|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
تفسير سورة التوبة (الحلقة الخامسة عشرة - الأخيرة) بالقرآن يتميز الصادق عن المنافق
تفسير سورة التوبة (الحلقة الخامسة عشرة - الأخيرة) بالقرآن يتميز الصادق عن المنافق الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 123 - 129]. كان آخر ما نزل في الجهاد تبيانًا لعقيدته وفضله في سورة التوبة، أثناء موسم الحج من السنة التاسعة للهجرة، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111]، وذلك بعد أن كشفت السورة نفسها أحوال المسلمين وسرائرهم وخفايا قلوبهم ودرجات إيمانهم، ووصفت أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكريةبكل دقة ووضوح، وآخر ما خاطب الله به عباده في الجهاد تحريضًا عليه وتبيانًا لحركيته واستراتيجيته، ورسمًا لخط سيره، هو قوله عز وجل بعدها في سورة التوبة نفسها: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123]، وكانت الآيتان معًا خطة جهادية واحدة متكاملة، ووصية من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن يأتي بعده من المسلمين، يسيرون على هديهما، ويسيحون في الأرض على سننهما، دفاعًا عن دينهم، وحفاظًا على أمن أمتهم ودولتهم، ثم بعد سورة التوبة نزلت سورة المائدة جملة واحدة[1] إكمالًا للشرائع، في موسم حج السنة العاشرة للهجرة، ولم ينزل فيها عن الجهاد إلا توجيه عام واحد فقط بقوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 35]، ثم ختم الوحي بآخر آية من سورة النصر بقوله تعالى: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]، ولم يعمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا واحدًا وثمانين يومًا، أو اثنين وثمانين يومًا، ولم يحصل في الشريعة زيادة ولا نسخ ولا تبديل، وبقي الأمر الإلهي بالجهاد القتالي ثابتًا محكمًا بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾، ولا شك أن الخطاب في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ موجَّه للمؤمنين في عصر النبوة مباشرة، ثم بالتبعية لكل المؤمنين في كل عصر وقطر، إذا هدد العدو دينهم وأرضهم وأموالهم وأعراضهم، ويجعل الأولوية لدفع الخطر الداهم المباشر قبل غيره بقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّار ﴾، والفعل ﴿ يَلُونَكُمْ ﴾ من الوَلْي وهو القُرْبُ والدُّنُوُّ، فيقال:وَلِيَ الشيءَ يَلِيهِ إِذا قرب مِنْه، ويقال: "داري وَلْيُ دَارك"؛ أَي: لصيقة بدارك، ويقال للبرذعة: الوَلِيَّةُ والجمع ولايا؛ لأنها تلي ظهر الحمار أو البعير، وللكساء الذي بين البرذعة والظهر أيضًا: "الولية"، وقد نُهِيَ عن افتراشها؛ لما قد يعلق بها من أوساخ وأشواك، بما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قول: «لا تفترشوا الولايا التي تلي ظهور الدواب»[2]. وقوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّار ﴾؛ أي: قاتلوا أشد الكفار مجاورة لكم وخطرًا عليكم، وهم حينئذٍ الروم البيزنطيون في القسطنطينة الذين يحتلون الشام وفلسطين، أشد المناطق لصوقًا بالحجاز ومهبط الوحي، ويطاردون فيهما ويقتلون كل من أسلم أو هَمَّ بالإسلام، وبلغ بهم الحقد الصليبي أن قتلوا وصلبوا واليهم على فلسطين ومعان، فروة بن عمرو الجذامي رضي الله عنه إذ أسلم، ثم أخذوا يحرضون أهل الكتاب في الجزيرة العربية والمنافقين في المدينة وما حولها على التآمر والخيانة، ويعدون لغزو دار الإسلام وتصفية الدعوة النبوية ورسولها صلى الله عليه وسلم، فكان لا بد أن يواجهوا برجال أشداء وقتال مكافئ متغلب، يكف أذاهم ويوقف زحفهم؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد؛ ولذلك أردف الحق تعالى أمر القتال بقوله عز وجل: ﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾؛ أي: خشونة في المواجهة وصلابة وشدة وصبرًا عند اللقاء ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ بالنصر والتمكين، ولئن اختلف المفسرون في أي الجهات أولى بالقتال عملًا بهذه الآية الكريمة، فقيل: هم اليهود بالمدينة وحولها، وقيل: الديلم والفرس في العراق، وقيل: الروم، وقيل: كفار العرب ومن بقي في الجزيرة من الوثنيين، وقال ابن عباس: "مثل قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها"، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بادر بالحسم في الأمر بتوجيه من ربه، فأمر عقب حجة الوداع مباشرة في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة بتجهيز جيش قوي، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم[3] في اتجاه القسطنطينية شمالًا، وهما حينئذٍ تحت حكم البيزنطيين، يقوده أشَبُّ صحابته، وأحد قادة سراياه الممرسين، وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم، وأقواهم شكيمة وصدق إيمان، وقدرة قتالية يشهد له بها القريب والبعيد، هو أبو محمد أسامة بن زيد بن حارثة، أحرص الصحابة على النيل من الروم لقتلهم من قبل أباه زيد بن حارثة الكلبي، قائد جيش المسلمين في مؤتة، وفي الوقت نفسه أخذ صلى الله عليه وسلم يرفع همم أصحابه، ويبشرهم بالأهداف القصوى البعيدة لهذا الأمر الإلهي بالقتال، ويحرضهم على الجهاد تصريحًا وتلميحًا؛ كما في الحديث الذي صححه الألباني عن أبي قبيل [4]؛ إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي المدينتين تفتح أولًا أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مدينة هرقل تفتح أولًا». يعني قسطنطينية[5]. وما روى أبو داود عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُم الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»[6]. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا أذلَّهم الله»، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: وما غزي قوم في دارهم إلا ذلوا. وواصل المسلمون السعي نحو هذا الهدف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حققه السلطان مُحمَّد الثاني بن مُراد العُثماني رحمه الله، بفتحه القسطنطينية يوم الثلاثاء 21 جمادى الأولى سنة 857 هـ (05/04/ 1453). ولأن البيزنطيين حينئذٍ كانوا أقوى أمم الأرض، وأشدها مراسًا على الحرب، وحديثي عهد بانتصار فيها على الإمبراطورية الفارسية، حث الحق سبحانه على أخذ أمره بجدية وحزم، ومواجهة الروم بشدة وخشونة وإظهار للقوة أثناء المواجهة، ترهيبًا لهم وإضعافًا لمعنوياتهم، فقال: ﴿ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾؛ أي: شدة وخشونة وعنفًا قتاليًّا عاليًا؛ ولذلك جنَّد صلى الله عليه وسلم مع أسامة وتحت إمرته كبار الصحابة ودهاتهم، يمدونه بالرأي ويمدهم بالقوة والمضاء، ووعدهم الله جميعًا بالمعية والتوفيق والنصر، فقال عز وجل: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين ﴾؛ أي: الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان، وحياتهم بصالح الأعمال، واتسم جهادهم بالصدق والصبر، يبارك جهادهم، ويقبل أعمالهم، ويتولى أهلهم وذريتهم في حالي الغياب للغزو أو الاستشهاد في سبيله. ثم عقب عز وجل مقارنًا بين حال المتقين وحال المنافقين عندما يتلقون آيات القرآن عقيدةً ومشاعر وأمرًا بالجهاد فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ من القرآن أو آية من سورة ﴿ فَمِنْهُمْ ﴾ فمن الأتقياء الذين يسمعونها ويتدبرونها، ويعتقدون أن الإيمان يزيد وينقص فيزداد إيمانهم ويقبلون على العمل بها، ثم يسعون بين الناس حثًّا على فهم ما نزل وتدبره ويسائلونهم حوله ﴿ مَنْ يَقُولُ ﴾ لعامة من يلقاه من المسلمين تحريضًا لهم على تدبرها والتفكر فيها والتأثر بها ﴿ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ﴾هل فيكم من تدبرها وفهمها، واتضح بها تصوره الإيماني، وازداد بها يقينه، واستعد للعمل بها؟ إنه بالسورة الواحدة أو الآية الواحدة من القرآن الكريم، يتميز الصف المؤمن في المجتمع المسلم عن الصف المنافق ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ حقًّا بأن الله ربهم وخالقهم ومدبر أمرهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم للحساب والجزاء ﴿ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ زادهم ما نزل من القرآن يقينًا واطمئنانًا لما هدوا إليه، فأطاعوه وعملوا به﴿ وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ يفرحون بما نزل في قلوبهم من سكينة الإيمان وازدياده وقوته، وبما رسخ في أفئدتهم من ثقة بالرحمن وشوق لتحقيق وعده، وبما بشرهم به من قبول الأعمال ومضاعفة الأجر في الجنة، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم ﴾؛ ذلك لأنهم أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا النوايا، وأحسنوا العمل، والإيمان الحقيزداد بتلاوة كتاب الله وسماعه وفهمه ومفاتشته والعمل به، ومعرفة آلاء الله وآياته في الكون، وفضله ونعمائه على عباده ظاهرة وباطنة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]، وقال عز وجل: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات: 20 - 23]، كما يزداد ويقوى بالطاعات، كلما كثرت وتنوَّعت، والمعاصي كلما نقصت وتقلَّصت، والمؤمن إذا أراد الله به خيرًا قضى حياته بين طاعات يواظب عليها، ويبحث عن غيرها للعمل بها، فيزداد إيمانه ويقوى يقينه، وبين معاصٍ يجتنبها أو يتوب منها فيزداد إيمانه ويستنير قلبه، وعليه دائمًا أن يحذر أسبابَ النقص، ويجتهد في أسباب الزيادة، فإن فعل رقَّاه الله ورفعه في درجات الإيمان حتى إذا استقام على الطريق كلفه بغيره، أهلًا وولدًا وبالناس أجمعين؛ لذلك كان عمر رضي الله عنه يأخذُ بيد الرَّجُلِ والرجلين من أصحابه فيقولُ: "تعالوا نزدد إيمانًا"، وكان عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه يقول: "إنَّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظمًا ازداد ذلك البياضُ حتَّى يبيضَّ القلب كله، وايْمُ الله لو شققتم عن قلبِ المؤمنِ لوجدتموه أبيضَ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود". ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ شك أو نفاق أو غدر أو خداع أو بغض للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ﴿ فَزَادَتْهُمْ ﴾ السورة أو الآية ﴿ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ خبثًا بالكفر إلى خبثهم الأصلي الذي في طويتهم ونفسيتهم ﴿ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ ماتوا خارج ملة الإسلام، وهم بحالهم هذا كما وصفهم الله تعالى من قبل بقوله عز وجل: ﴿ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ﴾ [محمد: 20، 21]. إن من أخص خصائص الكائن الحي إنسانًا وحيوانًا أنه يتعلم بالتجربة ويتعظ بها، ولكن المنافقين افتقدوا هذه الخاصية في الطبع الحيواني ولدى كل امرئ سوي؛ لغلبة الأهواء والمصالح الوهمية على أفئدتهم وعقولهم، فلم يستفيدوا حتى من مجرد ما مر بهم من تجارب عاشوها أو رأوها أو سمعوا بها، أو