبة. ودرس على عدد من العلماء الأكابر في جامع القرويين علوماً متعددة كان منهم شيخ العربي العلوي، الشيخ العلامة المحدث أبو شعيب الدكالي الذي قرأ عليه صحيح البخاري؛ وقد حصل على الشهادة العالمية عام 1932، ولم يتجاوز عمره الثانية والعشرين. موجز مسيرته العملية العلمية: * عمل مدرساً بالمدرسة الناصرية، وذلك أثناء دراسته بالقرويين. * بعد تخرجه وحصوله على إجازة من والده، ومن عمه الفقيه عبد الله الفاسي، ومن شيخيه العلامتين أبي شعيب الدكالي ومحمد بن جعفر الكتاني، وصار يدرّس بجامع القرويين حول التاريخ الإسلامي. * عمل أستاذاً محاضراً بكلية الشريعة التابعة لجامعة القرويين بفاس، كما عمل محاضراً بكليتي الحقوق والآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، ومحاضراً بدار الحديث الحسنية بالرباط. * هو صاحب فكرة إنشاء وزارة للشؤون الإسلامية بالمغرب. * كان له فضل حث الملك الحسن الثانى سنة 1964م على إنشاء دار الحديث الحسنية. * كان له دور بارز في تطوير جامعة القرويين واستحداث كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية. * كان عضواً ومقرراً عاماً في لجنة مدونة الفقه الإسلامي التي شُكلت في فجر الاستقلال المغربي. كما أن له باعاً طويلاً وقدماً راسخة في الفقه الإسلامي وخاصة الفقه المالكي والفقه المقارن، وله اجتهادات فقهية يحتج بها علماء المغرب والجزائر وتونس. * انتخب عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة. * له عدد من المؤلفات منها: عقيدة وجهاد، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، دفاع عن الشريعة، محاضرتان عن مهمة علماء الإسلام، الإسلام وتحديات العصر، دفاعاً عن الأصالة، شرح مدونة الأحوال الشخصية، تاريخ التشريع الإسلامي، المدخل للفقه الإسلامي، المدخل لعلوم القرآن والتفسير، بديل البديل، نضالية الإمام مالك، النقد الذاتي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، وغيرها؛ وله كتب باللغة الفرنسية. كما أصدر مجلة "البينة"، وجريدة "صحراء المغرب"، و"الحسنى". مسيرته السياسية: مر معنا أن المغرب والعالم الإسلامي كان تحت الاحتلال، وأن علال درس على العلامتين أبي شعيب الدوكالي ومحمد العربي العلوي اللذين كانا قادة العمل الوطني في المغرب، ولذلك سرعان ما انخرط علال الفاسي في العمل الوطني المغربي ومقاومة المحتل الفرنسي، وبدأت مسيرته المباركة في هذا الجهاد الطويل، والباحثون في سيرته الوطنية يذكرون أنها مرت بعدة مراحل هي: 1- تأليف جمعية من زملائه الطلبة في القرويين أطلق عليها "جمعية القرويين لمقاومة المحتلين" لدعم المجاهد المغربيّ الكبير، الملقّب ببطل الصحراء، عبد الكريم الخطّابي، في جهاده ضد الاحتلال الفرنسي. 2- أيد موقف شيوخه الدكالي والعلوي بمعارضة الظهير البربري، فألقى عدة خطب في التحذير منه، وبسبب فصاحته وخطابته المؤثرة كانت تستجيب له الجماهير فتخرج المظاهرات الحاشدة تندد بهذه السياسة الخبيثة، ولذلك اعتقلته السلطات الفرنسية وهو طالبٌ بالعالمية، ونفته إلى بلدة (تازة)، ثم عاد بعد الإفراج عنه إلى فاس سنة (1931م) فمنعته من التدريس، فانصرف إلى جامع القرويين يلقي الدروس العلمية الليلية عن تاريخ الإسلام، وعن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، مقارنا بين حالة المسلمين الأوائل وواقع إخوانهم المعاصر، وقد جذبت هذه الدروس اهتمام المغاربة من الرجال والنساء، ولم يكتف بهذا، فاختار نخبة من زملائه وأوفدهم إلى شتى القرى لنشر الوعي والأفكار الصحيحة وتأجيج الشعور الوطني. 3- في عام 1933م حاولت الإدارة الفرنسية اعتقاله مجدداً فسافر إلى إسبانيا وسويسرا، واتصل بالأمير شكيب أرسلان وإخوانه المناضلين العرب والمسلمين. 4- عاد إلى المغرب عام (1934م)، وأسس أول نقابة للعمال سنة 1936م. 5- أنشأ كتلة العمل الوطني سنة (1937م) فأبعدته السلطات إلى (الغابون) منفياً إلى سنة (1941م)، ثم إلى (الكونغو) حتى سنة (1946م)، حبيساً في زنزانةٍ مظلمةٍ، ولم يسمحوا له بمصحفٍ إلا بعد عامٍ ونصف. 6- بعد إطلاق سراحه، أنشأ مع رفاقه حزب الاستقلال ثم سافر متنقلاً بين البلاد العربية والأوروبية يدعو لاستقلال المغرب عن فرنسا، وقد استطاع في هذه الجولات أن يتصل بكثيرين من القادة والزعماء والمجاهدين في العالم الإسلامي. عاد إلى المغرب سنة (1949م) فمنعه الفرنسيون من الدخول، فأقام بمدينة (طنجة)، وكانت يومئذ منطقة دولية. 7- في سنة (1953م) قام الاستعمار الفرنسي، بنفي الملك المغربي محمد الخامس خارج البلاد، فدعا علال الفاسي الشعب المغربي للثورة ضد فرنسا، وكان قائد الثورة حتى عودة الملك، واستقرار أمر البلاد. 8- بعد نيل المغرب استقلاله سنة (1375هـ/1955م) ورجوع الملك محمد الخامس إلى عرشه عاد علال الفاسي إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات قضاها في القاهرة، وعاود نشاطه القديم فتولى رئاسة حزب الاستقلال الذي أنشئ من قبل، واختير عضوا رئيسيا في مجلس الدستور لوضع دستور البلاد، ثم انتخب رئيسا له بسبب مركزية دوره وجهاده لفرنسا، وقدم مشروع القانون الأساسي، وشارك في وضع الأسس الأولى لدستور سنة 1962م، ودخل الانتخابات التي أجريت سنة (1383هـ/ 1963م) ودخل الوزارة، وإليه يرجع الفضل في إنشاء مشروع وزارة للدولة مكلفة بالشئون الإسلامية. 9- بعد وفاة الملك محمد الخامس، تولى وزارة الدولة للشؤون الإسلامية عام 1961م، ثم استقال عام 1963م، وانضمّ بحزبه حزب الاستقلال إلى صفوف المعارضة السّلميّة الناصحة[1]. 10- له مشاركات مهمة في كثير من قضايا الأمة الإسلامية وخاصة فلسطين. سلفية علال الفاسي: ظهرت سلفيته في دروسه التي بدأ يلقيها في القرويين منذ كان طالباً سنة 1933م، وبسبب ذلك قام بعض الحاقدين بشكايته للملك بدعوى أنه ينال من الصالحين والأولياء، لكن دفاع شيخه محمد العربي العلوي عنه أحبط مساعيهم، وفي المستقبل سيصطدم علال ببعض مشايخ الطرقية الذين استعملهم الاستعمار الفرنسي لإضفاء الشرعية على إزاحة الملك محمد الخامس عن عرشه سنة 1953م. وأيضاً حين هاجم الطرقيين زميله في الدراسة العلامة محمد المكي الناصري بسبب كتابه "إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة" قام علال بكتابة مقال بعنوان "الطرق والإسلام" نشر في مجلة "إظهار الحق" بتاريخ 19/3/1926م. ومنذ تلك المرحلة وعلال ورفقاؤه في حرب مع الخرافة والطرقية حلفاء المستعمر الفرنسي، وهذه السلفية هي التي صاغت الحركة الوطنية المغربية عامة، يقول علال في كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي": «لئن كانت السلفية في باعثها الحنبلي ترمي لتطهير الدين من الخرافات التي ألصقت به والعودة إلى روح السنة المطهرة؛ فإنها لا تقصد من وراء ذلك إلا تربية الشخصية الإسلامية على المبادئ التي جاء بها الإسلام، بصفته المتكفل بصلاح الأمة في دينها ودنياها، وإعدادها لتكون لها الخلافة في هذه الأرض التي حكم الله ألا يرثها من عباده إلا الصالحون، وبذلك فهي حركة تتناول نواحي المجهود الفردي لصلاح المجتمع، وتتطلب فتح الذهن البشري لقبول ما يلقى إليه من جديد، وقياسه بمقياس المصلحة العامة لإرجاع المجد العظيم الذي كان للسلف الصالح في حظيرة الإيمان وحظيرة العمل". ويصرح علال بأن "الحركة السلفية التي علمت بدء نهضتنا أول تمهيد لهذا الكفاح العقلي والاجتماعي، ولكنها ستظل من غير فائدة إذا لم تتوج بحركة إصلاح شاملة، ومن درجة أقوى وأشد عتوا. لقد عَلمت السلفية الشعب أن يستمع لنقد كثير مما كان يحرم على نفسه أن ينظر فيه أو يستمع لاستنكاره، وهي لم تقم إلا بواجب يفرضه الإسلام نفسه، إذ هو حركة مستمرة وتقدم دائب". وانطلاقاً من سلفيته خاض معركة الـ "دفاع عن الشريعة" حين جاء وقت كتابة الدستور المغربي بعد الاستقلال ومحاولة التيار الشيوعي في المغرب إلغاء هوية المغرب الإسلامية في الدستور، وكذلك ألف كتابيه "تاريخ التشريع الإسلامي" و"المدخل للفقه الإسلامي" ليثبت للمخالفين سبق الإسلام للغرب في جانب القانون والدستور من خلال بيان اقتباس الغرب لكثير من فقه الإسلام في قوانينهم. وبقيت السلفية منهج علال حتى وفاته، ففي محاضرته عن الأصالة سنة 1973 أي قبل وفاته بشهور يقول: "وأول ما يجب أن نعتز به من تراثنا هو ديننا الحنيف، فيجب أن نحافظ على التمسك به، واليقين في أفضلية مبادئه، ولكن يجب أن نفرق بين دين الكتاب والسنة، الإسلام الصافي الذي جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأعطانا صورته في شخصه، وسار على غِراره الصحابة الكرام والتابعين ومن تبعهم بإحسان وكل المصلحين.. ولكن هذا الدين وهؤلاء المسلمين خُلق من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.. فمنهم المبتدع في العقيدة، ومنهم المنحرف في الشريعة، ومنهم المكثرون من الخرافات..". لقد كانت سلفية علال تمزج بين تحرير الفرد من عوائق الشعوذة والخرافة الصوفية، وتحريره من عوائق التخلف والجهل، وتحريره من عوائق الاستعمار والاحتلال الأجنبي. موسوعية علال الفاسي وعبقريته: لقد تميز علال بموسوعية مدهشة وعبقرية فذّة، وساعده على ذلك ذكاؤه الفطري ومطالعاته الواسعة وتنقله بين البلاد بسبب النفي أو الهروب أو السفر، وقد ظهر ذلك في كتبه المتنوعة ولكن كتابه "النقد الذاتي" يعد أكبر دليل على موسوعية علال وعبقريته، فهو قد ناقش في هذا الكتاب النظريات المعروفة في عصره سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتربوياً ونقدها وقدم البديل عنها للمجتمع المغربي، وذلك لتكون النظرية التي يسير عليها المغرب بعد استقلاله، وهذا يدل على عبقريته وتخطيطه المبكر لحاجة المغرب للنهوض والتقدم. فعلال بعد أن درس حركات التحرر والاستقلال في المغرب العربي في كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" وجد أن من واجبه "تكوين النظرية ووضع البرنامج المفصل الذي يسهل علينا تحقيق الإصلاحات العميقة التي تنشدها أمتنا.."، وهذا الكتاب لا غنى لكل دارس للفكر الإسلامي والإصلاحي من دراسته والعناية به. يقول العلامة عبدالله كنون عن هذا الكتاب: "هو أكثر من كتاب سياسي، إنه والحق يُقال منهاج للحكم والإصلاح الاجتماعي". وفي هذا الكتاب وغيره من كتابات علال الكثير من التأصيل للاجتهاد السياسي الإسلامي الذي سبق فيه كثيراً من المعاصرين، ولكن للأسف لم ينل حظه من العناية. حزب الاستقلال: لقد نشأ حزب الاستقلال لغرض مقاومة الاحتلال الفرنسي، ولذلك لم يكن له غرض ديني أو هوية أيديولوجية، وكان فيه توجهات سياسية وفلسفية شديدة الاختلاف كان همها الوحيد التحرير من الاستعمار، الشيء الذي وحد بينها في نطاق حزب وطني كبير يخفي وراءه تناقضات داخلية كبيرة ولذلك بعد الاستقلال حدثت عدة انشقاقات عن الحزب، وخرجت منه التيارات اليسارية، وفقد بعد ذلك علال السيطرة عليه، وهذا ما جعل علال في آخر عمره يصرح بندمه على عدم تأسيسه لحركة إسلامية. بداية حزب الإستقلال كانت من خلال كتلة العمل الوطني، التي تكونت بعد صدور الظهير البربري في سنة 1930م، وفي مطلع سنة 1937م شكلت اللجنة التنفيذية للكتلة وكان علال الفاسي رئيسا لها وضمت شخصيات متعددة التوجهات، وبعد شهرين قام الاحتلال الفرنسي بحل الكتلة وإقفال مكاتبها بالقوة. ولما لم يمكن إعادة الكتلة للوجود تم تأسيس الحزب الوطني بعد شهر من حل الكتلة، وكان علال من قادته ولذلك تم نفيه لخارج المغرب في نفس السنة. وفي 11/1/1944 أُعلن عن ولادة حزب الاستقلال حيث تم تقديم ما عرف في تاريخ المغرب بـ "وثيقة المطالبة بالاستقلال" من قبل أنصار ورفقاء علال الذي لا يزال في المنفى. وحين عاد علال للمغرب سنة 1946م قاد الحزب حتى وفاته عام 1974م. في 1959م غداة الاستقلال شهد الحزب انشقاقا انبثق عنه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اليساري، الذي ستنشق عنه بدوره فيما بعد أحزاب يسارية أخرى. وذلك بسبب الخلاف بين التيار "التقليدي المحافظ" والتيار "التقدمي اليساري" في حزب الاستقلال على توجهات ودستور المغرب المستقل. ولذلك لم ينجح علال في ترؤس لجنة وضع الدستور بسبب معارضة الحزب الشيوعي وحزب الاتحاد المنشق عن الاستقلال، لرفضهم الرؤية الإسلامية للدستور التي يتبناها علال الفاسي، ونتج عن ذلك انفراد القصر الملكي بوضع الدستور لصالح الملك في عدد من القضايا الخلافية كاختصاصات الملك الواسعة، وطبيعة النظام السياسي، ودور البرلمان، ودور الأحزاب، وكيفية تشكيل الحكومة وصلاحياتها، ويكاد هذا الوضع يتكرر الآن بعد 50 سنة في مصر في الصراع على اللجنة التأسيسية للدستور المصري!! بعد ذلك دخل الحزب في صراعات سياسية حوّلته من مؤيد للقصر إلى معارض، ولم يعد علال الفاسي يسيطر على الحزب ولم يعد الحزب يمثل توجهات علال بسبب عدم وجود انتماء حقيقي لفكر علال بالحزب. ولذلك أعلن مؤخراً في سنة 2012م عن تأسيس حركة تصحيحية أطلق عليها «حركة 11 يناير للفكر العلالي والقيم التعادلية لحزب الاستقلال»، تروم التشبث بالقيم الحقيقية لحزب الاستقلال، كما رسخها الزعيم علال الفاسي ورفاق دربه من القادة التاريخيين الموسومين بنظافة الذمة ونزاهة الفكر. وفاته لقد أكرمه الله أن وافته منيته يوم الاثنين 20 من ربيع الآخر 1394هـ - 13 من مايو 1974م، وهو يجاهد لقضايا وطنه وأمته، حيث توفي في بوخارست عاصمة رومانيا، في زيارة لشرح وبيان قضية المغرب والصحراء المغربية، وقضية الشعب الفلسطيني في مواجهة الصهيونية دفاعاً عن دينه وأرضه، رحم الله العلامة المجاهد علال الفاسي رحمة واسعة. مراجع للاستزادة: 1- علال الفاسي استراتيجية مقاومة الاستعمار، أسيم القرقري. دار أفريقيا العربية، الدار البيضاء، 2010. 2- علال الفاسي رائد التنوير الفكري في المغرب، المفكر السلفي المجدد والزعيم السياسي، أحمد بابانا العلوي، دار أبي قراقر، الرباط، 2010. 3- أسرار وحقائق عن علال الفاسي، محمد السلوي أبوعزام، دار الرشاد الحديثة، 1981. 4- علال الفاسي: ينبوع فكري متجدد، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط: 2001. [1] - انظر مقال "من فقهاء العصر محمد علال الفاسي" لصلاح عباس فقير، بشبكة الإنترنت.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
العلاّمة الطيب العقبي أسامه شحادة العلاّمة الطيب العقبي تمهيد: الشيخ الطيب العقبي من أركان الإصلاح في الجزائر، ومن أعمدة جمعية العلماء المسلمين فيها، كان صاحب مواقف قوية ضد الشرك والبدع والخرافات، حتى كان الطرقيون والمبتدعة يطلقون على دعاة التوحيد لقب "عقبي" !! مولد العقبي ونشأته هو الطيب بن محمد بن إبراهيم، ولد في شهر شوال سنة 1307هـ الموافق لـ 1890م في الجزائر بضواحي بلدة «سيدي عقبة» التي ينسب إليها. هاجرت أسرته إلى الحجاز للحج سنة 1313هـ وكان صغيراً، ثم في السنة التالية سكنت عائلته المدينة النبوية في أول سنة 1314هـ /1895م، هرباً من حملات الفرنسيين بتجنيد الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي، ولايزال بعض أقاربه في السعودية لليوم ويحملون جنسيتها. وفي المدينة المنور قبر أبويه وعمه وعم والده وأخته، وجلّ من هاجر من أفراد عائلته، كلهم دفنوا هناك ببقيع الغرقد رحمة الله عليهم، وقد توفي والده والعقبي في سن الثالثة عشر، وبعد وفاة والده أصبح يتيماً فتربى في حجر أمه، وقد سخر الله له شقيقه الأصغر حيث كان هو من يقوم بقضاء ما يلزم من الضروريات المنزلية فتفرغ للعلم. فقرأ القرآن على أساتذة مصريين برواية (حفص) ثم شرع بحضور دروس بعض العلماء بالحرم النبوي، مثل الشيخ محمد بن عبد الله زيدان الشنقيطي الذي أخذ عنه الأدب والسيرة، والشيخ حمدان الونيسي والذي كان من أبرز العلماء السلفيين في الجزائر وكان مربي ابن باديس، ثم هاجر للمدينة المنورة، وقد قابله ابن باديس في المدينة حين قدم للحج، وفي المدينة المنورة كان أول لقاء للعقبي مع ابن باديس والبشير الإبراهيمي، وكان لتأثرهم بالشيخ حمدان الونيسي أن اجتمعت أفكارهم ونشاطهم السلفي على الإصلاح. وقد نبغ العقبي في العلم برغم عدم انتظام دراسته في معاهد علمية وتميز في نظم الشعر والأدب، ثم عمل العقبي بالتدريس، وبدأ مسيرته الإصلاحية بالكتابة في الصحف الحجازية داعياً للإصلاح والعمل فلقيت مقالاته قبولاً عند المسلمين وفتحت له صداقة ومراسلة مع بعض المصلحين المعروفين كشكيب أرسلان ومحبّ الدين الخطيب، وأصبح من أنصار ودعاة فكرة الجامعة الإسلامية ضد أنصار الاستعمار والقوميات الضيقة كحزب الاتحاد والترقي، وبذلك ترسخ منهجه السلفي الإصلاحي وانتشر صيته ودوره بين المصلحين والنهضويين. ولهذا قام ساسة ورجال حزب تركيا الفتاة بنفيه إلى شبه الجزيرة التركية أكثر من سنتين، عقب ثورة الشريف حسين بسبب مقالاته في الصحف ولعدم تعاونه معهم، وقد لحقت به عائلته بعد خراب المدينة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد إلى مكة المكرمة، فأكرمه الشريف حسين وتولى رئاسة تحرير جريدة «القبلة» وإدارة «المطبعة الأميرية» في مكة خلفا للعلامة محب الدين الخطيب. وفي مكة زاد اطلاعه على الدعوة السلفية في نجد (دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب)، حتى لقب في الجزائر بالوهابي، بسبب نشاطه الكبير في الدعوة للعقيدة السلفية ونبذ الشرك، ومن الطريف أن العقبي يشابه الإمام ابن عبد الوهاب من حيث أنه حين عاد لبلده عاد سلفيا يحمل الدعوة للتوحيد ونبذ الشرك فعاداه قومه، وانظر للعقبي يلخص دعوته ومنهجه في أبيات شعرية فيقول: ماتت السنة في هذي البلاد قبر العلم وساد الجهل ساد أيهـا الـسائـل عـن مـعـتـقــدي يـبـتـغي مـنـي مــا يحوي الفؤاد إنــني لــست بــبدعــي ولا خــارجــي دأبــه طــول العــناد منهجي شرع النبي المصطفى واعتقادي سلفي ذو سداد لم أطُف قط بقبر لا ولا أرتجي ما كان من نوع الجماد لا أنادي صاحب القبر أغث أنت قطب أنت غوث وسناد لا أسوق الهدي قربانا له زردة يدعونها أهل البلاد ويقول: مذهبــي شــرع النبي المصطفى واعتقادي سلفـي ذو سـدادْ خطتـي علـمٌ وفكــرٌ ونظـرْ في شؤون الكون بحثٌ واجتهادْ وطريـق الحــق عنـدي واحـدٌ مشربي مشربُ قـربٍ لا ابتعادْ رجوعه إلى الجزائر رجع الشيخ العقبي إلى الجزائر في 3/1920م بهدف حماية أملاك العائلة من اعتداء البعض عليها، وبسبب اضطراب الأوضاع في الحجاز بين الشريف حسين والملك عبد العزيز بن سعود، فعاد للجزائر بنية حماية أملاكهم المعتدى عليها، ثم الرجوع إلى الحجاز. لكن لم يكتب له العودة للحجاز وبقي في الجزائر، وقد جوبه العقبي بمعاملة فظة من الاستعمار الفرنسي إذ عاملوه معاملة مهينة واستقبلوه باعتقال لنحو شهرين واستجواب وتفتيش ووضع تحت المراقبة! ثم اصطدام بالجهلة والمزيفين من أهل العلم فأثرت على نفسيته فانزوى وانقطع عن العلم والكتابة في الصحف، وحين كتب بعد عدة سنوات بعض الآراء والأفكار في مسائل تخص العلم والدين ثارت ثائرة الجامدين ضده. وقد عاد العقبي للجزائر بشخصية حجازية في ملبسه ومنطقه وفكره، وبقي يحنّ للحجاز والعودة إليهم، وقد وصف الشيخ ابن باديس حنين العقبي للحجاز أثناء سفرهم إلى باريس ضمن وفد المؤتمر الإسلامي، في سنة 1936م وهم على متن السفينة التي تقلّهم قائلا: "فلما ترنحت السفينة على الأمواج وهبّ النسيم العليل هب العقبي الشاعر من رقدته وأخذ يشنف أسماعنا بأشعاره ويطربنا بنغمته الحجازية مرة والنجدية أخرى ويرتجل البيتين والثلاثة، وهاج بالرجل الشوق إلى الحجاز فلو ملك قيادة الباخرة لما سار بها إلا إلى جدة، وإن رجلا يحمل ذلك الشوق كله للحجاز ثم يكبته ويصبر على بلاء الجزائر وويلاتها ومظالمها لرجل ضحّى في سبيل الجزائر أي تضحية"، ومن شعر العقبي في الحجاز قوله: سلام على أرض الحجاز سلام ولست على حبي الحجاز أُلام سلام على آل وصحب عهدتهم وإن بعـدت منهم عليك خيام بداية نشاطه الدعوي أقام بمنطقة بسكرة حين رجع إلى الجزائر، وكانت دروسه العلمية والوعظية لطلبة العلم والعامة في مسجد «بكار» والذي لم يكن يخضع للطريقة التيجانية، فكان يدرّس كتاب الجوهر المكنون وكتاب القطر في النحو، ودرس في التفسير للعامة من تفسير المنار، وكان يعقد مجالس أدبية يحضرها أدباء ومثقفون أمثال الأمين العمودي ومحمد العيد آل خليفة. وبسبب هذا النشاط سرعان ما قامت السلطة الفرنسية باعتقاله قرابة شهر ثم أفرج عنه، فعاد أقوى مما كان في الدعوة للتوحيد والأخلاق الفاضلة وحرب الطرقية والخرافات، في المساجد والصحف التي يشرف عليها العلامة ابن باديس (المنتقد والشهاب) وكانت مقالاته من المقالات الهامة فيهما، فتجمع حوله مجموعة من الأدباء والمصلحين، وتحالف ضده الطرقيون الخرافيون والجامدون. وقد سعى الطرقيون إلى الطلب من والد ابن باديس أن يوقف هذه المقالات، فاستجاب ابن باديس لهم ونشر بياناً بعنوان «في سبيل الوفاق» يطلب من العقبي وبقية كتاب المنتقد والشهاب الكتابة في مواضيع أخرى، جاء فيه: «بما أنّ هذا الموضوع قد أخذ حظّه من البحث والنّقاش فإنّ الجريدة تعتذر لقرّائها عن اضطرارها لإغلاق هذا الباب،... وعلى كتّابها الأكارم أن يواصلوا مراسلاتهم في غير هذا الموضوع، فالمواضيع واسعة وخدمة المجتمع فيها أجدى وأنفع...» فرفض العقبي ذلك واعتبر الطلب مهادنة للطرقيين وتوقف عن الكتابة، فما كان من ابن باديس إلا أن ذهب إليه في بسكرة وقابله للعودة للكتابة، فكانت النتيجة أن تراجع ابن باديس عن توقيف المقالات ومعاودة الكتابة ضد مفاسد ودجل الطرقيين. يرى بعض الباحثين أن اختلاف البيئة التي نشأ فيها كل من العقبي وابن باديس هو سبب تنوع طرائقهم في الدعوة والإصلاح، فالعقبي نشأ في بيئة حجازية لم تكن بمستوى مظاهر الكهنوتية الشركية التي ابتدعتها الطرق الصوفية في الجزائر تضلل الناس بها وتبتز أموالهم، وتسوقهم سوق الأنعام في صور مجموعات بشرية ساذجة، والأكثر من ذلك أنها تجعلهم يستطيبون العيش تحت حذاء الأجنبي الكافر، بينما كان ابن باديس، ابن مدينة قسنطينة، أكثر اطلاعاً ومعرفة بعقلية الجزائريين، ولذلك كان العقبي يتخذ طابع الصراحة التامة وترك المجاملة مع المعارضين خصوصا في الأمور الدينية، في حين كان ابن باديس يتبع اللين والمرحلية مع المعارضين، وقد جعل أولويته نشر التعليم والتربية للناشئة وتهيئتها لخوض غمار المستقبل، بينما كان همّ العقبي نشر الإصلاح وتعميقه وتعميمه على الجميع، فكان السلاح الأول خفيا بطيء التأثير، وكان السلاح الثاني ظاهرا سريع التأثير. وبسبب هذه الحادثة سعى العقبي لتأسيس مجلة له ولإخوانه في بسكرة فظهرت جريدة «صدى الصحراء» في ديسمبر 1925م، ثم انفرد بتأسيس جريدة «الإصلاح» وذلك في 8 سبتمبر 1927م، وقد صدر من هذه الأخيرة 14 عددا ثم أوقفتها السلطة الفرنسية وذلك في سنة 1928م. وحين أسس "الإصلاح" اعتذرت المطبعة الإسلامية بقسنطينة عن طباعتها فطبعها في تونس، ولذلك عزم على تأسيس مطبعة، وفعلاً تم تأسيس «المطبعة العلميّة» مع مجموعة من زملائه، ولكن هذا استغرق منهم ثلاث سنوات، ولذلك صدر العدد الثاني في السنة الثالثة من عمر المجلة، وهذا يدلنا على الإرادة والإصرار اللذين كان يتحلى بهما العقبي، ومنهجه القائم على البحث عن الحلول وعدم البقاء في مربع المشاكل والعوائق. وهذا الاهتمام من العقبي بالصحف كان بسبب رؤية عميقة لدور الإعلام في نهضة الأمة، يقول العقبي في جريدة المنتقد (العدد الخامس): « إن الجرائد في الأعصر الأخيرة هي مبدأ نهضة الشعوب، والعامل القوي في رقيّها، والحبل المتين في اتصال أفرادها، والسبب الأول في تقدمها، والصحافة هي المدرسة السيارة والواعظ البليغ، وهي الخطيب المصقع والنذير العريان لذوي الكسل والبطالة، وهي سلاح الضعيف ضد القوي، ونصرة من لا ناصر له، وهي تأخذ الحق وتعطيه، وترمي الغرض فلا تخطيه وهي المحامي القدير عن كل قضية حق وعدل». مشاركته في تأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر لقد كان العقبي بما له من دور بارز وهام في حمل راية الإصلاح والدعوة والتوحيد في الجزائر من المؤسسين البارزين لجمعية العلماء، ولذلك انتخب ضمن مجلس الإدارة. وعين نائب الكاتب العام وممثلها في عمالة الجزائر، وتولى رئاسة تحرير صحف الجمعية (السنة والشريعة والصراط)، ثم جريدة (البصائر) من أول عدد لها صدر في 27 سبتمبر/ أيلول 1935م إلى العدد 83 الصادر في 30 سبتمبر 1937م حيث انتقلت إدارتها إلى قسنطينة، وكان العقبي في مقارعة شجاعة مع مختلف صحف الطرقيين (الإخلاص، المعيار، البلاغ الجزائري) التي حظيت بدعم سلطة الاحتلال بعكس صحافة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومن نشاطاته في جمعية العلماء: إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية ودعا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين.. وكانت له أنشطة أخرى خارج نطاق جمعية العلماء، فقد كان رئيسا للجمعية الخيرية الإسلامية، ومحاضرا دائماً في نادي الترقي منذ مجيئه للعاصمة سنة 1931م، بعد تأسيس جمعية العلماء وحتى أقعده المرض سنة 1958. أما سبب كونه خطيب ومحاضر النادي فهو أن أهل النادي كانوا يبحثون عن عالم يتولى مهمة المحاضرة والتدريس فيه، فلما حضر العقبي اجتماع جمعية العلماء المسلمين الأول وألقى محاضرة خلبت الألباب وأثرت في النفوس، رأى فيه أهل النادي الأهلية لأداء تلك المهام فاتفقوا معه على أن ينتقل إلى العاصمة. وكانت له دروس في مساجد العاصمة كالمسجد الجديد والمسجد الكبير في التفسير والعقيدة والفقه، والتي لمس سكان العاصمة تأثيرها بينهم. يتبع
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
العلاّمة الطيب العقبي أسامه شحادة العلاّمة الطيب العقبي عداء الفرنسيين له كان للشيخ نشاط كبير ودائم وتأثير بالغ في سكان العاصمة خشي منه الفرنسيون على سلطانهم، بحيث يحرض العقبي الجزائريين على الثورة، ومن آثار تأثير العقبي في حياة الجزائريين هجر الناس لشرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، وقد كان الفرنسيون هم من يسهل وجود الخمر بين الجزائريين، كحال المستعمر في كل مكان وعلى غرار إغراق الصين بالأفيون من قبل البريطانيين. يقول الشيخ أحمد حماني: «فأقبل الناس عليه وأثّر في الوسط تأثيرا كبيرا، وقل الفساد والسكر والاعتداء، وكان مستشريا بالعاصمة، وانخفضت نسبة الجرائم، وتفتحت العقول والأذهان، وزالت منها كثير من الخرافات والبدع والأوهام، وصار للحركة جمهور غفير، خصوصا من العمال والشباب الذي سماه الشيخ العقبي (الجيش الأزرق) لما كان يمتاز به العمال من لباس البذل الزرقاء». وبسبب تحالف الطرقيين والسلطات الفرنسية ضده، (وقد حاولوا استمالته فعرضوا عليه منصب الإفتاء فرفض)، أصدار الوالي «ميشال» قراراً بمنع الشيخ من التدريس سنة 1933م وجعل السبب أن العقبي ينشر المذهب الوهابي! في دلالة واضحة على تحالف الطرقية الصوفية مع المحتل الفرنسي ضد دعوة العقبي، لكن احتجاجات سكان العاصمة ونوابهم أجبرت السلطات على إلغاء القرار. ولمّا لم تنجح هذه المحاولات دُبرت مؤامرة لاتهام العقبي بقتل المفتي محمود بن دالي (كحول) والذي كان مخالفاً للجمعية ومحسوباً على الطرقية، وذلك بهدف تعطيل نتائج المؤتمر الإسلامي االذي شارك فيه العقبي مع ابن باديس والإبراهيمي في فرنسا ولعب فيه دورا بارزا للتصدي للاحتلال الفرنسي للجزائر، وفعلا فقد نجحت فرنسا في زعزعة المؤتمر الإسلامي وبث الفرقة بين العلماء والساسة وكبار المتبرعين للمؤتمر، وهو الأمر المهم لاحقاً لإقصاء الجمعية عن قيادة الجزائر بعد حرب التحرير وصعود التيار العلماني. وكحُّول المفتي كان عميلاً رخيصا لفرنسا، ولأنه كان معارضاً للمؤتمر الإسلامي رأت فرنسا أن توعز لأحد مجرميها ويدعى (عكاشة) بقتله لتستفيد من موته أكثر من حياته ومن ثم تتهم العقبي بقتله، وادعى عكاشة أنه تسلم من العقبي خنجرا ومبلغ 30000 فرنكا، فاعتقل العقبي وزميل له، وتعمد الفرنسيون إهانته عند اعتقاله من نادى الترقي، اذ أخرجته حاسر الرأس وهذه كبيرة من الكبائر عند الجزائريين، وأخرجته مكبل اليدين مع شتمه على يد شرطة سنغالية كانت فرنسا تستعملهم دوما في المهمات القذرة. يقول ابنه: «إن الشرطة الفرنسية داست بأقدامها برنوس الشيخ أثناء خروجه من النَّادي، كما خاطبته بأسلوب جاف وشتمته أمام الملأ، وقد حزن الشيخ حزنا عميقا لذلك»، وأغلق نادي الترقي، وضيق على أعضاء الجمعية في العاصمة. وقد ثارت الجماهير احتجاجا على اعتقال الشيخ العقبي وصاحبه فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليهم ابن باديس والإبراهيمي بأن يقابلوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة، مما أفشل على السلطات إغلاق الجمعية بحجة الشغب والفوضى. وقضى العقبي في سجن بربروس ستة أيام، قبل أن يتراجع عكاشة عن اتهامه للشيخ وصاحبه، فأفرج عنهما بصفة مؤقتة، بتعهد عدم مغادرة العاصمة ووُضِعا تحت المراقبة، ولكن السلطات أخذت تماطل في إنهاء القضية سنة ونصف حتى صدر حكم بالبراءة للعقبي، لكن فرنسا سرعان ما اعترضت على الحكم واتهمته مرة أخرى لتستمر المعاناة ثلاث سنوات حتى صدر حكم ببراءة العقبي وصاحبه وحكم بالسجن المؤبد على شخصين، وبعشرين سنة على شخص ثالث. وفي هذه السنوات الثلاث (1936 – 1939) استمر العقبي يحاضر ويدرّس في نادى الترقي برغم ما يعانيه من قلق الحكم عليه ظلماً بالإعدام أو السجن المؤبد، لكن العقبي كان يعلم أنها سنة الله عز وجل، فهو القائل: «قد ابتلانا اللهُ تعالى بهذا ليمتحنَ إيماننَا وصدقنَا، وهذه سُنّةُ اللهِ فيمن سبقنا من الأنبياءِ والعظماء"!! كتب البشير الإبراهيمي حول النتائج الإيجابية لهذه المؤامرة على الشيخ العقبي فقال [الآثار (1/279)] :« ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار، وكان يوم اعتقاله يوما اجتمعت فيه القلوب على الألم والامتعاض، وكان يوم خروجه يوما اجتمعت فيه النفوس على الابتهاج والسرور». ومما يؤكد كلام الإبراهيمي عن دور العقبي في الجزائر ووقوف الجزائريين والعلماء معه، أن ابن باديس الذي لم يوقف دروسه طيلة عمره حتى عندما توفي بكره الوحيد وعمره 17 سنة، أوقف دروسه في قسنطينة لحضور محاكمة العقبي في العاصمة. خلاف العقبي مع إخوانه في جمعية العلماء حول دعم فرنسا بالحرب العالمية الثانية أثناء محاكمة العقبي ظهرت نذر الحرب العالمية الثانية، فاستدعت السلطات الفرنسية العقبي وطلبت منه التوقيع على برقية تأييد لفرنسا ودعمها فوافق، ولكن السلطات طلبت أيضاً توقيع رئيس الجمعية ابن باديس، لكن ابن باديس رفض ذلك، ومع إصرار العقبي طرح ابن باديس الموضوع على إدارة الجمعية. وتم إجراء تصويت حول إرسال برقية تأييد من الجمعية لفرنسا فكانت النتيجة: 12 صوتاً معارضاً لذلك ومع رأي ابن باديس، و4 أصوات موافقة لرأي العقبي، فلم تُرسل البرقية، وكان منطلق الشيخ العقبي أن الشعب الجزائري ليس مستعداً بعد لمقاومة الاحتلال وأن الجمعية لا ينبغي لها أن تخوض الآن في العمل السياسي وأنه ليس من مصلحة الجمعية استعداء فرنسا في هذا الظرف. ويقال إن الشيخ العقبي قال لابن باديس: أنت ليس لك أبناء، أما أنا فإني مسؤول عن ثمانية أولاد! فرد الإمام ابن باديس قائلا: أنا عندي 8 ملايين ابن (يقصد كل أفراد الشعب الجزائري آنذاك)! ويقال إن فرنسا طلبت من العقبي أن يرسل برقية باسمه بعد استقالته من إدارة جمعية العلماء، لكنه رفض، في دلالة على أنه كان مخلصاً في رأيه لمصلحة الجمعية، وليس لمصلحته الخاصة. ويروي الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء الحالي قصة واقعية لحقيقة موقف العقبي من تأييد فرنسا في الحرب العالمية، فيقول: "في بداية الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) كنتُ مجندا في إحدى الثكنات العسكرية بالبليدة، فساروا بنا إلى حضور مهرجان إعلامي دعائي أقيم في قاعة سينمائية كبيرة، للتنويه بمحاربة الحلفاء للدولة الألمانية الباغية، وما هي إلا لحظات حتى رأيتُ مندهشا فيمن يرى المصلح الكبير الشيخ الطيب العقبي يصعد إلى المنصة ليطلب إلى الجزائريين الحاضرين من المدنيين والعسكريين تأييدا كاملا مطلقا لفرنسا وحلفائها، في حربها الدفاعية من أجل الحرية والعدل والديمقراطية في العالم. فإذا بالعالم المصلح الشيخ الطيب العقبي يفتتح خطبته بلمحة تاريخية للعالم العربي والإسلامي مع السياسة الاستعمارية الغاشمة التي درجت عليها فرنسا وبريطانيا في المشرق والمغرب، منددا بخيانة الحلفاء لوعودهم لمن ضحوا بدمائهم من الشعوب المستعمرة في سبيل انتصارهم سنة 1918م. فكانت مقدمة خطاب الشيخ العقبي خيبة مريرة للسلطة المدنية والعسكرية التي نظمت المهرجان الإعلامي والدعائي مما جعل منظمي المهرجان يقطعون التيار الكهربائي فانطفأت الأضواء وانقطع صوت الشيخ الجليل وتفرق الجمع، بابتهاج الجزائريين وحسرة من الاستعماريين مدنيين وعسكريين". ولكن في تلك الظروف والملابسات ظن بعض الناس أن موقف العقبي بتأييد فرنسا في حربها ضد ألمانيا هو بسبب محاكمته، وأن فرنسا استمالته بأن يقف هذا الموقف لتخفف عنه العقوبة، ويبدو أن بعضهم تورط في الطعن بالشيخ العقبي، مما سبب له جرحاً وولّد في قلبه مرارة عبّر عنها بقصيدة قال فيها: أسفى على الآداب والأخلاق أسفي على الذوق السليم الراقي أسفي على بعض الرفاق فإنهم فقدوا سجية كاملي الأذواق عهدي بهم والرفق من أخلاقهم فإذا بهم خَلْق بدون خَلاق لا يؤثرون رفيقهم ولو اقتضى حال الرفاق الرفد بالإرفاق فتراهم يستأثرون وإن عدوا نهج الهدى ومكارم الأخلاق حسبوا الزعامة في الظهور وما دروا أن الظهور وسيلة الإخفاق ما ساد من لم يحتفظ لرفيقه بحقوقه وبعهد ود باق كلا ولا نال الزعامة غير من ضحى بصالح نفسه لرفاق وبسبب ذلك تخلى العقبي عن إدارةِ جريدة «البصائر» في ديسمبر/ كانون الأول 1937م، ثم استقال من إدارة الجمعية حتى لا يتسبب بخلافات وصراعات داخلية للجمعية، مع بقائه عضوا فيها. وفيما يلى وجهة نظره في الخلاف مع إخوانه في الجمعية: * « فلم تطاوعني نفسي على تعطيلِ الجريدةِ.. وكافحتُ جهدي حتّى أوصلتُها إلى الاجتماع العامّ، واستعملتُ كلّ الوسائل لتعديلِ ميزانيّتِها فلم أقدر على ذلك، كما أنّني لم أقدر وأنا معَ ما أنا عليهِ من شواغب وشواغل أنْهَكَت قوايَ وأضعفَت جسمي أن أقومَ بعملِ جماعةٍ وحدي...». * « قد تأسّست جمعيّةُ العلماء علميّة دينيّة لا غير، ولكنّ أعداءها كثرت أصنافهم وتنوّعت مكائدهم، واتّحدت مقاصدهم للقضاءِ عليها، وأوّلُوا بعض إجراءاتِها بما هي بريئة من مقصدها وبعيدة عن إرادتها، ولقد كنتُ دائمًا معارضًا لها، وفي اعتقادي أنّ البلاءَ انصبَّ على جمعية العلماء من بعض إجراءاتها أوّلها المضادُّون لها بصور غير لائقة، وكم كنتُ أتألّم لمثل هذه الإجراءات، وكم كنتُ أحذِّر وأُنذر لأنّني أعلمُ كثيرًا ممّا لا يعلمُون، ولكنَّها كانت تقعُ رغم أنفي لأنّ الأغلبيَّةَ كانت على خلافِ رأيي...»، يقصد بعض النشاطات السياسية. * « أؤكد لكل إخواني إني وقفت هذا الموقف وأنا غير متأثر مطلقًا بأيِ إيعاز من الإيعازات الحكومية ولا قاصد علم الله وهو العليم بما في الضمائر المطلع على ما في الصدور إلى تملق أي ناحية إدارية ولكن شفقتي على البقيّة من ثمرات هذه الأمة وحرصي على المصلحةِ العامَّةِ، مع تقديري للظُّروف والوضعيَّةِ الحاضرةِ، كلّ أولئك حملني على الإصاخةِ لصوتِ ضميري فقط... غيرَ آبهٍ بما قيلَ وبما عسَى أَن يُقَالَ». * « وقد آليتُ على نفسي أن لا أعودَ إليها كعضوٍ إداريٍّ ما دمتُ حيًّا، هذا مع إيماني بأنّ مبادئَ هذه الجمعيّة الّتي أسّست للعمل بها والسّير عليها إنّما هي مبادئُ الإسلام الحقَّة... وإنّ أعضاءها هم إخوانٌ لي في الحركة الإصلاحيّة، والمبدأ الحقّ الّذي عاهدنا اللهَ على العملِ به والتّضامنِ فيه حتّى النّفس الأخير من حياتِنا... ولْتَقَرَّ أَعْينُهُمْ ببُعْدِ العُقبيِّ عن إدارةِ هذه الجمعيّةِ الّتي ترَكَها والأستاذُ – رحمه الله- ابن باديس قويٌّ يعمَلُ مُتَوَدِّدًا ومُتقرّبًا إليَّ بكُلِّ ما في وُسعهِ من أسبابِ التّودُّدِ والتّقرّبِ...». * « ماتَ ابن باديس ودفن مبكيًّا مأسوفًا عليه؛ فلتمت ولتدفن حفائظ وحزازات وأحقاد كوّنتها أغراض شخصيّة ومقاصد سيّئة لمن يلذّ لهم دائمًا الاصطياد في الماء العكر، وليتّقوا اللهَ في أنفسِهِم وفي إخوانهم المسلمين الّذين هم في هذا الوقت أحوج ما يكونون إلى الاتِّحاد والاتّفاق وجمع الكلمة وليعلمُوا أنّ بلادَنا الفقيرة من الرّجال العاملين كلّما فقد منها رجل من رجالها القليلين تفقد معه ناحية من الكمال لا يقدر غيره على تعويضها؛ وسدّ الفراغ الّذي يترك من وراء فقدها. وبعد هذا كلّه فلينته المرجفون في المدن والقرى عن إرجافهم وباطلهم وليعلموا أنّا وهم ميّتون؛ وإنّا إلى الله جميعًا راجعون!!..»، تعليقاً على عدم حضوره جنازة صديقه ابن باديس. * « يَهْرِفُ النَّاسُ ويُثَرْثِرُونَ بِمَا بَيْنِي وبَيْنَ الشّيخِ عبدِ الحميد من خلافٍ وخصامٍ وسوف لا ينتهي كلامُ النّاس ما دامُوا عبيدَ أنفسهم ومختلف أهوائِهِم...». * " فاجأتنا أنباء قسنطينة التلفونية والبرقية بوفاة رئيس جمعية العلماء الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس، فعزّ علينا نعيه وآلمنا فقده في هذه الظروف التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى علم العلماء وإصلاح المصلحين الذين ضحوا بكل مرتخص وغال في سبيل الحركة الإصلاحية .. فمَن للعلماء وجمعيتهم بعد ابن باديس؟ ومَن للجامع الأخضر ودروسه بعد الراحل الكريم والفقيد العظيم الذي ترك فراغا لا يسده سواه، وخلف وحشة على العلماء والمصلحين لا مؤنس لهم من ورائها إلا الله فإنا لله وإنا إليه راجعون..". والحقيقة في علاقة العقبي وابن باديس وخلافهما هي ما قاله رفيق العقبي وتلميذه الأول محمد العيد آل خليفة: خصمان فيما يفيد الأمة اختصما إياك أن تنقص الخصمين إياك كـلاهما في سبيـل الله مجتهـد فلا تـلومن لا هذا و لا ذاك وبقيت روح التعاون والمودة موجودة بين العقبي وقادة جمعية العلماء، فقد هنأ الإبراهيمي رئيسُ الجمعية بعد ابن باديس العقبي على صدور جريدة الإصلاح، وكان العقبي والإبراهيمي عضوين في الهيئة العليا لإعانة فلسطين، حيث كان الشيخ الإبراهيمي رئيسها وكان الشيخ العقبي أمين مالها، وقد شهد له الإبراهيمي بأنه الروح المدبرة لتلك الهيئة، كما شارك إخوانه رجال الجمعية في أعمال أخرى منها مواصلة المطالبة بتحرير المساجد وفتحها للعلماء الأحرار. العقبي بعد استقالته من إدارة الجمعية بعد استقالته من إدارة الجمعية لم يتوقف نشاط العقبي في الدعوة الإسلامية والعمل الإصلاحي، فأعاد إصدار جريدته «الإصلاح» في 28 ديسمبر/ كانون الأول 1939 والتي استمرت إلى العدد 73 الصادر في 3 مارس/ آذار 1948. وأسس في نادي الترقي سنة 1947م "لجنة الدفاع عن فلسطين"، والتي تطورت لتصبح "الهيئة العليا لإغاثة فلسطين" كهيئة جزائرية مشتركة بين عدة اتجاهات سنة 1948، والتي تمكنت من جمع ثمانية ملايين فرنك كتبرعات من الشعب الجزائري الذي هبّ لدعم ومساندة فلسطين ماديا ومعنويا رغم ظروفه القاسية، وقد قام العقبي ضمن وفد الهيئة بزيارة الأردن سنة 1950م لإيصال الأموال لمستحقيها، وزيارة اللاجئين الفلسطينيين هناك. وكوّن الشيخ الطيب العقبي منظمة "شباب الموحدين" (1950- 1952م) لنشر الدعوة السلفية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصدرت عدة جرائد مثل: الداعي والقبس والمنار واللواء، وكان مديرها ورئيس تحريرها الشيخ أبو بكر الجزائري شفاه الله. وبقيت مقالاته تطالب بحرية التعليم العربي ومقاومة فرنسة المجتمع الجزائري. ولم يتوقف عن الدعوة إلا بسبب وطأة مرض السكري عليه، والذي أصيب به سنة 1953 والذي أقعده سنة 1958 عن الدعوة وألزمه الفراش في بيته بحي بولوغين. تراث الشيخ وتلاميذه: ترك الشيخ العقبي آثارا كثيرة مكتوبة لو تتبعت وجمعت لجاءت في مجلدات، لأنها في غالبها مقالات في الصحف والمجلات، ومن أبرز تلاميذه: فرحات بن الدراجي (1909 - 1951)، وعمر بن البسكري (1889 - 1968)، ومحمد العيد آل خليفة (1904 - 1979)، أبو بكر الجزائري، شفاه الله تعالى، المدرس بالمسجد النبوي. من أقوال العلماء عنه: * قال صديقه ابن باديس: «من ذا الذي لا يتمثل في ذهنه العلم الصَّحيح والعقل الطاهر، والصَّراحة في الحقّ والصَّرامة في الدِّين، والتّحقّق بالسّنّة، والشّدّة على البدعة، والطِّيبة في العِشرة، والصِّدق في الصُّحبة إذا ذُكِرَ الأستاذُ العُقبيُّ». * قال الشيخ الإبراهيمي: « هو من أكبر الممثلين لهديها – أي الجمعية – وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتا في الدعوة إليه… وإنما خلق قوّالا للحق أمّارا بالمعروف نهّاء عن المنكر وقافا عند حدود دينه، وإن شدته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله». * قال الشيخ المبارك الميلي: « ولكن أتى الوادي فطم على القرى، إذ حمل العدد الثامن في نحره المشرق قصيدة «إلى الدين الخالص» للأخ في الله داعية الإصلاح وخطيب المصلحين الشيخ الطيب العقبي أمد الله في أنفاسه، فكانت تلك القصيدة أول المعول مؤثرة في هيكل المقدسات الطرقية، ولا يعلم مبلغ ما تحمله هذه القصيدة من الجراءة ومبلغ ما حدث عنها من انفعال الطرقية، إلا من عرف العصر الذي نشرت فيه وحالته في الجمود والتقديس لكل خرافة في الوجود». * قال أحمد توفيق المدني :«كان خطيبا مصقعا من خطباء الجماهير، عالي الصوت سريع الكلام، حاد العبارة يطلق القول على عواهنه كجواد جامح دون ترتيب أو مقدمة أو تبويب أو خاتمة، وموضوعه المفضل هو الدين الصافي النقي، ومحاربة الطرقية ونسف خرافاتها والدعوة السافرة لمحاربتها ومحْقها». * قال الشيخ أبو يعلى الزواوي : «العلامة السلفي الصالح داعية الإصلاح الديني». * قال العلامة شكيب أرسلان: «… فالميلي وابن باديس والعقبي والزاهري حملة عرش الأدب الجزائري الأربعة». * قال الشيخ محمد تقي الدين الهلالي: « الأستاذ السلفي الداعية النبيل الشيخ الطيب العقبي». وفاته وقد كان العقبي داعيةً في حياته وموته، فقد أوصى بشدة وإلحاح بأن تكون جنازته على السنة بعيدة عن البدع، فلا يكون فيها ذكر جهري ولا قراءة البردة، ولا حتى قراءة القرآن حال التجهيز أو حين الدفن، وأن لا يؤذن لأي واحد من الحاضرين أن يقوم بتأبينه قبل الدفن أو بعده. وقد توفي الشيخ الطيب العقبي رحمه الله تعالى في 21 مايو/ أيار 1961م، ودفن في مقبرة «ميرامار» بالرايس حميدو، لأنها مقبرة شعبية خالية، بتأثير العقبي، من الشركيات والبدع التي يأتيها الجهلة على القبور، وكانت جنازته جنازة مهيبة حضرها قرابة خمسة آلاف شخص. مراجع للتوسع: * ترجمة ذاتية، كتبها بنفسه ونشرت في الجزء الأول من كتاب "شعراء الجزائر في العصر الحاضر" لمؤلفه الأديب الجزائري الكبير الأستاذ محمد الهادي السنوسي الزاهري. * مجموعة مقالات متنوعة عن الشيخ الطيب العقبي في شبكة الإنترنت تجدها في موقع الشيخ الطيب العقبي.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
رد: :: سلسلة رموز الإصلاح
العلاّمة طاهر الجزائري . أسامه شحادة العلاّمة طاهر الجزائري تمهيد: يعد الشيخ طاهر الجزائري من الشخصيات المحورية التي صنعت النهضة واليقظة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين، وتميز بكونه أستاذاً وموجهاً لعدد كبير من الشخصيات الإصلاحية وبكونه رائداً في إقامة المؤسسات الثقافية والتعليمية حتى تستمر هذه الجهود ولا تتوقف بوفاته، رغم كونه فردا وليس مؤسسة ولا صاحب سلطة. وهو يصدر في مشروعه الفكري من الانتماء لهوية الأمة وعقيدتها، والاعتزاز بتراث الأباء والأجداد مع انفتاح على ما عند الآخرين، بخلاف غيره من الذين كانت دعوتهم للنهضة نتاج انبهار بحضارة الغزاة الأوروبيين. لكنه لم يشتهر ويعرفه للناس على غرار أقرانه: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، وقد يكون هذا لعدة أسباب منها كونه كان في الشام بما كانت تعيشه من جهل وظلم، وهم كانوا تحت الأضواء في القاهرة، ومنها كونه سلفي التوجه والمشرب، ومنها قلة انتشار مؤلفاته المطبوعة لليوم وكونه صاحب مشاريع عملية، بالإضافة لطبيعته الانعزالية نوعاً ما. ومما ساهم في عدم انتشار صيته خارج دائرة النخب العلمية والثقافية لليوم شحة المعلومات عنه، فالمتوفر عن نشأته وحياته قليل جداً مقارنة بأمثاله من المصلحين. ولادته ونسبه: الشيخ طاهر هو من أصول جزائرية، فقد رحل والده وأهله من الجزائر هرباً من ظلم وبطش الاستعمار الفرنسي سنة 1263هـ-1846م، في الهجرة الجزائرية الأولى والتي ضمت 500 أسرة، وهذا سبب نسبته للجزائر. ولد في دمشق سنة 1268هـ-1852م، وأبوه هو الشيخ صالح بن أحمد بن حسين بن موسى بن أبي القاسم، ويقال أن نسبهم يتصل بالإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. نشأته العلمية وشيوخه: كانت بداية تعلم الشيخ طاهر على أبيه الشيخ صالح، فدرس عليه علوم الشريعة واللغة، وكان والده من علماء الجزائر فهو فقيه اشتهر بعلم الفلك وعلم الميقات وله رسالة في هذا العلم، كما له معرفة وميل إلى علوم الطبيعة والرياضيات، وكان مفتي المالكية في دمشق لأن معظم المهاجرين الجزائريين كانوا على المذهب المالكي، وكان يعيد درس صحيح البخاري للشيخ أحمد مسلم الكزبري في الجامع الأموي، وهذه مكانة علمية رفيعة عند علماء دمشق. ثم دخل مدرسة رشدية الابتدائية، وبعدها التحق بالمدرسة الجقمقية الإعدادية، ودرس عند الشيخ عبد الرحمن البوسنوي، والذي كان له أثر بالغ في شخصية طاهر الجزائري، فأخذ عنه العربية، والفارسية، والتركية، وتبحر في العلوم الشرعية. ثم درس على الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني حتى توفي رحمه الله سنة 1298هـ/ 1881م، والذي كان يعد عالم عصره فضلاً عن اتصافه بالتقوى والورع، والذي حرره من التعصب المذهبي، ووجهه للتقيد بالدليل الشرعي وفتح عقله للنظر والبحث والاجتهاد. وكان والده صوفيا من أتباع الطريقة الخلوتية، لكن وفاة والده سنة 1285هـ/1868م وعمره حوالى 14 سنة، سهل عليه التحرر من التصوف والانتقال للمنهج السلفي على يد شيخه الميداني، والذي كان صوفياً ثم نبذ التصوف نحو منهج الكتاب والسنة. وبسبب هذه التربية والمنهجية العلمية أصبح همّ طاهر الجزائري وهو في المرحلة الابتدائية شراء الكتب والمخطوطات ومطالعتها، حتى أصبح لديه مكتبة ضخمة تزخر بنفائس الكتب والمخطوطات، مما ظهر أثره عليه فيما بعد بسعة اطلاعه وتبحره في فنون العلم وسعيه الدؤوب لإنشاء مكتبات عامة تجمع شتات الكتب والمخطوطات وحث الأغنياء والدولة على طبع الكتب وتوزيعها. مستواه العلمي: لعل وصف المحقق محمد كرد علي والأستاذ محمد سعيد الباني وهما من أبرز تلاميذ طاهر الجزائري يوضح لنا المستوى العلمي الذي وصل إليه الشيخ طاهر، يصف كرد علي شيخه بأنه: "مجموعة نفيسة من العلوم ومكتبة سيّارة ضمت خباياها المفسّر والمحدث والأصولي والفقيه والفيلسوف والأديب واللغوي والكاتب والشاعر والمؤرخ والأثري والطبيعي والرياضي والفلكي والاجتماعي والأخلاقي"، ويقول أيضاً: "كان يتقن علوم العربية، ويحفظ وقائع التاريخ، أتقن علوم الدين والدنيا". أما تلميذه الآخر محمد سعيد الباني فيقول عنه: "قلّ من يدانيه من معاصريه بإحاطته وسعة اطلاعه، جمع بين المعقول والمنقول، ومزج القديم بالحديث، أخذ من كل علم لبابه ونبذ لفاظته... فهو دائرة المعارف، ومفتاح العلوم وكشاف مصطلحات الفنون وقاموس الأعلام". لقد جمع الشيخ الجزائري جل معارف عصره القديمة والحديثة، فهو مع تبحره في الشريعة الإسلامية واللُّغة العربية كان متقنا لعدد من اللغات كالتركية والفارسية والسريانية، والعبرية، والحبشية، والبربرية – لغة أهله -، والفرنسية مما مكنه من الاطلاع على الثقافات المتعددة القديمة منها والحديثة، وفتحت له هذه المعرفة باللغات والخطوط القديمة كنوز المخطوطات فبز أقرانه وتقدم على نظرائه وأصبح الكثير من العلماء والمستشرقين عالة على رأيه ومعرفته بالمخطوطات. وقد كان يدون في كناشات (بطاقات) فوائد ونقول ما طالعه من كتب ومخطوطات خاصة ما لم يتمكن من اقتنائها، فتحصل له منها الشيء الكثير، وقد طبعت مؤخرأ باسم تذكرة طاهر الجزائري في مجلدين كبيرين. كما أنه تأثر بوالده الذي كان له اطلاع ودراية بالعلوم الدنيوية ولذلك نال طاهر الجزائري نصيبا وافرا من العلوم في التاريخ والجغرافية والآثار، ودرس في الرياضيات والفيزياء، وكان خبيراً بالسياسة الدولية، وأحوال الشرق والغرب ومطلعا على علل المجتمعات وأمراضها، فحين فرح بعض أصدقائه وتلاميذه بانقلاب الاتحاديين الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني سنة 1327هـ/ 1909م – رغم أنه كان معارضاً للحكم الحميدي بسبب الوشايات الشائعة- وعادوا لدمشق، فإن الشيخ رفض العودة إلى دمشق وكان يقول لهم إن الحالة ستزداد سوءاً بوصول الاتحاديين إلى الحكم وباستبدادهم به حيث كانوا أشد سوءاً وأعظم خطراً من استبداد الفرد خاصة بما كانوا يحملونه من أفكار عنصرية وقومية طورانية ضيقة ومبادئ لا دينية لا تتفق مع ما كان يؤمن به الشيخ طاهر ويدعو إليه، وقد ثبت بُعد نظره إذ سرعان ما نصبت المشانق لطلابه في دمشق في 6 أيار عام 1916 على يد السفاح جمال باشا والى الاتحاديين. وحين تم اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو بالبوسنة سنة 1914م قال لمن حوله: "إن حرباً أوربية طاحنة ستنشب لا محالة"، وفعلاً كانت تلك هي شرارة الحرب العالمية الأولى!! صفاته وأخلاقه: كان رحمه الله حسن الطلعة، معتدل القامة والجسم، حنطي اللون، واسع الجبهة، أسود الشعر والعينين، ذا لحية كثيفة، عصبي المزاج، سريع الحركة، واسع الخطوة. وكان زاهداً ورعاً مبتعداً عن التساهل في أحكام الدين، وكان لا يبالي بالتأنق والتزين في ملبسه ولا يهتم لهذه الشكليات، وبقي عزباً لم يتزوج، وكان يرفض أن يأخذ مساعدة من أحد مهما كان، وعاش سنيناً في مصر من بيع كتبه ومخطوطاته، وكان مع قلة حيلته وفقره يتصدق على الفقراء والمساكين. وكان حريصاً على وقته الذي يقضيه في التدريس والتعليم أو طلب العلم بالقراءة والبحث حتى وهو على فراش نومه حيث كان محاطاً بالكتب والأوراق والمحابر والأقلام. وفي الأربعين سنة الأخيرة من حياته كان لا ينام إلا بعد الفجر، حيث يسهر مع أصحابه ثم يقرأ ويكتب حتى الفجر في حجرته بمدرسة عبد الله باشا العظم. وكان يتميز بأنه غير متقوقع على فئة دون أخرى، بل كانت دائرة معارفه واسعة جداً تضم كافة طبقات وفئات المجتمع، بل وحتى غير المسلمين من الصابئة واليهود والنصارى والمستشرقين، حيث كانت له بهم صلات وطيدة، وكان يسخّرها لخدمة الإسلام بتخفيف غلوائهم وعدائهم للإسلام. وكان الشيخ طاهر الجزائري يحب السفر جداً، فزار كثيرا من القرى والمدن السورية مشياً إذ كان يحب المشي، وزار لبنان وفلسطين، ومصر، والحجاز، وتركيا، وفرنسا، وكان يهتم في أسفاره بالبحث عن الكتب والمخطوطات واللقاء بالعلماء والمثقفين. منهجه: يقوم منهج طاهر الجزائري على نشر العلم والتربية، فيقول: "تعلموا كل ما يتيسر لكم تعلّمه، ولو