جان جاك روسو مُربيًّا - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858735 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393131 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215570 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-09-2023, 04:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي جان جاك روسو مُربيًّا

جان جاك روسو مربيا (1-3)


د. عادل بن صالح أحمد الغامدي








مقدمة:
وردني نصٌّ منسوبٌ إلى جان جاك روسو، وتعجّبت أن يقول به، ثم بحثتُ لأتأكَّد من صحة المعلومة، وإذ بي أعثر على نصوص كثيرة، لم أكن أتوقّع صدورها عن مثل هذه الشخصية، ولهذا فقد عزمتُ على جمعها وكتابتها، ثم طرأت لي فكرة صياغتها، في مقال يجمع ما كتبه روسو.
وسيكون محور المقال نصوص منتقاة من كتاب (إميل أو التربية)، وأحيانًا أنقل من كتابه الآخر (الاعترافات)؛ حتى تتضح بعض الأمور المتعلقة بـ«روسو»، وسيجد القارئ أن روسو ابتكر شخصيتين خياليتين؛ هما: إميل، والأخرى صوفيا، فجاء الكتاب مثل رواية، بطلها الشاب إميل الذي سعى في تربيته وإعداده للزواج من الفتاة صوفيا.
وصف روسو بطل كتابه أو قل تلميذه إميل، فقال: «وأكون -إذن- قد التزمت جانب تلميذ خيالي، مفترضًا السن والصحة والمعارف وجميع الأهليات المناسبة، لتربيته وقيادته منذ ولادته، إلى الحين الذي يصبح فيه رجلًا، لا يحتاج إلى دليل غير نفسه»[1].
«ففي إميل أو التربية؛ أوضح روسو كيف ينشأ الولد تنشئة طبيعية، منذ نعومة أظفاره حتى العشرين من سنيه، فيصير صالحًا للزواج، وهو قد وقف أجزاء الكتاب الأربعة على هذا الغرض، كما وقف الجزء الخامس منه على تنشئة الزوجة، التي تصلح أن تكون شريكة له في الحياة، فيسعد بها وتسعد به»[2].
نهج روسو في هذا الكتاب منهج الملاحظة، أو لنَقُل ما يمكن ملاحظته، فقال: «وإني حين بدأت هذا الكتاب، لم أفترض شيئًا لم أستطع أن ألاحظه أنا والآخرون، وأعني بذلك ولادة الإنسان التي هي نقطة انطلاق، نَسير منها جميعًا على السواء، ولكننا كلّما تقدمنا؛ ابتعد بعضنا عن بعض؛ لمراعاتي الطبيعة، ولإفسادكم إياها»[3].
اعتمد روسو المشاهدة والرؤية دون غيرها؛ فلم يلتفت إلى البرهان أو التخيل، كما لم تكن الشريحة التي يلاحظها محصورة في طبقة واحدة، أو شعب معيّن، وقصد الأمور المشتركة بين الناس، وترك ما اختص به قوم دون غيرهم، فقال: «هو أنني أقل ما يمكن التفاتًا إلى البرهان، وأني لا أعتمد على غير المشاهدة، وذلك بدلًا من استنادي إلى أيّ مذهب، ولا أُقيم أفكاري على ما تخيّلتُ مطلقًا، بل على ما رأيت، أجل! إنني لم أحصُرْ تجاربي ضمن أسوار مدينة، كما أنني لم أحْصُرها على طبقة واحدة من الناس، بيد أنني بعد أن قابلت بين كثير من الطبقات والشعوب، التي أمكنني أن أراها في حياةٍ قُضِيَتْ في ملاحظتها، حذفتُ كأمر مصنوع ما هو من شعب لا من آخر، وما هو من طبقة لا من أخرى، ولم أعُدَّ على أنه خاص بالإنسان خصوصًا لا ريب فيه، غير ما هو مشترك بين الجميع، في أيّ دور من العمر كانوا، ومن أيّ طبقة كانوا، وإلى أيّ أمة انتسبوا»[4].
لقد طرح روسو في هذا الكتاب أطروحات جديرة بالبحث والاهتمام والدراسة، وفي ظني أن القارئ سيجد من النصوص المنقولة عن روسو، ما يجعله يُصاب بالدهشة؛ إذ لا يمكن توقع صدور هذا عن فيلسوف أوروبي وُصِفَ بالنبوغ، وقد انتقيت بعض النصوص العجيبة، حتى إن أحد الباحثين، أطلق عليها وصفًا فريدًا، فقال: «ما لم يجرؤ أن يُقال عن روسو!».
التعريف به:
وُلِدَ جان جاك روسو في جنيف في سنة 1712م، لأسرة فرنسية الأصل، بروتستانتية المذهب، وكان له أخ وحيد أكبر منه، تُوفيت والدته بعد ولادته بشهور معدودة، ثم تُوفِّي والده بعد ذلك بأربعين سنة.
وفي سنة 1728م هرب روسو من جنيف، وقصد دير كونفنيون بمدينة سافوا الإيطالية؛ حيث لقَّنه كاهن هذا الدير مبادئ الكاثوليكية، وأرسله إلى امرأة تُدْعَى دي فاران في أنيسي، وكانت هذه للتوّ دخلت في الكاثوليكية وتركت البروتستانتية، فسعت إلى قبوله في مدرسة كاتشو في تورين، ثم أعلن أمام الملأ، في كنيسة القديس يوحنا الكبرى، تركه للبروتستانتية ودخوله في الكاثوليكية.
وفي سنة 1730م انتقل إلى باريس، وأقام بها؛ حيث عمل مُؤدِّبًا هناك، وفي سنة 1745م أثناء إقامته في فندق سان كنتان التقى بتيريز لوفاسور، وكانت هذه الفتاة تعمل خادمة فيه، فأُعجب بها، وصف ذلك عادل زعيتر فقال: «إن سبب تعلُّقه بها، أن روسو رقَّ لها لما رأى من استهزاء الناس بها، لبساطتها وبلاهتها، فاتخذها رفيقة له عن حب وعاطفة».
ثم يؤكد بأن تيريز كانت على جانب كبير من الغباء، لا تُحْسِن القراءة ولا الكتابة، وكانت كثيرة الشغب والنزاع، ولكنها كانت ذات جمال في الشكل مع صوت حسن، ولذلك كان روسو معجبًا بها![5].
وعاش معها دون زواج، وأنجبت له خمسة من الأبناء، أودعهم ملجأ اللقطاء، وبقي على هذا الحال حتى أحس بتغيُّر في مشاعر تيريز تجاهه، فتزوجها زواجًا مدنيًّا بعد خمسة وعشرين عامًا.
ألَّف روسو عددًا من المؤلفات التي اشتهرت وذاع صيتها، مثل: أصل التفاوت بين الناس، العقد الاجتماعي، إميل أو التربية، الاعترافات، أسقف سافو، جولي، وغيرها، وقد كانت آراؤه وكُتُبه ومؤلفاته مصدر إزعاج له؛ فكانت الأوامر تصدر بمنع مؤلفاته، حتى وصل الحال إلى الأمر باعتقاله، وهذه المواقف أدت في نهاية الأمر، إلى تخلّي روسو عن حقه بأن يكون مواطنًا لجنيف، وذلك في سنة 1763م، ثم سافر إلى إنجلترا، وأقام في لندن في سنة 1766م.
كانت حياته مليئة بالسفر والترحال، والتنقل بين المدن الفرنسية، وكذلك التنقل بين الدول الأوروبية مثل إيطاليا وإنجلترا وسويسرا، ولم يَعِش حياة الراحة والاستقرار، فعاش شريدًا بائسًا؛ إذ كانت السمة البارزة في حياته، أنه كلما استقر في مدينة تأتي الأوامر بمغادرته لها بعد مدة من الزمن، كما عاش في بيئة قاسية فاسدة، حتى قيل: إن ذلك ساهم في نُضج آرائه وأفكاره.
وفي نهاية المطاف يستقر روسو في (إيرمينو نفيل) بفرنسا، ويسدل الستار على حياة روسو اللافتة للنظر والمثيرة للجدل؛ حيث تُوفي سنة 1778م[6].
أهمية الكتاب:
قبل البدء في بيان أهمية الكتاب ومكانته لدى علماء التربية؛ لا بد من الإشارة إلى الحادثة التي مهَّدت لظهور هذا الكتاب، ففي باريس سنة 1749م نشرت أكاديمية ديجون إعلانًا لمسابقة في موضوع: هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق أو إلى إصلاحها؟، فما كان من روسو إلا أن قرر المشاركة فيها؛ فأعمل ذِهْنه، وجمَع قُوَاه، وكتب في هذا الموضوع، وأقام الأدلة على أن العلوم والفنون كانت سببًا في فساد الأخلاق، وأوجبت الشقاء للإنسان.
وهو أيضًا يرى أن الترف والحضارة من نتائج العلوم والفنون، وأنهما علَّة فساد الأخلاق، ولهذا فقد نادى بالرجوع إلى الحالة الطبيعية، ونتيجةً لذلك فقد حصل على الجائزة وفاز في المسابقة، ولم تكن الجائزة وحدها هي الشيء الوحيد الذي استفاده روسو من هذه المسابقة، بل تكمن أهمية هذه الرسالة في كونها مفتاحًا لنشوء روسو الذهني؛ ولأنها مرحلة مؤدية إلى تأليف: أصل التفاوت، ثم العقد الاجتماعي، وإميل أو التربية [7].
ظهر روسو في هذا الكتاب بمظهر الفيلسوف المُربِّي، وهذا جانب يُضاف إلى عنايته وتنظيره في الفلسفة الاجتماعية، وقُدِّر لهذا الكتاب أن يحظى بانتشار كبير، وأن يحتل مكانة في مؤلفات علم التربية، حتى تأثر به أحد الفلاسفة البارزين آنذاك، وهو الفيلسوف الألماني (كانط)، أكّد هذا مترجم الكتاب[8]، فقال: «وفي كتاب إميل ظهر روسو الفيلسوف المربي، بجانب روسو الفيلسوف الاجتماعي، ويُعدّ روسو بهذا الكتاب مُؤسِّس التربية الحديثة، ففيه ألقى دروسًا ممتعة في تربية الأطفال، ومذاهب التربية والفضيلة، والحياة الزوجية، وقد نال كتاب إميل من بُعْد الصيت، ما أصبح معه مُعوَّل علماء التربية، وما عُدَّ معه إنجيل التعليم والتربية، حتى إن الفيلسوف الألماني الكبير (كانط) تأثَّر به كثيرًا»[9].
ثم يبين المترجم أن كتابات روسو في العقد الاجتماعي، أدَّت إلى ثورة في عالَمَي السياسة والتربية، فكما أن كتاب العقد الاجتماعي أثَّر في السياسة والثورة الفرنسية، فكذلك الحال مع كتاب إميل أو التربية؛ حيث اشتمل على آراء عملية ونظرية، قادت إلى ثورة في عالم التربية والتعليم، وبشَّر بمذهب جديد في التربية، وصف ذلك عادل زعيتر، فقال: «وإن ما انطوى عليه كتاب إميل من آراء عملية ونظرية، انتهى إليها روسو باختياره، أثَّر به في عالم التربية، مثل تأثيره في الثورة الفرنسية وعالم السياسة، بكتابه العقد الاجتماعي، وفي كتاب إميل ثار روسو على مناهج التعليم القديمة، وأساليب التربية العتيقة، وبشَّر بمذهب جديد في التهذيب تبشيرًا، عُدَّ به رائدًا للتربية الحديثة وقائدها»[10].
ثم يواصل مترجم الكتاب إعجابه وإشادته، ويرد على من يقول: إن الكتاب أُلِّف منذ مئات السنين، وهو إن كان صلح في عصر له ظروفه الخاصة، ولكن ذلك لا يجعلنا نستصحب كلام روسو، ونطبّقه في هذا العصر الحديث، فقال: «ولا تقل: إن الكتاب وُضِعَ منذ نحو قرنين، وهو خاصّ بالزمن الذي أُلِّف فيه؛ فروسو من العباقرة الذين ينفذون ببصائرهم حُجُب المستقبل، وكتاب إميل أُلِّف للأجيال التي تأتي بعد مُؤلِّفه، سيبقى معتمدًا لدى جهابذة التعليم والتربية، يُعوِّلون عليه، ويهتدون به في طرقهم التعليمية ومذاهبهم التهذيبية، وليس من المبالغة أن يقال: إن خير كتاب ظهر حتى الآن في موضوعه، وإن علماء التربية في العصر الحاضر، مدينون له في أساليبهم، وإن التربية الحديثة من آثاره.
حقًّا لم يقم كتاب في التربية مقام إميل؛ لإمام التربية والاجتماع روسو، وقد تُرْجِمَ هذا السفر الخالد الجليل غير مرة، إلى معظم لغات العالم الأوروبية منذ وضعه»[11].
وهنا لا بد من التأكيد على مكانة الكتاب، وعناية علماء التربية به، ولكن هناك إيراد يمكن ذِكْره في هذا المقام، وهو: هل روسو كان له أولاد فقام بتربيتهم ونجح في ذلك؟، ثم كتب تلك الخبرات المتراكمة والتجارب العملية، ونشرها في كتابه إميل أو التربية.
إن المطلع على حياة روسو يجد أنه رُزِقَ بخمسة من الأبناء، ولكنَّه أودعهم في ملجأ اللقطاء!، وذكر لهذا الفعل الشنيع بعض المُبَرِّرَات، كان من أبرزها: ضيق ذات اليد، وصعوبة القيام بتكاليفهم المادية، فقال: «إني إذ أسلمتُ أولادي إلى الدولة لتربيتهم؛ لعجزي عن تنشئتهم بنفسي، وإذ قضيت عليهم أن يصبحوا عمّالًا أو مزارعين، بدلًا من أن يصبحوا مغامرين وطلاّب ثروة»[12].
وقال في موطن آخر: «وهكذا أُسلِّم ابني الثالث إلى ملجأ اللقطاء، كما كان شأن الطفلين السابقين، وكذلك كان شأن الطفلين التاليين؛ إذ إنني أُوتيت خمسة»[13].
وأحيانًا نجد روسو يشعر بالخطأ والندم على هذا الفعل، فيقول: «ولقد أشعرتني حسرات قلبي في أكثر من مرة فيما بعد، أنني كنت مخطئًا، ولكنَّ عقلي كان أبعد من أن يُوحي إليَّ بنفس الرأي»[14].
ولي هنا تعليق: ألا وهو أن الندم قد يمكن قبوله لو صدر مرة، ثم أحسَّ فاعله بمرارة وحسرة في قلبه، ولكننا هنا أمام أب يودع أول طفلين رُزِقَ بهما الملجأ، ثم يُودِع الثالث، ثم يُودِع آخر ولدين له، دون أن يتردد في مرة من المرات، أو يحاول إصلاح الخطأ الذي فعَله، فكيف يمكننا قبول نَدمه أو حتى تفهُّم فعله هذا؟!
ومن جهة أخرى يحاول روسو الدفاع عن نفسه، وأنه لم يكن قاسيًا، أو قاطعًا للرحم، أو فاقدًا لصفة الرحمة، فيقول: «فإنَّ جان جاك لم يكن قط عديم الشعور، وناكرًا لصلات الرحم، ولا كان أبدًا جاحدًا، لحظة واحدة في حياته، ومن المحتمل أن أكون قد أخطأت، ولكنني لم أكن قط قاسي القلب... كنت أظنني أؤدي تصرفًا يليق بأب مواطن صالح، وكنت أتمثل نفسي عضوًا في جمهورية أفلاطون»[15]، وضع خطًّا تحت (ومن المحتمل أن أكون قد أخطأت!).
ولكنه في مكان آخر، يصرح بأنه يرى أن هذا الإجراء حكيم ومشروع، وأنه لا يخجل منه، وجاهَر به لدى المطلعين على علاقته بأمهم؛ إذ إنه بقي زمنًا طويلًا يُعاشرها بدون زواج، أنجبت خلال تلك الفترة هؤلاء الأبناء، وأنه إن أخفى ذلك عن بقية الناس؛ فإنما فعله مراعاةً لخاطر أمهم، فقال: «ولقد بدا لي هذا الإجراء ملائمًا حكيمًا مشروعًا، إلى درجة أنني إذا كنت لم أفخر به علانية، فإنما كنت أصدر في ذلك عن شيء من مراعاة خاطر أمهم، على أنني أنبأت به كل أولئك، الذين كنت قد أطلعتهم على علاقتي بها»[16].
ولكن هل كان فقره وقلة ذات اليد هو الدافع الحقيقي والسبب الوحيد، لهذا التصرف الذي قام به روسو؟، في ظني أنه لم يكن كذلك؛ إذ عُرضت عليه كفالة اثنين من أولاده، مِن قِبَل امرأتين تربطه بهما علاقة صداقة، ولكنه رفَض ذلك لأسباب عرضت له في عقله، فقال: «ولو أنني أسلمتهم إلى السيدة ديبيناي أو السيدة دي لوكسمبورج، اللتين رغبتا فيما بعد في أن تكفلاهم، سواءٌ بدافع من الصدقة أو من الكرم أو من أيّ حافز آخر، لو أنني فعلتُ ذلك فهل تراهم كانوا أكثر سعادة، أو ينشئون رجالًا أمناء محترمين على الأقل؟
لست أدري، ولكني واثق بأنهم كانوا خليقين بأن ينشئوا على كراهية أبويهم، وربما على الغدر بهما، ومِن ثَم فقد كان من الأفضل مائة مرة، أنهم لم يعرفوا أبويهم»[17].
وهنا ارتكب روسو أخطاء كثيرة؛ من أشنعها: أنه لم يذكر لهذا الملجأ اسم والد هؤلاء الأطفال، فهو إن كان صادقًا في ادعائه الفقر، فليدَعْ تربيتهم للدولة، ثم إذا كبروا يعرفون والديهم فيرتبطون بهما، ولكنه حرمهم حتى من الانتساب إليه!
والخطأ الآخر الذي ناقض روسو به أفكاره، أنه قرَّر بالنيابة عن هؤلاء الأطفال ما يَصْلُح لهم، وهو من كان ينادي بأن يربَّى المراهق على الوقائع، فلا يقبل أن نفكِّر ونختار بالنيابة عنه، فقال: «وأسوأ المؤرخين من أجل الفتى هم الذين يصدرون أحكامًا، الوقائع الوقائع الوقائع؛ دعوه يحكم بنفسه، هكذا يتعلم معرفة الرجال، إذا كان حكم المؤلف يرشده بلا انقطاع، فإنه لا يرى بغير عين رجل آخر، وإذا ما أعوزته هذه العين عاد لا يرى شيئًا»[18]، فما الذي يضير روسو لو تركهم مع هاتين السيدتين يعيشان الحياة الكريمة، بعيدًا عن كونهما نزلاء ملجأ اللقطاء؟!
علّق عادل زعيتر على موقف روسو من أبنائه، ووضَّح بأن السبب الحقيقي لم يكن هو الفقر والحاجة، بل كان هدفه ومبتغاه أن يحيا حياة حرة طليقة، فلا يكون منشغلًا بمسؤولية، فقال: «فقد وَلَدَتْ له خمسة أولاد، وسلّمهم إلى ملجأ اللقطاء، وذلك من غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، ويعتذر روسو عن ذلك، بفقره واضطراره إلى كسب عيشه بكده، وإن كان يهدف إلى الحياة الحرة الطليقة، التي لا تشغل باله بوَلدٍ»[19].
ولعلّي أختصرها في كلمة واحدة وهي الأنانية، فحُبّ الأنا كان جليًّا في حياة روسو، من خلال موقفه مع أولاده، ومن خلال موقفه مع زوجته؛ كما سيأتي.
وفي موطن آخر يبين عادل زعيتر أن روسو كان يشعر في قرارة نفسه بالخطيئة، ولهذا ألّف كتابه تكفيرًا عنها، كما أشار إلى حزن الأم على أولادها، وأنها بقيت ملازمة للغم والألم بسبب فقدهم، فقال: «وقد أراد روسو أن يكفّر عن هذه الخطيئة التي لا تُغتفر، بوضع كتاب إميل أو التربية العظيم الشأن، وقد ذكر روسو في اعترافاته أنه صرح رسميًّا بزواجه بتريز، بعد معاشرته إياها ربع قرن، وقد صرفها بذلك عن طلبها الفراق، فظلت رفيقة له إلى أن مات، وإن لازمها الغمّ والألم؛ حزنًا على أطفالها أولئك»[20].
وهنا لا أخفي اندهاشي من موقف روسو؛ إذ المفترض في مثل حاله وواقعه الذي عاشه، أن يكون صاحب أسرة، مُهتمًّا بأولاده، مُبالِغًا في الإحسان إليهم؛ وذلك لأنه حظي بأب شريف وصاحب استقامة كما يصفه دائمًا، وكان يُبْدِي لولده الحب والحنان والاهتمام، بل كان يَخصّه بذلك أكثر من أخيه، فقال: «وما كان أبي رجلًا شريفًا فحسب، وإنما ذا استقامة مشهود فيها، وقد أُوتِيَ نفسًا من تلك النفوس القوية، القادرة على جليل الفضائل، وكان فضلًا عن ذلك أبًا صالحًا لا سيما بالنسبة لي، فقد كان يحبني ويخصّني بحنان فيّاض»[21].
ويقول في موطن آخر: «هذا التصرف من جانب أبي الذي أعرف حنانه واستقامته تمام المعرفة، قادني إلى تأملات في حالي»[22].
وعلى الرغم من فرار روسو وقيام أبيه بالبحث عنه؛ إلا أن والده لم يُغيِّر من محبته له، بل كان يُعانقه ويُقبّله، فقال: «كان يستقبلني عندما أزوره -كما صرت أفعل كثيرًا بعد فراري-، بعناقات الأب وقُبُلاته»[23].
كان الأجدر به أن تكون تلك الصفات المميّزة لوالده، مصدر إلهام ودافع داخلي، لأن يقوم روسو بعنايته واهتمامه بأولاده، ولكن جُلّ تأثر روسو من والده، تلك الأحاسيس التي كانت تعتمل في قلب والده، فقال: «فلقد كان أبي -رغم وَلَعه باللهو-، رجلًا شديد الاستقامة، ليس هذا فحسب، بل إنه كان أيضًا على قدر كبير من الشعور الديني، كان رجلًا ذا شهامة في شؤون الدنيا، ومسيحيًّا في قرارة فؤاده، ولقد بثَّ في قلبي منذ الصغر، ما كان يخالجه من إحساسات»[24].
وتزيد الدهشة من سلوك روسو تجاه أولاده، حينما تعلم أن روسو كان يتحدث عن حياته، وأنه حظي بتربية رائعة تمثلت في أمثلة مشرفة؛ فقد كانت أسرته متميزة بالأخلاق، كما كان والده شديد الاستقامة، وعماته الثلاث مثل والده، وكان له أقارب رائعون، يتعلم منهم دروس الحكمة، فقال: «وإذا كان ثمة طفل قد تلقَّى تربية معقولة سليمة، فهذا الطفل هو أنا، فقد كنت أنتمي إلى أسرة امتازت بأخلاقها عن عامَّة الناس، فما تعلمت من أقاربي سوى دروس الحكمة، وكنت دائمًا أرى أمام عيني أمثلة مشرفة، فلقد كان أبي -رغم ولعه باللهو-، رجلًا شديد الاستقامة، ليس هذا فحسب، بل إنه كان أيضًا على قدر كبير من الشعور الديني، كان رجلًا ذا شهامة في شؤون الدنيا، ومسيحيًّا في قرارة فؤاده، ولقد بثّ في قلبي منذ الصغر، ما كان يخالجه من أحاسيس، وكذلك أفدتُ من عماتي الثلاث، اللائي كن جميعًا عاقلات فاضلات»[25]، فكيف استطاع روسو أن يَحْرم أولاده من مثل هذه الحياة، التي كانت حاضرة أمامه إبَّان كِبَره، ويشيد بها مع مر السنين، وما زالت ذكراها جميلة؟!
فإذا تجاوزنا الموقف الإنساني والسلوك الأخلاقي، فهل كان روسو جديرًا بالتربية والتعليم، وللإجابة عن هذا يَحْسُن بنا أن ننقل ما سطَّره روسو عن نفسه في هذا المجال؛ فهو يعترف بقصوره في التربية، ويقول: «وأجدني كثير الإدراك لأهمية واجبات المربي، وأجدني كثير الشعور بقصوري»[26]، وهذا الحكم الذي حكم به على نفسه، لم يكن بسبب خوفه من التجربة أو جَهْله بها، بل كان نتيجة لتجربة سابقة لم يُوفَّق فيها، أكَّدت له عدم أهليته لمهمة التربية، فقال: «ومما حدث أن قمت بتجربة كافية في هذه المهمة سابقًا، وذلك لأستيقن أنني غير أهل لها، وأن أحوالي تُعفيني منها، حتى عند استعدادي لها»[27].
ولكن ها هنا مسألة: هل يلزم أن يكون المربي أو المهتم بعلم التربية، مزاولًا لهذه المهنة؟، ألا يوجد من هم على قدر من التنظير المميز، غير أنهم لم يحظوا بأسرة أو يرزقوا بأبناء؟، ألا يوجد من يكون مُوفَّقًا في أطروحاته، ولكنه لم يُجرِّب التربية العملية؟، وفي الوقت نفسه ألا يوجد مَن نجَح، ووُفِّق في تربية أولاده تربية رائعة، دون أن يقرأ كتابًا، أو يكون له اطِّلاع على نظريات التربية، وعن مثل هذا قال روسو: «وإذا كنت غير قادر على القيام بأنفع الأعمال؛ فإنني أجرؤ على الأقل، على محاولة القيام بالأسهل، وذلك أنني أسير على غرار أناس كثيرين غيري، فلا أقبض العمل، بل على القلم، وأنني أجِدُّ في قول ما يجب بدلًا من فعله»[28].
وعلى كل حال، فمهما اقتنعنا بقدرة روسو على التنظير في مسائل التربية والتعليم، وأهليته لإعطاء النصائح والتوجيهات لكل مُرَبٍّ؛ فإن ذلك لا يُعفيه من أنه ارتكب خطأ فادحًا، وسيبقى ما فَعَله وَصْمة عارٍ، تلاحق مسيرته وتقترن باسمه، ولا يُكفِّر عن ذلك كتاب ولا عشرة كتب في التربية.
يقول عادل زعيتر مُعلِّقًا على موقفه تجاه هذه الحادثة: «وفي ذلك من الابتعاد عن الإنسانية والمروءة، وحسّ الواجب ما لا يخفى»[29]، ولكنه يذكر بعد ذلك أن هناك مَن شكَّك في صحة هذه القصة، وأنها دُسَّت في اعترافاته بعد موته، فقال: «ومع ذلك فقد وُجِدَ مَن شَكَّ في صحة حكاية أطفاله الخمسة تلك، ذاهبًا إلى أنها دُسَّت في اعترافاته التي نُشرت بعد موته»[30]، ولكنه لم يذكر من شكَّك بهذا، كما لم يُقِم الأدلة والبراهين على صحة هذا التشكيك، ولهذا لا يمكن الاعتماد على هذا الرأي، ويبقى موقف تخلي روسو عن أولاده ثابتًا، حتى يأتي ما يَنفيه.



[1] إميل أو التربية، روسو، (ص51).
[2] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص28).
[3] إميل أو التربية، روسو، (ص285).
[4] إميل أو التربية، روسو، (ص286).
[5] مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، (ص9).

[6] للاستزادة عن حياة روسو، انظر: الاعترافات، روسو، مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، مقدمة كتاب إميل أو التربية، روسو، جان جاك روسو، نجيب المستكاوي، تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم.
[7] انظر: الاعترافات، روسو، (248-249)، مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص26)، مقدمة مترجم كتاب أصل التفاوت، روسو، (ص8).
[8] ترجم هذه الكتب الأستاذ عادل بن عمر زعيتر، وُلِدَ في نابلس سنة 1312ه، وتوفي فيها سنة 1377ه، كان من أكابر المترجمين عن اللغة الفرنسية؛ حيث بلغ ما ترجم عنها سبعة وثلاثين كتابًا، وكان له إلمام بالتركية والإنجليزية، ترجم عدة كتب لروسو، وهي: العقد الاجتماعي، وإميل أو التربية، وأصل التفاوت بين البشر، انظر: الأعلام، الزركلي، (3/244).
[9] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص27).
[10] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص28).
[11] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص28).
[12] الاعترافات، روسو، (ص252).
[13] الاعترافات، روسو، (ص253).
[14] الاعترافات، روسو، (252-253).
[15] الاعترافات، روسو، (252-253).
[16] الاعترافات، روسو، (ص253).
[17] الاعترافات، روسو، (ص253).
[18] إميل أو التربية، روسو، (ص268).
[19] مقدمة مترجم إميل أو التربية، روسو، (ص25).
[20] مقدمة مترجم إميل أو التربية، روسو، (ص25).
[21] الاعترافات، روسو، (ص46).
[22] الاعترافات، روسو، (ص47).
[23] الاعترافات، روسو، (ص47).
[24] الاعترافات، روسو، (ص51).
[25] الاعترافات، روسو، (ص51).
[26] إميل أو التربية، روسو، (ص51).
[27] إميل أو التربية، روسو، (ص51).
[28] إميل أو التربية، روسو، (ص51).
[29] مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، (ص9).
[30] مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، (ص9).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-09-2023, 04:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: جان جاك روسو مُربيًّا

جان جاك روسو مُربيًّا (2-3)


د. عادل بن صالح أحمد الغامدي



شارك:





من يقرأ هذه النصوص المنقولة عن روسو، يكاد أن يُحلِّق عاليًا في سماء الحب والرومانسية، ويقول ما هذه الرابطة الجميلة التي جمعت بين هذين المتحابين؟ وما هذه العاطفة الجياشة بين هؤلاء العشاق؟،


تيريز وعائلتها:
يحسن بنا الحديث عن عائلة تيريز، قبل الشروع في بيان العلاقة التي جمعت روسو بها؛ إذ من خلال حديث روسو عن عائلة تيريز، يتَّضح أنه لم يكن على وفاق مع والدتها؛ حيث قال: «وذلك بالرغم من أن تيريز كانت زاهدة في أيّ مصلحة شخصية، إلى درجة لا يكاد يكون لها مثيل؛ إلا أن أمها لم تكن على شاكلتها»[1]، ولكنه على العكس تجاه والدها فقد أثنى عليه، ولكنه كان ثناءً ممزوجًا بذَمّ لوالدتها، فقال: «كان والد تيريز كهلًا طيبًا مفرط الدعة، يخاف من زوجته كلّ الخوف»[2].
كان روسو يتذمر ويشتكي من أن عائلة تيريز تستغل علاقتها به ماديًّا، وكان ذلك بتخطيط من أُمّها، فقال: «فما أن رأت أحوالها تتحسن -بفضل رعايتي- حتى استدعت كل أسرتها لتشاطرها الغنيمة، فإذا بالأخوات والأبناء والأحفاد يَفِدُون جميعًا ما عدا ابنتها الكبرى، التي كانت متزوجة من مدير عربات النقل في إنجير، وأصبح كل ما أفعله من أجل تيريز، يتحوّل بفضل أمها إلى هؤلاء النهمين»[3].
ولكنه مع ذلك لم يتصرف بحماقة أو إساءة لتلك العائلة، ولهذا قال: «بل إنني في اغتباطي بأن أعول تيريز في حياة لا بأس بها، خالية من الترف، ولكنها في وقاء من الحاجة؛ أقررتها على أن تسلم أمها كل ما كان بوسعها أن تكسبه من عملها، ولم أكن أقتصر على ذلك»[4]، ونتيجةً لهذا الوضع فهو يرى أن تيريز لم تكن نسيجًا متشابهًا مع هذه العائلة؛ فهو يراها ضحية لهم، فقال: «وكانت تيريز ضحية لأسرتها»[5].
إن علاقة روسو بتيريز يحفُّها كثير من علامات التعجب، فهناك من وصفها بالغباء والبلاهة[6]؛ فكيف يقبل روسو النابغة بمثلها؟ ومن جهة أخرى يصرّح روسو بأنه يحب تيريز ومتعلّق بها، لدرجة أنه عرض عليها الزواج بعد سنوات طويلة؛ حتى لا تتركه، ولكن في الوقت نفسه يصرّح في نصوص عديدة أنه لم يحب تيريز، أو يشعر تجاهها بشيء مما يكون بين الرجل وزوجته؟!
ولهذا نحاول تفسير موقفه هذا من تيريز بشيء من التحليل والتفصيل، ونؤكد على أن روسو امتدح تيريز وأثنى عليها، فقال: «إنها حسنة الشكل، ومزاجها رقيق، وشخصيتها لطيفة، وقد خُلقت لترتبط برجل محترم»[7].
ثم يذكر صفة فيها جعلت لها مكانة في قلبه، فقال: «كان قلب تيريز قلب مَلاك، وقد عزَّزت حياتنا المشتركة حُبّنا، فأخذنا نزداد إحساسًا يومًا بعد يوم، بأن كلًّا منّا خُلِقَ للآخر، ولو قُدِّر لمُتَعِنَا أن تُوصَف، لكانت بساطتها داعية للضحك»[8]، ويصف طيبة القلب هذه في موطن آخر، فيقول: «أبدًا لم أشعر بطيبة قلب تيريز كما شعرت به في هذه المناسبة»[9].
ثم يبيّن روسو أن لدى تيريز من الصفات الرائعة، والمظهر الخالي من الافتعال والإغواء، ما جعله متعلقًا، فقال: «فإن هذه الشابة اللطيفة كانت كفيلة، بفضل ألف من الصفات الرائعة، وبفضل مظهرها الشخصي، الذي كان خلوًّا من أيّ افتعال أو إغواء، بأن تستوعب كل كياني في كيانها، لو أنني استطعت أن أستوعب كيانها في كياني، كما كنت آمل»[10].
وهنا يذكر روسو جانبًا مُهمًّا جعل علاقته وعاطفته تجاه تيريز من القوة، لدرجة أنها استمرت سنين طويلة، دون أن يزعزعها أو يهزّها شيء، فقال: «بدأ تعارفنا فَلَاحَ لي أن لُطْف شخصية هذه الفتاة الطيبة، يتمشى مع طبيعة شخصيتي، حتى إنني ارتبطت بها بعاطفة، لم يَقْوَ الزمن ولا الزلّات على إضعافها»[11]
ويرى روسو أن اليوم الذي ألتقي فيه بهذه الفتاة، هو يوم ما بعده ليس كما قبله، فقال: «لقد اعتدت دائمًا بأن أعتبر يوم اتحادي مع تيريز، هو التاريخ الذي أصبحت فيه حريصًا على مبادئ الخلق، فقد كنت بحاجة إلى وُدّ وثيق»[12].
ثم يختم روسو حديثه عن علاقته بتيريز ومدى حبّه لها، وحجم التنازلات التي قدّمها؛ حتى لا يفقدها؛ فقال: «وعندما يُعرَف أنني بعد أن فعلتُ كل شيء، وبعد أن جابهتُ كل عناء لأتفادى فِرَاقها، وبعد أن عشتُ معها خمسة وعشرين سنة، برغم سجيّة البشر، أقدمت في النهاية على الزواج منها في شيخوختي، دون أن يكون لديها أيّ توقُّع أو أيّ رجاء، دون أن أرتبط معها بخطوبة أو بوعد، عندما يُعرف هذا، يسهل على المرء أن يصدق، أن الحب الجامح الذي عبث برأسي منذ اليوم الأول، قد قادني تدريجيًّا إلى آخر حماقاتي»[13].
من يقرأ هذه النصوص المنقولة عن روسو، يكاد أن يُحلِّق عاليًا في سماء الحب والرومانسية، ويقول ما هذه الرابطة الجميلة التي جمعت بين هذين المتحابين؟ وما هذه العاطفة الجياشة بين هؤلاء العشاق؟، ولكن روسو نفسه يصدمك بكلام له، فيذكر أنه لم يشعر بأقل مقدار من المحبة تجاهها، وهذا الشعور كان لديه من اللحظات الأولى، فيقول: «إنني منذ اللحظة الأولى التي رأيتها فيها حتى يومنا هذا، لم أشعر نحوها بأقلّ قَدْر من الحُب... وأن الرغبات الحسية التي كنت أُشبعها لديها، لم تكن في نظري سوى استجابة للنوازع الحسية، دون أن يكون لها أي علاقة بالفرد»[14].
وحتى لا يتبادر إلى ذهن القارئ أن روسو بموقفه هذا، كان يعاني من مشكلة نفسية، أو أن له شخصية قاسية لا تعرف الحب ولا تشعر به؛ فقد استشهد بعلاقة له عابرة مع امرأتين تعلق بهما في وقت سابق، فقال: «قد يعتقد القارئ أنني أوتيت بنية تختلف عن بنية سواي من الرجال، كنت عاجزًا عن أن أشعر بالحبّ، ولا سيما وأنه لم يدخل قطّ بين المشاعر التي ربطتني بتلكما المرأتين، اللتين كانتا أعز النساء لديَّ»[15].
من يقرأ هذه النصوص المتقابلة يشعر بالدهشة والحيرة، ويصعب عليه تفسير حقيقة موقف روسو، ولكن من يتأمل هذه النصوص، ويقرأ المبررات التي ذكرها روسو في معرض بيانه لحقيقة علاقته بتيريز، يمكن القول: إن روسو لم يحب زوجته في يومٍ من الأيام، ونعني بهذا هو الحُبّ الذي يكون بين الرجل وزوجته، وبين العاشق ومعشوقته، ولكن الحب الذي عناه روسو هو تقارب الشخصيات، وطيبة القلب، والارتباط والود الوثيق، وهو فراغ كان يشعر به لم يزل معه حتى قابل تيريز، ولهذا لم يكن يطيق فراقها أو الابتعاد عنها، حتى جعله هذا يُقْدِم على الزواج بها دون أن يكون مُلزمًا بوعد أو اتفاق سابق.
وضَّح روسو هذا الشعور الذي كان ينشده؛ إذ كان يمثل أولى وأعظم وأقوى وأعتى الحاجات لديه، وهو ما وجده عند تيريز، فقال: «لقد كانت أولى وأعظم وأقوى وأعتى حاجاتي جميعًا، تنحصر بأكملها في فؤادي، تلك هي الحاجة إلى زمالة أشد ما تكون ألفة وقربى وتوثقًا، ومن أجل هذا الغرض بوجه خاص، كنت محتاجًا إلى امرأة أكثر مني إلى رجل، إلى صديقة أكثر مني إلى صديق، وكانت هذا الحاجات من التفرّد بحيث إن أوثق العلاقات الجسدية ما كانت لتُرضيها، كنت أتوق إلى روحين في جسد واحد، وقد ظللت بدون ذلك أشعر بالفراغ دائمًا، ولقد ظننت أن اللحظة التي لا أعود أشعر فيها بذلك قد حانت»[16].
ولهذا كان روسو يبحث عن امرأة تكون له صديقة قريبة، يألفها وتربطه به علاقة وثيقة، تملأ به هذا الفراغ والخواء الروحي الذي يحسّ به، ولم يكن بحاجة علاقة جسدية، وهو إن أداها مع زوجته فهي استجابة للنوازع الحسية، وليس حبًّا في شريكته.
لعل موقف روسو هذا من تيريز، ألقى بظلاله على علاقتهما؛ إذ أحس بعد مدة من علاقتهما، بفتور في علاقة زوجته به، فقال: «ذلك أنني قد لاحظت من أمد طويل، أن وُدّها لي فتر، وشعرت بأنها لم تعد لي كما كانت في أيامنا الهنيئة، وقد زادني إحساسًا بذلك أنني ظللت دائمًا على حالي نحوها، وفطنت مرة أخرى إلى شعور بالاستياء»[17].
وكما كانت مشاعر روسو تجاه زوجته بلا حبّ، كذلك فعلت تيريز معه الشيء نفسه؛ فكان الجزاء من جنس العمل؛ حيث بقيت معه بمشاعر باردة، وهي إن لم تفارقه فإنما هذا من باب الوفاء وليس الحب، فقال: «شعرت بالبرود يَدُبّ في عواطف تيريز، ولقد ظلتْ على وفائها لي عن واجب، وليس عن حُبّ»[18].
تستوقفني علاقة روسو بتيريز؛ فهذا الرجل ارتبط بها ليس عن حُبّ، ولكن لتحقيق احتياج نفسي خاصّ، ومع هذا لم يكن يراعي نفسية وحاجات زوجته، فهو لم يحرمها من مشاعر الحب فحسب، بل حرمها كذلك من مشاعر الأمومة وتربية الأولاد، إضافةً إلى حرمانه لها من عائلتها، وبقي معها سنوات طوال دون زواج، حتى ألجأته الحاجة فاضطر إلى الزواج منها، كي لا يفقدها وقام بإبقائها معه، وهو يعلم أنها لا تحبّه، فعاش روسو معها بقية حياته، تحقيقًا لحاجات نفسية، لم يكن منها أقلّ مشاعر من الحب.
ولهذا فإنني يمكنني القول: إن كل هذه المواقف تقودني إلى وصف روسو بالأنانية وحبّ الذات، فهو لم يحب تيريز في يوم من الأيام، ولكنه أحبّ رغباته وحاجاته التي وجدها معها!

الفرق بين الذكر والأنثى:
يرى روسو أن كلًا من الذكر والأنثى لهما صفات مختلفة وطباع متغايرة، ولهذا ينبغي مراعاة هذه الفوارق، والعناية بهذه الاختلافات، حين تربية الشاب أو الفتاة، وهذه الفروقات تكمن في طبيعة الخلق، ويضرب بذلك مثلًا فيقول: إن «الذكاء لدى البنات أبكر نضجًا مما عند الصبيان»[19]، وكذلك الحال بالنسبة إلى اللسان وسرعة النطق، فقال: «ولسان النساء ليّن، فهن أبكر لطفًا من الرجال، وأسهل كلامًا، وألطف قولًا، وهن يتهمن أيضًا بأنهن أكثر منهم حديثًا»[20].
كما أن هذا الاختلاف واضح أيضًا في أذواقهم وطبيعة ألعابهم، فقال: «وكذلك يوجد لهم من الأذواق الخاصة ما يميز بعضهم من بعض، فالبنون ينشدون الحركة والضوضاء والطبول والدوام والمركبات الصغيرة، والبنات يفضلن على ذلك ما يُمتّع النظر وينفع للزينة، كالمرايا والحُلِيّ والشُّرط، لا سيما اللُّعَب، واللعبة هي الألهوّة الخاصة بهذا الجنس، وهذا يدل دلالة واضحة على مَيْلها إلى ما قُدِّرت له»[21]، ويوضح ذلك بمثال، فيقول: «وترون ابنة صغيرة تقضي نهارها حول لُعبتها، فلا تنفك تغير ثيابها فتلبسها وتعريها مئة مرة»[22].
وكذلك يمكن لكل مُرَبٍّ أن يلحظ أن الفتيات تميزن بأنهن أكثر طاعةً وخضوعًا من الفتيان؛ فقال: «وتكون البنات أطوع من الصبيان على العموم»[23]، وهذه الفوارق والاختلافات يمكن توظيفها والاستفادة منها، في معرفة ما يتقن كلٌّ منهما، ولهذا قال: «واستشيروا ذوق النساء في الأمور المادية، التي تنشأ عن حكم الحواس، واستشيروا ذوق الرجال في الأمور الأدبية، التي تتعلق بقوة الإدراك»[24]، فهنا اختصت الأنثى بالأمور التي تُدْرَك بالحواس، ويكون لها تعلُّق بالجمال، بينما تميز الرجل في الأمور التي تتعلق بالقدرات العقلية والمنطقية.
وهنا يَخْلُص إلى هذه النتيجة التي صرح بها، فقال: «ولا يوجد أيّ تماثل بين الرجل والمرأة من حيث الجنس»[25]، وكذلك الحال في الواجبات الموكلة لكل واحد منهم، فقال: «وما يلزم به الجنسان من واجبات ليس واحدًا، ولا يمكن أن يكون واحدًا، بالنسبة إلى كل واحد منهما»[26].

تربية الفتيات:
وبما أن روسو قرَّر الاختلاف والفروقات بين الجنسين، ومن هنا فقد انطلق إلى الحديث عن ضرورة، أن يكون لكل منهما طريقة خاصة ومختلفة في التربية، وبدأ في الحديث عن جوانب مشرقة وملهمة في تربية الأنثى، فامتدح عدم اختلاط الفتيات مع الفتيان في التربية اليونانية، فقال: «وإنما أجد أن التربية اليونانية كانت على العموم كثيرة البراعة من هذه الناحية؛ فكانت الفتيات يظهرن علنًا في الغالب، ولكن يجتمعن فيما بينهن، ولا يختلطن بالفتيان»[27].
وهو يرى أنه إن وُجِدَ بعض التشابه في أسلوب التربية بين الجنسين، لكن ينبغي أن يكون الهدف مختلفًا، فاستشهد بتدرب فتيات إسبارطة على التدريبات العسكرية، ولكن لم يكن ذلك للحرب، بل من أجل تهيئة الفتيات على أن يَكُنّ أمهات، يحملن أولادًا قادرين على تحمل مشاق الحروب، فقال: «وكانت بنات إسبارطة يتدربن كالفتيان على الألعاب العسكرية، لا ليذهبن إلى الحرب، بل ليحملن ذات يوم، أولادًا قادرين على احتمال مشاقها»[28].
وفي هذا السياق يرى روسو أن الفتاة تتغير حياتها تمامًا فور زواجها، وهو طراز الحياة الموافقة للطبيعة والعقل والجنس، فهي تبقى مقصورة في البيت وملازمة له، تقوم بشؤون منزلها والعناية بأسرتها، ثم تضع أصح الرجال وأقواهم، فقال: «وكان هؤلاء الفتيات إذا ما تزوجن عُدن لا يُرَيْنَ بين الناس، وصِرْن مقصورات في بيوتهن، قاصرات جميع جهودهن على تدبير منازلهن والعناية بأُسَرهن، وهذا هو طراز الحياة، الذي تأمر الطبيعة والعقل به الجنس، ثم إن هؤلاء الأمهات كن يضعن أصحّ رجال العالم وأقواهم وأحسنهم تقويمًا»[29].
إذن يرى روسو أهمية المنزل وتدبير شؤونه في حياة الأنثى، ولهذا وجَّه عنايته واهتمامه بتربية الفتاة على القيام بأموره، فنجده عندما يتحدث عن صوفيا، يمتدحها بأنها تجيد إدارة شؤون منزلها، فقال: «وكذلك تعاطت جميع أمور المنزل مفصّلًا، وهي تعرف الطهو وخدمة السّفرة، وهي تعرف أثمان المواد الغذائية وخواصها، وهي تعلم قيد الحسابات جيدًا، وهي تصلح أن تكون رئيسة خدم لأمها، وهي إذ كُوِّنت لتكون أُمّ أسرة ذات يوم، وهي إذ تتعلم إدارة منزل أبيها، تتعلم إدارة منزلها، وهي تستطيع أن تقوم بوظائف الخدم فتفعل هذا طوعًا»[30].
وهو يرى أن الفتاة لا يمكنها القيام بهذا من تلقاء نفسها، بل لا بد أن تقوم الأم بدورها في هذا، فتعظ ابنتها على أهمية ذلك، وتصبر على تربيتها، حتى تتقن الفتاة أمور المنزل، أكّد على هذا حين حديثه عن نظافة المرأة، فقال: «وعندها أن النظافة من أول واجبات المرأة، هذا الواجب الخاص اللازم المفروض مِن قِبَل الطبيعة، ولا يوجد في العالم شيء أدعى إلى الاشمئزاز من امرأة قذرة، ولا يكون الزوج الذي يشمئز مخطئًا مطلقًا. والأم قد أكثرت من وَعْظ ابنتها بهذا الواجب منذ طفولتها، وهي قد استلزمت كثير نظافة لنفسها وثيابها وغرفتها وشغلها وزينتها، فتحولت هذه العناية إلى عادة»[31].

طاعة الزوج والصبر على خطئه أو جوره:
إن هذا المنزل الذي يراد للمرأة، أن تكون قائمة عليه ومدبِّرة لشؤونه، ينبغي أن تُوضَع له قوانين؛ حتى تستمر الحياة سلسة، ودون نزاع أو خلاف، فيرى روسو أن للمرأة فيه أعظم سلطان، فتصنع فيه ما تريد، ولكنّ حالها مثل حال الوزير مع الرئيس، فلها مطلق الصلاحيات، ولكن دون أن تخالف رأي زوجها، فقال: «وعلى المرأة أن تحكم في المنزل، كما يحكم الوزير في الدولة، وذلك بأن تُحمل على صنع ما تريد، ومن الثابت في هذه الناحية أنَّ أحسن تدبير منزلي هو ما يكون للمرأة فيه أعظم سلطان، ولكنها إذا ما أنكرت صوت الرئيس، وأرادت غصب حقوقه، وانتحال القيادة لنفسها، لم ينشأ عن هذا الاختلال غير الشقاء والعار والشنار»[32].
وكلام روسو عن طاعة الزوجة لزوجها مطّرد؛ فهو يرى أن المرأة خُلقت لإطاعة الزوج، ولا بد أن تتعلم مع الطاعة الصبر على الجور، بل لا بد لها من تحمُّل أخطاء زوجها؛ حتى تسعد في حياتها، فقال: «والمرأة إذ خُلِقَت لإطاعة مخلوق كالرجل ناقص أيضًا، مُفْعَم بالمعايب غالبًا، مملوء بالشوائب دائمًا؛ وجَب أن تتعلم باكرًا أن تصبر حتى على الجور، وأن تحتمل خطأ الزوج من غير أن تشتكي، وليس عليها أن تكون لطيفة من أجله، ولكن من أجل نفسها»[33].
وهذه الطاعة ليست غريبة أو مرفوضة، بل هي نظام الطبيعة، فقال: «وفضلًا عن ذلك، فإن نظام الطبيعة أن تطيع المرأة الرجل»[34]، وفي موطن آخر يصف الطاعة بأنها مشيئة الطبيعة، فقال: «فإميل إذ صار زوجًا لك، أصبح قوّامًا عليك، فعليك إن تُطيعيه، وهذه هي مشيئة الطبيعة»[35].
بل إن روسو يتقدم خطوة إلى الأمام في مسألة طاعة الزوجة لزوجها وتحمُّل جَوْره وخطأه، فيصفها بأنها من أجمل طباع المرأة ولكننا أفسدناه، فقال: «وهذا هو طبع جنسها الجميل قبل أن نُفسده، وقد صُنعت المرأة لتذعن للرجل، ولتحتمل حتى جوره»[36].
وهو بهذا نجده متماهيًا مع طرحه في التربية؛ إذ يرى أن الإنسان يُولَد بفطرة صالحة خالية من المساوئ، ولكنَّ البيئة التي يعيش فيها تُفْسِده، وهو ما وقع لفساد طبيعة المرأة، فقال عادل زعيتر: «أبصر روسو أن الإنسان يُولَد صالحًا من المساوئ، فلا يُحوّله عن صلاحه إلا الإنسان الذي يعيش معه، والبيئة التي تكتنفه، فقام هدفه على إنقاذ الإنسان من بُؤرته، وهذا لا يكون إلا بالعمل الذي يحل به معضلات الحياة، فيشعر بالحياة التي يقضيها كاملة، وهذا لا يتم إلا بالتربية»[37].




[1] الاعترافات، روسو، (ص240).
[2] الاعترافات، روسو، (ص250).
[3] الاعترافات، روسو، (ص240).
[4] الاعترافات، روسو، (ص240).
[5] الاعترافات، روسو، (ص240).
[6] انظر مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص25).
[7] انظر: الاعترافات، روسو، (ص245).
[8] الاعترافات، روسو، (ص250).
[9] الاعترافات، روسو، (ص251).
[10] الاعترافات، روسو، (ص296).
[11] الاعترافات، روسو، (ص295).
[12] الاعترافات، روسو، (ص295).
[13] الاعترافات، روسو، (ص295).
[14] الاعترافات، روسو، (ص295).
[15] الاعترافات، روسو، (ص295).
[16] الاعترافات، روسو، (295-296).
[17] الاعترافات، روسو، (430-431).
[18] الاعترافات، روسو، (ص431).
[19] إميل أو التربية، روسو، (ص416).
[20] إميل أو التربية، روسو، (ص424).
[21] إميل أو التربية، روسو، (ص414).
[22] إميل أو التربية، روسو، (ص415).
[23] إميل أو التربية، روسو، (415-416).
[24] إميل أو التربية، روسو، (ص384).
[25] إميل أو التربية، روسو، (ص407).
[26] إميل أو التربية، روسو، (ص407).
[27] إميل أو التربية، روسو، (ص413).
[28] إميل أو التربية، روسو، (ص413).
[29] إميل أو التربية، روسو، (ص413).
[30] إميل أو التربية، روسو، (ص446).
[31] إميل أو التربية، روسو، (ص446).
[32] إميل أو التربية، روسو، (ص461).
[33] إميل أو التربية، روسو، (ص418).
[34] إميل أو التربية، روسو، (ص460).
[35] إميل أو التربية، روسو، (ص539).
[36] إميل أو التربية، روسو، (ص448).
[37] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص27).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19-10-2023, 07:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: جان جاك روسو مُربيًّا

جان جاك روسو مُربيًّا (3-3)


د. عادل بن صالح أحمد الغامدي








تربية الفتيان:
لم يكن جهد روسو منصرفًا إلى تربية الفتيات فحسب، بل كتب ونظر كثيرًا في طرائق وأساليب تربية الفتيان؛ لأنه يرى أن المراهقة ليست سنًّا للانتقام والحقد، بل على العكس من ذلك فهي سن الرحمة والكرم، فقال: «وليست المراهقة سنّ الانتقام ولا سنّ الحقد، بل سنّ الرحمة والشفقة والكرم، أجل! إني أدعي ولا أخاف أن تكذبني التجربة، بأن الولد الحسن المنبت، والذي يحافظ على طهره حتى العشرين من عمره، يكون في هذه السن أكرم الناس وأصلحهم، وأشدهم حبًّا إليهم وأقربهم مودة إلى قلوبهم»[1].
ولهذا نجد روسو ينادي بإشغال الفتيان في هذه السن بالقيام بالأعمال الصالحة؛ لأنها وسيلة لصلاحهم، فقال: «ويصبح الإنسان صالحًا بفعل الخير، ولا أعرف معروفًا أضمن من هذا مطلقًا، وأشغلوا تلميذكم بالأعمال الصالحة التي هي في متناوله، ولتكن مصلحة المعوزين مصلحته دائمًا، ولا تقتصر على مساعدتهم من ماله، بل ليشملهم برعايته، وليخدمهم وليَحْمهم، وليقف شخصه ووقته عليهم، وليجعل من نفسه وكيلهم، فهو لن يقوم في حياته بعمل أنبل من هذا»[2].
ولكنه يشترط لتحقيق هذا، القيام ببعض الأساليب والطرق في تربية الفتيان، ومن ذلك أنه يوصي بحماية أحاسيسهم من الإثارة، فلا تقع أعينهم على مناظر تغويهم وتدفعهم للشهوات، فقال: «ولا تطلعوهم على غير التصاوير المؤثرة مع الاعتدال، فتُحرّكهم من غير إغواء، وتُغذّي نفوسهم من غير إثارة لحواسهم، وكذلك اعلموا أنه يوجد في كل مكان من الفسق ما يُخْشَى، وأنه يوجد من الأهواء المتطرفة ما يُوجب في كل وقت من السوء ما لا يجتنب»[3].
وهو إذ يوصي بحفظ الفتيان وصون أنظارهم عن رؤية ما يثير الشهوة؛ لأن في اعتياد العين على تلك المناظر، تصبح إلفًا وعادة، فقال: «فالإنسان إذا ما واجَه عين المناظر زمنًا طويلًا، عاد لا يشعر بانطباعاتها؛ فالعادة تعود الإنسان كل شيء، وما يُرَى كثيرًا يعود بعيدًا عن الخيال، والخيال وحده هو الذي يجعلنا نشعر بمصائب الآخرين، وهكذا فإن القساوسة والأطباء يصيرون فاقدي الرحمة، بما يتفق لهم من مشاهدة الموت والألم»[4].
يدعو روسو إلى إشغال الفتيان بالأعمال الشاقة، واستنفاد طاقتهم في ذلك، حتى لا يبقى لديهم وقت للتفكير والخيال الذي يؤذي القلب، فقال: «وإني أمرّن بدنه على أشغال شاقة، فأقف نشاط الخيال الذي يسوقه، ومتى اشتغلت الذرعان استراح الخيال، ومتى تعب البدن لم يشتغل القلب قط»[5].
وهو ينادي بحماية الشاب من نفسه؛ لأنه قد يفعل ما يضره، ومن ذلك ألا يترك الشاب وحده في ليل أو نهار، فيخلو بنفسه، ولربما سوَّلت له أمرًا سيئًا، بل تجاوز ودعا إلى عدم السماح له بالذهاب إلى غرفته، إلا وهو مُنْهك ويشعر بالنعاس، ثم يُوصي بأن ينام معه في غرفته أحيانًا، فقال: «ولكن يتوقف عليكم أن تَقُوه من نفسه، ولا تتركوه وحده ليلًا ولا نهارًا، وناموا في غرفته على الأقل، ولا تدعوه يدخل الفراش إلا تعبًا نعسًا، فلا يخرج منه إلا حين يفيق»[6].
ثم انتقل روسو إلى أدق التفاصيل فأوصى باختيار نوع السرير، الذي سينام عليه الشاب، وهو لا يهمه ذات السرير، وإنما يرى أن الحياة الناعمة تؤدي إلى مشاعر وأحاسيس مستكرهة، بينما إذا تعود الشاب على الحياة القاسية؛ فإن ذلك يزيد من المشاعر والأحاسيس المستحبة، فقال: «ومن المهم أن يُعَوّد النوم على فراش غير مريح في بدء الأمر، فتكون هذه وسيلة عدم عَدِّه أيّ سرير سيئًا، وإذا تحوَّلت الحياة القاسية إلى عادة، زادت الإحساسات المستحبة على العموم، وتُعِدُّ الحياة الناعمة ما لا حدّ له من الإحساسات المستكرهة على العموم، ولا يجد من يُنَشَّأون في الترف الكثير نومهم على غير الرِّيش الناعم، ويجد من تَعوّدوا النوم على الألواح رقادهم في كل مكان»[7]، وهنا يذكر لنا روسو أحسن أنواع الفراش في نظره، فقال: «وأحسن فراش هو ما يوجب أحسن نوم»[8].
لم يكتفِ روسو بأن أشغل الشاب حتى تعب وشعر بالنعاس، ثم سمح له بالدخول إلى غرفته لينام على سرير قاسٍ له مواصفات خاصة، بل نادى بأن يُوقظ الشاب من نومه، حتى لا يعتاد على النوم مدة طويلة، فقال: «وأوقظ إميل أحيانًا، وذلك عن خشية تعوّده النوم زمنًا طويلًا»[9].
ثم ينتقل روسو لتربية مَلكة التفكير والحكم لدى الشاب، فينتقد أولئك الذين يُصْدرون أحكامًا من المؤلفين، وخصّ منهم المهتمين بالتاريخ، لِمَ لا يذكرون الوقائع ثم يدعون الشاب يحكم بنفسه، فهكذا يتعلم معرفة الرجال، فإذا كنّا نفكر عنه دائمًا ثم نعطيه الحكم، وهو بدَوْره يتلقاه، فسيبقى طيلة عمره أسيرًا لرؤية شخص واحد، إذا فقده فإنه عاد لا يرى شيئًا، فقال: «وأسوأ المؤرخين من أجل الفتى هم الذين يُصدرون أحكامًا، الوقائع الوقائع الوقائع؛ دَعُوه يحكم بنفسه، هكذا يتعلم معرفة الرجال، إذا كان حكم المؤلف يرشده بلا انقطاع، فإنه لا يرى بغير عين رجل آخر، وإذا ما أعوزته هذه العين عاد لا يرى شيئًا»[10].
منظومة الزواج لدى روسو:
وهنا تجد أن روسو يحترم منظومة الزواج ويقدّسها، وهذا ما دفَعه إلى النأي بنفسه عن انتهاك حرمات البيوت، واحترامه لفراش الآخرين، وإن أدى ذلك إلى معاناته، فقال: «وما فتئت منذ شبابي أحترم الزواج كأول نظام للطبيعة، وأكثر نُظُمها قداسةً؛ وإذ أنزع مني حقَّ الإذعان لسلطانه، فإني أعزم على عدم انتهاكه مطلقًا؛ وذلك لأنني على ما كان من ثقافتي ودراستي، ومن قضائي حياة نمطية بسيطة، حافظت في ذهني على صفاء صُوَى[11] الفطرة كاملًا، أي أمثال الناس التي لم تُسوِّدْها قط، وإنَّ فَقْري كان يُقصيني عن المغريات، التي تمليها سفسطة الفسوق.
وهذا العزم أوجب دماري، وذلك أن احترامي لفراش الآخرين، أدَّى إلى كشف خطيئاتي، وكان لا بد من التكفير عن زلتي، وأُوقَفُ وأُحْجَزُ وأُطْرَدُ، وأكون ضحية وساوسي، أكثر من أن أكون ضحية دعارتي»[12]. وهنا أسجل إعجابي بروسو فهو الرجل الذي عاش سنوات طويلة مع صديقته بلا زواج، كان يسعه أن يقلل من شأن الزواج ويحقره ويُسفِّه مَن يفعله، ولكننا نجده هنا مدافعًا ومؤيدًا.
إن روسو ينظر للزواج على أنه حاجة فطرية، ولكن يفترض أن يحرص الشاب على المحافظة على عفافه، حتى يصل إلى السن الذي يكون مؤهلًا فيها للزواج، وهذا السن هو في عمر العشرين، فقال: «وينمو البدن حتى العشرين من السن، ويحتاج البدن إلى جميع جوهره، ويكون العفاف من نظام الطبيعة حتى ذلك الحين، ولا يُنقَضُ هذا النظام إلا على حساب بنيانه، فإذا حل العشرون من العمر، أصبح العفاف واجبًا خلقيًّا، وغدا مُهمًّا، لِتعلُّم ضبط النفس، وبقاء الإنسان سيد شهواته»[13].
وهو هنا يُفصِّل في العفاف على طورين أو مرحلتين؛ فالشاب يكون عفيفًا حتى العشرين؛ لأن هذا نظام الطبيعة، فإذا بلغ العشرين أصبحت الغريزة قوية وملحة، فهنا يصبح العفاف واجبًا خُلقيًّا، له أهمية في ضبط شهوات الجسد، ولهذا نجده يتحدث عن إميل فيقول: «واحسبوا إميل بعد إتمام العشرين من عمره، حَسَن التنشئة، حَسَن التكوين، روحًا وبدنًا، قويًّا سليمًا نشيطًا رشيقًا، مملوءًا إحساسًا وعقلًا وصلاحًا وإنسانية، صاحب أخلاق وذوق، مُحِبًّا للجمال، خاليًا من الأهواء الجامحة»[14].
إذن الشاب ينشأ ويعيش خاليًا من الأهواء الجامحة حتى سنّ العشرين، ولكننا نُفْسِد هذا النظام الطبيعي، فنُعجّل ميولهم لهذه الشهوات، ولهذا أصبح الحل عند البعض هو زواجهم في سن البلوغ، بوصفه أضمن الحلول وأقربها للطبيعة، ولكنه يُشكّك في كونها أفضل الطرق وأحسنها، فيقول روسو: «وأول وسيلة تخطر على البال لحل هذه المشكلة، هو أن يُزَوَّج سريعًا، ولا جدل في أن هذه الطريقة، أضمن الطرق وأقربها إلى الطبيعة، ومع ذلك فإني أشك في كونها أحسن الطرق وأكثرها فائدة.
وسأبين براهيني فيما بعدُ، وريثما أصنع هذا أوافق على زواج الفتيان في سن البلوغ، غير أن هذه السن تأتي قبل الأوان، ونحن أكثر الذين يُعجّلونها فيجب إطالتها إلى سن الرشد»[15].
يرى روسو أنه يمكن للمربين من الوالدين وغيرهما، إطالة سن ميل الحواس للشهوات حتى العشرين، فقال: «وأستند إلى الأسباب المعروضة آنفًا فأُقدِّرُ أن من الممكن بالوسائل التي أَعطيت وبما ماثلها تمديد الدور الذي تُجهَلُ فيه ميول الحواس، ويُحفَظُ فيه نقاؤها حتى العشرين من العمر على الأقل»[16].
بل يبالغ ويقول: إنه يمكننا إطالتها إلى أكثر من ذلك، وهو أمرٌ ليس بمُستغرَب، بل لقد كان هذا أكثر شيوعًا في فرنسا منذ مئات السنين، فقال: «حتى إن من الممكن إطالة ذلك الدور كثيرًا، ولا شيء أكثر شيوعًا من هذا في فرنسة نفسها منذ قرون طويلة، ومن بين أكثر الأمثلة المعروفة نذكر مثال أبي مونتاني، الذي لم يكن قويًّا حسن البنية، أكثر منه مُتحَسِّبًا صادقًا، فأقسم أن يتزوج طاهرًا في الخامسة والثلاثين من سنيه، بعد خدمة طويلة في حروب إيطالية»[17].
وهنا نعود إلى ما فعله روسو مع إميل وصوفيا، فهو لم يوافق على زواج إميل في سن العشرين، بل أراد منه تأخير زواجه، فقال: «لم تبلغ صوفية الثامنة عشرة من سنيها، وأنت لم تكد تجاوز الثانية والعشرين من عمرك، وهذه هي سن الغرام لا سن الزواج»[18]؛ فهو يرى أن الوقت لم يَحِنْ بعدُ، على الرغم من بلوغه الثانية والعشرين من عمره، ولهذا طلب من صوفيا أن تنتظر خطيبها عامين، فقال: «ولْيُعطِكِ كتاب الناظر، الذي تحبين قراءته، وادرسي فيه واجبات النساء الصالحات، واذكري أن هذه الواجبات ستكون واجباتك في عامين»[19]، وفي موطن آخر قال: «وأُسلّيها وأُسكِّن روعها، وأجعل نفسي مسؤولًا عن عاشقها، وإن شئت فقل عن زوجها، فلتحفظ له عين الوفاء الذي سيحمله لها، وسيكون لها في عامين، وسيكون زوجًا لها في عامين كما أقسم»[20].
ولكن هل يرى روسو ثمرة في محافظة الشاب على عفته وطهارته، حتى يصل سن الزواج؟ وهل هناك مفسدة يراها إن تعجل في أخذه لهذه الشهوات؟، نقول في الإجابة عن هذا السؤال: نعم، إذ يرى روسو أن في ذلك محافظة على الصحة، ولهذا يمكننا نسبة قوة بنية الألمان، وكثرة أولادهم، إلى عفاف شبابهم في هذه الفترة، فقال: «ويُحفَظُ فيه نقاؤها حتى العشرين من العمر على الأقل، وهذا من الصحة ما يبقى معه الفتى الجرماني مفضوحًا، إذا ما أضاع طُهْره قبل هذه السن، ومن الصواب عزو المؤلفين قوة البنية لدى الجرمان، وكثرة أولادهم إلى عفاف هؤلاء القوم في دور شبابهم»[21].
بل إن روسو يؤيد هذا بالتجربة، ويؤكد أن مَن حافَظ على طهارته حتى سنّ العشرين، كان من أكرم الناس وأصلحهم، وأكثرهم حبًّا ومودة إلى قلوب الآخرين، فقال: «أجل إنني أدّعي ولا أخاف أن تكذبني التجربة، بأن الولد الحسن المنبت، والذي يحافظ على طُهره حتى العشرين من عمره، يكون في هذه السن أكرم الناس وأصلحهم، وأشدهم حبًّا إليهم وأقربهم مودة إلى قلوبهم»[22].
ثم يستشهد بمثال لرجل أطال هذا الدور كثيرًا، فحافظ على صحته وقوته ومرحه حتى سن الستين، فقال: «ومن بين أكثر الأمثلة المعروفة نذكر مثال أبي مونتاني، الذي لم يكن قويًّا حسن البنية، أكثر منه متحسِّبًا صادقًا، فأقسم أن يتزوج طاهرًا في الخامسة والثلاثين من سنيه، بعد خدمة طويلة في حروب إيطالية، ومما يُرى فيما كتب الابن، أيُّ قوة ومرح حافظ عليهما الأب، بعد مجاوزته الستين من عمره»[23].
يرى روسو أن المحافظة على العفة، له أثر مشاهد في قوة ذهن الرجال، وهو بدَوْره يُؤدِّي إلى تفوق الشعوب التي حافظ شبابها على هذه العفة، على تلك الشعوب التي بدا فجور شبابهم مبكرًا، فقال: «ومما يشاهد على العموم وجود قوة ذهن في الرجال، الذين صانوا سنواتهم الأولى من فجور باكر، أكثر مما في الرجال، الذين بدأ فجورهم حين قدرتهم على تعاطيه، ولا جرم أن هذا من الأسباب في كون الشعوب ذات الأخلاق، تفوق الشعوب الخالية من الأخلاق عادةً، وذلك من حيث سلامة الذوق والبسالة، وتلمعُ هذه الشعوب الأخيرة ببعض الصفات الرقيقة، التي تُسميها حصافة ولَقَانة وكياسة، بيد أن وظائف العقل والحكمة الكبيرة الكريمة، التي تُميّز الإنسان وتمجّده بصالح الأعمال، وبالفضائل وبالجهود النافعة حقًّا، لا توجد في غير الشعوب الأولى مطلقًا»[24].
عفة المرأة وطهارتها:
عندما نادى روسو بطهارة وعفة الشاب، لم يكن هذا مخالفًا لطبيعة الحياة، بل هذا هو الأصل في فطرة الشاب، وكذلك الحال في فطرة المرأة، فقال: «وستكون صوفية طاهرة صالحة حتى النفس الأخير من حياتها»[25]، كما أن تربيتها بهذه الطريقة تكون عونًا لها على مقاومة الشهوات، فقال: «إن البنت التي نُشِّئت تنشئة حكيمة تقية، تكون مُجهَّزَة بأسلحة لمقاومة الشهوات»[26].
إن الفضيلة والعفة والطهارة بالنسبة للمرأة، هي الطريق الوحيد لسعادتها الحقيقية، وتركها يؤدي بها إلى البؤس والشقاء والخزي والعار، فقال: «وتحب صوفية الفضيلة، وصار هذا الحب هواها المهيمن، وهي تحب الفضيلة؛ لأنه لا يوجد ما هو جميل كالفضيلة، وهي تحب الفضيلة؛ لأنها تؤدي إلى مجد المرأة، ولأن المرأة الفاضلة تبدو لها كالملائكة تقريبًا.
وهي تحب الفضيلة؛ لأنها الطريق الوحيد للسعادة الحقيقية، وهي تحب الفضيلة؛ لأنها لا ترى غير البؤس والإهمال والشقاء والعار والخزي في حياة المرأة غير المستقيمة، ثم إنها تحب الفضيلة؛ لأن الفضيلة عزيزة على أبيها الجليل وأمها الحنون الوقور»[27]، وهنا يستوقفني كلامه عن دور الوالدين في تنمية الفضيلة في نفوس أبنائهم.
ونجد أن روسو يمتدح مثل هؤلاء الفتيات، من اللاتي يَعرفن كتم رغباتهن، ولا يفاخرن بالخطيئة، فهن ما زلن من ذوات الحياء، ويصفهن بأنهن أكثر النساء صدقًا وإخلاصًا وحفاظًا على العهد، فقال: «وعلى العكس يكون اللاتي لا يزلن ذوات حياء، واللاتي لا يفاخرن بخطيئاتهن مطلقًا، واللواتي يعرفن كتم رغباتهن، حتى عن الذي يوحون بها إليهن، ومن لا يُنزع منهن الاعتراف إلا بأعظم عناء، أكثر النساء صدقًا وإخلاصًا وثباتًا في جميع عهودهن، وأكثر من يمكن أن يركن إلى عهودهن على العموم»[28].
ثم يوضح روسو ثمرة اختيار المرأة الصالحة وأثره على مستقبل الحياة الزوجية، فيقول: «وإذا ما مضى عشرون عامًا على الزواج، راقت المرأة الصالحة زوجها بألطافها، كما راقته في اليوم الأول من قرانهما»[29].
وهنا يسجّل لنا روسو الصفة التي يُفضّلها في فتاة أحلامه، وإذا به يختار الفتاة البسيطة على تلك الفتاة العالمة النابغة، وهو مَن بلغ من الذكاء شأنًا كبيرًا؛ لأن الأولى ستكون أكثر اهتمامًا به، وبأمور بيته من الأخرى، فتكون أنثى لا تنتحل طور الرجل كما هي الأخرى، فقال: «ولكني أفضل مئة مرة، فتاة بسيطة ذات تنشئة خشنة، على فتاة عالمة أريبة، تأتي لتقيم في منزلي محكمة آداب تحت رئاستها، فالمرأة الأريبة تكون آفة زوجها وأولادها وأصدقائها وخدمها وجميع الناس؛ وذلك لأن ما تكون عليه من نبوغ رفيع، يؤدي إلى استهانتها بواجبات المرأة، فتحاول أن تنتحل دائمًا طور الرجل على غرار الآنسة دولنكلو»[30].
وإذا ما تحدثنا عن أطوار الرجل والمرأة، فهنا يوصي روسو كلا الزوجين بالآخر، فيدعو المرأة إلى إكرام زوجها، الذي يعمل من أجلها ويَكسب قوتهما، فهذا هو دور الرجل، فقال: «فيا أيتها المرأة! أكرمي زوجك؛ فهو يعمل من أجلك، ويكسب خبزك ويُطعمك، وهذا هو الرجل»[31]، وفي المقابل يوصي الرّجل بقرينته، التي وهبه الله له، لتفريج كروبه وكشف همومه، وهذا دور المرأة، فقال: «فيا أيها الرجل أحب قرينتك، فقد أعطاك الله إياها، لتفريج كربك في آلامك، وكشف همّك في أوصابك، وهذه هي المرأة»[32].
تقديره للإنجيل:
من يقرأ للفلاسفة لا يتصور منهم الاهتمام بالكتب المقدسة، أو أن تكون لهم عناية بالدين وأهله، ولكن في حياة روسو، نجد التدين حاضرًا في أشكال متعددة، فمن ذلك أنه معجب بجلال الكتب المقدسة، وأن الإنجيل يخاطب فؤاده، وتتصاغر كتب الفلاسفة بجانبه، فقال: «وأعترف لكم أيضًا أنني أُعجب بجلال الكتب المقدسة، وبأن قداسة الإنجيل تخاطب فؤادي، وانظروا إلى كتب الفلاسفة مع جميع فخامتها، تروا مقدار تصاغرها بجانب ذاك»[33].
ثم يثني روسو على الإنجيل، فهو متَّصف بصفات بالغة الحقيقة بحيث تنفي عنه الاختلاق، ولكنه في المقابل يرى أن الإنجيل مملوء بأمور لا يُصدّقها العقل، فيوصي تلميذه أن يكون معتدلًا ومحترزًا، فيحترم بصمت ما لا يمكنه فَهْمه أو رفضه، ويتواضع أمام خالقه، فقال: «ويتصف الإنجيل بصفات بالغة من الحقيقة، ووقف النظر وتعذر التقليد، ما يكون معه مختلِقُه، أدعى إلى العجب من بطله، ومع ذلك فإن هذا الإنجيل نفسه، مملوء بأمور لا تُصدّق، بأمور يرفضها العقل، فيستحيل على كل ذي عقل أن يتصورها وأن يتقبّلها، وما يعمل بين جميع هذه التناقضات؟، أن يكون الإنسان دائمًا معتدلًا محترزًا يا بني، فيحترم صامتًا ما لا يستطيع رَفْضه ولا فَهْمه، وأن يتواضع أمام الموجود الأعظم الذي يعرف الحقيقة وحده»[34].
التدين عند روسو:
لقد كان روسو نصرانيًّا من الطائفة البروتستانتية، ثم درس مبادئ الكاثوليكية، حتى بلغ مرحلة التعميد، وكان يقوم بالقُدّاس، ولعل هذا كان له أثر في موقفه من التدين والكنيسة؛ فيخبر عن نفسه أنه يشعر بتأنيب الضمير، إن قصَّر في شيء مما يُتعبَّد به في الكنيسة، فقال: «وإذا ما دُعيت إلى تعبُّد الكنيسة وَفْق الدين الذي أُعلنُ، فإنني أُتمُّ فيها ما أُمِرْتُ به من عناية، بكلّ ما يمكن من إتقان، ويؤنبني ضميري إذا ما قصَّرتُ في أيّ شيء من ذلك قصدًا»[35].
ثم لا يُخفي تلك الرغبة التي لازمته زمنًا طويلًا؛ حيث كان يرغب في نيل منصب الخوري[36]، الذي لا يرى منصبًا أجمل منه، فقال: «وقد رغبت زمنًا طويلًا في أن أنال شرف نصبي خوريًّا، ولا أزال راغبًا في ذلك، ولكنني عدت لا آمل ذلك، ولا أجد، يا صديقي العزيز، ما هو أجمل من منصب الخوري»[37].
وتماهيًا مع هذا الشعور والرغبة الداخلية تجاه التدين؛ فإن روسو ينصح تلميذه بالعودة إلى دين الأجداد، واتباعه وعدم الردة عنه، فهو أنقى أديان الأرض أدبًا، وأكثرها قبولًا في العقل، فقال: «وعُدْ إلى دين آبائك، واتَّبعه بقلب مخلص، ولا تَرتدَّ عنه أبدًا، فهو بسيط جدًّا، وهو مقدَّس جدًّا، ولا أرى بين أديان الأرض ما هو أنقى منه أدبًا، ولا ما هو لدى العقل أكثر منه قبولًا»[38].
كتب القدماء:
أبدى روسو إعجابه بما سطَّره الأوائل، وبما تركه القدماء من مؤلفات، وقد تميز هؤلاء الأوائل؛ لأنهم أقرب إلى الطبيعة، وعبقريتهم أكثر بروزًا، فقال: «وعلى العموم سيتذوق إميل كتب القدماء، أكثر من تذوقه كتبنا، وبما أن القدماء هم الأولون، فإنهم أقرب إلى الطبيعة، وإن عبقريتهم أكثر بروزًا»[39].
لقد كنت أتوقع من مثل روسو، أن ينتقد كتب القدماء، ويدعو إلى الأخذ بما هو جديد، ولكنه على العكس، كان دائمًا مُفضِّلًا لأولئك القدماء؛ إذ إن كُتُبهم فيها من البساطة في الذوق، ما يَجعلها تصل إلى القلب، لا نجد مثلها في غير كتبهم، فقال: «ويوجد فضلًا عن ذلك، بساطة في الذوق تذهب إلى القلب، ولا توجد في غير كتب القدماء»[40].
الخاتمة:
ما كتبته كان عرضًا سريعًا لبعض النصوص المنتقاة من كتاب (إميل أو التربية) لجان جاك روسو، ولم أستوعب كل ما ذَكَرَ، ولم يكن ذلك هدفي من هذه المقالات، ولهذا آمل أن ينبري أحد المتخصصين في التربية؛ فيقوم بدراسة الكتاب دراسة مطوّلة، أو أن يكون ذلك ضمن الدراسات العلمية لرسائل الماجستير أو الدكتوراه.
فهرس المصادر والمراجع
1. إميل أو التربية. جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر، دار التنوير للطباعة والنشر، مصر، الطبعة الثانية، 2022م.
2. تاريخ الفلسفة اليونانية، من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر. يوسف كرم، مكتبة الدار العربية للكتاب، مصر، الطبعة الأولى، 2021م.
3. العقد الاجتماعي. جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر، دار الحياة للنشر والتوزيع، مصر، 2017م.
4. أصل التفاوت بين الناس. جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر، عصير الكتاب للنشر والتوزيع، 2018م.
5. الاعترافات. جان جاك روسو، ترجمة حلمي مراد، دار البشير للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا.
6. جان جاك روسو. نجيب المستكاوي، دار الشروق، مصر، الطبعة الأولى، 1409ه.
7. الأعلام. خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عشرة، 2002م.


[1] إميل أو التربية، روسو، (ص248).
[2] إميل أو التربية، روسو، (ص281).
[3] إميل أو التربية، روسو، (ص259).
[4] إميل أو التربية، روسو، (259-260).
[5] إميل أو التربية، روسو، (ص361).
[6] إميل أو التربية، روسو، (ص376).
[7] إميل أو التربية، روسو، (ص141).
[8] إميل أو التربية، روسو، (ص142).
[9] إميل أو التربية، روسو، (ص142).
[10] إميل أو التربية، روسو، (ص268).
[11] الصوى: جمع صوة، وهي الحجر الذي يكون دليلًا في الطريق.
[12] إميل أو التربية، روسو، (298-299).
[13] إميل أو التربية، روسو، (ص376).
[14] إميل أو التربية، روسو، (472-473).
[15] إميل أو التربية، روسو، (ص357).
[16] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[17] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[18] إميل أو التربية، روسو، (ص505).
[19] إميل أو التربية، روسو، (ص507).
[20] إميل أو التربية، روسو، (ص507).
[21] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[22] إميل أو التربية، روسو، (ص248).
[23] إميل أو التربية، روسو، (ص358).
[24] إميل أو التربية، روسو، (ص261).
[25] إميل أو التربية، روسو، (ص449).
[26] إميل أو التربية، روسو، (ص443).
[27] إميل أو التربية، روسو، (448-449).
[28] إميل أو التربية، روسو، (ص436).
[29] إميل أو التربية، روسو، (ص463).
[30] إميل أو التربية، روسو، (ص462).
[31] إميل أو التربية، روسو، (ص494).
[32] إميل أو التربية، روسو، (ص498).
[33] إميل أو التربية، روسو، (ص346).
[34] إميل أو التربية، روسو، (ص348).
[35] إميل أو التربية، روسو، (ص348).
[36] الخوري منصب ديني لدى النصارى يُطلَق على كاهن القرية، وكلمة (خوري) مُحرَّفة من اللغة اليونانية، من (خورا) وتعني (القرية) أو (البلدة).
[37] إميل أو التربية، روسو، (ص349).
[38] إميل أو التربية، روسو، (ص351).
[39] إميل أو التربية، روسو، (ص387).
[40] إميل أو التربية، روسو، (ص386).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 136.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 134.01 كيلو بايت... تم توفير 2.58 كيلو بايت...بمعدل (1.89%)]