من مكر مكروه، فكشفه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو نزل بكشفه جبريل عليه السلام؛ كما في محاولة بعضهم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في عقبة تبوك، ففشلوا وانفضح أمرهم، وأصبحوا خاسئين، أو محاولة آخرين منهم بناء مسجد للضرار، فانهدم وتحول إلى مزبلة، وذهب من أمر به ودبر له، أبو عامر الفاسق إلى القسطنطينية لاستجلاب جيش صليبي يهدم دولة الإسلام الناشئة، فنفق منبوذًا مشردًا في مجاهل الشام قبل أن يصل؛ لذلك قال تعالى مستنكرًا غباءهم وإصرارهم على النفاق وعدم استفادتهم مما تجرعوه من الفشل والإحباطـ، ولذلك قال تعالى: ﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ ﴾؛ أي المنافقون، بحرف الياء في ﴿ يَرَوْنَ ﴾ وهي قراءة جمهور القراء، بمعنى: "أولا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يفتنون.."، خلافًا لقراءة حمزة بالتاء بمعنى: "أولا ترون" أيها المؤمنون أن هؤلاء المنافقين يفتنون، وفي القراءتين معنى واحد مجمل في عتاب ولوم للمنافقين لما أهملوه من إصلاح أنفسهم وترقية مداركهم، وعبر تعالى استفزازًا لعقولهم بالسؤال: ﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ ﴾؛ أي: المنافقون، من الرؤية التي هي المعرفة بالقلب أو العقل أو بهما؛ أي: ألا يتفكرون ويتدبرون سلوكهم وما ابتلوا به في علاقاتهم مع الله ومع الناس، فيلاحظون ﴿ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ﴾ أنهم يبتلون بهذه الفضائح والخزايا في كل عام مرة أو مرتين ﴿ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ ومع ذلك لا يستفيدون مما وقع لهم أو أصابهم ولا يتوبون عن سيئ نواياهم وأعمالهم، ودنيء مكرهم وخياناتهم، ولا يتذكرون تجارب فشلهم فيستفيدون منها بتطهير قلوبهم من النفاق والتوبة عن سيئ النوايا والأقوال والأفعال والأخلاق. لقد توالى في سورة التوبة كشف ما يمكره المنافقون بالمؤمنين وما ينوونه أو يسرونه أو يتناجون به في مجالسهم الخاصة، وما يبيتونه من غدر أو خيانة وتآمر، وهذه الآية مع التي قبلها والتي بعدها كانت آخر وأشد ما نزل فيهم، فأصيبوا برهاب القرآن، كلما سمعوا نزول آية منه ترقبوا أن تكون فيهم فتسللوا لواذًا؛ ولذلك وصف القرآن حالتهم هذه لتكون عظة وعبرة، فقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ من القرآن وكانوا حضورًا في المسجد ﴿ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾، تبادلوا فيما بينهم النظر حول الموقف من السورة النازلة ومحتواها إرادة الهروب من المجلس، متسائلين فيما بينهم بطرف خفي: ﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَد ﴾ إذا خرجتم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن تأكدوا ألا يراهم أحد جمعوا أمرهم ﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا ﴾ عن المجلس شاهدين على أنفسهم بالنفاق والكفر ﴿ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ أعمى الله بصيرتهم عن الهدى، لما كرهوه من القرآن وما ضاقوا به من سماعه ﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْم لَا يَفْقَهُونَ ﴾ بسبب ما هم فيه من الجهالة، لا يستوعبون الْحَقَّ الذي يلقى عليهم من القرآن ولا يصبرون على تدبره. لقد كانت هذه الآيات الكريمة آخر ما نزل في سورة التوبة حول طبيعة المجتمع الإسلامي في السنتين الأخيرتين من حياته صلى الله عليه وسلم بجميع فئاته المؤمنة صادقة الإيمان وضعيفته، والمنافقة ضعفًا في الفهم والاستيعاب أو تنطُّعًا وعزة نفس جوفاء، أو كفرًا وخيانة وتآمرًا، وقد عولجت في السورة كلها قضايا هذه الفئات وأحوالها وعلاقاتها ومعتقداتها بالوحي نصحًا وتوجيهًا ربانيًّا باللين والمرحمة مرة، وبالحزم والشدة مرة، وبالتهديد والتخويف والوعيد مرات، ولكنه تعالى رحمة بهم جميعًا، من كان في عصر النبوة، ومن يجيء بعدهم إلى خاتمة الوجود الإنساني في الدنيا، خاطبهم في خاتمة سورة التوبة تأليفًا لقلوبهم واستدراجًا لهم إلى الإيمان، وإشعارًا لهم بمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله، وقدره وفضله ومنزلته بينهم وبين الخلق في الأرض والسماء، وتذكيرًا لهم بما عاملهم به من العفو والصفح والمرحمة، والصبر على الأذى والمصابرة، وما آثرهم به من المغانم والغنائم ولم يترك من دنياهم لنفسه وأهله درهمًا ولا دينارًا، فيخلصوا له المحبة والتوقير ويمحضوا له الاعتراف بالفضل بعد الله تعالى، فقال عز وجل: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ وافتتح تعالى هذه الآية بلام التأكيد وحرف التحقيق ﴿ لَقَدْ ﴾ لفتًا للاهتمام بمعانيها وتنبيهًا لمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربهم، وما يجب أن يعاملوه به من المحبة والتوقير والطاعة والإجلال في حياته وبعد مماته، ثم قال تعالى: ﴿ جَاءَكُمْ ﴾؛ أي: أرسل إليكم، وعبر تعالى بالمجيء مجازًا عن الإرسال، إعلاء لمكانته صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: ﴿ رَسُولٌ ﴾؛ أي: جاءكم رسول هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ جمع "نَفْسٍ"، وَهِيَ الذَّات؛ أي: مِنْ صَمِيمِ ما خلقتم منه، بضمة على الفاء، وهي قراءة الجمهور؛ أي: منكم أيها العرب، نسبًا وعشيرة، ومن طبيعة مجتمعكم أعرافًا وعادات وتقاليد وقيمًا تعتزون بها ولا تنكرون منها شيئًا، صدقًا وعفةً ووفاءً وشجاعةً وكرمًا وطهارةَ نسبٍ، ومنكم أيها الناس جميعًا، من جنسكم، بشر مثلكم، كما قال تعالى: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ﴾ [يونس: 2]، ولو كان من الملائكة لوجدتم عنتًا في التعامل معه، وقد قال له عز وجل من قبل تأكيدًا لهذه المعاني كلها: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]. كما قُرئت الآية قراءة ضعيفة بفتح الفاء: "من أنفَسكم"، من النفاسة؛ أي: من أشرفكم نسبًا، وأتقاكم دينًا، وأحسنكم خَلْقًا وخُلُقًا، في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها،رواها ابن مردويه من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا، وقرأ بها ابن عباس وأبو العالية والزُّهْري والضحاك وابن محيصن، وعبدالله بن قسيط المكي، وفي هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم من حديث واثلة بن الأسقع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إني من نكاح ولست من سفاح»؛ أي: إن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام من نكاح وليس فيه زنا. أما قوله تعالى بعدها: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ﴾، والعزيز لغة هو الغالب، والشديد والشاق؛ أي: شاق عليه، يوجعه ويؤلمه، خبر مقدم وقوله: ﴿ مَا عَنِتُّمْ ﴾ في موضع رفع، مبتدأ مؤخر؛ أي: يعنته ما يؤذيكم، من العنت وهو المشقة وما في حكمها؛ كقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾؛ أي: عزيز عليه ويشق عليه ما يعنتكم أو يؤلمكم أو يضركم. ثم قال تعالى: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [التوبة: 128]؛ أي: شديد الحرص والرغبة في أن تؤمنوا، فيصلح حالكم وتسعدوا في الدنيا والآخرة، وتسلموا من غضب الله وعذابه ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾؛ أي: شديد الرأفة والرحمة بجميع المؤمنين، مطيعهم وعاصيهم، تائبهم ومذنبهم؛ ولذلك أعطي الشفاعة فيهم يوم القيامة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ، مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ»، وكأنه تعالى يقول: هذا هو نبيُّكم أيها الناس، وهذه صفاته، اختار الله لكم منكم خيركم، رحمة بكم، وإحسانًا إليكم، وهداية لكم إلى صراطه المستقيم، ثم توجَّه الخطاب منه تعالى إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم مُتلطِّفًا به، ومطمئنًّا له بقوله: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾ أعرضوا ولم يؤمنوا على رغم ما قدمته لهم من آيات ومعجزات، وما بذلته من جهود وما عانيته من مشقة ﴿ فَقُلْ ﴾ يا محمد ﴿ حَسْبِيَ اللَّهُ ﴾ يكفيني أن الله يعلم عني صدق تبليغي رسالته، وأنني أشهد أنه ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ وحده لا شريك له ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ عليه تعالى توكلت وأتوكل في جميع أمري عاجله وآجله، منتظرًا وافر عفوه وعافيته وجزيل كرمه وعطائه ونعمائه، ولن أخيب؛ لأنه ربي، رب العرش العظيم، هذا ما أمر به الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن تولى الكفار فلم يؤمنوا، أو أصَرَّ المنافقون فلم يتوبوا، فكان النموذج الأمثل للارتكان إلى الإيمان بالله وحده، والاعتماد عليه وحده، وطاعته واستمداد القوة منه وحده، تختم بسجاياه ومحامده سورة القتال، والجهاد سورة التوبة الكاشفة للمنافقين والمبشرة للصادقين. بهذه الآيات الكريمات المباركات أختم بحمد الله ما يسَّره الله عز وجل لي من تفسير سورة التوبة، وبهذه السورة المباركة أيضًا أختم ما منَّ الله به عليَّ من تفسيري للقسم الأول من القرآن الكريم، قسم المثاني وطوال السور، وقد حض الرسول صلى الله عليه وسلم على أخذها والعمل بها، وفي النية - إن مد الله في العمر وأمد بالقوة وأعان - أن أواصل بتفسير القسم الثاني، قسم السور المئين في كتاب رب العالمين، بدءًا بسورة يونس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام. أسأله تعالى أن يغفر الذنب، وينير القلب، ويتجاوز عن الخطإ، ويهدي لصراطه المستقيم ويثبت عليه، ويضاعف الأجر لمن أعان على هذه المسيرة القرآنية، فيصلح لي ولهم الأحوال، أهلًا وذرية، ويجعل الجنة مثوانا جميعًا. [1] نزلت سورة المائدة بعرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية شيبان، عن ليث عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة، وروى ابن مردويه من حديث صالح بن سهيل، عن عاصم الأحول، قال: حدثتني أم عمرو، عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها. [2] ضعيف. [3] البلقاء حاليًّا محافظة في الجزء الغربي من الأردن، قرب نهر الأردن والبحر الميت، والداروم: حاليًّا هي "دير البلح" في غزة. [4] هو حي بن هانئ بن ناضر أبو قبيل المعافري رحمه الله، تابعي مات سنة ثمان وعشرين ومائة، روى عن عقبة بن عامر، وعبدالله بن عمرو، وشفي بن ماتع. وروى عنه: يحيى بن أيوب، والليث بن سعد، وضمام بن إسماعيل، وبكر بن مضر، وجماعة. [5] وما روي عنه صلى الله عليه وسلم ضعيفًا «لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»؛ رواه أحمد وابنه في زوائده، وابن أبي خيثمة في "التاريخ"، والبخاري في "التاريخ الصغير"، والطبراني في "الكبير"، وابن قانع في "المعجم"، والخطيب في "التلخيص" وابن عساكر، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وقال الخطيب: "تفرد به زيد بن الحباب". [6] صححه الألباني في صحيح أبي داود.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |