رشفات أدبية: البيان الساحر - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4417 - عددالزوار : 853330 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3948 - عددالزوار : 388482 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213905 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18-11-2020, 01:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رشفات أدبية: البيان الساحر

رشفات أدبية: البيان الساحر



وليد سميح عبدالعال






يَحسُن بي في البداية أن أذكُر لك هذه القصَّة التي وَرَدَتْ عن إمامٍ كبير من أئمَّة اللغة والقِراءات، ولعلَّها تكون مفتاحَ القول، ورمية المصيب.

أورَدوا عن أبي عمرو بن العلاء، أحد القرَّاء السبعة، وكان أعلمَ الناس بالعربية والقرآن، وأيام العرب والشعر، أنَّ دفاتره كانت ملءَ بيتٍ إلى السقف، ثم تنسَّك فأحرقها، ثم عاد في أواخر عمره ليُملِي ويكتب ما كان قد أحرَقَه.


وهنا نتوقَّف لنتساءل: ما الذي حمَلَه على إحراق كتبه؟


ثم ما الذي جعَلَه يعود مرَّة أخرى ليستنقذ - من ذاكرته - ما استَطاع منها؟!

دعْ عنك هذه القصة جانبًا الآن، ولنتحدث عن أمر آخر.

هناك فريقان أدبيان كبيران، مختلفان في مسألة أدبيَّة خطيرة وكبيرة، كَثُرَ فيها الجدل على مرِّ عصورنا العربية والإسلامية:
هل الأدب المتقيِّد بالالتزام الخُلقي أجود، أو الأدب غير المتقيِّد بذلك؟

سؤال ضخم شغَل حيزًا كبيرًا من الدِّراسات القديمة والحديثة؛ لمحاولة الإجابة عنه، والوصول في هذه المسألة لما يشفي.

أولاً نقول: إنَّه لا خِلاف بين النقَّاد قديمًا وحديثًا في اعتِبار الجودة الفنيَّة، والإعلاء من شأنها، بحيث لا يمكن إغفالها، وأن الأدب - شعرًا كان أو نثرًا - إذا خلا من هذه الجودة الفنية، فإنَّه مذمومٌ، حتى وإن حَوَى أفضل المعاني، وأسمى المضامِين والأفكار.

ولقد كانت أمَّةُ العرب هي أمَّةَ البيان، وظلَّ الشعرُ قُرابَة قرنَيْن من الزمان قبلَ الإسلام في ازدِهار لم تشهد أمَّةٌ من الأمم مثلَه، وبلَغ الشعراءُ والبُلَغاء مبلغًا لن نكون مُبالِغين إذا قلنا: إنَّ مَن بعدَهم في الغالب - وقد أقرُّوا بذلك - عجَزُوا عن الإتيان بمثل ما أتى به الأوَّلون، وإن كان فيهم مَن نبَغ وعلا، وفذَّ وبذَّ أقرانه وأصحابه.

ثم أتى الإسلامُ فانشَغَل الناس به - وحُقَّ له أن يفعل - حتى إنَّ بعض الشُّعَراء وجَد نفسه لا تُطاوِعه لقول الشعر، مثل لَبِيد بن ربيعة - رضِي الله عنْه - الذي تعهَّد ألا يقول شعرًا بعد إسلامه، فلم يقل أو قال بيتًا واحدًا، وترك البعضُ الشعرَ كليَّةً، ووظَّف البعضُ شعره للدِّفاع عن الإسلام، والانتِصار له، وبيان محاسنه.

وظلَّ الإسلام آخِذًا بنَواصِي الناس إليه؛ يملأ قلوبهم، ويشغَل حياتهم، ونبَغ وبرَز في هذه العُصُور شُعَراء وأُدَباء على قلَّة، حتى تلَتْه عصورٌ رجعت فيه الأمَّة لعصبيَّتها العربيَّة، واستعادت أجواءَ شعرها القديم، وعاد الفخرُ بالأحساب والأنساب، وعاد شعر النقائض والهجاء الذي نهى عنه الشرع، ونهى عنه الخُلَفاء.

وتَلَتْ ذلك عصور وعصور، وكلَّما مرَّ يوم اتَّسعت الهوَّة، وانفَصَل الأدب عن الدين، وكأنَّ الأدب إذا دخل تحت عباءة الدين ضعُف ولان، فإذا خرج للفَضاء الواسع الذي لا ضوابط فيه ولا قيود - وأنَّى لإنسان أن يعيش كذلك؟! - انتَعَش وانبَسَط.

ثم صار الأمر إلى عصورنا هذه الحديثة، التي تعقَّد الأمر فيها وتشابَك، ولم تعد النظرة الإجمالية تكفي لدراسته، وفهمه، والحكم عليه.

هذا عرض عام باختِصار شديد جدًّا، وكل مَن قرأ أو درس الأدب العربي يعلم حقيقةَ ما قلناه.

وأنا أظنُّ أنَّ صورة الأمر - من ناحية الجودة الفنية - كخطَّيْن متقاربَيْن، أحدهما يعلو الآخر، ويمثِّله الأدب غير المتقيِّد بالالتِزام الأخلاقي، والآخَر ينزل عنه، ويمثِّله الأدب المتقيِّد بالالتِزام الأخلاقي، هذه هي الصورة الإجمالية، وقد تُخرق القاعدة ويقفز البعض من أسفل حتى يُساوِي الأعلى، وقد يبذُّه ويَفُوقُه، والبعض قد يشغل الفراغ بين الخطَّيْن، فيعلو عن الثاني ولا يدرك الأوَّل.

وأنا أذكر أمثلةً أَمُرُّ عليها مرورًا عابِرًا؛ لأستدلَّ على ما أقول، ولو تتبَّع متتبِّع هذا الأمر على مرِّ العصور، لعلم صدقَ ما نُريد قوله هنا - إن شاء الله.

ولتنظر لشعر امرئ القيس وطرَفة، ولشعر غيرهما؛ كأميَّة بن أبي الصلت، وزيد بن عمرو بن نفيل، ولا أُطِيل بذكر الفوارق الفنية الكبيرة، فكلُّ مَن قرأ في الشعر شيئًا يعلم ذلك.

وانظر في الإسلام لحسَّان الذي قالوا عنه: إن شعره في الجاهلية كان أجود من شعره في الإسلام، ولم يذكر ابنُ سلام الجمحي في طبقاته لحسان إلا أشعارَ الجاهلية، وسلَك سبيلَه كذلك ابنُ قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء" غالبًا.

يقول ابن سلام: ومن شعره الرائع الجيد ما مدح به بني جفنة من غسان:
لِلَّهِ دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ
يَوْمًا بِجِلِّقَ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ


ثم يقول:
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلاَبُهُمْ
لاَ يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ


قال: ومن قصائده الطوال:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى
وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا


مع أن له قصائدَ في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - والذبِّ عنه وعن الإسلام في منتهى الجودة والعلوِّ، ولكن هذا حكم إجمالي عام.

ثم انظر بعد ذلك لشعر أبي نواس والمتنبي، وعلى الطرف الآخَر انظر لشعر أبي العتاهية في الزهد - بعدما تنسَّك - الذي وسمه هو نفسه بالرَّداءة، وذلك فيما ذكره صاحب "الأغاني" قال: نسختُ من كتاب هارون بن علي قال: حدثني علي بن مهدي، قال: حدثني ابن أبي الأبيض، قال: أتيتُ أبا العتاهية، فقلت له: إني رجل أقول الشعر في الزهد، ولي فيه أشعار كثيرة، وهو مذهب أستحسنه؛ لأني أرجو ألاَّ آثم فيه، وسمعت شعرَك في هذا المعنى، فأحببت أن أستَزِيد منه، فأحب أن تنشدني من جيِّد ما قلت، فقال: اعلم أنَّ ما قلتُهُ رديء، قلت: وكيف؟ قال: لأن الشعر ينبغي أن يكون مثلَ أشعار الفحول المتقدِّمين، أو مثل شعر بشار وابن هرمة، فإن لم يكن كذلك، فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه ممَّا لا تخفى على جمهور الناس مثل شعري، ولا سيَّما الأشعار التي في الزهد، انتهى.

وربما كان أبو العتاهية يفتخر فخرًا خفيًّا بكلامه هذا، ولكن قوله: إن طريق التميز هو طريق الفحول، قولٌ لا شكَّ في صحَّته.

وقال صاحب "وفَيَات الأعيان": ويُحكَى أنَّه لقي يومًا أبا نواس، فقال له: كم تعمل في يومك من الشعر؟ فقال له: البيت والبيتين، فقال أبو العتاهية: لكنَّني أعمل المائة والمائتين في اليوم، فقال أبو نواس: لأنَّك تعمل مثل قولك:
يَا عُتْبُ مَا لِي وَلَكِ
يَا لَيْتَنِي لَمْ أَرَكِ


ولو أردتُ مثل هذا الألف والألفين، لقدرتُ عليه، انتهى.

وأبو العتاهية هو القائل:
إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ


وأيضًا:
لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
فَكُلُّكُمُ يَصِيرُ إِلَى تَبَابِ


وأيضًا:
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَ
هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ


وهي على ما فيها من معانٍ سامية، وموعظة بليغة، تقصر عن جودة أبيات أبي نواس التي رثا فيها محمدًا الأمين، فقال:
طَوَى الْمَوْتُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ
وَلَيْسَ لِمَا تَطْوِي الْمَنِيَّةُ نَاشِرُ

وَكُنْتُ عَلَيْهِ أَحْذَرُ الْمَوْتَ وَحْدَهُ
فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ عَلَيْهِ أُحَاذِرُ

لَئِنْ عَمَرَتْ دُورٌ بِمَنْ لاَ أَوَدُّهُ
فَقَدْ عَمَرَتْ مِمَّن أُحِبُّ الْمَقَابِرُ


والمقام يَضِيق عن بَيان بَلاغة الأبيات، وما فيها من مَعانٍ مكنونة، وإيحاءات وكِنايات خلاَّبة.

يتبع





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18-11-2020, 01:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رشفات أدبية: البيان الساحر

رشفات أدبية: البيان الساحر



وليد سميح عبدالعال

وقد ذكَر ابن قتيبة أن الناس كانوا يستَجِيدون قول الأعشى:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ
وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا


حتى قال أبو نواس:
دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ


فسلَخَه وزاد فيه معنى آخر؛ انتهى.

وأمَّا المتنبي فحدِّث ولا حرج، فهو الذي ملأ الدنيا، وشغَل الناس بشعره، وبرغم ما قالوه فيه من رقَّة الدِّيانة، بل ادِّعاء النبوة - إن صحَّ ذلك عنه - فمن الذي لا يُقر بعبقريته الشعرية؟!

ثم تلا ذلك عصور وعصور، وشعراء، وبلغاء، وفصحاء.

وفي عصورنا الحديثة كذلك برز شعراء ونبغوا، كشوقي وحافظ، وهم وإن كان في شعرهم ما يمكن وسمه بالإسلامي (وُلِدَ الْهُدَى فَالْكَائِنَاتُ ضِيَاءُ...ولكن أين هم ممَّا نريده أن يكون؟

ثم تشعَّب الأمر وتشابَك، خاصة في الأجناس الأدبية الجديدة؛ كالمسرحية، والقصة القصيرة، والرواية، وضرَب فيها الضاربون بسِهامهم، وتسابَق الأدباء، وبرز منهم مَن برز، حتى قيل في تسعينيات القرن العشرين: إنَّنا في زمن الرواية.

وما زالت القصة والرواية - كالشعر - مجالاً خصبًا لمتناوِلٍ مُتقِن، وأديب بارِع، يظهر من خلالها عظمةَ الدين دون وعظيَّة مُعتادَة، ليُثبِت أن النُّبوغ الفني ليس مُقتَصِرًا على أدب غير المتديِّنين؛ بل ليمحو هذه الفكرة المنحرِفة عند شبابنا وكتَّابنا: أن الأديب أو الشاعر لا يكون أديبًا إلا بالمجون والزندقة، والاقتباس من الغرب.

وقد يقول قائل الآن: إنك بعد كلِّ ما سردته وقرَّرته، لم تجب عن السؤال: لماذا كان الأدب الخالي من أسس الالتِزام أجود فنيًّا في الجملة؟

والجواب:

إنَّ هذه طبيعة الأشياء، والدنيا سجن المؤمن، وجنَّة الكافر، والالتِزام في ذاته قيد؛ ولذا فإنَّك واجِد هذه الأصناف من الناس:
فصنفٌ نال من الدين نصيبًا وافرًا، فعاش به وله، فإذا أراد أن يكتب أدبًا لم يُجِدْ؛ بل قد يرى في ذلك انشِغالاً عن الأهم؛ بل قد يَراه البعض تفاهةً وسفاهةً ونزولاً لا يليق، وقلَّ أن ترى في عصرنا عالمًا أو شيخًا أديبًا.

وصنف ثانٍ يُجِيد إذا كتب، لكن ليس للدين فيما يكتب نصيب وافر، فإذا توغَّل في الدِّيانة صار من الصنف الأول!


وصنف ثالث تَعرِفونه، ابتُلِينا به في هذا العصر، وهو مَن يُجِيد مُبتَعِدًا عن الدين.

ولكن أين الصنف الرابع؟!
لذلك نقول هنا كلمة واجبة مهمَّة: إنَّ مَن أراد أن يكتب أدبًا، فلا بُدَّ أن يكون ما يكتبه أدبًا لا شيئًا آخر، ولا يتحقَّق ذلك إلا بتلك الرُّوح الوثَّابة المستشرِفة للجمال والإتقان، والإتيان بالعجيب الجديد الذي يُلَمِّح ولا يصرِّح فيما يكتب، لا مجرَّد طرح فكرة، أو تدبيج وعظ - والكل يحسن ذلك - وإلا ففي الخطب والبحوث والمقالات بغيته وضالَّته.

وكأنَّ الأمر صار يُشبِه القدَر الكوني، الذي أُرِيد له أن يكون ويقع شِئنَا ذلك أم أبَيْنا؛ كالاختِلاف بين البشر، فهو واقع كونًا؛ ï´؟ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ï´¾ [هود: 118]، واتِّفاق الناس جميعًا ضالَّة مفقودة، ولكن هذا ليس معناه الإياس من الائتِلاف؛ فإنَّ الله أمرنا أمرًا شرعيًّا أن ندفع الاختِلاف قدر الاستطاعة، وأن نأتَلِف ونَتراحَم.

كذلك الأمر هنا في الأدب؛ فليس معنى أنَّ هذه النتيجة مُطَّرِدة مُقَرَّرة، أن نقعُد عن مُحاوَلة دفعها وخرقها، أو أن نرضى بما قُسِم وقُدر، ما ينبَغِي أن نكون كذلك ونحن المسلمون الذين يُرِيدون لمنهج الإسلام الصافي أن يَسُود، وهذا باب وثغرٌ من ثُغُوره الكبيرة المهجورة التي تحتاج لِمَن يقف عليه ويسدُّه، وإنَّ في الدنيا جنةً كما قال شيخ الإسلام؛ بل فيها جِنان لِمَن أراد الحياة الحقيقية والجمال الحقيقي، وانظُر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من البيان لسحرًا))؛ [متفق عليه] وتأمَّله، ففي هذه العبارة المختصرة فوائدُ كِبار، وبيان بديع لبعْض هذه القضيَّة.

لقد قَدِمَ المدينة رجلان من المشرق فخَطَبَا، فعجب الناس لبيانهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قولَه، وفي "التمهيد" (16 - 340) من رواية ابن عباس: أنَّ رجلاً أثنى على رجلٍ، ثم عاد في مجلسه فهَجاه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ من البيان لسحرًا)).

ونحن نعلم أنَّ النبي ما قصَد ذمَّ البيان كلِّه حين شبَّهَه بالسحر؛ بل أراد أن ينبِّه على خطورة هذا البيان وقوَّته وتأثِيره، وأنَّه كما يُحدِث في النفس تأثيرًا سلبيًّا أو كاذِبًا أو مُنحرِفًا، فكذلك قد يُحدِث - إذا حسُن - أثرًا إيجابيًّا في النفس يحملها على المكارم والمحاسن والفضائل.

قال ابن بطال في "شرحه على البخاري":
معنى السحر: الاستمالة، وكلُّ مَن استَمالَك فقد سحَرَك، وكان رسول الله - عليه السلام - أميز الناس بفضل البلاغة لبلاغته، فأعجَبَه ذلك القول واستَحسَنه؛ ولذلك شبَّهَه بالسحر، قالوا: وقد تكلَّم رجلٌ في حاجةٍ عند عمر بن عبدالعزيز، وكان في قضائها مشقَّة، بكلام رقيق موجز، وتأنَّى لها وتلطَّف، فقال عمر بن عبدالعزيز: هذا السحر الحلال، وكان زيد بن إياس يقول للشعبي: يا مبطل الحاجات؛ يعني: أنه يَشغَل جُلَساءَه بحسن حديثه عن حاجاتهم، وأحسَن ما يُقال في ذلك أن هذا الحديث ليس بذمٍّ للبيان كلِّه، ولا بمدح للبيان كلِّه، ألا ترى قوله - عليه السلام -: ((إن من البيان لسحرًا))، و(من) للتبعيض عند العرب؟ وكيف يذمُّ البيان كله، وقد عدَّد الله به النعمة على عِباده، فقال: ï´؟ خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ï´¾ [الرحمن: 3 - 4]؟! ولا يجوز أن يعدِّد على عباده إلا ما فيه عظيم النعمة عليهم، وما ينبغي إدامة شكره عليه، فإذا ثبَت الاحتجاج للشيء الواحد مرَّة بالفضل ومرة بالنقص، وتزيينه مرة وعيبه أخرى - ثبَت أنَّ ما جاء من البيان مزينًا للحق ومبينًا له، فهو ممدوح، وهو الذي قال فيه عمر بن عبدالعزيز: هذا السحر الحلال؛ ومعنى ذلك: أنه يعمَل في استِمالة النفوس ما يعمَل السحر من استِهوائها، فهو سحرٌ على معنى التشبيه، لا أنه السحر الذي هو الباطل الحرام، والله أعلم.

فمن لي بصاحب هذا البيان؟
مَن لي بشاعر يخط الكلمات ضياءً تشع منه الأكوان؟
من لي بيواقيت نثر تستنطق الصم، وتستشهد العميان؟
من لي بمن يكون الدين في سويدائه كالمشعل، يُنِير ليضع اللؤلؤ والدر، ويستخرج مخبآت الأكنان؟

أديب ينسج سحرًا، تَلِين به القلوب وتسجد الأبدان.

نعود الآن لقصَّة البداية، لنرى أبا عمرو بن العلاء يحرق كتب الشعر والأدب، ثم يتنسَّك، ثم يعود مرَّة أخرى ليستنقذ منها من الذاكرة ما استَطاع، ونتساءل: لماذا فعل ذلك؛ أعني: لماذا عاد ليستَنقِذ ما أضاعه؟!

أتراه أدرك أنَّ هذا التراث العجيب الثري لا يسوغ التعامُل معه بهذه الطريقة؟

أتراه علم أن التنسُّك لا بُدَّ أن يوظف هذا الميراث، لا أن يلغيه، وينفيه، ويحرقه؟

أيًّا كان الأمر، وأيًّا كانت الافتِراضات، فنحن نعلم أنَّ أبا عمرٍو نَدِمَ على ما أحرَق من كتب وأوراق.

وأخيرًا: نحن أمَّة لها تراث عربي وإسلامي عريق مَجِيد، عالي الرتبة بين الأمم.

هذا التراث، هذه الأصول، هذه الذاكرة نحتاج أن تكون مِنَّا على بال، وهى قريبة سهلة المنال، حلوة المذاق، ساحرة، جذَّابة، خلاَّبة.

نحتاج لاستِلهامها، لاقتِناص أطايبها، لاستخراج مكنوناتها.

عندنا ما لو كان عند الغرب عُشرُه لفخروا به آلاف السنين.

نريد أن نخرج من هذه الحلقة المفرَّغة، التي صدق فيها قول الشاعر:
وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ
قُرْبُ الْحَبِيبِ وَمَا إِلَيْهِ وُصُولُ

كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا
وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ


وما أظنُّ أنَّ الكَلام سينتَهِي، ولعلَّ القلم يَعُود لذلك مرَّة أخرى.

والسلام خير الختام.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 78.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 75.69 كيلو بايت... تم توفير 2.35 كيلو بايت...بمعدل (3.02%)]