تاريخ علم الطب عند المسلمين - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213687 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-04-2019, 06:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي تاريخ علم الطب عند المسلمين

تاريخ علم الطب عند المسلمين


د. عبدالله حجازي






لم تُعدَّ الجزيرة العربية - قبل الإسلام - مدارس في أيِّ فرع مِن فروع المعرفة، فلقد كانت الأمية مُتمكِّنة مِن سكانها، وكانت معارفهم بشتى العلوم المُنتشِرة في البلاد المُجاوِرة، ذات المدارس العريقة، كانت ساذجة ويسيرة جدًّا، ولا يختلف الحال بالنسبة للمعرفة الطبية التي كانت تُبنى في غالب الأمر على تجربة مقصورة على بعض الأشخاص، توارثوها عن مشايخ الحيِّ وعجائزه، وربما صح منه البعض، وقد وجد مَن اكتسى شيئًا من المهارة في التداوي والتطبيب، وفي الجراحة، ووجد كذلك مَن اكتسب خبرة في أمراض العين، وأمراض الأسنان، ومعرفة في بعض الأمراض الأخرى؛ كالحمى، واليرقان، ووجع الكبد (الكباد)، ووجع القلب (القلاب)، والنملة (قروح في الجنب كالنمل).

كذلك عرف بعضهم أمراضًا تُصيب الحيوان؛ كالعضد (داء في أعضاء الإبل)، والجرب، ولقد كانت الحجامة والكيُّ أكثر الوسائل استعمالاً بين سكَّان الجزيرة، وكان يُقال: أول الطب الكي، والكيُّ يَشفي مِن كل الأمراض.

خلافًا لذلك فقد كانت هناك مدارس طبية عريقة في بعض البلدان المُجاوِرة، مِن أهمها وأبرزها: مدرسة الإسكندرية، التي بُنيت مع بناء الإسكندرية عام 331 ق.م، وقد كان جالينوس من أطبائها، الذي ذاع صيته، وأثَّرت كتبه وكتب أبقراط أعظم تأثير على الطب عند المسلمين، كذلك تخرج منها أهرون الطبيب، صاحب الكناش الطبي المعروف، الذي ربما كان أول كتاب طبي نُقل إلى اللغة العربية، كذلك كانت هناك مدرسة نصيبين، ومدرسة أنطاكية، أخيرًا مدرسة جنديسابور، التي كانت ملتقى لعلماء يونان نزحوا مِن أثينا، علماء سريان وعلماء مِن الهند وعلماء من فارس، وقد نجَم عن هذا الملتقى في مدرسة جنديسابور نشاط علمي، كان له أهمية في تقدُّم الطبِّ فيها، وظهور عدد كبير مِن الأطباء ذوي المكانة العِلمية والمعرفية، ساعد على ذلك التشجيع المادي والمعنوي الذي أتاحه كِسرى أنوشروان (ملك الفرس)، ومِن تشجيعه أنه أرسل أطباء إلى الهند ليَبحثوا عن الكتب الطبية، ولينقلوها إلى اللغة الفهلوية، كما أنه كان عضوًا في ترجمة عدد من الكتب اليونانية الطبية إلى الفارسية أو إلى السريانية، وقد قيل: إن الحارث بن كلدة كان أول من تلقى دراسة عِلمية من معشر العرب في مدرسة جنديسابور.

هكذا كان الوضع الطبي باختصار، في الجزيرة العربية وما حولها من البلدان المجاورة، فالفرق - كما هو واضح - شاسع جدًّا في المستوى الطبي، لكنه سرعان ما اختلف بعد مدة قصيرة مِن انتشار الاسلام، فما هو السرُّ في ذلك يا ترى؟

لا شك أن السرَّ يَكمُن في تعاليم الإسلام التي نزلت من السماء على قلب خاتم الأنبياء محمد - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين - فلقد جاءت هذه التعاليم لتُنقذ البشرية جمعاء من طريق الضلالة، ولتسلك بها سبيل الرشاد.

إن الإنسان - وهو محور رسالة الإسلام - مِن أكرم مخلوقات الله على الله، فلا غَروَ أن يكون موضع التفضيل على كثير ممن خلق الله، ولا غرو كذلك أن يُسخِّر الله له جميع ما في الكون.

وبدهي أن تأتي تعاليم الإسلام لتحفظ له هذه الكرامة في بدنه وعقله وروحه، وما على الإنسان إلا أن يتبع هذه التعاليم ليرقى بأوضاعه الصحية، والعقلية، والفِكرية، والروحية، والاجتماعية إلى مستوى مرموق، المستوى الذي يُحقِّق له الفوز بتلك الكرامة التي جعلته سيدًا على مكوِّنات هذا الكون.

إن عناية الإسلام بالنظافة والصحة جزء لا يتجزأ مِن عنايته بقوة المسلمين المادية والأدبية، فهو يتطلب أجسامًا تجري في عروقها دماء العافية، ويَمتلئ أصحابها قوة ونشاطًا، فللجِسم الصحيح - كما هو معلوم - أثر لا في سلامة التفكير فحسب، بل في تفاعل الإنسان مع الحياة والناس، ورسالة الإسلام أوسع في أهدافها، وأصلب في كيانها مِن أن تحيا الأمة مُرهَقة موبوءة عاجِزة.

وقد وفَّر الإسلام أسباب الوقاية بما شرع من قواعد نظافة دائمة، وبما رسم مِن حياة مُنظَّمة، يلتزم المسلم المُتتبِّع أوامر دينه السير عليها، فهو يستيقظ مع الفجر، ويَبتعد عن السهر، ويتحامى مزالق الشهوة، ويَقتصِد في أطعمته، ويَستعف في معيشه وسيرته، ويُجدِّد نشاطه بالصلوات في اليوم، والصيام في كل عام، وإن بُعْد المسلم عن المعاصي والمُوبِقات - التي انتشرت في كثير من شعوب الأرض انتشار الطاعون - حصانةٌ من الأمراض الخبيثة، والعلل الفتاكة.

ومع كل هذا، فإن وقع الإنسان في براثن مرض من الأمراض، فلم يدعْه الإسلام يُعاني ويلاته، بل ألزمه أن يعالجه حتى ينجو منه - بإذن الله؛ فقد ورد في صحيح البخاري: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً))، وفي رواية: ((أنزل له دواءً)).

وورد في "صحيح مسلم": ((لكل داء دواء، فإن أصيب دواءُ الدواء برأ بإذن الله - عز وجل)).

واضح مِن الحديثَين الشريفَين أن تعاليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - تفتح الأمل على مصراعيه بالنسبة للمرضى، والأطباء بالشفاء مِن الأمراض، وأنه يَستحقق يومًا من الأيام العثور على الدواء، إذا لم يُكتشف بعد؛ ولهذا كان حريًّا بالناس أن يَلتمسوا الأدوية الناجعة لِما يَحيق بهم من أمراض وآلام.

ولطالما نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن إرهاق البدن؛ فلقد جعل له حقًّا يَنبغي على صاحبه أن يُراعي هذا الحق، مِن ذلك قوله - صلوات الله وسلامه عليه - في الحديث المشهور لعبدالله بن عمرو بن العاص، وقد بلغ أنه يقوم الليل ويصوم النهار ولا يأتي أهله: ((صُمْ وأفطر، ونمْ وقمْ؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزَوْجك عليك حقًّا...)).

فالإسلام لم يُهمِل أيًّا مِن الجانبين: الروح أو البدن.

وبالطبع لا تَقتصِر تعاليم الإسلام الصحية على الفرد، بل تشمل المجتمع أيضًا؛ لهذا فقد كانت أوامره - عليه الصلاه والسلام - أن يَتحرَّى المجتمع أنجع الوسائل في البُعْد عن مواضع وأماكن الهلاك؛ يقول الرسول الكريم - عليه صلوات الله وسلامه - في مناسبة انتشار مرض مُعدٍ: ((إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تَخرجوا منها فرارًا منه))؛ متفق عليه.

وبهذا ألزم هذا الدِّين السماوي العظيم أتباعه بضرب الحصار الشديد، إذ منع الدخول والخروج من الأرض الموبوءة، ويَروي البخاري قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فِرَّ مِن المجزوم فرارك من الأسد))، بل يفرض على صاحب الإبل المريضة بالجرَب أن يُجنِّبها الاختلاط بالإبل السليمة ساعة ورود الماء؛ حيث يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يُورِدَنَّ مُمرِض على مُصحٍّ))؛ متفق عليه.

ومِن تعاليم هذا الدين الكريم محاربة ما يُسمى بالطبِّ الروحاني، أو طب الكهنة والسحرة وأمثالهم من المتاجرين بعمل التعاويذ والتمائم والودَع، وغيرها مما شاع في الجاهلية، ولقد كان مِن هدْي الإسلام وتعاليمه أن حارب الأدعياء الذين يَتزيَّنون بهيئة أهل الطبِّ وليسوا من أهله، وحمَّلهم مسؤولية أخطائهم في التشخيص والعلاج؛ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن تطبَّب ولم يُعلم منه طبٌّ فهو ضامن))؛ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

لأنه - كما يقول ابن القيم - تعاطى علم الطب، وعمله ذلك يتقدَّم له بعد معرفة، فقد هجَم بجَهلِه على إتلاف الأنفس، أقدم بالتهوُّر على ما لم يعلمه.

علاوة على ذلك، فإن الهدْي النبويَّ الشريف يُفيد أن يَستعين المريض بالطبيب الحاذق، وفي "الموطأ" أن رجلاً من الصحابة أصيب بجرح فاحتقن الدم، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلَين من بني أنمار، فنظر إليهما فسألهما: ((أيكما أطب؟))، استنبط ابن القيم أنه ينبغي الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذقِ مَن فيها؛ فالأحذق إلى الإصابة أقرب.

إن الهدْي الكريم هيَّأ أفضل مناخ نفسي وعقلي وعملي واجتماعي، أبدع الإنسان فيه في الطبِّ وفي غير الطب، ولا غرو فقد نهض الطب في البلاد التي حكمها الإسلام نهضة رفيعة، قام على أساسها في عالم الإسلام طبٌّ نظَريٌّ وعملي، كانت كتبه مراجع لأوروبا وغيرها عدة قرون، كما سيتبيَّن فيما بعد.

فما إن قامت دولة الإسلام، وتمَّت الفتوحات شرقًا وغربًا، حتى شرَع الكثير مِن محبي العلوم الكونية في البحث عن الكتب المفيدة للقيام بترجمتها، شجَّعهم على ذلك موقف أولي الأمر مِن العلم بشكل عام، ومِن علم الطب بشكل خاص، يذكر ابن جلجل أن ماسرجويه - وقد كان في زمن بني أُمية - تولى ترجمة كتاب أهرن إلى العربية من السريانية؛ إذ وجد عمر بن عبدالعزيز الكتاب في خزائن الكتُب، فأمر بإخراجه ووضعه في مُصلاه، واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فلما تمَّ له في ذلك أربعون صباحًا أخرجه إلى الناس، وبثَّه في أيديهم، وهكذا بدأ التطبيب - منذ مطلع العهد الأموي - يتأثَّر بالمدرسة اليونانية، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن عبدالملك بن أبجر الكناني، الذي أسلم على يد عمر بن عبدالعزيز في مصر، كان طبيبًا ماهرًا، درس في مدرسة الإسكندرية، ثم في أنطاكية وحران، أن عمر بن عبدالعزيز - بعد أن أفضت الخلافة إليه - كان يَستطبُّ ابن أبجر، ويَعتمد عليه في صناعة الطب، وقد كان غير ابن أبي أبجر أطباء ماهِرين، من أمثال: ابن أثال - طبيب معاوية بن أبي سفيان الخاص - وأبي الحكم الطبيب النصراني، وابنه الدمشقي، وكان يَلحق بأبيه في معرفته بالمُداواة والأعمال الطبية، والصفات البديعة، وتياذوق وكان طبيبًا فاضلاً، وله نوادر وألفاظ مُستحسَنة في صناعة الطب، وله كناش كبير في الطب ألَّفه لابنه.

