|
|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
رشفات أدبية: البيان الساحر
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: رشفات أدبية: البيان الساحر
رشفات أدبية: البيان الساحر وليد سميح عبدالعال وقد ذكَر ابن قتيبة أن الناس كانوا يستَجِيدون قول الأعشى: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا حتى قال أبو نواس: دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ فسلَخَه وزاد فيه معنى آخر؛ انتهى. وأمَّا المتنبي فحدِّث ولا حرج، فهو الذي ملأ الدنيا، وشغَل الناس بشعره، وبرغم ما قالوه فيه من رقَّة الدِّيانة، بل ادِّعاء النبوة - إن صحَّ ذلك عنه - فمن الذي لا يُقر بعبقريته الشعرية؟! ثم تلا ذلك عصور وعصور، وشعراء، وبلغاء، وفصحاء. وفي عصورنا الحديثة كذلك برز شعراء ونبغوا، كشوقي وحافظ، وهم وإن كان في شعرهم ما يمكن وسمه بالإسلامي (وُلِدَ الْهُدَى فَالْكَائِنَاتُ ضِيَاءُ...)، ولكن أين هم ممَّا نريده أن يكون؟ ثم تشعَّب الأمر وتشابَك، خاصة في الأجناس الأدبية الجديدة؛ كالمسرحية، والقصة القصيرة، والرواية، وضرَب فيها الضاربون بسِهامهم، وتسابَق الأدباء، وبرز منهم مَن برز، حتى قيل في تسعينيات القرن العشرين: إنَّنا في زمن الرواية. وما زالت القصة والرواية - كالشعر - مجالاً خصبًا لمتناوِلٍ مُتقِن، وأديب بارِع، يظهر من خلالها عظمةَ الدين دون وعظيَّة مُعتادَة، ليُثبِت أن النُّبوغ الفني ليس مُقتَصِرًا على أدب غير المتديِّنين؛ بل ليمحو هذه الفكرة المنحرِفة عند شبابنا وكتَّابنا: أن الأديب أو الشاعر لا يكون أديبًا إلا بالمجون والزندقة، والاقتباس من الغرب. وقد يقول قائل الآن: إنك بعد كلِّ ما سردته وقرَّرته، لم تجب عن السؤال: لماذا كان الأدب الخالي من أسس الالتِزام أجود فنيًّا في الجملة؟ والجواب: إنَّ هذه طبيعة الأشياء، والدنيا سجن المؤمن، وجنَّة الكافر، والالتِزام في ذاته قيد؛ ولذا فإنَّك واجِد هذه الأصناف من الناس: فصنفٌ نال من الدين نصيبًا وافرًا، فعاش به وله، فإذا أراد أن يكتب أدبًا لم يُجِدْ؛ بل قد يرى في ذلك انشِغالاً عن الأهم؛ بل قد يَراه البعض تفاهةً وسفاهةً ونزولاً لا يليق، وقلَّ أن ترى في عصرنا عالمًا أو شيخًا أديبًا. وصنف ثانٍ يُجِيد إذا كتب، لكن ليس للدين فيما يكتب نصيب وافر، فإذا توغَّل في الدِّيانة صار من الصنف الأول! وصنف ثالث تَعرِفونه، ابتُلِينا به في هذا العصر، وهو مَن يُجِيد مُبتَعِدًا عن الدين. ولكن أين الصنف الرابع؟! لذلك نقول هنا كلمة واجبة مهمَّة: إنَّ مَن أراد أن يكتب أدبًا، فلا بُدَّ أن يكون ما يكتبه أدبًا لا شيئًا آخر، ولا يتحقَّق ذلك إلا بتلك الرُّوح الوثَّابة المستشرِفة للجمال والإتقان، والإتيان بالعجيب الجديد الذي يُلَمِّح ولا يصرِّح فيما يكتب، لا مجرَّد طرح فكرة، أو تدبيج وعظ - والكل يحسن ذلك - وإلا ففي الخطب والبحوث والمقالات بغيته وضالَّته. وكأنَّ الأمر صار يُشبِه القدَر الكوني، الذي أُرِيد له أن يكون ويقع شِئنَا ذلك أم أبَيْنا؛ كالاختِلاف بين البشر، فهو واقع كونًا؛ ï´؟ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ï´¾ [هود: 118]، واتِّفاق الناس جميعًا ضالَّة مفقودة، ولكن هذا ليس معناه الإياس من الائتِلاف؛ فإنَّ الله أمرنا أمرًا شرعيًّا أن ندفع الاختِلاف قدر الاستطاعة، وأن نأتَلِف ونَتراحَم. كذلك الأمر هنا في الأدب؛ فليس معنى أنَّ هذه النتيجة مُطَّرِدة مُقَرَّرة، أن نقعُد عن مُحاوَلة دفعها وخرقها، أو أن نرضى بما قُسِم وقُدر، ما ينبَغِي أن نكون كذلك ونحن المسلمون الذين يُرِيدون لمنهج الإسلام الصافي أن يَسُود، وهذا باب وثغرٌ من ثُغُوره الكبيرة المهجورة التي تحتاج لِمَن يقف عليه ويسدُّه، وإنَّ في الدنيا جنةً كما قال شيخ الإسلام؛ بل فيها جِنان لِمَن أراد الحياة الحقيقية والجمال الحقيقي، وانظُر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من البيان لسحرًا))؛ [متفق عليه] وتأمَّله، ففي هذه العبارة المختصرة فوائدُ كِبار، وبيان بديع لبعْض هذه القضيَّة. لقد قَدِمَ المدينة رجلان من المشرق فخَطَبَا، فعجب الناس لبيانهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قولَه، وفي "التمهيد" (16 - 340) من رواية ابن عباس: أنَّ رجلاً أثنى على رجلٍ، ثم عاد في مجلسه فهَجاه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ من البيان لسحرًا)). ونحن نعلم أنَّ النبي ما قصَد ذمَّ البيان كلِّه حين شبَّهَه بالسحر؛ بل أراد أن ينبِّه على خطورة هذا البيان وقوَّته وتأثِيره، وأنَّه كما يُحدِث في النفس تأثيرًا سلبيًّا أو كاذِبًا أو مُنحرِفًا، فكذلك قد يُحدِث - إذا حسُن - أثرًا إيجابيًّا في النفس يحملها على المكارم والمحاسن والفضائل. قال ابن بطال في "شرحه على البخاري": معنى السحر: الاستمالة، وكلُّ مَن استَمالَك فقد سحَرَك، وكان رسول الله - عليه السلام - أميز الناس بفضل البلاغة لبلاغته، فأعجَبَه ذلك القول واستَحسَنه؛ ولذلك شبَّهَه بالسحر، قالوا: وقد تكلَّم رجلٌ في حاجةٍ عند عمر بن عبدالعزيز، وكان في قضائها مشقَّة، بكلام رقيق موجز، وتأنَّى لها وتلطَّف، فقال عمر بن عبدالعزيز: هذا السحر الحلال، وكان زيد بن إياس يقول للشعبي: يا مبطل الحاجات؛ يعني: أنه يَشغَل جُلَساءَه بحسن حديثه عن حاجاتهم، وأحسَن ما يُقال في ذلك أن هذا الحديث ليس بذمٍّ للبيان كلِّه، ولا بمدح للبيان كلِّه، ألا ترى قوله - عليه السلام -: ((إن من البيان لسحرًا))، و(من) للتبعيض عند العرب؟ وكيف يذمُّ البيان كله، وقد عدَّد الله به النعمة على عِباده، فقال: ï´؟ خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ï´¾ [الرحمن: 3 - 4]؟! ولا يجوز أن يعدِّد على عباده إلا ما فيه عظيم النعمة عليهم، وما ينبغي إدامة شكره عليه، فإذا ثبَت الاحتجاج للشيء الواحد مرَّة بالفضل ومرة بالنقص، وتزيينه مرة وعيبه أخرى - ثبَت أنَّ ما جاء من البيان مزينًا للحق ومبينًا له، فهو ممدوح، وهو الذي قال فيه عمر بن عبدالعزيز: هذا السحر الحلال؛ ومعنى ذلك: أنه يعمَل في استِمالة النفوس ما يعمَل السحر من استِهوائها، فهو سحرٌ على معنى التشبيه، لا أنه السحر الذي هو الباطل الحرام، والله أعلم. فمن لي بصاحب هذا البيان؟ مَن لي بشاعر يخط الكلمات ضياءً تشع منه الأكوان؟ من لي بيواقيت نثر تستنطق الصم، وتستشهد العميان؟ من لي بمن يكون الدين في سويدائه كالمشعل، يُنِير ليضع اللؤلؤ والدر، ويستخرج مخبآت الأكنان؟ أديب ينسج سحرًا، تَلِين به القلوب وتسجد الأبدان. نعود الآن لقصَّة البداية، لنرى أبا عمرو بن العلاء يحرق كتب الشعر والأدب، ثم يتنسَّك، ثم يعود مرَّة أخرى ليستنقذ منها من الذاكرة ما استَطاع، ونتساءل: لماذا فعل ذلك؛ أعني: لماذا عاد ليستَنقِذ ما أضاعه؟! أتراه أدرك أنَّ هذا التراث العجيب الثري لا يسوغ التعامُل معه بهذه الطريقة؟ أتراه علم أن التنسُّك لا بُدَّ أن يوظف هذا الميراث، لا أن يلغيه، وينفيه، ويحرقه؟ أيًّا كان الأمر، وأيًّا كانت الافتِراضات، فنحن نعلم أنَّ أبا عمرٍو نَدِمَ على ما أحرَق من كتب وأوراق. وأخيرًا: نحن أمَّة لها تراث عربي وإسلامي عريق مَجِيد، عالي الرتبة بين الأمم. هذا التراث، هذه الأصول، هذه الذاكرة نحتاج أن تكون مِنَّا على بال، وهى قريبة سهلة المنال، حلوة المذاق، ساحرة، جذَّابة، خلاَّبة. نحتاج لاستِلهامها، لاقتِناص أطايبها، لاستخراج مكنوناتها. عندنا ما لو كان عند الغرب عُشرُه لفخروا به آلاف السنين. نريد أن نخرج من هذه الحلقة المفرَّغة، التي صدق فيها قول الشاعر: وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ قُرْبُ الْحَبِيبِ وَمَا إِلَيْهِ وُصُولُ كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ وما أظنُّ أنَّ الكَلام سينتَهِي، ولعلَّ القلم يَعُود لذلك مرَّة أخرى. والسلام خير الختام.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |