العقوبات الربانية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الصراع مع اليهود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 38 )           »          الوقـف الإســلامي ودوره في الإصلاح والتغيير العهد الزنكي والأيوبي نموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          أفكار للتربية السليمة للطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          لزوم جماعة المسلمين يديم الأمن والاستقرار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          منهجُ السَّلَف الصالح منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ ولا ينحصِرُ بمكانٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 38 - عددالزوار : 1202 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 72 - عددالزوار : 16923 )           »          حوارات الآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 17 )           »          الخواطر (الظن الكاذب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الإنفــاق العــام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-12-2019, 05:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي العقوبات الربانية

العقوبات الربانية (1)


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



وجوب الخوف من العذاب


الحمد لله القوي القهار العزيز الجبار؛ يُري عباده من آياته ما به يعرفون عظمته وقدرته، ويخافون نقمته وعذابه {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] نحمده حمداً كثيراً، ونشكره شكراً مزيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظم حلمه على عباده فأمهلهم، ولطف بهم فأنذرهم، ولو شاء لعذبهم، ولو أخذهم بذنوبهم لأهلكهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أعلم الناس بالله تعالى وأتقاهم له، وأشدهم خوفاً منه، وأكثرهم رجاء له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«أن يُطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر».

أيها الناس:
من قرأ القرآن الكريم، وشاهد فيه سير الغابرين، ومصير المستكبرين، وتأمل سنن الله تعالى في المكذبين؛ خاف عقوبته، وحاذر معصيته، ولم يأمن مكره.. وأشد الخلق خوفاً من الله تعالى، وأكثرهم اتقاء لعذابه أعلمهم بقدرته وقوته، وسرعة انتقامه، وشدة بطشه، وإلا فأهل الجهل والإعراض والاستكبار لا يرجون لله تعالى وقاراً، ولا يخافون منه انتقاماً؛ حتى يبغتهم العذاب وهم في غيِّهم، وقد استكبرت عاد فقالت {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصِّلت:15] ورأوا بوادر العذاب ففرحوا به من جهلهم وقالوا {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] وقال كفار قريش {اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] فأهلكهم الله تعالى، فما أعظم الفرق بين من عرف الله تعالى فعظمه، وبين من جهل به فأعرض عنه!!

وأقرب الخلق من الله تعالى ملائكتُه الدائبون في عبادته، الدائمون على ذكره {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19-20] وخوفهم من الله تعالى عظيم، وخشيتهم له كبيرة، قال الله تعالى فيهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] وفي آية أخرى {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] ومن أسباب ديمومتهم على التسبيح خوفهم من الله تعالى {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13].

إنهم يخافون عذاب الله تعالى مع أنهم معصومون من الخطأ، لكنهم لا يأمنون مكره سبحانه؛ ولذا أخبر عنهم ربهم سبحانه فقال {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، وإذا قضى الله تعالى أمراً خافوا خوفاً شديداً، كما أخبر عنهم أعلم الناس بهم وبخوفهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال:«إذا قَضَى الله الْأَمْرَ في السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ على صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذلك فإذا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} [سبأ:23]»رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«وَلَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ إذا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حتى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هذه السَّمَاءِ الدُّنْيَا»رواه مسلم. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:«وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أُرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما طَرَفَ صاحبُ الصور مُذْ وُكِّلَ به مستعدٌ ينظرُ نحو العرش مخافةَ أن يُؤمر قبل أن يَرتدَّ إليه طرفُه كأنَّ عينيه كوكبان دريان»رواه أبو الشيخ وصححه الحاكم وحسنه ابن حجر.

كل هذا الخوف من الله تعالى؛ لأن الملائكة لقربهم عرفوا الله تعالى فعظموه، وعلموا قدرته فهابوه وخافوه.

والرسل عليهم السلام هم أعلم الناس بالله تعالى، وأنصحهم لعباده؛ فكانوا أشدهم خشية له، وخوفاً منه؛ لعلمهم بسرعة انتقامه، وشدة عذابه؛ ولذا حذَّروا أقوامهم من معصيته، قال نوح عليه السلام لقومه وهو يدعوهم إلى الله تعالى {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] ودعا هود عليه السلام قومه إلى التوحيد فقال لهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21] وقال شعيب عليه السلام لقومه {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84] والخليل عليه السلام حذر أباه من المعصية خوفاً عليه من العذاب فقال {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45] ومؤمن آل فرعون نصح لهم، وحذرهم عذاب الله تعالى{وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31].
أولئك الأنبياء والصالحون عرفوا الله تعالى فعظموه، ورجوا رحمته فأطاعوه، وخافوا عذابه فلم يعصوه.

وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الغاية في معرفة الله تعالى ومحبته ورجائه والخوف منه، وكان ناصحاً لأمته، رحيماً بها، مشفقاً عليها، يحذرها بطش الله تعالى وعذابه، قال لأهل مكة لما كذبوه {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3].

وأخبرهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يدري ما يفعل الله تعالى به ولا بهم في الدنيا، فقال لهم {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9].

كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في القرآن سير المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب، فيتأثر بذلك ويبكي خوفاً على أمته أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، وأُثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قيل له: «قد شِبْتَ! قال: شَيَّبَتْنِي هُودٌ» قال ابن رجب رحمه الله تعالى: «يشير إلى أن شَيْبَه منها ما ذُكر من هلاك الأمم قبل أمته وعذابهم» وقال المناوي رحمه الله تعالى:«لما فيها من ذكر الأمم وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى؛ فأهل اليقين إذا تلوها انكشف لهم من ملكه وسلطانه وبطشه وقهره ما تذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس، فلو ماتوا فزعاً لحُقَّ لهم لكن الله لطف بهم لإقامة الدين».

وكان صلى الله عليه وسلم يشتد خوفه إذا تغيرت أحوال الكون؛ فتخيلت السماء، أو هبت الرياح، أو كسفت الشمس، قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذلك في وَجْهِهِ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فإذا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ وَذَهَبَ عنه ذلك قالت عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فقال: إني خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ على أُمَّتِي»رواه مسلم. وفي الكسوف قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:«ثُمَّ نَفَخَ في آخِرِ سُجُودِهِ فقال: أُفْ أُفْ ثُمَّ قال: رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وأنا فِيهِمْ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» رواه أبو داود.

لقد قاده صلى الله عليه وسلم علمه بالله تعالى، ومعرفته بأسمائه وصفاته إلى خوفه الشديد منه سبحانه، ومحاذرة أسباب نقمته وسخطه وعذابه، كيف!! وهو القائل صلى الله عليه وسلم:«فَوَالله إني لَأَعْلَمُهُمْ بِالله وَأَشَدُّهُمْ له خَشْيَةً»رواه البخاري.

وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله تعالى من العذاب؛ كما روى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: كان من دُعَاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»رواه مسلم، وقالت عَائِشَة رضي الله عنها: «فَقَدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً من الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي على بَطْنِ قَدَمَيْهِ وهو في الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وهو يقول: اللهم أَعُوذُ بِرِضَاكَ من سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنت كما أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ»رواه مسلم. فحري بأهل الإيمان أن يعظموا الله تعالى ويتقوه، ويرجوا رحمته، ويخافوا عذابه، ولا يأمنوا مكره {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65].
بارك الله لي ولكم في القرآن...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19].

أيها المسلمون:
الاغترار بكثرة الطاعات، والاستهانة بقليل المعاصي هلاكٌ للعباد، وسبب لاستجلاب العذاب، فكيف إذا كان الحال أسوأ من ذلك، فكان غروراً بقليل الطاعة، واستهانة بكثرة المعاصي والموبقات؟! فما أصبر الله تعالى علينا، وما أعظم حلمه فينا، وما أكثر إمهاله لنا، فنسأله تعالى أن لا يكون ذلك استدراجاً لنا، فما أضعفنا وأعجزنا! وما أقدره سبحانه علينا!!

لقد تتابعت النذر علينا ونحن في لهونا وغفلتنا، وأحاطت بنا فتن السراء والضراء من كل جانب، ورأينا من آيات الله تعالى الكونية في غيرنا ما رأينا، ولكن القلوب قست، والنفوس غوت، إلا ما رحم ربي، وقليل ما هم.

لقد عمت المنكرات وطمت، واستعلن أهل الفساد بها، وضعف صوت المنكرين لها، وانغمس كثير من الناس في اللهو والترف، وانتشرت فيهم ذنوب الأسماع والأبصار، وأكل الحقوق وتضييع الواجبات، وبلغ من جرأة أهل المنكرات أنهم يحاربون المواعظ والتذكير بالآيات؛ لئلا ينزعج الناس بالموعظة والتذكير، فيخافوا العذاب؛ لأنهم يريدون من الناس أن يحاربوا الله تعالى بمعصيته وهم في أمن من عذابه، وهذا ما يخشاه أهل الإيمان والإصلاح؛ لأن الأمم المكذبة ما عُذبت إلا بعد أن أعرضت عن المواعظ، وقارفت المعاصي بعلم وإصرار.

إن الله تعالى لو أراد هلاك الناس جميعاً فلن يرده شيء، ولن يقف أمام قدرته سبحانه أيُّ قوة مهما كانت، ولن يُنجي من عذابه حذر ولا احتراز، فلا ملجأ منه إلا إليه، ولما قالت النصارى{إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} قال الله تعالى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:17].

وروى زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه عن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أَنَّ الله عَذَّبَ أَهْلَ سماواته وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ غير ظَالِمٍ لهم وَلَوْ رَحِمَهُمْ كانت رَحْمَتُهُ لهم خَيْراً من أَعْمَالِهِمْ»رواه أحمد. ورُوي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَوْ يُؤَاخِذُنِي اللهُ وَابْنَ مَرْيَمَ بِمَا جَنَتْ هَاتَانِ يَعْنِي الإِبْهَامَ وَالَّتِي تَلِيهَا لَعَذَّبَنَا ثُمَّ لَمْ يَظْلِمْنَا شَيْئًا»رواه ابن حبان.

فلنقبلْ -عباد الله- نُذُرَ الله تعالى إلينا، ولنتعظ بما حلَّ بالأمم قبلنا، ولنعتبر بما نزل بمن حولنا، ولننظر فيما يحيط بنا؛ فإن المخاطر تزداد يوماً بعد يوم، وكثير منا في غفلتهم سادرون، ونعوذ بالله تعالى من الغفلة فإنها داء القلوب، وعذاب الله تعالى قد بغت من كانوا قبلنا وهم غافلون {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} {الأنعام:45} وآخرون استعجلوا العذاب فجاءهم بغتة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ العَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53] فاحذروا أن تسلكوا مسلكهم؛ فالسعيد من وعظ بغيره.

وصلوا وسلموا على نبيكم...





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-12-2019, 05:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العقوبات الربانية

العقوبات الربانية (2)


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



العقوبة بالخسف والزلازل

الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة؛ يتابع نُذُرَه على عباده، ويريهم شيئاً من قدرته وآياته {وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ الله تُنْكِرُونَ} [غافر: 81]، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على إمهاله، ونستغفره لذنوبنا، ونسأله أن يعفو عنا، وأن لا يؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وجعل لكل شيء سبباً، فجعل الذنوب سبباً لزوال النعم ونزول العقوبات، وجعل التوبة سبباً لرفع العذاب وكثرة الخيرات وهو العليم الحكيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ نصح أمته وأرشدها، وبين أن عافيتها في أولها، وأن الشر والفتن في أخرها، ودلَّ العباد على ما يعصمهم منها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أزكى هذه الأمة بِرَّاً وتُقى، وسادتُها علماً وهدى، رضي الله عنهم ورضوا عنه؛ فلا يحبهم إلا مؤمن، ولا يشنئوهم إلا زنديق منافق، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا عذابه فلا تعصوه؛ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأنفال: 25].


أيها الناس:
القلوب الحية تتأثر بالمواعظ القرآنية، وتوجل من النذر الربانية، وأصحابها يعظمون الله تعالى، ويقرون بنعمه عليهم، ويعترفون بتقصيرهم في حقه سبحانه وتعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].


أما القلوب الميتة التي انطمست بالشبهات، أو صدأت بالشهوات، فلا تتأثر بالمواعظ، ولا تعتبر بالآيات، ولا تخاف الوعيد، حتى يبغت العذاب أصحابها وهم في غفلتهم.

ومن قرأ القرآن وجد أنه وعدٌ ووعيد، وترغيب وترهيب، وموعظة وتذكير، قص الله تعالى فيه أحوال السابقين وما حلّ بهم من أنواع العذاب الأليم؛ ليحذر الناس أعمالهم، ويجانبوا طريقهم، فينجوا من أسباب هلاكهم.

وفي القرآن ذكر لبعض جند الله تعالى التي أرسلها على المكذبين فكانت سبب هلاكهم، فمنها الغرق، ومنها الريح، ومنها الصيحة، ومنها الحاصب، وغير ذلك.

والخسف عذاب وآية، والزلزلة نوع من الخسف، أما كون الخسف آية فهو دليل على قدرة الله تعالى في تحريك الأرض وإسكانها، وكثرتُه علامة من علامات الساعة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم وتكثر الزلازل.. )) رواه الشيخان. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة الكبرى(ثلاثة خسوف: خسفٌ بالمشرق، وخسفٌ بالمغرب، وخسفٌ بجزيرة العرب...))؛ رواه مسلم.

وأما كون الخسف عذاباً فإن الله تعالى عذّب به من السابقين أفراداً وأمماً، ومن الأفراد الذين عذبوا به: قارون، قال الله تعالى فيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81]، والرجل الذي امتلأ إعجاباً بنفسه، ولم يشكر نعمة الله تعالى عليه؛ كما في حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مُرَجِّلٌ جُمَّتُهُ، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة))؛ رواه الشيخان.

وعُذب بالخسف أمم ذكرها الله تعالى في تعداد أنواع المعذبين فقال سبحانه {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} [العنكبوت: 40].

ومن الأمم التي عذبت به قوم لوط عليه السلام، ثم أُتبعت قراهم بحمم وحجارة من نار أحرقتهم، قال الله تعالى فيهم: {وَالمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النَّجم: 55] انقلبت عليهم ديارهم بأمر الله تعالى، ثم هوت بهم من علٍ إلى أسفل، كما في الآية الأخرى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: 74]، والائْتِفَاك هو الانقلابُ، وقيل لمدائن قوم لوط: المؤتفكات؛ لانقلابها. ثم غشاها حجارة ملتهبة: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82].

فهل يشك مؤمن في نعمة الله تعالى عليه بالخلق الهداية والرزق والحفظ من أنواع العذاب؟! لا يشك في ذلك إلا أهل الإعراض والاستكبار؛ فناسب بعد ذكر هذا العذاب الأليم الذي حل بقوم لوط أن يُذَكَّر الناسُ نعمةَ الله تعالى عليهم {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النَّجم: 55].

إن الخسف عقوبة من الله تعالى ينزله بمن شاء من عباده، فيخسف بهم ديارهم، ويقلب عليهم عمرانهم، وقد جاء التهديد به في القرآن في آيات عدة: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، والمور هو الحركة والاضطراب، وهو ما تحدثه الزلزلة بأمر الله تعالى.

والخسف قد يكون وسط اليابسة، وقد يقع في سواحل البحار فيبتلع مدن الشواطئ، كما شهدناه في تسونامي وغيره؛ إذ خُسف بساحل البحر فارتفع مده حتى غمر المدن التي بقربه؛ فلا يُؤْمَنُ عذابُ الله تعالى لا في البر ولا في البحر ولا بينهما: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} [الإسراء: 68]، وساحل البحر هو جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر؛ فحذرهم ما أمنوه من البر، كما حذرهم ما خافوه من البحر.

وأدق وصفٍ لما يقع من زلزلة في الدنيا جاء في سورة النحل في قول الله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]، ذلك أن الزلزلة تهز قواعد البنيان، فتخر السُقُفُ على أهلها، ويكون ذلك في حال غفلة منهم، وفي النحل أيضاً جاء ذكر الخسف والتهديد به، والزلزلة نوع من الخسف: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 45]، فالذين من قبل مكروا السيئات فعذبوا بالزلزلة كما أخبرت عنهم هذه السورة، ويحذرنا ربنا سبحانه أن نسير سيرتهم فنمكر السيئات فيصيبنا ما أصابهم.

ومن عجائب هذه السورة التي وُصِفت فيها الزلزلة بأدق وصف، وهُدد العباد فيها بالخسف إن مكروا السيئات أنها أكثر السور ذكراً لنعم الله تعالى المعنوية والحسية، وتفصيلاً لمنافعها؛ حتى سماها التابعي الجليل قتادة السدوسي رحمه الله تعالى: سورة النِعَم؛ لكثرة ما ذكر فيها منها، فذُكر فيها من النعم المعنوية: الوحي والقرآن والذكر والتوحيد والملة الحنيفية والحفظ من الشيطان وغير ذلك، وذكر فيها من النعم الحسية: الخلق والرزق والأسماع والأبصار والأفئدة والمآكل والمشارب والملابس والمراكب والمنازل والتزاوج والنسل، كما ذُكرت فيها نعم الشمس والقمر والنجوم والبحار وما فيها من أرزاق ومنافع للعباد.

هل تتخيلون يا عباد الله أن هذه السورة الزاخرة بتعداد نعم الله تعالى علينا قد ذُكر فيها لفظ النعمة في ست آيات؛ فبعد تعداد جملة من النعم يقول الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، ويَختِم سبحانه ذكر النعم بالأمر بشكرها: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ الله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]، وينوه بذكر الخليل عليه السلام ثم يصفه سبحانه قائلاً: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 121] للتأسي به في الشكر، ويذكر عز وجل حال فريق آخر وهم من تقلبوا في نعمه ولم يشكروها، ففي ثلاث آيات متقاربات: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]، {أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]، {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} [النحل: 83]، ويضرب مثلاً عظيماً بقرية لم تشكر النعمة فعوقبت: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

وبذكر الخسف في هذه السورة، وتخويف الله تعالى به، وتعليق ذلك بمكر السيئات، مع تكرار الأمر بشكر النعم، والتحذير من كفرها؛ نستفيد معرفة خطورة كفران النعم، وتسببها في نزول العقوبات، وأن اجتراح السيئات سبب للخسف والزلازل؛ لأن الخسف عُلق بمكر السيئات، ومكر السيئات هو مقارفتها، والمكر فيه تحايل، فيدخل في ذلك التحايل على الشريعة لإسقاطها، أو لإباحة المحرم منها، أو الالتفاف على نصوصها بتحريف معانيها وتأويلها لإرضاء البشر، وقد انتشر هذا البلاء في هذا الزمن، فلا عجب أن تتنوع فيه العقوبات، وأن تتابع النذر والآيات، فالكوارث في زمننا هذا يُنسِي بعضها بعضاً من كثرتها. {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ} [النحل: 45]، إنه تهديد عظيم بالخسف والزلزلة في سورة النِعَم؛ إذ كيف ينعم الله تعالى على عباده بالنعم الكثيرة التي عددها في هذه السورة، ثم يكفرونها وفيها ردٌ على أهل الجهل والهوى الذين يرفضون تعليق آيات التخويف والعذاب بالمعاصي والموبقات، زاعمين أنها أسباب كونية اعتيادية، ويفسرنها تفسيرات مادية، فما عساهم أن يفعلوا بآيتي النحل في الخسف والزلزلة، وقد عُلق فيهما الخسف والزلزلة بمكر السيئات؟!

نعوذ بالله تعالى من الجرأة على شريعته، وانتهاك حرماته، وتحريف آياته، والغفلة عن نذره، والأمن من مكره، ونسأله الهداية والعافية لنا وللمسلمين أجمعين، إنه سميع مجيب.

وأقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131-132].


أيها المسلمون:
مكر السيئات سبب للزلازل والعقوبات، وقد شهدنا زلازل عظيمة أهلكت بشراً كثيراً، ودمرت عمراناً عظيماً، آخرها زلزلة هاييتي التي وقعت قبل أيام، ويُتوقع أن يتجاوز عدد ضحاياها مائتي ألف قتيل، ومئات الآلاف من الجرحى والمشردين.


وقد أفادَ أحد المهتمين بإحصاء الكوارث الكبرى في العالم أن معدلاتها في ازدياد مضطرد، وأن معدلها قبل أكثر من نصف قرن كان كارثتين في العام الواحد، وزادت قبل عقد إلى سبع كوارث، وبازديادها تقترب الساعة؛ لأن من علاماتها كثرة الزلازل، وهو دليل على كثرة الموبقات في البشر.

ومن أعظم أسباب دفع هذا البلاء عن الأفراد والأمم: الإصلاح في الأرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي السفهاء؛ فإن الله تعالى قال في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} [التوبة: 71]، وإذا رحمهم الله عز وجل لم يعذبهم، وفي آية أخرى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وسألت زَيْنَبُ ابنة جَحْشٍ رضي الله عَنْهُا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قال: نعم إذا كَثُرَ الْخَبَثُ» متفق عليه.

ولا يكثر الخبث إلا حين يُعطل الاحتساب على الناس، فلا يؤمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر؛ كما يريد الكافرون المنافقون، وكما يدعو إليه دعاة الانحلال والفساد.

إن النزعة المادية، واللوثة الإرجائية التي حملها بعض المنتكسين والمنحرفين، ودعوا الناس إليها، وألحوا عليهم بها، وعظّموا الدنيا في قلوبهم، وهونوا من شأن المعاصي في نفوسهم؛ كانت أهم سبب لقسوة القلوب، وكثرة الذنوب، والجرأة على الشريعة، ويُخشى على الناس من عقوبات ذلك إن انقادوا خلف هؤلاء المفسدين.

ومن كثرة الكوارث وتتابعها ماتت القلوب فأصبح كثير من الناس لا يأبهون بها، ولا يتعظون بما حلّ بأهلها، ولو أنهم قابلوا من خسروا في هذه الزلازل أسرهم وبيوتهم وأموالهم لعلموا حجم مصابهم، ولكن لا يُنقل إليهم إلا خبر الزلزال ومشاهد دماره، ويندر نقل أشجان الخاسرين في الكوارث.

إن الواحد منا إذا مات له حبيب حزن عليه أشد الحزن، وبقيت ذكراه في قلبه إلى ما شاء الله تعالى، إنْ نسيه في وقت تذكره في وقت آخر، وربما تكررت رؤيته له في منامه، فكيف بمن فقد كل أحبته في كارثة من هذه الكوارث؟!

ولو خسر الواحد منا نصف ماله لتكدر عيشه، وضاق صدره، ولم يهنأ بنوم ولا طعام ولا شراب، فكيف بمن فقد بيته وماله كله، وأصبح في العراء وحيداً شريداً فقيراً بعد أن كان ذا مال وأسرة ومنزل؟!

فإذا لم نعتبر بما نرى ونسمع مما يقع من الكوارث فمتى نعتبر ومتى نتعظ؟ ولماذا لا نخاف أن يصيبنا ما أصاب غيرنا، فيفقد الواحد منا كل شيء في لحظة، وليس أحد في مأمن من عقوبة الله تعالى، نعوذ بالله العظيم من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه.
نعوذ به سبحانه من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء، ونسأله سبحانه العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة،ونسأله سبحانه أن يعافينا في أنفسنا وأهلنا وأموالنا وبلادنا، وأن يعافي المسلمين أجمعين، وأن يرفع عنا العذاب، ويدفع عنا البلاء، وعن المسلمين أجمعين.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-12-2019, 05:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العقوبات الربانية

العقوبات الربانية (3)


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
العقوبة بالقحط والجدب


الحمد لله الرزَّاق ذي القوَّة المَتِين؛ أفاضَ على عباده من خيره، وفتَح لهم أبواب رزقه، فهم في نِعَمِه يتقلَّبون، ومن رزقه يأكلون ويشربون، ويلبسون ويركبون، نحمده على نِعَمِه الوافِرَة، ونشكره على عطائه المتتابع؛ ï´؟ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [النحل: 18].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحليم الرحيم، الجواد الكريم، يُؤذِيه عِبَاده بالليل والنهار فيصبر على أذاهم؛ يرزقهم فيعصونه، ويُعافِيهم فيكفرونه؛ ï´؟ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ï´¾ [سبأ: 13].

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ غفر الله - تعالى - له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وكان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدَمَاه؛ شكرًا لله - تعالى - على نِعَمِه، وإقرارًا بفضله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعلموا أن أرزاقكم بيده - سبحانه - ورزقه يُنال بطاعته؛ ï´؟ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ï´¾ [الطلاق: 2- 3].

أيُّها الناس:
حين خلقنا ربُّنا - جلَّ في علاه - فإنه - سبحانه - أحسَن خلقنا، وأمَرَنا ونهانا، ويَجزِينا يوم القيامة بأعمالنا.

إن البشر في حياتهم الدنيا ضِعاف مساكين، لا حوْل لهم ولا قوَّة إلا بالله - تعالى - قد أسرَهم ربهم - سبحانه - فأحْكَم أسْرَهم، وشدَّ وَثاقهم، وجعل حاجتهم إليه - سبحانه - دائمة؛ فآجالهم بيده - تعالى - وأرزاقهم عنده - عز وجل - ولا ينفكُّ العِبَاد عن الحاجة للرزق؛ إذ لا حياة للإنسان بلا غذاء، ولا غذاء بلا ماء، ولا ماء إلا بأمر الله - تعالى -: ï´؟ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ï´¾ [الأنبياء: 30]، ï´؟ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ï´¾ [الفرقان: 48- 49].

فالماء أعظم الرزق وأهمُّه، ولا حياة للبشر بفَقْدِه، والأرزاق الأخرى سببها الماء، وفي القرآن جاء إطلاق الرزق على الماء؛ ï´؟ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ï´¾} [غافر: 13]، وتُخرِج الأرض أرزاقها بسبب الماء؛ ï´؟ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ï´¾ [البقرة: 22]، وفي آيات أخرى: ï´؟ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ ï´¾ [ق: 9- 11]، فطعام البشر وطعام دوابِّهم ممَّا تُخرِج الأرض بعد الغيث المبارك؛ ï´؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ï´¾ [السجدة: 27].

وذكر الله - تعالى - ما نأكل من طعامٍ ففصَّل - سبحانه - لنا دَوْرَة هذا الطعام التي مرَّ بها حتى وصل إلينا، وختم ذلك ببيان أنه متاع لنا؛ ï´؟ فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ï´¾ [عبس: 24- 32].

ولَمَّا كانت حياة البشر لا بقاء لها إلا بماء وطعام كان حبس الماء عن الناس سببًا للجوع والموت الذريع، وفناء البشر ونُفُوق أنعامهم، وكان هذا الحبس عقوبةً يُعاقِب بها ربُّنا مَن شاء من عباده على عِصيانهم، أو بلاء يبلوهم به ليَزِيد في عبوديَّتهم وخُضوعهم له - سبحانه - وليستخرج دعاءهم وذلهم وانطراحهم بين يديه - عز وجل - وقد أصاب بالقحط والجدب أُمَمًا قبلنا؛ عقوبةً لهم على ما قارفوا من العصيان، وفي قصة يوسف - عليه السلام - رأى الملك؛ ï´؟ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ï´¾ [يوسف: 43]، فعبَّرها يوسف - عليه السلام - بسبع سنوات زرع يخزن فيها الطعام لسبعٍ جدباء تأكل ما خزنوا، يَعقُبها فرج بغيث عظيم؛ ï´؟ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ï´¾ [يوسف: 47- 49].

ولَمَّا طغى فرعون واستَكبَر أنذَرَه الله - تعالى - بجملةٍ من الآيات التخويفيَّة دلَّ السياق القرآني على أن القحط والجدب كان أوَّلها؛ ï´؟ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ï´¾ [الأعراف: 130]، لكنهم لم يتذكَّروا، فتابَع عليهم نُذُرَه حتى أغرقهم.

وأهل مكَّة قبل بعثة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أنعم الله - تعالى - عليهم بالشِّبَع والعطاء، وصرَف عنهم الخوف، فكانت العرب لا تغزوهم لمكانهم من البيت الحرام، وفي مِنَّة الله - تعالى - عليهم بذلك قال - سبحانه -: ï´؟ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ï´¾ [قريش: 3- 4]، لكنهم كذَّبوا النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحارَبُوا دعوته، وآذوا أتباعه؛ فأصابهم ما أصاب غيرهم من القِلَّة والجوع، وجعَلَهم الله - تعالى - مثلاً مضروبًا لقُرَّاء القرآن حتى لا يسيروا سِيرَتهم في العصيان؛ ï´؟ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ï´¾ [النحل: 112].

وسبب ذلك دعوة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليهم، ولم يُرفَع القحطُ والجوعُ عنهم إلا باستسقاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهم؛ كما روى ابن مسعود - رضِي الله عنه -: "أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَمَّا رأى قريشًا استعصوا عليه قال: ((اللهم أعنِّي عليهم بسبعٍ كسبع يوسف))، فأخذتهم السنة حتى حصَتْ كلَّ شيء؛ حتى أكلوا العظام والجلود، وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان فأتاه أبو سفيان فقال: أيْ محمد، إن قومك قد هلكوا فادعُ الله أن يكشف عنهم فدعا - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ رواه الشيخان.

ومن رحمة الله - تعالى - بهذه الأمَّة أنه لا يُهلِكها جميعًا بالقَحْطِ والجوع، لا أمَّة الدعوة ولا أمَّة الإجابة؛ وذلك ببركة دعاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنه قال: ((وإني سألت ربِّي لأمَّتي ألاَّ يُهلِكها بسنة عامَّة... فقال الله - تعالى -: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتُك لأمَّتك ألا أهلكهم بسنة عامَّة))؛ رواه مسلم.

لكنه - سبحانه - يُعاقِب بعضها بالقحط والجوع، ويخوِّف بعضها به، ويَبتلِي به بعضها، والقَحْطُ والجفاف الذي نتَج عنه مَجاعات كثيرة في تاريخ هذه الأمَّة، وأُصِيب به المسلمون والكفَّار هو من قَبِيل العقوبات على المعاصي، أو التخويف بالآيات، أو الابتلاء للعِبَاد، والابتلاء يحتاج إلى صبرٍ ومَزِيدِ عُبوديَّة، وحسنِ ظنٍّ بالله - تعالى - مع سوءِ ظنٍّ في النفس الأمَّارة بالسوء، وفي البلاء بالقحط؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ï´¾ [البقرة: 155].

ومن سمات العقوبة بالقحط والجفاف أنه يُصِيب الناس الشيء بعدَ الشيء، فليس عذابًا يُهلِك بغتة؛ ولذا أُصِيب به قوم يوسف سبع سنين فضاقوا لكن عاشوا، وأُصِيب به فرعونُ وقومُه فلم يهلكهم، ولم يكن سببًا في رجوعهم حتى أصابهم الله - تعالى - بالرِّجز - وهو الوباء المُفنِي - فتابوا فرُفِع عنهم، ثم نكَثُوا فأُغرِقوا، وأصاب القحطُ قريشًا فضاقَتْ أحوالهم، وخارَتْ قُواهم، لكنهم عاشوا إلى أن سُقُوا بدعوة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعقوبتهم بالقحط والجوع فسَّر ابن عباس - رضِي الله عنهما - هذه الآية: ï´؟ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ï´¾ [المؤمنون: 76]؛ ولذا كان القحط عذابًا أدنى وليس عذابًا أكبر؛ كما مثَّل به بعض السلف في قول الله - تعالى -: ï´؟ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ï´¾ [السجدة: 21]، قال ابن مسعود - رضِي الله عنه - في تفسير العذاب الأدنى: سنون أصابتهم.


وخُطورة العقوبة بالقحط أن كثيرًا من الناس لا يتَّعظون به، ولا يخافون أن يكون عقوبة، فلا يردعهم عن عِصيانهم كما لم يرتدع به السابقون، وهذا من أمْن العقوبات، والغفْلة عن تذكُّر الآيات، وإلاَّ فإن الواجب على العباد إذا رأَوْا أيَّ تغيُّرٍ في أحوالهم ومَعايِشهم حرَّك ذلك قلوبهم، فحاسَبُوا أنفسهم، وأقلعوا عن ذنوبهم، وتابوا إلى ربهم، وراجَعوا دينهم؛ خوفًا من عذاب أعظم وأكبر، ومَن قرأ تاريخ البشر ورأى ما أصابهم من المجاعات خشي في كلِّ مَوْسِم يُحبَس فيه القطر أن يكون عذابًا من الله - تعالى - وربنا - سبحانه - قد خوَّفنا من غَوْرِ المياه وقلَّتها، ومَنَّ علينا بتوافُرها وعذوبتها؛ ï´؟ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ï´¾} [الواقعة: 68- 70]، ï´؟ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ï´¾ [الملك: 21]، ï´؟ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ï´¾ [الملك: 30].

نعوذ بالله - تعالى - من زوال نعمته، وتحوُّل عافيته، وفُجاءَة نقمته، وجميع سخطه.

أقول ما تسمعون...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربنا ويَرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتَدَى بهداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ï´¾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون:
يجب على أهل الإيمان إذا أُغِيثوا أن يشكروا الله - تعالى - على رزقه، ويقرُّوا بفضله؛ فإن الغَيْثَ من رحمة الله - تعالى - يسدُّ به حاجة العباد؛ ï´؟ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ï´¾ [الشورى: 28].

كما يجب عليهم إنْ حُبِس القطر عنهم مُدَدًا متتالية أن يخافوا ويتوبوا؛ خشيةَ أن يكون عقوبة تَتْبَعها عقوبات أعظم؛ كما وقع لفرعون وقومه؛ فإنهم عُوقِبوا بعد الجدب بأنواعٍ من العقوبات فلم يتَّعظوا، فخَتَم الله - تعالى - عقوبتهم بالغَرَق فأهلكهم، وعُوقِب صناديد الشرك في مكَّة بالقتل في غزوة بدرٍ بعد أن عُوقِبوا بالسنين فلم يتَّعظوا.

وإبطاء الغيث عنَّا مع شدَّة حاجتنا إليه وكثرة استسقائنا يُوجِب المراجعة والاتِّعاظ؛ فإن سنن الله - تعالى - ماضية في عباده، وعقوباته لا تُدفَع إلا بطاعته، وعسى ألاَّ نسلك مسلك الذين عُذِّبوا بأنواع العقوبات بعد أن لم يتَّعظوا بآيَة القحط والجدب، ولا سيَّما أن أهل المنكرات ماضون في إفسادهم ومجاهرتهم بالحرب على الله - تعالى - وعلى شريعته وعلى عباده الصالحين، والإنكار عليهم قليل، وهذا من البلاء العظيم الذي يكون سببًا في رفع الرزق والأمن، وحلول الخوف والجوع؛ لأن الله - تعالى - يَغار على حرماته أن تُنتَهك.

إن لزوم الإيمان والتقوى، والاستقامة على الدين، وتعظيم جَناب الشريعة، والعمل بأحكامها - سببٌ للغيث والزرع والبركة؛ قال الله - تعالى -: ï´؟ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ï´¾ [الأعراف: 96]، وقال - سبحانه - في أهل الكتاب: ï´؟ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ï´¾ [المائدة: 66]، وقال - عز وجل - في أهل مكة: ï´؟ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ï´¾ [الجن: 16].

فكلُّ أولئك عُوقِبوا بالقحط والمحق والجوع والقِلَّة؛ لأنهم لم يستقيموا على دين الله - تعالى - واستهانوا بشرعه، وفرَّطوا في أمره ونهيه، ولم يخافوا عقوبته، فلنحذر أن نكون كما كانوا؛ فإن عذاب الله - تعالى - شديد؛ ï´؟ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ï´¾ [هود: 102].

وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-12-2019, 05:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العقوبات الربانية

العقوبات الربانية (4)


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




العقوبة بحاصب النار


الحمد لله القويِّ القهار، العزيزِ الجبار، لا يقفُ شيءٌ أمامَ قدرتِه، ولا ترُدُّ قوةٌ قدَرَه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، نحمدُه على ما خلَق وهَدى، ونشكرُه على ما أعطى وكفَى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، يُري عبادَه مِن آياتِه ما يذكِّرُهم به، ويخوِّفهم عذابَه؛ ï´؟ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ï´¾ [الإسراء: 59]. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اجتباه ربُّه واصطفاه، ومِن الخيرِ أعطاه، فأرسلَه للناسِ ï´؟ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 45، 46]، صلى الله وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدين.

أما بعدُ:
فيا أيها الناسُ، أُوصِي نفسي وإياكم بتقوى اللهِ - عز وجل - فإنه لا نجاةَ مِن عقوبات الدنيا وعذابِ الآخرة إلا برحمةِ الله - تعالى - بعباده، وعفوِه عنهم، وإحسانِه إليهم، وتوفيقِه إيَّاهم إلى ما يُرضيه، ومجانبةِ ما يُسخِطه، وكلُّ ذلك تَجمعُه التَّقوى، فكانت هي نجاةَ العبادِ أفرادًا وجماعاتٍ في الدنيا والآخرة؛ ï´؟ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ [الزمر: 61].

أيها الناسُ:
لِلَّهِ - تعالى - مع عبادِه عاداتٌ لا تتغيَّر، وسننٌ لا تتبدَّلُ، قد مَضتْ هذه السننُ في المتقدمين، وقصَّها الله - تعالى - في كتابِه للمعتبرين؛ ï´؟ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ï´¾ [آل عمران: 137]، وحين ناكفت قريشٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وكذَّبتْ دعوتَه، وعَذَّبتْ أتباعَه، حذَّرهم الله - تعالى - سننَه في السابقين؛ ï´؟ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ï´¾ [فاطر: 43].

إن القرآنَ مليءٌ بالتحذير مِن مسالِك أهل العصيان، وبيانِ عاقبتهم، وتفصيلِ ما أصابَهم من عقوباتِ الدنيا، وعذابُ الآخرةِ أشدُّ وأبقى، ويَكفي العبادَ تذكيرًا يؤدِّي إلى الخوف والهلع حين يقرأ آياتِ الله - تعالى - في المعذَّبين؛ ï´؟ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 4]، ï´؟ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ï´¾ [الأنبياء: 11]، ï´؟ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ï´¾ [محمد: 13]، ï´؟ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ï´¾ [الطلاق: 8].

أمِنوا كما نأمنُ، واستبعدوا العذابَ كما يستبعدُه كثيرٌ مِنا، وكان فيهم مَن ينشرون المنكراتِ في الناس، ويُجاهرون بعصيانِهم، ويحارِبون الناصحين منهم، ويزدادون عُتوًّا ونفورًا حتى أُهلكوا، وكلُّ ذلك واقعٌ في مجتمعات المسلمين اليومَ، ونجأرُ إلى الله - تعالى - ألاَّ يُهلِكَنا كما أَهلَك السابقين.

كان من أولئك المعذَّبين قومُ لوطٍ - عليه السلامُ - حكى الله - تعالى - قصتَهم في تسْعِ سورٍ من القرآنِ، ذكرَ الله - تعالى - فيها شِرْكَهم ومنكرَهمُ الذي أحدَثوه في البشَر: ï´؟ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ï´¾ [الأعراف: 80 - 81]، فوصفهم الله - تعالى - بالإسراف؛ لأنهم أسرفوا على أنفسهم بالشِّرك، وأسرفوا عليها بالفواحش، وأسرفوا بإعلانها وإظهارها على الملأ؛ ï´؟ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ï´¾ [العنكبوت: 29]، وأجرموا في حق البشرية حين سَنُّوا فيهمُ اكْتفاءَ الرجال بالرجال، والعزوفَ عن النساء؛ ï´؟ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ï´¾ [الشعراء: 165 - 166]، فوصفَهم ربُّنا - جل جلاله - بأنهم عادون؛ لأنهم تعدَّوا المشروعَ لهم إلى غير المشروع، وتركوا الحسَنَ وركِبوا القبيحَ، واستَبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ووصفَهم بالإجرام، جاء في قول الله - تعالى -: ï´؟ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ï´¾ [الأعراف: 84].

ولما سارتِ الملائكةُ إليهم بأمر الله - تعالى - ومَرُّوا بخليلِ الرحمن إبراهيمَ - عليه السلامُ - فأكرمَهم، سألهم عن وِجهتهم؛ ï´؟ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ï´¾ [الحجر: 58 - 60].

لقد توعَّدَهم الله - تعالى - بعذابٍ يَصبُّه فوق رؤوسهم، ويُنْزله عليهم من سمائهم؛ ï´؟ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ï´¾ [العنكبوت: 34]، فنالهم من العذاب أشدُّه، وأصابَهم من العقوبة أفظعُها وأنكاها؛ جزاءً لهم على كفرهم بالله - تعالى - وتكذيبِهم رسلَه، وتمرُّدِهم على شريعته، وانتكاسِ فطرتهم، وتلويثِ البشرية بأقبح الفواحش والمنكرات التي سَنُّوها فيهم.

انقلبوا على الفطرة السويَّة، فقلب الله - تعالى - ديارَهم عليهم، وجعل عاليَها سافلَها، وطهَّر الأرضَ مِن رجسهم وأوبئتهم بحجارة من نارٍ صُبَّتْ عليهم فأَحرقتْهم.

فيَا لِخَسارتِهم، ويا لِشدة ما حاقَ بهم من العذاب! حَكاه القرآنُ بأبلغ عبارة، وصوَّره بأوضح صورة، تنخلع قلوبُ من قرأ قصتَهم في القرآن فتدبرَها، يخشى أن يُصابَ بمثلِ مُصابهم.

صُبِّحوا بعذابهم، والناس يتفاءلون بصبْحِهم، وقومُ لوط كان صبحُهم شؤمًا عليهم، والصبحُ أجملُ وقتٍ عند الناس؛ لأنه منتهَى نومِهم، وتجديدُ نشاطِهم، وبدءُ أعمالهم، فانقلب أجملُ أوقاتِهم إلى أقبحِها، وتحوَّل أحسنُها إلى أسوئِها؛ ï´؟ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ï´¾ [هود: 81 - 82]؛ أي: حجارةً من نارٍ متتابعةً لم تتوقفْ، حتى شوَتْ أجسادهم ونساءَهم وأطفالهم، وطمَرتْ بطمْيِها ورمادِها وحممِها ديارَهم، فلم يبقَ فيها حيٌّ ولا عمرانٌ.

هَلكوا في الصبح عن بَكْرةِ أبيهم بوعْدٍ مِن الله - تعالى - لِلُوطٍ - عليه السلامُ -: ï´؟ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ï´¾ [الحجر: 66]، فأشرقتْ شمسُهم بصفرتِها وجمالها، يُزامِنُها صيحةُ العذاب متبوعةً بانقلابِ الديار، والإمطارِ بالحجارة والنار؛ ï´؟ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ï´¾ [الحجر: 73 - 75]؛ أي: آياتٍ للمعتبرين، للمتَّعظين، للمتذكِّرين؛ ليجانبوا أسباب العذاب، فلا يصيبَهم ما أصابَ السابقين؛ ï´؟ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ï´¾ [القمر: 38، 39].

ولا ينتفع بذِكرِ قصتهم إلا المؤمنون الذين قادَهم إيمانُهم إلى قراءة القرآن، وتدبُّرِه، والعملِ بما فيه، حين يقرأُ مَشاهدَ العذابِ الذي أصابهم، ويَنقل إليه أهلُ التاريخ والآثارِ خبرَ قُراهم التي ما عمرتْ بعدَهم، فغدَتْ أخبارُهم وآثارُهم آيةً للناس على مَرِّ الزمان؛ ï´؟ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾ [العنكبوت: 35].

وكان أهلُ مكة يمرُّون بقرى قومِ لوط في أسفارهم للشام، فذكَّرهم الله - تعالى - بما رأوا مِن آثارِ عذابِهم: ï´؟ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ï´¾ [الصافات: 137، 138].

هذا؛ وحاصبُ النار، وإمطارُ الحجارة على الرؤوسِ قد أدرك قومٌ مِن هذه الأمَّةِ قومًا عُذِّبوا به، ورَأوا ما أصابَهم، وكان ذلك قبيل بعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأرَّختِ العربُ بهذا الحدَثِ؛ لِعِظَمِه وأهميته، وكان ميلادُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في عامِه؛ إذ أجمع أهلُ السِّيَر على أنه - صلى الله عليه وسلم - وُلد عامَ الفيل؛ ï´؟ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ï´¾ [الفيل: 1 - 5].

وهدَّد الله - تعالى - عُصاةَ هذه الأمةِ بالحاصب في موضعين من القرآن الكريم؛ أوَّلهما في سورة الإسراء: ï´؟ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ï´¾ [الإسراء: 68]، والثاني في سورة الملك: ï´؟ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ï´¾ [الملك: 17].

ومن قرأ ختامَ قصةِ قوم لوط في سورة هودٍ، خافَ من العذاب بالحاصب؛ لأنَّ الله - تعالى - لَمْ يَخصَّ قومَ لوط بذلك؛ بل أوعد به مَن سار سيرتَهم في إشاعة الفواحش، وإعلان المنكرات، وبَقِيَ هذا التهديدُ ما بقي الزمانُ؛ ï´؟ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ï´¾ [هود: 83]، قال قتادة - رحمه الله تعالى -: يعني ظالمي هذه الأمَّة، والله ما أجار منها ظالِمًا بعدُ.

نسأل الله - تعالى - العفوَ والعافية والمعافاة الدائمةَ، في الدينِ والدنيا والآخرة، اللهم إنا نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ، لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنت كما أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ ï´؟ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [البقرة: 223].

أيها الناسُ:
البراكين نوعٌ من الحاصب، وهي جُنودٌ مِن جُنْدِ الله - تعالى - تَثور بأمْره - سبحانه - وتُهلِكُ به مَن شاء بقدَره - عز وجل - فالبراكينُ بأصوات انفجاراتها المرعبة تَخلعُ قلوبَ القريبين منها، وتقذفُ حممًا وصخورًا عظيمةً مِن نارٍ، وتغمر بطمْيِها قُرًى كاملةً، تسير فيها أوديةٌ مِن نارٍ تَلظَّى، لا تُبقي على حيٍّ إلا أهلكتْه، ولا على زرعٍ إلا أتلفتْه، ولا على شيء إلا أحرقتْه، وأبخرتُها وغازاتُها تَخنق مَن أصابتْه بأمر الله تعالى.

وأشهرُ بركانٍ في التاريخ اكتُشفتْ آثارُه هو بركانُ فيزوف، الذي طَمر مدينةَ بومباي الإيطالية وما حولَها قبلَ مئاتِ السنين، وكانت مشهورةً آنذاك بإشاعةِ الفواحش، والإعلان بالمنكرات، وعُرفوا بالشذوذ، فأصابَهم ما أصابَ قومَ لوطٍ، ولا يَظلم ربُّك أحدًا، واكتَشف أهلُ الآثار أُسَرًا كاملةً في أوضاعٍ مختلفةٍ استحالتْ إلى حجارةٍ بسبب هذا البركانِ المخيف.

وفي عصرنا بَلغت الفواحشُ مَداها، ونُقلتْ أخبارُها ومقدِّماتُها، وتنوَّع الإغراءُ إلى فعلِها والمفاخرةِ بها عبرَ الإعلام الفاسد، وبلغت الجَرأةُ بأهل الفواحش والشذوذ ذكورًا وإناثًا: أنهم يُسجلون مغامراتِهم في الزنا والسحاقِ وعمَلِ قومِ لوطٍ في قَصصٍ ورواياتٍ، فيكرَّمون بسببِها، ويُمنحون عليها الجوائزَ!

فواعجبًا مِن أمةٍ تقرأ في القرآن عاقبةَ قومِ لوطٍ، وقد ذيَّلها الله - تعالى - بقوله: ï´؟ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ï´¾ [هود: 83]، ثم يُشِيدون بمن يَنشُرون الفسوقَ والزنا والشذوذَ في الناس! فأين أهلُ العقولِ أين؟! ألا يخافون مِن وعيدِ الله - تعالى - للظالمين؟! ألا يخشَون أن يصيبَهم ما أصاب مَن كانوا قَبلهم؟!


وقد رأينا جنديًّا صغيرًا مِن جند الله - تعالى - تَحرَّك في أيسلندا، فشلَّ حركةَ الطيران في أوروبا، وأضرَّ باقتصادها واقتصاد المتعاملين معها، وأُلغيت آلافُ الرِّحْلاتِ الجويةِ لأجْل بخار البركان ودخانه فقط، فكيف لو سالتْ حممه في أرجاء أوروبا؟! وكيف لو قَذف حجارةً بحجم الجبالِ والبيوت والسيارات على رؤوسِ الناس؟! وقد وقعَ ذلك مِن قَبلُ.

دخانُ بركانٍ صغيرٍ شلَّ أوروبا، وقطع المسافرين إليها ومنها، وكبَّدها خسائرَ فادحةً، فأين مَن غرَّتْهم قوةُ الحضارة المعاصرة، فتعدَّوْا على جلال الله - تعالى - زاعمين أن القُوى العظمى تقف في وجه أيِّ كارثةٍ كونيةٍ؟! نعوذُ بالله - تعالى - مِن عبودية غيره، ومِن الجَرأة عليه، ومن الاستهانةِ بعذابه.

إنَّ البشرَ ضعافٌ مساكينُ مهما كانت قوتُهم وقدرتهم، وأيًّا كانت حضارتُهم وعمرانُهم؛ فهم لا يَستطيعون تعطيلَ أمرِ الله – تعالى - ولا دفْعَ عذابِه، ولا الهربَ منه، ولا يدْرون متى يُعذَّبون، ولا كيف يُؤخَذون، ولا ملجأَ لهم مِن الله - تعالى - إلا إليه؛ ï´؟ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ï´¾ [الطور: 7، 8]، ï´؟ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ï´¾ [المعارج: 1 - 3].

فيا أهلَ الإيمان، توبوا إلى الله ربِّكم قبل أن يَحِلَّ بكم ما حلَّ بالأمم قبلَكم، وخُذوا العبرةَ مما وقع لغيركم، ولا تغترُّوا بما أنتم فيه مِن نعمة وأمْنٍ ورغَدِ عيشٍ؛ فإن الله - تعالى - غالبٌ على أمره، وعذابه قد يَبغت عبادَه؛ ï´؟ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ï´¾ [العنكبوت: 53، 54].

وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07-12-2019, 05:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العقوبات الربانية

العقوبات الربانية (5)











(العقوبة بغرق الأرض)


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



الحمد لله العليم القدير؛ عَلِم ضعف خلقه فرحمهم، وقَدَرَ عليهم فأمهلهم ولم يعذبهم، ولو عذبهم لما ظلمهم ï´؟ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ï´¾ [فصِّلت:46] نحمده ونشكره كما ينبغي له أن يحمد ويشكر؛ فهو الغني عن عباده، القادر على خلقه ï´؟ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ï´¾ [الرُّوم:25] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تعلقت به قلوب المخبتين، فأذعنت لكبريائه، وذلت له في عليائه، وسعت في مرضاته، واستغنت به عن غيره؛ فلم تذل لمخلوق وإن علت منزلته، ولم ترهبه مهما بلغت قوته؛ فهي قلوب مستكفية بالله تعالى، مستقوية به عز وجل، متوكلة عليه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حذر أمته العذاب، وبين لهم طرق النجاة، وبلغ البلاغ المبين، فكان الناصح الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتسلحوا بالإيمان والعمل الصالح؛ فإن الأرض تموج بالفتن والمحن، وإن المفاصلة بين أهل الحق وأهل الباطل تتصاعد، وإن أمامكم فتنة القبر، وفزع الحشر، وشدة الحساب، ومجاوزة الصراط، ولا ثبات في كل ذلك إلا بالله تعالى ï´؟ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُï´¾ [إبراهيم:27].

أيها الناس: حين يكثر الفساد، ويؤذى أهل الخير والصلاح؛ فإن الخوف من العذاب هجيرا أهل البصائر.

وإرجاع الكوارث الكونية إلى ذنوب البشرية هو طريقة أهل العلم والمعرفة؛ لعلمهم وإيمانهم بسنة الله تعالى المذكورة في كتابه الكريم ï´؟ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم ï´¾ [الشُّورى:30]. وأما أهل العمى والضلالة فيُرجعون ذلك لأسباب أرضية، وينفون القدرة الربانية، ويأمنون العذاب وهو قريب منهم، كما قال الأولون ï´؟ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ï´¾ [الأحقاف:24].

إن ما يقع في الأرض من كساد الاقتصاد، وغلاء الأسعار، وفساد الذمم، وتسليط الناس بعضهم على بعض بالظلم والبغي والأثرة، وما يصيبهم من غور المياه إلى حد الجفاف، أو صب السماء إلى حد الإغراق، وما يأتي عليهم من فيضان الأرض، ومد البحر، والزلزلة والخسف..كل ذلك لم يكن إلا بظلم العباد لأنفسهم بمعصية الله تعالى، وانتشار الظلم فيما بينهم، وعدم إنصاف المظلوم أو الانتصار له. وكلما كثر العصيان، وعظم الظلم، وتم تشريعه وتوسيعه وتقنينه تفاقمت المشكلات، وتتابعت العقوبات، وحلت المثلات. والعذاب إذا نزل قد يعم ولا يخص.

والغرق عذاب قد أصاب الله تعالى به قوم نوح عليه السلام، وقص الله تعالى علينا خبرهم في عدد من السور للعبرة بهم؛ فإن الغرض الأساس من قصص القرآن الاعتبار بما حل بالسابقين، ومجانبة طرقهم؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم.

ومن قرأ الوصف القرآني لإغراق قوم نوح وله قلب حي هاله خبرهم، وخاف مصيرهم، وحذر فعلهم، وجانب طريقهم..

لقد جاءهم أمر الله تعالى، وحق عليهم عذابه، وعلامته فوران التنور، وقد أمر نوح عند ظهور هذه العلامة أن ينجو بالمؤمنين في السفينة ï´؟ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ï´¾ [هود:40-42] تخيلوا -عباد الله- أمواج المياه أمثال الجبال لتتصوروا هول ذلك.. انظروا إلى أعلى بناء في المدينة وأمواج المياه تناطحه وتساويه وتغطيه، والناس ببيوتهم ومراكبهم ومتاعهم أسفله.. يا له من مشهد مخيف!

إننا رأينا سيولا ما بلغت أمواجها أمثال الجبال ولا أمثال الهضاب ولا التلال، ولكنها ارتفعت عن الأرض قليلا، وتدفقت بسرعة تشق طريقها فهدمت الجدران، وقطعت السبل، وحملت السيارات، وأغرقت جمعا من البشر، وجرفت ما أمامها فلم يقف في طريقها شيء، فكيف بمياه بلغت في كثافتها بحيث تحاذي أمواجها قمم الجبال؟!


إننا بعد آلاف السنين من حادثة غرق قوم نوح، لنحبس أنفاسنا -ونحن نقرأها في القرآن ونتابع السياق- والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد. ï´؟ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ï´¾، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء. وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة، وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب! وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية -بين الوالد والمولود- كما يقاس بمداه في الطبيعة، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان، وإنهما لمتكافئان.

وفي موضع آخر من القرآن تفصيل راعب لما حل بهم ï´؟ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ï´¾ [القمر:11-14].

إنه لوصف وجيز في أعلى مراقي البلاغة والتأثير، ما أفظع هذا المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق السماء انهمارا، وأرض تنفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارا، ماء ثجاج يصير بحرا ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها، والماء يتقاذف سفينة نوح، كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك التنزيل، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه به الذكر الحكيم، بأوجز عبارة وأبلغها تأثيرا، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئا مذكورا. إنها قدرة القدير سبحانه على الظالمين، وعدله في معاقبة المكذبين، ومظهر من مظاهر بطشه بالمجرمين.

وحكمة هذه المبالغات في عقاب الظالمين والمجرمين من الغابرين، إنما هي إنذار أمثالهم من الحاضرين، فلا عجب أن يختم هذا المشهد الرهيب الراعب بقوله سبحانه ï´؟ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ï´¾ [القمر:15-17] آية لنا لنخاف المعاصي، وآية لكل ظالم لئلا تكون نهايته نهايتهم، وترى الظالمين في كل زمان غافلين.

أصابهم العذاب بدعوة نوح عليهم، وأغرقت الأرض كلها بدعوة ولي من أولياء الله تعالى، فليخف الظالمون دعاء الصالحين؛ فإن من عادى لله وليا فقد آذنه بالمحاربة.

دعا نوح فاستجيب له، وكان من دعائه عليه السلام ï´؟ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ï´¾ [الشعراء:118] ï´؟ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ï´¾ [القمر:10].

طلب من الله تعالى استئصالهم فاستئصلت أمة كاملة بدعوة رجل واحد، ألا يخاف الظالمون؟ ألا يرعوي العاصون؟ ألا يوجل الناس أجمعون؟ ï´؟ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ï´¾ [نوح:26-27].

أغرقوا كلهم ولم ينج إلا القليل ممن آمنوا وركبوا السفينة ï´؟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ البَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾ [الشعراء:119-121].

استنصر نوح عليه السلام ربه سبحانه وتعالى فنصره على قومه ï´؟ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ï´¾ [الأنبياء:76-77].

ومن انتصر بالله تعالى فمن ذا الذي يهزمه؟! ومن حفظه الله تعالى فمن يضره؟ ومن خذله الله تعالى فمن ينصره؟


هلك قوم نوح في الدنيا وهم الأكثر والأقوى فلم ينتصروا، ولن ينجوا يوم القيامة ï´؟ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا ï´¾ [نوح:25] وسبب هلاكهم عماهم عن الهدى، ورفضهم للحق.. وكم في بلاد المسلمين من عُمْيٍّ عن الهدى، محاربين للحق، ناشرين للباطل، مشيعين للفواحش، يرفضون دين الله تعالى وشريعته من أجل قيم الغرب البائرة، وأخلاقه الضائعة، ومبادئه الكاسدة الفاسدة، وقد ذيل الله تعالى قصة هلاك قوم نوح بقوله عز وجل ï´؟ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ï´¾ [الأعراف:64] وفي مقام آخر ذيلها بقوله سبحانه ï´؟ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ ï´¾ [يونس:73].

وفي بلاد المسلمين اليوم من يُنذرون بالآيات، ويوعظون بالقرآن، ويذكرون بمصائر الأمم المكذبة فلا يتعظون ولا هم يذكرون، وفي غيهم يعمهون، وفي فسادهم يترددون؛ فا للهم يا ربنا خصهم بعذابك، ولا تجعله عاما على عبادك.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ï´¾ [البقرة:123].

أيها المسلمون: حين ينزل الله تعالى مطرا متتابعا، فيتحول إلى سيل جارف يضر الناس والممتلكات فيجب أن لا يعزب عن البال تذكر الطوفان العظيم الذي أغرق به قوم نوح؛ فإن الله تعالى قادر على أن يغرق غيرهم بمثل ما أغرقهم به، ولا سيما أن تذكر ذلك مأمور به؛ فإن الله تعالى قد ذيل قصة هذا الغرق العظيم في سورة الشعراء بقوله سبحانه ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾ [الشعراء:121] وقال تعالى في سورة الفرقان ï´؟ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً ï´¾ [الفرقان:37] وقال عز وجل في سورة العنكبوت ï´؟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَï´¾ [العنكبوت:15].

وبين سبحانه أن سبب هلاكهم بهذا الطوفان الكبير هو ظلمهم، حين رفضوا دعوة نوح، وتنكروا لشريعة الله تعالى، وآذوا أولياءه المؤمنين، وعباده الصالحين؛ ففي سورة هود قال الله تعالى لنوح لما أراد إغراقهم ï´؟ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ï´¾ [هود:37] فلن يقبل الله تعالى شفاعة نوح فيهم حين حقت عليهم كلمة العذاب؛ ولذا لم يقبل شفاعته في ابنه، وختم قصة غرقهم بقوله تعالى ï´؟ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ï´¾ [هود:44] وفي سورة الفرقان ختم ذكر غرقهم بقوله تعالى ï´؟ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ï´¾ [الفرقان:37] وفي العنكبوت ï´؟ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ï´¾ [العنكبوت:14] وفي الذاريات ï´؟ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِي ï´¾ [الذاريات:46] وفي النجم ï´؟ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ï´¾ [النَّجم:52].

كل هذه الآيات وأمثالها في قصة غرق قوم نوح عليه السلام لتدل على فداحة الظلم والفسق والطغيان عند الله تعالى، وأنه سبحانه قص علينا خبر الطوفان لنأخذ العبرة منه، وعلل سبحانه إغراقهم به بظلمهم، ورفضهم شرائع الله تعالى وأحكامه، وتكذيبهم للرسل، فحذار من ذلك كله؛ فإن الله تعالى يغار، وغيرته أن تنتهك حرماته، ويجاهر بعصيانه، وتعطل شريعته، وترفض أحكامه، ويؤذى أولياؤه.. والغرق القليل إذا لم يتعظ به العباد قد يتحول إلى طوفان عظيم، أو عذاب كبير، والله تعالى قال ï´؟ وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ï´¾ [الإسراء:59] فخافوا عقوبة الله تعالى قبل أن تقع، فإنها إن حقت لم يدفعها شيء ï´؟ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ï´¾ [المؤمنون:27] ï´؟ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ï´¾ [الطُّور:7-8].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-12-2019, 05:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العقوبات الربانية

العقوبات الربانية (5)











(العقوبة بغرق الأرض)


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



الحمد لله العليم القدير؛ عَلِم ضعف خلقه فرحمهم، وقَدَرَ عليهم فأمهلهم ولم يعذبهم، ولو عذبهم لما ظلمهم ï´؟ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ï´¾ [فصِّلت:46] نحمده ونشكره كما ينبغي له أن يحمد ويشكر؛ فهو الغني عن عباده، القادر على خلقه ï´؟ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ï´¾ [الرُّوم:25] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تعلقت به قلوب المخبتين، فأذعنت لكبريائه، وذلت له في عليائه، وسعت في مرضاته، واستغنت به عن غيره؛ فلم تذل لمخلوق وإن علت منزلته، ولم ترهبه مهما بلغت قوته؛ فهي قلوب مستكفية بالله تعالى، مستقوية به عز وجل، متوكلة عليه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حذر أمته العذاب، وبين لهم طرق النجاة، وبلغ البلاغ المبين، فكان الناصح الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتسلحوا بالإيمان والعمل الصالح؛ فإن الأرض تموج بالفتن والمحن، وإن المفاصلة بين أهل الحق وأهل الباطل تتصاعد، وإن أمامكم فتنة القبر، وفزع الحشر، وشدة الحساب، ومجاوزة الصراط، ولا ثبات في كل ذلك إلا بالله تعالى ï´؟ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُï´¾ [إبراهيم:27].

أيها الناس: حين يكثر الفساد، ويؤذى أهل الخير والصلاح؛ فإن الخوف من العذاب هجيرا أهل البصائر.

وإرجاع الكوارث الكونية إلى ذنوب البشرية هو طريقة أهل العلم والمعرفة؛ لعلمهم وإيمانهم بسنة الله تعالى المذكورة في كتابه الكريم ï´؟ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم ï´¾ [الشُّورى:30]. وأما أهل العمى والضلالة فيُرجعون ذلك لأسباب أرضية، وينفون القدرة الربانية، ويأمنون العذاب وهو قريب منهم، كما قال الأولون ï´؟ هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ï´¾ [الأحقاف:24].

إن ما يقع في الأرض من كساد الاقتصاد، وغلاء الأسعار، وفساد الذمم، وتسليط الناس بعضهم على بعض بالظلم والبغي والأثرة، وما يصيبهم من غور المياه إلى حد الجفاف، أو صب السماء إلى حد الإغراق، وما يأتي عليهم من فيضان الأرض، ومد البحر، والزلزلة والخسف..كل ذلك لم يكن إلا بظلم العباد لأنفسهم بمعصية الله تعالى، وانتشار الظلم فيما بينهم، وعدم إنصاف المظلوم أو الانتصار له. وكلما كثر العصيان، وعظم الظلم، وتم تشريعه وتوسيعه وتقنينه تفاقمت المشكلات، وتتابعت العقوبات، وحلت المثلات. والعذاب إذا نزل قد يعم ولا يخص.

والغرق عذاب قد أصاب الله تعالى به قوم نوح عليه السلام، وقص الله تعالى علينا خبرهم في عدد من السور للعبرة بهم؛ فإن الغرض الأساس من قصص القرآن الاعتبار بما حل بالسابقين، ومجانبة طرقهم؛ لئلا يصيبنا ما أصابهم.

ومن قرأ الوصف القرآني لإغراق قوم نوح وله قلب حي هاله خبرهم، وخاف مصيرهم، وحذر فعلهم، وجانب طريقهم..

لقد جاءهم أمر الله تعالى، وحق عليهم عذابه، وعلامته فوران التنور، وقد أمر نوح عند ظهور هذه العلامة أن ينجو بالمؤمنين في السفينة ï´؟ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ï´¾ [هود:40-42] تخيلوا -عباد الله- أمواج المياه أمثال الجبال لتتصوروا هول ذلك.. انظروا إلى أعلى بناء في المدينة وأمواج المياه تناطحه وتساويه وتغطيه، والناس ببيوتهم ومراكبهم ومتاعهم أسفله.. يا له من مشهد مخيف!

إننا رأينا سيولا ما بلغت أمواجها أمثال الجبال ولا أمثال الهضاب ولا التلال، ولكنها ارتفعت عن الأرض قليلا، وتدفقت بسرعة تشق طريقها فهدمت الجدران، وقطعت السبل، وحملت السيارات، وأغرقت جمعا من البشر، وجرفت ما أمامها فلم يقف في طريقها شيء، فكيف بمياه بلغت في كثافتها بحيث تحاذي أمواجها قمم الجبال؟!


إننا بعد آلاف السنين من حادثة غرق قوم نوح، لنحبس أنفاسنا -ونحن نقرأها في القرآن ونتابع السياق- والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد. ï´؟ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ ï´¾، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء. وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة، وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب! وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية -بين الوالد والمولود- كما يقاس بمداه في الطبيعة، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان، وإنهما لمتكافئان.

وفي موضع آخر من القرآن تفصيل راعب لما حل بهم ï´؟ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ï´¾ [القمر:11-14].

إنه لوصف وجيز في أعلى مراقي البلاغة والتأثير، ما أفظع هذا المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق السماء انهمارا، وأرض تنفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارا، ماء ثجاج يصير بحرا ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها، والماء يتقاذف سفينة نوح، كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك التنزيل، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه به الذكر الحكيم، بأوجز عبارة وأبلغها تأثيرا، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئا مذكورا. إنها قدرة القدير سبحانه على الظالمين، وعدله في معاقبة المكذبين، ومظهر من مظاهر بطشه بالمجرمين.

وحكمة هذه المبالغات في عقاب الظالمين والمجرمين من الغابرين، إنما هي إنذار أمثالهم من الحاضرين، فلا عجب أن يختم هذا المشهد الرهيب الراعب بقوله سبحانه ï´؟ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ï´¾ [القمر:15-17] آية لنا لنخاف المعاصي، وآية لكل ظالم لئلا تكون نهايته نهايتهم، وترى الظالمين في كل زمان غافلين.

أصابهم العذاب بدعوة نوح عليهم، وأغرقت الأرض كلها بدعوة ولي من أولياء الله تعالى، فليخف الظالمون دعاء الصالحين؛ فإن من عادى لله وليا فقد آذنه بالمحاربة.

دعا نوح فاستجيب له، وكان من دعائه عليه السلام ï´؟ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ï´¾ [الشعراء:118] ï´؟ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ï´¾ [القمر:10].

طلب من الله تعالى استئصالهم فاستئصلت أمة كاملة بدعوة رجل واحد، ألا يخاف الظالمون؟ ألا يرعوي العاصون؟ ألا يوجل الناس أجمعون؟ ï´؟ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ï´¾ [نوح:26-27].

أغرقوا كلهم ولم ينج إلا القليل ممن آمنوا وركبوا السفينة ï´؟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ البَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾ [الشعراء:119-121].

استنصر نوح عليه السلام ربه سبحانه وتعالى فنصره على قومه ï´؟ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ï´¾ [الأنبياء:76-77].

ومن انتصر بالله تعالى فمن ذا الذي يهزمه؟! ومن حفظه الله تعالى فمن يضره؟ ومن خذله الله تعالى فمن ينصره؟


هلك قوم نوح في الدنيا وهم الأكثر والأقوى فلم ينتصروا، ولن ينجوا يوم القيامة ï´؟ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا ï´¾ [نوح:25] وسبب هلاكهم عماهم عن الهدى، ورفضهم للحق.. وكم في بلاد المسلمين من عُمْيٍّ عن الهدى، محاربين للحق، ناشرين للباطل، مشيعين للفواحش، يرفضون دين الله تعالى وشريعته من أجل قيم الغرب البائرة، وأخلاقه الضائعة، ومبادئه الكاسدة الفاسدة، وقد ذيل الله تعالى قصة هلاك قوم نوح بقوله عز وجل ï´؟ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ï´¾ [الأعراف:64] وفي مقام آخر ذيلها بقوله سبحانه ï´؟ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ ï´¾ [يونس:73].

وفي بلاد المسلمين اليوم من يُنذرون بالآيات، ويوعظون بالقرآن، ويذكرون بمصائر الأمم المكذبة فلا يتعظون ولا هم يذكرون، وفي غيهم يعمهون، وفي فسادهم يترددون؛ فا للهم يا ربنا خصهم بعذابك، ولا تجعله عاما على عبادك.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ï´¾ [البقرة:123].

أيها المسلمون: حين ينزل الله تعالى مطرا متتابعا، فيتحول إلى سيل جارف يضر الناس والممتلكات فيجب أن لا يعزب عن البال تذكر الطوفان العظيم الذي أغرق به قوم نوح؛ فإن الله تعالى قادر على أن يغرق غيرهم بمثل ما أغرقهم به، ولا سيما أن تذكر ذلك مأمور به؛ فإن الله تعالى قد ذيل قصة هذا الغرق العظيم في سورة الشعراء بقوله سبحانه ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾ [الشعراء:121] وقال تعالى في سورة الفرقان ï´؟ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً ï´¾ [الفرقان:37] وقال عز وجل في سورة العنكبوت ï´؟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَï´¾ [العنكبوت:15].

وبين سبحانه أن سبب هلاكهم بهذا الطوفان الكبير هو ظلمهم، حين رفضوا دعوة نوح، وتنكروا لشريعة الله تعالى، وآذوا أولياءه المؤمنين، وعباده الصالحين؛ ففي سورة هود قال الله تعالى لنوح لما أراد إغراقهم ï´؟ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ï´¾ [هود:37] فلن يقبل الله تعالى شفاعة نوح فيهم حين حقت عليهم كلمة العذاب؛ ولذا لم يقبل شفاعته في ابنه، وختم قصة غرقهم بقوله تعالى ï´؟ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ï´¾ [هود:44] وفي سورة الفرقان ختم ذكر غرقهم بقوله تعالى ï´؟ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ï´¾ [الفرقان:37] وفي العنكبوت ï´؟ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ï´¾ [العنكبوت:14] وفي الذاريات ï´؟ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِي ï´¾ [الذاريات:46] وفي النجم ï´؟ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ï´¾ [النَّجم:52].

كل هذه الآيات وأمثالها في قصة غرق قوم نوح عليه السلام لتدل على فداحة الظلم والفسق والطغيان عند الله تعالى، وأنه سبحانه قص علينا خبر الطوفان لنأخذ العبرة منه، وعلل سبحانه إغراقهم به بظلمهم، ورفضهم شرائع الله تعالى وأحكامه، وتكذيبهم للرسل، فحذار من ذلك كله؛ فإن الله تعالى يغار، وغيرته أن تنتهك حرماته، ويجاهر بعصيانه، وتعطل شريعته، وترفض أحكامه، ويؤذى أولياؤه.. والغرق القليل إذا لم يتعظ به العباد قد يتحول إلى طوفان عظيم، أو عذاب كبير، والله تعالى قال ï´؟ وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ï´¾ [الإسراء:59] فخافوا عقوبة الله تعالى قبل أن تقع، فإنها إن حقت لم يدفعها شيء ï´؟ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ï´¾ [المؤمنون:27] ï´؟ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ï´¾ [الطُّور:7-8].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 160.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 156.80 كيلو بايت... تم توفير 4.09 كيلو بايت...بمعدل (2.54%)]