الرثاء في شعر باشراحيل - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 33 )           »          الوقـف الإســلامي ودوره في الإصلاح والتغيير العهد الزنكي والأيوبي نموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أفكار للتربية السليمة للطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          لزوم جماعة المسلمين يديم الأمن والاستقرار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          منهجُ السَّلَف الصالح منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ ولا ينحصِرُ بمكانٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 38 - عددالزوار : 1191 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 16906 )           »          حوارات الآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 15 )           »          الخواطر (الظن الكاذب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          الإنفــاق العــام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 29-07-2021, 03:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح

أَمْضَى وَيُقْلِقُنِي وَقْتِي وَيَفْجَعُنِي
بِمَنْ أَحَبَّ فِرَاقًا غَيْرَ مَحْسُوبِ


ولأن هذا الشيخَ كان صديقًا للبرِّ والإحسان، فإنَّ لياليَه الغراء تسألُ الشاعرَ عنه، وأين هو الآن بعد عمر مديد من النوال والعطاء:كَمْ سَاءَلَتْنِي اللَّيَالِي عَنْ صَنَائِعِهِ
وَكَمْ يُجِيبُ لِسَانِي بِالْأَعَاجِيبِ

أَوَّاهُ يَا شَيْخُ جَمْعُ النَّاسِ مُصْطَخِبٌ
وَأَنْتَ بَيْنَ الْوَرَى تَهْنَا بِتَرْحِيبِ

أَوَّاهُ يَا مَنْ بِكَ الْأَخْيَارُ فِي شَرَفٍ
وَقَدْ نَعَوْكَ عَلَى بُعْدٍ وَتَقْرِيبِ

كَمْ مِنْ فَقِيرٍ وَقَدْ أَثْرَتْ مَغَانِمُهُ
مِنْ فَيْضِ جُودِكَ تُعْطِي بَيْنَ تَرْغِيبِ

قَدْ عَاشَ بِالْبُخْلِ أَقْوَامٌ عَلَى سَعَةٍ
وَأَنْتَ تَحْيَا عَلَى إِسْعَادِ مَكْرُوبِ


ولأن صورةَ هذا الرجل الحاتمي، بلا نظيرٍ في عالم اليوم، وجدنا باشراحيل يكنيه بأبي كلِّ الأخلاق:إِيهٍ أَبَا كُلِّ أَخْلاَقٍ تَعِنُّ لَنَا
تَهْمِي سَحَائِبُ مِنْ مُزْنٍ وَمِنْ طِيبِ

وَوَجْهُكَ الْبَاسِمُ النَّادِي عَلَى خَجَلٍ
يَزِينُه الْبِشْرُ لاَ يَرْضَى بِتَقْطِيبِ

دُنْيَاهُ كَانَتْ وَأَضْحَتْ خَيْرَ خَاتِمَةٍ
مَا غَيَّرَتْهُ صُرُوفٌ بَعْدَ تَجْرِيبِ



أَبَتاه... طريق الشاعرية الأصيلة:وإلى أبيه... ينطلق باشراحيل في رثائه الإيماني المتدفق، كسيل منهمر، يمتلئ بالتُّقى والقناعة بمكانة أبيه عند ربِّه في جنات النعيم، وأنَّ الناس في الدُّنيا - ما تزال - تتهافت بذكره:كُلَّمَا مَرَّ ذِكْرُهُ طَيَّبَ النَّا
سَ فَهَامُوا مِنْهُ بِعِطْرٍ حَنُونِ

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 29-07-2021, 03:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل


عَيْنُهُ تَزْدَهِي بِجَنَّتِهِ الْخَضْ
رَا وَيَزْهُو السَّنَا بِحُورٍ عِينِ

يَا أَبِي إِنَّمَا الْمَسَافَاتُ تَطْوِي
كُلَّ أَعْمَارِنَا غُيُوبَ الْمَنُونِ


ويُنادي الشاعرُ أباه بأجملِ لَقَب كان يحبُّه في الحياة الدنيا، وهو أبو الحب، مؤكِّدًا على حقيقة ناصعة البياض، هي أنَّ ألَم الفراق هو أشدُّ ألم يعيب الإنسان.يَا أَبَا الْحُبِّ وَالْمَحَبَّةُ ثَكْلَى
وَالْأَشِقَّاءُ فِي مَسَاءٍ حَزِينِ

قَدْ تَطِيبُ الْجِرَاحُ يَوْمًا فَيَوْمًا
وَجِرَاحُ الْفِرَاقِ جُرْحُ السِّنِينِ

وَإِذَا هَذِهِ الْحَيَاةُ مَضَاءٌ
وَسُكُونٌ يَمُرُّ إِثْرَ سُكُونِ

هَكَذَا الْعُمْرُ رِحْلَةٌ تَتَهَادَى
وَإِذَا نَحْنُ رَهْنُ سِرِّ الْيَقِينِ



ليصل باشراحيل إلى الحقيقة الكبرى، وهي أنَّ جميع الخلائق تسير متَّجهة إلى الله، وإلى لقائه يوم تبلى السرائر:وَإِلَى اللَّهِ كَمْ تَسِيرُ الْبَرَايَا
أَمْرُهُ نَافِذٌ بِكَافٍ وَنُونِ

يَا أَبِي وَالرَّحِيلُ وَالصَّبْرُ دُونِي
وَثَوَانِيكَ فِي سَوَادِ عُيُونِي

مَا افْتَرَقْنَا وَأَنْتَ فِي كُلِّ عُمْرِي
أَمَلٌ ضَاحِكُ الرُّؤَى يَرْوِينِي



وهكذا يتصبَّر الشاعر على مُصابه الأليم، بفقْد والده، ولا يَملك إلا أن يلجأ إلى ربه، فهو الرُّكن الركين، معتمدًا على ثقافته الدينيَّة، وإيمانه القوي، بلا جزع ولا نصب ولا شكوى؛ لأنه لم يفارق أباه الذي يحيا معه بأخلاقه وكريم صفاته.
وتُخْتَتَم مرثيةُ باشراحيل إلى أبيه بتأكيده على أنَّه مهما عشنا في الحياة، فإنَّ الرجعة والسكون هي خاتمة المطاف، وإنَّ إلى الله المثوبة:لَمْ تَزِدْنِي الْحَيَاةُ غَيْرَ يَقِينٍ
أَنَّ لِلَّهِ رَجْعَتِي وَسُكُونِي


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 29-07-2021, 03:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

وَهْوَ بِالْخَلْقِ رَاحِمٌ وَكَرِيمٌ
وَهْوَ مَوْلاَكَ بَيْنَ دُنْيَا وَدِينِ

ونلمح ممَّا سبق أنَّ باشراحيل لم يرثِ أباه رثاءَ العوام، الباكين، الجزعين، المتخلِّين عن إيمانهم لحظةَ الفراق، ولكنَّه كان في رثائه ثابتَ الجنان، قويَّ الإيمان، رابطَ الجأش، مُستعصمًا بحبل الله المتين، قانعًا أنَّ والدَه يَحيا في ظلالِ الخلد وملك لا يبلى، ويَحتسبه عند مولاه.
أمَّا ألفاظُه هنا، فهي ألفاظُ الإسلام، والتربية الإيمانية التي نشأ عليها؛ حيث تفيض قصائدُه الرثائية بروح الرِّضا التام بما كتبه الله له، وما ابتلاه به، وهو في هذا الشعور يسير على النَّهجِ الإسلامي، وعلى سمت الشعر الملتزم، شكلاً ومعنى.
ويُفاجئنا باشراحيل - كعادته - بقصيدة من أفضل ما كتب، في رثاء والده - يرحمه الله - وكأنَّها قصة حياة للإنسانية جَمْعاء، أو هي قصة باشراحيل مع رمز التُّقى والعفاف والخير والبِرِّ والإحسان، رجل المواقف الصعبة، الذي برحيله رحلت المكارم، إنها قصة الأخلاق الإنسانية في أرفع صورها:يَوْمٌ مِنَ الْأَيَّامِ طَابَ لَنَا السَّهَرْ
بَيْنَ الْبَيَادِرِ وَالْجَدَاوِلِ وَالزَّهَرْ

طَيْرٌ تَعَوَّدَنِي يَنُوحُ عَلَى الشَّجَرْ
لَمْ أَدْرِ أَنَّ الطَّيْرَ يُنْذِرُ بِالْقَدَرْ

وَأَنَا وَإِخْوَانِي الْأَمَاجِدُ فِي سَفَرْ
مَا بَيْنَ خِدْرِ الشَّمْسِ نَسْتَحْيِي الْعُمَرْ

نَتَقَاسَمُ الْأَنْفَالَ مِنْ طَلْعٍ أَغَرّْ
نُهْدِيهِ لِلْمَلأِ الْمُخَدَّرِ بِالضَّرَرْ

كُنَّا وَكَانَ الشَّيْخُ بِالْوَجْهِ النَّضِرْ
فِي مَهْمَهٍ وَالْحُبُّ فِي غَدِنَا انْتَصَرْ

وَعُيُونُ سَيِّدِنَا عَلَيْنَا تَنْبَدِرْ
وَهُوَ الْمُطَاعُ وَأَمْرُهُ فِيمَا أَمَرْ

الْأُمْسِيَاتُ وَصُورَةٌ تَجْلُو الصُّوَرْ
مَنْ يَفْتَحُ التَّارِيخَ يَسْتَقْرِي الذِّكَرْ



ويبهر باشراحيل القارئ بكمِّ الصفات والسمات التي قلَّما تجتمع إلا للعظماء من أفاضل الناس، ومن أجل هذا تسابقت الأفلاكُ والأجرام في الحديث عن مَزاياه وأفضليَّته، ومكانته الرفيعة، كحكيم من حكماء العرب:قَالَتْ حُرُوفُ الشَّمْسِ عَلِّمْنَا النَّظَرْ
عَقْلٌ تَوَقَّدَ بِالنُّضُوجِ وَبِالْفِكَرْ

قَالَ الْهِلاَلُ وَقَدْ تَغَشَّاهُ الْخَضِرْ
هَذَا حَكِيمُ الْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْفِتَرْ


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 29-07-2021, 03:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

مَنْ عَانَقَ الْأَطْفَالَ بِالْحُبِّ الْعَطِرْ
مَنْ يَحْمِلُ الْعَطْفَ الْكَبِيرَ الْمُسْتَمِرّْ

مَنْ قَاسَمَ الْفُقَرَاءَ أَمْوَالَ الْعُمِرْ
قَدْ كَانَ يَزْهَدُ بِالنَّعِيمِ وَبِالدُّرَرْ

ثم يهيب باشراحيل في تعداد مَزايا والده؛ حيث يتشوَّق إليه صوتُ الآذان وسور القرآن الكريم:يَشْتَاقُهُ صَوْتُ الْمَآذِنِ وَالسُّوَرْ
وَيَقِينُهُ بِاللَّهِ بِالذِّكْرِ الْعَطِرْ

عَفُّ اللِّسَانِ عَنِ التَّنَدُّرِ بِالْبَشَرْ
إِلاَّ حَدِيثَ الْخَيْرِ أَوْ طِيبِ السِّيَرْ



ولأن والده كان حكيمًا متمرسًا، فقد واجه الصِّعاب بعقل مستنير، ودافع الظلم برجاحته وفطنته:يَا سَيِّدِي وَالْمَوْجُ يُنْذِرُ بِالْخَطَرْ
وَسَلَكْتَ بِالسُّفُنِ الْمَلِيئَةِ تَحْتَذِرْ

يَا سَيِّدِي وَالرِّيحُ تَعْصِفُ تَعْتَصِرْ
وَوَقَارُكَ الضَّافِي عَلَيْهَا يَنْتَشِرْ

يَا سَيِّدِي وَقِرَاعُ إِنْسَانٍ أَشِرْ
تَلْقَاهُ مُغْتَرًّا بِثَغْرٍ مُزْدَهِرْ

يَا سَيِّدِي وَالظُّلْمُ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرْ
تَأْبَى الْمَكَارِمُ فِيكَ أَلاَّ تَنْتَصِرْ



وإذا كان عِلْيَةُ القومِ يُدنون الأثرياءَ والوُجَهاء من مَجلسهم، فإنَّ أباه - على العكس من ذلك - كان يُدني الفُقراء، ويُقرِّبهم إليه؛ لأنَّه خاشع القلب، تنهمر دُمُوعه لرُؤية هؤلاء المساكين الذين يبرُّ بهم، ويعطف عليهم:يَا صَاحِبَ الْفُقَرَاءِ فِي لَيْلِ الْكَدَرْ
كَمْ كُنْتَ تُدْنِيهِمْ لِمَجْلِسِكَ الْعَطِرْ

يَا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ بِالْحَقِّ ائْتَزِرْ
وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَالْمَدَامِعُ تَنْهَمِرْ







يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 29-07-2021, 04:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح





وإذا كانت هذه هي صفات والده، فإنَّ الجنةَ بلا ريب هي مَثواه - إن شاء الله تعالى -:
الْوَعْدُ يَا أَبَتِي نَعِيمٌ مُسْتَمِرّْ
فِي سَاحَةِ الْخُلْدِ الْمُنَضَّدِ بِالصُّوَرْ

يَا رَبِّ مَتِّعْهُ عَلَى تِلْكَ السُّرَرْ
مَا بَيْنَ جَنَّاتٍ جَنِيَّاتِ الثَّمَرْ



وبعقْد مقارنة سريعة بين قصيدتي باشراحيل عن والده - نلحَظ أنَّه في الأولى كان يُخرج نفثاتِه الثَّكْلَى، وآلامِه المجروحة عَبْرَ قصيدتِه في صورة مُباشرة، أمَّا القصيدةُ الثانية، فجاءت بعد رَويَّة وامتداد زمني جعَلَه يتفاعل مع جلال الحدث وأهميَّته، ومن ثَمَّ يستعرض سيرةَ والده العَطِرة بشيء من التفصيل، الباعث على رسم صورةٍ كلية له، تتآزر فيها السِّمَات الشخصية والأخلاقية، وتقدم للقارئ والدَه في أبهى حُلَّة، وأروع صورة، وهي صورة الشيخ الجليل نصير الفقراء والمُعْدَمين، رجل الحق والبِرِّ والخير، الذي بَكَتْه الأجرام السَّماوية في عَلْيَائِها، والأطفال في براءَتِها، وهي صورة كليَّة عبارة عن مجموعة من الصور الجزئية المتراكبة، التي تَجتمع عناصِرُها؛ لتبرز شخصَ والدِه الكريم - رحمه الله.

سفر العذراء الطويل:
وهي قصيدة من الشعر الحُرِّ كتبها باشراحيل في رثاء عمته مريم - رحمها الله تعالى - التي كانت بالنسبة له أنموذجًا فريدًا في النقاء والشفافية، وصفاء النفس:
قَالَتْ
سَأَخْتَارُ السَّفَرْ
طَالَ الْمُكُوثُ
فَأَيَّ شَيْءٍ أَنْتَظِرْ
زَمَنٌ قَدِ افْتَقَدَ النَّقَاءْ
وَشَرَابُهَا
مَاءٌ طَهُورْ
تَسْقِي بِهِ
حَتَّى الطُّيُورْ
وَمَعِينُهَا الصَّافِي
يَفِيضُ بِهِ السُّرُورْ

ولأَنَّها عذراء، فليست مثلَ نساء الأرض الأُخْريات، هي الرَّمْزُ الوحيد الباقي من زمنِ التضحية والوفاء، وهي الصَّدْر الحاني، الذي يأوي إليه كلُّ مُتعَب وجهيد:
أَيَّامُهَا مُدُنُ الْفَرَحْ
جَعَلَتْ مَبَاهِجَنَا
مُلَوَّنَةً
كَمَا قَوْسٍ قُزَحْ

وعندما رحلت، بكتها الحياةُ والأنواء، والسُّحب والظِّلاَل، وتَحولت الحياةُ من حوله إلى بكائية؛ بسبب رحيلها المفاجئ الحزين:
بَكَتِ الْحَيَاةُ
عَلَيْكِ يَا عَذْرَاءُ
فِي يَوْمِ الرَّحِيلْ
وَبَكَى الْأَقَارِبُ
وَالْقَبِيلْ

ويرى باشراحيل أنَّ نفسها المؤمنة تَمتاز بالفِرَاسَة والشَّفافية التي ترى بنور الله - عزَّ وجلَّ - فلقد كانت تنظر للغَدِ، وكأنَّما أطلعها المولى - سبحانه وتعالى - على أسرارِ الغيب والخلود، ومن هنا رأت مَكانتها في الجنان؛ حيث الورود، والرَّوائح الذَّكِيَّة، والظلال الهنيئة، والحرير، والقصور الشاهقة، ولأجل هذا اختارت طريقَ الله على الحياة الفانية:
وَكَأَنَّمَا الرَّحْمَنُ
أَطْلَعَهَا عَلَى سِرِّ الْخُلُودْ
فَرَأَتْ مَنَازِلَهَا
ظِلاَلاً أَوْ وُرُودْ

صغيري معتز:
وإلى الشاب الراحل معتز فاروق بنجر، يرثي باشراحيل ريعانَ الشباب وأفوله وقتَ نضوجه، يرثي البرعمَ المتفتِّح، وقد استوى عودُه، يَبكي نضارةَ الشباب ورحيلَه المفاجئ، يبكي ما خَلَّفَه بعد سَفره الدائم على نفسِ أمه وأبيه:
(مُعْتَزُّ) مَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي مَلاَمِحَهُ
وَقَدْ بَصُرْتُ بِهِ وَالْمَوْتُ حِينَ دَنَا

تَرَكْتَ بَعْدَكَ أَجْفَانًا مُقَرَّحَةً
وَالْوَجْدُ فِي الْقَلْبِ نَزْفٌ صَارَ مُرْتَهَنَا

يَا قَلْبَ أُمِّكَ وَالْجُرْحُ الْعَمِيقُ بَدَا
وَقَلْبُ وَالِدِكَ الدَّامِي إِلَيْكَ رَنَا

(مُعْتَزُّ) غَرِّدْ كَمَا قَدْ كُنْتَ بُلْبُلَنَا
فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْحُسْنِ مُفْتَتَنَا



ومن شدة حب باشراحيل لمعتز، وتعلقه به، نراه يناديه قائلاً: إنك لم تغب عنا يا معتز، بل سبقتنا إلى ذُرَى الفراديس:
(مُعْتَزُّ) لاَ لَمْ تَغِبْ بَلْ أَنْتَ تَسْبِقُنَا
إِلَى أَعَالِي الذُّرَى تُحْيِي الشَّبَابَ سَنَا

تَسْتَافُ مِنْ رَحْمَةِ الدَّيَّانِ فِي كَرَمٍ
وَتَسْتَزِيدُ فَتُعْطِي مَا غَلاَ ثَمَنَا

عِمْ بِالْجِنَانِ وَرَيَّانُ الْمُنَى غَرَدٌ
(مُعْتَزُّ) فَانْعَمْ بِمَا لاَ يَعْرِفُ الْوَهَنَا



رثاء فقيد الكلمة:
وتتجلَّى أريحيةُ باشراحيل وصدقُه مع الرُّمُوزِ المخلصة، والأبناء البَررة لأمَّتنا المجيدة، وعلى رأسهم الكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال - رحمه الله - الذي كان بقلمه قُنبلَةً في وَجْهِ المارقين والحاقدين والموتورين، وسوطَ عَذابٍ يَصُبُّه على مَن يُهين تراثَنا وثقافَتَنا الأصيلة:
سِرْ أَنْتَ حَيْثُ مَشِيئَةُ الْأَقْدَارِ
تَلْقَى الْكَرَامَةَ فِي رِحَابِ الْبَارِي

يَا مَنْطِقَ الْحَرْفِ الصَّمُوتِ إِلَى الْوَرَى
بِالْحَقِّ لاَ بِالْمَيْنِ وَالْأَضْرَارِ

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 29-07-2021, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

كَمْ تَنْبَرِي قَلَمًا وَفِكْرًا نَاهِضًا
لَكِنَّنَا فِي غَمْرَةِ التَّيَّارِ

لَمْ تَسْتَهِنْ يَوْمًا بِمَاضِي أُمَّةٍ
سَادَتْ وِلاَيَتُهَا عَلَى الْأَمْصَارِ

جَاهَدْتَ بِالْقَلَمِ الرَّفِيعِ شَجَاعَةً
فَغَدَا بَيَانُكَ مِثْلَ وَهْجِ النَّارِ


إلى أن يقول له - صادقًا في قوله، عارفًا لقدره، راجيًا أن يكون من الذين حَظُوا بنعيم مولاهم العميم يومَ القيامة -:
تَاللَّهِ قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّكَ مُوقِنٌ
فِي رَحْمَةِ الْمَعْبُودِ لِلْأَخْيَارِ

وَبِأَنَّ دَارَكَ شُرِّعَتْ أَبْوَابُهَا
تَرْنُو إِلَيْكَ بِفَرْحَةِ الْأَنْظَارِ

فِيهَا الْمَبَاهِجُ وَالْمَنَاهِلُ ثَرَّةٌ
فِيهَا الْجَنَى مِنْ طَيِّبِ الْأَثْمَارِ

فَلْتَهْنَ بِالْعَفْوِ الْكَرِيمِ وَجَنَّةٍ
فَضْلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ لِلْأَبْرَارِ

دمعة ألم على فقيد الأمة:
يوجه باشراحيل أنظارَ قُرَّائِه ومنشدي شِعْره إلى أنَّ كلماتِه هذه المرة تأتي في تأبين ورثاء العَلاَّمة المرحوم عبدالقدوس الأنصاري، بلا لومٍ ولا رياء؛ لأَنَّها صادقة، من القلب إلى القلب، وتدُلُّ على عظيم مَحبته له، فهو أهلٌ للتَّكْرِمَة والإجلال والحفاوة:
بِالصَّبْرِ بِالدَّمْعِ الْغَزِيرْ
بِالْوُدِّ بِالْحُبِّ الْكَبِيرْ

أَنَا إِنْ بَكَيْتُكَ لاَ أُلاَ
مُ وَإِنْ نَعَيْتُكَ لِلدُّهُورْ

تِلْكَ الرِّحَابُ تَرَكْتَهَا
وَتَرَكْتَ مَقْعَدَكَ الْوَثِيرْ


النُّورُ فِي يُمْنَاكَ يَجْ
لُو ظُلْمَةَ اللَّيْلِ الْكَسِيرْ

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 29-07-2021, 04:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

خَلَّفْتَ مِنْ أَثَرِ الْعُلُو
مِ بَرَاعَةً بَيْنَ السُّطُورْ

فِيهَا غُرُوسُكَ لَمْ تَزَلْ
جَذْلَى بِأَطْيَابِ الزُّهُورْ


ويقدم باشراحيل أسانيدَه على صِدْقِ رِثَائِه لهذا الرجل الذي استمعتْ له الدُّنيا مُصغية؛ لجدارته العلمية والأدبية:
أَصْغَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْ
تَ بِمَا حَمَلْتَ لَهَا جَدِيرْ

حَمَلُوكَ قَدْ حَمَلُوا النَّدَى
وَالصَّرْحُ بَعْدَكَ قَدْ يَمُورْ

حَمَلُوا رُفَاتَكَ لِلثَّرَى
فَجُعِلْتَ لِلْأَجْدَاثِ نُورْ

مَا كَرَّمُوكَ وَأَنْتَ أَوْ
لَى مَنْ تُكَرِّمُهُ الْعُصُورْ



وفي رثاء الشاب محمد أسعد الفريح تتبدى عاطفةُ باشراحيل الإيمانية أمامَ عظمة الموت، الذي لا تقفُ أمامَ قوته أَيَّةُ قوة، مُخاطبَا والده بأسلوبٍ ينضح إيمانًا ويقينًا وعزاءً بأَنَّ ما عند الله هو خيرٌ مِمَّا في الدُّنيا الزائلة:
وَدِّعْهُ وَدِّعْ حَبِيبَ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ
وَقُلْ لَهُ لِجِنَانِ الْخُلْدِ يَا وَلَدِي

حَقًّا هُوَ الْمَوْتُ مَنْ فِي الْكَوْنِ يُنْكِرُهُ
وَكُلُّنَا فِي انْتِظَارِ الْمَوْعِدِ الْأَبَدِي

سَرَى (مُحَمَّدُ) نَحْوَ النُّورِ مُنْدَهِشًا
وَغَابَ فِي رَحْمَةِ الدَّيَّانِ وَالْأَحَدِ

رَأَى الْغُيُوبَ وَفِي أَنْدَائِهَا أَلِقٌ
رَأَى النَّعِيمَ وَصَوْتَ الْبُلْبُلِ الْغَرِدِ



وإلى أبي محمد ينصحُه باشراحيل بالتسلُّح بسلاح الصبر؛ لأنَّنا مُبْتَلَون في هذه الدنيا بفقد الأحبة:
(أَبَا مُحَمَّدِ) صَبْرًا أَنْتَ مُمْتَحَنٌ
وَالصَّبْرُ بِاللَّهِ يَشْفِي حُرْقَةَ الْكَمَدِ


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 29-07-2021, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

وَالْوَعْدُ أَقْرَبُ وَاللُّقْيَا مُبَشِّرَةٌ
نَلْقَى الْأَحِبَّةَ فِي الْجَنَّاتِ وَالْغَرَدِ

وَكُلُّنَا رَهْنُ أَقْدَارٍ تُبَاغِتُنَا
وَمَا يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّهِ مِنْ أَحَدِ


وإذا كان باشراحيل قد جمع رثاءَه في ملفٍّ خاصٍّ، ينتظم الشخوص التي فُجِعَ برحيلها، فإنه اختصَّ الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز بمرثية في ديوانه "مُعذبتي"، ولعلَّ هذه القصيدة تكون دليلاً على عذاب الشاعر الذي أتعبه رحيلُ الفيصل؛ فكان رحيله عذابًا شاقًّا في حياته، ولعلَّ موتَه المفاجئ الذي حَلَّ دونَ مقدماتٍ زادَ من هولِ الفاجعة، خاصَّة أنَّ الملك فيصل كان مَحبوبًا في الأوساطِ العربية:
أَفَقْتُ عَلَى فَاجِعَاتِ الزَّمَانِ
وَسَيْفِ الْقَضَاءِ وَحُكْمِ الْقَدَرْ

وَصَوْتِ النَّذِيرِ يَقُولُ انْهَضُوا
فَقَدْ حَلَّ أَمْرٌ أَزَاغَ الْبَصَرْ

لَقَدْ مَاتَ مَنْ كَانَ يَوْمًا لَنَا
ظِلاَلَ الْأَمَانِ وَنَفْحَ الزَّهَرْ

لَقَدْ مَاتَ أيُّ الْتِفَاتٍ حَزِينٍ
وَأَيُّ الْتِيَاعٍ يَهُزُّ الْحَجَرْ



فلقد كان الجميع ينام هانئَ البال، قريرَ العين، بينما الملك فيصل يَسْهَر على تحقيق أحلامهم وعلى شؤونهم:
أَضَاءَ الطَّرِيقَ السَّوِيَّ الْقَوِيمَ
وَعَلَّمَنَا غَالِيَاتِ السِّيَرْ

وَهَزَّ الْيَهُودَ فَأَحْلاَمُهُمْ
تَهَاوَتْ وَأَيَّامُهُمْ تَنْحَسِرْ



ولهذا يخاطبه باشراحيل بلهفة وترقُّب، وحديثٌ مِلؤُه الدُّعاء بخير الجزاء:
أَفَيْصَلُ إِنَّا سَئِمْنَا الْحَيَاةَ
فَكَيْفَ السَّبِيلُ وَأَيْنَ الْمَفَرّْ

عَزَاءُ الْأَحِبَّةِ فِيكَ الدُّعَاءُ
فَأَنْتَ الْحَبِيبُ الْعَزِيزُ الْأَبَرّْ

سَيَجْزِيكَ رَبِّيَ خَيْرَ الْجَزَاءِ
وَمَنْزِلُكَ الْخُلْدُ نِعْمَ الْمَقَرّْ

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 127.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 122.06 كيلو بايت... تم توفير 5.04 كيلو بايت...بمعدل (3.96%)]