محنة الإمام الشافعي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7820 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 45 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859356 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393675 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215897 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-03-2020, 06:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي محنة الإمام الشافعي

محنة الإمام الشافعي


شريف عبدالعزيز الزهيري


















بين يدي المحنة:



العلم والفهم من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، وكلما ازداد العبد علمًا وفهمًا ترقي في سلم الإمامة حتى يصل إلى العلا؛ حيث محبة الخالق، ومحبة المخلوقين، والعلم والفهم رزق يسوقه الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فلربما يكون عند ذلك العالم ما ليس عند غيره من العلماء في العلم والفهم، والناس على مر العصور يتنافسون في الرزق، ويتحاسدون عليه، ومما تحاسد الناس عليه سلفًا وخلفًا المكانة والمنزلة التي ينالها بعض العلماء عند الأمة، ولو فتشت عن كثير من المحن والابتلاءات التي تعرض لها كبار علماء الأمة لوجدت الحسد والغيرة تقف خلفها، فهي سنة ماضية، وأمر مقدور، لا يخلو منه عصر من العصور.







التعريف به:



فقيه الأمة، وعلمها المقدم، الإمام الفذ العبقري، ناصر الحديث، أستاذ الفنون، الأصولي اللغوي البديع، الشريف النسيب، العالم الكبير أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب الهاشمي المطلبي القرشي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.







ولد في غزة بفلسطين سنة 150هـ، ويقال: إنه ولد في نفس اليوم الذي مات فيه الإمام أبو حنيفة، وقد مات أبوه إدريس شابًا، والإمام مازال في المهد، فانتقلت أمه إلى اليمن؛ لأنها كانت من الأزد، وهم من أكبر بطون اليمن، وظلت باليمن عدة سنوات؛ فخافت عليه ضيعة نسبه الشريف، فتحولت به إلى مكة، فنشأ بها وترعرع، وأقبل على الرمي حتى صار من أمهر الرماة، ثم أقبل على العربية والشعر، ثم ألقى الله عز وجل في قلبه حب العلم والفقه، وذلك من تقادير الله عز وجل له، وإرادة الخير به وبالأمة، فأقبل على العلوم ينهل منها بكل فروعها.







جلس الشافعي إلى علماء مكة، وتفقه عليهم حتى صار أهلاً للفتوى، وأذن له شيوخه: مثل مسلم بن خالد الزنجي بذلك، والشافعي وقتها في سن المراهقة، وقد قرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وتنقل في البادية لفترة طويلة حتى أتقن لهجات العرب وأشعارها؛ فلما جاوز العشرين رحل إلى المدينة، وجلس للإمام مالك رحمه الله، وقرأ عليه كتابه الموطأ من حفظه، فانبهر الإمام مالك بقوة حفظه وفهمه، وتفرس فيه النجابة والعلم؛ فأوصاه بوصايا نافعة يحتاجها أي عالم يريد أن يسلك سبيل الربانية.







يعتبر الإمام الشافعي ناشر مذهبه؛ فلقد طاف البلاد والأقاليم، فقد دخل العراق مرتين واليمن ومصر عدة مرات، وقد استقر بها في النهاية، واختص به أهل مصر دون غيرهم، ولقد صنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وبعد صيته، وتكاثر عليه الطلبة، فلم يُعلم أحد من الأئمة له تلاميذ وطلبة نجباء مثل الإمام الشافعي؛ فتلاميذه ملأ السمع والبصر، كفي أن نذكر منهم الإمام أحمد بن حنبل والبويطي وأبو ثور، وغيرهم كثير.







أما عن منهجه ومذهبه الذي اتبعه الإمام الشافعي في تقرير قواعد مذهبه، فلقد كان أثريًا سلفيًا يعتمد على الوحيين: القرآن والسنة، ثم القياس والإجماع، وكان يقول: كل متكلم على الكتاب والسنة هو الجد، وما سواه هو الهذيان، ويقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به؟







وهذا الاتباع للحديث، والعمل بالأثر جعل الإمام الشافعي يرجع عن كثير من أقواله بعد أن دخل مصر، وسمع ما عند المصريين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار في المذهب قولان: القديم وهو في العراق حتى سنة 198هـ، الجديد وهو في مصر حتى وفاته سنة 204هـ، وهذا الرجوع للحديث والأثر والعمل به لا يقدم عليه إلا العلماء العاملون المخلصون الربانيون، وكم من فقيه ومتعالم يتبع رأي إمامه، ولا يخالفه أبدًا، ولو إلى الحق والثابت من الحديث والآثار؛ فيكون بذلك قد قدم رأي إمامه على قول الله ورسوله، وهذه المشاركة تحديدًا كانت من أسباب المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي رحمه الله.







أما عن عقيدة الشافعي رحمه الله، فلقد كان الإمام من كبار علماء أهل السنة والجماعة، رأسًا من رءوسهم الأعلام، انتدب للرد على المبتدعة والزنادقة خاصة المعتزلة والجهمية، وكان رحمه الله من أشد الناس فيهم؛ لذلك لم يجرؤ أحد من هؤلاء الضلال على أن يرفع رأسه أيام الإمام مالك ثم الشافعي، وكان ينهي أصحابه عن الخوض في كلام المبتدعة، وينهي عن الصلاة خلف الرافضي والمرجئي والقدري المعتزلي، وأفتي بكفر من يقول بخلق القرآن.







أما عن عبادته وأخلاقه؛ فعلى الرغم من انشغاله الكبير بالعلم الشرعي والدرس والبحث، وعلى الرغم من أنه كان يقول: قراءة الحديث خير من صلاة التطوع، وقوله: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، إلا إنه كان عابدًا ربانيًا زاهدًا، مقبلا على شأنه وآخرته، ليس للدنيا عليه سبيل، قال عنه راويته الربيع بن سليمان: كان الشافعي قد جزأ الليل: فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام. وكانت تمر عليه آية العذاب، أو حديث الترهيب فيخر مغشيًا عليه من رقة قلبه، وكان مشهورًا بتلاوة القرآن، تواتر عن أصحابه أنه كان يختم في كل ليلة ختمة في شهر رمضان يختم ستين ختمة، وهذا أظنه من المبالغات التي لا تصح، ولا يسمح الوقت بوقوعها، وعادة ما تكون التراجم والطبقات مليئة بالأخبار المبالغ فيها في شأن هؤلاء الأئمة الأعلام، وهذه الأخبار والآثار تحتاج لجهد مجموعة من العلماء والمتخصصين لتمحيصها، وتنقية كتب التراجم والسير منها، أما عن أخلاقه رحمه الله فلقد كان الشافعي شريف النفس والنسب، كريمًا سخيًا، شديد البذل والعطاء على ضيق ذات يده، لا يرد سائلا قط، تاركًا للمراء والجدل، مخلصًا ناصحًا للأمة، ويود لكافه المسلمين الخير، وكان يقول عن نفسه: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم - يعني كتبه - على أن لا ينسب إلى منه شيء، فأين هؤلاء الذي يضنون بعلمهم، ويتاجرون به بيعًا وشراءً من هذا الإمام الفذ العظيم.







مصنفاته:



لم يكن عصر الإمام الشافعي عصر التدوين والتصنيف، فلقد كان العلم مازال وقتها ينتقل ويتعلم بالتلقي والدروس المباشرة، وأضف إلى ذلك انشغال الشافعي نفسه بنشر مذهبه والتنقل في البلاد من أجل لقاء العلماء والمشايخ، ولكن لم تصنع هذه المهام كلها الشافعي عن التدوين والتأليف، وإن كان علمه أكبر بكثير من كتبه ومؤلفاته.







يعتبر الشافعي واضع علم أصول الفقه، وذلك في كتابه الشهير: (الرسالة) الذي كتبه عملا بنصيحة شيخه عبد الرحمن بن مهدي، ويعتبر كتاب الرسالة اللبنة الأولى في علم الأصول، وقد ألفه الشافعي وهو شاب في الثلاثينيات، ووضع فيه حجة الإجماع، ومعاني القرآن، والناسخ والمنسوخ، وقبول الأخبار.







وللشافعي أيضًا كتاب: (الأم) الذي جمع فيه مسائله وأقواله وفتاواه، وله كتب أخرى، كتبها الشافعي بلغة سهلة يفهمها الجميع، على الرغم من بلاغته الفائقة، وفصاحته في المناظرة، والتي لم يقم له فيها أحد من أهل زمانه، وقد عد بعض أهل العلم للشافعي أكثر من مائة كتاب في علوم القرآن والسنن والمسانيد، وشتى فروع العلم، تسابق على حفظها وجمعها واقتنائها العلماء والأئمة، حتى إن إسحاق بن راهويه تزوج امرأة بمرو لم يتزوجها إلا لأنها أرملة رجل كانت عنده كتب الشافعي، وقال الجاحظ الأديب: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تآليفًا من المطلبي - يقصد الشافعي - لأن لسانه ينظم الدرر.







ثناء الناس عليه:



يعتبر الإمام الشافعي من أكثر علماء الإسلام الذين نالوا التقدير والثناء الوافر من الناس عالمهم وعاميهم، فلقد كان الإمام - وعلى مر العصور - كلمة إجماع بين الناس، وهو أكثر علماء الأمة الذين كتب في مناقبهم وفضائلهم كتب ومؤلفات، من أشهر مناقب الشافعي للبيهقي، ومناقبه للخطيب البغدادي، وتوالي التأسيس لابن حجر.







وهذه طائفة من ثناء معاصريه عليه:



قال عنه الإمام أحمد: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، وإني لأدعو له في كل سحر، وما أحد مس محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة، ولقد كان أفصح الناس، وما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي، وصاحب الحديث لا يشبع من كتب الشافعي.







قال عنه عبد الرحمن مهدي وهو شيخه: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.







قال يونس بن عبد الأعلى: كانت ألفاظ الشافعي مثل السكر؛ فلقد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهني، وكمال فصاحة، وحضور حجة.







وقال ابن عبد الحكم: ما رأيت الشافعي يناظر أحدًا إلا رحمته، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس الحجج.







قال عن أبي ثور الكلبي: كان الشافعي من معادن الفقه، ونقاد المعاني، وجهابذة الألفاظ.



قال عنه المبرد: كان الشافعي من أشهر الناس، وآدب الناس، وأعرفهم بالقراءات.



قال عنه يحيى القطان: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعي.







وورد عن جمع أهل العلم أنهم كانوا يخصون الشافعي بالدعاء في صلواتهم: منهم على سبيل المثال أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن مهدي، ويحيى بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وغيرهم.







قال عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: الإمام الكامل، العالم العامل، ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات.







أما الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وفيه: ((لا تَسبُّوا قُرَيْشًا؛ فإن عَالِمَهَا يَمْلأ الأَرْضَ عِلْمًا))، والذي حمله كثير من أهل العلم على الإمام الشافعي؛ فهو حديث ضعيف آفته النضر بن حميد فهو متروك، ويرويه عن أبي الجارود، وهو مجهول.







محنته:



أصدق وصف، وأدق تعبير لأصل المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي ما قاله تلميذه الأنجب الإمام أحمد بن حنبل عندما سأله بعض الناس عن سبب هجوم بعض أهل العلم على الإمام، إذ قال: لقد من الله علينا به، لقد كنا تعلمنا كلام القوم، وكتبا كتبهم، حتى قدم علينا؛ فلما سمعنا كلامه، علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي، فما رأينا منه إلا كل خير، واعلموا حكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم، وحُرِمَهُ قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم.







وحقًا كان الإمام الشافعي رحمه الله كما وصفه الإمام أحمد، فلقد رزقه الله عز وجل علمًا وفهمًا ومواهب لدنية كثيرة لم تكن عند غالبية أقرانه، بل لا نكون مجازفين إذا قلنا: إنه لم يكن في عصر الشافعي من هو مثله في العلم والفهم، وجودة الذهن، وحدة الذكاء، وذلك كله في إطار كبير من الأخلاق النبيلة والفضائل الكثيرة، أضف لذلك شرف النسب، وكرامة المحتد، مع جميل الصورة، وبهاء الطلعة؛ لذلك تعرض الإمام لمحن متتالية مردها وأساسها الحسد والغيرة.







نشأ الشافعي يتيمًا فقيرًا، كثير التنقل، ولم يكن عند أمه من النفقة ما تعطيه للمعلم، فكان الشافعي يقوم ببعض الأعمال المساعدة لمعلمه: مثل قيامه على صبيان الحلقة حال غيابه نظير تعليمه مجانًا، وكان الشافعي لا يجد ما يكتب فيه؛ فكان يكتب في الأكتاف والظهور، ويذهب إلى ديوان البلد يستوهب منهم الأوراق المستعملة ليكتب على ظهرها.







بسبب ذلك الفقر اضطر الشافعي لأن يطلب العمل في القضاء، لينفق على نفسه وأمه ورحلته في طلب العلم، وكان وقتها قد تأهل للفتيا، وجالس الأكابر، وسمع من الأعلام: مثل مالك وابن عيينة، وغيرهم، وبالفعل استطاع أحد أقاربه؛ وهو (مصعب بن عبد الله) أن يلحقه بالعمل قاضيًا باليمن.







استلم الشافعي عمله بالقضاء في بلاد اليمن، فكان شعلة نشاط وذكاء، يتوقد ذهنه بالعلم والفهم؛ فأحبه الناس ورضوا به، وكان الشافعي بجانب عمله في القضاء، يعمل على نشر العلم والفقه، فجالس العلماء والمحدثين، وعلا قدره، وظهر أمره، وتكلم عن فضله وشأنه في أهل اليمن كلهم، وذلك كله وهو في أوائل الثلاثينيات، عندها تحركت نوازع النفس البشرية، وبدأت علامات الحسد والغيرة تظهر عند أقرانه.







كانت بلاد اليمن في تلك الفترة البقاع التي يكثر فيها المنتسبون لفرقة الشيعة الضالة، ذلك لوجود الكثير من آل أبي طالب بها منذ أيام الحسين بن علي رضي الله عنهما، كما لا ننسي مؤسس فكر التشيع الأول هو اليمني الضال ابن سبأ الصنعاني الملقب بابن السوداء؛ لذلك كانت بلاد اليمن من المناطق التي توليها الدولة العباسية عناية خاصة، خوفًا من عبث الشيعة والروافض بأهلها؛ وذلك منذ أيام حركة النفس الزكية سنة 145هـ، وكان بنو العباس شديدي التوجس والحذر من بني عمومتهم الطالبيين، لعلمهم بأنهم يرون أنفسهم أحق بالخلافة منهم؛ لذلك كان بنو العباس يشتدون في مقابلة أدني تهمة بهذا الخصوص.







استغل خصوم الشافعي وحساده تلك السياسة العباسية في معاملة خصومهم السياسيين؛ فأسرع أحدهم واسمه (مطرف بن مازن). وكتب إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 184هـ: إن أردت اليمن لا يفسد عليك، ولا يخرج من يدك، فأخرج عنه محمد بن إدريس الشافعي، وذكر أقوامًا من الطالبيين، حتى تكون المكيدة محكمة، والوشاية ليست بالشافعي وحده، وتخرج في إطار خطة ومؤامرة يدبرها الشيعة بقيادة الشافعي.







كانت تهمة قيادة تنظيم شيعي لقلب نظام الحكم في تلك الفترة، وفي غيرها من الفترات، من أشد التهم خطورة، وأوخمها عاقبة؛ لذلك أسرع الخليفة العباسي هارون الرشيد بإرسال والٍ جديد لبلاد اليمن وهو (حماد البربري)، الذي ألقى القبض على الإمام الشافعي، وكل من ورد اسمه في وشاية الحاسد (مطرف بن مازن)، وأوثقهم في الحديد، وحملوهم بهذه الصورة المؤلمة من بلاد اليمن إلى (الرقة) في شمال بلاد العراق؛ حيث مقر إقامة الخليفة العباسي: (هارون الرشيد).







ولنا أن نتخيل حجم المعاناة والألم البدني والنفسي الشديد الذي وقع على الإمام الشافعي، عالم قاضٍ، ومن نسب شريف، وبريء لا ذنب له، ورحلة طويلة وشاقة من أقصى البلاد جنوبا لأقصاها شمالا، وهو مكبول في الحديد، وفرية كاذبة، ليست تقدح في مهنته كقاضي، ولكن في سمعته كإمام ومحدث وفقيه.







ولكن رجل كامل مثل الإمام الشافعي لم تكن تلك المحنة لتنال من همته وإرادته ومكانته، فلقد استعد لمواجهة كافة التهم الموجهة إليه، وانتضى سيف بلاغته، وركب فرس حجته، وما أن أدخل على الخليفة هارون الرشيد، وسأله الرشيد عما نسب إليه من تشيع وتآمر، حتى رد الإمام الشافعي ردًا بلغيًا مقنعًا، دحض به أباطيل التهم الكاذبة، ثم ختم دفاعه البليغ بجملة خلبت لب الخليفة الرشيد؛ إذ قال له: [أأدع من يقول أنه ابن عمي: (يقصد هارون الرشيد)، وأتولى من يقول أنه خالقي ورازقي: (يقصد إمام الشيعة الروافض، الذي يسبغون على أئمتهم صفات وخصائص لا تكون إلا لله عز وجل وحده: مثل علم الغيب، وتقدر المقادير، وغير ذلك)].







انشرح صدر الخليفة الرشيد؛ فلقد كان يحب العافية، ويكره أن يزج بطالبي آخر في السجون، وقد مات في العام الماضي 183هـ الإمام موسى الملقب بالكاظم - وهو من أبناء عمه- في السجن بسبب الوشايات والسعايات، وكان حاضرًا لمجلس الشافعي مع الرشيد الإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة، فأحب الرشيد أن يتعرف على مكانة الشافعي العلمية، فطرح مسألة للمناظرة بين الإمامين: الشافعي ومحمد بن الحسن، فأبان الشافعي عن قوة علمية باهرة أذهلت الحاضرين، فازداد سرور هارون الرشيد، وعرف قدر الإمام؛ فأمر له بجائزة خمسة ألاف دينار، كانت بمثابة رد اعتبار لذلك الإمام، وتبرئة لساحته أمام الناس.







كانت تلك المحنة فاتحة خير للإمام الشافعي؛ فلقد مكث بالعراق، ولم يعد إلى بلاد اليمن بعدها إلا لجلب أهله وحاجاته وكتبه، بعدها مكث بالعراق عدة سنين، يفتي ويناظر ويعلم الناس، فانتشر ذكره بين الناس، فأقبلوا عليه، وتكونت مدرسته الفقهية في العراق، واعتني بالحديث والأثر، واتبعهما كمنهج في الرد على المخالفين؛ لذلك أطلقوا عليه في بغداد لقب ناصر الحديث، وصنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وتكاثر عليه الطلبة، فأين حاسده ومبغضه الذي أراد إسكات صوته، وخنق علمه وفقهه في بلاد اليمن؟ فأعلى الله عز وجل ذكره في الأرض كلها، ونشر علمه في المشرق والمغرب، وكبت خصومه وحساده كما كبت كل حاسد وحاقد لأهل العلم الربانيين على مر العصور.







اجتمع عنده علم أهل الرأي أخذه من محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وعلم أهل الأثر أخذه من الإمام مالك بن أنس في المدينة، فمزج بين المدرستين، حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن لعلمه وفضله الموافق والمخالف، وانتقل إلى مصر سنة 198هـ، فلما استوطنها أتاه جلة أصحاب الإمام مالك، وأقبلوا عليه، فلما أن رأوه يخالف مالكًا، وينقض عليه كثيرًا من مسائله، أعرضوا عنه، وتنكروا له، حتى إنهم كانوا يدعون عليه في صلواتهم بالموت! حتى لا تندثر مدرسة الإمام مالك، وذلك من جملة المحن التي عاني منها الإمام الشافعي، فكم أعمي الحسد والتعصب من بصيرة؟ وكم طمس من فضل وعلم ورجال كبار؟







بجانب ما كان يعانيه الإمام الشافعي من محن بسبب الحسد والغيرة، وآثار التهمة القديمة بالتشيع والرفض؛ كان الشافعي يعاني من محنة من طراز آخر، محنة قدرية لا اختيار فيها، ولا سبيل لدفعها، بل هي علامة من علامات مرضاة الله عز وجل، كان الشافعي مريضًا بالبواسير مرضًا مزمنًا، عاني منه أشد المعاناة، حتى إنه كان ينزف معظم الوقت، ولا يركب ولا يجلس إلى على لبد حتى يشرب الدم الذي ينزف بواسيره، حتى إنه كان يحدث ويعلم ويؤلف ويقرأ القرآن وتحته طست من شدة النزف، بل إنه ذلك المرض الشديد حرمه من لذة الجماع، ولم يولد له ولد إلا في أواخر حياته، بسبب عدم قدرته على الجماع من شدة البواسير.







وظل مرضه وسقمه يتعالى عليه حتى إنه لم يكد يقوى على الوقوف أو الجلوس، وكان يدخل عليه تلميذه يونس بن عبد الأعلى - وكان حسن الصوت - فيأمره الشافعي أن يقرأ عليه آيات الصبر على البلاء، ليتقوى بها، ويقول له: يا يونس لا تغفل عني بقراءتك فإني مكروب؛ وذلك من شدة آلامه وأوجاعه، حتى مات صابرًا محتسبًا وهو في الرابعة والخمسين من عمره، فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة.







المصادر والمراجع:



سير أعلام النبلاء: (10/ 5).



حلية الأولياء: (9/ 63).



تاريخ بغداد: (2/ 56).



البداية والنهاية: (10/ 274).



الكامل في التاريخ: (5/ 453).



وفيات الأعيان: (4/ 163).



تذكرة الحفاظ: (4/ 361).



طبقات للشافعية ص1 كله.



شذرات الذهب: (2/ 9)



صفة الصفوة: (1/ 433).




النجوم الزاهرة: (2/ 176).



طبقات الحفاظ: (152).



تراجم أعلام السلف: (305).








ترويض المحن: دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة



دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



 

[حجم الصفحة الأصلي: 78.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 76.06 كيلو بايت... تم توفير 2.35 كيلو بايت...بمعدل (2.99%)]