التحليق في سماء المصدر الرباعي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11943 - عددالزوار : 191457 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 579 - عددالزوار : 92950 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 118 - عددالزوار : 56999 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 81 - عددالزوار : 26305 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 35 - عددالزوار : 745 )           »          كلام جرايد د حسام عقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 17 - عددالزوار : 41 )           »          تأمل في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          بيان معجزة القرآن بعظيم أثره وتنوع أدلته وهداياته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النحو وأصوله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-04-2021, 02:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,678
الدولة : Egypt
افتراضي التحليق في سماء المصدر الرباعي

التحليق في سماء المصدر الرباعي












إبداع (1)




محمد صادق عبدالعال












تعاريف واستفسارات:

إنَّ سماوات الإبداع المفتوحة لَتوحي للكثير والكثيرِ من الكتَّاب على اختلاف الأجناس والأشكال الأدبيَّة بالإبداع متى توافرَت فيهم المقومات وتوفَّرَت لديهم العوامل؛ والعبقريُّ هو مَن يستقلُّ بساطَ الريح عابرًا مجال سماواتِ الإبداع بحبٍّ وإخلاص؛ فتكشف له عن مواقع نجومها اللامعات وإن انتثرَت أو اختبأَت بين طيَّات السحاب.



فهلمَّ إلينا نحلِّق سويًّا في تلك السماء ونُعَرِّج طويلاً حتى يُتاح لنا جَواز اجتياز مناطِق على خطرٍ عظيم من الإبداع، فساعتها يقال: (أبدع حين قال).



نسمعها كثيرًا، وربَّما نردِّدها لكلِّ آتٍ بالجديد من الصور والمحسِّنات البديعيَّة وحسن التوظيف لها؛ ومن الخطأ الكبير أن نقول: مبدع دائمًا - فهذا محال، فما من مبدعٍ على الإطلاق سوى الله بديع السماوات والأرض!



والإبداع قضيَّة خطيرة لها مقوماتٌ وأسباب ودوافع، لا يستطيع كائنٌ من كان أن يستحوذ عليها أو يَحتكرها أو أن يقول: أنا مبدعكم الأمثل في أي جنس أدبيٍّ بعينه، أو في مجال سرديٍّ أو نَثري؛ لأنَّ الإبداع حالة أو نوبة تعتري الكاتب في لحظة يكون قد فَرَّغ عقلَه وفِكرَه ووجدانَه ممَّا يعوق ويعترض سيرَ الفكرة الجديدة؛ لتجري على أمِّ رأسه جريان الماء الهادِر في الجداول العطاش من زمن، فتنحَت وتشكِّل وتصنع مخارِجَ ومداخل لها أبعاد إنسانيَّة ونفسيَّة وكل ما يتوجَّب الوقوف أمامه بتمعُّنٍ وافتِخار.



وحريٌّ بمن يقحِم نفسَه في مفردة للحديث عنها أن يكون على وَعْيٍ أو بعض إدراك ومعرفة للمصطلَح لغويًّا، من باب توعية القارئ المُحبِّ.



ففي المعجم كلمة إبداع: مصدر من الفعل أبدَعَ، فهو مبدِع.



ولقد عرَّفه البلاغيُّون وأرباب البيان بـ"اشتمال الكلام على عدَّة ضروب من البديع".



ويقال: أبدع الشاعر؛ أي: جدَّد وأتى بما لم يأتِ به غيرُه.



في رأيي المتواضع أقول بأنَّه: الإتيان بالصورة المنسيَّة أو التي لم يَنبغِ لكاتبٍ أن يأتيَ بها، فكلُّنا يرى الشمسَ والقمر والنجوم والشجر والدَّوابَّ ويرى أفعالَ الناس، لكن من يَختلق الصورةَ الجديدة هو الأولى بأن يُنعَت بأنَّه مبدِع حقًّا.



ولعلَّ خطورةَ المصطلح قد جعلَت الفلاسفةَ أنفسهم يعتنون بالمفردة ويشاركون في وضع مفهومٍ لها؛ حيث قالوا: "إيجاد الشَّيء من عدمٍ ومن المَعين الصَّافي؛ وقدوة النَّاس في الأقوال والأفعال القرآن الكريم، نجد أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد نعتَ ووصفَ ذاته التي تسامَت عن أيِّ شبيهٍ أو مثيل بـ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 117]، وجاءت نكرةً لتكون شاملةً عامَّة قاطعة لا بعده يُبدِع في خلقه، ولا قبله يناظِره صناعة الملك.



ولو أنَّ المجال أو الصَّفحات تكفى لإظهار غيض من فيض المولى بإبداعه لما تسنَّى لأوراق الدُّنيا وأشجارها وأحبارها وأقلامِها أن تفي بذلك، فسبحان من له الكمال كلُّه وكل شيء عنده بمقدار!



وسوف نخشع ساجدين أمام الذَّات العليَّة، نستلهم من كتابنا المقدَّس بعضًا من إبداع الخالِق في خلقه، ولعلَّ قوله في سورة البقرة: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ قال البغوي في تفسيره: أي: مبدعها ومنشئها من غير مثالٍ سبق، ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾ [البقرة: 117]؛ أي: قدَّره، وقيل: أحكَمَه وقدَّره، وأتقنَه، وأصل القضاء: الفراغ، ومنه قيل لمن مات: قُضي عليه؛ لفراغه من الدنيا، ومنه قضاء الله وقدره؛ لأنَّه فرغ منه تقديرًا وتدبيرًا[1].



وفسَّرها (ابن كثير) رحمه الله بقوله:

"فقرَّر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنَّه السيِّد العظيم، الذي لا نظيرَ له ولا شبيه له، وأنَّ جميع الأشياء غيره مخلوقة له مَربوبة، فكيف يكون له منها ولد؟! ولهذا قال البخاريُّ في تفسير هذه الآية من البقرة: أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبدالله بن أبي حسين، حدَّثنا نافع بن جبير - هو ابن مطعم - عن ابن عبَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: كذَّبني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك، وشتَمَني ولم يكن له ذلك؛ فأمَّا تكذيبه إيَّاي فيزعم أنِّي لا أقدر أن أعيدَه كما كان، وأمَّا شَتْمه إيَّاي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتَّخذ صاحبةً أو ولدًا))؛ [ص: 397][2].



وأيضًا في تفسير الإمام القرطبي:

"قوله تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾؛ أي: مبدِعهما، فكيف يجوز أن يكون له ولد؟! وبديع خبر ابتداء مضمَر؛ أي: هو بديع، وأجاز الكسائيُّ خفضَه على النَّعت لله عزَّ وجلَّ، ونصبه بمعنى بديعًا السماوات والأرض؛ وذا خطأ عند البصريِّين؛ لأنَّه لما مضى أنَّى يكون له ولد؛ أي: من أين يكون له ولد؟! وولَد كلِّ شيء شبيهه، ولا شبيه له[3].



وكلُّ علماء اللُّغة والفِكر والحديث والسِّيَر خاضوا في رَوعة وعظمَة الآيات، وما وصلوا قدر ما اجتهدوا؛ فالقرآن مَعِين لا ينتهي الرِّيُّ منه، وكلَّ يومٍ بل وكل لحظة يَنجلي لنا منه الجديد الذي يزيد الذين آمنوا إيمانًا والكافرين ما لهم من نصيبٍ.



وبعد تلك السُّطور ذات العَبق الطيِّب والروح والرَّيحان ومقال الأعلام من أئمة الأمَّة في شأن تفسير الآية - نعود إلى الموضوع أدبيًّا ونطلِق بعضًا من أسئلة تلحُّ على رؤوسنا ونرى الإجابة لها، لكنَّنا لا نستوعبها حقَّ الاستيعاب.



وقبل التعرُّض لأسئلةٍ توضح لنا إشكاليَّة المصطلَح، نجد أمامنا قولَ ربِّنا عزَّ وجلَّ على لسان نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأحقاف: ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 9]، فلقد تعرَّضتُ لتفسيرها من كتاب التحرير والتنوير؛ حيث قال: "والبِدْع بكَسر الباء وسكون الدال: معناه البديع؛ مثل الخِفِّ؛ يعني: الخفيف، قال امرؤ القيس [ص: 17]:

يزل الغلامُ الخِفُّ عن صَهَواتِه



ومنه: الخِلُّ بمعنى الخليل، فالبِدْع: صِفة مشبهة؛ بمعنى: البادعِ، ومن أسمائه تعالى البديع: خالِق الأشياء ومخترعها؛ فالمعنى: ما كنتُ محدِثًا شيئًا لم يكن بين الرسل، و(من) ابتدائيَّة؛ أي: ما كنتُ آتيًا منهم بديعًا غير مماثل لهم، فكما سمعتُم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إيَّاهم فكذلك أنا، فلماذا يعجبون من دَعوتي؟[4].



وبإطلالةٍ سريعة ونظرةِ عابرِ في سلسلة "كتابك / فلسفة الجمال لـ: د/ أميرة حلمي مطر جزئية الإبداع الفني" أعجبتني بعضُ السُّطور لم أجد حرجًا من أن أضعها في مقدِّمة المقال:

(ويؤكِّد المعاصرون من الفلاسفة هذا الجانِب الخاصَّ بالإبداع الفنِّي لدى الفنَّان إلى حدِّ أن عرَّف بعضهم عِلمَ الجمال بأنه: "عِلم إبداع الصُّوَر"، غير أنَّ الإبداع والخلقَ من صِفات الكمال الإلهي؛ فالله سبحانه وتعالى قد خَصَّ ذاته العالية بهاتين الصِّفتين، فهو سبحانه المبدِع المصوِّر؛ ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]".



ومن نفس المقال ولم نغادِر صفحاته تقول الكاتبة:

"إنَّ الشاعر والفنَّان هم أقرب النَّاس لله؛ ذلك بما قد أتاهما اللهُ من قدرةٍ على الخلق والإبداعِ، وكما وإلى بعض الأسئلة التي طرحتُها وأقحمتُ نفسي في الإجابة تطفُّلاً، فمن يرى فيها بعض نقصٍ فليتمَّه، ومن يرى فيها تجنٍّ فلا يلومنَّ إلا أنا.






1- هل الإبداع نِسبي أم مطلَق؟

ما من كاتبٍ واعٍ ومدرِك ودارِس بل وعاقل يستنكِف أن يقرَّ بأنَّ الإبداع نِسبي، فكما أسلَفنا في السُّطور العالية ومبتدأ الحديث أنَّ الله عزَّ وجلَّ هو من له الإبداعُ الخالِص الدَّائم، والمعترِفون بذلك قد تحرَّوا رشدًا؛ ومن يقول بغير ذلك فأولئك قد بيَّتوا نيَّةً ليسَت بالطيّبة، فلا يوجد كاتب أيًّا كان بيانه أو مكانته الأدبيَّة يمكن أن يقال عنه: إنَّه مبدع دائمًا؛ ولعلَّ المتتبِّع دراسات النَّقد لعديدٍ من العصور يَلحظ وبشكلٍ كبير أنَّ أعمالاً وكتابات قد حازَت قصب السَّبق في الإبداع في زمانها وأوانها؛ وما أن تقادَم بها العهدُ وطال عليها الأمَد حتى أوغل المحدثون من النقَّاد في إظهار عيوبِها ومناحي التَّقصير؛ إذًا الإبداع بعينِ البشَر قد يكون لهوًى أو لفترة بعينها أو مواقف، لكن الإبداع الخالِص الذي لا تشوبُه نواقِص أو تفاوت لله عزَّ وجلَّ؛ ولقد تحدَّى الله عزَّ وجلَّ أولئك المشكِّكين في إبداع الخالِق في خلقِه؛ فأمرهم بالنَّظر كرَّتين؛ أي: مرَّتين في الخلق ليُخرِجوا ما انتهى إليه فِكرهم النَّاقص في تمام الخلقِ، فرَجَعَ البصرُ بهم خاسئًا؛ أي: خائبًا، وهو حسير؛ أي: مُتعَب به إعياء؛ كما فُسِّرَت الآية من قِبل أعلام الأمَّة، فنسلم أنَّ الذي علَّم الإنسانَ الإبداعَ في أي مجال له الكمالُ كلُّه ونحن عبيدُه، ﴿ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك: 4].






2- هل الإبداع مرتبط بحالة الأديب النفسية؟

نعم؛ فالأدباء على شواكل وأصناف كثيرة؛ منهم من لا يكتب إلَّا إذا خلَت رأسُه من الهموم وجلس يحتسي القهوةَ أو الشاي ويتمعَّن ويستلذ بما يسطِّر، ومنهم من لا تأتيه الفِكرة بإبداعها وجمالها إلَّا إذا كانت حالتُه النفسيَّة ذات حزنٍ أو أسًى، يقال: أبدع وأحسَّ ما يكتب، وأغلبها يكون الإبداع ناجمًا عن تجربة ذاتيَّة صادِقة، ومنهم مَن يترك حادثات الدَّهر تمرُّ ويطلِق لنفسه جماحَ الإبداع موقنًا أنَّ الالتفات لذلك معطِّل له؛ والكُتَّاب على أشكالٍ كثيرة؛ لكن ما يعنينا القول به والتسليم أنَّ حالة الكاتِب، سواء كانت نفسيَّة وهى في المقام الأول مؤثِّرة، ثمَّ الحالة الاجتماعيَّة وربَّما السياسيَّة، وأكاد أجزم بالثانية - فإنَّ معترك الثورات في تلك الفترة الرَّاهنة مؤثِّر هامٌّ على الكتَّاب في الإبداع والتصدير، سواء بالسَّلب أو الإيجاب.






3- على من نطلق كلمة مبدع؟

بالنسبة للنصِّ الأدبي أيًّا كان أو أي جنس أدبي نقول: أبدع فلان حين قال أو حين رَسم أو حين خطَّ؛ أي: خرج عن المألوف من الصُّوَر وانتقبَ مناقِبَ جديدة ربَّما ينفذ إليها من بعده الكاتبون وبها يَحتذون، والإبداع قائم حتى قِيام الساعة؛ لأن الله عزَّ وجلَّ حين قال: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]، وقوله: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ﴾ [فصلت: 53] الآية - حثَّ ورخَّص لكم أيها الكتَّاب أن تنظروا للكون العظيم بعينٍ سامية عالِية تستشعر عظمةَ وإبداع الخالِق في خلقِه وملكِه عزَّ وجلَّ.






4- الإبداع لا حدود له؛ عبارة تثير الفِكرة، وتحتاج للتوضيح، أليس كذلك؟!

نسمع كثيرًا عن مسابقاتٍ ومناقشات ومؤتمرات تتَّخذ من العِبارة شعارًا لها: (الإبداع ليس له حدود).



نعم؛ الإبداع ليس له حدود متى سمَا وعَلا بالمبدِع، سواء الشَّاعر منهم والقاصُّ، ومن يريد أن يقتفي أثرًا لمَن سبقوه في الإبداع، فما من مطلَق لبشر، والله أعلى وأعلم، لكن الخطر يَنجم عن امتطاء صَهوة الإبداع مطلقًا لفكرته الحريَّة المفرِطة، فيقع لا محالة في المناطِق الخطرة، وأخطر المناطِق الشَّرع والثوابت من العقيدة، والتشكيك في الوحدانيَّة، عندها يقال له:

اهبط؛ فكرتك ممقُوتة وإبداعك مَردود عليك غير مقبول؛ فلنتَّق اللهَ ولا يحملنا حبُّ الظهور على مجاوزةِ تلك المناطِق أو اقتحام تلك السَّماء المحرَّمة شرعًا ودينًا.



وسبق أن أوردنا أمثلةً لا يسرُّ المرء ذكرها في مقالي فن الحكي والقصِّ، وأيضًا الفكرة ضالَّة الكاتب.



وما زال للمصدر الرُّباعي "إبداع" مقوِّمات ومعايير حُكم، وبعض أمثِلة سوف نتناولها في مقالٍ جديد إن قدَّر الله لنا حياةً، وسبحان من بيده البعث والنُّشور!





[1] تفسير البغوي؛ للإمام مُحيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي / المجلد الأول ص142 / دار طيبة للنشر والتوزيع.



[2] تفسير الإمام ابن كثير / إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي / دار طيبة.



[3] تفسير الإمام القرطبي: الجامع لأحكام القرآن؛ لأبي عبدالله بن محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي / المجلد الأول / دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.



[4] تفسير القرآن: التحرير والتنوير؛ لسماحة الشيخ الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور / ص 17 المجلد الأول، الجزء الأول / دار سحنون للطباعة والنشر والتوزيع بتونس.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-04-2021, 02:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,678
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحليق في سماء المصدر الرباعي

التحليق في سماء المصدر الرباعي
إبداع (2)




محمد صادق عبدالعال




"المقومات والمعاير"








وما زال البساط الذي عرج بنا لسماء المصدر الرباعي "إبداع" يُقلُّنا ويحلِّق بنا في عوالم المصدر السهل الممتنع، لا يَرعوي عن اختِراق العُباب والرُّباب، ومُجاوَزة المناطق الوعرة ذات القضايا المُستعرَة؛ ليردَّنا إلى البسيطة مردًّا جميلاً غير منقوص حقُّنا، ولا مقصِّرين فيما حَلَّقنا له.



فكما أن الفكرة لا تأتي ولا تتأتَّى من فراغ، ولا من عقل فارغ؛ فكذلك الإبداع الذي هو نتاج العبقرية لا يأتي مصادَفةً، وإلا سُميَ ذلك اكتشافًا، ولَسْنا بصدد الحديث عن ذلك المصدر، بل إن شغلنا الشاغل مصدرنا الرباعي "إبداع"، ولاتِّساع المصطلح وسعة صدر المصدر الرباعي؛ فإنا قد عَوَّلنا على خمسة أركان ربما كانت هي الأسسَ التي عليها - أو مِنها - ينبثق الإبداع في أي مجالٍ، ليس الإبداعَّ الأدبيَّ وحسب، بل أي مجال آخر يَشغل بال المُصلِحين.





أوَّل تلك المقومات:

1- الموهبة أو العبقريَّة:

وهي الخطوة الأولى لانبثاق وترقُّب ثمرة الإبداع، فتباشير الكتابة تظهَر مِن مجرَّد الإنصات لشاعر أو إذاعة طيبة، أو نثر جميل يَلفت انتباه الناس إليه، ويَصِفونه بالموهوب، والتقليد الذي هو أُولى عتبات الابتكار، ومِن تباشير بُشريات اكتشاف المواهب: الاهتمام الملحوظ بصنوف الثقافة.



2 - البيئة:

لا سيَّما المحفِّزة التي هيَ المَعين الأمثل للرقيِّ لرتبة مُبدِع، ومَن أنعَمَ الله عليه بوالدٍ كاتب أو أمٍّ مثقَّفة أو مُعلِّم عالم يَحتذي بهم، فيَلفِتون انتباهه إلى روائع وجمال العربية وجمال النثر والقص، وشتى الأجناس المعنيَّة بالأدب، عندها نقول المقولة الشهيرة: "هذا الشبل من ذاك الأسد"، والعكس تمامًا إذا كانت البيئة غيرَ صالِحة أو غيرَ مهيَّأة لإنتاج الأديب المبدِع، فعامل التثبيط قادم لا محالة، إلا مَن أنعم الله عليه بنعمة العزيمة وارتفاع الهمة، ولعلَّ المثال الأمثل قريشٌ التي برَع فيها جهابذة العرب مِن شعر في شتى الأغراض، وشابَ الشعراءَ هناك الخُيلاءُ والعُجب، وقالوا: إنَّا نحن مَن كتبنا الشعر، حتى أنزل القاهرُ فوق عباده كلامًا لا هو بالشعر ولا بالسحر، وما هو من كلام البشر؛ لتترسَّخ في معتقَدات المجموع: "إن الإبداع المطلق للذات العلية سبحانه وتعالى".





3 - الأدوات:

لو قلنا: "إن الحاجة أمُّ الاختراع" كما فرَضَت علينا النظريات القديمة، وهذا صحيح بالطبع؛ فالإنسان البدائي أبدعَ بأقلِّ الإمكانيات وأبسط الأدوات، فصنَع ما يَلزمه مُواكِبًا لعصرِه، حتى سرَتْ بنا الحِقَب وانطلقَتْ بنا القُرون واحدًا تِلو الآخر، حتى الهجمةِ الشرسة من صُنَّاع العَولمة وفتحِ سقوفِ وسماواتِ التبادُل الثقافي، وربما الغزو المُضمَر بين طيَّات الاطلاع، حتى صرنا إلى ما نحن فيه، وما زلنا سائرين.



أمَّا على صعيد الأدب والكتابة فليست القناعة محمودةَ المطلَب؛ إذ الكاتب في كل مجالات فنِّه مُطالَبٌ بالتبحُّر ومداهَمة الأعماق، غير مُتجانِف ولا متحيِّز لفكرٍ واحد، ويَستدعي لذلك قواميسَه التي عرَفها وما زال يطَّلع فيها، مُكوِّنًا ثَروةً لُغوية كبيرة، يستطيع أن يُركِّب العبارات حسب زمانها ووقتها ومقامها، وكذلك مُطالَب هو بثقافة في أيِّ مجال، ولو لمجرَّد المعرفة لبعض القضايا التي قد تَعترض سطور كتابته، أو يلجأ لأرباب المعرفة، فيُدرِّسون له ما تَعاظم عليه فَهمُه.



خلاصة الجزئية أن الكاتب مطالب بوفرة من اللغة، وسَعة من الألفاظ التي تسانده؛ متى أراد أن يتوكأ عليها أو يهش بها على منتقِصيه حقَّه في الإبداع والثقافة، فالقاصُّ مطالَب بتذوُّق الشِّعر، والشاعر مُطالَب بسماع القصة؛ ربَّما أوحت له بالجديد، فيَزيد على آثار ذلك كلِّه حصيلةً لغوية ومعجمًا كبيرًا.



بقيَتْ نقطتان ربما كانتا هما التَّفعيلَ للثلاثة السالفِ سَردُها، وهما:

1 - الاستعداد.

2 - الاستمرارية.



بإيجاز وإنجاز؛ فالاستعداد والاستمرارية مِن مُوجبات تمام الموهبة؛ فالموهوب في أيِّ مجال أدبي إن لم يتَعمَّق بجِدٍّ ويُنشِّط ذاكرتَه لتنمية الموهبة ضاعَتْ، ولربما اندثرَت بين طيَّات القضايا الأخرى، وأصبح طلبها ثانيةً من الصعب العسير؛ إذِ العوائق سوف تَحول، وتُقنعه شمسُه بالأفول، فينصرف ناعيًا حظَّه فيها.



وأيضًا هُما مِن مستلزمات الإبداع وتكوين الإرث الثقافي المُعتمَد لدى الناس، والاستمرارية بحقٍّ دافعٌ للنبوغ واستكمالِ سَيْرِ الأعلام من علماء الأمة في الأدب والثقافة.



هذا ما كان من مقوِّمات وعمُد الإبداع، ربما كان هناك ما لم نذكُرْه، أو ضاع من الذاكرة ذِكرُه، فجلَّ مَن لا يَنسى، وسبحان مَن كلُّ شيء عنده بمقدار.



والشيء بالشيء يُذكَر؛ فكما أنَّ للإبداع مقوِّمات وعواملَ نجاحٍ وإتقان، فكذلك (المعوِّقات) أكثر، ولا نستطيع لها حصرًا، فلربما كانت مثبِّطات نفسية لا يَعلمها إلا المبدعون أنفسُهم، وللمنظَّمات والهيئات دَور ليس باليسير في هذا المجال؛ لصناعةِ أو تفريخِ أجيالٍ تُتقن الإبداع، فيَخرج للناس في أبهى الصُّوَر، ولو أردنا أن نَنكش أو أن نَنفش في الكلام عن مثبِّطات وعوامل الإحباط للمبدع في أي مجال في وطننا العربي لَما كَفَتِ السطورُ ولا الكتب.



وإن كتَّابًا وأدباء وحفَظةً صاروا على قدرٍ عظيم بين الناس يُشار إليهم بالبَنان، يتَّخذهم الشباب المحبُّ للأدب والاطِّلاع قدوةً ومَثلاً، منهم المحفِّزون، ومنهم دون ذلك، ومنهم مَن إذا طُلب أنكَر واستنكر وقال: ما هذا كلامٌ يُكتب، إنْ هذا إلا هذَيانٌ صَغِر، وما علم أنَّه بها قد مَرَّ، ولو شاء الله لما عرج إلى مناطق الإبداع والبلاغة والبيان؛ فإنَّ مداومة الدراسة تَزيد من بهجة الحرث.



ولا نُنكر لمواقعَ وشبَكاتٍ عربيَّة كثيرة تتبنَّى الإبداعَ والمُبدِعين، وأنَّ كتَّابًا فرُّوا من قيود مؤسسات بلادهم المثبِّطة المُحبِطة إلى تلك المواقع والشبكات الطيِّبة، ولعلَّ "شبكة الألوكة" - أعزَّ الله قدر القائمين عليها جميعًا - مِن الحُفَّاظ على اللغة العربية وبهجتها، والله لا أجامل؛ فالحقُّ أحقُّ أن يُقال، جزاهم الله خيرَ الجزاء في محاربة التيار الجارف مِن نَوبة العامِّية التي اجتاحت كلَّ أركان الثقافة لتفرض نفسَها علينا، والله الغالب.



هذا ما كان من أَمر مقوِّمات وعوامل صناعة المُبدعين في المجال الأدبي، ولو قُدِّر لنا أن نُقيم عملاً أدبيًّا ليَحصُل به صاحبُه على رتبة مُبدِع فسوف نجد المعايير كثيرة لا تحصيها عينٌ واحدة ولا أذنٌ ناقِدة؛ لاختلاف الأذواق ورُؤية كلِّ مُقيِّمٍ الشخصيَّةَ والبحثيَّةَ المتنوِّعة.



ومهما ابتكر المتخصِّصون في مجالات الأدب مِن معاييرَ وعوامل تظلُّ مقوِّماتٌ ومعاييرُ أُخَر في بطن الناقد لا يُبصِرُها الكثيرون؛ وأصالةً عن نفسي أستأذنكم في اختيار عاملَين فقط ربما لا يتَّسع المجال لهم بالقَدرِ الأمثل، لكنه من باب التجريب، وإن هذين المعيارين هُما:

1- الصُّوَر والأخيلَة.

2- الإيجاز والإنجاز.



وإن كانا لكافيَينِ إلا على المُبحرين بعمقٍ في دراسات النقد، نسأل الله الذي علَّمهم أن يُعلِّمنا.



في المقال السابق كنتُ تطفَّلتُ وتجرَّأت على قارئي الكريم بالتكهُّن بتعريف الإبداع؛ ألا وهو: "الإتيان بالصورة المنسيَّة أو التي لم يَنبغ لكاتب أن يَأتي بها"، فكلُّنا يَرى الشمس والقمر والنجوم والشجر والدوابَّ، ويرى أفعال الناس، لكن مَن يَختلِق الصورة الجديدة هو الأولى بأن يُنعَت بأنه مبدع حقًّا.



ومِن هذا التعريف سوف أنطلِقُ مُنتقيًا بعض الصور - خياليةً كانت أو حسيَّة - وأستأذنُ البِساط الذي أقلَّنا أن يَجوب بي البساتينَ الزاهرة لأعلام العالم العربي والإسلامي، وسوف أختار أمثلةً من القرآن الكريم ومِن الشِّعر ومن النثر، كلاًّ على حِدة.



وخير مُبتدأ ومسك الختام كلامُ ربِّ العالمين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خَلفِه:



1- من القرآن الكريم:

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39].



وقبل أن أعقِّب أُدرج تفسير الآيات؛ حرصًا على اكتمال الرؤية للقارئ، ويفسِّرها العلامة ابن كثير إذ يقول مجتهدًا رحمه الله: "هذان مثَلان ضرَبَهما الله تعالى لنوعَيِ الكفار؛ فأمَّا الأول مِن هذين المثَلين فهو للكفار الدُّعاةِ إلى كفرهم، الذين يَحسَبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثَلُهم في ذلك كالسَّراب الذي يُرى في القيعان من الأرض مِن بُعْدٍ كأنَّه بحر طامٌّ، والقيعة جمع قاعٍ؛ كجارٍ وجيرَة، وهي الأرض المستوية المتَّسعة المنبسِطَة، وفيه يكون السَّراب، يُرى كأنه ماءٌ بين السماء والأرض، فإذا رأى السراب مَن هو مُحتاج إلى الماء - يَحسبه ماءً - قصَده ليشرب منه، فلما انتهى إليه ﴿ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ [النور: 39]، فكذلك الكافر؛ يَحسَب أنه قد عمل عملاً، وأنه قد حصَّل شيئًا، فإذا وافى الله يومَ القيامة وحاسَبَه عليها ونوقش على أفعاله لم يجِدْ له شيئًا بالكليَّة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وقال هاهنا: ﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39]، وفي الصحيحين: ((أنه يُقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عُزيرًا ابنَ الله، فيقال: كذَبتم؛ ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: يا رب عطِشْنا فاسقِنا، فيقال: ألا ترون؟ فتُمثَّل لهم النار كأنها سراب يَحْطِم بعضُها بعضًا، فيَنطلِقون فيَتهافَتون فيها...))؛ أخرجه الشيخان.



وهذا المثال مثالٌ لذَوي الجهل المركَّب، فأما أصحاب الجهل البسيط، وهم الأغشام المقلِّدون لأئمَّة الكفر، الصمِّ البكم الذين لا يَعقلون، فمَثلُهم كما قال تعالى: ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ﴾ [النور: 40]، قال قتادة: ﴿ لُجِّيٍّ ﴾ [النور: 40] هو العميق، ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ [النور: 40]؛ أي: لم يقارب رؤيتَها من شدة الظلام، فهذا مثَل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلِّد، الذي لا يَعرف حال مَن يقوده، ولا يدري أين يذهَب، بل كما يُقال في المثل للجاهل: أين تذهب؟ قال: معهم، قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري، وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما ﴿ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾ [النور: 40]؛ يعني: بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهي كقوله: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [البقرة: 7] الآية، وكقوله: ﴿ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾ [الجاثية: 23] الآية، فالكافر يتقلَّب في خمسة من الظُّلَم: فكلامه ظُلمة، وعملُه ظُلمة، ومدخلُه ظُلمة، ومخرجُه ظُلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظُّلمات إلى النار، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور ﴾ [النور: 40]؛ أي: مَن لم يهده الله فهو هالك جاهل بائر كافر؛ كقوله: ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾ [الأعراف: 186]، وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]، فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا، وعن أيماننا نورًا، وعن شمائلنا نورًا، وأن يعظِّم لنا نورًا[1].



ومن ناحيةٍ فيزيائية وطبيعية ومبسَّطة أكثرَ لكِتاب "الجلالَين" لجلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي، حيث قالا "تفسير الجلالين"؛ ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ﴾ [النور: 39]: جمع قاع - أي: في فلاة - وهو شُعاع يُرى فيها نصفُ النهار في شدَّة الحرِّ يُشبه الماء الجاريَ، ﴿ يَحْسَبُهُ ﴾ [النور: 39] يظنُّه ﴿ الظَّمْآنُ ﴾ [النور: 39]؛ أي: العطشانُ ﴿ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ [النور: 39] ممَّا حسِبَه، كذلك الكافر يَحسَب أنَّ عمَله كصِدقِه ينفعُه، حتى إذا مات وقَدِم على ربِّه لم يجد عملَه؛ أي: لم ينفَعْه، ﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ ﴾ [النور: 39]؛ أي: عند عمَلِه، ﴿ فَوَفَّاهُ حِسَابَه ﴾ [النور: 39]؛ أي: جازاه عليه في الدنيا، ﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب ﴾ [النور: 39]؛ أي: المجازاة[2].



وهنا نقف انتباهًا عاجزين صامِتين خاشعين، لكن نستلهِمُ من روعة التصوير والدلالة الرائعة والصورة الحسية والخيالية تلك في وصفٍ لم يَنبغ ولا يَنبغي لبشر أن يأتي به، إلا بتوفيق من الله بعدما سمعه، كقول الشاعر اقتباسًا؛ يقول الشيخ ناصيف اليازجيُّ في رثاء الأمير حيدر أبي اللمع واصفًا الدنيا:

هي كالسَّراب يَزيدُ مُهجةَ واردٍ ♦♦♦ ظمأً، ويملأ مُقلتَيه منظَرًا



وددتُ لو أسأل لمن يهمه الأمر، لمن يَلمزني في النقد: هل كان ينبغي لهذا الشاعر الفذِّ أن يَأتي بتلك الصورة إلا اقتباسًا من الروضة الغرَّاء والبستان العديد الثمر الذي ما عرَف الخريف له مدخلاً؟! بالطبع لا، وأنا أجزم بها؛ لأن القرآن كلام الله، وما كان له تعالى من شبيهٍ في أي شيء؛ ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وحده يضرب لنا الأمثال، ومنها نقتبس ونُبدِع.



وبنظرة فلسفيةٍ سريعة للآيات نجد الدلالة العالية والصورة الجلية في وَصْف المولى سبحانه لحال من يُعجبه كفرُه ويتَمادى ويصرُّ عليه، فكانت ظاهرة السراب أروع وأعظم مثال يَضربه الله، وبخاصة أن الإنسان لا يستطيع أن يَحيا بغير الماء، فسبحان الله العظيم!



ثم أتبعَ المولى عزَّ وجلَّ ذلك التشبيهَ الصحراويَّ القحط بآخَر من البيئة المائية؛ لتتجلَّى عظمة المصوِّر، ولعل صاحب البيئة الصحراوية تُؤثِّر فيه الآياتُ والمثال بظاهرة السراب، ومَن ببيئةٍ مائية يحسُّها؛ لكيلا يكون لعبد حُجَّة فيما نزَل وحضَّ عليه الإله.



ولو أردنا أن نُقيم في البستان إقامة دائمة نستلهِم منها، ونَجتني مِن ثماره وعظيم أشجاره لَمَا استطعنا لذلك سبيلاً؛ فلا أوراق تكفي، ولا البحار ولا الشجر.



فلنقصد رَبْوة إبداع أخرى هي مِن لدن الله قادمة، لشخصية فريدة لم تعرف الإنسانيةُ حتى اليوم موازيًا لها أو مقارنًا؛ إنه سيد البشرية ومعلِّمها الأمثل، الحاصل على أعلى وسام استحقاق وشهادة تقدير من الذات العلية؛ سيد الخلق "محمَّد" صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].



وما زلنا مع الصورة والأخيلة والتشبيه، فنقول بعد توفيقٍ مِن الله في حديثٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث النُّعمان بن بَشير من صحيح البخاري: ((مثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثَل قومٍ استهَموا على سفينةٍ، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفَلَها، فكان الذي في أسفلها إذا استقَوا مِن الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرَقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا؟ فإن ترَكوهم وما أرادُوا هلَكوا، وهلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا، ونجَوا جميعًا))؛ رواه البخاري عن النعمان بن بشير[3].



الحديث برغم الصورة العالية والفلسفة النبوية الشريفة فإنه غايةٌ في البساطة، يَفهمه السواد العظيم ممن يخافون أن يكونوا كالذين ضُربت بهم الأمثلة في الأخذ على أيديهم؛ فالبَساطة مع الإقناع خير من التعقيد مع التشتُّت، ولعل هذا الحديث البسيط السهل الكريم مَدعاة للتدبُّر فيما نحن الآن فيه؛ فما ضيع الأمة إلا جُهَّالها ومَن كان شغلهم الشاغلُ المناصبَ والمقاليد، فأتاحوا للعدوِّ فرصة الإجهاز على الأمة والنَّيل مِن مُقدَّراتها وخيراتها، ويدعو الحديثُ إلى نبذ المُفسدين بما استحبوا أن يكونوا عليه مِن أثَرةٍ وطمع، نسأل الله الذي عنده مفاتح الغيب ألا يقدِّر لتلك الأمة أمرَ هوان ولا شتات، وأن يؤلِّف بين قلوبنا.



من الشعر:

نَهبط لكلام البشر وما يُؤخذ عليهم ويردُّ، فما من معصومٍ غير المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نصَّ مقدَّس بعد القرآن الكريم، وما زلنا بصدد الصورة والأخيلة، والشُّعراء كُثر، والكُتاب وَفرة، وما عيوننا إلا فانية، ولا أنا بالجامع الذي يَستطيع أن يُحصي، لكن مما اطَّلعتُ أكتُب، وأُحاول أن أذكِّركم بكل بديع وراقٍ وسامٍ يُعانق السماء؛ لبهاء الصورة وتوفيقِ الله لمن آتاها، حفظَتْه لكم الكتب والمراجع، والدوريات والمعاجم، وما انتهى إليه عِلم البشر من وسائط حفظٍ ونَشْر.



وحريٌّ بنا أن إذا طَوَّفنا قبالة الشِّعر وبُحوره وشُطْآنه ورَوضاته أن يكون لِمُبدع الأوزان وصانع علم العَروض وصاحب أقدم المعاجم العربية (الخليل بن أحمد الفراهيدي) نصيبٌ منها، لكني لم أعثر له بعيني المحدودة على وصف صورة ربما غابت عني، فتعهدتُ بأن أذكره حين الكلام عن (الإيجاز والإنجاز)، ورده السريع وحضوره الماتع، ذلكم المبدع الذي نَدين له حتى فناءِ الدنيا بعلمٍ آتاه الله إياه في نظم الشِّعر ونسقه وقسمِه ببحور وعَروض.

1- قول بن النبيه المصري في الزهر:



انظر إلى الأغصان كيف تعانقَتْ

وتفرَّقت بعد التعانق رُجَّعا



كالصبِّ حاولَ قُبلةً مِن إلفِه

ورأى المُراقِبَ فانثَنى مُسترجِعا[4]






ما هذا الجمال؟! وما تلك الصورة الحسية الرائعة التي تقف النَّفْس الشاعرة أمامها طويلاً؛ احترامًا وذهولاً؟! كيف تَسنَّى للشاعر أن يأتي بها رائعة لا تَحتمِل المناقشة في عيب ولا تقصير! هي بمثابة الغزل العفيف الذي لا يصرِّح بالمَفاتن، ولا يُثير في النفس الشهوة، قدْرَ ما يجعل المستمعَ في لذةٍ بالاطلاع، وفرحةٍ بجَمال الاقتناء.



ولعلَّ الأغرب أن شاعرَنا المُبدع كان رئيسًا لديوان الملك الأشرف ومادِحَه؛ كما يقول عنه (ابن خلِّكان)، فلم تمنَعْه السياسة ومديحُ الملوك مِن أن يلتفِتَ إلى الطبيعة ويُجسِّدها، ويَنقلنا معها إلى صورٍ حسية وخيالية ربما لا تبصرها العيون الشاعرة إلا قليلاً.



وقبل أن نُغادر حديقة وروضة هذا الشاعر الفذِّ رحمه الله لا ننسى أن نَذكُر له بيتين من أروع ما كتب، وبهما من التناصِّ الجميل والتحوير ما بهما؛ وذلك في قوله:



قمتُ ليلَ الصدودِ إلا قليلاَ

ثم رتَّلتُ ذِكرَكمْ ترتيلاَ



ووصَلتُ السُّهادَ قُبِّح وَصلاً

وهجرتُ الرُّقادَ هَجرًا جَميلا




ما أروع هذا الجيلَ من الكتاب والشُّعراء! كانت الفضاءات الواسعة - مع بساطة الإمكانات وعدم التعقيد - مدعاةً لإفراز الإبداع، وسكبه كالماء الهادر في النهر العَذب.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-04-2021, 02:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,678
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحليق في سماء المصدر الرباعي



وانظروا إلى تلك الصورة الحسية الرائعة في بيتَين أجهلُ مصدرهما أو مَن قالَهما، ولكن لروعتهما وجمالهما وددتُ أن يَكونا بين ثنايا المقال المَعنيِّ بالإبداع نفسِه أكثرَ مِن المُبدع، ويَصف الشاعر - المجهول - فيهما وصْفَ وشمٍ بوجه محبوبته:



له خالٌ على صَفحاتِ خدٍّ

كنُقطةِ عنبرٍ في صحن مرمَرْ



وألحاظٌ بأسيافٍ تُنادي

على عاصي الهوى الله أكبرْ






وما زِلنا مع الزَّهر، لكن يتقدَّم بنا العمر وتمتدُّ الحقب لنَعرج إلى شاعرٍ آخر، له في الزهر إبداعات وحوليَّات جميلة، وهو الشاعر الشيخ ناصيف اليازجي، وقوله في الزهر والروض:



مرَّ النسيم على الرياض مسلِّمَا

سَحَرًا فَردَّ هزارها مترنِّما



وحَنىَ إليه الزهر مَفرِقَ رأسِه

أدبًا ولو ملَك الكلامَ تكلَّما



يا حبَّذا ماء الغدير وشمسُه

تُعطيه دينارًا فيُقلَب دِرهَما[5]






ألا فانظروا إلى تلك الحبكة التصويرية التعبيرية الجميلة؛ كيف صاغ الشاعر من نباتات وغدير ماءٍ وشمسٍ ساطعة حالةً اجتماعية وقصةً قصيرة رائعة؟!



وما زلنا نستقلُّ البساط الذي تعهَّد بالتحليق بدايةً مِن تعريف المصدر، وانتهاءً بنماذجَ للإبداع، وخاتمة المقال كما وعد! لكننا لما علمنا أن الوقت ينسحب من تحتنا، والشمس تلوح بالغروب، لم نجد بدًّا مِن أن نقفز قفزةً سريعة إلى شاعرٍ ربما لم يُلتفَت إليه إلا أكاديميًّا، ينتمي إلى مدرسة (أبوللو)، وهو مِن جيلٍ تلا جهابذة الشِّعر؛ كشوقي أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم، ومطران، وغيرهم، ومن ديوانه (أين المفر) لقصيدة (حصاد القمر).



وهنا يجدر بنا أن نَذكُر له نثرًا وسردًا، عُرف عنه أنه تعوَّد أن يبدأ به قصائده، مما عاب عليه النقاد ذلك، وقالوا: إن القصيدة كفيلة - بأبياتها وبنيانها ووحدتها العضوية - أن تشرح نفسها، لكنَّ الشاهد أننا كنا سوف نتخير أنموذجًا إبداعيًّا للنثر يهتم بالصورة ويبدع فيها ولله الحمد، من مقدمة قصيدة (محمود حسَن إسماعيل)؛ حيث كتَب نصًّا سرديًّا غايةً في الرَّوعة، صورةً لم يَذكرْها غيرُه على حدِّ عِلمي حين قال: "وفتحَت حانةُ القمر أبوابَها للسنابل والأكواخ والنخيل، فراح يشرب سرَّها من أنين المناجل في يدِ الفلاح الحزين"[6].



يا لرَوعةِ الشاعر! إن كان هذا سَردَه ونثرَه فما بالنا بشِعره الذي تَلا المقالة، والأبيات تقول:



سيَّان في جفنِه الإغفاء والسهَرُ

نامتْ سنابلُه واستيقَظَ القمَرُ



نَعسان يَحلُم والأضواء ساهِدةٌ

قلب النسيم لها ولهانُ ينفطرُ



مالَ السَّنا جاثيًا يُلقي بمسمعِه

همسًا مِن الوحي، لا يُدرى له خبرُ



وأطرَقَت نخلةٌ قامَتْ بتلعتِه

كأنَّها زاهدٌ في الله يَفتكِرُ



إن هفَّ نسْمٌ بها خِيلَت ذوائبُها

أناملاً مُرعِشات هزَّها الكِبَرُ



كأنَّما ظلُّها في الحقْلِ مُضطهَدٌ

صمتُ السُّكونِ إليه جاء يَعتذِرُ






وللقارئ الفَطِن ذي الذائقة الشعريَّة أن يتمعَّن ويتلذَّذ بتلك الصورة الحسِّية العالية، التي أعمَلَ فيها الشاعرُ خياله، وأطلَقَ لجموحِ إبداعه العِنان، مع تمكُّنٍ في ارتقاء الصهوة وعدم السُّقوط في المَحظور.



تصويرُه للحَقل مع هَدْأة اللَّيلِ، ومُشارَكة ضوء القمر الحالة، وإقحام النَّخلة في الحالة؛ ليَجعلَها أحد شُخوصِها الهامَّة، وتَشبيهها بالكبير المسنِّ تَرتعِش أطرافه - روعةٌ وتمكُّن، وأداءٌ يُحمد للشاعر؛ يقول عنه عبدالعزيز الدسوقي تحديدًا في تلك القصيدة: محمود حسن إسماعيل شاعرٌ يَستطيع أن يَمزج بين الصورة الحسية والخيالية، معتمدًا على موروثِه الشعبيِّ، وقادرٌ على صكِّ الدلالات الجَديدة، واستِخدام الرمزيَّة والمنهَج السريالي في التَّصوير[7].



آن للبساط ومَن يَستقلُّه أن يَستريحا بظلِّ الحُقولِ والقمرِ الذي استيقظَ؛ عنايةً ورعايةً لتلك الزُّروع وذاك الشجر، آمِلين أن يوفِّقَنا الله الذي عنده مفاتحُ كل علم، ومناقبُ كلِّ فَتْح، في استِكمال الجزء الأخير مِن المقال، والذي سيَشتمِل بعون الله وتوفيقِه على ثاني معايير قياس الإبداع، وجزئيَّة وَصْف الإبداع بالإبداع نماذج وأمثلة، وكذلك الرد على أسئلة وانتقادات السادة الأدباء بشأن فكرة التحليق، والله المستعان.




[1] تفسير ابن كثير؛ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي القرشي، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، المجلد الأول، دار طيبة، عدد الأجزاء: ثمانية.

[2] تفسير الجلالين؛ جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي.

[3] حديث النُّعمان بن بشير مِن صَحيح البخاري.

[4] هو: "على بن محمد بن الحسن بن يوسف بن يحيى، الأديب البارع، كمال الدين، أبو الحسن، ابن النبيه المصري صاحب الديوان المشهور، مدَح بَني العبَّاس، واتَّصل بالمَلِك الأشرفِ مُوسى وكتَبَ له الإنشاء، وسكَنَ نَصيبين، وتُوفِّي في حادي عشرين جمادى الأولى، سنة تسع عشرة وست مائة بنصيبين، وهذا ديوانه المشهور أظنُّ أنه هو الذي جمعه مِن شِعره وانتقاه؛ لأنه كلَّه مُنقًّى منقَّح، الدرَّة وأختها، وإلا فما هذا شعر مَن لا نظمَ له إلا هذا الديوان الصغير".

[5] ناصيف بن عبدالله بن جنبلاط بن سعد اليازجي (25 مارس 1800 - 8 فبراير 1871)، أديب وشاعر لبناني، ولد في قرية كفر شيما، مِن قرى الساحل اللبناني في 25 آذار سنَة 1800 م في أسرة اليازجي التي نبَغَ كثيرٌ مِن أَفرادِها في الفكر والأدب، وأصله مِن حمص. لعب دورًا كبيرًا في إعادة استخدام اللغة الفصحى بين العرب في القرن التاسع عشر، عمل لدى الأسرة الشهابية كاتبًا، وشارك في أول ترجمة للإنجيل والعهد القديم إلى العربية في العصر الحديث، درَّس في بيروت.

[6] سلسلة "كتابك"، الصادرة عن دار المعارف، مصر، د. عبدالعزيز الدسوقي "محمود حسن إسماعيل - مدخل إلى عالمه الشِّعري" (ص: 4).


[7] "كتابك"، الصادرة عن دار المعارف، مصر، د. عبدالعزيز الدسوقي "محمود حسن إسماعيل - مدخل إلى عالمه الشِّعري"، (ص: 29).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-04-2021, 02:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,678
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحليق في سماء المصدر الرباعي

التحليق في سماء المصدر الرباعي
إبداع (3)




محمد صادق عبدالعال



الإيجاز والإنجاز






بقيَت لنا التعريجة الأخيرة في رِحلة الإبداع، ونسأل البساطَ ألَّا يكون قد مَلَّ بنا، أو نما له بعضُ ظنٍّ بأنَّنا ندرس فيما لا يجب دَرسه؛ فإنَّ معاوِلَ الهدم أسرَع، وإنَّ روافِع البِناء أَثقل، فنَسأل الذي أَلهمنا البناءَ أن يشحذ عزَائمَنا متى خارَت، ويرفعَ هِمَمنا متى تدَّنَت، ويقوِّيَ ظهورَنا متى أنَّت من شوكات المشكِّكين، وجور المثبِّطين، والله حسبنا ونِعم الوكيل.



وقلنا: إنَّه تبقى لنا الإفاضة ببعض السطور في المعيار الثاني من معايير الإبداع؛ ألَا وهو (الإيجاز والإنجاز).

فأمَّا الإيجاز:

فقد عرَّفه البلاغيُّون بأنَّه: "التعبير عن المراد بلَفظٍ غير زائد، ويقابِله الإطناب"، والمختصر من الكلام أو الإتيان بالإفادة دون تَكرار أو إعادة، منعًا لانصرافِ السَّامع وزَيغ عين القارئ، فيستلهِم منَّا ما نريد توصيلَه وينصرف عنَّا وهو راضٍ، ولعلَّ تلك الجزئيَّة ليست بالسَّهلة ولا الهينة إلَّا على المُمتحَنَةِ ألبابُهم، والمختمرة أفكارُهم، والمنشغلة بنور العلم ويقظة المطلع.



ونظرة تقنية في صفحات كتَّابنا وعلمائنا الأجلَّاء بموقع "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنَّة"، ومقال الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني / مدرسة لغة عربية - حلب - تناولَت مفهومَ الإيجاز والإطناب في القرآن الكريم وبعضًا من الأمثلة العظيمة الكريمة؛ ومنها على سبيل الذكر:



"ويعدُّ الإيجازُ والإطناب من أعظم أنواع البلاغَة عند علمائها، حتى نقل صاحبُ سرِّ الفصاحة عن بعضهم أنَّه قال: اللُّغة هي الإيجاز والإطناب، وقال الزَّمخشريُّ صاحب الكشَّاف: كما أنَّه يجب على البليغ في مظانِّ الإجمال أن يُجمِل ويوجِز، فكذلك الواجب عليه في موارد التَّفصيل أن يفصِّل ويُشبِع.



أولًا: القرآن الكريم:

ومن بديع الإيجاز قولُه تعالى في وصف خمر الجنة: ﴿ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ﴾ [الواقعة: 19]، فقد جمع عيوبَ خمر الدُّنيا من الصُّداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشَّراب.



وحقيقة قوله تعالى: ﴿ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا؛ ﴾ أي: لا يصدر صداعهم عنها، والمراد: لا يلحق رؤوسَهم الصُّداع الذي يَلحق من خمر الدنيا، وقيل: لا يفرقون عنها، بمعنى: لا تُقطَع عنهم لذَّتُهم بسببٍ من الأسباب، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق.



وقرأ مجاهد: (لَا يَصَّدَّعُونَ)، بفَتح الياء وتشديد الصَّاد، على أنَّ أصله: يتصدَّعون، فأدغم التاء في الصَّاد؛ أي: لا يتفرقون؛ كقوله تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [الروم: 43]، وقُرئ: (لَا يَصَدعُونَ)، بفتح الياء والتخفيف؛ أي: لا يصدع بعضهم بعضًا، ولا يفرقونهم؛ أي: لا يَجلس داخلٌ منهم بين اثنين، فيفرِّق بين المتقاربين؛ فإنَّه سوء أدَب، وليس من حسن العشرة"[1]..



ولقد أوغَل الإمامُ السيوطي رحمه الله في تلك الجزئيَّة مؤكدًا أيضًا على أنَّها من أعظم دلالات البلاغَة في القرآن في تفسيره، وبخاصَّة جزئيَّة: هل بين الإيجاز والإطناب واسطة؟ إذ يقول:

"اعلَمْ أنَّهما من أعظم أنواع البلاغة، حتى نقل صاحبُ سرِّ الفصاحَة عن بعضهم أنَّه قال: اللُّغة هي الإيجاز والإطناب.



قال صاحب الكشَّاف: كما أنَّه يَجب على البليغ في مظانِّ الإجمال أن يُجمِل ويوجِز، فكذلك الواجبُ عليه في موارد التَّفصيل أن يفصِّل ويشبع، أنشد الجاحظ:

يَرمون بالخطبِ الطِّوالِ وتارةً ♦♦♦ وَحْيَ الملاحِظِ خيفةَ الرُّقباءِ



واختلف: هل بين الإيجاز والإطنابِ واسطة؛ وهي المساواة، أو لا وهي داخلة في قِسم الإيجاز؟

فالسَّكَّاكيُّ وجماعة على الأوَّل، لكنَّهم جعلوا المساواةَ غير محمودة ولا مَذمومة؛ لأنَّهم فسَّروها بالمتعارَف من كلام أَوساط النَّاسِ الذين لَيسوا في رتبة البلاغة، وفسَّروا الإيجازَ بأداء المقصودِ بأقل من عبارة المتعارَف، والإطناب أداؤه بأكثر منها؛ لكون المقام خليقًا بالبَسط.



وابنُ الأثير وجماعة على الثاني، فقالوا: الإيجازُ: التعبيرُ عن المراد بلفظٍ غير زائد، والإطناب بلفظ أزيد.

وقال القزوينيُّ: الأقرب أن يُقال: إنَّ المنقول من طرُق التعبير عن المراد تَأدية أصلِه، إمَّا بلفظٍ مساوٍ للأصل المراد، أو ناقصٍ عنه وافٍ، أو زائد عليه لفائدة؛ والأول: المساواة، والثاني: الإيجاز، والثالث: الإطناب، واحترز بوافٍ عن الإخلال، وبقولنا: لفائدة، عن الحَشو والتطويل، فعنده ثبوت المُساواة واسطة، وأنَّها من قِسم المقبول.



فإن قلتَ: عدم ذِكرك المساواة في الترجمة لِماذا؟ هل هو لرجحان نَفيها، أو عدم قبولها، أو لأمرٍ غير ذلك؟

قلت: لهما، ولأمرٍ ثالث؛ وهو أنَّ المساواة لا تكاد توجد، خصوصًا في القرآن، وقد مثَّل لها في التلخيص بقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]، وفي الإيضاح بقولِه:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ [الأنعام: 68]، وتُعقِّب: بأنَّ في الآية الثانية حذْفَ موصوفِ (الَّذين)، وفي الأولى إطنابٌ بلفظ السيِّئ؛ لأنَّ المكر لا يكون إلَّا سيئًا، وإيجاز بالحذف إن كان الاستثناء غير مفرَّغ؛ أي: بأحد، وبالقصر في الاستثناء، وبكونها حاثَّة على كفِّ الأذى عن جميع النَّاس، محذِّرة عن جميع ما يؤدِّي إليه، وبأنَّ تقديرها يضرُّ بصاحبه مضرَّةً بلِيغة، فأخرج الكلامَ مَخرجَ الاستعارة التبعيَّة الواقعة على سبيل التمثيل؛ لأنَّ (يَحيق) بمعنى (يُحيط)، فلا يُستعمل إلَّا في الأجسام؛ "الإتقان في علوم القرآن"؛ للإمام السيوطي جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي - حقَّقه وخرَّج أحاديثَه فؤاد أحمد زمزلي.



وتلك نَظرة خاطِفة كاشِفة لأسرار العظَمَة الإلهيَّة التي لا يستطيع بشَر أن يخطَّ مثلَها أو يدانيها في الوصول إلى بلاغتها وبيانها السَّامي الرَّاقي، ذلك قولُ الله ألقاه إلينا يعلِّمنا الأدبَ والبيانَ وأسسَ البلاغة، فاعتبِروا يا أولي الأقلام.



وأمَّا جزئيَّةُ الإنجاز؛ فهي وَليدة الإيجاز ومتمخضة عنه، موصلةٌ للفِكرة، عابِرة لقارَّات الزَّمن، ومحطَّة وصول للكاتب يَرسو بقرَّائه ببرِّ الأمان قاطعًا مسافات داخليَّة في خلجات نَفسه؛ لكي يَجعل القارِئ يَصِل لغاياته في أبسَط وأيسر الوقت، فإنَّه أعلم بقطَّاع الطُّرُق، وأصحاب الفِرَق، وأخاديد العثرات، التي تَجعل القرَّاءَ في محكات مع قضايا ليسوا لها بعابرين، ولدينا من السنَّة النبوية المطهرة أمثلة كثيرة نذكر بعضًا منها وما نحن لها بجامعين.



ثانيًا: من السنة النبوية المطهَّرة:

روى البخاريُّ في صحيحه وأبو داود في سننه عن أبي مسعود البدري، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ ممَّا أَدرك النَّاس من كلام النبوَّة الأولى: إذا لم تَستَحِ، فاصنع ما شئتَ))؛ صدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم..



نردِّده كثيرًا ونَسمعه من خلقٍ كثيرين، وما اهتمَّ لِمعناه ولا مفهومه البلاغي والبياني إلَّا من كان له قلب، فذلكم النَّبيُّ الأكرم يعرج بِنا إلى مَنطقةٍ خطيرة من الدِّين؛ وهى شُعبة من شعَب الإيمان؛ ألا وهو (الحياء)، وهو القائل فيما مَعناه: ((الحياءُ لا يأتي إلَّا بخَير))، أو كما قال: ((الحياء كلُّه خيرٌ))، من باب التحفيز والتشجيع يردنا ثانية صلى الله عليه وسلم بأسلوب إنشائي: ((إذا لِم تَستحِ، فاصنع ما شئتَ)).



ولعلَّ ما يعنينا في المقالَة دلالة الإيجاز والإنجاز في الطَّلَب؛ كمن يقول لولده: إن لم تُصَلِّ فلا تَفعل أيَّ طاعات، ومعلوم الغرَض التوبيخ والتأنِيب لكن أسلوبَ النبيِّ الأكرم الرَّاقي السَّامي في كلِّ شيء حتى تَأنيبه وفي تأديبه يتجلَّى هنا.



أتجدون بلاغةً أَسمى من بلاغة نبيِّنا؟ فلِماذا نحن في عزوفٍ عنها، وما أريد الإسهابَ ولا الإطنابَ مع ذلكم الإيجاز والإنجاز النَّبوي الشريف.



ومثالٌ أخير من تلك الأمثلة التي لا يَشبع منها ولا يملُّ مِنها كاتبٌ أو قارئ في الحديث الأعظم الذي علَّمه المصطفى لابن عباس:

عن ابن عبَّاسٍ قال: كنتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: ((يا غلامُ، إنِّي أعلِّمك كلماتٍ؛ احفظ اللهَ يَحفظك، احفظ اللهَ تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأُمَّة لو اجتمعَت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفعَت الأقلامُ، وجفَّت الصُّحُفُ))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].



رسالة مختصرة لكلِّ إنسان على ظَهر البسيطة، يوقِن بالله ربًّا، ويؤمن بمحمد نبيًّا، يتضلع بالتوكُّل على الله، يلقي أمرَه كلَّه لله، والله خيرٌ حافظًا وهو أرحَم الرَّاحمين، ولن أدَّعي تفسيرًا للحديث؛ حتى لا أقطع على القارئ حلاوةَ الإيجاز والإنجاز بين الطالِب والمطلوب؛ ما أعظم الطالِب وما أيسر المطلوب في مجانبَة كلِّ ما هو حقير مغايِر لِما يَجب أن نكون جميعًا عليه.



((رُفعَت الأقلامُ، وجفَّت الصُّحُفُ)) صارتا مضرب مثَل لكلِّ ما انتهى أمرُه وفُرِغ منه وسُلِّم به، إيجاز لا يُدانيه ولا يساويه إنجاز.



ثالثًا: الشِّعر:

الإيجاز والإنجاز في الشِّعر؛ أي: قصد لبِّ الموضوع ببلاغةٍ وحسن صِياغة وديباجة غير متكلَّفة، ولا منتقصة للعبارَة أركانها، ومن وجهة نظري الشخصيَّة - وربَّما لا يَختلف معي فيها الكثير - أنَّ الإيجاز في الشِّعر أيضًا: هو كلُّ بيتٍ مختصر مفيد، ظلَّ إلى يومنا هذا وصار مضربًا للمثَل، وحكمةً تَجري على ألسنَة النَّاس، ومن ذخائر الشِّعر العربيَّة حملتُ جملةً منها ليسَت بالكافية لتُشبع نهمي، لكنَّها على سبيل المثال لا الحصر، ولكنِّي لن أنسى ما قطعتُ على نفسي في حقِّ صاحب المعاجم والبلاغة "الخليل بن أحمد الفراهيدي"، الذي قد قدَّمتُ في المقال السابق أنِّي سوف أذكره، فليس من اللَّائق أن نُنكره، وهاتيك بعض من مشادَّةٍ بينه وبين "سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة" والي فارس والأهواز: عندما استدعى الخليل بن أحمد ليعلِّم ولدَه، فرفض وبعثَ برسالة إلى سليمان بن حبيب قال فيها:



أبلغ سليمانَ أنِّي عنه في سَعةٍ

وفي غنًى غير أنِّي لستُ ذا مالِ



شحًّا بنفسيَ أنِّي لا أرى أحدًا

يموتُ هزلًا ولا يَبقى على حالِ



والرِّزقُ عن قدَرٍ لا الضعف ينقصُه

ولا يزيدك فيه حولُ محتالِ



والفقر في النَّفس لا في المالِ نعرفُه

ومثل ذاك الغِنى في النَّفس لا المالِ






فمع هذا الإيجاز والتلخيص ورسالة التَّوبيخ والتأنِيب، يَقطع عليه سليمان الرَّاتب، فيردُّ الخليل قائلًا:



إنَّ الذي شقَّ فمي ضامنٌ

للرِّزق حتى يتوفَّاني



حرمتَني خيرًا قليلًا فما

زادك في مالك حِرمانِي






بَلغَت الكلماتُ من سليمان مبلغًا لم يتوقَّعه الخليل بن أحمد، فبعث سليمان له معتذرًا:



وزلَّةٍ يُكثر الشيطانُ إن ذُكرَت

منها التعجُّبَ جاءَت من سليمانَا



لا تعجبنَّ لخيرٍ زلَّ عن يدِه

فالكوكب النَّحسُ يسقي الأرضَ أحيانَا[2]






فسبحان من حرَّك قلبَ هذا الحاكم لكلماتٍ بعث بها إليها شاعرنا الفصيح الخليل بن أحمد، ومن نفس المقال ذكر ابن خلكان في كتابه "وفَيَات الأعيان": (أنَّ الخليل بن أحمد اجتمع ليلة للتدارُس مع ابن المقفَّع، وظلَّا يتحدَّثان حتى طلعَت خيوط النَّهار واستبان الأبيض من الأسود، فلمَّا سُئل الخليلُ صاحب الأدب الجمِّ والخُلق المتواكب مع حصيلة علم:

كيف رأيتَ ابن المقفَّع؟

قال: رأيتُ رجلًا علمُه أكثر من رأسه!

وقيل لابن المقفَّع: كيف رأيتَ الخليل؟

قال: رأيتُ رجلًا عقلُه أكبر من علمه!



فسبحان الله! لعلَّنا نتعلَّم، ولعلَّنا نَنتبه لتلك الأخلاق التي زانَت علماء رَحلوا عنَّا؛ فَخُلِّد ذِكرهم، واستدام عِلمهم، حتى انتهى إلينا وإلى أمم من بعدنا.



وحتى لا نُطيل فلدينا من الأمثلة الكثير في مسألة الإيجاز في الشِّعر؛ لدينا مثال آخر من الشِّعر القديم، وسوف أنال من التَّقريع والتوبيخ ما يَكفيني في اختيار الأمثلة القديمة، ولا أَعبأ ولن أكترَث؛ فمِن القديم خيرُ مثل، وخير الحكم.



"لاميَّة العجم"؛ لمؤيد الدين الطغرائي يقول في بعض منها:

أُعلِّلُ النَّفس بالآمال أرقبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ

أيها الشاعر، أيها الكاتِب، أيها القاصُّ، تعلَّم من حِكمة القدماء الذين تتبرَّؤون منهم، وتَنجرفون إلى الحداثة والركاكة في الوزن وفي الكلمات، كيف صاغ هذا الشاعر الفذُّ وباختصار شديد حالَةً بين اليأس والأمل تتطلَّب من الشاعر منا الأبياتَ الطِّوال.



ثمَّ يعود هذا الشَّاعرُ لحالةٍ من إقناع النَّفس بالاستكانة والرِّضا بما آل إليه حاله، فيقول:

لمْ أرضَ بالعيش والأيام مُقبلةٌ فكيف أَرضى وقد ولَّت على عجَلِ



وله أيضًا هذا العملاق المبدِع فنُّ الحِكمة:



وإن عَلانِيَ مَن دوني فلا عجب

لي أسوةٌ بانحطاطِ الشَّمس عن زُحلِ



فاصبِر لها غير محتالٍ ولا ضَجِرٍ

في حادِث الدَّهر ما يُغني عن الحيَلِ






وله أيضًا:

غاض الوفاءُ وفاضَ الغَدرُ وانفرجَتْ مسافة الخُلْفِ بين القولِ والعملِ



ألَا فانظروا للتَّوظيف الرَّائع للمحسنات البديعيَّة من طباقٍ! وانتقاء الكَلمات، والخروج بحكمةٍ عالية، ودرَّة من دُرر الإيجاز وسرعة الإنجاز.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-04-2021, 02:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,678
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحليق في سماء المصدر الرباعي

وله أخيرًا - ونحن ما نريد الخروج من بستانه الماتع - وهو يقدِّم نصيحةً غالية، لا ترى فيها تهاونًا ولا إحباطًا، ولا دعوة للتهوُّر:



مُلْكُ القناعةِ لا يُخشى عليه ولا

يُحتاج فيه إلى الأنصارِ والخَوَلِ



ترجو البقاءَ بدارٍ لا ثباتَ لها

فهل سمعتَ بظلٍّ غير منتقلِ



ويا خبيرًا على الأسرار مطَّلعًا

اصمت ففي الصَّمتِ منجاةٌ من الزَّللِ






دُرَر هي لا يتذوَّقها إلَّا مَن كان ذا ذائقة عربيَّة أصيلَة، يَستشعر كيف كانت الحِكمة تَنساب على أفواههم انسياب الماء مِن فِي السِّقاء.



ومن لاميَّة العجَم إلى نونيَّة البستي، لصاحب الحِكَم ومتجر الأقوال المَأثورة، والقصيدة كلها حِكَم وثوابت إنسانيَّة، ليتنا نتعلَّم منها، ليس فيها خلَل شَرعي ولا جنوح نَحو الشَّطط، داعية إلى الأدب الجمِّ، والإخلاص الأعلى للذَّات العليَّة، والتمسُّك بالمناقب، ونَبذ الكراهية بأسلوب لا يمل ولا يشتِّت، إنجازٌ هو مع إيجاز رائع؛ منها على سبيل الذِّكر، يستهلُّ بها حِكمة عالِية نفسيَّة تَجري على الألسنة ليلَ نهار؛ ولذا أعتبرها إبداعًا غير مسبوق:



زيادة المرءِ في دنياه نقصانُ

ورِبحُه غيرَ محضِ الخير خسرانُ



وكلُّ وجدان حظٍّ لا ثَباتَ له

فإنَّ معناه في التَّحقيق فقدانُ



يا عامرًا لخرَاب الدَّهر مجتهدًا

تالله هل لِخراب الدَّهر عمرانُ






ومنها قوله حضًّا على الإحسان إلى الناس:

أحسِنْ إلى النَّاس تَستعبد قلوبهمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ



وقوله:



من يزرعِ الشَّرَّ يحصد في عواقبهِ

ندامةً ولِحَصد الزَّرع إبَّانُ



مَنِ استنام إلى الأشرارِ باتَ وفي

قميصه منهمُ صِلٌّ وثعبانُ



كن ريِّقَ البِشر إنَّ الحُرَّ همَّتُه

صحيفةٌ وعليها البِشر عنوانُ






ومع تلك الإجادَةِ والإفادة، والإيجاز والسلامة اللغويَّة والصرفيَّة، لو كان في زمن هؤلاء "جائزة نوبل" ما تورَّعوا أن يَمنحوه إيَّاها، فجزاهم الله عنَّا وعن الأدَب العربي خيرًا، وجعل من أبنائنا وذرِّيتنا مَن يحفظون لِمثل تلك المخطوطات والآثار مناقبَها، ففيها الحِكمة والبيان.



وقبل الانتقال للونٍ جديد وتعريجة البساط للعَصر الحديث، استوقفَني بيتُ شِعرٍ غاية في الإبداع؛ لإيجازه وبعده عن الإسهاب والإطناب، وإتيانِه بخلاصه الخُلاصة ولبِّ الأمر، ويا لَيتني أَعرف ذلكم الشَّاعر حين أنشد يَصف زهدَ سيدنا عمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الرَّاشدين المهديين وزوجه فاطمة بنت عبدالملك بن مروان، التي قيل فيها: "بنت الخليفة، وأخت الخليفة، والخليفة زوجها "، مع هذا الغنى غلب الورَعُ والزُّهدُ عليها خوفًا من ملك الملوك، فوصفهم رحمه الله قائلًا:

قومٌ إذا غَسلوا الثِّيابَ رأيتَهم لَبسوا البيوتَ وزرَّروا الأبوابَا



لا تعليق أمام هذا التَّجسيم والوصف، وغاية الإنجاز والإيجاز.



وبقي السَّرد أو النَّثر، ومنه السِّحر كما أخبر النبيُّ الأكرم صلَّى الله عليه وسلم حين قال: ((إنَّ من الشِّعر لَحِكمةً، وإنَّ من البيان لسِحرًا)).



ومن كتابٍ يذخر بالنفائس والروائع والبديع "دُرر الحِكم"؛ لأبي منصور الثعالبي، استقينا أمثلةً متنوعة لعدد من متناثرات الحِكَم والنَّثر الذي يَختصُّ بجزئية الإيجاز والإنجاز في العمليَّة الأدبيَّة الإبداعية.



أمثلة:

1 - من الإيجاز الخالص قولٌ لا يُعرف لمن ينسب: "أربعٌ القليلُ مِنها كثير: الوجع، والنار، والدَّين، والعداوة"[5].

ألا ترون في تِلك الأربعة مختصرًا مفيدًا لكلامٍ كثير، وسطور وصفحات طِوال؟! ولو تطرَّقنا بشيء من الإيجاز لا الإسهاب لبعضِها، لوجَدنا معلِّلين قولَ رسولنا صلى الله عليه وسلم يصف ألمَ الأمَّة بعضوٍ واحد في جسَد الإنسان تتألَّم وتَتداعى له جميعُ الأطراف، وكذلك "النَّار" قليلُها كثير، فمن المأثور: معظم النَّار من مُستصغر الشَّرر، وكذلك "الدَّين" قليله همٌّ بالليل ومذلَّة بالنَّهار، و"العداوة" همٌّ وكدَر، وقلَّة راحةٍ، وزوالُ طمأنينة، ألا يستحقُّ القادِم بتلك الأربعة أن يُعدَّ مبدعًا حين أجمل بعد تفصيل قد اختزلَه في ذاكرته، واستحفظ القرَّاء تفسيرَه فيما بعد.



ومن نفس الكتاب الرائع، في معنونة باسم: "أوجز رسالة" سُئل جعفر بن يحيى عن أوجز كلام، فقال منصفًا:

قول سليمان عليه السلام في كتابه إلى مَلِكة سبأ: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 30، 31]، فجمَع في ثلاثة أحرف العنوانَ والكتاب والحاجَة[6]، ألَا يُعدُّ هذا الإيجاز وسرعة الإنجاز إبداعًا مطلقًا؟!



ومثال آخر: في ردٍّ رائع بليغ جاء فيه: "قال الفضل بن مروان لرجل عاتبَه:

بلغني أنَّك تبغضني، فلَم ينكر الرجلُ وقال له: أنتَ كما قال الشَّاعر سيدي:

فإنَّك كالدنيا نَهاب صروفَها ونوسِعها ذَمًّا ونحن عَبيدُها



ومثال آخر:

في معنونة بـ"كيف يكون المقال؟"، حين خطب سويد بن منجوف - وهو تابعي - خطبةً طويلة في يوم للمصالَحة بين متشاحِنين رجاء الصُّلح وابتغاء زَوال الفِتنة، فقام رجل منتفضًا وقال: سيدي، أنت منذ اليوم تَرعى غير مرعاك، أفلا أدلك كيف يكون القال؟



فقال: بلى.

فقال بعدما حَمد اللهَ وأثنى عليه: أمَّا بعد، فإنَّ الصُّلحَ بقاء الآجال، وحرم الأموال، والسلام على من اتَّبع السَّلام.

فلمَّا سَمعه القوم، تعانَقوا وتبادلوا الدِّيات[7].



ولربَّما جرى الإبداعُ والإيجاز على ألسنة العامَّة أنفسهم ممَّن لَيسوا أهل التخصُّص في الكتابة والأدب، ولعلَّ الكثير يذكر سؤال أمير المؤمنين هارون الرَّشيد لبهلول يَطلب منه الوعظَ، فأوجز وأنجز حين قال له:

يا هارون، بِمَ أعظك؟! هذه قصورُهم، وتِلك قبورهم، أقاموا قليلًا في القصور، ثمَّ ناموا في القبور.



ألا تعدُّ تلك المأثورة إبداعًا غير مسبوق، وإنجازًا يستحقُّ الوقوف طويلًا أمامه؟ مختصر مفيد لِمن أراد أن يتَّعِظ أو يَعتبر.



مثال آخر من هذا الكتاب الطيب:

قال عبدالملك لأعرابيٍّ: ما تشتهي؟ فقال:

العافية والخمول؛ فإنِّي رأيتُ الشرَّ إلى ذي النَّباهة سريعًا.

فقال عبدالملك:

ليتني سمعتُ تلك الكلمة قَبل الخلافة يا رجل.

ولعلَّ ذلك الرد من الرَّجل يعزِّز أشعارَ المتنبي القديمة في قوله:

ذو العقلِ يَشقى في النَّعيم بعقلِه وأخو الجهالةِ في الشَّقاوةِ يَنعمُ



مثال آخر وأخير من هذا الكتاب الطيب:

دخل أبو العميثل على طاهر بن الحسين ممتدحًا وقَبَّل يده، فقال:

ما أخشن شاربك يا أبا العميثل! فقال:

أيها الأمير، إنَّ شوك القنفذ لا يضرُّ برثنَ الأسد، فضحك طاهِر بن الحسين وقال: إنَّ هذه الكلمة أَعجب إليَّ من كلِّ شعرٍ، وأمر له بألف دِرهم للشِّعر، وثلاثة آلاف دِرهم لتلك الكلمة[8].



مثال آخر يجري مجرى الحكمة: قول ابن الشبل:



يفنى البخيلُ بجمعِ المال مدَّته

وللحوادِثِ والأيام ما يدَعُ



كدودةِ القزِّ ما تبنيه يَهدمها

وغيرها بالَّذي تبنيهِ يَنتفعُ




بالله عليكم، أما ترون في هذا البَيت من إبداعٍ رائع، وتَشبيه وصَل لآذان العامِّي قبل المثقَّف؟ وتِلك منقبة الإبداع: أن تَصل فكرتُك على روعتها لأبسط النَّاس فهمًا!



ها قد انتهينا وما استوفينا أمثلةً في الإبداع، سواء الشِّعر أو النَّثر، وما تحليقنا إلَّا مجرَّد إشارات ولَمحات، وما نحن لرَصد الكلِّ بقادرين، وتبقى لنا الجزئيَّة الأخيرة في وَصف الإبداع بالإبداع بمثالين.



وصف الإبداع بالإبداع!

نعم قد يوصف الإبداع بالإبداع، ومن يُنكر ذلك فهو جاهل، خاصَّة إذا كان الوصف لمَن علَّمه شَديد القوى، وهو معلِّم البشريَّة كلها مِن لَدن آدم حتى مَبعث رسالته وقيام الساعة، فها هو المبدِع الكريم، أستاذ الأساتذة مصطفى صادق الرَّافعي يَصف البلاغةَ النبويَّة في عدَّة سطور بكلمات مبدعات، وسطور مشرقات، لا يُحسُّ حلاوتها إلَّا الذين أيقنوا واستيقنوا أنَّ محمد بن عبدالله خير البشَر معلمًا، وأكرمهم على الله:

هذه هي البلاغة الإنسانيَّة التي سجدَت الأفكارُ لآياتها، وحسرَت العقول دون غاياتها، لم تصنع وهي من الإحكام كأنَّها مصنوعة، ولم يُتكلَّف لها وهي على السهولة بعيدة ممنوعة.



ألفاظ النبوَّة يعمرها قلبٌ متَّصل بجلال خالِقه، ويصقلها لِسانٌ نزَل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوَحي لكنَّها جاءت من سَبيله، وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله؛ مُحكمة الفصول، حتى ليس فيها عروَة مَفصولة، مَحذوفة الفضول، حتى ليس فيها كَلمة مفضولة.



وكأنَّما هي في اختصارها وإفادتها نَبض قلبٍ يتكلَّم، وإنَّما هي في سموِّها وإجادتها مَظهر من مظاهر خواطِره صلَّى عليه ربي وسلَّم.



إن خرجَت في الموعظة، قلتَ: أنينٌ من فؤاد مقروح، وإن راعَت بالحكمة، قلتَ: صورة بشريَّة من الروح، في منزع يَلين فينفر بالدُّموع، ويشتد فينزو بالدِّماء، وإذا أراك القرآن أنَّه خطاب السَّماء للأرض، أراك هذا أنَّه كلام الأرض بعد السماء[9].



ولعلَّ المُطَّلع على كتب رسول الله إلى ملوك الأرض يَلمس ذلك البيان وهذا السموَّ البلاغي في الخِطاب، ومثال لذلك:

كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي ملِك اليمامة، وفيه:

((بِسم الله الرحمن الرحيم، مِن محمد رسول الله إلى هوذة بن علي؛ سلام على مَن اتَّبع الهدى، واعلم أنَّ دِيني سيَظهر إلى مُنتهى الخفِّ والحافِر، فأَسلِم تَسلَم، وأجعل لك ما تحتَ يديك))، فلمَّا وصلَه الكتاب كتَب في ردِّه للنبيِّ الأكرم:

ما أحسنَ ما تَدعو إليه وأجمله، وأنا شاعِر قومي وخطيبهم، والعرب تهابُ مكاني، فاجعل لي بعضَ الأمر أتبعك[10].



لا يجوز لي التعليق بكلمةٍ واحدة سوى سبحان الله، إنَّ في ذلك لَبيانًا عظيمًا.



وننتقل إلى المثال الثَّاني في وصفٍ آخر لإبداع أرضيٍّ:

ها هو خالد بن صفوان يصف النَّخلةَ، التي هي من إبداع الخالق عزَّ وجلَّ، فيقول:

هنَّ الرَّاسخات في الوَحل، المطعمات في المحل، تخرج أسفاطًا وعظامًا، وأوساطًا كأنها ملئت رياطًا، ثمَّ تتفرَّى عن قضبان اللجين، مَنظومة باللؤلؤ الزَّين، فيصير ذهبًا أحمر، منظومًا بالزبرجد الأخضر، ثمَّ عسلًا في لحاء، معلقًا في الهواء[11].



مثال آخر:

شهادة الوليد بن المغيرة للقرآن:

"إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطَلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمِر، وإنَّ أسفله لمغدِق، وإنَّه يَعلو ولا يُعلى عليه"؛ (الحديث صحيح الإسناد على شرط البخاري).



ووصف آخر لإبداع بإبداع وحسن إيجاز:

وصف أبو حيان التوحيدي جعفرَ بن يحيى - وكان كاتبًا بارعًا متمكنًا - قائلًا:

"كانت كتابته سوادية، وبلاغته سحبانية، وسياسته يونانية، وآدابه عربيَّة، وشمائله عراقية"؛ ذلك لما سئل يحيى عن أوجز كلام، فقال: قول سليمان عليه السلام في كتابه إلى ملِكة سبأ: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 30، 31]، فجمع في ثلاثة أحرف العنوانَ والكتاب والحاجة، ألَا يعدُّ هذا الإيجاز وسرعة الإنجاز إبداعًا مطلقًا؟!



وأخيرًا، أنهينا السلسلةَ وما انتهينا؛ فالمصدر أكبر مِن أن يَحتكره محتكِر، أو يَنفرد به قلَمٌ أيًّا كان كاتبه، وسيظل المصدر الرُّباعي محلَّ نقاش وجدال، وسجال وعراك؛ أيهم أسبق في الإبداع؟ وأي الكلام إبداع؟ حتى المعايير نَفسها سوف تَختلف وتتباين، لكن الثابت الوحيد والأكيد أنَّ القرآن الكريم هو المَعِينُ الزَّاخر بالإبداع في الوصفِ والصورة، والحكمة والموعظة، وسبحان مَن له الحمد، وبإذن الله لَنا جولة قَصيرة في اعتراضاتٍ على فِكرة التحليق ردًّا على أسئلة معدودات، والله حسبنا، وهو يهدي السبيل.





[1] موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ومقال الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني / مدرسة لغة عربية - حلب.




[2] أبو عبدالرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري، وهو عربيُّ الأصل من أزْد عُمان، لغويٌّ ومعجمي، ومنشئ عِلم العروض.

نشأ الخليل بن أحمد بالبصرة وتربَّى فيها، وكان مولعًا بالدرس والبحث، وقد لازم حلقات أستاذَيه عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، فأمَّا أستاذه عيسى بن عمر فقد كان إمامًا في العربيَّة والقراءات، وصنَّف كتابَي الجامع والإكمال، وأبو عمرو بن العلاء كان أستاذًا للعربيَّة وإمامًا في دراستها، وقد روى الخليل عن أيوب وعاصم الأحول وغيرهما، وأخذ عنه سيبويه والأصمعي والنَّضر بن شُمَيْل، قال ابن المعتز: "كان الخليل منقطعًا إلى اللَّيث فيما صنَّفه"، وهو أستاذ سيبويه.

والحكايات والمرويات المذكورة في كتاب سيبويه كلها مروية عن الخليل، وكلَّ ما قال سيبويه: وسألتُه، أو قال، من غير أن يذكر قائلَه، فهو يعني الخليل.




[3] الطغرائي 455 - 513 هـ / 1063 - 1120 م؛ الحسين بن علي بن محمد بن عبدالصمد أبو إسماعيل، مؤيد الدين الأصفهاني الطغرائي، شاعر، من الوزراء الكتَّاب، كان يُنعَت بالأستاذ، وُلد بأصفهان، اتصل بالسلطان مسعود بن محمد السلجوقي (صاحب الموصل) فولَّاه وزارتَه، ثمَّ اقتتل السلطان مسعود وأخ له اسمه السلطان محمود، فظفر محمود وقبَض على رجال مسعود وفي جملتهم الطغرائي، فأراد قتلَه ثمَّ خاف عاقبة النِّقمة عليه؛ لِما كان الطغرائي مشهورًا به من العِلم والفضل، فأوعز إلى مَن أشاع اتِّهامه بالإلحاد والزَّندقة، فتناقل الناسُ ذلك، فاتَّخذ السلطان محمود حجَّةً فقتلَه، ونِسبة الطغرائي إلى كِتابة الطغراء، وللمؤرِّخين ثَناء عليه كثير، له دِيوان شِعر مطبوع، وهو صاحب لاميَّة العجم، ومطلعها:

أصالَة الرَّأي صانَتني عن الخطَلِ.




[4] هو علي بن محمد البستي أبو الفتح، ولد في بُست بأفغانستان سنه 360 هـ، قصيدتُه هذه تعدُّ من عيون الشِّعر العربي.




[5] من كتاب "درر الحكم"؛ للثعالبي، تحقيق ودراسة: أ. محمد إبراهيم سليم ص 74.




[6] من كتاب "درر الحكم"؛ للثعالبي، تحقيق ودراسة: أ. محمد إبراهيم سليم ص 44.




[7] من كتاب "درر الحكم"؛ للثعالبي، تحقيق ودراسة: أ. محمد إبراهيم سليم ص 72.




[8] من كتاب "درر الحكم"؛ للثعالبي، تحقيق ودراسة: أ. محمد إبراهيم سليم ص 64.




[9] مجلة الوعي الإسلامي / العدد 255 / 1406 / مقال بعنوان: "قرأت لك؛" البلاغة النبوية ص (34).




[10] مجلة الأزهر الشريف ملحق كتاب: "عطاء الرحمن من شريعة القرآن"، الجزء الثاني / ص56؛ للشيخ مصطفى محمد الحديدي، عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف.




[11] من كتاب "درر الحكم"؛ للثعالبي، تحقيق ودراسة: أ. محمد إبراهيم سليم ص 29.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 186.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 182.92 كيلو بايت... تم توفير 3.72 كيلو بايت...بمعدل (1.99%)]