لغة مالطة، فقد يجيء زمان تحتاجون إليها، وإياكم أن تقولوا: إنها لا تدخل في اختصاصنا، فالعلم كله نافع، والمرء يتعلّم ما حسنت به الحياة". ويقول: "الإصلاح على اختلاف أنواعه لا بدّ أن يكون على سبيل التدرج، وفقاً لمقتضى السنن الطبيعية؛ لأن ما يأتي على جناح السرعة لا يلبث أن يرجع من حيث أتى". ويبين محمد كرد علي منهج الشيخ طاهر في دعوة الناس بقوله: "وخطته الإخلاص والعمل على النهوض بالأمة عن طريق العلم وبث الملكات الصحيحة في أهل الإسلام، وثورته ثورة فكرية لا مادية، ويقول إن هذه الطريق يطول أمرها، ولكن يؤمن فيها العثار، والسلامة محققة ثابتة، وكان يبذل جهده لتعم دعوته أهل الحضر والبادية، والأغنياء والفقراء". وكان الشيخ طاهر الجزائري يفضل تغيير قناعات المخالفين برفق، فقد كان يذكر في مجالسه بعض أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية دون أن ينسبها له فيتقبلها المخالف لقوتها وسلامتها، وحين يسأل عن مصدرها كان يوضح له أنها لابن تيمية مما جعل الكثيرين يتقبلون ابن تيمية، وكذلك كان ينسخ بعض رسائل ابن تيمية وابن القيم وأبي شامة المقدسي وأمثالهم ويرسل من يبيعها في السوق بسعر زهيد فانتشرت وانتفع بها الكثيرون. نقل كرد علي عن شيخه أنه قال له مراراً: "إذا أردت إدخال الإصلاح إلى بيوت الأعيان، وفيهم الجاه والمال، فاجهد لأن يتعلم ولو فرد واحد من كل أسرة تقلب به كيانها، وكثيراً ما قال: لنخرجن من بيوت الأغنياء أولاداً يحاربونهم بسلاح التربية الصحيحة". وهو على فراش الموت نصح عُوّاده بحكمة بليغة فيها خلاصة تجربة وحياة، فقال: "عُدوا رجالكم واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ، لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم". دوره الإصلاحي: عاش طاهر الجزائري إبان احتلال أوروبا لكثير من بلاد الإسلام بسبب حالة الضعف والهزيمة بسبب شيوع الجهل والخرافة وعجز الدولة العثمانية، ولذلك اجتهد في دراسة حال الأمة وكيفية العمل على إصلاحها، وتوصل إلى أن العلم هو مفتاح النهضة للأمة، العلم الشرعي الصحيح الذي يحيي روح الأمة وقلبها، والعلم الدنيوي السليم الذي يعالج جسدها وأعضاءها. ويمكن أن نعدد مظاهر إصلاح طاهر الجزائري العلمي في الجوانب التالية: أولاً: في قطاع التعليم 1– دوره الكبير في إقناع الآباء بأهمية وضرورة تعليم أولادهم في المدارس، مما كان له واسع الأثر على النهضة التعليمية في سورية، وقد لقيت هذه الدعوة معارضة شديدة من بعض الجهلة الذين رأو في نشر العلم ضرراً عليهم حيث كانوا يحتكرون بعض الوظائف التعليمية والشرعية لأنفسهم ولأولادهم!! 2- توليه مهمة التدريس في المدرسة الظَّاهرية الابتدائية بدمشق سنة 1294هـ-1878م، حيث قام ببثّ أفكاره الإصلاحية بين الطلبة، ورغم مكانته الكبيرة فقد قام بتعليم طلاب الابتدائية لتشجيع المعلمين على ذلك. يقول الشيخ علي الطنطاوي: "كان التعليم في دمشق: الكتاتيب للصغار، وحلقات المساجد للكبار، فكان – طاهر الجزائري- من أكبر العاملين على افتتاح المدارس العصرية". 3- قيامه مع عدد من الفضلاء منهم الشيخ علاء الدِّين عابدين وبهاء بك سكرتير والي دمشق بتأسيس (الجمعية الخيرية الإسلامية)، لتتصدى لنشاط الإرساليات التَّبشيرية الأجنبية والتي كانت تستقطب الطلاب من الأقليات غير المسلمة والمسلمين، فتجعل منهم أبواقا وخدما لأفكارها ومبادئها وتهيؤهم ليكونوا أصحاب المناصب القادمة بسبب تعلمهم، فسعى طاهر الجزائري لتوفير مدارس وطنية تنشر العلم والمعرفة وتحفظ الجيل من الغزو الوافد وتهيئ قيادات وطنية مخلصة متسلحة بالعلم. وهذا يدل على وعي الجيل المؤسس للنهضة بأهمية العمل الجماعي وأنه يقوم بما لا يقوم به الفرد مهما كان قوياً. وقد تمكنت الجمعية من فتح ثماني مدارس للذكور ومدرستين للإناث بتشجيع ودعم الوالي مدحت باشا – وهو من الولاة المصلحين والذي ترك خلفه ذكراً حسناً بين الناس – وقد كان الشيخ طاهر وزملاؤه يقظين لأهمية تعليم الفتيات لكونهم أمهات الجيل القادم. ثم تحولت الجمعية الخيرية عام 1295هـ - 1879م إلى ديوان المعارف (ما يشبه وزارة التعليم اليوم)، وأصبح الشيخ طاهر مفتشاً عاماً على المدارس الابتدائية، مما ساعده على التعرف على أوضاع بلاد الشام كلها، وأتاح له نقل أفكاره وتوجيهاته لغالب المدرسين وإرشاداته لهم بطرق التدريس الصحيحة، ومن هنا يأتي اتساع نطاق تأثير الشيخ طاهر في هذا الجيل. 4- قيام الشيخ طاهر بتأليف عدد من الكتب كمناهج لصفوف الابتدائية في العلوم الشرعية والرياضية والطبيعية، وذلك بعد أن لمس الحاجة لتطوير المناهج وعدم البقاء في أسر كتب المختصرات القديمة والتى لم تعد صالحة ولا مناسبة للجيل الجديد وللحاجة لإضافة علوم جديدة يتعلمها الناشئة. 5- ونجح مسعى الشيخ طاهر في إنشاء مطبعة حكومية تقوم بطبع المؤلفات العامة والكتب المدرسية. 6- استمر الشيخ طاهر في الاهتمام بتعليم الطلاب وتربيتهم، فرغم أنه فصل من وظيفته وهرب من دمشق، إلا أنه كان لا يبخل بتقديم النصيحة الصادقة لترشيد التعليم في دمشق، فلما أصبح تلميذه الأستاذ كرد علي وزيراً للمعارف لم تنقطع الرسائل بينهما والتي كان يطلب فيها كرد علي النصيحة والمشورة من شيخه، ومما نقله كرد علي في كتابه (كنوز الأجداد)، اقتراح الجزائري بتعليم طلبة الابتدائية مبادئ الصناعة، وأنه يمكن تجربة ذلك في مدرسة واحدة بداية، وضرورة الحرص على التربية الخُلقية للطلاب وعدم الاقتصار على التعليم فقط. ثانياً: في قطاع المكتبات العامة 1- بعد أن لاحظ الشيخ طاهر الجزائرى إهمال عدد من المشرفين على دور الكتب الوقفية في المساجد والمدارس من جهة، وزهد كثير من أهل دمشق بكنوز مكتبات المنازل، سعى مع عدد من رفاقه لدى والي دمشق، مدحت باشا، لتكوين مكتبة عامة تجمع الكتب المخطوطة والنادرة في مكان واحد، وفعلا تم في سنة 1296هـ - 1880م تأسيس المكتبة الظاهرية كأول مكتبةٍ عامةٍ في تاريخ دمشق الحديث، وذلك في مقر المدرسة الظاهرية، والتي أصبحت من أهم المكتبات التي تحتوي على المخطوطات العربية والإسلامية، وعين أميناً لها الشيخ أبو الفتح الخطيب من رجالات دمشق وهو والد العلامة محب الدين الخطيب صاحب المكتبة والمطبعة السلفية. وقد لقي هذ المسعى معارضة شديدة من المنتفعين بسرقة الكتب من نظار المكاتب وتوعدوه وهددوه بالقتل. 2- استمر الشيخ طاهر بتزويد المكتبة الظاهرية بما تقع يده عليه من نفائس الكتب والمخطوطات، ويحث الناس على شراء الكتب وإهدائها إلى المكتبة. 3- لإداركه المبكر لأهمية الضبط الببليوجرافي، سعى في تصنيف وطباعة فهارس للمكتبة الظاهرية، مما شهرها بين العلماء والطلاب والمستشرقين وجعلهم يفدون إليها أو يراسلون الجزائري مراسلات خاصة ليطلبوا منه مخطوطات بعينها، ومنهم المستشرق جولدتسيهر، للاستفادة من ذخائرها. 4- وحرص الشيخ طاهر على أن تكون هناك مكتبة عامة في كل مدينة، ولذلك كان في جولاته الدعوية لحمص وحماة وطرابلس وغيرها من المدن يحث الناس على تأسيس المكتبات والمدارس. وبسبب هذا الحرص تم تعيينه أيضاً مفتشا في سنة 1880م على خزائن الكتب في ولاية سورية ومتصرفية القدس، وفي زيارته للقدس حث الشيخ راغب الخالدي على إنشاء المكتبة الخالدية في القدس، وعاونه في ذلك ووضع لها فهرساً خاصاً. 5- وأورد كرد علي في كتابه (كنوز الأجداد) رسالة من الشيخ طاهر يقترح فيها عمل مكتبة عامة في الآستانة تجمع فيها الكتب النادرة فقط أو أحد نسخها إذا كانت مكررة من المكتبات العامة في المساجد والمدارس، ويوضع لها سجل يوزع على جميع المكتبات، وبذلك لا تفرغ المساجد والمدارس من الكتب، ولا يتضرر العامة لعدم حاجتهم لهذه الكتب في الغالب، وتحفظ هذه النوادر وتتاح للمهتمين. ثالثاً: في قطاع العلماء والشباب الواعد من أبرز نتائج جهود الشيخ طاهر الجزائري أنه صنع جيلا من الشباب أصبح فيما بعد من قادة النهضة واليقظة، وكان لهم بالغ الأثر في بلادهم ومجتمعاتهم، مثل: محمد سعيد الباني، ومحمد كرد علي، ومحب الدين الخطيب، مما يدل على نجاح أسلوب الشيخ طاهر، وعلى الأثر الكبير الذي خلفه وراءه في نفوس الشباب. فقد كان الشيخ طاهر يقيم اجتماعا أسبوعيا بعد صلاة الجمعة في منزل رفيق العظم، عرفت باسم حلقة طاهر الجزائري يحضرها كبار علماء دمشق مثل: الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال القاسمي، والشيخ سليم البخاري، والشيخ أبو الخير عابدين، والشيخ عبد القادر بدران، وعدد من الشباب الواعد أمثال: محمد علي مسلم، ورفيق العظم، محمد كرد علي، أحمد النويلاتى، وشكرى العسلي، وسليم الجزائري، وفارس الخوري، ومحب الدين الخطيب، وعبد الحميد الزهراوي، يتدارسون العلم والمعرفة ويبحثون في شؤون الأمة وقضاياها، عرفت باسم حلقة الشيخ طاهر، وبقيت تقام حتى بعد سفر الشيخ إلى مصر. ونتج عن هذه الحلقة تواصل العلماء لحلول لبعض القضايا العلمية والمشاكل التي تعترض رفعة البلاد العربية، كما أنها جذرت لدعوة الاجتهاد والبحث والنظر والعودة للكتاب والسنة وحرب الجهل والخرافة والبدع، وكانت تندد بالقمع والاستبداد وسوء الإدارة وتطالب بالحرية والعدل والنظام. وكان يستقبل الطلبة بغرفته بمدرسة عبدالله باشا ولا يبخل عليهم بالنصح والتوجيه، وأيضاً لما درس الشيخ طاهر الجزائري في مكتب عنبر والذي يعد أول ثانوية في دمشق، والتي تخرج منها قادة الشام وعلماؤها، كان حريصاً على أن يكسب عقول وقلوب طلابه. ومن أمثلة رعاية الشيخ لطلابه موقفه مع محب الدين الخطيب بعد وفاة والده وانقطاعه عن الدراسة في مكتب عنبر، حيث سعى شيخه الجزائري ليخلف محب الدين أباه في دار الكتب الظاهرية، ولأنه صغير سينوب عنه من يقوم بها حتى يبلغ سن الرشد، وفي فترة انتظار بدأ الدراسة للالتحاق مرة ثانية بمكتب عنبر، صار الشيخ طاهر ينتقي لتلميذه محب الدين الخطيب من مخطوطات الظاهرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وأضرابه فيكلفه بنسخها، فتوسعت ثقافة محب الدين العلمية، وانتفع بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته السلفيّة، وأشغل وقته وانتفع بأجرة النسخ. وأوصاه بالتردد على العلماء: أحمد النويلاتي، وجمال الدين القاسمي، ومحمد علي مسلم، حيث كانت لهم غرف في مدرسة عبد الله باشا العظم حتى يطور من علمه. ولذلك كان محب الدين الخطيب يقول عنه: "مِن هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي". أما محمد كرد علي فيقول عن أستاذه الجزائري: "وكان العامل الأكبر في توجيه إرادتي نحو الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، والإقدام على التأليف والنشر، وإشرابي محبة الأجداد والتناغي بآثارهم، والحرص على تراث حضارتهم، أستاذي الأكبر الشيخ طاهر الجزائري، فما زلت ألزمه منذ اتصلت به إلى أن ذهب إلى ربه سنة (1338هجري) حميد الأثر". وكان يحث أهل الكفاءة على إنشاء الصحف السياسية والاجتماعية والمجلات العلمية والأدبية، ومطالعة الصحف والمجلات المفيدة. ومما نُقل عن الشيخ طاهر في إرشاد المدرسين بكيفية التعامل مع الطلبة قوله: "إن جاءكم من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقولوا له إن هذا مستحيل بل علموه، فلعل اشتغاله هذه الثلاثة الأيام بالنحو، تحببه إليه". رابعاً: في قطاع التأليف مرّ معنا أن الشيخ طاهر الجزائري ألف الكثير من الكتب المدرسية ليرفع من مستوى العملية التعليمية، ودوره في نشر وبعث تراث شيخ الإسلام في أوساط طلبة العلم. وأيضاً كان له دور مهم في إعادة طباعة ونشر بعض الكتب المهمة التي ساهمت بقوة في ترسيخ اللغة العربية والأخلاق وفتح الأذهان للبحث والنظر وترك الجمود والتعصب، وكان ذلك إما بنشره كاملاً أو اختصاره وتهذيبه، مثلاً: نشر كتاب (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين) للراغب الأصفهاني، وكتاب (الأدب والمروءة) وكتابي (الأدب) الكبير والصغير لابن المقفع، وكتاب (روضة العقلاء). واختصر كتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة، وكتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (أمثال الميداني). وألف عددا من الكتب لتقريب وتحقيق بعض المسائل والعلوم بعيداً عن الحشو والتكرار مثل كتبه: التّبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان، وتوجيه النَّظر إلى أصول الأثر، الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية، التقريب لأصول التَعريب، وتمهيد العُروض في فنِ العَروض. وألف في العلوم الطبيعية كتابه: دائرة في معرفة الأوقات والأيام، وهو في علم الميقات. وكان حريصا على حث المسؤولين على طباعة الكتب ونشرها، ومن ذلك أنه عاتب شيخ العروبة أحمد زكي باشا حين تلكأ في طباعة عدد من الكتب النادرة بعد أن تم اعتماد مبلغ عشرة آلاف جنيه لها من قبل وزير المعارف في مصر، لكن بسبب التأخير في الطبع بحجة التحقيق والتدقيق تم إلغاء الاعتماد بعد خروج الوزير من الوزارة، فعاتبه الشيخ طاهر وقال له: "لقد أسأت إلى الامة العربية بإبطائك في إخراج الكتب للناس، وإذا ادعيت أنك تقصد نشرها سالمة مشفوعة باختلاف النسخ والتعاليق، فالتأنق وحده لا له، ويكفى أن ينتفع الناس بالموجود"، وبقي غاضباً منه ولا يكلمه إلا بتكلف!! رحيله عن دمشق إلى مصر: في عام 1886م أقالت الحكومة العثمانية الشيخ طاهر من وظيفة التفتيش بالمدارس الابتدائية لضيقها من أفكاره الإصلاحية، فلم يفت ذلك في عضده بل زاد نشاطه، فترك التدريس ومن يومها رفض قبول أي وظيفة حكومية، ولكنه بقي يدرس ويقوم بجولاته في مدن سوريا لنشر العلم، حتى قامت السلطات العثمانية بتفتيش بيته – وهو غائب عنه - سنة 1907م بحثاً عن منشورات ضدها، وذلك بسبب وشايات كاذبة عن صلة الشيخ ببعض الجمعيات الساعية لمعارضة السياسية العثمانية والمطالبة باللامركزية العثمانية وأشيع بأن دعوة الشيخ إلى الإصلاحات السياسية والإدارية تتعارض مع الأمن والاستقرار. فقرر السفر لمصر، حيث كان يتواجد فيها عدد من أصدقائه وطلابه أمثال محب الدين الخطيب، ومحمد كرد علي، ورفيق العظم، ومحمود الجزائري، وحقي العظم، ورشيد رضا، وغيرهم، وسار على طريقته ومنهجه في نشر العلم والدعوة إليه، وألف في مصر عدة كتب، وكتب عدة مقالات لجريدة (المؤيَّد) وغيرها، وقد رفض في مصر أن يقبل الهبات أو الوظائف على فقره، وكان يعتاش من بيع بعض كتبه ومخطوطاته كما كان يفعل في دمشق بعد إقالته من وظيفته، وساعده في ذلك عدم تزوجه وزهده في متاع الدنيا، ولكنه لم يكن يبيع كتبه إلا لمن يعرف قيمتها من العلماء والباحثين أو لبعض المكتبات العامة، وكان أيضاً يبيعها لهم بثمن زهيد بالنسبة لما يمكن أن يدفعه له المستشرقون وتجار المخطوطات والنوادر، ولكن من إخلاصه للعلم ولأمته كان يضن بهذه الكتب أن تفارق بلاد العروبة والإسلام. وسرعان ما عرف فضله ومكانته العلمية أعلام مصر ومثقفوها أمثال: الشيخ علي يوسف، وأحمد زكي باشا، وأحمد تيمور باشا، والشيخ أحمد شاكر محدث الديار المصرية يعد من تلاميذ الشيخ طاهر الجزائري في مصر. وفي مصر قابل الأمير عباس الخديوي ولأن طاهر الجزائري رجل مؤسسات فقد اقترح عليه تأسيس مدرسة للغة العربية تكون مقصدا للطلاب من كل جهة، وتأسيس دار للترجمة مع مطبعة تطبع الكتب المترجمة، مما يدل على رجاحة عقل الجزائري الذي سعى لبعث العربية والاستفادة من العلوم المعاصرة في نفس الوقت. وكان الخديوى سأله عن ملاحظاته على مصر، فأجابه الجزائري بقوله: "شيئان، أحدهما: عدم إكمال الأعمال، والثاني: احتقار الأشغال الجزئية؛ والأمور الكلية إنما تتم إذا أخذت أولاً من أقرب وجه". وهذا يدل على صحة ما وصف به الجزائري من تفحصه لعلل المجتمعات والدول، ولعل هاتين الملاحظتين لا تزالان سبب ضعف مصر وكثير من البلاد العربية لليوم. عودته لدمشق ووفاته: حين وصلت أنباء دخول الجيوش العربية بقيادة فيصل بن الحسين لدمشق سنة 1918م وزوال حكم الاتحاديين عنها، قرر الشيخ العودة إلى دمشق مسقط رأسه، لكنه مرض ولم يستطع السفر إلا بعد منتصف عام 1919م. واعترافاً بفضله ودوره في النهضة واليقظة عيّنته الحكومة العربية، مديراً عاماً لدار الكتب الظَّاهرية التي أسسها قبل أربعين سنة، كما قرر المجمع العلمي العربي الأول الذي يرأسه تلميذه محمد كرد علي ضم الشيخ إليه عضواً عاملاً. لم تطل إقامة الشيخ في دمشق فبعد عام وقليل اشتد المرض عليه، وتوفي يوم الإثنين الرابع عشر من ربيع الآخر سنة 1338هـ- الخامس من كانون الأول عام 1920م. ودفن في سفح جبل قاسيون حسب وصيته. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء. مراجـع للتوسع: - الشيخ طاهر الجزائري، رائد التَّجديد الدِّيني في بلاد الشَّام في العصر الحديث، حازم زكريا محيي الدِّين،2001م. - كنوز الأجداد، محمد كرد علي، أضواء السلف، 2010م. - النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د.محمد رجب بيومي، دار القلم، 1999م. - علماء الشام في القرن العشرين، محمد حامد الناصر، دار المعالي، 2003م.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |