وسام الخلود - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 187 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28432 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60058 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 833 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر > من بوح قلمي

من بوح قلمي ملتقى يختص بهمسات الاعضاء ليبوحوا عن ابداعاتهم وخواطرهم الشعرية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 29-09-2019, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي وسام الخلود

وسام الخلود
مريم قول آغاسي




(1)
أبدًا يتعاقَب الليل والنهار، وتمدُّ الحياة مدَّها، وتُعطي الأيام عطاءَها وابتلاءها، والأمَّة المصطفاة التي لها مِن ماضيها غناءُ الفِكر والتاريخ، وسلامة البُعد الحضاري - جديرة دائمًا أن تنفض عن كاهلها غبار الذلِّ والهزيمة، وتمدُّ إلى منهج الله أيديها بشجاعةِ الأبطال؛ كي يكونَ نبراسها ونظامها، ووقود مسيرتها إلى الحياة الحرَّة التي تسعد معها الإنسانيَّة؛ شأنها في ذلك شأن أولئك الذين باعوا - كما وصفهم القرآن - أنفسَهم لله، ووقفوا على اليابسة فيما اعتقدوا، وأدْرَكوا أنَّ حياتهم هي العقيدة التي انبثَق عنها النِّظام الربَّاني، فالعمل به والحِفاظ عليه والْتزامه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة هو عنوان الحياة.
فكلُّ فرْد حارسٌ أمين لذلك المنهج الربَّاني، على أيِّ صعيد كان تحرُّكه؛ في الداخل مع بني جِلدته، أو على ساحةِ المعرَكة مع أعداء الله والإنسان.
الباب يُطرق بشدَّة وعُنف، فتح أبو أسامة الباب متسائلاً: من الطارِق؟ يدخل عددٌ مِن جنود اليهود إلى البيت كالكلاب المسعورة، يفتشون في كلِّ مكان، ويلقون القبضَ على أسامة، كانوا يضربونه ضربًا مبرحًا، ويشتمونه بأفظعِ الشتائم، قادوه إلى خارجِ المنزل بكلِّ قسوة وعُنف، وأبوه ينظُر إليه بذهولٍ وهو يُردِّد: ماذا فعل ابني؟! وأمه تبكي وتنتحب وتصيح: أعِيدوا لي ولدي، ابني، لا تأخذوه، أعيدوه، يلتفِت إليها أسامة، ويقول بلهفةِ الذي لا يعود: متى كان للذين باعوا أنفسَهم وصدَعوا بكلمةِ الحقِّ أن يعودوا؟!
ذهبوا به إلى المجهول، إلى أتُّون العذاب.
عمَّ البيتَ صمتٌ رهيب، رهبة الموت.
(2)
• أبتاه؟!
• عدت إذًا يا ولدي، انتظرتُك طويلاً، فلماذا تأخرت؟! وقلت لنفسي: ربَّما لن تعود!
• أبتاه.
• أين أنت، لا أراك؟
• أسبح في عالَم بلا قيود، وأنعم برِضا الله وهناءٍ وخلود.
• لا أفهم يا عزيزي؟ أين أنت ؟!
• لن تستطيعَ رؤيتي يا أبتاه، أنا في عالَم يختلف عن عالمكم !.
• تأخرت كثيرًا بالأمس، أمك قلِقة عليك، وكانت تبكي طوال الليل.
• لا تَخَفْ عليَّ بعد اليوم يا أبتاه، كنت دائمًا أصدع بالحق، ولا أخاف إلا الله، وبقيت ثابتًا على عقيدتي رغمَ كل التعذيب الرهيب، وفجأةً وجدتُ نفسي في عالَم لا مثيل له، قالوا لي: إنك قرب الله.
وضجَّتِ الأنوار فجأةً، وانبعثتْ أصوات عميقة ذات صدًى مهيب.
• متى تعود يا ولدي ؟
• لن أعود، بلِّغ سلامي إلى والدتي الحبيبة، وقل لها: ألاَّ تحزن، ولا تذرف دموعها الغالية، فإنِّي لم أشعرْ بالسعادة يومًا، كما أشعر بها الآن.
• أسامة، يا ولدي، ابني الحبيب.
وامتزَج النداء بلهفة، وعادتِ الأصداء تختلط بالأنين، واختفتْ كل الأصوات، فعاد ينظر إلى اللاشيء، وفجأةً سمع أصواتَ ترتيل، بدأت قويَّة، ثم عادتْ تخفت شيئًا فشيئًا، وهو مشدود بسحر الكلام؛ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[آل عمران: 169 - 170].
وغمرتِ السكينةُ كلَّ شيء، واستيقظ على صوتِ طَرْق الباب، كان الليل يُنبئ بنهايته.
وحينما فتحه خفق قلبُه !
امتلأتْ نظراته بحزنٍ عميق، ومرَّتْ لحظة صمت كانتْ كالكابوس.
وتسمَّرتِ النظرات، فاختلطتْ رؤى الأمس بمشهد اليوم.
وكان المشهدُ الفظيع الذي انطلقتْ معه صرخةٌ مدوية من أمِّ أسامة.
فإذا بتلك الكلاب المسعورة التي داهمتْ بيته بالأمس، قد أعادوا له ابنه. ولكن..
ولكن أعادوه شهيدًا، محمولاً بملاءة مهترِئة مدماة، مسفوكًا دمه، ذاك الدم الطاهر الذي لم يتوقَّف عن النَّزيف بعدُ.
كاد قلبه ينفطِر، حوقل واسترجع، وكل ذرَّة في كيانه تلْعَن هؤلاء الطغاة المحتلِّين وأعوانهم؛ (أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18].
(3)
أبو أسامة يجلِس بقُرب ولده الشهيد، تحتَ وطأة ضوء حجرته الخافِت، كان يذرف الدموع بصمتٍ وحُرْقة، وزوجته تجلس إلى جانبه تحتضِن رأس ولدها الشهيد، وهي تبكي وتدعو أن ينتقمَ الله مِن المحتلِّين المغتصبين لأرضهم، تنتحب تارةً، وتتأمل تارةً أخرى في وجهه الوضَّاء، فيزداد نحيبها ألمًا على اجتثاث زهرة شبابه، كان أملها في الحياة، تنظر إليه بكلِّ شوق، إلى المستقبل الزاهر الذي ينتظره، فهو الابنُ البارُّ والشابُّ المتفوِّق على أقرانه، والأوَّل في كلِّ شيء في الأدب والدِّين والعلم، أهل الحي وأقرباؤه يحبُّونه ويجِدون فيه مثالاً للشاب الصالح.
كان أبو أسامة ينظُر إلى ابنه، ويتأمَّل فيه كل معاني الحياة.
أيا ولدي، هدوءك كان يُوحي إليَّ بمعانٍ كثيرة.
وكنت أظنُّ الحياة نغمًا منسابًا.
يشبه انسيابك في التفكُّر بنجومِ ليلةٍ صافية قمراء.
ولكن الحياة علَّمتني أني كنت مخطئًا.
وأنها معقَّدة تفجؤنا كلَّ يوم بجديد مروع.
يذهب بأحلامنا النضرات.
ويحولها أوراقًا مبعثرة.
والإنسان كذلك يعيش بأحلام.
ويسير في دروب العمر مرحًا طروبًا.
ثم يُعاني من ضغط الحياة ما ينوء به كاهله.
ويجد خطاه تَقوده بسرعةٍ إلى نهايته.
وقد يذهب من الكون بعد أن يكون قد أدَّى رسالتَه.
وحقَّق الغاية مِن وجوده، وقد يذْهب.
تافهًا كما جاء دون أن يخلِّف وراءه أثرًا.
وأنت ذهبت مقدامًا لا تهاب الموت.
(4)
وعاد بذِكرياته إلى الماضي، عندما انطلق أوَّل صوت لأوَّل وليد له، كان صراخه ناعمًا ملأ كيانه، وفاض في جنبات نفْسِه، وغمر البيت كله ضجيجًا، ومنذُ تلك اللحظة دُعي: أبا أسامة.
كان الوقت أصيلاً في أوَّل أيام الربيع، بدأتْ هبات مِن النسيم العليل تتدافَع إلى الحجرة، تنفَّس بعُمق، وملأ بها رِئتيه وبرقت عيناه بنظرات السعادة، وهو يحمل ابنَه الصغير ويحتضنه بكلِّ حنان، ويؤذِّن بإذنه اليمنَى ويُقيم الصلاة بإذنه اليُسرى؛ اقتداءً بسُنة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
وازدحمتْ ذاكرته بالأسماء، أسماء كان يحبُّها، قرأ عنها في صفحاتِ التاريخ، أسماء لعظماء الأمَّة مِن الأنبياء والصحابة والشهداء، ودارتْ به دوَّامة الأسماء ومن بين زحامها، أضاء اسمًا، توهج، وفرض وجوده بمعناه، فدعاه باسم (أسامة).
ومنذ أوَّل شهوره كان لا يستطيع فراقَه، وفي أثناء تواجُده في مكتبه كان يستوحي كتابةَ رِواياته وأشعاره مِن ملامحِ وجهه وبَسمته العذْبة، وها هو يُعيد النظرَ في كلِّ ما قرأ وكل ما سمِع، ورجع مِن جديد؛ ليتعلَّم من عينيه المستديرتين البرَّاقتين أبجديةَ الحياة، وعندها فقط أدْرك معنى الحياة وعُمق التجرِبة، وسِر الصمْت الملتهِب، والمأساة الحادَّة في حياة الذين حُرِموا.
ويتذكَّره وهو رضيع لم يتجاوز ستَّةَ شهور، وقد استغرَق مع والدته في نومٍ عميق، ويعود أبو أسامة بعدَ منتصف الليل مِن مكتبه إلى المنزل، فيرى ما يروِّع القلب، ويهز جوانبَ الفؤاد، أفعى مروعة قد التفتْ على نفسها، وجثمت بجوارِ أُسامة، ورأسها ممدود إلى جانبِ رأسه، وليس بينها وبينه مسافةٌ يمكن أن تُقاس، وينخلِع قلبُ أبي أسامة هلعًا فيتضرَّع إلى ربه ويستعينه، ويذهب عنه الفزَع، وينطلق لسانه بعباراتٍ واردة في الرُّقية من مسِّ الحية وأذاها، وما إن فرَغ من تلاوتها حتى تنكمِش الحية على نفْسها وتعود إلى جُحرها، وينجيك الله يا أسامة مِن شرِّها لإرادة سابقة في علمه وأمر هو فيك بالِغه.
(5)
مرَّ العام الأوَّل، وقدْ كان أبو أسامة شديدَ الفرَح عندما كانتْ تلك اللحظات كان يجلس إلى جانبِ ابنه وهو يخطو خُطواتِه الأولى، وكأنَّ العالم كله يخطو ويتحوَّل إلى أذرع صغيرة ملْساء، تلتفُّ حول عنقه، القدمان الصغيرتانِ تدوسانِ هداياه وتركلها وتبعثرها على أرض الحُجرة.
في ذلك اليوم رنَّ في أُذنه نِداءٌ ساحِر من ثغره الصغير: أبي، فكَّر في نفسه فأحسَّ بقِيمة الحياة، وتلمَّس كتفيه، فإذا بهما يحملانِ حملاً ثقيلاً، وعلى عُنقه أمانةٌ عظيمة.
وعامًا بعدَ عام، كبر أسامة واشتدَّ عُوده أكثرَ واتَّسعت عيناه باتِّساع وجْهه الصغير، وأصبح أكثرَ إدراكًا وحيويةً، وكان لا بدَّ لهذا العقل الصغير أن ينشأ على أسْمى معاني الحقيقة، ولرُوحه العَطْشى أن تَروي ظمأها وتنال حظَّها، ولا بدَّ مِن هنا - من هذا المبدأ - أن يبدأ، أسرع الأبُ بتعليم ابنه قِصارَ السور، فيستجيب أسامةُ بسرعة، ولا تأتي المرَّة الثالثة أو الرابعة حتى تكونَ الكلمات قد انطبعَتْ في الذاكرة الصغيرة المتوقِّدة، وتناثرَتْ على لسانه أصوات تخلب اللبِّ، وتملأ النفْس ويطلب المزيد.
فعلَّمه أصولَ الحياة، وقواعد الكون الكُبرى، ومبادئ الوجود الواضحة؛ كالثمر والبحر، والحقْل والطيور، عن صِفات الله - جلَّ جلاله - بديع السموات والأرض، وحقه على العِباد، وخصائص الإنسان، فيروح يرشُف قطراتِ المعرفة قطرةً إثْر قطرة ويطلب المزيد.
علمه شيئًا من الشَّعر الإنساني الخالِد الممتلئ جمالاً وحِكمة، كان يسمع كلِّ شيء بشغَف ويطلب المزيد، إنَّه الإنسان بكلِّ شوقه للحياة وعطَشه للمعرفة بكلِّ عظمته التي تكشف عن عظمةِ مَن سواه.
(6)
وتتوالَى الأعوام وتنشُب الحرْب، ويكون أبو أسامة جنديًّا فيها، ويطول غيابه عنِ البيتِ فيأخذ أسامةَ قلقٌ بالغ، ويعود بيْن الفترة والأُخرى؛ ليراه كسيرَ القلب، ذابل الوجه عازفًا عن اللعب؛ لأنَّ أباه طالتْ غيبته ويخشى - وأذناه الصغيرتان تَسمعان هديرَ الطائرات والقذائف والغارات مِن بعيد - أن يكون لكلِّ هذا علاقة بالأبِ الغائب فلا يعود !.
وما إن يطل مِن بعيد حتى يقفزَ قفزته السريعة والفريدة الخاصَّة التي لا ينساها، ويروح بيديه يمْسَح بهما عُنقه ووجهه وذراعيه، كأنَّه يطمئن على وجوده لحمًا ودمًا، ويسأله عن الحرْب؟!
وهل قتلتِ الأعداء؟! ويشتمهم ويسأله أن يضربَهم بقوة، أن يكون شجاعًا؛ عندها أدرك لماذا يقتحِم بعضُ الرِّجال فلا يفرُّون، ولماذا يفرُّ بعضهم، فلا يقتحمون؟!
(8)
ومرَّتِ الأعوامُ وأصبح أسامةُ شابًّا مِلْء السمع والبصر، ذا تُقى وورع ودِين، وأخلاق حسَنة عالية، كريم الطِّباع والمعاملة، ذا سُمعة حسَنة بيْن الناس، هادئ الأعصاب، لا يحتدُّ في مناقشةٍ أو ينفعل، حاد الذكاء، واسِع الاطلاع، عُرِف بين الناس بالاستقامة، حافظًا لكتاب الله، شاعرًا حرًّا مؤمنًا بمبادئه وقضيته وهدفه، متفوِّقًا في دراسته، لم يرضَ بالظلم قطُّ، ولم يَحْنِ رأسه لليهود الطغاة يومًا، ولم يرضَ سوى الإسلام منهجًا والقرآن دستورًا.
ما زال أبو أسامة يذكُر ذاك الحوار الذي دار بينهما في أحدِ الأيام، حيث كان أسامة يقول: (عندما نعيش في الدنيا لذواتِنا وهمومنا، ولا نشعُر بأحوال أمتنا ومآسيها، ونحيا حياةَ الذلِّ والهوان، فإنَّها لحياةٌ قصيرة تبدأ مِن حيث بدأنا، وتنتهي بانتهاءِ عمرنا المحدود، حياة أشْبَه بالسَّرَاب، لا هدفَ ولا قضية.
ولكن عندما نعيش حياتَنا لأمتنا، للقضية التي يكافِح مِن أجلها كلُّ الصادقين والمخلصين، فإنَّ الحياة تبدو طويلةً، عميقة؛ تبدأ مِن حيث بدأتِ الإنسانية وتمتدُّ بعدَ موتنا مشعلاً لكلِّ السائرين على درْب الحقيقة! وتبقَى مع بقاء القضية).
مسح والده على رأسِه بحنانٍ، وشدَّ على يدِه وهو يقول له:
يا بني، إنَّ ما تملكه أكثرُ ممَّا يجمعون، تملك الإرادة والغاية، يشدُّهما أمل هو العزاء لكلِّ أتعاب الطريق وآلامه.
يا بني، صحيح أنَّك في عصرٍ تعجُّ به المغريات ويموج بالفتن، حتى لتكاد ترتطم بها في كلِّ زاوية ومنعطَف، ولكن الله - سبحانه - لن يتخلَّى عن الذين أخْلصوا له الوجدان، وتحرَّكوا صوبه.
يا بني، ألم تسمع: ((حُفَّتِ الجنةُ بالمكارِه، وحُفَّتِ النار بالشهوات))؟
فذلك هو الطريقُ إلى السِّلْعة الغالية، أشواك تُدمي الأقدام، وعذاب لا يصبر عليه إلا مَن كانت غايته أكبرَ من ذاته، ولن تمضي في هذا الطريق إلا بالصبر والمصابَرة.
فقال له أسامة: أنت تشحن فيَّ الأمل واليقين، ولكن! آه يا أبتي، ما أكثرَ الذين قضوا! وما أكثرَ الذين يُعذَّبون! فقرأ له أبوه بصوتٍ يقطر صدقًا وحنانًا: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139].
(8)
وها أنت يا ولدي، صريع بيْن يدي، وقد حُملتَ إليَّ في الليل مسفوكًا دمُك، ذاهبةً نفسك، فاكشفْ عن وجهك الحبيب؛ لأرَى فيه إشراقةَ وهناءةَ الشهادة، وأرى على جسدِك الطاهر آثارَ تعذيب فظيعة، أنياب ذئاب، سياط جلاَّد، فتدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا - عز وجل -: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون)، وأقوم يا ولدي على غُسلك وتكفينك، وأصلي وحْدي من البشر عليك، وأمشي خلْفَك، أحْمِل نصفي، ونصفي الآخر محمول، وأفوِّض أمري إلى الله، إنَّ الله بصير بالعباد.
مُصابي فيك عظيم الشجن !
أبكيك؟! جفَّ الدمع في ناظري.
يبكيك قلبي، يا مُنى قلبي، ألم تكن في روضه راتعًا.
يبكيك في المسجد محرابُه ومجلس العِلم الخاشع.
يبكيك جيرانُك ورفاقُ دربك وكلُّ أحبابك.
هجرتَ دنياك شهيدًا أبيًّا.
والملتقَى في جِنان الخلد، في رحمةِ الله الواسع.
كنتَ زهرةً نضرة، افتقدتُك في ليلةٍ قاتمة من كانون، زهرة سحقَها ظالمٌ محتل فأتلفها.
كنتَ نبضَ رُوحي، افتقدَك كلُّ مَن عرَفك، وسارتْ في جنازتك الملائكة.
لقد غابتْ تلك البَسْمة الهادئة الجميلة التي كانتْ ترتسم على محيَّاك، ولكن بسمة رُوحك لن تغيبَ أبدًا، وأنت تطلُّ علينا من عليائك؛ لترى شبابَ الإسلام وقدْ حملوا الرايةَ، وأقدموا ليخوضوا الغمار، فاهنأْ يا ولدي بجوار ربِّك، ولتعانق رُوحُك أرواحَ الأنبياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وإنَّ وراءَك شبابًا باعوا أرواحهم لله، وسيخوضونها معركةً إثر معركةٍ مع الضلال والانحراف، حتى يتمَّ الله نورَه ولو كرِه الكافرون.
أمَّا أنت يا ولدي فقدْ نِلت الشهادة التي كنتَ تسأل الله - تعالى -في سجودك أن يرزُقَك إيَّاها، فهنيئًا لك.
اللهمَّ اجعل الجنةَ مثواه ومستقرَّه، اللهمَّ لا تحرمنا أجْرَه ولا تفتِنَّا بعده.
هذه القِصَّة واقعية، جرَت أحداثها، في فلسطين المحتلَّة.
وهي واقعُ وطننا العربي (الإسلامي).
إنها أحداثٌ لا تتقيَّد في مكانٍ أو زمان.
بل هي معركةٌ ضدَّ الاحتلال والطغيان.
وبدأتْ منذُ سطوع فجْر الإسلام، دِين الحق والعدل، والحرية والإيمان.
وستبقَى، ما دامتِ المعركة قائمةً بين الحقِّ والباطل.
بيْن الأحرار والأشرار.
بيْن الإيمان والطُّغيان.
بين أصحاب الحقِّ والأرض، وبيْن مُغتصبي الأرض والعِرض.
وستظلُّ قصصُ الشهداء ومَن سلك طريقهم نبراسًا في ضمير الأمَّة، تُوقِظ من الغفلة، وتحمِل إلى واحة الطُّمأنينة بوعدِ الله، فالله معهم عاملين مخلِصين، والله معهم، صابرين على الأذَى، واثقين بنصْر الله، والله مع الصابرين.
اللهمَّ توفَّنا مسلمين، وألحِقْنا بالشهداء والصالحين، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 68.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 66.25 كيلو بايت... تم توفير 1.93 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]