صفحات من الاستعمار ------------متجدد - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 171 - عددالزوار : 59781 )           »          شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 162 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 112 - عددالزوار : 28257 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 795 )           »          طرق تساعد على تنمية ذكاء الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          السلفيون ومراعاة المصالح والمفاسد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 686 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 100 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 16036 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 5 - عددالزوار : 65 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-07-2020, 11:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (1)
الاحتلال الفرنسي للجزائر والاستقلال الضائع

. أحمد الظرافي



وأنت تقرأ هذه الحكاية ستعتريك مشاعر متناقضة متضاربة، ففيها يمتزج الشعور بالحزن والألم والرثاء، بالشعور بالفخر والإعجاب والثناء، بالشعور بالأسف والمرارة والعزاء.. إنها حكاية شعب الجزائر المسلم، محتلاً، ومقاوماً، ومغدوراً به، وذلك منذ بداية الاحتلال الفرنسي سنة 1830م، وحتى اليوم. وإليكم ملخص الحكاية:

أولاً: أسباب الغزو الفرنسي للجزائر:

إن الباحث عند دراسته للغزو الفرنسي للجزائر، سيجد أن وراءه مجموعة من الأسباب المتداخلة، أهمها:
الأسباب التاريخية والدينية: وهي تأتي في مقدمة كل الأسباب، بل إن ما عداها تبع لها، ففرنسا لم تنسَ عداوتها القديمة للإسلام، عندما غزاها المسلمون وقادوا الحملات العسكرية لفتحها في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي، منطلقين من شمال إفريقيا والأندلس، وهي الفتوحات التي لا تزال حية في ذاكرة الفرنسيين بشكل خاص، والأوربيين بشكل عام، حتى يوم الناس هذا، وكل حوادث التاريخ القديم، التي كان فيها المسلمون فاعلاً، وهم مفعولاً به، لم ينسوها قط، فكيف بحوادث التاريخ الحديث والمعاصر؟ ففرنسا لم تغفر للجزائر تحالفها الوثيق، مع دولة الخلافة العثمانية، خلال القرون الثلاثة السابقة لغزوها، وما شكله ذلك التحالف من مصدر قوة للإسلام، مكن المسلمين من احتواء الخطر الأوربي الصليبي ضد الإسلام، والذي انبعث مجدداً وبكل قوة وشراسة وعنف مع عصر النهضة الأوربية وطرد المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة عام 1492م، فكان ذلك التحالف من أهم العوامل للتصدي لغارات الأساطيل الصليبية على سواحل شمال إفريقيا، وتلقينها الهزيمة تلو الهزيمة، ومن ضمن تلك الأساطيل، الأساطيل الفرنسية بطبيعة الحال. وفرنسا أيضاً لم تغفر للجزائر تلك الغارات المزلزلة التي قامت بها الأساطيل الإسلامية على الموانئ الفرنسية، انطلاقاً من موانئ الجزائر وتونس في تلك الفترة ذاتها، تحت قيادة القائدين البحريين الكبيرين، بربروسا وعروج باشا، واللذين كان اسمهما يبث الرعب في قلوب الأوربيين، وبخاصة الفرنسيين، وما كانت تمثله تلك الغارات البحرية من تهديد إستراتيجي على فرنسا، بل وعلى سائر أوربا. وفرنسا كذلك لم تنسَ للجزائر، حين كانت هذه الأخيرة إيالة عثمانية، بسط سيطرتها على البحر المتوسط، وكيف أن مرور الأساطيل التجارية الفرنسية في عرض هذا البحر لم يكن يحدث إلا بإذن من السلطات الجزائرية المسلمة، وبعد دفع الإتاوة المقررة.
الأسباب الاقتصادية والسياسية: الجزائر بلد زراعي من الدرجة الأولى، وبه أراض زراعية خصبة، كان يسيل عليها لعاب السلطات الفرنسية، لاسيما وأن الفرنسيين كانوا أساساً عالة على إنتاجها من الحبوب، فقد كانت فرنسا تستورد حاجتها من الحبوب من فائض إنتاج الجزائر من تلك الحبوب، ولهذا السبب فكرت في غزوها عسكرياً واحتلالها، للسيطرة على تلك الموارد الزراعية، ولكي تكون أيضاً سوقاً لتصريف منتجاتها الصناعية، وفي نفس الوقت مركزاً للحصول على المواد الخام، لاسيما بعد انكشاف السواحل الجزائرية نتيجة لتدمير أسطولها في معركة «نافارين» إلى جانب الأسطول العثماني ضد أساطيل بريطانيا وفرنسا وروسيا. هذا فضلاً عما سيترتب على ذلك الاحتلال من إشباع روح الغزو لدى الجيش الفرنسي الذي غرسه فيه الطاغية نابليون بونابرت (1767-1821م)، وتوسيع رقعة الإمبراطورية الفرنسية، وذلك بعد الاستحواذ على هذا البلد البكر (القارة).
الأسباب العنصرية والقومية: كان الفرنسيون الذين يزايدون بكونهم ورثة حضارة الإمبراطورية الرومانية، سيدة العالم في العصور القديمة كما يزعمون، والمعروفون أيضاً بغرورهم واستعلائهم، كانوا يشعرون بالعار، كون الحاجة اضطرتهم للاستدانة من الجزائر في عهد الباي، من النقد الذهبي، ومن الحبوب أيضاً، وبصفة خاصة خلال المجاعة التي اجتاحت فرنسا بعد ثورة 1789م، فالجزائر بلد إسلامي عربي، وكانوا يرونه أقل رقياً وحضارة منهم، ومن ثم كانوا يأنفون من كونهم يمدون أيديهم إليه، وكانوا يشعرون لفرط استعلائهم ولنزعتي الأنانية والجشع في نفوسهم أنهم أولى من الباي ومن الجزائريين المسلمين بالموارد الاقتصادية التي تزخر بها الجزائر، لاسيما بعد تفجر الخلافات حول ديون فرنسا للجزائر بين السلطتين الجزائرية والفرنسية، هذه الأخيرة التي لم يكن لدى السلطات الفرنسية رغبة في سدادها، وذلك برغم اعترافها بتلك الديون وفقاً لاتفاقيات 1796م، 1801م، 1820م.
ثانياً: الغزو الفرنسي للجزائر وصراع الإرادات:

كانت تلك هي الأسباب الأساسية لطرح فرنسا موضوع الجزائر في مؤتمر فيينا (1814/1815م)، قبل أن يتفق المؤتمرون الأوربيون، على تحطيم هذه الدولة في مؤتمر «إكس لا شابيل» عام 1819م، وتخويل فرنسا باحتلال البلد، وقد استغلت فرنسا حادثة شروع الباي في ضرب القنصل الفرنسي بالمروحة، في أبريل 1827م، أثناء مناقشة مديونية فرنسا للجزائر، كذريعة للغزو، فحركت أساطيلها نحوها سنة 1828م، فنجحت في احتلال الجزائر العاصمة، في 5 يوليو 1830م، بعد مقاومة شرسة، ولكن مع ذلك، وحتى بعد استسلام الباي للفرنسسين عام 1832م، فإن الشعب الجزائري لم يضع السلاح، ولذلك فقد استغرق الفرنسيون الغزاة حوالي سبعين عاماً لبسط السيطرة الكاملة على البلاد، نظراً لاتساع مساحتها، ولشراسة المقاومة في الداخل، بما عرف به الجزائريون من بسالة وحمية وإصرار، فقد كان هناك رفض شامل للاستعمار، وعزيمة صادقة في إخراجه بالقوة مثلما دخل بالقوة، واعتبار مهادنته خيانة عظمى. وبين عامي 1930 و1900م، تمكن المجاهدون الجزائريون من تطهير كل أنحاء الجزائر من الفرنسيين تطهيراً كاملاً، باستثناء الجزائر العاصمة. ولكن بالمقابل، فإن فرنسا كانت تبدي في كل مرة إصراراً منقطع النظير على وجودها في الجزائر، وكانت تتشبث بكل ما يمكنها من البقاء فيها بأظافرها وتعض عليه بنواجذها، ورفضت التخلي عنها، برغم كثرة هزائمها وخسائرها الفادحة، وكان ترسيخ وجودها في الجزائر العاصمة، والتي تقع على ساحل البحر المتوسط، في مواجهة السواحل الفرنسية، ما سهل للبحرية الفرنسية التدخل مباشرة لنجدة حاميتهم هناك، وتزويدها بالجنود والسلاح والمؤن في الوقت المناسب، كما أن ذلك الموقع قد ساعد أساطيلها على الإغارة على موانئ الجزائر الأخرى، عند اللزوم، ومن ثم إنزال جنودها وعتادها على سواحلها، وبصورة تسمح لها باستئناف جولات القتال في الداخل، وفرض سيطرتها مجدداً على الأقاليم نظراً لافتقاد البلاد السلطة المركزية. وكانت العوامل المذكورة آنفاً هي التي وقفت وراء إصرار فرنسا المستميت على البقاء في الجزائر، وعدم الاعتراف بالفشل في السيطرة عليها، وعلى تكرار غزوها مرة بعد مرة، وعدم اليأس من إمكانية سحق مقاومة شعبها وكسر إرادته مهما كان الثمن، وبالتالي عدم اليأس من اقتطاعها من جسد الإسلام، وفرض الاحتلال العسكري المباشر عليها وبصورة نهائية، وبما يسمح بإدخالها في حظيرة ممتلكاتها وتحويلها إلى مزرعة فرنسية، وإلى بقرة حلوب تدر اللبن لأفواه الفرنسيين. وهكذا، ونتيجة لذلك الإصرار المستميت من قبل الطرفين، الفرنسيون لبسط سيطرتهم العسكرية والسياسية على الجزائر، والجزائريون لرفضهم لهذه السيطرة ومقاومتهم الباسلة لها، فقد استمرت عمليات الكر والفر على مدى حوالي سبعين عاماً، وتبادل فيها الطرفان النكسات والهزائم. إلا أن الشعب الجزائري كان الأكثر غرماً، والأكثر تضرراً، كونه كان يجابه الجيش النظامي الفرنسي الحديث والمنظم، بآلته العسكرية المتطورة وجحافله الجرارة، كجماعات متفرقة، وغير موحدة، وبأسلحة قديمة وبدائية، وكون رحى المعارك كانت تدور في دياره، وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولذلك فقد انتهى صراع الإرادات ذلك لصاح فرنسا في نهاية المطاف، بعدما ارتكب جيشها ما ارتكب من مذابح بشعة، أباد فيها قبائل كاملة، ومسح مدناً وقرى من على وجه الأرض، وفتك بالجزائريين العزل فتك الوحوش شيوخاً ونساء وأطفالاً، واستباح الأعراض والمقدسات، وهي السياسة التي دشنها الجنرال بيجو (1784-1849م) السفاح الدموي الصليبي، الذي حل بالجزائر سنة 1841م، ففي نظره إن حرب الإبادة وحدها هي الكفيلة بالقضاء على مقاومة الشعب الجزائري، ونتيجة لذلك فقد تقلص عدد سكان الجزائر البالغ عددهم يومئذ ثلاثة ملايين نسمة إلى مليونين خلال 15 سنة فقط. ومع ذلك فإن جهاد شعب الجزائر المسلم لم ينته، ولم يكن ما حدث سوى جولة من الصراع كسبتها فرنسا.

ثالثاً: السياسة الفرنسية في الجزائر:

ارتكزت هذه السياسة على أربعة محاور أساسية، هي:
محور الفرنسة: من مظاهره محاربة اللغة العربية، وإجبار الأهالي على استعمال الفرنسية، والتي جعلوها هي اللغة الرسمية وحدها، في الروضة والمدرسة والجامعة، وقامت فرنسا بإنشاء إدارة جديدة مفرنسة بنسبة 100%، وعملت على شطب الأسماء العربية للمدن والشوارع والمعالم، واستبدلتها بأسماء فرنسية، كما عملت على إصدار عدة مراسيم لفرنسة التعليم، ومنها مرسوم 24 ديسمبر 1904م، والذي يقضي بمنع أي معلم من فتح مدرسة قرآنية إلا بترخيص، بعد التزامه بجملة من الشروط التعجيزية، ثم أصدرت قانون 8 مارس 1938م، الذي قضى بحظر استعمال اللغة العربية، بل واعتبارها لغة أجنبية. والعمل على تدريس جغرافيا وتاريخ فرنسا على أنهما جغرافيا وتاريخ الجزائر، وتشويه التاريخ الإسلامي، كما شمل ذلك تشكيك الجزائريين في عروبتهم، فزعموا أنهم من أعقاب الرومان والبربر، وذلك كي يبقى البلد تابعاً وجزءاً من الثقافة الفرنسية، وقد نجحت في ذلك في منطقة القبائل البربرية.
محور التنصير: تم تحويل 80% من المساجد إلى كنائس وثكنات وإسطبلات، وتشجيع البعثات التبشيرية للانتشار في البلاد لتنصير الشعب، وسحق الإسلام، وتمت مصادرة الأوقاف الإسلامية، وجعلها تحت تصرف المبشرين، وكان الكاردينال لافجري (1825-1892م) من أشد المتحمسين للتنصير، وهو القائل: «علينا أن نجعل من أرض الجزائريين مهداً لدولة مسيحية... تلك هي رسالتنا». وعمل هؤلاء المبشرون وقادة الجيش الفرنسي على إحياء كنيسة إفريقيا الرومانية، تطبيقاً لمقولة: «إن العرب لا يطيعون فرنسا إلا إذا أصبحوا فرنسيين، ولن يصبحوا فرنسيين إلا إذا أصبحوا مسيحيين»، وكان الجنرال بيجو يأتي بالأطفال الجزائريين اليتامى إلى القسيس ويسلمه لهم قائلاً: «حاول يا أبتي أن تجعلهم مسيحيين، وإذا فعلت ذلك فلن يعودوا إلى دينهم ليطلقوا علينا النار». وشمل ذلك أيضاً تشجيع الطرق الصوفية على نشر الخرافات والشعوذة، فأصبحت هذه الطرق معولاً في يد المستعمر لهدم الإسلام.
محور التفقير: قام الفرنسيون باغتصاب وسلب الأراضي الزراعية الخصبة، وإعطائها للمعمرين من فرنسيين ومتفرنسين من شذاذ الآفاق، والذين تم جلبهم من دول أوربية عدة، والذين بلغ عددهم عند الاستقلال أكثر من مليون مستوطن، وقد انتهجت فرنسا أساليب متعددة للاستيلاء على الأراضي الزراعية، منها تأسيس شركات زراعية، وإنشاء سكك حديد تربط بين سهول الجزائر الخصبة وميناء الجزائر، وفي مقدمتها سهل متيجة عام 1857م، وكانت فرنسا تعاقب الثوار الجزائريين بالقتل والحبس والنفي ومصادرة الأملاك. وبعد تجريد الشعب الجزائري من ممتلكاته، أخضعته لقوانين قاسية، ومنها قانون الأهالي عام 1871م، والذي فرض عليه حمل رخصة تجيز له التنقل من مكان لآخر داخل وطنه، فإذا لم تكن بحوزته يعاقب، وقد أصاب الجزائريين نتيجة هذه السياسة فقر مدقع.
محور الإدماج: عملت فرنسا على اقتلاع الجزائر من محيطها العربي الإسلامي، وبالتالي إذابتها في الكيان الفرنسي، فألحقتها بفرنسا قانونياً، بموجب مرسوم 22 يوليو 1834م، واعتبرتها أرضاً فرنسية، ومنحت الجنسية الفرنسية للجزائريين، وفي 2 فبراير 1912م أصدرت قانون التجنيد الإجباري، الذي تضمن تجنيد الجزائريين في الجيش الفرنسي باعتبارهم رعايا فرنسيين، وبلغ عدد هؤلاء المجندين في الجيش الفرنسي أكثر من 250 ألفاً قبيل الحرب الأولى، وبلغ عدد الجزائريين الذين شاركوا في الحرب الثانية زهاء مليون، ما بين جنود مقاتلين وعاملين لتأمين الجنود، وقد ذهب مئات الآلاف منهم وقوداً لحروب فرنسا في تلك الحربين، وفي حروبها الاستعمارية في الهند الصينية. علماً بأن الإدماج كان أكذوبة، فقد ظلت الجالية الفرنسية والمتفرنسة الطارئة على البلاد هي المتحكمة في الجزائريين، وظل الفرنسي يعتبر نفسه سيداً، ويعامل الجزائري كعبد، هو وما ملك لسيده.
رابعاً: جمعية العلماء وحرب التحرير:
برغم كل الإجراءات التي وضعها لتثبيت وجوده، والقرارات والمراسيم الكثيرة التي اتخذها لفرنسة الجزائر، وبرغم سياسات القمع، والبطش، والتنكيل، والقهر، والتجهيل، والتفقير، التي اتبعها، فقد تواصلت مقاومة الشعب الجزائري في القرن العشرين، برغم الجراح، والنزيف، والمصاعب، والآلام، ففي العقد الثاني من هذا القرن ظهر العالم الإصلاحي الجليل عبد الحميد بن باديس (1889-1940م)، والذي رفع لواء الدفاع عن الإسلام والعروبة في الجزائر، متوجاً جهوده في هذا المجال بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931م، بالتعاون مع نخبة من علماء الجزائر المخلصين، وقد أعلن بن باديس بكل جرأة ووضوح أن: «الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت». وكان له ولجمعية العلماء الفضل الكبير في إصلاح العملية التعليمية، وإعادة الناس إلى الكتاب والسنة وعقيدة السلف، ومحاربة البدع والضلالات التي كان ينشرها الصوفية القبوريون بدعم وتشجيع الاستعمار الفرنسي، الذي اعتمد على الطرق الصوفية كإحدى الركائز لوجوده في البلاد. ومع أن القانون الأساسي للجمعية كان ينص على عدم الخوض في السياسة، إلا إن أعضاءها لم يلتزموا بذلك عملياً، فقد كان لا بد من الجمع بين السياسة والعلم، لتحقيق الثمار المرجوة، وهذا ما كان يعتقده ابن باديس، وكان يؤمن أن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، وأن الجزائر لن تتحرر إلا بالجهاد. وذلك قد كان. فقد استطاعت هذه الجمعية أن تغير مجرى التاريخ، وأن تحفر قبر الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد توفي ابن باديس سنة 1940م، وهو ابن 51 عاماً، لكن جمعية العلماء استمرت في تأدية نشاطها التعليمي، برغم القيود الصارمة التي فرضها عليها الاحتلال الفرنسي، وصار لها فروع ومدارس في مختلف أنحاء الجزائر، وكان لها دور في تهيئة الأجواء لثورة التحرير الجزائرية، التي اندلعت ليلة أول نوفمبر 1954م، وكان لأبنائها دور في الكفاح المسلح خلال فترة هذه الثورة، فقد كان أغلب المجاهدين في جيش التحرير من خريجي ومنتسبي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان «الكثير ممن قدموا حياتهم من أجل استقلال الجزائر هم من طلبة عبد الحميد بن باديس (الأب الروحي للجمعية)»، وفقاً لشهادة محمد ياحي، أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر، وبعض هؤلاء صاروا قادة في جيش التحرير، من أمثال العقيد محمد شعباني (1934-1964م)، قائد الناحية الثالثة (الصحراء)، كما كان لعلمائها دور في التحريض على الجهاد ضد المستعمر، من أمثال الشيخ الشهيد العربي التبسي (1895-1957م)، والشيخ محمد السعيد الزموشي (1904-1960م)، والشيخ أحمد حماني (1915-1998)، والشيخ عمار مطاطلة (1915-2015م)، داخل الجزائر، وفي مصر كان هناك الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1889-1966م)، رئيس الجمعية خلفاً لابن باديس، والذي أعلن تأييده للثورة منذ انطلاقتها واعتبر التراجع عنها هو «الفناء الأبدي والذل السرمدي»، وكان بجانبه الفضيل الورتلاني (1900-1959م)، بل ومنهم من قاتل بالسلاح من أمثال الشيخ أحمد سحنون (1907-2003م)، وهو الكفاح الذي توج بنيل الاستقلال سنة 1962م، بعد تضحيات وجهود جبارة أدهشت العالم، وأجبرت السلطات الفرنسية المحتلة، التي كانت تعتبر الجزائر قطعة من فرنسا، أن تستيقظ من أحلام يقظتها، وأن تسلم بالأمر الواقع، وتقر صاغرة ذليلة بأن الجزائر ليست فرنسية، وذلك برغم المجازر الفظيعة التي ارتكبتها، والممارسات الوحشية التي قامت بها لوأد الثورة، إلا أن جمعية العلماء ظلت بعيدة عن القيادة السياسية للثورة، فهذه القيادة تولاها اليساريون والفرانكفونيون، للأسف، حيث أجبرت كل الأحزاب والمنظمات ومنها جمعية علماء المسلمين الجزائريين أن تحل نفسها، وأن ينضوي المنتسبون إليها إذا أرادوا المشاركة في الجهاد في جبهة التحرير الوطني العلمانية، ذات التوجه الماركسي، والثقافة الفرانكفونية، كأفراد حتى يسهل تذويبهم في هذا التنظيم الجديد.

خامساً: الاستقلال الضائع:

هكذا خرجت فرنسا من الجزائر بعد 132 عاماً من الاحتلال، بفضل تضحيات الشعب الجزائري المسلم، التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً. ولكن الفرحة لم تكتمل، فقد ظهر منذ الأيام الأولى للاستقلال أن الذي خرج من البلاد، هو الاستعمار العسكري فقط، أما الاستعمار بأشكاله الثقافية والسياسية والاقتصادية فظل قائماً، وكان يتوجب مواصلة الجهاد حتى يتم تطهير البلاد تماماً من مخلفات الاستعمار، ولكن فرنسا لم تعط الفرصة للشعب الجزائري لكي يلتقط أنفاسه، وبعد أن سكتت أصوات طائراتها ومدافعها لجأت إلى الحرب الناعمة، بل إنها كثفت من هذه الحرب التي كانت قد بدأتها منذ انطلاقة الثورة فقد عملت فرنسا بكل خبث ودهاء على اختراق جبهة التحرير، الواجهة السياسية لجيش التحرير الوطني، فزجت فيها بالعديد من الجزائريين الفرانكفونيين الموالين لها، فنجحت في إبعاد الإسلام، من منهج الجبهة، وبعد خروجها العسكري عام 1962م عملت على تسليم السلطة لمجموعة وجدة بقيادة هواري بومدين (1932-1978م)، رئيس أركان جيش الحدود، هذا الأخير الذي كانت قد دست فيه العديد من الضباط الجزائريين المتفرنسين[1]، وليس لجيش التحرير، الذي فجر الثورة، وعُرف بضرباته الصاعقة والموجعة للجيش الفرنسي، والذي كان أيضاً معظم المنتسبين إليه من أصحاب التوجه الإسلامي، وكان بومدين الذي صار وزيراً للدفاع في حكومة الاستقلال هو الماسك بزمام الأمور، في حين لم يكن بن بلا (1916-2012م) رئيس الجمهورية سوى واجهة، وبرغم ما كان بينهما من خلافات، فقد كانا متفقين على تبني النظام الاشتراكي للدولة الجديدة، مع تنحية الإسلام تماماً عن الشأن العام، ولذلك فقد تم منع جمعية العلماء من العودة لممارسة نشاطها، وفرضت الإقامة الجبرية على رئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي، ثم لم يلبث الأول أن أطاح بالثاني سنة 1965م وحل محله، فدشن عهداً جديداً من الكبت والظلم والمطاردة ومصادرة الحريات، وأولها حرية الدعوة إلى الله، وعمل على تهميش من تبقى من ضباط جيش التحرير أو إبعادهم، وفضل عليهم الضباط الجزائريين المتفرنسين، ووكل هؤلاء بمهمة تدريب الجيش الجديد، كما عين بعضهم في مناصب حساسة بوزارة الدفاع. وامتازت فترة حكم بومدين بكثرة الشعارات التي تدغدغ عواطف الشعب، كالتعريب، والثورة الزراعية، والثورة الصناعية، ومكافحة الاستعمار، وقضية فلسطين، وعدم الانحياز، وغيرها، لكن النتائج على أرض الواقع كانت دائماً دون المستوى، إن لم تكن عكسية. فالنتائج التي ترتبت على جهوده في التعريب كانت محدودة، كما أن الكادر الإداري الذي كان جله من الإدارة الفرنسية السابقة، ظل هو المسيطر على الإدارة والتعليم والإعلام، بل إن التبعية الثقافية ترسخت أكثر، وهذا طبيعي، طالما الإسلام قد استبعد من مشروع بومدين، وطالما قد زج بالعلماء في السجون. والأخطر من ذلك هو اختراق ضباط فرنسا للجيش، وعند وفاة بومدين مسموماً في نهاية عام 1978م، كانوا قد صاروا رقماً صعباً في الجيش، ولذلك كان لهم بجانب قاصدي مرباح رئيس المخابرات، دور في تنصيب الشاذلي بن جديد (1929-2012م) رئيساً للبلاد خلفاً لبومدين، وفي عهد الشاذلي حصلوا على العديد من الترقيات، فسيطروا على الجيش سيطرة تامة، وصارت لهم الكلمة العليا في البلاد، وقد تجلى ذلك من خلال إيقاف سير الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، وإجبار بن جديد على الاستقالة عام 1992م، وهو الانقلاب الذي لقي التأييد من قبل السياسيين والمثقفين الفرانكفونيين المتغلغلين في المرافق الحيوية للدولة، والذين وقفوا يصفقون لجنرالات فرنسا وهم يغرقون الشعب في حمام دم، ويدافعون عنهم في كل محفل، وهكذا ضاع الاستقلال، وعادت الجزائر إلى الحظيرة[2]، وبالمقابل فإن كفاح الشعب الجزائري المسلم مستمر، ولم يتوقف، ولن يتوقف، إلا بالتخلص من حزب فرنسا، واستعادة الهوية الإسلامية لجزائر الإسلام والعروبة.
[1] انظر مقالنا: بومدين وحلم ديجول في جزائر ما بعد الاستقلال، موقع مجلة البيان الإلكتروني، 4/3/2019م، رابط: (http://cutt.us/ykWpd ).
[2] تناولنا ذلك بتفصيل أوسع في مقال: ضباط فرنسا ومفارقات ثورة المليون شهيد، موقع مجلة البيان الإلكتروني، 12/3/2019م، رابط: (http://cutt.us/mEKtM ).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19-07-2020, 02:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (2)
مؤتمر برلين الثاني.. الاستعمار الأوربي لإفريقيا

. أحمد الظرافي

بدأ الاستخراب[1] الأوروبي لإفريقيا، مع الاحتلال البرتغالي لمدينة سبتة عام 1415م، ثم اشتد مع وصولهم إلى سواحل غرب القارة في العقد الرابع من القرن الخامس عشر، وتدشينهم لأحقر تجارة عرفها التاريخ؛ ألا وهي تجارة العبيد، التي استمرت بكل ما فيها من عنصرية وبشاعة وقسوة واستهانة بالبشرية والآدمية، أكثر من أربعة قرون (من عام 1445 حتى عام 1870م)، وأدت إلى إخلاء مناطق واسعة في غرب القارة ووسطها من سكانها، وبخاصة المسلمين، الذين كان يتم خطفهم ثم شحنهم في ظروف بالغة القسوة، إلى المستعمرات الأوروبية، في الأمريكيتين، تعويضاً عن الهنود الحمر، الذين راحوا ضحية الإبادة الجماعية التي ارتكبها الرجل الأبيض هناك. وقد ظل الغزو الأوروبي الصليبي لإفريقيا متصلاً، ولم ينقطع طوال تلك المدة؛ إلا أنه حتى مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم يكن يشمل سوى المناطق الشمالية، وبعض المناطق الغربية من القارة، وبخاصة السواحل.

أولاً: مرحلة التكالب الأوروبي على إفريقيا:

ويعتبر الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هو فترة التكالب الأوروبي على إفريقيا؛ أي فترة السعي لاستباحة المناطق الداخلية من القارة الإفريقية، بالقوة العسكرية، والهيمنة عليها في كل المجالات: اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وفكرياً، وثفافياً، وعلمياً، من قِبَل إمبراطوريات استخرابية أوروبية مختلفة، وذلك بعد أن كانوا قد سبروا أغوارها من خلال المستكشفين المغامرين والجواسيس، والبعثات التبشيرية، وبعثات الجمعيات الجغرافية، التي تم تأسيسها لهذا الغرض، وكانت تقارير أولئك المكتشفين والجواسيس وتلك البعثات والجمعيات، المرفوعة لدوائر صنع القرار الأوروبي، أو المنشورة في الصحافة الغربية، تؤكد على الثروات الهائلة التي تتمتع بها القارة، وما فيها من كنوز، وعلى الفرص المتاحة لاستغلالها، وتنصير أهلها، وكانت تلك التقارير والمقالات تحذر أيضاً من المد الإسلامي واسع النطاق في إفريقيا، وخطورة ترك الإسلام ينتشر في ربوعها بين الجماعات الوثنية في الغابات الاستوائية، وغيرها. وقد بدأ ذلك التكالب، مع انتهاء تجارة الرقيق، في منتصف القرن التاسع عشر، بعد أن كانت هذه التجارة الحقيرة، على مدى أكثر من أربعة قرون، قد أدت الغرض منها بالنسبة لمعظم الدول الرأسمالية الأوروبية، وصارت قيداً على زيادة التطور الرأسمالي، ومن ثَمَّ ظهور الحاجة إلى تنظيم الاستغلال المحلي للأراضي والعمل، وَفْقاً للاحتياجات الأوروبية الجديدة في العصر الإمبريالي، بعد الثورة الصناعية التي كانت تتطلب الحصول على المواد الخام، وعمالة رخيصة، وسوق لتصريف المنتجات الصناعية. ويلاحظ أن هذه الموجة الصليبية الاستخرابية الجديدة، قد ركزت في البداية على احتلال الأقاليم العربية الإسلامية من القارة؛ سواء في الشمال، أو الغرب، أو الشرق، لأن هذه الأقاليم كانت هي مركز الثقل، وقطب الرحى، ومنبع المقاومة، ومن ثَمَّ كانت هي القلعة الحصينة التي تحمي الأقاليم الداخلية من القارة، وبسقوطها ستسقط تلك الأقاليم، ولذلك فقد دشنت فرنسا هذه الموجة الصليبية الاستخرابية الجديدة، باحتلالها لتونس عام 1881م بعد أن كانت قد احتلت الجزائر عام 1830م، وتوغلت في غرب إفريقيا، ذات الأغلبية المسلمة عام 1870م، ثم باحتلال بريطانيا لمصر عام 1882م، وهو الاحتلال الذي أدى إلى إنهاء الوجود المصري في شرق إفريقيا، والسودان، وحلول الوجود البريطاني محله، وتحرك فرنسا من مستعمراتها في السنغال، جنوباً نحو أعالي النيجر في غرب إفريقيا، ردّاً على ذلك. وكان إنشاء (ليوبولد الثاني) ملك بلجيكا (1865 - 1909م) للمنظمة الإفريقية العالمية، ذات الأهداف الإنسانية المعلنة عام 1877م، وتطلعه لاستباحة الكونغو، ذات الموارد الهائلة في قلب القارة، كان ذلك قد أدى إلى إثارة غيرة وحسد كلٍّ من فرنسا وبريطانيا، أكبر إمبراطوريتين استخرابيتين صليبيتين آنذاك، الأمر الذي أدى إلى تحرك فرنسا للدخول في سباق مع بلجيكا، لاستباحة الكونغو... كما وقفت بريطانيا والبرتغال في وجه مشاريع بلجيكا في الكونغو، وهنا رأت الإمبراطورية الألمانية الصاعدة، أن لها الحق في نصيب من الغنيمة، فأسرعت باحتلال أجزاء واسعة من غرب إفريقية في أبريل 1884م، وإعلان حمايتها على أجزاء أخرى من القارة، وعلى رأسها الكاميرون، الأمر الذي أثار فزع ومخاوف إنجلترا، نتيجة لمزاحمة ألمانيا لها بعد فرنسا. وهكذا بدأت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، موجة جديدة من الاستخراب الأوروبي تجتاح القارة الإفريقية التي صارت نهباً مستباحاً، والتي كان يُطلَق عليها، وقتذاك «أرض بلا صاحب» من قبل القوى الأوروبية.


ثانياً: انعقاد مؤتمر برلين الثاني وطبيعته:

وفي خضم ذلك التكالب الاستخرابي على إفريقيا، ولكي لا يتحول التنافس بين القوى الأوروبية عليها إلى حروب طاحنة تأكل الأخضر واليابس، كتلك التي صاحبت استخراب الأمريكيتين، دعا الزعيم الألماني بسمارك (1863 - 1890م) في حزيران عام 1884م لعقد مؤتمرٍ للدول الأوروبية، في برلين، لأجل وضع خريطة تقسيم القارة الإفريقية على الطاولة، وتقنين السباق الاستخرابي الأوروبي عليها، وتحديد لكل دولة من هذه الدول الاستخرابية حدود مستخرباتها الجديدة، أو بالأحرى، تحديد من الذي يستبيح هذا الجزء أو ذاك من قارة إفريقيا، وبحيث يكون للإمبراطورية الألمانية الصاعدة، نصيب من هذه الكعكة، ويكون لها وجود عسكري مباشر، تستطيع من خلاله حماية مصالح الرأسماليين الألمان، والبعثات التبشيرية الألمانية هناك، وقد بدأت بالظهـور في بعض مناطـق إفريقيا، كشـرق إفريقيا، وتوغو، والكاميرون قبل توحيد بسمارك لألمانيا عام 1870م، بجهود خاصة بذلتها الشركات التجارية الألمانية، والكنيسة البروتستانتية الألمانية. وقد انعقد المؤتمر[2] فعلاً في 15 تشرين الثاني 1884م، وشاركت فيه 13 دولة أوروبية هي: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والنمسا، والمجر، وبلجيكا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال، كما حضرته الولايات المتحدة الأمريكية بصفة مراقب، وحضرته أيضاً الدولة العثمانية، كـ (ديكور) لإضفاء الطابع الدولي عليه، وقد اختارت كل دولة أوروبية، واحداً من الرأسماليين العتاة لديها، وأكثرهم دهاء، وجشعاً، وصفاقة، وتجرداً من المروءة والإنسانية، ليمثلها في هذا المؤتمر الغريب والفريد من نوعه؛ فقد كان أشبه باجتماع زعماء العصابات (المافيا)[3] لتوزيع الغنيمة من المواد المسروقة، التي اشتركوا في سرقتها معاً، وكل منهم يريد أن يكون نصيبه هو الأكبر من تلك الغنيمة، وأن لا تشمله القرعة، بل يترك له المجال، لكي يأخذ النوع الذي يشاء منها، مع الفارق الجوهري، وهو أن هؤلاء اللصوص (المتحضرين)، يتفاوضون علناً، وجهاراً نهاراً، حول استباحة قارة بأكملها، تزيد مساحتها عن مساحة قارة أوروبا كلِّها 10 مرات تقريباً، أنهارها وبحارها وجبالها وسماؤها وأرضها، وما في بطن هذه الأرض من موارد وثروات، مع تغييب كامل لمن عليها من بشر، وكأن هؤلاء البشر ليسوا موجودين على ظهرها، بل كأنهم ليسوا بشراً، إنما مجرد دواب تسير على الأرض، وليس لهم أحلام، ولا طموحات، ولا تاريخ، ولا ثقافات، ولا منظمات، ولا مؤسسات... والحقيقة أن هؤلاء البشر، كانوا جزءاً من الغنيمة، ولم تكتمل القسمة إلا بهم، لأنهم سيكونوا عمال سخرة، يستخدمهم الرجال البيض (سادتهم المتحضرون)، لاستنزاف موارد بلادهم، لزيادة أرباح حفنة من هؤلاء الرأسماليين البيض، ولكي يعملوا على رفاهيتهم، بطرق استغلالية بشعة بل متوحشة، كما سيكون لهم الحق في التصرف فيهم بيعاً، وقتلاً، واستعباداً، كما يشاؤون. ونتيجة لذلك، ونظراً لشراهة هؤلاء اللصوص (المتحضرين) وشهياتهم المفتوحة على الآخر للسلب والنهب، مع تعارض مصالح بلدانهم، فقد استمرت مداولات المؤتمر وقتاً طويلاً، وحدثت فيه حالات استقطاب، وتكتلات، ومفاوضات ثنائية وثلاثية ورباعية، حتى اختتم المؤتمر أعماله في 26 شباط 1885م، بعد حوالي 100 يوم، من بَدء انعقاده، وما كان المؤتمر ليستغرق هذه الفترة الطويلة، لو لم تكن الغنيمة ضخمة جداً. ولذا يعتبر هذا المؤتمر أطول وأغرب مؤتمر في التاريخ.

ثالثاً: قرارات مؤتمر برلين الثاني ونتائجه:

وقد جاء البيان الختامي لمؤتمر برلين الثاني في 38 مادة، تضمنت إقرار كل دولة أوروبية على ما تحت يدها من مستخربات في إفريقية، كانت قد استباحتها قبل انعقاد المؤتمر، كما أقر المؤتمر أن أي دولة أوروبية لها الأولوية في استباحة أي منطقة إفريقية كان لها أو لشركاتها التجارية أو لبعثات كنائسها التبشيرية، نفوذ عليها من قبل، واعترف المؤتمر بحق الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، في استباحة الكونغو التي أطلق عليها اسماً فضفاضاً، وهو «دولة الكونغو الحرة». وكانت الكونغو هذه وجبة دسمة حصل عليها هذا الملك الجشع، ومتحجر القلب، نظراً للثروات الهائلة التي تتمتع بها الكونغو، والتي تعادل مساحتُها مساحة غرب أوروبا كله، وتزيد عن مساحة بلجيكا البالغة 11878ميلاً مربعاً عشرات المرات. وقد حدث ذلك بعد أن حصل الملك ليوبولد على دعم أمريكا مقابل أن يترك باب الكونغو مفتوحاً أمام التجارة الأمريكية، ومنذ ذلك التاريخ بدأت المصالح الأمريكية في إفريقيا. وأعطى المؤتمر الدول الأوروبية الحق في استباحة أي جزء من القارة، لم يكن قد استبيح من قَبْل، من قِبَل أي دولة أوروبية أخرى، شريطة إعلام بقية الدول الأوروبية الموقِّعة على ميثاق المؤتمر بذلك، وهو ما هيَّأ الفرصة أمام ألمانيا لانتزاع المزيد من الأراضي الإفريقية. كما نص البيان الختامي للمؤتمر على حرية التجارة والملاحة في حوضَي نهري الكونغو والنيجر، مع التأكيد على الاستمرار في مكافحة تجارة الرقيق، إلى جانب العديد من المواد الأخرى، التي قصد منها إضفاء الطابع الإنساني المتحضر على الاحتلال.

وأخيراً وليس آخراً، اعترف المؤتمر لأول مرة بقوة محلية إفريقية هي الحبشة، لكونها مملكة نصرانية، وأعطاها الحق في استباحة أراضي الإمارات الإسلامية التي كانت تتركز على الساحل الإفريقي وقتذاك، والتي كانت تعرف بإمارات الطراز الإسلامي، وقد كان. وعلى إثر ذلك، ظهرت الحبشة قوةً إقليمية كبرى في المنطقة، وتم تحويل اسمها إلى (إثيوبيا)، وبخاصة على يد الإمبراطور منليك (1889 - 1913م) الذي بزغ نجمه بمساعدة الإمبراطوريات الأوروبية.

وبناء على ذلك، فقد سارعت الإمبراطوريات الأوروبية باستباحة باقي مناطق القارة الإفريقية، وبخاصة الإمبراطوريات الأربع العظمى، وقتذاك، وهي بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وانتهت هذه المرحلة باحتلال إيطاليا لليبيا عام 1911م، واحتلال فرنسا للمغرب عام 1912م. وهكذا صارت سبع دول أوروبية استخرابية، وهي: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والبرتغال، وإسبانيا، وبلجيكا (مساحتها مجتمعة 734000 ميل مربع)، تستبيح أكثر من 93% من الأراضي الإفريقية (مساحتها 11300000 ميل مربع )، أي ما يعادل 15 ضعفاً لمساحة تلك الدول مجتمعة، ولم يتبقَ بكل إفريقيا دول مستقلة، سوى الحبشة وليبيريا، وحتى هذه الأخيرة، كانت تحت الحماية الأمريكية غير المباشرة. وكان الجزء الأكبر، من القارة تحت سيطرة بريطانيا وفرنسا (حوالي 67%). وقد تمت عملية التقاسم هذه، طبقاً لمصالح القوى الاستخرابية الأوروبية، ودون أي اعتبار لمصالح، وأديان، وثقافات، ووحدة الشعوب والقبائل الإفريقية، هذه الشعوب والقبائل، التي دفعت ثمناً باهظاً لذلك الاحتلال، ثم أصبحت بعد الاستقلال المزعوم، تعاني من التمزق والتجزئة والصراعات الداخلية، وسوء التغذية، وضياع الهوية، وأعمال الإبادة الجماعية، التي ترتكب في كثير من أنحائها، وبخاصة ضد المسلمين، لتفريغ القارة منهم، وتلك الحدود المصطنعة، التي قسمت أبناء القبيلة الواحدة بين أكثر من وحدة سياسية.

رابعاً: مبررات الأوروبيين لاستخراب إفريقيا:

وقد استخدمت القوى الأوروبية الاستخرابية، العديد من الذرائع لتسويغ استباحتها للأقاليم الإفريقية، ونهب ثرواتها، وقهر واستعباد وإبادة الكثير من شعوبها. وعلى هذا الأساس انعقد مؤتمر برلين الثاني، فكل الدول الأوروبية الاستخرَابية، التي شاركت فيه، روجت حينذاك إلى أن الهدف من هذا الاجتماع إنساني، يتعلق بمكافحة تجارة الرقيق، وتعمير القارة الإفريقية، ونشر الحضارة فيها، وحفظ الأجناس البدائية في أنحائها، ورعاية مصالحهم، والعمل على ترقيتهم مادياً ومعنوياً، وكلها مسوغات زائفة؛ فلم يعرف الناس لهذا الاحتلال سوى الخراب والدمار. فقد زعمت بريطانيا العظمى التي كانت قد حظرت تجارة العبيد عام 1807م، أن إنهاء (تجارة الرقيق العربية)، هو سبب استباحتها لمناطق شرق إفريقيا المسلمة، مثل زنجبار وشمال الصومال وكينيا، كما أنها خصصت لمكافحة الرق أسطولاً حربياً ظل مرابطاً أمام سواحل غرب إفريقيا لمطاردة السفن التي تحمل العبيد، وبهذه الذريعة تمكنت بريطانيا من توطيد نفوذها في مناطق غرب إفريقيا أيضاً، وبخاصة في منطقة ساحل الذهب (غانا حالياً). وهذه الذريعة السخيفة نفسها (أي مكافحة الرق)، هي التي استخدمها ليوبولد الثاني ملك بلجيكا لاستباحة الكونغو، ولكي يفرض على شعبها (عملاً إجبارياً وعبودية حديثة)، إلى جانب رفعه لشعارات تثقيف الأفارقة المساكين، وتدريبهم على إدارة بلادهم، وإدخالهم في النصرانية، لدرجة أنه استضاف مؤتمراً دولياً لمناهضة العبودية، في بروكسل في تموز 1890م، وذكر التقرير الصادر عن هذا المؤتمر أن ثمة رغبة مؤكدة للقوى التي حضرت المؤتمر في أن تحمي الأجناس المحلية في إفريقيا من العبودية والاضطهاد. وقد رفعت ألمانيا صوتها عالياً في هذا المؤتمر: أن لا لتجارة العبيد، الأمر الذي جعل البريطانيين يثنون عليها، ويباركون دخولها في مجال الاستخراب العالمي، باعتبارها، كما جاء في التقرير، «شريكاً في العمل العظيم الخاص بتمدين الأجناس المتخلفة والوثنية، في الأرض الإفريقية». وقد زعم بعض الكتاب الفرنسيين، أن فرنسا لها رسالة إنسانية حضارية، وهي نشر المدنية والتحديث في الجهات غير المتحضرة، وإنقاذ إفريقيا التي يشتغل أبناؤها بتجارة العبيد، ويأكلون بعضهم بعضاً، ويقدمون الروح الإنسانية قرباناً لآلهتهم، ووصلت سخرية فرنسا بالشعوب التي استخربتها مع صدور قانون 23 شباط 2005م، الذي يمجد الاستعمار بوصفه (عملاً إيجابياً)! بل إن البرتغال - وهي بلد أوروبي فقير، ومتخلف، في العصر الإمبريالي، ولا تملك الإمكانيات الفنية لتطوير الصناعة والزراعة في مستخرَباتها - كانت تزعم، بكل وقاحة، أنها قادرة على تمدين الشعوب الإفريقية. وبلغت المغالطة بالأوروبيين المستخرِبين، الذين حققوا رفاهيتهم ورخاءهم على حساب مأساة الأفارقة، وتعاستهم، وشقائهم، وقامت حضارتهم المعاصرة على عظامهم وجماجمهم إلى حد القول: «إن (الاستعمار) جاء إلى إفريقيا بسبب احتياجات إفريقيا، أكثر مما هو بسبب احتياجات أوروبا». وقد ادعت بعض الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا أن (الاستعمار)، ضروري لها لإعادة توطين الفائض من سكانها، لكن ثبت زيف هذا الادعاء أيضاً؛ فعندما لم تجد هذه الدول من أبنائها من يرغب في أن يهاجر بمحض إرادته إلى تلك (المستعمرات)، عمدت إلى إرسال المجرمين المحكوم عليهم في قضايا جنائية إليها بدلاً منهم، ولم تكتف بإرسال المجرمين من رعاياها إلى تلك (المستعمرات)، وإنما أرسلت أيضاً المجرمين من رعايا دول أوروبية أخرى، وقامت باغتصاب الأراضي الزراعية الخصبة والثروة الحيوانية، التي يمتلكها السكان المحليون، وأعطتها لهم.

خامساً: الإسلام والاستخراب الأوروبي لإفريقيا:

لـم تتـم عمليـة اسـتباحة قـارة إفريقيـا بمعـزل عـن صراع الأوروبيين مع الإسلام، فغداة احتلال فرنسا للجزائر عام 1830م، خاطب شارل العاشر (1757 - 1836م) ملك فرنسا ملوك أوروبا في رسالة وجهها لهم قائلاً: «إن احتلال الجزائر هو لصالح النصرانية كلها». بل كان هذا السبب يأتي في مقدمة الأسباب بالنسبة لدول صليبية مثل البرتغال وإسبانيا، اللتين خاضتا حروباً دينية طويلة ضد المسلمين، في الأندلس، انتهت بسقوط الحكم الإسلامي، واقتلاع شجرة الإسلام من جذورها، من هناك، وبعد ذلك صار المسلمون هدفاً للمطاردة في كل مكان من قِبَلهما، وبخاصة في إفريقيا، وذلك أن الملكة الكاثوليكية المتعصبة إيزابيلا (1451 - 1504م)، حثت في وصيتها الكاثوليك على ضرورة غزو المغرب وتحويل أهله إلى الدين النصراني. وهذا هو السبب في احتلال مدينتي سبتة ومليلة في شمال المغرب، من قِبَل البرتغال وإسبانيا، وبقائهما تحت سيطرة الاستخراب الإسباني حتى اليوم.

وبعد مؤتمر برلين الثاني، وفي إطار حربهم الشرسة على الإسلام واللغة العربية قام المستخربون الأوروبيون، بفصل شرقي إفريقيا عن الجزيرة العربية، وفصل غرب إفريقيا عن المغرب العربي، وفصل جنوب السودان عن شماله، وتكاملت سياستهم في هذا المجال، وكل ذلك حتى يحدُّوا من نفوذ اللغة العربية في هذه البلدان، وحتى ينزعوا الإسلام عن الهوية الإفريقية.

وتظهر هذه القضية عندما نعلم أن معظم القادة العسكريين الذين قادوا الجيوش الأوروبية لاستباحة إفريقيا، كانوا من النصارى المتطرفين، من أمثال الجنرال (غوردون باشا) الذي لعب دوراً هاماً في تصفية الوجود العربي الإسلامي في جنوب السودان، والنقيب (ليوقارد) الذي قام بدور هام في تصفية الوجود العربي في نيجيريا، والرائد (مكدونالد) الذي لعب دوراً هاماً في تصفية الوجود العربي الإسلامي في أوغندا، وقد افتخر هذا الأخير، في كتابه (عشر سنوات في شرق إفريقيا) بأنه قدم للنصرانية أكبر عمل تبشيري، ألا وهو (اجتثاث) ما أسماه (الجرثومة العربية) أي الإسلام والمسلمين في أوغندا. وقد أزالت الدول الاستخرابية الأوروبية لإفريقيا دولاً وإمارات إسلامية بأسرها من غرب القارة، وشرقها، أبرزها دولة الخلافة الإسلامية في سكوتو في المنطقة المعروفة حالياً بـ (شمال نيجيريا)، التي كانت ثمرة للحركة الإصلاحية السلفية، التي قادها الشيخ عثمان بن فودي (1754 - 1817م)، والتي قضى عليها البريطانيون عام 1903م، بمعاونة فرنسا وألمانيا. وكان ذلك بعد معارك عنيفة، استمرت فترة طويلة؛ فقد كان المسلمون الأفارقة، هم من رفع راية المقاومة للتصدي للاستخراب الأوروبي لإفريقيا، ولكن المسلمين - سواء كانوا دولاً أو جماعات - هزموا في النهاية، نظراً للأسلحة الفتاكة التي كان يملكها المستخرِب الصليبي، مقابل الأسلحة البدائية التي واجهوه بها، وأيضاً نظراً لعدم قدرة الحكام المسلمين الأفارقة، على التوحد لمواجهة هذا التحدي المصيري؛ خاصة مع تطبيق المستخربين لسياسة فرق تسد، وضرب الشعوب الإفريقية بعضها ببعض، فأقامت الدول الأوروبية مستخرباتها في إفريقيا على أنقاض تلك الدول والإمارات الإسلامية، وغيرها. وبعد إزالة نفوذ المسلمين السياسي، شرعت تلك القوى الاستخرابية في الحرب المنظمة على اللغة العربية، لأنها لغة القرآن الكريم، ولغة الدعوة الإسلامية، واللغة التي يتحدث بها المسلمون الأفارقة، والتي أيضاً بحروفها تُكتَب أشهر اللغات الإفريقية، وهي اللغة السواحلية، ولغة الهوسا، ولا يمكن القضاء على الإسلام، إلا إذا تم القضاء عليها[4].











[1] استخدمت كلمة «الاستخراب»، بدلاً من كلمة «الاستعمار»، لأن الأولى تعبِّر عن المدلول الصحيح للاحتلال الأوروبي؛ فحيثما وجد هذا الاحتلال حل الخراب، فهو استخراب، وليس استعماراً، وصاحبه مستخرِب وليس مستعمِراً، والأرض التي يحتلها مستخرَبة وليست مستعمرَة، وأهلها مستخرَبين وليسوا مستعمرَين، لأنه يخرب بلدانهم ويخرب ثقافاتهم وأفكارهم وعقائدهم وحياتهم.

[2] أطلق على هذا المؤتمر اسم (مؤتمر برلين الثاني)، تمييزاً له عن مؤتمر برلين الأول، الذي عقد عام 1878م، لتقرير مصير دول البلقان، بعد هزيمة الدولة العثمانية، في الحرب ضد روسيا القيصرية، وهبوب رياح الانبعاث القومي في هذه البلدان.

[3] وبعد ذلك بحوالي 13 سنة، وتحديداً في عام 1897م، انعقد المؤتمر الصهيوني الأول، في سويسرا ، وقرر استباحة فلسطين بالطريقة نفسها، ولكن اليهود كانوا أذلَّ وأحقر وأجبن من أن يغزوا فلسطين بأنفسهم، ولذلك فقد استباحوها بعد أن امتطوا ظهور عبَّاد الصليب من الجنود البريطانيين وغيرهم.

[4] تناولت هذا الموضوع في مقال مستقل تحت عنوان (الاستعمار الأوروبي وسياسة اقتلاع العربية من إفريقيا السمراء)، منشور بموقع مجلة البيان في 7

- 4 - 2019م، رابطhttp://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=6627 .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27-07-2020, 03:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد


صفحات من الاستعمار (3)



غول فوق رأسه تاج: ملك بلجيكا واحتلال الكونغو

. أحمد الظرافي

بلجيكا دولة في غرب أوروبا، يحدها من الشمال والشمال الغربي هولندا وبحر الشمال، ومن الجنوب والجنوب الغربي فرنسا، ومن الشرق ألمانيا ولوكسمبورغ. ومساحتها لا تتعدى 11781 ميلاً مربعاً، وهي تاريخياً جزء من بلاد الغال التي سيطر عليها الفرنجة وأقاموا فيها دولتهم في أواخر القرن الخامس الميلادي. وبسبب موقعها بين عدد من الإمبراطوريات الأوروبية، كانت بلجيكا ساحة صراع بين تلك الإمبراطوريات في العصر الحديث، وخضعت للإمبراطوريات النمساوية، والإسبانية، والفرنسية، والهولندية. وأخيراً نالت استقلالها عن هولندا، واعترفت بها القوى الأوروبية مملكة دستورية عام 1830م.

أولاً: الملك ليوبولد الثاني وشهوة الاستعمار:
وقد ظلت بلجيكا قانعة بحدودها، ومعترفة بقدراتها وحجمها الصغير، ولم يكن لها أي طموحات توسعية أو استعمارية وراء البحار حتى تولى عرشها ثاني ملوكها، وهو ليوبولد الثاني (1835 - 1909م). فقد كان هذا الملك، على عكس والده، عظيمَ الطموح، واسعَ الأطماع، قوي الشخصية، حريصاً على إقحام بلجيكا في نادي الاستعمار الدولي على غرار إنجلترا وفرنسا، وقد عُرف عنه هذا الميول منذ أن كان أميراً وعضواً في مجلس الشيوخ، وبعد جولاته في العديد من بلدان العالم آنذاك، فقد كان ينعى على أعضاء مجلس الشيوخ البلجيكي نظرتهم الضيقة، ومحدودية طموحهم، ويدعوهم إلى (توسيع أفقهم إلى ما وراء البحار)، ويوضح لهم بحماس أن المسألة ليست مسألة قدرات أو إمكانيات، ولكنها مسألة جرأة وقوة قلب قبل كل شيء. ولكن آراءه لم تجد آذاناً صاغية لديهم، ولا حتى لدى رجال الأعمال البلجيكيين، وذلك لأسباب واقعية، وعملية؛ حيث إن بلجيكا كانت بلداً محايداً، ولم تكن تملك جيشاً مجهزاً، ولا أسطولاً بحرياً قوياً. ولذلك فإنه عندما جلس ليوبولد الثاني على العرش في عام 1865م وهو في سن الثلاثين من عمره، كان أول شيء فكر فيه هو انتزاع مستعمرة لبلاده خارج أوروبا، لدرجة أنه فكر في الصين في بداية الأمر، ثم عاد فرغب بفرموزا، ثم الفلبين. ولكن لم يتم له شيء من هذا، فصرف النظر عن آسيا وغيَّر وجهته إلى أمريكا اللاتينية، قبل أن يستقر تفكيره على إفريقيا، فهي (أرض بلا صاحب) طِبقاً لمزاعم الأوروبيين وقتذاك، وبخاصة بعد أن راحت قوافل البعثات التبشيرية، وفِرَق المستكشفين المغامرين تجوب أنحاء القارة، وتتحدث للصحافة الغربية ولدوائر صنع القرار في بلدانها عما تحتويه من موارد هائلة. ولعل هذه الفكرة قد تبلورت في دماغه بعد زيارته لمصر، ومشاركته في افتتاح قناة السويس عام 1869م بدعوة من الخديوي إسماعيل، ومن ثَمَّ اطلاعه عن كثب على شؤون القارة وعوامل ضعفها، وكيف أنها صارت نهباً مستباحاً للقوى الاستعمارية الأوروبية. ونظراً لضعف قوته العسكرية وعدم تأييد البرلمان البلجيكي لمشاريعه ومغامراته، فلم يجد الملك ليوبولد الثاني باباً ينفذ من خلاله إلى نادي الاستعمار الدولي ومن ثَمَّ تحقيق طموحاته وأطماعه التوسعية، أفضلَ من باب العمل الإنساني والخيري والعلمي. فقام في سنة 1876م بعقد المؤتمر الجغرافي العالمي الذي دعا إليه جغرافيي أوروبا وعلماءها، وانتهى هذا المؤتمر بإنشاء (الجمعية الدولية لكشف إفريقيا وإدخال الحضارة إليها)، وأعلنت الجمعية أن هدفها هو: إدخال الحضارة إلى إفريقيا من خلال إنهاء تجارة الرقيق غير المشروعة، واستبدالها بالتجارة المشروعة بالمواد الأولية الإفريقية، والبضائع الأوروبية المصنعة، ونشر النصرانية للأخذ بيد الإنسان الإفريقي (البدائي). أما الأهداف الحقيقية؛ فقد كانت انتزاع بقعة غنية يسيطر الملك ليوبولد الثاني على مقدراتها، وتضخ إيراداتها إلى خزينته الشخصية. وباشرت الجمعية العمل من فورها، فأرسلت بعثتين إلى إفريقيا: أولاهما إلى شرق القارة في عام 1877م، وثانيتهما إلى أواسط القارة بعد عامين. وفي غضون ذلك عاد الصحفي والمستكشف والمبشر الإنجليزي الأمريكي الأصل هنري مورتون ستانلي (1841 - 1904م) بعد رحلة قام بها إلى أواسط إفريقيا، معلناً خبر اكتشافه لحوض نهر الكونغو، الذي لم يكن الأوروبيون قد اكتشفوه حتى ذلك الوقت، وانتشر الخبر في العواصم الأوروبية وفي أمريكا، بعد أن نشرت صحيفة الديلي تلغراف عام 1877م تقريره المشهور عن الإمكانات والثروات الطبيعية الهائلة في المنطقة: كالمطاط، والعاج، وزيت النخيل، والفول السوداني، وهو التقرير الذي اختتمه بقوله: «إن الدولة التي ستسيطر على مجرى النهر، ستسيطر تلقائياً على تجارة أغنى المناطق في إفريقيا».
ثانياً: خطة الملك ليوبولد للسيطرة على الكونغو:
ولكن رغم ذلك، فقد رفضت الدولة الاستعمارية التي ينتمي إليها المستكشف والمبشر ستانلي (إنجلترا) أن تعلن الحماية على حوض نهر الكونغو كما كان يريد؛ وذلك لعدم ثقتها به، كما لم تقم أي دولة استعمارية أخرى بالتجاوب مع اكتشافات ستانلي في الكونغو، ولذلك فقد بادر بعرض خدماته على ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، الذي لم تفته تلك الإشارة التي وردت في تقرير ستانلي، ولذلك لم يتردد لحظة واحدة في قبول العرض. وقيل إن الملك ليوبولد الثاني هو الذي استدعى ستانلي إلى بروكسل، واجتمع به في قصره سنة 1878م، وأفصح له عن مشروعاته التي ينوي القيام بها في الكونغو، فأبدى ستانلي حماسه واستعداده، لدعم تلك المشروعات. وأيّاً كان الأمر، فإنه علـى إثر ذلك تعاقـد الملك ليوبولد الثاني مع ستانلي باسم الجمعية، بعد أن غيَّر اسمها إلى (جمعية الكونغو الدولية)، بأجرٍ قدره ثلاثمئة ألف دولار في العام، ثم لم يلبث أن بعث به إلى الكونغو لاكتشافها بصفته وكيلاً للجمعية. وبعد رحلتين استكشافيتين قام بهما ستانلي في أدغال الكونغو، استغرقتا خمس سنوات (1879 - 1884م) تمكن من إنشاء 22 محطة تجارية على نهر الكونغو وفروعه، كما نجح في عقد450 اتفاقية مع السلاطين المحليين في الكونغو، وافقوا فيها على وضع مناطق نفوذهم تحت حماية الجمعية، مقابل بعض الإغراءات التافهة، التي لم تكن تتعدى قطعة من الثياب شهرياً، وقطعة أخرى هدية عند توقيع العقد، دون أن يدرك أولئك السلاطين الأميون أن تلك الاتفاقية تعني استعبادهم في القانون القائم على قيم ومفاهيم الحضارة الغربية المادية. حدث كل ذلك والملك ليوبولد الثاني ما يزال يردد بأن أهدافه في إفريقيا إنسانية ونبيلة، وهي محاربة العبودية، وتثقيف الأفارقة، وتنصيرهم، وترقيتهم مادياً ومعنوياً، وتدريبهم على إدارة بلادهم، باعتبار ذلك واجباً نصرانياً، ومن دون أي مقابل مادي، ولم يسوِّق ذلك في الصحف المحلية البلجيكية فقط؛ وإنما فعل ذلك أيضاً في كبريات الصحف العالمية المشهورة آنذاك في أمريكا وإنجلترا، حتى وصفه أحد الصحفيين الأمريكيين بـ (الملك الحكيم) بناء على المعطيات التي سمعها منه أثناء مقابلته معه. بَيْد أن ذلك لم يكن لينطلي على الدول الأوروبية الاستعمارية الأخرى، الخبيرة بأساليب وألاعيب الاستعمار الشيطانية، ولذلك فقد فطنت إلى مرامي الملك ليوبولد الثاني ونواياه في الحصول على هذه الكعكة الشهية، وهي الكونغو، واستئثاره بها دونها، ولذلك فقد سارعت كلٌّ من البرتغال وإنجلترا إلى تعزيز وجودهما في الكونغو، والوقوف في وجه مخططات ملك بلجيكا، مدعيتين أنهما الأحق بهذه الغنيمة من بلجيكا الدخيلة على القارة، والطارئة على الاستعمار، في حين سارعت فرنسا بإرسال ممثليها إلى الكونغو لتوقيع اتفاقيات حماية مع سلاطينها المحليين، على غرار ما فعله ستانلي مندوب الملك ليوبولد الثاني، كما سارعت تلك الدول للسيطرة على أجزاء أخرى من القارة، فسيطرت فرنسا على تونس عام 1881م، وسيطرت بريطانيا على مصر في عام 1882م، وأعلنت حمايتها على الصومال عام 1884م، ولم تلبث ألمانيا أن حذت حذو تلك الدول وأعلنت أجزاءً من الكونغو محمية ألمانية، إلى جانب إقامتها لعدد من المستعمرات في شرق القارة وجنوبي غربها. وبدا أن القارة الإفريقية مقبلة على حرب مدمرة تأكل الأخضر واليابس بين تلك القوى الأوروبية الاستعمارية، نظراً للموارد الهائلة التي كانت تتمتع بها الكونغو بشكل خاص وإفريقيا بشكل عام، والتي يسيل لها لعاب كل دولة استعمارية، في وقت دخلت فيه تلك القوى الاستعمارية الأوروبية عصر التصنيع، أو الثورة الصناعية، بعد أن كانت وقفاً على إنجلترا فقط.
ثالثاً: مؤتمر برلين وإقرار الاستخراب البلجيكي للكونغو:
ولنزع فتيل تلك الحرب التي قد تَحدُث نتيجة لذلك المد الاستعماري السريع والكاسح من قبل القوى الأوروبية الاستعمارية على إفريقيا، في وقت وصلت فيه تلك الدول إلى ذروة قوتها العسكرية، فقد بادر الزعيم الألماني بسمارك في يونيو عام 1884م بالدعوة إلى مؤتمر في برلين، لوضع مسألة اقتسام قارة إفريقيا على الطاولة، وللاتفاق على قواعد جديدة للعبة، تلتزم بها كل الدول الاستعمارية، وتضمن تحقيق مصالحها جميعاً. وهكذا عقد مؤتمر برلين الثاني في (1884 - 1885م) بحضور ممثلين مفوضين بمطلق الصلاحيات من جميع الدول الأوروبية، عدا سويسرا ودول البلقان، كما حضرته أمريكا، بصفة مراقب، وفي هذا المؤتمر أجاد الملك ليوبولد الثاني العزف على وتر التناقضات الموجودة بين القوى الاستعمارية الكبرى، وبخاصة إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا، كما كان قبل انعقاد المؤتمر قد أمَّن ما يحتاجه من دعم دبلوماسي لمشروعه لدى حكومات تلك الدول عن طريق خبراء العلاقات العامة الذين جندهم للعمل لصالحه، ولذلك فقد ظفر الملك ليوبولد ببغيته، وخرج من المؤتمر بما كان يريد من الغنيمة، وهي الكونغو. واعترفت له بذلك كلٌّ من أمريكا، وفرنسا، وألمانيا، نكاية بإنجلترا التي لم يكن يحد مطامعها حدود. واشترط المؤتمر أن تصبح التجارة في المستعمرة حرة ومفتوحة أمام استثمارات الرأسماليين من جميع القوميات، وأن تتولى بلجيكا حماية البعثات التبشيرية من مختلف الكنائس النصرانية، كما اتفقت على حرية الملاحة في حوضَي نهر الكونغو ونهر الزمبيزي. ولذلك فقد أطلق الملك ليوبولد الثاني على هذه المستعمرة أثناء المؤتمر اسم (دولة الكونغو الحرة). وكلمة (حرة) هنا إنما تعني حرية الشركات الأوروبية في نهب موارد هذه المنطقة. واتفق الحاضرون أنه في حالة نشوب حرب بين الدول الأوروبية، فيصبح حوض نهر الكونغو محايداً. ونظراً لكون قضية الكونغو كانت قضية أساسية في هذا المؤتمر، فقد عُرف باسم (مؤتمر الكونغو)، كما عرف أيضاً باسم (مؤتمر برلين غرب إفريقيا)، لأن هذا القسم من القارة كان أكثر أجزاء القارة تقسيماً وتفتيتاً. وهكذا أُعلنت دولة الكونغو الحرة دولةً إفريقية مستقلة ذات سيادة، تقوم على إدارتها جمعية الكونغو الدولية التي يرأسها الملك ليوبولد الثاني (ملك بلجيكا) ولها علم خاص، كان عبارة عن قطعة من القماش الأزرق في وسطها نجمة ذهبية. وقد لعب التاجر والرحالة العربي العماني حميد المرجبي (1840 - 1905م) الشهير باسم (تيبوتيب) دوراً مهمّاً في مساعدة ستانلي في إرساء أسس وقواعد دولة الكنغو الحرة، وخاصة بعد أن تم اختياره (أي المرجبي) حاكماً عاماً على الكنغو من قبل البلجيكيين سنة 1877م، بعد أن فقد سنده الأكبر المتمثل في سلطنة زنجبار، التي وقعت تحت الحماية البريطانية بعد مؤتمر برلين، وبشرط أن يكون إلى جانبه موظف بلجيكي للقيام بالاتصالات الخارجية. ويعترف المرجبي بذلك الدور دون خجل؛ إذ يذكر في مذكراته (أن البلجيكيين انتدبوه لبسط نفوذهم على الكونجو، فزرع راياتهم في كل شبر من تلك الأرض). ومع ذلك فإن البلجيكيين لم يلبثوا أن عزلوه من وظيفته، واستولوا على تجارته ومراكزه، وقضوا على حركة أنصاره، بعد أن ترك الكنغو وعاد إلى جزيرة زنجبار التي مات فيها عام 1905م، وخلصت الكنغو للملك ليوبولد الثاني، وللشركات الأوربية الاستغلالية، والبعثات التبشيرية، فباشرت هذه الأطراف بتصفية الوجود العربي الإسلامي في المنطقة، وهكذا تلاشت اللغة العربية من الكونغو، لأن وجودها - أساساً - كان مرتبطاً بتجارة أولئك التجار العرب العمانيين، ولم تكن مرتبطة بالدين كما في المناطق الأخرى من القارة. هكذا صارت الكونغو - وهي أكبر وأغنى مناطق إفريقيا - تحت الهيمنة الشخصية للملك ليوبولـــد الثاني، ملك بلجيكا.
رابعاً: بشاعة الاستخراب البلجيكي للكونغو:
ولما كان تحقيق الربح، هو هدفه الوحيد، فقد أصدر الملك ليبولد الثاني عدداً من القوانين جعلت الكونغو بمثابة ضيعة تُستثمر مواردها لحسابه الخاص، وعزلتها عما يجاورها من البلدان الإفريقية، وصار يتصرف في سكانها كما يشاء: قتلاً، واستعباداً، وتعذيباً، وتشغيلاً، دون رقيب، وضرب عرض الحائط بتلك المبادئ السامية التي كان يرددها من قبل، وبدأت في عهده السخرة على نطاق واسع ووحشي في الكونغو، حيث استخدم هذا الملك الجشع، متحجر القلب لإدارة هذه الشركة الخاصة قوةً خاصة من الوكلاء المنحطين اجتماعياً وأخلاقياً، لجمع العاج والمطاط من أدغال المنطقة، وكان هؤلاء الوكلاء أشبه بزعماء عصابات؛ فلم يكونوا يحتكمون إلى أي نظام أو قانون، وكانت تتبعهم جحافل جرارة من الكونغوليين، تحت قيادة ضباط بلجيكيين، ولذلك فقد ارتكبوا أبشع الفظائع التي شهدها تاريخ الاستعمار، ومارسوا أسوأ أنواع الاستخرب والاستغلال، وأكثرها وحشية ودموية، وأشدها إمعاناً في القهر والإذلال، والتي تتضمن إدخال السكان في العبودية، لأجل توفير الأيدي العاملة التي تجمع المطاط والعاج، حيث كان المطاط سلعة نادرة ومطلوبة جداً كالذهب، لأنه كان يصدَّر نحو مصانع السيارات في أوروبا لاستخدامه في صناعة العجلات، وكانت دولة الكونغو الحرة التي تشكل الغابات 80% من أراضيها هي مصدره الوحيد آنذاك. وقد حدد أولئك الوكـلاء كميـة معينـة من المطـاط لكل فرد من الكونغوليين لا بد أن يأتي بها يومياً، ومن لم يكن يستوفي حصته، يتم قطع إحدى يديه، وإذا أخفق مرة أخرى، فتقطع يده الثانية، وليس وراء ذلك سوى القتل، كما كانوا يخطفون أبناء العمال لضمان تفانيهم في العمل، وقطع أيدي أولئك الأبناء عند تقاعس أهاليهم عن العمل أو استخدام أولئك الأطفال طعماً للتماسيح أو الأسود أحياناً، حتى صارت الكونغو تسمى (أرض الأيادي المقطوعة)، لكثرة من قطِّعت أيديهم من الرجال والأطفال، وكان كل من توجد عنده كمية من المطاط أو العاج، يعد سارقاً، وتوقع عليه أقصى العقوبات، لأن كل شيء في المنطقة كان مملوكاً لملك بلجيكا، حتى الهواء الذي يتنفسه الكونغوليون. وكانت تلك العصابات الإجرامية، تقوم بمهاجمة قرى القبائل الكونغولية وحرقها، لإجبار زعماء القبائل على توفير الأيادي العاملة، كما كان يتم أخذ نسائهم رهائن، لنفس الغرض، وكان الجنود البلجيكيون يمتطون ظهور أولئك العمال المستعبدين أثناء تنقلاتهم كالحمير، وكانوا يتعرضون من قِبَلهم للضرب المبرح بالسياط حتى الموت أحياناً، ومن ينجو من الموت فقد يصاب بالعجز من شدة الضرب، مع ما كان يصاحب ذلك من اغتصاب للنساء من قبل الجنود البلجيكيين. وتم إعدام عدد هائل من الكونغوليين غير القادرين على العمل، خاصة الشيوخ والأطفال، ناهيك عمَّن هلكوا نتيجة المجاعات وانتشار الأوبئة الفتاكة، نتيجة لانتشار الزنا في المستعمرة على أيدي الجنـود البلجيكيين والأوروبيين. أما رئيـس القبيلـة المرضي عنه فكان يمنح ميدالية عليها صورة الملك ليوبولد الثاني، وخلف الصورة كلمتا (ولاء، وإخلاص). ومن دماء وعرق الكونغوليين الأبرياء وعلى حساب آلامهم وأنَّاتهم ومأساتهم الإنسانية المروعة، حصد الملك ليوبولد ثروة طائلة قدرت بأكثر من مليار دولار (بقيمة دولار اليوم) بين عامَي (1885 - 1908)، وهو العام الذي صدر فيه قرار البرلمان البلجيكي بإلغاء دولة الكونغو الحرة، واعتبارها مستعمرة بلجيكية تديرها الحكومة[1]، على أن الملك ليوبولد أنفق أغلب تلك الثروة الطائلة على عشيقته الفرنسية المدللة كارولين، وبنى منها قصراً في بروكسل لعرض جماجم الأفارقة التي كان يتلذذ بمشاهدتها، لكنه بالمقابل باء باللعنات الأبدية، والسمعة بالغة الشناعة، وصار اسمه مرتبطاً بأكابر الطغاة السفاحين الدمويين، في التاريخ المعاصر، مثل ستالين، وهتلر، وموسوليني، وتشرشل، وروزفلت، وماو، وديغول.
خامساً: ما وراء نشر فظائع الملك ليوبولد:
على أن هناك نقطة مهمة ينبغي عدم إغفالها، ونحن بصدد الحديث عن فظائع وفضائح الملك ليوبولد الثاني (ملك بلجيكا) في الكونغو، وهي أن الصحافة الأمريكية والبريطانية، هي التي أماطت اللثام عن تلك الفظائع والفضائح، ونشرت غسيله القذر في الكونغو في مطلع القرن العشرين، وصورته على شكل غول فوق رأسه تاج، ونسبت إليه قوله: «نيرون قديس بالمقارنة معي، إنني غول لا يتلذذ إلا بتعذيب الأفارقة الزنوج». ولم يكن ذلك لأجل أولئك الكونغوليين المطحونين، أو من باب نشر الحقيقة للرأي العام، ولكن لأجل ابتزاز الملك ليوبولد الثاني، ولإجباره على إفساح المجال للشركات الأمريكية والبريطانية، لكي تشارك في نهب موارد الكونغو، وليكون لها نصيب من تلك الكعكة الشهية، التي استأثر بها هذا الملك كلها وحده، وهو ما يتعارض مع قرارات مؤتمر برلين. ومن المواضيع التي أثارتها تلك الصحافة، هي أن الملك ليوبولد الثاني لا يحارب تجارة الرقيق في الكونغو كما يدعي، ولكنه يمارسها، ومن هنا فقد انتشرت أخبار جرائمه وفضائحه في الكونغو في أنحاء أمريكا وأوروبا، حتى صار اسمه مقترناً بالوجه البشع والكالح للاستعمار الأوروبي لإفريقيا، وحتى صار هذا الاسم يحمل الجزء الأكبر من أوزار وتبعات ذلك الاستعمار. وقد راق ذلك لحكومات الدول الأوروبية الاستعمارية، وعلى رأسها حكومة بريطانيا، التي أثارت تلك الأخبار في مجلس العموم عام 1903م، للغرض الرخيص نفسه، وهو الابتزاز، ولأن تلطيخ وجه ليوبولد الثاني ملك بلجيكا بالوحل على ذلك النحو البشع والمقزز، يخفف من وطأة الجرائم والفظائع التي ارتكبتها في مستعمراتها في إفريقية، وأيضاً يحد من الاسترسال في الحديث عن تلك الجرائم والفظائع، وربما أيضاُ يُحسِّن من صورتها - على الأقل - أمام شعوبها المغيبة أساساً عن عالم الواقع، وأيضاً أمام الحكومات البلهاء للدول الإفريقية المنكوبة والمنهوبة. ولهذا السبب ربما صار هناك طوفان من الأخبار حول جرائم الملك ليوبولد الثاني في إفريقيا، وصار ذكر الاستعمار الأوروبي لإفريقيا يستدعي إلى الذاكرة مباشرة اسم هذا الملك واستعماره للكونغو، ومن جهة أخرى صار هذا الملك شماعة لجرائم المستعمرين الأوروبيين لإفريقيا، في حين لا نعرف إلا القليل عن جرائم وفظائع الاستعمار البرتغالي، والهولندي، والفرنسي، والبريطاني، والإيطالي، والإسباني، والألماني، وخاصة بحق المسلمين. ونحن إذا ما غضضنا الطرف عن عقوبة قطع الأيدي والأرجل التي كان يطبقها زبانية الملك ليوبولد بحق الكونغوليين، وما فيها من بشاعة وشناعة؛ فسنجد أن الملك ليوبولد الثاني، يعدُّ تلميذاً للسفاحين الفرنسيين في الجزائر، والسفاحين الإنجليز في الهند، والسفاحين الإيطاليين في ليبيا، والسفاحين البرتغاليين في موزمبيق، والسفاحين الإسبان في أمريكا اللاتينية والفلبين، والسفاحين الألمان في الكاميرون وتوغو، والسفاحين الهولنديين في جنوب إفريقيا والملايو. والسفاحون الفرنسيون بالذات، فهم أكبر السفاحين الاستعماريين على الإطلاق، وجرائمهم وفظائعهم وممارساتهم القذرة في الجزائر تشمئز منها الوحوش، وأسماك القرش، والتماسيح المفترسة، ولم يتم كشفها كلها بعد. وهذا ليس دفاعاً عن ملك بلجيكا، ولكن حتى لا يخدعنا إعلام عتاة المستعمرين، وعلى رأسهم الإنجليز، والفرنسيون، والأمريكان، الذين فعلوا الأفاعيل بهذه الأمة، وحتى لا يوجه أنظارنا إلى اتجاه آخر غير اتجاههم، فنكون كما قال المثل: «ترك الحمار وأمسك بالبردعة». وهؤلاء - بالمناسبة - شركاء في جرائم الملك ليوبولد في الكونغو، كونهم هم الذين منحوه هذا البلد إقطاعية بدعوى أنها «أرض بلا صاحب»، كما منحوا الكيان الصهيوني فلسطين في ما بعد بدعوى أنها «أرض بلا شعب»، دون أن يكون لهما حبة رمل واحدة فيهما، فهم من ثَمَّ شركاء أيضاً في الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وفي جرائم هذا الكيان اللقيط، ضد الفلسطينيين.



[1] ومع ذلك، فلم تختف الفظائع وأساليب النهب الوحشية، وكل ما هنالك، هو تغير أسلوب الاستعمار، من استعمار تديره عصابات منحطة باسم الملك إلى استعمار منظم تديره وزارة المستعمرات. وكانت بلجيكا عالة على الكونغو، فكانت تمول كل نفقاتها من امتصاص دماء وعرق الكونغوليين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-08-2020, 04:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (4)

مواجهة عسكرية بين المسلمين والفرنجة

. أحمد الظرافي

هذه قصة وقعة حربية بين المسلمين والفرنجة، وقعت في سهول جنوب غرب فرنسا، في مطلع عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك (101-105هـ)، قبل معركة بلاط الشهداء الشهيرة باثني عشر عاماً، ولم تأخذ حظها من التأريخ. ويأتي هذا المقال لتسليط الضوء على هذه المعركة، وملابساتها، وأحداثها، ونتائجها، وفيما يلي نبدأ القصة من أولها:

أولاً: الجهاد وراء جبال البرت بعد فتح الأندلس:

بعد استكمال فتح الأندلس سنة 95هـ/ 714م، تطلع القائد الكبير موسى بن نصير لعبور جبال البيرينية، التي تفصل بين إسبانيا وفرنسا، والتي تتخللها ممرات تصل بين البلدين، تسمى البُرتَات أو الأبواب، بتعريب التسمية، وذلك لفتح ما وراءها من بلاد، وهي البلاد التي كان المسلمون يطلقون أعليها آنذاك اسم «الأرض الكبيرة»، والتي تشمل بلاد الغال، أو الغول، أو غالة، والواقعة في الشمال الشرقي من الأندلس، خلف جبال البيرينية مباشرة، والتي عرفت أيضاً باسم «بلاد الفرنجة» آنذاك، قبل أن يتحول اسمها إلى فرنسا بعد ذلك بنحو ثلاثة قرون. وكان هذا القائد يطمح إلى افتتاح روما عاصمة العالم الكاثوليكي ومقر البابوية، وغير ذلك من بلدان غرب أوربا، ثم الانطلاق منها شرقاً لفتح القسطنطينية، بعد أن استعصت على جيوش الإسلام التي غزتها من ناحية الشرق، والعبور منها إلى دمشق عاصمة الخلافة الأموية. بيد أن استدعاء الخليفة الوليد بن عبد الملك (86-96هـ)، له للعودة إلى دمشق ومسارعته لتنفيذ هذه الدعوة في آخر عام 95هـ حال دون تنفيذ هذا المشروع الضخم، كما أنه على إثر ذلك، توقفت الفتوحات فيما وراء جبال البرت حتى حين. فقد انشغل ابنه والوالي من بعده، عبد العزيز، بتوطيد الفتح في شبه الجزيرة الأيبيرية، قبل أن يقتل من خلال مؤامرة دبرها له كبار الجند، ولم يكن قد أكمل السنتين من ولايته، فخلفه ابن عمته أيوب بن حبيب اللخمي (رجب 97 - ذو الحجة 97هـ)، والذي انطفأ نجمه بعد خمسة أشهر فقط من ولايته، فحل محله الحر بن عبد الرحمن الثقفي (ذو الحجة 97 - رمضان 100هـ)، واقتصرت أعمال هذا الوالي على نقل مقر ولاية الأندلس من أشبيلية إلى قرطبة، واختطاط قصر قرطبة الكبير مقاماً للعمال من ذلك الحين، ثم لم يلبث أن عزله الخليفة عمر بن عبد العزيز (صفر 99 - 101هـ) في منتصف سنة 100هـ، لقسوته وصرامته واضطراب النظام في عهده، وعين محله السمح بن مالك الخولاني لما خبره منه من أمانة وديانة، وفصل الأندلس عن ولاية إفريقية، وجعلها ولاية مستقلة تتبع الخلافة مباشرة، وذلك اعتناء بها واهتماماً بشأنها، وأمر السمح أن يستكمل تخميس أرض الأندلس، وأن يكتب له بصفة الأندلس، وبحرها، وأنهارها، وهيئة مجازها، فدخل السمح الأندلس في رمضان سنة 100هـ، وفعل ما أمره به الخليفة عمر بن عبد العزيز، وقام بترميم الأجزاء المتخربة من سور قرطبة، كما أنه بنى القنطرة على نهر الوادي الكبير. وكان السمح بن مالك من أفضل الولاة الذين تولوا أمر الأندلس، وكان رجلاً عظيم الإيمان والحماس، كما كان من خيار أهل زمانه ثقة وعدالة، وفي عهده تجددت حركة الفتوح فيما وراء جبال البرت، بصورة جدية ومنظمة، وهي الفتوحات التي استمرت لأكثر من عشرين عاماً بعد ذلك.

ثانيا: حملة السمح بن مالك على غالة:

في رمضان سنة 102هـ خرج السمح بن مالك أمير الأندلس على رأس حملة عسكرية، واخترق جبال البيرينية من جهة الشرق، أي من الممر الساحلي التقليدي، أو ممر قطالونيا، في ناحية برشلونة على البحر المتوسط، وأفضى إلى أراضي مقاطعة سبتمانيا، الواقعة فيما وراء السفوح الشمالية الشرقية لجبال البرت في جنوب شرقي فرنسا، وتمكن من فتح المدينة المهمة نربونة عاصمة المقاطعة، ومعظم مدن هذه المقاطعة، وكانت سبتمانيا حينذاك تابعة للقوط الغربيين في إسبانيا، برغم الحاجز الجبلي بينهما، ولم تكن تابعة للدولة الفرنجية (فرنسا)، برغم أنها جغرافياً وطبيعياً جزء منها، وهي شريط من الأرض يمتد بمحاذاة ساحل البحر المتوسط جنوبي فرنسا، من جبال البرتات حتى مصب نهر الرون. وقد أقام السمح بن مالك حكومة إسلامية في هذه المقاطعة واتخذ نربونة عاصمة لها، بعد أن قام بتحصينها وشحنها بالمؤن والمقاتلين، حتى تصد غارات من يهاجمها. وكانت غالة آنذاك مقسمة إلى عدد من المقاطعات أهمها: دوقية أكيتانية، التي يسميها المؤرخون العرب «أقطانية»، أو «أكيطانية، الواقعة في جنوب غرب فرنسا، بين نهر اللوار شمالاً، ونهر الجارون جنوباً، ونهر الرون شرقاً وخليج بسكاي غرباً، ثم مقاطعة بروفانس في شمال سبتمانيا الشرقي، وعاصمتها أبنيون، على نهر الرون، وإلى الغرب من هذا النهر تقع مقاطعة برغندية، وعاصمتها ليون، وكانت المنطقة الواقعة في شمال أقطانية بعد نهر اللوار خاضعة للدولة الميروفنجية، وعاصمتها باريس. أما فرنسا كاصطلاح جغرافي لم تكن قد وجدت بعد ككتلة واحدة أو كوحدة سياسية، وكذلك لم تكن قد تكونت بعد اللغة الفرنسية آنذاك، ولكن جذور فرنسا المستقلة كانت قد وضعت وهيئت الأسباب والعوامل لنشوء الأمة الفرنسية. واختار السمح بن مالك بعد أن استكمل فتح سبتمانيا التوجه إلى فتح دوقية أقطانية، وكانت تمثل مركز الثقل لدى الفرنجة، بعد المملكة الفرنجية الواقعة في شمالها، وكانت أقطانية من أغنى الدوقيات وأوسعها في حوض نهر الجارون في جنوبي غالة، واشتهرت بخصوبة أرضها، وبوفرة إنتاجها من القمح والفاكهة، كما اشتهرت بكثرة مياهها وأنهارها، التي تتغذى من ذوبان الثلوج، ومن ذلك اشتق اسمها «أكيتانية»، والذي يعني باللاتينية «بلاد المياه»، وفيها المدن الشهيرة، تولوز، وبواتييه، وبوردو (أكبر مدن الإقليم حينذاك)، وكان أدواق هذه المقاطعة يطمحون دائماً إلى الاستقلال عن المملكة الفرنجية، ربما منذ الربع الأخير من القرن السابع، وكان سيدها حينذاك هو الدوق أودو أو أوديس، وكانت قاعد حكمه هي بوردو، على مصب نهر الجارون، في جنوب غربي فرنسا، على بعد 96كم من المحيط الأطلسي.

والمهم أن السمح بن مالك زحف على رأس جيشه، شمالاً بغرب، لغزو دوقية أقطانية، فعبر نهر الجارون لفتح مدينة طولوشة (تولوز)، بوابة الدخول إلى هذه المقاطعة، ولكن أهلها أغلقوا أبوابها دونه، ففرض الحصار عليها، وبدأت محاولات المسلمين لاقتحامها. وعند ذلك تحرك الدوق أودو لإنقاذ هذه المدينة المحاصرة قبل أن تسقط في أيدي المسلمين، وبدأ بذلك النضال بين العرب والفرنج في بسائط غاليس قوياً.

ثالثاً: الدوق أودو واستعداده لرد المسلمين:

كان الدوق أودو ينتمي إلى الأسرة الميروفنجية، زعيمة قبائل الفرنج في غالة، وكان من ذرية الملك كلوفيس، مؤسس الدولة الفرنجية، فكان يكره، بطبيعة الحال، حجّاب القصر، الذين استبدو بالأمور من دون الملوك، ولم يبق لهم هم إلا توطيد سلطتهم وسلطة جنس الفرنج في تلك المملكة، مما ثنى أعنتهم عن صد العرب عن جنوبي فرنسا. وكان أودو أقوى أمراء الفرنج في جنوبي غالة، وكان عظيم الطموح واسع الأطماع متصل النشاط، وكان أثناء الاضطراب الذي ساد مملكة الفرنجة قد استقل بهذه المقاطعة الغنية والواسعة، وبسط حكمه على القسم الأكبر من جنوبي فرنسا، من اللوار إلى جبال البرينيه، والتف حوله القوط، والبشكنس (النفاريون) سكان تلك الأنحاء. بل كان الدوق أودو يطمح إلى انتزاع ملك الفرنج برُمَّته من رئيس البلاط، وهو شارل، زعيم الفرنج المتغلِّب، ومن ثم إعادة ملك أسرته الميروفنجية في غالة. وعشية عبور السمح بن مالك إلى غالة كان كل منهما يعد العدة لمجابهة الآخر، فكانت الحرب على وشك الوقوع بينهما. بيد أن الدوق أودو عندما رأى المسلمين يزحفون نحو بلاده أرتأى أن خلافه مع شارل يمكن تأجيله أمام التحدي الأكبر والخطر الوشيك القادم من الجنوب، ولذلك فقد صالح شارل وقرر أن يشتغل ولو إلى حين برد المسلمين. وهذا الصلح قد ضمن لأودو دعماً مادياً ومعنوياً يساعده على حشد كل قوته، واستنفار الأقاليم المجاورة للوقوف إلى جانبه وهو آمن من أن توجه له طعنة في الظهر من قبل خصمه القوي شارل رئيس البلاط، وما كان لشارل أن يطعن أودو في ظهره وهو منصرف لقتال المسلمين، لأنه لو فعلها فسيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع المسلمين، مواجهة ربما أنه لم يكن مستعداً لها بعد، لأن مركزه لم يكن قد استقر على رأس مملكة الفرنجة على النحو الذي يريده. فكان الحل الأمثل بالنسبة لشارل إفساح المجال أمام أودو ليخوض معركته مع المسلمين في ظروف مناسبة. والمهم أن أودو، دوق أكيتانيا، استطاع أن يجمع جيشاً ضخماً من الفرنجة وبقايا الرومان من أهل دوقية أكيتانيا، ومن حلفائه من الدوقيات المجاورة. وقد وصف مؤرخو العرب، كما قال المسشرق الفرنسي رينو، كثرة جيش الفرنج، بقولهم: «إن العثُير (الغبار) المتطاير من زحف أقدامهم كان يغطي قرص الشمس من كثرتهم». ثم لم يلبث أودو أن سار على رأس هذا الجيش نحو طولوشة (تولوز)، التي كان يحاصرها المسلمون آنذاك. ولما علم السمح بذلك ارتدّ عن مهاجمة تولوز، وأقبل يتأهب للقاء جيش الدوق أودو، برغم تفوقه على جيشه في العدد، فالتقى الجمعان في ضواحي تولوز يوم عرفة سنة 102هـ/ 10 يونيو 721م.

رابعاً" أهمية معركة تولوز:

هذه المعركة يطلق عليها في المصادر الحديثة الأوربية والعربية اسم «معركة طولوشة أو تولوز»، بينما سكتت مصادر التاريخ العربية القديمة عن تسميتها بأي اسم، اللهم إلا ابن حيان الذي سماها «وقعة البلاط»، ووصفها بـ«الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس»، وربما أن هذا قد كان سهواً أو إشارة لغيرها، الأمر الذي أثار خلطاً والتباساً، بينها وبين معركة بلاط الشهداء، بقيادة عبد الرحمن الغافقي (رمضان 114هـ). وتكتسب هذه المعركة أهميتها في التاريخ، من كونها أول صدام عسكري حقيقي بين المسلمين والفرنج، في بسائط غاليس، بل في الأرض الكبيرة كلها! وكانت هذه المعركة ممهدةً لما سيأتي بعدها من معارك في سياق الحرب الطويلة التي دارت بين المسلمين والفرنجة في هذه البلاد، والتي امتدت لحوالي أربعة عقود. ومما لا شك فيه أن حملة السمح هذه كانت ستحدد في جميع الأحوال مصير غاليسيا الجنوبية لو لم يتصدّ لزحفه دوق «أكيتانيا» الأمير «يودو» أو «أوديس»، الذي خف لفك الحصار المضروب حول طولوشة، وألحق بالمسلمين الهزيمة، وهي الهزيمة التي تعتبر أول نكسة للمسلمين في أرض غاليا (فرنسا)، بل أول نكسة في تاريخ المسلمين العسكري منذ أن وطأت أقدامهم البر الأوربي. وكانت هذه الهزيمة، كما دلت على ذلك الوقائع التالية، هي الدلالة الأكيدة على اكتمال الفتوحات في هذه الناحية، وعلى أنها قد بلغت مداها. وهناك مؤرخون غربيون، وعلى رأسهم المؤرخ التولوزي سيدني فواردو، يعتبرون هذه المعركة، أهم من معركة «تور - بواتية»، وهي تسميتهم لمعركة «بلاط الشهداء»، سنة 114هـ/ 732م - في التصدي لما أسماه «الزحف الإسلامي»، إذ يرى هؤلاء المؤرخون أنه لو كان المسلمون انتصروا على الدوق أودو في هذه المعركة، لتيسر عليهم اجتياح فرنسا كلها، لأن شارل مارتل، رئيس البلاط، الذي كانت بيده مقاليد أمور المملكة الفرنجية آنذاك، لم يكن قد تخلص بعد من متاعبه الداخلية، وبالتالي فهو لم يكن مستعداً بعد لمواجهة المسلمين على الصورة التي صار عليها بعد ذلك باثني عشر عاماً، أي قبيل مواجهته الحاسمة للمسلمين في معركة «تور - بواتيه». في حين هناك مؤرخون غربيون آخرون، مثل بول ك. دافيس، يشيرون إلى أن انتصار ما سماها «المسيحية» في تولوز كان هاماً في المنظور التاريخي على المدى البعيد، كونه أعطى شارل مارتل الوقت الذي يحتاجه لتعزيز قبضته على السلطة، وتوطيد سلطانه، وبناء الجيش الخبير، الذي وقف به في مكان جيد في تور، بعد ذلك بإحدى عشرة سنة. ومهما كان من أمر، فإن هذه المعركة كانت بين جيشين فتيين، كل منهما تعمر نفوس أصحابه الآمال، ولم يألف أحدهما أساليب الآخر في القتال، وكل منهما تدفعه رؤية عقيدية قدماً للقتال بضراوةٍ واستماتة.

خامساً: أحداث معركة تولوز:

تذكر بعض المصادر أن أودو انقض على مؤخرة جيش المسلمين، وشنّ هجمة سريعة حاصرت هذا الجيش، هذا الأخير الذي وقع بين جيش الدوق أودو والحامية المدافعة عن تولوز. وفي أعقاب ذلك نشبت بين الطرفين معركة هائلة تلاحمت فيها الرماح والسيوف وحمي الوطيس، واتسم القتال فيها بالشدة والعنف، وسالت فيها الدماء غزيرة، وكثر القتل في الجيشين، وتكدست الجثث في أرجاء ميدان المعركة. ولكن برغم ثقل هجمة الجيش الفرنجي وتفوقه العددي، وكون أفراده كانوا يقاتلون على أرضهم، وفي مناخات اعتادوا عليها، ومناطق كانوا على دراية بجغرافيتها وطرقها ومسالكها، فقد أبدى المسلمون برغم قلتهم شجاعة خارقة، وكسر قوادهم أغماد سيوفهم، وهم مصممون على إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وصبروا صبراً فريداً، وكان السمح بن مالك الخولاني على رأس أولئك الجنود المستبسلين الصامدين، وكان يقاتل قتال الأبطال، وينتقل بين جنوده من مكان إلى مكان لحثهم على الثبات، ولاستنهاض هممهم واستثارة جذوة حماسهم لأقصى درجةٍ، وكان سيفه في أثناء ذلك يقطر من دم الأعداء، وكان يواجه الأخطار ملتحماً، ويسير نحوها متقدماً، ويقتحم الأهوال كالفحل الهائج لا يرد رأسه شيء، أو كالأسد الزائر يحمل على العدو فلا يقف أحد في وجهه، ولم يفقد اتزانه، أو يخور عزمه، أو يطيش صوابه. واستمر القتال، وتراوح النصر حيناً بين الفريقين. وفي عضون ذلك شاء قدر الله أن يُصاب القائد البطل المغوار إصابة بالغة، ويسقط من فوق جواده مضرجاً بدمائه، «وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين»، وأسرع الأقربون منه من أصحابه بالتوجه نحوه، مقتحمين الصفوف والغبار والأشلاء، فوجدوه يتشحط في دمه، ويعالج سكرات الموت، ثم ما لبث حتى أسلم الروح راضياً مرضياً بعد وقتٍ قصير، فخسر روحه وربح الشهادة، وأصبح في عداد القادة الشهداء. وهذه هي الصفقة الرابحة، قال تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} [التوبة: ١١١]، فإن الذي بايعه بهذا البيع وفي العهد. وفي أعقاب هذا الحادث المفاجئ والأليم شاع الاضطراب في صفوف المسلمين، أولئك الذين أرهقهم طول القتال، مع كثرة جيش عدوهم وحسن استعداده، واشتدّ الأمر وعظم الخطب، وكانت الهزيمة قدراً مقدوراً للمسلمين، بعد استشهاد أميرهم وقائدهم. ولأن حادث مقتل السمح أثناء المعركة قضى على معنويات المسلمين، ولما لم يكن من السهل تفادي الهزيمة، وذلك لاختلال التوازن العسكري بين القوتين في الميدان، وإزاء الحالة السيئة التي بات فيها الجيش الإسلامي، وتكاثر جموع الفرنجة عليه، واليقين بأن هذا الجيش أصبحت تواجهه الهزيمة النكراء، إن لم تكن المذبحة الشاملة، فكّر القائد الجديد، وهو عبد الرحمن الغافقي، في طريقة تنقذ ما تبقى من الجيش، من مصير أسود ينتظره، فبذل الهمة في جمع شتاته، وقاد عملية انسحابه إلى الجنوب ببراعةٍ، ومنه إلى الأندلس.

سادساً: نتائج الحملة:

مع أن هذه الحملة العسكرية قد انتهت بتلك الهزيمة الأليمة تحت أسوار تولوز، وباستشهاد السمح بن مالك الخولاني، وعدد ممن كان معه، إلا أن ذلك لا يقلل من أهميتها، وأهمية النتائج التي ترتبت عليها، وفي مقدمتها بسط السيادة الإسلامية على مقاطعة سبتمانية (لا نجدوك)، بمدنها السبع الكبيرة، ومساحتها الشاسعة الممتدة على طول ساحل فرنسا الجنوبي على البحر المتوسط، من جبال البرت حتى مقاطعة البروفانس، ومن ثم تأسيس ثغر غالة فيما وراء جبال البرتات. كما أن هذه الحملة كانت بالغة الأهمية، بالنسبة للمسلمين من الناحية الاستطلاعية، فقد أطلعتهم على أحوال بلاد غالة، وبالتالي مهدت لما بعدها من حملات عسكرية على هذه البلاد، كحملة عنبسة بن سحيم الكلبي (103-107هـ)، الذي خلف السمح على ولاية الأندلس، والذي اجتاح حوض الرون كله، وتغلغل حتى سانس، على بعد 70كم جنوب شرقي باريس، وهي أبعد مسافة، وصل إليها قائد مسلم في قلب أوربا، وكحملة عبد الرحمن الغافقي ( 112-114هـ)، الذي اكتسح خلالها النصف الجنوبي من فرنسا كله. ففضل الخولاني كبير، وحملته العسكرية في جنوب فرنسا رائدة الحملات في غالة بلا شك، وكان عهد السمح ذا أهمية كبرى في الجهاد في سبيل الله في أرض فرنسا، إذ إنه في عهده بدأت حركة الفتوح تأخذ وضع الاستقرار للجنود المقاتلة والحاميات في أرض غالة، وأصبحت نربونة قاعدة أمامية لإتمام الغزو الإسلامي، في تلك البلاد واتخاذها مركزاً لتجمع القوى الإسلامية للانطلاق منها لفتح فرنسا، وبذلك ضمت مقاطعة سبتمانيا جنوب شرق فرنسا خلف جبال البرت إلى الولاية الإسلامية في الأندلس. وتذكر الحوليات اللاتينية الكنسية أن شيوع انتصار الدوق أودو في معركة طولوشة أشعل الحماسة في قلوب أهالي سبتمانيا والبيرانة والروسيون، ورفع معنوياتهم، فتشجعوا لخلع طاعة المسلمين، فوثب أهالي قرقشونة على الحامية المسلمة التي كان السمح قد جعلها في الحصن، فأسروها واتخذوا أفرادها رهائن لديهم لمساومة المسلمين عليهم فيما بعد. ولم تلبث مدينة نيمة حتى حذت حذو مدينة قرقشونة، وخرجت هي الأخرى عن طاعة المسلمين، كما بدرت بوادر أخرى للتمرد هنا وهناك، في مقاطعات البرتات وما وراءها، والتي كانت قد خضعت للسيادة الإسلامية. ولكن الأمير عبد الرحمن الغافقي، الذي خلف السمح على قيادة الجيش، استطاع أن يخمد بوادر الخروج تلك، وأن يستبقي الجزية المفروضة على أهالي مقاطعات سبتمانيا، باستثناء مدينتي قرقشونة ونيمة، ولكن هاتين المدينتين سيكون للأمير الجديد عنبسة بن سحيم شأن يذكر معهما في حملته على غالة. وبناء على ذلك، وبرغم هزيمتهم في طولوشة فقد ظل المسلمون أقوياء متمكنين في سبتمانيا، وخاصة في نربونة الحصينة، التي احتفظت بمكانتها لديهم، كقاعدة لعملياتهم العسكرية، لفتح البلدان المجاورة، التي سرعان ما استأنفوها بعد أن جاءتهم النجدات من الأندلس.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 19-09-2020, 05:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (5)
التغلغل الاستعماري الفرنسي في السنغال


د. عبدالله عيسى

المقدمة

تهدف هذه الدراسة إلى بيان طبيعة وخصوصية الوجود الاستعماري الفرنسي في السنغال، علماً أنَّ هذا الحضور عرف تطوراً ملحوظاً بالتزامن مع بداية انكماش الحضارة العربية الإسلامية، وتراجُع قوَّتها الاقتصادية منذ مطلع القرن الخامس عشر. وقد اشتملت دراستنا هذه على ثلاثة محاور: خصص الأول لدراسة وتتبـع بدايات التنافس الأوروبي على السنغال قبل القرن 19م. أما المحور الثاني فخصص لبحث الاختراق الاستعماري الفرنسي خلال فترة الدراسة. وتطرق المحور الأخير لبحث وتقصي ردود الفعل المحلية على هذا التغلغل؛ وتمَ التركيز على حركة الحاج عمر الفوتي، كونها شكلت العقبة الحقيقية في وجه الأطماع الفرنسية بالسنغال، وخطراً كبيراً على مستقبل وجودها في المنطقة كلها.

ودراسة الباحث للحقبة الزمنية الممتدة من 1854 - 1865م، تبررها في نظره الأهمية الخاصة التي تحظى بها هذه الحقبة في تاريخ السنغال الحديث.

على المستوى الدولي:

اتسمت هذه الحقبة بتغيُّرات اجتماعية وسياسية كبرى، تجلت على الخصوص في تركيز النظام الإمبراطوري، الذي أفرز مدّاً استعماريّاً كبيراً غطى بتأثيراته معظم أقطار القارة الإفريقية، بما في ذلك السنغال، والذي استمر خلال هذه الفترة من تاريخه متعلقاً ببِنْيَاته الاجتماعية والسياسية التقليدية، التي كانت قد اهتزت بعمق نتيجة احتكاكها بمعطيات ومؤشرات حضارة هذه الحقبة.

وعلى المستوى المحلي في السنغال،

تعدُّ هذه الحقبة منعطفاً تاريخياً مهمّاً في حياة البلد؛ إذ حتمت عليه الظرفية التاريخية أن يواجه فيها إحدى أكبر القوى الاستعمارية في ذلك القـرن، بعد أن عبَّرت الممالك السنغالية عن رفضها لأي شكل من أشكال السيادة الفرنسية على مجالها الترابي حتى عام 1854م.

أما نهاية الفترة المدروسة 1865م،

فلها أكثر من دلالة؛ فأهم حدث على المستوى المحلي هو إخماد نار المقاومة جراء وفاة زعيمها الحاج عمر الفوتي؛ وتصادف الفترة عينُها نهايةَ فترة حكم الوالي فيديرب، بعد أن أرسى قواعد الوجود الفرنسي ليس فقط في السنغال، بل في معظم أرجاء إفريقيا الغربية.

المحور الأول: التنافس الأوروبي على السنغال قبل القرن (19م)

بعد جهود جبارة تمكن البرتغاليون في إطار كشوفاتهم الجغرافية من الوصول إلى مصبَّيْ نهري السنغال وغامبيا، وذلك قبل عام 1460م[1]. وباعتبار أهداف الكشوفات، المتمثلة في الحصول على الذهب والرقيق الإفريقي والعاج فضلاً عن نشر الديانة النصرانية، فقد كان طبيعياً أنْ يعمل البرتغاليون على إنشاء عدد من القلاع والحصون لتنظيم التجارة على طول السواحل السنغالية المكتشَفة[2].

ولم ينتظر العرش الإسباني طويلاً لكي يلتحق بالبرتغاليين في سعيهم لتحقيق الغايات والأهـداف نفسها. وخلال القرن 16م، تزايد الاهتمام الإيبيري بالمنطقة الواقعة ما بين نهرَي السنغال وغامبيا (السنغامبيا)[3]، وازداد ضغطهم للحصول على الذهب والرقيق، خاصة بعد أن دخلت هذه المواد في ما يُعرف بالرواج الثلاثي ما بين أوروبا وإفريقيا وأمريكا[4].

وشكلت منطقة السنغال خلال الفترة المتراوحة ما بين منتصف القـرن 15م ومطلع القرن 17م، أهم مصدر للعبيد. الشيء الذي كان له أثر مريع على البنية السكانية للمنطقة، وأسهم هذا العامل بدوره في خلق وضعية سياسية واجتماعية ونفسية صعبة للغاية[5].

وقد يحلو لبعض الدارسين بهذا الصدد، أنْ يدافعوا عن الرأي القائل بأنَّ تجارة الرقيق الأوروبية، ما هي إلا امتداد لتجارة الرقيق الإسلامية عبر القوافل الصحراوية. بَيْدَ أنَّ هذه الفكرة الملغومة لا تستند إلى أي أساس من الصحة ولا تؤيدها الوثائق المتوفـرة سواء أكانت عربية أم أوروبية[6]. والأمر الأكيد كذلك، أنه بعد انهيار الإمبراطوريات القروسطية (غانة ومالي وسنغاي وجلف)، تفتت الوحدة السياسية لبلاد السنغال؛ إذ برزت ممالك صغيرة كما هو الشأن في كايور، وباول، ووالو، وغيرها من المناطق. وكانت هذه المناطق خاضعة لزعماء محليين، غالباً ما كانوا يتصارعون فيما بينهم لتوسيع مجال نفوذهم، وقد امتد هذا الصراع ليشمل الإمارات البيضانية على الضفة اليمنى من نهر السنغال. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحـد، بل كانوا يتنافسون في خدمة طلبات التجارة الأطلسية، المتمثلة أساساً في توفير الرقيق للأساطيل الأوروبية؛ ولتحقيق هذه الغاية، اجتهد الزعماء في خلق فِرَق من القناصة، زرعت الرعب بين الأهالي، ودفعت بكثير منهم إلى الهرب نحو المناطق الأكثر أمناً[7].

ومع بداية القرن 17م، دخلت كل من فرنسا وإنكلترا حلبة الصراع في السنغال، وكـانت هولندا قد سبقتهما بعدة عقود من الزمن. غير أنَّ قوة فرنسا وإنكلترا، جعلتهما تنفردان بحضور متميز، تدعَّم من خلال إنشاء عدد من الحصون، مثل حصن سان جيمس عند مصب نهر غامبيا، وبموازاة مع ذلك، تراجع الحضور الإيبيري واندفع نحو الجنوب، بينما تمَّ إقصاء هولندا عن حلبة الصراع. ولتدعيم موقعهما على الساحل السنغالي، تمَّ خلق عدد من المؤسسات التجـارية، تمتعت بامتيازات مهمة، نخص بالذكر منها، احتكار التجارة مع المنطقة. تبعاً لذلك ازداد وتنامى التنافس التجاري بين فرنسا وإنكلترا، الشيء الذي أسهم في خلق وبناء عدد من الحصون الأخرى، مثل حصن سانت جوزيف عام 1700م[8].

على أنَّ الحروب النابليونية في أوروبا، خاصة بعد هزيمة واترلو، كان لها وقع كبير على مكانة فرنسا في المنطقة، الشيء الذي حرمها لبضع سنين من ممارسة نفوذها في المراكز والحصون التي أنشأتها على الساحل الأطلسي الإفريقي؛ ولم تتمكن فرنسا من استعادة نفوذها إلا بعد توقيع معاهدة باريس عام 1815م. لتبدأ بذلك صفحة جديدة من صفحات تاريخ الاستعمار الفرنسي في المنطقة.

المحورالثاني: الاختراق الاستعماري الفرنسي للسنغال خلال القرن (19م)

حينما استردت فرنسا موقعها في سانت لويس وغوري بعد مؤتمر فيينا، وجدت نفسها مندفعة لتأكيد حضورها، وتوسيع نفوذها بالمنطقة؛ وراهنت في هذا الشأن على البعثات الاستكشافية لأعالي نهر السنغال سنتي 1817 - 1818م، وفي السياق نفسه حاولت استغلال المعاهدات التي وقَّعتها في السابق مع عدد من زعماء ممالك أعالي نهر السنغال: بوندو، وخاسو، وكادياكا، وبامبوك. وأنيط بهذا المخطط إنشاء مراكز وحصون داخلية على طول نهر السنغال ورافده الغاليمي؛ بهدف الوصول إلى مناجم الذهب في البامبوك، وكذلك ربط مستعمراتها تجاريّاً بالحوض الأوسط لنهر النيجر؛ حيث توجد مدينة تنبكت التي ما تزال تمارس تأثيرها السحري على الذهنية الأوروبية[9].

وشكلت الشركات التجارية الفرنسية المتمتعة بكل الامتيازات الاحتكـارية رأس الحربة في هذا الاختراق للجسم السنغالي. نذكر منها على الخصوص الشركة التجارية لغالم، التي عملت على توسيع مجال نفوذها بمساعدة إدارة سانت لويس. وبالنظر إلى الضغط الإنكليزي لمنع تجارة الرقيق، فقد اضطرت فرنسا لانتهاج سياسة الاستعمار الزراعي؛ وبذلك تصدرت مادتا الصمغ والفول السوداني، قائمة المواد المتداولة في تجارتها الأطلسية. وعلى المستوى السياسي، قررت فرنسا التخلص التدريجي من الإتاوات الممنوحة للزعامات المحلية سواء منها البيضانية أو السنغالية، وكانت تمهـد بهذه الخطوة لإلغاء جميع أنواع الإتاوات في مرحلة سابقة[10].

وبموازاة مع ذلك، وباعتبار تذبذب السياسة الفرنسية في المنطقة؛ تم إنشاء مديرية للشؤون الخارجية عام 1845م، على غرار تلك التي أنشئت بالجزائر، ومنح لهذا الجهاز الصلاحيات الكاملة للسهر على السياسة الفرنسية بالسنغال.

وتترجم هذه الترتيباتُ استعداد فرنسا لبسط نفوذها في مناطق الساحل وأعالي نهر السنغال من خلال مشروع استيطاني؛ الشيء الذي يؤكد رغبتها في تجاوز مرحلة التردد السياسي إلى مرحلة الاستعمار المباشر. إلا أن ثورة باريس عام 1848م عرقلت لبعض الوقت تنفيذ هذا المخطط، كما أن تعيين الوالي الجديد بروتي (1850 - 1854م) لم يساعد في حل المشكلة السنغالية؛ وزاد من تأزم الوضع، تهـريب الخـزينة الفرنسية من تمويل المخطط الاستعماري الجديد.

وصادفت هذه الصعوبات بروز شخصية استعمارية محنكة، ونقصد بها العقيد فيـديرب، الذي تم تعيينه على رأس الإدارة الاستعمارية في سانت لويس حاكماً عسكريّاً لها عام 1854م. ولم تكد تمضي سنة واحدة على تعينه، حتى وجدناه يخضع مملكة والو للسيادة الفرنسية؛ معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة من تاريخ الاستعمار الفرنسي للسنغال.

فيديرب (Faidherbe) ومشروعه الاستعماري:

يشقُّ علينا الحديث عن تاريخ السنغال الاستعماري، دون إبراز الشخصيات الاستعمارية الفاعلة فيه؛ ومن بين تلك الشخصيات التي طبعت تاريخ السنغال بطابعها الخاص، نذكر (لويس سيزار فيديرب)، حيث لم يتردد بعض الباحثين في وصفه بأنه مهندس السياسة الاستعمارية في إفريقيا الغربية، وأول من أرسى أطماع فرنسا في المنطقة، وبلور أهدافها الاستعمارية[11]؛ فماذا عن هذه الشخصية؟

كانت ولادته بمـدينة (ليـل Lille) الفرنسية في 3 يناير 1818م، وهو سليل أسرة مدنية متواضعة الحال، تابع تعليمه بمدرسة البوليتكنيك في 1837 - 1838م التي تخرج منها سنة 1840م، ليلتحق بالمدرسة العسكرية بميتز. ثم عمل ضابطاً مهندساً. وقد كان أول احتكاكه بالعالم الإسلامي حين عُين بالجزائر، التي عمل بها لعدة سنوات.

وفي سنة 1852م أُرسِل إلى السنغال، حيث عمل تحت إمرة الوالي بروتي، لكن نقمة الدور التجارية على هذا الأخير، عجلت بإقالته، وأعطت الفرصة لفيديرب ليتقلد منصب والي السنغال، الذي شغله من سنة 1854 إلى 1861م، ومن سنة 1863م إلى 1865م. وبعد مغادرته للسنغال تقلد عدَّة مناصب هامة سواء في الجيش أم المؤسسات الانتخابية، وقد توفي عام 1889م[12].

برنامج فيديرب الاستعماري:

إنَّ تعيين فيديرب على رأس الإدارة في سانت لويس جاء في وقت دقيق، وحساس بالنسبة لفرنسا؛ فمن جهة شهدت هذه الفترة تركيز النظام الإمبراطوري في شخص نابليون الثالث، ومن جهة ثانية، عزمت القيادة الفرنسية الجديدة على تنفيذ المخطط الاستعماري الذي تقرر عام 1850م.

وهكذا أوكلت هذه المهمة - في أول الأمر - إلى الوالي بروتي، غير أنه بعد أن تعذر عليه تنفيذها، أسندت إلى فيديرب، الذي لخصها الوزير في رسالته بتاريخ 8 ديسمبر 1854م:

إنشاء مراكز على الضفة اليسرى لتكون نقط ارتكاز لأسلوب التبادل الجديد.

القضاء على محطات التبادل، وإبدال أماكـن بها يختارها التجار سواء على الضفة اليمنى، أو اليسرى.

وضع مملكة والو تحت الحماية الفرنسية، والقضاء على هيمنة الشناقطة.

إقرار حرية الملاحة في نهر السنغال، وإلغاء الإتاوات.

إلزام سكان الضفتين (الزنوج، والبيضان) بالاعتراف بسيادة حكومة السنغال .

الاهتمام بالسنغال الأعلى، ومحاولة خلق نقط ارتكاز لغزو السوق السوداني[13].

نفهم من هذا المشروع، أنه جاء محاولة تطبيقية لرؤية جديدة؛ تهدف إلى المحافظة على الوضعية المتفوقة لفرنسا التي فقدت كثيراً من وزنها بسبب فشل مشاريعها الاستعمارية في السنغال.

وبعد استعراض أهم ما جاء في مشروع فيديرب الاستعماري، يمكن للقارئ أن يلاحظ أن القوة هي العنصر الأساسي فيه، وخير دليل على ذلك ما جاء في قول فيديرب: «أعتقدأنهليسأمامناسوىطريقواحدهوأننعملمانريدعمله،ولن حاربمنيعارضنا».

المحورالثالث: ردود الفعل تجاه الاستعمار الفرنسي: حركةالحاج عمر نموذجاً

في ضوء ما يتوفر بين أيدينا من مادة مصدرية، تُمكِّننا من معرفة ردود الفعل الوطنية تجاه الوجود الفرنسي في السنغال، سيتم التركيز على أهم حركة جهـادية، ألا وهي (الحركة العمرية)، التي قادها الحاج عمر الفوتي، والتي كانت بالأساس حركة إصلاحية دينية، ثم تحولت إلى حركة سياسية عسكرية، ألحقت بالفرنسيين خسائر فادحة، وأجبرت الساسة وأصحاب القرار الفرنسي على تغيير الإستراتيجية العسكرية في كثير من الأحايين.

أولاً: مواجهات ما قبل عام 1857م:

لقد كانت هذه المرحلة تمثل بدايات الصراع العمري الفرنسي، وما يلاحظ على إستراتيجية الحاج عمر فيها أنه اكتفى بإثارة سكان منطقة النهر ضد الفرنسيين، في إطار ما اصطلح على تسميته بحرب العصابات، وتشديد الخنـاق الاقتصادي على سانت لويس، عن طريق منع المتاجرة معهم وضرب المصالح التجارية الفرنسية أينما وجدت. هذه الإجراءات وإن كانت ظـرفية، فقد أثبتت فعاليتهـا، على إثر الخسائر المادية والبشرية التي تكبدها المستعمر، إلا أنها لم تحُل دون وقوع المواجهة العسكرية بين الطرفين، التي جعلت الحاج عمر يغيِّر في إستراتيجيته ضد الفرنسيين في المرحلة المقبلة من الصراع.

ثانياً: مواجهة أبريل عام 1857م وتجلياتها:

دارت هذه المواجهة في مدينة (Médine) التي كانت تحكـم من قبل القائد بول هول، وكان ذلك أثناء عودة الحاج عمر من كارطا. واستعداداً لهذه المواجهة نزل الحاج عمر في كوندا الواقعة إلى الجنوب من مدينة (Médine) في منتصف شهر أبريل، وفيها استقرت قيادته العليا وعسكر جيشه، الذي بلغ تعداده قرابة 150 ألف مجاهد[14]. ودارت بين الطرفين معركة ضارية دامت ست ساعات، تمكن خلالها المجاهدون من فرض حصار على مدينة (Médine) التي كان يدافع عنها بول هول، واقتحام بعض حصون وقلاع المدينة، وكادت المدينة أن تسقط بيد المجاهدين حيث رفعت الراية الإسلامية؛ غير أنه مع مرور الوقت استطاعت القوات الفرنسية أن تحسم الموقف لصالحها بإحداث مجزرة فظيعة في صفوف المجاهدين، اضطر الحاج عمر إلى الانسحاب مع بقية جنوده على إثرها[15].

ورغم اعتراف العدو باستبسال المجاهدين، ورغبتهم في الاستشهاد؛ إلا أن هذه الهزيمة شكلت نكسة حقيقية وهزيمة مُرَّة للحاج عمر، حملته دون شك على تأجيل منازلة عدوه مرة أخرى، بعد أن اقتنع بأنه ما زال دون مستوى رفع التحدي في وجه الفرنسيين. وقد حاول الحاج عمر أن يتقدم لرفع معنويات رجاله واسترجاع هيبته، مستغلاً في ذلك ما تبقى من شهور في الفصل الجاف الذي يحد من حرية تحرك السفن الفرنسية، فشنت قواته سلسلة من الهجمات ضد المواقع الفرنسية، أحدثت فيهـا بعض الخسائر فقط دون أن تحقق أي انتصار حاسم، نذكر من هذه الحملات على الخصوص هجوم 11 ماي/ أيار 1857م، ثم هجوم 4 يونيو/ حزيران من العام نفسه. ومرة أخرى يتلقى المجاهدون ضربات موجعـة على يد العدو الذي رفع من إيقاع حملاته العسكرية عمودياً وأفقياً، وصار يركز من خلالها على أهم المواقع العمرية المحصنة، فحطم تحصينات كونجورو بخاسو يوم 22 يوليو، هذه الانتصارات الفرنسية المتتالية خلال الفصل المطير، جعلت الحاج عمر يفضل الانسحاب من مدينة خاسو ويأمر رجاله بالتخلي عن حصار مدينة (Médine) في شهر غشت/ آب 1857م لتجنب الأسوأ[16].

معطى القول: بعد أن استعرضنا أهم محطات الصراع بين الجانبين خلال عام 1857م، نجد أنه تميز بتفوق الجانب الآخر (الفرنسي) على الحركة الجهادية، لكن هذا لا يعني إخماد هذه الحركة؛ بل استمرت إلى حدود عام 1859م، عرفت خلال تلك المدة مجموعة من الأحداث والتطورات.

ثالثاً: مواجهات ما بعد عام 1857م وتخلي الحاج عمر عن منازلة الفرنسيين مؤقتاً:

لقد شكل هذا الانسحاب والابتعاد عن الفرنسيين في اتجاه الجنوب آخر محاولة في نهاية خمسينيات القرن 19م، من قبل الحاج عمر لإنهاض الهمم وشحذها، استعداداً للانتقام من الفرنسيين؛ وقد تحقق بعض من هذه الآمال لصالح المجاهدين، عندما انتقلوا من إقليم بامبوك إلى إقليم بوندو، عبر نهر الفاليمي دون كبير عناء، وهو ما يؤشر إلى تعاطف بلدان هذه الجهات معهم. كما حققوا نصراً بيِّناً على القوات الفرنسية بعد معركة ضارية في قرية نجوم (Njum) الواقعة جنوب بلدته حلوار وسط فوتا في منتصف شهر فبراير عام 1858م خلال فصل الجفاف[17].

وخلَّف هذا الانتصار آثاراً إيجابية في نفوس المجاهدين، نتيجة ما خلفوه من خسائر بشرية ومالية فادحة في صفوف العدو، كما تمكنوا من الاستيلاء على مدفعين، شكل اغتنامهما مكسباً مادياً و دعماً عسكرياً مؤثراً. وبعد هذه المرحلة اتجه الحاج عمر إلى فوتاتور، ولكن لم يكن الطريق سهلاً أمامه، وخاصة بعد الترتيبات الفرنسية، و الخطر الداخلي المتمثل بتحالف بعض الزعامات المحلية مع الفرنسيين[18].

لا شك أن الحاج عمر كان على علم بكل تطورات الإجراءات السياسية والعسكرية والاقتصادية الفرنسية التي تدبر ضده في فوتاتور، في الوقت الذي كان يهيئ فيه السكان لتعبئة شاملة، تستطيع قلب الأوضاع لصالح الجهاد في المنطقة عن طريق توزيع الغنائم التي حصل عليها بعد الهجوم على المراكز التجارية، وإلقاء الخطب الحماسية، لكن في مرحلة ثانية تغير خطاب الحاج عمر إلى سكان فوتاتور، ويبدو أن التوجه الجديد لخطـابه أملته ضرورات ميدانية واقعية لم يعد قادراً على مواجهتها بنجاح، فاضطر أمام التفوق الفرنسي إلى تغيير الخطاب بغية نهج توسع سياسي جديد، يمكنه من الخروج من المأزق الذي وجد فيه، ولذلك نجده هذه المرة يحث الناس على الهجرة إلى كارطا للابتعاد عن الفرنسيين ما دام أنهم غير قادرين على مواجهتهم. فيقول الحاج عمر في هذا الصدد: «هاجروا،لاتتأخروا،اخرجوامنحيثلاوجودللدينولاللسنة،ها جروافإنهذا البلدلميعدلكم،إنهبلدالأوروبي،ووجودكممعهلنينجح»[19].

فكانت عملية الهجرة من فوتاتور إلى كارطا محفوفة بالمخاطر؛ لتعدد المراكز العسكرية الفرنسية من فوتاتور حتى أعالي نهر السنغال. ووعياً من الحاج عمر بأن أعين الفرنسيين لا تنام، فقد انطلقت هجرته من نجوم خلال النصف الثاني من فبراير/ شباط عام 1859م، باتجاه كارطا مستغلاً فصل الجفاف الذي ساعد على كبح جماح القوات الفرنسية. وقد ساعدته بالفعل هذه الإستراتيجية بالمرور على كل أراضي فوتا في اتجاه أعالي النهر بسلام، رغم بعض المواجهات الخفيفة التي وقعت بين الطـرفين. إلى أن دخل مدينة نيورو (Nioro) عاصمة كارطا سلمياً يوم 28 يوليو/ تموز عام 1859م[20].

ما يلاحظ على هذه المرحلة أنه غلب عليها الطابع السلمي، وذلك بموجب مقتضيات المصلحة، وبطبيعة الظرفية الزمانية؛ فالحاج عمر وإن لم يحقق خلال هذه المواجهات ما كان يرجوه من صد العدو، لكنه على الأقل أقلق راحة الفرنسيين بمناوشات جنوده وهجماتهم على الدور التجارية والعسكرية. ووعياً من الوالي فيديرب، ومعه وزارة البحرية الفرنسية بقدرته على إمكان تحقيق أهداف بلاده في المنطقة عاجلاً أم آجلاً، فإنه رأى من الحكمة - على ما يبدو - أن يسعى إلى تحقيق السلم مع الحاج عمر في الوقت الحاضر على أن يترك لعامل الزمن مسألة تطويق خصمه والإجهاز عليه. فتوصل الطرفان خلال شهر غشت/ آب 1860م إلى الاتفاق على مشروع معاهدة السلم، التي تضمنت سبعة بنود:

اعتبار نهر السنغال الأعلى ابتداءً من باكل شمالاً وروافده نهر البافنيك جنـوباً حدّاً طبيعياً فاصلاً بينهما، بشكل يتيح لفرنسا السيطرة على كل ما يوجد من أراضٍ على الضفة اليسرى للنهر.

كل ما يوجد على يمين الحدود نفسها من أراضٍ مثل ديومبوخو وكارطا، وما والاها شرقاً يخضع للنفوذ العمري باستثناء إقليم جيديماخا.

لا يسمح للحاج عمر ببناء قلاع ولا قرى حربية.

الكف عن شن الحملات العسكرية والقيام بأعمال السلب والنهب للطرفين كليهما.

قبول الحاج عمر بإرجاع السلع التي أخذها في مدينة (Médine).

حرية التجارة بين البلدين، وسنبيع للحاج عمر كل ما يطلبه منا.

كل بلد يحتفظ برعاياه وأسراره كما يريد، ولا يجوز إرجاع الرعايا والأسرى الذين يفرون من بلد لآخر[21].

لا يحتاج الباحث إلى عناء كبير ليستنتج بعد الاطلاع على هذه الاتفاقية، أن بنودها صيغت لخدمة المصالح الفرنسية بالدرجة الأولى، وهكذا ومع انتهاء القرن 19م، تمكنت فرنسا من إخضاع كل إفريقيا الغربية لنفوذها، بعد إسقاط الدولة العمرية التي شكلت وفاة شيخها الحاج عمر أول مسمار دُقَّ في نعشها، محققة هناك تقدماً على إنكلترا، التي كانت تصول وتجول في جهات أخرى من إفريقيا، على غرار دول أوروبية أخرى تطبيقاً لمقررات مؤتمر برلين، التي أطلقت أيديها بشكل قانوني منذ فبراير 1885م.

أخيراً:

نجد أنَّ هذه الدراسة قد توصلت إلى عدد من النتائج والملاحظات الهامة نجملها في النقاط التالية:

- كان الوجود الأوروبي على الشواطئ السنغالية قبل القرن 19م مقتصراً على الجانب الاقتصـادي، والثقافي (محاولة نشر النصرانية). وكان همه الأكبر هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، ولم يصطحب هذا الحضورُ بطبيعة الحال أيَّ وجود عسكري مكثف على الأرض السنغالية.

- يتضح أيضاً، أنَّ التوسع الاستعماري الفرنسي في السنغال، لم يكن وليد ظرفية القرن 19م؛ ولتحقيق هذا الهدف استعملت فرنسا كل الوسائل المتاحة شرعية كانت أم غير شرعية.

- بدأ مسلسل تثبيت السيادة الفرنسية على الممالك السنغالية، مع تعيين فيديرب عام 1854م والياً على مستعمرة السنغال؛ وقد استطاع تحقيق حلم فرنسا في احتلال السنغال، ليكون بوابة الدخول إلى إفريقيا الغربية كلها، وذلك بعد استعمال فيديرب إستراتيجية القوة العسكرية.

- كما تبين أيضاً أنَّ الحركة العمرية كان لها دور كبير في توحيد منطقة السنغال سياسياً؛ وكذلك استطاعت على الرغم من ضعف إمكانياتها تعميق تجربة الإسلام القاعدي، هذا فضلاً عن دورها بالغ الأهمية في تهديد المصالح الفرنسية بالمنطقة.


[1] وهي السنة التي توافق وفاة الأمير البرتغالي هنري الملاح، الذي كان له دور رائد في تشجيع عملية الكشوفات الجغرافية.

[2] الشكري، أحمد، 2002م. «جهاد الحاج عمر في أعالي نهر السنغال»، ضمن أعمال الندوة الدولية المنعقدة في داكار السنغال (14 - 19 ديسمبر 1998م)، بمناسبة مرور مئتي سنة على ميلاد الحاج عمر الفوتي تال، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، الرباط، ص 46.

[3] بغض النظر عما تثيره مسألة تعيين الحدود من صعوبات قبل القرن 18م، يمكننا القول: إنَّ فضاء السنغامبيا يشمل جُلَّ المناطق الواقعة ما بين نهري السنغال وغامبيا؛ من منبعيهما بأعالي فوتاجالون إلى مصبيهما في المحيط الأطلسي، بمسافة تُقدر بـ 1350 كم2 من الغرب إلى الشرق، و 900 كم2 من الشمال إلى الجنوب. ويرجع الفضل في استعمال هذا الاصطلاح وترسيخه في حقل الدراسات الإفريقية للبحاثة الغيني الأصل بُبكر باري (B. Barry)، الذي سعى في معظم دراساته إلى توظيفه والترويج له.

Barry, (B). 1998. La Sénégambie du XVe au XIXe siégle : Traite négriére, Islam et conquête coloniale. Paris, éd. L’Harmattan, p.38.

[4] الشكري، أحمد. «جهاد الحاج عمر في أعالي نهر السنغال»، ص47.

[5] السعدي، عبد الرحمن، 1981م، تاريخ السودان، ترجمة أوكتاف، هوداس، ميزونوف باريس، ص77.

[6] Raymond ,( M). 1975 . Tableau Géographique du l’Ouest Africain au Moyen Age : d’après les sources écrites, la tradition et l’archéologie. Postbus: Swets Publishing Service, p. 327.

[7] Ca Da Mosto (A .De.). 1895, Relation des voyages à la cote occidentale d’Afrique., Paris, publié par M. Charles Schefer,p. 317.

[8] الشكري، جهاد الحاج عمر في أعالي نهر السنغال ، ص49.

[9] المصدر السابق، ص54.

[10] نلفت الانتباه إلى أن هذه الإتاوات أو الضرائب التي كانت تقدمها الإدارة الفرنسية، كانت تمثل بالنسبة للزعامات المحلية رمزاً لسيادتها.

[11] Faidherbe,( L). 1889. Le Sénégal ( La france dans L’afrique occidentale). Paris : Libraire Hachette, p. 7. (2)

[12] Le Sénégal La france dans L’afrique occidentale, op. cit. p. 220.

[13] السفيوي، عبد النبي، 1995م، «الاستعمار الفرنسي في السنغال 1854- 1876م». السفيوي، عبد النبي، رسالة ماجستير، المغرب: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس أكدال، ص 134.

[14] David(R) ; La guerre sainte d’Al-Hajj Umar, op. cit , P. 195.

[15] أحمد الأزمي، 2009م، العلاقات المغربية الإفريقية خلال القرن 19م، فاس، دار ما بعد الحداثة ، ص150.

[16] Barry ( B) , La Sénégambie du XVe au XIXe siècle, op. cit ,p. 258 .

[17] العلاقات المغربية الإفريقية خلال القرن 19م ، ص124.

[18] Ly-Tall,( M), Un Islam militant en Afrique de l’Ouest au XIXe siècle, op. cit ,p. 319.

[19] السفيوي ، الاستعمار الفرنسي في السنغال، ص165.

[20] الأزمي، العلاقات المغربية الإفريقية خلال القرن 19م، ص130.

[21] Crowder Michael; 1978, A History of West Africa A. D. 1000 to the present, Harlow: Longman Group, P. 92-93.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28-09-2020, 05:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (6)

الاحتلال الفرنسي للمغرب

د. أحمد سوالم


الإمبريالية:

هي حركة توسعية استعمارية عرفها العالم خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مدفوعة بضرورات حاجة الصناعة الناشئة عقب الثورة الصناعية إلى المواد الأولية وأسواق جديدة لتصريف فائض الإنتـاج، وكذلك بضرورات اجتماعية متمثلة في التخلص من الفائض البشري ومشاكله من بطالة وفقر وتصديره نحو المستعمرات.

وقد تم تبرير السياسة الإمبريالية، بكونها حاملة للحضارة والتنوير والعلم ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة للشعوب، لكن احتلال المستعمرات كشف الوجه القبيح للاستعمار الرامي لطمس الحضارة والهوية، واستعباد الإنسان والحجر واستغلال الثروات.

ويعد الاستعمار الفرنسي نموذجاً حيّاً للإمبريالية الغربية واستغلالها لخيرات الشعوب، وتعتبر سياسته في المغرب أكبر دليل على ذلك وعلى وجه الاستعمار القبيح؛ فما هي أهم آثار الاستعمار الفرنسي للمغرب على الاقتصاد والمجتمع؟

عملت فرنسا على حكم المغرب بطريقة غير مباشرة بواسطة السلطة التقليدية بإبقائها في وظائفها، من خلال مراقبتها عن كثب؛ إذ تم الحفاظ على دولة المخزن برئاسة السلطان، وإعادة تنظيمها. هذا التنظيم الذي حوَّل السلطة إلى يد الفرنسيين برئاسة المقيم العام. فقد مكنت السيطرة الإدارية والسياسية الجديدة من وضع الإطار القانوني الذي سيسهل الاستعمار الاقتصادي، الذي يعتبر الغاية القصوى التي يطمح إليها نظام الحماية.

إن هدف كل عملية استعمارية، هو الاستفادة من خيرات البلاد، وفرض حضورها على كافة الميادين. كذلك فعل الفرنسيون بالمغرب.

ففي المجال الفلاحي نهجت فرنسا سياسة الاستعمار الفلاحي، من خلال الاستيلاء على الأراضي الفلاحية وإنشاء مراكز للاستيطان؛ إذ عمدت سلطاتها إلى وضع قانون عقاري الغرض منه تصفية وضعية الأراضي، ومنحها صفة أملاك تامة الشروط. فقد تم إصدار ظهير التسجيل العقاري، وأُنشئت مصلحة المحافظة العقارية، وهو ما جعل الأملاك المستولى عليها أملاكاً تامة على المستوى القانوني. فقد نتج عن ذلك ظهور استغلاليات فلاحية كبيرة في يد المعمرين، تعتمد على تقنيات وأساليبَ حديثةٍ، وهو ما ساهم في ارتفاع الإنتاج الزراعي، فارتفع إنتاج الحبوب من 20 مليون قنطار سنة 1930م إلى 30 مليون قنطار سنة 1956م. وارتفعت المساحة المغروسة بالكرمة المعدَّة لصناعة النبيذ من 10 آلاف هكتار سنة 1930م إلى 55 ألف هكتار سنة 1955م. أما زراعة الحوامض والبواكر، فارتفعت مساحتها المغروسة من 5 آلاف هكتار سنة 1935م إلى 52 ألف هكتار عام 1958م[1].

إلا أن هذه السياسة أدت إلى حرمان كثير من الفلاحين المغاربة من أراضيهم نتيجة الاستحواذ عليها من طرف المعمرين، وعدم قدرة الفلاحة التقليدية المعاشية على منافسة الفلاحة العصرية التي أدخلها الأوروبيون إلى البلاد. وهو ما نتج عنه هجرة العديد من الفلاحين نحو المدن و ظهور ما اصطلح عليه (بروليتاريا القرى) الذين هاجروا نحو المدن المنجمية والمدن الكبرى، وعاشوا فيها ظروفاً اجتماعية مزرية حيث الأجور الزهيدة والسكن في هوامش المدن خصوصاً في الأحياء الصفيحية.

أما في المجال الصناعي، فلم تعمل سلطة الحماية على إنشاء صناعة عصرية قوية في المغرب، بل ارتكز عملها على استخراج المعادن من خلال استغلال الموارد المنجمية بسرعة وكثافة؛ نظراً لحاجة الاقتصاد الفرنسي للمواد الأولية. فبدأ إنتاج الفوسفات سنة 1925م، إضافة إلى الرصاص والزنك والكـوبالت والمنغنيز والحديد، الذي بلغ إنتاجه سنة 1920م ما يناهز 300 ألف طن، ليرتفع سنة 1938م إلى 1.1 مليون طن. فالإنتاج المنجمي عرف نموّاً في السنوات من 1930 إلى 1955م، بنسبة 7%. وإذا أخذنا بالاعتبار سنوات الحرب والأزمة، فيصل إلى 12% بالنسبة للسنوات العادية[2].

إلى جانب استخراج المعادن، نجد الصـناعات التحويلية والحرف؛ ففي الفترة ما بين عامي 1948 - 1953م، عرفت هذه الصناعات استثمارات مهمة؛ خصوصاً الصناعات الغذائية (معلبات، سكر، عجائن غذائية)، والميكانيكا الخفيفة. ووجبت الإشارة، إلى أن الصناعة والحرف التقليدية، عرفت تراجعاً كبيراً بسبب منافسة المنتجات الصناعية الأوروبية العصرية، رغم كون هذه الحرف التقليدية تؤمن العمل لربع السكان العاملين في المدن في بدء الاستعمار، أي حوالي 100 ألف شخص عام 1920م[3]، في مقابل ذلك عرف إنتاج الصناعات الحديثة ارتفاعاً بسبب (تأورب) الأذواق.

إلا أنه على العموم تبقى النسب المئوية للنمو الإجمالي للإنتاج الصناعي والحرفي ضعيفة جداً في سنة 1930م؛ فلم تتعد %2 في الفترة ما بين عامي (1910 - 1930م)، لتصل إلى 5.8 % ما بين عامي (1930 - 1955م)[4].

أما التجارة (الداخلية منها) فكان يسيطر عليها الأوروبيون ووسطاء من قبيل البورجوازية اليهودية التي تفرنست. فقد كانت الشركات الفرنسية هي المسيطرة، وازدهارها يعكس ظهور اقتصاد عصري يعتمد على النقود ومن ثَمَّ انهيار الاقتصاد المعاشي، المعتمد على الاكتفاء الذاتي.

وأما التجارة الخارجية، فقد عرفت عجزاً مزمناً على مستوى الميزان التجاري؛ وذلك نتيجـة لتصدير المواد الأولية منخفضة القيمة، واستيراد المواد المصنعة مرتفعة القيمة، والتي كثرت نتيجة الزيادة على المستوى الديموغرافي ونظراً لتغير الأذواق بالنسبة للطبقة المتوسطة المغربية، وتصاعد عدد الرغبات خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية.

كما أحدثت سلطات الحماية تحولات اجتماعية في بداية الحماية، لكنها كانت بطيئة أو منعدمة، إلا أن نسبتها تسارعت بعد مضي ثلاثين سنة من احتلال المغرب. وهو ما أنتج ظهور بلاد جديدة ومجتمع جديد. فسكانياً، شهد المغرب زيادة مهمة في عدد الأجانب، الذين شكلوا بذلك أقلية محظوظة سيطرت على الاقتصاد والإدارة.

كما ارتفع عدد السكان المسلمين، فوصل سنة 1952م إلى ما يناهز 8 ملايين و 700 ألف نسمة، وهو ما كانت له انعكاسات اقتصادية واجتماعية وسياسة (تناقضات بين المتطلبات الجديدة للمجتمع في خضم التحول، وإطار سياسي يطمح إلى الثبات).

كما عرفت أوضاع الحياة في البوادي انقلاباً بسبب تضاعف الساكنة مقابل تناقص الأراضي الصالحة للاستغلال، وقلة فرص العمل بسبب استيلاء المعمرين على معظم الأراضي واستعمالهم للوسائل والآليات العصرية. وهو ما ساهم في انتشار الفقر والبؤس داخل الأرياف. وتحوُّل معظم الفلاحين إلى عاطلين، يهاجرون إلى السهول الخصبة في المواسم، أو إلى المدن والمراكز المنجمية للعمل. ومن المغاربة من كان يهاجر إلى الجزائر للعمل خلال موسم جني الكروم. كما انهارت الهياكل القبلية التقليدية، وأنماط العيش التقليدية، وهو ما دفع العديد من السكان إلى مغادرة موطنهم والنزوح نحو المناطق الشمالية والغربية بحثاً عن أماكن للعمل.

أما بالنسبة للحواضر، فقد عرفت المدن الحديثة التي أنشأها الاستعمار مقارنة بالمدن العتيقة ازدهاراً. فمدينة الدار البيضاء تزايد عدد سكانها، من 30 ألف نسمة سنة 1907م إلى 682 ألف نسمة سنة 1952م.

إلا أن أهم التحولات التي عرفها المجتمع المغربي، تتمثل في ظهور طبقة من الأعيان تمتلك مساحات شاسعة، تمثل طبقة غنية، قليلة العدد، حملت اسم البرجوازية، في مقابل ذلك هناك أغلبية من الفقراء والعاطلين، تمثل طبقة فقيرة.

بين هاتين الطبقتين توجد طبقة متوسطة، وظهور هذه الفوارق يعود للأزمات التي عرفها المجتمع المغربي؛ خاصة الأزمات الناتجة عن الحروب التي ساعدت على المضاربة، وهو ما ساعد التجار على جمع أموال كثيرة خاصة بواسطة الاتجار في المواد الغذائية، مثل الحبوب والمواد المستوردة كالسكر والشاي.

أما ظهور الطبقة العمالية في المدن، فكان من أهم مظاهر التحول الاجتماعي في عهد الحماية؛ فقد تجمع العمال في المدن التجارية وسكنوا في دور الصفيح وفي المراكز المنجمية، وكانوا معرضين للاستغلال والفقر لأنهم ممنوعون من الحقوق النقابية.

ولم تستثن هذه التحولات المجال التعليمي، بل شملته؛ إذ عرف تغييرات جذرية على مستوى بنياته وأهدافه. باعتبار التعليم الذي قدمته الحماية الفرنسية للمغاربة يدخل في إطار سياسة مكملة للتدخل العسكري؛ بجعله أحد الأدوات التي تسهل استغلال خيرات المغرب.

لعل هذه أهم الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلَّفها الاستعمار الفرنسي للمغرب، والتي ستلعب دوراً كبيراً في بناء دولة الاستقلال فيما بعد، وكشفت بالملموس الوجه الآخر القبيح للحداثة والتنوير الغربي، ممثَّلاً بالنموذج الاستعماري الفرنسي.











[1] أمين سمير، المغرب العربي الحديث، ترجمة: كميل. ق. ذاغر، دار الحداثة، بيروث، 1980، ص45.

[2] المرجع السابق، ص50.

[3] المرجع نفسه، ص 49.


[4] المرجع نفسه، ص50.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-10-2020, 09:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (7)

الاحتلال الهولندي لإندونيسيا

. أحمد الظرافي

«إن تبسُّط الأمة الهولندية في المشرق، لم يكن المقصود منه مجرد المكاسب المادية، بل أكثر ما قصدته هولندا بذلك، هو نشر فضائل النصرانية».
(ناظر المعارف الهولندية في مؤتمر المستشرقين في ليدن عام 1931م).
أولاً: إندونيسيا الأرض والإنسان:
عرفها العربُ المسلمون بعد الإسلام، وكانوا يطلقون عليها (جزر المهراج)، أو (الجاوي). وعرفت في زمن الكشوف الجغرافية الصليبية، باسم (جزر الهند الشرقية). كما عرفت بأسماء أخرى، قبل أن تُعرَف في منتصف القرن 19، باسمها الحالي (إندونيسيا) الذي يتكون من مقطعين): (إندو): وتعني الهند، و (نيسيا): وتعني جزر، وعليه فإن (إندونيسيا)، تعني: جزر الهند. وهي عبارة عن أرخبيل عظيم في جنوب شرقي آسيا، يتكون من13677) ) جزيرة، منها (6044) جزيرة مأهولة. وهذه الجزر تتناثر على سطح المحيطين الهادي والهندي، على امتداد خط الاستواء، وتشكل جسراً بين المحيطين طوله 5100 كم. كما أنها تشكل جسراً آخر، بين قارتي آسيا شمالاً، وأستراليا جنوباً، لمسافة 1900 كم. وتبلغ المساحة الكلية لهذه الجزر زهاء مليوني كم2. ويحدها من الشمال بحر الصين الجنوبي، ومن الشمال والشرق المحيط الهادي، ومن الجنوب والغرب المحيط الهندي. وأقرب البلاد إليها سنغافورة وماليزيا في شمالها، والفلبين في شمالها الشرقي، وأستراليا في جنوبها الشرقي. وتعتبر إندونيسيا أكثر دول العالم الإسلامي سكاناً، حيث يبلغ عددهم في وقتنا الحاضر، زهاء 270 مليون نسمة، منهم 86% مسلمون، 10% نصارى (بروتستانت وكاثوليك)، 2% هندوس وهم يتركزون في جزيرة بالي، 1% بوذيون، والنسبة الباقية وثنيون. وهناك أيضاً جالية عربية، وأغلبها حضرمية، وأيضاً أقلية أوروبية، وبخاصة في جاوة.

وأهم جزر إندونيسيا:
جاوة: وتبلغ مساحتها 131500 كم2، ويعيش فيها 65% من السكان، وهي (أجمل بلاد الله وأغناها، ربيع دائم، وخصب عميم، وخضرة لا بداية لها ولا نهاية)، وأهم مدنها جاكارتا (العاصمة)، وسورابايا، وباندونج، وكوكجاكرتا (كوكجا)، وسمارانغ، وغيرها.
وسومطرة: وتبلغ مساحتها 430000 كم2، وهي الثانية من حيث عددُ السكان، وإن كان سكانها قليلين مقارنة بمساحتها، وفيها قامت سلطنة (أتشيه)، المجاهدة الشهيرة، التي زارها الرحالة الطنجي ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري، وما تزال (أتشيه) محافظة على تراثها، واستقلالها الذاتي، وهي اليوم، أكبر مركز لتجمع المسلمين في إندونيسيا، وإن كانت تطالب بالانفصال عنها، وأهم مدن سومطرة، ميدان، بالمبانغ، بادنغ.
وجزيرةبورنيو (كيليمنتان): وهي أكبر جزر الأرخبيل، وتبلغ مساحتها 746000 كم٢، تحتل المنطقة الإندونيسية، منها 532000 كم2.
وسولاويزي (سيلبس): ومساحتها 185000 كم2. ويعود سكان إندونيسيا في أصولهم العرقية، إلى الجنس الملاوي، الذي ينتشر في الجزر المجاورة أيضاً، كجزر الفلبين، والملايو، وحتى مدغشقر في جنوب شرقي إفريقيا، وهذا الجنس يتميز بشكل عام بالطيبة، والتواضع، والشعور المرهف، والنظافة، والمثابرة، وهو أكثر شعوب الأرض إقبالاً على الإسلام وحباً له وحماسة. ويتحدث سكان إندونيسيا بحوالي 300 لهجة، واللغة الرسمية الحالية هي (باجاسا إندونيسيا)، وهي فرع من اللغة الملاوية، وفيها ألفاظ عربية كثيرة. وتتميز جزر إندونيسيا بغزارة الأمطار، والرطوبة العالية، والحرارة المرتفعة، والتربية الخصبة، وكثرة الأنهار والغابات والجبال والبراكين والزلازل. وهي أغنى بلاد الله بالثروات والموارد الطبيعية كالمطاط، والشاي، والسكر، والبن، وزيت النخيل، وجوز الهند، وفول الصويا، والكتان، وغيرها. وفيها جميع أنواع البهارات، والعطـور، وما لا يحصى من أنواع الفواكه والخضروات، ولذلك كانت محط أطماع القوى الأوروبية الاستعمارية، منذ بداية العصر الحديث وحتى اليوم، وكان الصراع عليها شديداً بين البرتغاليين، والإسبان، والهولنديين، والإنجليز، قبل أن تظفر هولندا بهذا الصيد الثمين وحدها. علماً بأن مساحة هولندا تساوي 1/50 من مساحة إندونيسيا، وشعبها لا يساوي 4% من شعب إندونيسيا.
ثانياً: الإسلام في إندونيسيا:
لا يعرف بالتحديد تاريخ انتشار الإسلام في إندونيسيا، وهناك عدة نظريات حول وصوله إليها، أقربها للصحة أن الإسلام وصل إلى شواطئ سومطرة في القرن الأول الهجري؛ فقد كانت هذه الجزيرة حلقة وصل في تجارة ذلك العصر، بين الهند، وفارس، والجزيرة العربية، وبين الصين، التي كانت تتردد إليها سفن العرب المسلمين التجارية في العصر الأموي، حيث كانت تربطهم علاقات تجارية مع الصينيين، وكان يقيم في (كانتون) جالية عربية مسلمة، قوامها زهاء مائة ألف شخص وقتذاك، وقد استطاع الإسلام أن يشق طريقه في باقي أنحاء الجزيرة، التي كانت تغلب على أهلها الصبغة البرهمية الهندوسية، عن طريق الحكمة، والموعظة الحسنة، وحسن المعاملة، والعلاقات الاجتماعية، وقامت في شمال سومطرة أول سلطنة إسلامية في إندونيسيا، بل في جنوب شرقي آسيا كله، في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وهي مملكة (بيرلاك). وفي مطلع القرن السابع الهجري قامت مملكة (آتشيه) الإسلامية القوية في شمالي سومطرة، وكان أول حكامها هو السلطان جيهان شاه، وكان قد قدم إلى سواحل آتشيه داعية إلى الإسلام، فاستجاب له الكثيرون، ولقي منهم تقديراً عظيماً، فتزوج أميرة من بنات أمرائهم، ونصبوه ملكاً عليهم، وتلقَّب بلقب «سري بدوكا (أو بدوحا) سلطان»، وعن طريق هذه المملكة انتشر الإسلام ومعه اللغة العربية بصورة كثيفة ومنظمة، وعمَّ أنحاء كثيرة من جزيرة سومطرة، وأصبحت حصناً حصيناً للمسلمين بعد سقوط ملقة بأيدي البرتغاليين عام 1511م. وفي القرن 15، ظهرت مملكة (مينانجكابو) وسيطرت على جزء من الجزيرة. وبرغم أن هذه العشائر كانت معقلاً للهندوكية، إلا أن الإسلام لقي تجاوباً عظيماً من قبل كثير من أهلها، واستطاع أن يواجه مختلف التحديات التي واجهته، وتأصل في قلوب هذه العشائر بقوة، ولذلك كانت مقاومتها لجهود المستعمرين والمبشرين، عنيفة شديدة. ومن جزيرة سومطرة انتقل الإسلام إلى جاوة في القرن 13 على أيدي الدعاة الذين اشتهروا بلقب (أولياء الله التسعة)، والذين استقروا في بداية الأمر في مدينة ديماك الواقعة في شمال شرقي سمارانج، وكان هؤلاء الدعاة يبدؤون مهمتهم الدعوية ببناء المساجد، وكان أولها مسجد ديماك، الذي ما يزال قائماً. وتأسست في هذه المدينة، أول سلطنة عربية في جاوة، وهي سلطنة (ديماك)، وأول ملوكها رادين باتاه (عبـد الفتاح). وفي القرن 16، وصل المد الإسلامي في جاوة ذروته بتحالف سلاطين المدن الساحلية للقضاء على مملكة (ماجاياهيت) الهندوسية في الداخل، فتم القضاء عليها تماماً عام 1526م، واعتنق العديد من أمرائها الإسلام، وقامت على أنقاضها عدة سلطنات إسلامية، أشهرها سلطنة (متارام) في وسط جاوة، وسلطنة (بانتام) في غربها. هكذا انتشر الإسلام (الصوفي) في جزيرتي سومطرة وجاوة، وترسخت تعاليمه في نفوس الملايين. ومن جزيرتي جاوة وسومطرة انتقل إلى بقية جزر الأرخبيل الإندونيسي عن طريق التجار، وبخاصة الحضارم، وعن طريق الجهاد بعد ظهور الممالك الإسلامية، حيث قامت في جزيرتي بورنيو وسولاويزي وغيرهما من الجزر، العشرات من السلطنات الإسلامية المستقلة عن بعضها بعضاً، والتي قضى الهولنديون على نفوذها السياسي في ما بعد، في ما قضوا عليه من السلطنات الإسلامية في إندونيسيا.
ثالثاً: الاحتلال الهولندي لإندونيسيا
هولندا دولة صغيرة في غرب أوروبا، لا تتجاوز مساحتها 41.500 ألف كم2، كانت جزءاً من الإمبراطورية الإسبانية، وبعد ظهور حركات الإصلاح الديني في أوروبا في القرن 16، اعتنق الهولنديون البروتستانتية الكالفينية، وأعلنوا الثورة ضد الإسبان الكاثوليك، وتوَّجوا ثورتهم بإعلان استقلالهم عام 1581م، وبعد ذلك صارت البحـار ميـداناً للحـروب بين الكاثوليك (الإسبان والبرتغاليين)، والبروتستانت (الإنجليز والهولنديين)، واستطاع الإنجليز أن يحطموا الأسطول الإسباني الشهير (الأرمادا)، عام 1588م في بحر الشمال بمساعدة السفن الهولندية، وهو ما فتح المجال أمام الأسطول الهولندي لشق طريقه، في البحار الجنوبية والشرقية للعالم الإسلامي، والوصول إلى شواطئ جاوة، عام 1596م، ونظراً لجشع التجار الهولنديين، فقد تم تأسيس (شركة الهند الشرقية الهولندية) الاستعمارية عام 1605م. «ولا يغرك لفظ (شركة)، فإنه في الحقيقة جيشٌ غازٍ مسلح، مهمته السلب والنهب». وقد منحت الحكومة الهولندية لهذه الشركة حق عقد اتفاقيات مع الملوك والسلاطين، ومنها اتفاقيات الحرب والسلام، وإقامة القلاع، وإنزال العقوبات، وتعيين المحافظين وقواد الجيش والمسؤولين، فكانت الهيئة الإدارية للشركة، تتمتع بصلاحيات دولة. وكان وصول الهولنديين إلى المنطقة، بعد وصول البرتغاليين إليها بحوالي تسعين عاماً، وكان البرتغاليون آنذاك قد طغوا وبغوا، ومثَّلوا الحقد الصليبي على أصوله، وبخاصة في معاملتهم للمسلمين، فنفرت منهم قلوب العباد، واستثاروا المسلمين ضدهم، وعند وصول الهولنديين إلى المنطقة لعبوا دور المخلِّص، فقاتلوا البرتغاليين، واستطاعوا أن يهزموهم، وأن يخرجوهم من جزر الهند الشرقية، والسيطرة على قلاعهم، بمساعدة أهالي المنطقة، ومن ثَمَّ الاستئثار بهذا الصيد الثمين، وأخذت شركة الهند الشرقية الهولندية تمارس سلب ونهب الثروات الإندونيسية، وتمتلك الأراضي، وتقيم القلاع، وتقود الجيوش والأساطيل باسم التجارة، حتى عام 1800م عندما أخذت الحكومة الهولندية بزمام الأمور بنفسها.
وقد جوبه الغزو البرتغالي ثم الهولندي لإندونيسيا بمقاومة شرسة من قبل المسلمين منذ وصولهم إلى شواطئ هذه الجزر، وكانت سلطنة (آتشيه) في سومطرة هي التي رفعت راية الجهاد ضد البرتغاليين، بعد أن قضوا على سلطنة ملقة الإسلامية عام 1511م، وكان شأنها كذلك إزاء الهولنديين الغزاة، فقد ردتهم على أعقابهم مراراً، ولكن الهولنديين استطاعوا في نهاية المطاف أن يخضعوا كل السلطنات الإسلامية في إندونيسيا واحدة بعد الأخرى، تارة عن طريق القوة، وتارة عن طريق الغدر والمكر والدهاء، وتارة عن طريق ضرب السلطنات بعضها ببعض، وتارة عن طريق عقد معاهدات الصداقة مع السلطنات القائمة، والتي كانت تنتهي عادة بالاحتلال. وبعد ذلك تخلل الاحتلال الهولندي للبلاد نشوب ثورات عديدة ضدهم، قادها علماء المسلمين السنة، أشهرها ثورة الشيخ (تورونو جويو) في جاوة عام 1676م، التي أقضت مضاجع الهولنديين وسلطان ماتارام الخائن (منكورات). وثورة الشيخ (ديبونجورو) في جاوة أيضاً عام 1825م، التي كبدتهم خسائر فادحة، ولم يتمكنوا من إخمادها إلا عام 1830م بعد اعتقال الشيخ أثناء المفاوضات. وتزامنت هذه الثورة، مع ثورة قوم بدري (أي الجمعية البيضاء) في سومطرة، بقيادة الشيخ مصطفى سحاب، التي استمرت من عام 1821م إلى عام 1837م. ولم تكد هذه الثورة تنتهي حتى استأنفت سلطنة (آتشيه) الجهاد ضد الهولنديين، بقيادة إبراهيم منصور شاه حتى عام 1874م، ثم رفع الراية تنكو عمر، حتى قتل عام 1899م، ولكن المقاومة استمرت حتى عام 1904م، عندما دخلت (آتشيه) تحت الحماية الهولندية، وهنا فقط استكملت هولندا السيطرة على الأرخبيل الإندونيسي.
رابعاً: السياسة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا:
لم يكن الغزو الهولندي لإندونيسيا لأجل نهب الموارد والثروات فحسب، ولكنه كان أيضاً غزواً صليبياً لتحويل المسلمين إلى النصرانية، ولذلك فقد قامت السياسة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا، على الآتي:
الاستغلالالاقتصاديوالاستبدادالسياسي:
عمد الهولنديون إلى نهب ثروات إندونيسيا الضخمة، وأنشؤوا مزارع أداروها بأنفسهم لزراعة المحاصيل التي تحتاجها أوروبا، كالبن، والمطاط، والشاي، والقرفة، وفرضوا العمل القسري على السكان، الذين كانوا ينظرون إليهم كالبهائم، وكانوا يسمونهم الأقزام احتقاراً لهم، وتسببت سياستهم الاقتصادية المجحفة في حدوث مجاعات، مات في إحداها 100.000 نسمة بسيمارانج وحدها، بين عامي 1849 - 1850م.
وعلى حساب بؤس ودماء عشرات الملايين من هؤلاء السكان، صنعت هولندا الرفاهية لشعبها، الذي لم يكن يتجاوز 2.000.000 نسمة، فكانت أمستردام، ونوتردام خلال الفترة (1600 - 1800م) الأغنى، والأجمل، أوروبياً. وقد عمل الاحتلال الهولندي على تركيز جهوده في جاوة، ذات الثقل السكاني الكبير، وقلب الإسلام النابض بالمقاومة، وجعل قلعة (بتافيا) مركزاً له، عام 1619م، وترك باقي الجزر تحت حكم السلاطين المحليين المرتبطين به بمعاهدات، وقطع علاقة المسلمين بسائر الحكومات الإسلامية.
واعتمد الاحتلال في تثبيت أقدامه على الأقليات البوذية، والهندوسية، والوثنية، والباطنية، واتخذ منها أنصاراً، وكوَّن منها جيشاً لقمع المقاومة في البلاد، فصارت هناك شريحة متنصرة تحتضن الاحتلال وتتحدث بلغته، وأطلقت أسماء هولندية على مواليدها، وطبعتهم بطابع هولندي صرف. كما عمل الاحتلال على إذكاء نيران العصبية بين القبائل الإندونيسية، عملاً بمبدأ (فرق تسد). واستفحل هذا الداء العضال، حتى في صفوف الجالية الحضرمية؛ فقد تشظت إلى أحزاب عنصرية (السادة)، وقبلية، ومناطقية، فصارت تمالئ المحتل نكاية ببعضها بعضاً. وبعد ظهور الأحزاب أفسح الاحتلال المجال للشيوعيين والعلمانيين، للتواصل مع الجماهير الطلابية والعمالية، في حين تمَّ اعتقال الزعماء المسلمين وسجنهم، فتصدر الشيوعيون والعلمانيون الواجهة السياسية الإندونيسية، وأخذوا يكيلون الوعود، ويبيعون الأوهام للبسطاء، المتطلعين للاستقلال.
الغزوالفكريوالاستلابالثقافي:
قامت هولندا بفرض ثقافتها ولغتها على الإندونيسيين، وأنشأت أول مدرسة هولندية في إندونيسيا عام 1617م، وفتحت باب الهجرة للهولنديين، فأصبحت لغتها هي الأولى في البلاد، وهي لغة الدراسة من الحضانة وحتى الجامعة، ومع ذلك فقد كان التعليم الحكومي مقتصراً على أبناء الطبقة العليا، وعلى أبناء عملاء الاستعمار، ليكونوا موظفين في دواوينه، بعد أن يتم غسل أدمغتهم، وتشريبهم لثقافته، وقام الهولنـديون بمحاربة التعليم الأهلي الذي كان مزدهراً عند احتلالهم للبلاد، بحيث إن غالبية أهلها كانوا يعرفون القراءة والكتابة، وأغلقوا أغلب المدارس، وغيروا مناهج الباقي منها، وغيروا حروف اللغة الإندونيسية من العربية إلى اللاتينية. وتضمنت سياستهم التعليمية إرسال البعثات الطلابية للدراسة بجامعات هولندا، لتغريبهم وتكوينهم مادياً وروحياً، حتى يكونوا في ما بعد رواداً للفكر الغربي، في بلادهم. ومن هنا فقد غلبت المدنية الأجنبية واللغة الهولندية، وظهر جيل من المسلمين يجهل أغلبه هويته الحقيقية. وقامت السياسة الهولندية على إبعاد النشء عن دينه، وعلى أحياء اللهجات الإقليمية المختلفة، لتفريق الأمة عن بعضها. وكان هناك تكامل بين المدارس الحكومية الهولندية، والمدارس التبشيرية في محاربة الإسلام، فكانت الأولى تخرج الذين يجهلون دينهم الإسلامي جهلاً تامّاً، بينما تعمل مدارس الإرساليات على تنصير المنتسبين إليها. كما قامت هولندا بإطلاق العنان للحركات الباطنية كي تعمل على أحياء ما اندثر من العادات الهندوسية، والبوذية، والوثنية، وعملت على تشجيع التصوف القبوري، الذي يُسقط فريضة الجهاد، ويدعو لتأييد سلطة الاحتلال الصليبية الغاشمة، على اعتبار أن الاحتلال صار أمراً واقعاً، وقام المستشرق الهولندي الصليبي هورغرونية (1857 - 1936م) مستشار السلطات الاستعمارية، بدور خبيث في هذا الصدد.
الهجمةالتنصيريةالشرسة:
قامت السلطات الاستعمارية الهولندية بتأسيس أول كنيسة في إندونيسيا عام 1624م، وعمدت إلى إطلاق العِنان للبعثات التبشيرية لتنصير المسلمين وغير المسلمين بحرية، وتولت دعمها مادياً ومعنوياً، وكانت تلك البعثات تتكون من جحافل جرارة من المبشرين الذين قَدِموا من دول شتى من غرب أوروبا، والذين انتشروا في مختلف أنحاء البلاد، وكان تركيزهم على تنصير المسلمين، أملاً في استغلال فقرهم وبؤسهم، لردتهم عن دينهم، وسلخهم عن هويتهم، أكثر من تركيزهم على تنصير بقايا الجماعات الوثنية والبدائية. وكان هناك تنافس محموم بين البعثات التنصيرية البروتستانتية والكاثوليكية في هذا المجال، وقد ساعدهم على ذلك سماحة المسلمين الملاويين، فاستغلوا تلك السماحة أسوأ استغلال في ممارسة أنشطتهم التبشيرية المتنوعة، فراحوا يشيِّدون الكنائس الضخمة، والملاجئ، والمستشفيات، ودور الأيتام والعجزة والمسنين، في أحياء المسلمين، وبخاصة المدن والأحياء الآهلة بالسكان. وقد انتشرت مدارس الإرساليات التبشيرية في مختلف الأرجاء، وفتحت أبوابها على مصاريعها أمام الشباب الإندونيسي الفقير، واستطاعت أن تستقطب أعداداً هائلة منهم، وتضمهم إلى صفوفها نظراً لعجز البلاد عن إنشاء مدارس بسبب سياسة التفقير التي اتبعتها هولندا، وقبل ذلك استئثار الأمراء بكل شيء. وكانت تلك الإرساليات تتوفر على موارد مالية ضخمة؛ فقد كانت تتلقى مساعدات خارجية من بلدان غربية عديدة، غير هولندا، ومنها كندا، وفرنسا، والفاتيكان، وأمريكا، وألمانيا، ولذلك كان المبشرون يدفعون بسخاء لشراء الأراضي الواقعة في إحياء المسلمين لإقامة المؤسسات والمراكز التبشيرية عليها، ونتيجة لذلك صارت إندونيسيا المسلمة التي لفظت البوذية، والهندوكية، تواجه منافسة خطيرة من قبل البعثات النصرانية، التي استطاعت استغلال الظروف، في غزو القلوب، وشراء ولاء ضعفاء النفوس.
خامساً: الحركة الوطنية والاستقلال:
وفي أوائل القرن العشرين ظهرت العديد من المنظمات الإسلامية في إندونيسيا؛ كشركة إسلامي، وجمعية الخير، وحركة كل المسلمين، داعية إلى يقظة المسلمين، وتزعمت الكفاح السياسي ضد الهولنديين، فعمدت هولندا إلى ضرب هذه المنظمات بالتيارين القومي والماركسي، فظهرت عدة أحزاب قومية وماركسية، كالحزب الوطني بزعامة أحمد سوكارنو (1901 - 1970م) الباطني، والحزب الشيوعي الماركسي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وكان الشغل الشاغل لهذه الأحزاب، هو تحطيم طموحات المسلمين، في إقامة دولة إسلامية في هذه الجزر. وحين انعقدت (لجنة الاستقلال) لمناقشة هوية الدولة القادمة عام 1945م، بذل ممثلو هذه الأحزاب والباطنية كل ما في وسعهم، لكي لا تكون الدولة القادمة (إسلامية)، واقترحوا قيام دولة على أساس (البانتشاسيلا)، وهددوا برفض الاستقلال جملة إذا أصرَّ مملثو التيارات الإسلامية على أن يكون الإسلام ديناً للدولة، لدرجة أنه تم حذف الفقرة التي تؤكد على أهمية الشريعة الإسلامية في الدستور الإندونيسي في ميثاق جاكرتا، الذي تم اعتماده مقدمةً للدستور عام 1945م، فوافق ممثلو التيارات الإسلامية مضطرين على هذا المقترح، وبرروا ذلك بأنه بالإمكان تعديل الدستور عبر التصويت بالبرلمان، الذي سيكون من نصيبهم حتماً عندما تُجرى الانتخابات. وتقوم (البانتشاسيلا) على خمسة مبادئ براقة، هي: (الربانية المتفردة، الإنسانية العادلة، الوحدة التي لا تتجزأ، المشاركة الشعبية، العدالة الاجتماعية). وكان سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا، هو من فرض هذه المبادئ، لتسير عليها الدولة الوليدة، بدلاً من العقيـدة الإسلامية، وتدخَّـل سوكارنو عام 1957م وألغى الحياة النيابية في البلاد بسبب تصدُّر حزب (ماشومي) الإسلامي واجهة الحياة السياسية، وحلَّ هذا الحزب، وألقى بزعمائه في السجون، وأسس نظاماً على مقاسه، سماه (الديمقراطية الموجهة)، وأصدرت حكومته قراراً يحظر ممارسة الدعوة إلى أي دين، لدى أشخاص يعتنقون ديناً آخر، واتضح لاحقاً أن المقصود بهذا القرار هو تكميم أفواه المسلمين عن الدعوة، لأن النشاط التنصيري استفحل في إندونيسيا بعد ذلك. وفي عهد الجنرال سوهارتو (1967 - 1998م) حليف أمريكا، ازداد نفوذ النصارى في البلاد، وسيطروا على الإعلام، والمرافق الحيوية في الدولة، وتدفقت على البلاد جحافل جرارة من المبشرين من أمريكا، وأستراليا، ودول أوروبا، بروتستانت وكاثوليك، ولكل طائفة منهما إذاعات ومراكز تبشيرية، وعشرات الطائرات العمـودية التي تنقلهم من جزيرة إلى جزيرة، ووسائل إعلام لا تعد ولا تحصى، وشهدت جاكرتا عام 1975م أحد مؤتمرات التنصير المهمة، الذي اشترك فيه 3000 مبشر نصراني، ولهذا ارتفعت نسبة النصارى من 3% عام 1933 إلى 9% عام 1981م، وتوجت الجمعيات التبشيرية أنشطتها في هذا البلد بفصل تيمور الشرقية عنها عام 1999م. وبعد قيام الثورة الرافضية عام 1979م كانت إندونيسيا مركزاً مهمّاً لتصدير الثورة، ويتخرج من إيران سنويّاً آلافُ الطلاب الإندونيسيين، وصار للروافض فيها جامعات، ووسائل إعلام عديدة. وسياسة التفقير مستمرة حتى اليوم، إزاء هذا الشعب المسلم الطيب، الذي يتكالب عليه الصليبيون، والهندوس، والبوذيون، والروافض، والباطنيون، واليهود، والعلمانيون، بصورة أشد مما كان عليه الحال في عهد الاستعمار، وتم تحطيم اقتصاد إندونيسيا، وضرب نهضتها الصناعية عام 1996م. ناهيك عن الحرب التي تُشَنُّ على الإسلام، باسم الإسلام نفسه، من قبل الصوفية القبوريين الذين يشكلون القسم الأعظم من مسلمي إندونيسيا، ويسيطر الصينيون على70% من اقتصاد البلاد، وهناك 65% من أصل 42 وحدة اقتصادية يملكها غير المسلمين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 05-12-2020, 08:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (8)

الاستعمار الإسباني للفلبين... أبعاده ونتائجه

. أحمد الظرافي

لم يكن للجزر التي تُعرَف اليوم باسم (الفلبين) اسم محدد في التاريخ القديم، بل كانت كل جـزيرة من جزرها تُعرَف باسمها الخاص، وكل ما كان يعرَف عنها أنها جزء من جزر الملايو، التي تضم حالياً إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، والفلبين، فلما احتلها الإسبان، ادعوا اكتشافها وأطلقوا عليها اسم (الفلبين) تخليداً لطاغيتهم فيليب الثاني (1566 - 1598م) الذي وقع الغزو الإسباني لهذه الجزر في عهده.

أولاً: المعلومات الطبيعية والبشرية:

الفلبين إحدى دول جنوب شرقي آسيا، وهي عبارة عن أرخبيل من الجزر يقع في أقصى الجزء الغربي من المحيط الهادي، ويحدها من الشمال والغرب بحر الصين الجنوبي، ومن الشرق المحيط الهادي، ومن الجنوب بحر سيليبس، وتقترب أطرافها الجنوبية من جزر إندونيسيا. وتتكون الفلبين من 7.100 جزيرة، منها 200 جزيرة مأهولة بالسكان، وهي تتوزع على أربع مجموعات جزرية، هي لوزون في الشمال، وفيسايان في الوسط، ومينداناو في الجنوب، وصولو في الجنوب الغربي، إضافة إلى بالاون في الغـرب، وتمثل جزيرتا لوزون، ومينداناو، أكبر جزر هذا الأرخبيل، إذ تشغلان معاً ثلثي مساحة البلاد البالغة 300 ألف كم2، ويتركز فيهما ثلثا السكان البالغ عددهم حالياً 105 مليون نسمة، منهم 80% كاثوليك، إلى جانب أقليات نصرانية أخرى أهمها البروتستانت، بجانب البوذيين والوثنيين، أما نسبة المسلمين فتبلغ 11%، يتركز معظمهم في جزيرتي مينداناو، وصولو، ويطلق عليهم اسم «المورو»، وهو الاسم الذي كان يطلقه الإسبان على العرب المسلمين في الأندلس ويشتهر المسلمون (المورو) بشجاعتهم الفائقة، إلى جانب شهرتهم كبحارة وصيادين نشطين، حتى أن القوى الاستعمارية الصليبية، وبخاصة الإسبان، والأمريكيين، عجزوا عن إخضاعهم، وما يزالون قابضين على دينهم كالقابض على الجمر، ولم يكفُّوا عن حمل السلاح دفاعاً عن دينهم وهويتهم حتى اليوم. واللغتان الرسميتان في الفلبين حالياً هما (التاغلوغية)، والإنجليزية، وهناك بجانبهما حوالي 150 لهجة منتشرة في أرجاء البلاد، أما المسلمون المورو فيتحدث معظمهم لغة «المارتاو»، التي تكتب حروفها بالعربية، وتحتوي على كلمات عربية عديدة. وأهم حِرَف سكان الفلبين، هي الزراعة، وصيد الأسماك، وتربية الدواجن والحيوانات، وصناعة قطع الأخشاب، وأهم المحاصيل الزراعية هي الأرز، وجوز الهند، والذرة، والأناناس، والمانجو، والموز، والبن.


وتعتبر جزيرة مينـداناو، التي يقطنها المسلمون، ثاني أكبر جزر الفلبين بعد لوزون، وهي أغنى الجزر قاطبة، حيث تزخر أرضها بأنواع متعدة من المعادن، كالحديد، والنيكل، والنحاس، والفضة، والذهب، والفحم والنفط... هذا إلى جانب غناها بالثروات الزراعية كالأناناس، والقمـح، وجوز الهند، والكاكاو، والقنب، كما أنها تحتوي على مجموعة وافرة من الأنهار، والبحيرات، والشلالات، والغـابات، والأحراش، والجبال، وأكبر مدنها (دافو)، وهي ذات أغلبية مسلمة.

أما ميناؤها الرئيسي، فهو مدينة (زامبونجا) التي كانت تدعى أيضاً (جامبانجا)، وتعني في اللغة الملاوية (أرض الزهور)، حيث تزخر المنطقة بأنواع من النباتات ذات الأزهار متعددة الألوان والأشكال، بالإضافة إلى الأصداف رائعة الألوان والأشكال، وكانت هذه المدينة قبل تغلُّب الإسبان عليها مدينة إسلامية، وكانت ميناءً مهماً يربط جزر الفلبين ببقية جزر الملايو، وبأنحاء القارة الآسيوية، وهي حالياً ذات أغلبية كاثوليكية؛ وذلك بعد أن تكالبت عليها حملات التبشير الإسبانية على مدى أكثر من 350 عاماً، ولتعرضها أيضاً للزحف النصراني المنظم من الشمال والوسط أثناء الاحتلال الأمريكي وبعده، فضلاً عن اضطرار سكانها المسلمين للنزوح منها إلى الأدغال والجبال هرباً من البطش، والتنكيل، والاضطهاد، من قبل الإسبان، والأمريكان، والقوات الحكومية، حيث غدت تلك الأدغال والجبال مراكز للجهاد ضد الغزاة أعداء الإسلام، وللحفاظ على الهوية.

ثانياً: تاريخ الإسلام في الفلبين:

تختلف الروايات حـول تاريخ وصول الإسلام إلى جزر الفلبين، غير أنه يمكن القول: إن الإسلام انتشر في هذه الجزر، في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وبصورة متزامنة مع انتشاره في جزر الملايو، ويقال بأن الإسلام وصل الفلبين عبر شيخ عربي يدعى (كريم المخدوم)، كان يمارس التجارة والطب، وأيضاً عبر أمير ملايو يدعى (الراجا باجونيدا)، الذي كان أميراً لبلدة (منيانجكابو) في وسط جزيرة سومطرة، ومن اسم تلك البلدة جاءت تسمية جزيرة (مينداناو) وطن المسلمين المورو اليوم. وكانت أول جزيرة يغلب على أهلها الإسلام في أرخبيل الفلبين، هي جزيرة صولو، حيث ظل الإسلام ينتشر بصورة طبيعية، وبطريقة سلمية، وعن طريق الدعوة والإقناع، والقدوة، والمعاملة الحسنة، واختلاط الدعاة والتجار العرب بالسكان المحليين والتزوج منهم، وقد وجد الإسلام إقبالاً واسعاً في جزيرتَي صولو ومينداناو وبقية جزر الجنوب التي يغلب فيها الجنس الملايو المائل بطبعه للإسلام، وأما في جزر الوسط والشمال، فلم يكن انتشار الإسلام فيها على نطاق واسع، إلا في مطلع القرن الساس عشر؛ وذلك ردُّ فعل على الغزو البرتغالي لجزر الملايو، ذلك الغزو الصليبي الذي كان شديد العداء للإسلام وأهله، والذي استطاع القضاء على سلطنة ملقة الإسلامية الصاعدة سنة 1511م. فقد كانت هذه الجزيرة نقطـة التقاء للتجار والدعاة المسلمين من كل مكان، وبعد سقوطها في أيدي البرتغاليين تفرق أولئك الدعاة والتجار في مختلف جزر المنطقة، ومنها جزر الفلبين، ونشطوا في الدعوة إلى الإسلام بمن لحق بهم من دعاة من أهل التصوف وغيرهم من اليمن والحجاز والعراق وجزر الملايو، على اعتبار أن نشر الإسلام بجانب الجهـاد بالسيف والسنان، من أهم الوسائل للتصدي لأولئك الغزاة الصليبيين، الذين كان هدفهـم الرئيـس، هو سحق المسلمين أينما كانوا، أو إخراجهم من عقيدتهم وتحويلهم إلى عبيد، وفي غضون ذلك نزلت طائفة من الدعاة المسلمين في جزيرة لوزون في الشمال، وتولت نشر الإسلام هناك، ولم يلبث المسلمون أن صاروا هم حكام هذه الجزيرة، ثم جاءت حملة ماجلان الإسبانية سنة 1521م، لتعزز من انتشار الدعوة الإسلامية في المنطقة، ومن سيطرة المسلمين على بقية الجزر. وقبل الغزو الإسباني الحقيقي لهذه الجزر سنة 1565م، كان الإسلام قد توطدت أركانه في هذه البلاد، وبخاصة في الجزر الجنوبية كجزر صولو ومينداناو، كما كان قد انتشر في جزيرة لوزون أكبـر جزر الأرخبيل في الشمال. وعلى إثر ذلك امتدت سيطرة السلطنات والإمارات الإسلامية على سائر أرجاء البلاد، رغم بقاء كثير من السكان في جزر الشمال والوسط على وثنيتهم، ومن أهم تلك السلطنات: سلطنة صولو في جزيرة صولو، التي ظهرت عام 1450م، واستمرت حتى عام 1519م. وسلطنة مينداناو في جزيرة مينـداناو التي ظهرت عام 1520م. وسلطنة راجا سليمان في جزيرة لوزون في الشمال، والتي ظهرت في مطلع القرن السادس عشر، وعاصمتها أمان الله (مانيلا)... هذا بجانب إمارات إسلامية صغيرة هنا وهناك، تدور في فلك تلك الإمارات الإسلامية الكبيرة، أو مستقلة عنها.

ثالثاً: الاحتلال الإسباني للفلبين:

وصل ماجلان (1480 - 1521م) الرحالة والمبشِّر الصليبي الإسباني برتغالي الأصل، إلى جزيرة سيبو بوسط الفلبين الشرقي في مارس 1521م، بعد رحلة بحرية طويلة استغرقت 19 شهراً قادمة من إسبانيا، واستطاع أن يوقِّع حلفاً مع سلطان تلك الجزيرة، وأن يدخلَه في النصرانية بعد أن كان وثنياً، ولكن ماجلان لم يلبث أن لقي مصرعه عندما حاول غزو جزيرة ماكتان المحاذية لجزيرة سيبو، وأعلن عن نيته في تنصير أهلها المسلمين بالقوة، فقد أَنِف أميرها المسلم (لابو لابو) من ذلك، وتصـدى بحزم ورجولة لمخطط ماجلان التنصيري وقتله في معركة جرت بينهما في ساحل تلك الجزيرة، ونتيجـة لذلك فقـد هرب بقية رفاق ماجلان، وعادوا إلى إسبانيا مهزومين خائبين، ومع ذلك فقد تواصلت حملات الإسبان على جزر الفلبين، ووصلت إحداها إلى ساحل جزيرة مينداناو، فأباد المسلمون جميع أفرادها، حتى نجح القائد العسكري الإسباني (ليجازبي) في الوصول إلى جزيرة سيبو، في إبريل 1565م، حيث شيَّد فيها قلعة حصينة لحماية الجنود الإسبان من هجمات المسلمين، ولكي تكون منطلقاً لإخضاع بقية الجزيرة وما حولها، ثم لم يلبث أن انطلق منها نحو الشمال حيث الكثافة العددية للوثنيين، ومع توالي الحملات من إسبانيا، والتحالف مع رؤساء القبائل الوثنية، واستغلال الخلافات بين الأمراء المسلمين، تمكن الإسبان بعد معارك ضارية من القضاء على سلطنة (راجا سليمان) والسيطرة على عاصمتها (أمان الله)، التي حُرِّف اسمها إلى مانيلا بعد أن نقل ليجازبي مقره إليها وجعلها قاعدة للحكم الإسباني سنة 1571م، ومن خلالها استطاع الإسبان أن يبسطوا سيطرتهم على ما تبقى من جزيرة لوزون. لكن المقاومة الإسلامية لم تلبث أن تجددت ضدهم، بعد أن التأم شمل أمراء المسلمين من جديد، ووصلهم الدعم من جزيرة بورنيو، ولم تتوقف هذه المقاومة إلا بعد غزو الإسبان لتلك الجزيرة، وتقويض سيطرتها السياسية والتجارية على شمال الفلبين. وعند ذلك أخذ الإسبان يعززون وجودهم السياسي والديني، في أرجاء تلك الجزر التي انتشرت فيها أيضاً اللغة الإسبانية مع تعليم الإنجيل، وأخذ الفلبينيون يقلدون الإسبان في ملابسهم، وطعامهم، وعاداتهم، وأسلوب حياتهم، كما سيطر الإسبان على الثروة الزراعية في البلاد؛ إذ جلبوا معهم من أمريكا اللاتينية زراعة البطاطا، والتبغ، والذرة... وغيرها، وأجبروا السكان على زراعتها بجانب زراعـة أنواع عديدة من محاصيل وفاكهة المنطقة الاستوائية، وبخاصة جوز الهند، وقصب السكر، اللتين تحوَّلت زراعة كلٍّ منهما إلى محصول اقتصادي لا يستهلك جميعه في داخل البلاد، وأصبحت الفلبين في أخريات العهد الإسباني من أهم مراكز تصدير السكر في العالم، وكان الإسبان يطمعون أن يجدوا التوابل بجُزر الفلبين، فلما لم يتحقق لهم هذا الحلم حاولوا زراعتها اقتصادياً في جزيرة مينداناو كون أرضها كانت هي الوحيدة التي تصلح لمثل هذه الزراعة، ولكنَّ أهلها المسلمين تصدوا لهم وحالوا بينهم وبين ذلك، وظلت هذه الجزيرة بجانب جزيرة صولو قلعتين إسلاميتين حصينتين، وعصيتين على السقوط في أيدي الإسبان؛ بل بقيت كل منهما خنجراً في ظهورهم حتى آخر لحظة من وجودهم.

رابعاً: جهود الإسبان لتنصير سكان الفلبين:

لم يكن الغزو الإسباني لجزر الفلبين غزواً عسكرياً فقط؛ بل كان غزواً دينياً أيضاً؛ بل إن الباعث الديني كان هو الباعث الأول لركوب مخاطر المحيطات الغامضة، والإبحار الطويل نحو الشرق من قِبَل الأوروبيين، حتى أنه يمكن القول: إن الغزو العسكري لم يكن إلا لخدمة الغزو الديني، بدليل أن إسبانيا التي كانت تعتبر نفسها وقتذاك حاميةَ حمى النصرانية، وصاحبة رسالة مقدسة لنشرها في العالم، استمرت في محاولاتها للسيطرة على جزر الفلبين، رغم تحقق المستكشفين الإسبان الأوائل من عـدم وجود التـوابل أو الذهب في أرضها. وتحقيقاً لهذه الغاية فقد صاحب حملة (ليجازبي) المذكورة على الفلبين خمسة من الرهبان المتحمسين لسحق (طائفة محمد)، وبدؤوا التبشير بالكاثوليكية في جزيرة (سيبو) وفي غيرها من الجزر. وبعد أن تمكن الإسبان من إخضاع شمال البلاد ووسطها لسيطرتهم (جزيرتي لوزون وفيسايان)، توافدت البعثات التنصيرية إليها بكثافة، وأقيمت الكنائس في العاصمة ومدن الأقاليم، وانتشرت الأبرشيات في مختلف تلك الجزر، وأعلن رجال الدين الإسبان سياسة أحادية مفادها: القتل أو التنصر، ونتيجة لذلك مال غالبية الوثنين إلى التنصر؛ لكن اعتناقهم لهذه العقيدة ظل لفترة طويلة من غير فهم أو إيمان، ولم يكن ذلك يهم الكنيسة كثيراً، بقدر ما كان يهمها ضمان عدم تحولهم إلى الإسلام عدوِّها الإستراتيجي والأزلي اللدود. بَيْد أن الكنيسة تمكنت عن طريق غسل أدمغة الأطفال في مدارسها التبشيرية، وأيضا عن طريق اكتساب النساء الفلبينيات للنصرانية، أن تحقق النجاح المطلوب. فقد كان لهؤلاء النساء دور ملحوظ في تقـريب النصرانية إلى أهالي البلاد، نظراً لمتانة وعمق الروابط العائلية بين الأسر الفلبينية واتساعها، كما كان لهن تأثير بالغ على البراعم الصغيرة، ومما ساعد على انتشار النصرانية أيضاً استخدام المبشرين لوسائل الدجل والشعوذة، وترويجهم بأن عملية التعميد، وأداء الطقوس والشعائر الدينية، والتقرب إلى القديسين، وتقديم النذور لهم، تشفي من الأمراض، ويذلل الصعوبات، ويقضي الحاجات، وكانت هذه الفكرة تلائم عقلية شعب وثني متخلف، يؤمن أفراده أساساً بالسحر، وبتأثير الأرواح والقوى الغامضة في الطبيعة، فكانت كل قرية أو مدينة في الجزر التي ثبَّت الإسبان أقدامهم فيها تحتفل سنوياً بقديسها الموكل بحمايتها، وتقيم له المهرجانات والزينـات، وما تزال هذه العادة سائدة حتى اليوم. وقد عمل رجال الـدين الإسبان والسلطات الإسبانية الاستعمارية بموازاة ذلك على استئصال المسلمين من هذه الجزر، واقتلاعهم من جذورهم، وحصرهم في جزر جنوب البلاد، وبخاصة في مينداناو التـي لم تسلم هي ذاتها من حروب الإبادة الإسبانية ضد المسلمين. واقترنت تلك الأعمال الإجرامية بتطبيق الإسبان سياسة ممنهجة لإزالة ومحو جميع المساجد والمعالم الإسلامية من جزر الشمال والوسط، وذلك لقطع روابط هذه المناطق بماضيها الإسلامي الزاهر، لدرجة أنهم أحرقوا مدينة أمان الله ودمروها بالكامل، ثم أعادوا بناءها على النمط الإسباني دون أن يتركوا فيها أي مَعْلَم إسلامي، كما دَمَّروا مستوطنات المسلمين في جزيرة (مندورو) الواقعة في جنوب جزيرة لوزون، وقتلوا جميع الدعاة المسلمين في (باتنجاس) إحدى جزر الوسط، وارتكبوا من الجرائم ما لم يتصوره عقل.

خامساً: جهاد المسلمين في مينداناو ضد الإسبان:

بعد أن تمكن الإسبان من توطيد سيطرتهم الاستعمارية في جزر شمال ووسط الفلبين، تركزت قلاع الإسلام منذ ذلك الحين في المناطق الجنوبية بجزر صولو ومينداناو التي كان فيها الإسلام - وما يزال - عميق الجذور، وراسخاً رسوخ الجبال، فعندما حاول الإسبان غزو هذه الجزر ونشر عقائدهم فيها خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، اشتعلت فيها حروب المورو ضدهم، فأحرقت الأرض تحت أقدامهم، وكانت هذه الحروب نوعاً من الجهاد في سبيل الله، ولذلك عمل الإسبان الغزاة على تشويهها؛ فصوروها على أنها عدوان إسلامي يقوم به قراصنة لصوص ضد القوات الإسبانية التي جاءت لتثقيف الناس وتمدينهم وتلقينهم مبادئ الحضارة! ولما استطاع الإسبان أن يضعوا أقدامهم في مدينة (زامبونجا)، أكثر الموانئ ازدهاراً في جـزيرة مينداناو، عملوا على تنصير أهلها بالحديد والنار، ولكنهم جوبهوا بمقاومة ضارية من المسلمين، وفي عام 3561م وفدت إليها بعثة تبشيرية ضخمة، وشيدت فيها قلعة حصينة لمراقبة حركة الأساطيل الإسلامية، وليوحوا للمسلمين بأنهم باقون وعازمون على تنفيذ مخططهم التنصيري، واقتلاع الإسلام من جذوره، كما فعلوا في الأندلس. ثم تعرضت هذه القلعة إلى أعنف الهجمات من قبل البحارة المسلمين القادمين من جزر صولو، وقد اشتدت مقاومة المسلمين للإسبان وزادت عنفاً مع استمرار حملات التبشير المنظمة، واتساعها بين بعض قبائل مينداناو الوثنية، وظهور النزعة الصليبية بشكل فج من قبل الإسبان إلى جانب غطرستهم وصلفهم.

وفي أثناء حرب المسلمين الطويلة في مينداناو وصولو ضد الإسبان، ظهر من بينهم قادة وأبطال قادوا الجهاد من داخل الغابات وقمـم الجبال، دوخوا الغزاة الإسبان وهزموهم في معارك عديدة، وكبدوهم خسائر فادحة، وبثوا الرعب في قلوبهم، أولئك القادة الأبطال الذين صاروا مضرباً للأمثال وقدوة للأجيال، في التضحية والفداء، وعلى رأسهم (قدرت) المعروف بـ (نصير الدين) سلطان ماجيندناو، ذلك السلطان البطل الذي ظل يقارع الإسبان أكثر من ثلاثين عاماً، حتى قهرهم وأجبرهم على الانسحاب من قلعة (زامبونجا) الإستراتيجية التي كانت خنجـراً مسموماً في ظهر المسلمين، والاعتراف بسيادته عليها سنة 1663م (قبل أن يعودوا لاحتلالها من جديد بعد عدة عقود)، ولذلك فقد استعصت مناطق وسط مينداناو وصولو على الإسبان، وظلت تحت سيطرة أهلها المسلمين في الوقت الذي سقطت فيه جميع جزر الملايو بأيدي المستعمرين، وذلك على الرغم من الجهود المستميتة التي بذلها الإسبان لإخضاع مينداناو وصولو، لتنصير المسلمين فيهما، وحروبهم الشرسة ضدهم واستخدامهم لكل أنواع الأسلحة، وما ارتكبوه من فظائع ضدهم، وحصارهم الاقتصادي لهم؛ فقد ظلت المقاومة الإسلامية في هذه المناطق مستمرة لأكثر من ثلاثة قرون، وصَمدت ببسالة نادرة حتى نهـاية القرن التاسع عشر، عندما اضطر الإسبان للتخلي عن الفلبين نهائياً وتركها للأمريكيين، كما صمدوا بعد ذلك في مقاومة الأمريكيين، ثم في وجه جيش النظام الوطني، والعصابات النصرانية، بما تحصل عليه من دعم صليبي غير محدود. ولكنهم - أي المسلمين - ما يزالون حتى اليوم عرضة لأخطار المنصرين[1] والذوبان في جحافل النصارى المهاجـرين إلى مناطقهم، وبخاصة مع ما هم فيه من فقر، وحرمان، واضطهاد، وجهل بأمور الدين.

سادساً: نهاية الاحتلال الإسباني للفلبين:

على الرغم من نجاح الإسبان الكبير في تنصير غالبية الشعب الفلبيني، إلا أنهم لم يتخلوا عن عنصريتهم تجاهه؛ فقد استمروا يحكمونه بالحديد والنار، وكانت تلك السياسة العنصرية مطبقة حتى على مستوى الكنيسة الكاثوليكية؛ فقد ظلت هذه الكنيسة تحت هيمنة الكهنة الإسبان وحدهم، وليس ذلك فحسب؛ فقد فرض رجال الدين الإسبان أنفسهم على الشعب الفلبيني المغلوب على أمره، كخبراء زراعيين إلى جانب مهنتهم التبشيرية، ولم يتورعوا عن استغلال واستعباد أولئك الفلاحين، وامتصاص جهدهم وعرقهم، وتسخيرهم وأرضهم لخدمة مصالحهم واقتصاد بلدهم، رغم أنهم من بني دينهم، وقد أدت هذه السياسة إلى سيطرة الكنيسة الكاثوليكية في الفلبين على إقطاعيات زراعية واسعة، وإلى تركُّز ثروات طائلة في إيدي رجال الدين الإسبان، واستفحال سلطانهم في الجزر حتى أصبحوا هم الحكام الحقيقيين، وتحولوا من حُماة للشعب في وجه الطغمة الحاكمة إلى عبء عليه، وسوط عذاب مسلط ضده، الأمر الذي أدى إلى استياء الكهنة والمفكـرين الفلبينيين، وقد تطور ذلك الاستياء إلى المطالبة بالاستقلال في نهاية القرن التاسع عشر، بعد استقلال العديد من دول أمريكا اللاتينية عن الإسبان، وإلى اشتعال الثورة المسلحة ضد الإسبان بدعم من الأمريكان، الذين كانوا قد انخرطوا في عملية الحدِّ من النفوذ الإسباني في الأمريكيتين، وأعالي البحار، وهي الثورة التي أجبرت الحاكم الإسباني العام في الفلبين على الفرار إلى هونغ كونغ عام 1895م، وأدت إلى تدمير الأسطول الإسباني في خليج مانيلا. ولكن إسبانيا، التي ظلت تمتص جهد هذا الشعب الفقير وعرقه لعدة قرون، تركته فريسة سهلة للأمريكان، وذلك بعد أن قبضت الثمن منهم، وهو مبلغ 5 ملايين دولار أمريكي، وكأنها ضيعة ورثوها عن آبائهم، وكأن شعبها عبيد أو بهائم في تلك الضيعة، وكان ذلك وَفْقاً لاتفاقية باريس عام 1898م التي أنهت الحرب الأمريكية الإسبانية، وأفسحت الطريق أمام مالك (محتلٍّ) جديد للبلاد والعباد، هو الاحتلال الأمريكي (البروتستانتي)، وكانت تلك الصفقة من قبيل (بيع من لا يملك لمن لا يستحق)، كما باع الإنجليز فلسطين لليهود بعد ذلك بقليل، لأن أغلب جزيرتَي مينداناو وصولو، أي حوالي 40% من مساحة البلاد لم تكن تحت سيطرة الإسبان؛ وإنما كانت تحت سيطرة أهلها المسلمين الذين لم يخضعوا يوماً للإسبان، ولم يعترفوا بالاسم الذي أطلقوه على الجزر قاطبة وهو (الفلبين). ومهما كان من أمر فإن تلك الصفقة إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن التنصير ليس سوى وسيلة لقطع الطريق على الإسلام، ومنعه من الانتشار في أوساط الشعوب الوثنية، ولهذا لم يجد الإسبان الكاثوليك غضاضة في بيع الفلبين أرضاً وشعباً لأعدائهم الأمريكيين (البروتستانت) بذلك الثمن البخس، وذلك بعد أن استعمروها مدة ثلاثة قرون ونصف القرن، نجحوا خلالها في مهمتهم التنصيرية، وفي الحد من انتشار الإسلام في البلاد، والحيلولة دون تمدده وانتشاره إلى الجزر الشمالية التي كانت - وما تزال - تعج بالشعوب الوثنية، كجزر تايوان، وجزر اليابان، وجزر كوريا، والتي كان في طريقه إليها انطـلاقاً مـن شـمال الفلبـين، وبخاصـة تايوان، والتي لا تبعد عن جزر شمال الفلبين سوى 175 كم.













[1] وهذا إلى جانب خطر التشيع، وهو ما تقوم بها إيران منذ قيام ثورتها الرافضية عام 1979م، استغلالاً لمأساة المسلمين، وأحوالهم البائسة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 05-12-2020, 08:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: صفحات من الاستعمار ------------متجدد

صفحات من الاستعمار (9)

بعض ملامح السياسة الاستعمارية الإسبانية في المجال الثقافي

د. أحمد سوالم

لم يهدف الاستعمار الإسباني في المغرب إلى تحقيق غايات اقتصاديـة فقط، بل تعـدَّ ذلك لمشروع استعماري متكامل الأركان في إطار هيمنة الغرب على الشرق، فكانت الثقافة والهوية محور الصراع؛ إذ سعى لمحو وإقصاء الثقافة الوطنية وإحلال المشروع الثقافي الاستعماري متعدد الأشكال والأهداف.


والحديث عن السياسة الثقافية للاستعمار الإسباني بالمنطقة الخليفية[1]، يدفعنا إلى التطرق لركن أساسي من أركان تثبيتها وهو التعليم، فسياسته التعليمية منذ احتلاله للبلاد لم تكن واضحة المعالم مثل الحماية الفرنسية بالمغرب، لكون الهدف في البداية كان تهدئة المنطقة وتثبيت الوجود خصوصاً مع المقاومة الشرسة لسكان الريف وباقي مناطق الشمال، وهنا نستحضر المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي[2] وانتصاره في معركة أنوال سنة 1921م.

عمد المستعمر الإسباني في مجال التعليم إلى إنشاء ثلاثة نماذج من المدارس، هي:

- المدرسة الإسبانية لأبناء المستعمر.

- المدرسة الإسبانية اليهودية المخصصة لليهود في الشمال.

- المدرسة الإسبانية العربية المخصصة لأبناء الأهالي.

نلاحظ تباين وتعدد المدارس، وهو انعكاس لاختلاف وتنوع التعليم المقدم لكل طائفـة وتعبير عن تنوع المجتمع وتعدد قومياته المتعايشة إلا أن هذه الأصناف التعليمية، لم تكن متعادلة القيمة، ومتكافئة في ضمان المستقبل الفردي، وتحقيق الارتقاء الاجتماعي؛ وهو ما جعل التعليم الإسباني في المنطقة الخليفية ينقسم لشبكتين مختلفتين: الأولى، تستوعب الأوروبيين واليهود. والثانية، مخصصة للأهالي، ليصبح المجتمع مجتمعين متباينين: مجتمع الأوروبيين واليهود يتمتع أبناؤه بتعليم عصري ملائم، يضمن أفاقاً مستقبلية واسعة ورحبة، ومجتمع العرب المسلمين، يعاني أبناؤه من التضييق، ويقدّم لهم تعليم مختلف آفاقه محدودة، وهو ما يعكس التمييز في التعليم بالمغرب خلال الحماية الإسبانية.

أما من حيث برامج هذه المدارس، فهي تعلي من ثقافة ولغة وحضارة الآخر (المستعمر) وتحط من لغة الأهالي وحضارتهم، وتركز على الطمس التدريجي لمعالم الثقافة والحضارة الوطنية والإسلامية، وتعويضها بفكر المستعمر الدخيل في إطار سياسة الاحتواء، وهو ما عبَّر عنه الفقيه محمد داود[3] بقوله: «... ولاحظت أن الإسبانيين في شمال المغرب - كالفرنسيين في جنوبه - يفتحون المدارس في وجوه أبناء المغرب، ولكنهم يضعون لها برامج مليئة بلغتهم الأجنبية، يلقنون بها تاريخهم وآدابهم ويبثون في أذهان طلابنا ما يملأ قلوبهم تعظيماً وإجلالاً لعظمة الدولة الحامية، وإهمالاً واختصاراً لتاريخ المغرب وماضيه المجيد، ولم يكن لديننا ولغتنا في مناهج تلك المدارس إلا النزر اليسير، بل لم يكن فيها إلا ما هو ذر للرماد في العيون»[4].

فإلى حدود سنة1936 م، لم تكن السياسة التعليمية الإسبانية واضحة المعالم، وهو ما عبَّر عنه أحمد بوجداد بقوله: «... لم يكن لدى إدارة الحماية تصور متكامل ولو نسبياً حول مسألة التعليم المغربي؛ فالإجراءات والمبادرات المتخذة والمؤسسات والأجهزة المحدثة كانت أحياناً متفرقة وأحياناً أخرى متداخلة؛ فقطاع التعليم اعتبر مجرد مصلحة من مصالح مديريتها المكلفة بإدارة شؤون الأهالي والاستعلامات العامة»[5].

ومردُّ هذا الارتباك لعدة عوامل، أهمها:

مواجهة الاستعمار الإسباني لمقاومة شرسة من قبل المغاربة، ومن ثَمَّ كان همه في بداية الاحتلال هو ضمان تهدئة المنطقة.

غياب رؤية سياسية وبرنامج محدد الأهداف؛ فالسياسات الإسبانية تتغير بتغير المندوبين الساميين، وذلك مردُّه لكون حصول إسبانيا على المغرب لم يكن بمجهود عسكري أو دبلومسي؛ وإنما نتيجة للاتفاق الودي الإنجليزي - الفرنسي.

ضعف الإمكانيات المادية للاستعمار الإسباني؛ فهو لم يكن مدعوماً برجال الأعمال والمؤسسات البنكية، الذين لعبـوا دوراً مهماً في الاحتلال الفرنسي للمغرب، ومن ثَمَّ عدم الانسجام بين رجال المال ورجال السياسة.

تعدد مراكز القرار السياسي الإسباني (التمثيلية الدبلوماسية بطنجة، والقيادة العامة للقوات الإسبانية بالعرائش، والإقامة العامة بتطوان)، وهو ما خلق تداخلاً وتضارباً في القرارات والتوجهات السياسية.

لكن بعد سنة 1936م، بدأت تظهر ملامح السياسة الإسبانية في مجال التعليم؛ إذ قامت بإصدار مرسوم 29 يناير 1937م لضمان مراقبته والتحكم فيه نظراً للتخوف من طابعه الثقافي، كما قامت بالفصل بين التعليم المغربي والإسباني، وأحـدثت إدارة مركزيـة أصبحت تعرف بمديرية التعليم المغربي والتي ستتحول لوزارة التعليم العمـومي سنة1946 م «واهتمت بقضايا التعليـم مثـل: التعليم القرآني والتعليم الابتدائي وإنشاء بعض المعاهد الدينية»[6].

إلا أن الخلاصة الأساسية حول السياسة التعليمية الإسبانية بشمال المغرب؛ أنها اتسمت بكونها تجهيلية! ويتضح ذلك في محدودية تعميم التعليم على الأهالي، لكون هدف المدرسة الاستعمارية، ليس نشر الوعي بين السكان؛ وإنما استغلالها لإغراض تخدم مصالح إسبانيا، فإلى حدود سنة 1956م التي تمثل سنة استقلال المغرب كانت نسبة الأميين تفـوق ما كانت عليه قبل الحمـاية سنة1912 م، حيث تجاوزت 95% من السكان، وعدد المغاربة الذين يتابعون دراستهم في البكالوريا لا يتعدى 21 مغربياً جلُّهم من أبناء البرجوازية المغربية المتعاملة مع الاستعمار[7]. فالإحصائيات الرسمية بعد نهاية الحماية الإسبانية، تحدثت عن 204 مدارس ابتدائية، فيها 568 قسماً يعمل فيه 136 معلماً ومعلمة مغربية، و 213 مدرساً و 26 معلمة خياطة و 50 مساعداً، ويتعلم في هذه المدارس حوالي 19555 تلميذاً و 7144 تلميذة.

وإجمالاً، فإن الإحصاءات المدرسية بتاريخ 31 مارس 1955م، كانت 96.229 تلميذاً و 84.773 تلميذة وحوالي 120.000 من الجنسين خارج المدرسة،[8] وهو ما يعكس محدودية العرض التعليمي للحماية الإسبانية بالمغرب.

فهذه المحدودية في استيعاب المتعلمين تجد لها سندها؛ فميزانية التعليم في المنطقة الخليفية مثلاً سنة 1956م كانت لا تتجاوز 21118 بسيطة[9]، وهو رقم بسيط لا يمكن من خلاله تحقيق سياسة تعليمية قادرة على إخراج المغاربة من براثن الجهل والأمية.

كما أسست إسبانيا معهد فرانكو لتحقيق غاياتها الاستعمارية في المجال الثقافي، كما كان يقوم كذلك بالبحث عن المخطوطات العربية الموجودة في المنطقة، عبر التنقيب عن الكتب المخطوطة القديمة بمساعدة المراقبين وأرباب السلطة فعثر على مخطوطات هامة تولى تحقيقها وإخراجها.

خلاصة القول: لقد استهدفت السياسة الثقافية الإسبانية بشمال المغرب لغة المغاربة وقيمهم الدينية، وهدفت لنشر الجهل والأمية بين صفوفهم، وهو ما حدا برجالات الحركة الوطنية في المنطقة الخليفية إلى مقاومتها عبر تأسيس الصحف والمجلات لنشر القيم الوطنية والإسلامية والدعوة لمقاومة الاستعمار، كما أحدثت المدارس الوطنية الحرة تحصيناً للغة العربية كلغة تعليم ولتنشئة الشباب المغربي على القيم الإسلامية السمحة وقيم الوطنية الصادقة الرافضة للاستعمار بكافة أشكاله.











[1] المنطقة الخليفية: هي منطقة النفوذ الإسباني بالمغرب خلال الحقبة الاستعمارية، وتشمل أقصى شمال المغرب ومناطق طرفاية سيدي إيفني والساقية الحمراء ووادي الذهب.

[2] محمد بن عبد الكريم الخطائي: قائد المقاومة في منطقة الريف بالمغرب، استطاع هزيمة القوات الإسبانية في معركة أنوال يوم22 يوليو 1921 م، تحالفت للقضاء على مقاومته إسبانيا وفرنسا مستعملتان الغازات السامة. وهو ما دفعه للاستسلام سنة 1926م حفظاً لأرواح مناصريه، وتم نفيه لجزيرة لارينيون حيث قضى عشرون سنة بعدها استقر بمصر حيث ساهم في حركات التحرر المغاربي من خلال لجنة المغرب العربي. توفي في 6 فبراير1963 م.

[3] محمد داود: من رجالات الحركة الوطنية بشمال المغرب، وهو مؤرخ وأديب وأستاذ له مجموعة من الكتب أهمها موسوعته «تاريخ تطوان» في خمسة عشر مجلداً طبعت منها تسعة مجلدات.

[4] حسناء محمد داود، الأستاذ محمد داود في ميدان التعليم ضمن (حمد داود الحركة الوطنية في الشمال والمسألة الثقافية)، منشورات اتحاد كتاب المغرب سلسلة الندوات 1990 /2، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1990، ص 54.

[5] أحمد بوجداد، السياسة التعليمية للحماية الإسبانية بالمنطقة الخليفية سابقاً، أطروحة دكتوراه في القانون العام إشراف عبد الله ساعف، مرقونة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط، 1992/5/4، الجزء الأول، ص120.

[6] علي بولربح، الخطاب الاستعماري حول شمال المغرب (1956 - 1850م)، مجلة المناهل، عدد مزدوج 90/89 ، يونيو 2011م، ص 102 - 101 .

[7] ميكل مرتين، الاستعمار الإسباني في المغرب 1956 - 1860م، ترجمة عبد العزيز الوديي، منشورات التل، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط، 1988 ، ص10.

[8] دعوة الحق، الثقافة العربية المعاصرة في شمال المملكة المغربية (5)، مجلة دعوة الحق، العدد 163 متاح على الرابط:


https://2u.pw/zvc33


تاريخ الزيارة: 2020/2/12

[9] مرتين، مرجع سابق، ص 10 . والبسيطة: هي البسيطة الحسنية، اسم للعملة المغربية القديمة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 261.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 255.59 كيلو بايت... تم توفير 5.57 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]