وهكذا بدأ اتصال المسلمين بالطبِّ اليوناني، ولأول مرة في العصر الأُموي، ولكنه اتصال يَسير، ازداد على أشده مع الزمان في العصر العباسي؛ إذ بدأت حركة الترجمة المنظمة على أشدِّها للكتُب العلمية بوجه عام، والكتب الطبية بوجه خاص.

لقد كانت لغة معظم الكتب الدراسية العِلمية التي سادت حتى أواخر القرن الثاني الهجري (النصف الأول من القرن التاسع ميلادي) اللغة السريانية؛ حيث نقلها السريان عن الكتب اليونانية، وما إن بدأ نجم هذا القرن بالأفول حتى احتلَّت الكتب العربية مركز الصدارة وزاد انتشارها.

وقد اتَّضح مع الزمان أن الترجمة السريانية لم تفِ بالغرض، ولم تُعطِ النصَّ حقَّه مِن الفهم والإدراك، لما ورد في أصول الكتب اليونانية، لذلك انكبَّ بعضهم - وقد أتقن اللغة اليونانية والسريانية والعربية معًا - على ترجمة الكتب عن اليونانية مباشرة، وكان إسحاق[1]، وابن اخته حبيش، وقد كان كل مِن إسحاق وحبيش أذكى تلاميذ حنين، وعن طريق حنين وابنه وابن أخته نُقل معظم التراث العِلمي الضخم الذي خلفه جهابذة اليونان إلى اللغة العربية، وانتشر في العالم الإسلامي[2].

وقد اقتصرت ترجمة حنين وحبيش على الكتب الطبية، أما بقية المترجمين مِن أمثال ثابت بن قرة وابنه سنان، فقد انصرفوا إلى ترجمة البحوث الفلَكية والطبيعية والرياضية والفلسفية الإغريقية.

تشف المخطوطات التي تعود إلى حنين عن حرية التصرُّف في الترجمة، وعن مَقدِرة عجيبة للمترجم في اللغة العربية، فأسلوبها سهل المتناول، خالٍ مِن التعقيد، إذا ما قورن بأصله اليوناني، مع دقة في التعبير وخلوٍّ مِن الحشو والركة، لقد قام بالترجمة - كما لوحظ - رجال مِن النصارى أو السريان أو الصابئة؛ فهؤلاء كانوا أعرف باللغات الأجنبية من جهة، ولأن المسلمين من جهة أخرى شُغلوا بنشر الإسلام وإيصال دعوة الله إلى الشعوب الأخرى، فما كان وقتهم ليتَّسع - وهم حملة هذه الدعوة السماوية المُبارَكة - إلى الالتفاف إلى تعلم اللغات الأجنبية؛ كاليونانية، أو السريانية أو القِبطية، أما وقد نشر الإسلام في شرق البلاد وغربها، فقد تغيَّر الوضع، فانصرفت طائفة مِن ذوي المواهب إلى العلوم الكونية؛ كالطبِّ، والفلَك، والرياضيات، والصيدلة، والكيمياء، والفيزياء، و(الميكانيك)، والنبات، والحيوان، وغيرها مما يعود بالنفع على الإنسان.

وفي الوقت نفسه اتَّجهت طائفة أخرى مِن ذوي المواهب العالية والذكاء الحادِّ إلى دراسة علوم خاصَّة بالمسلمين فحسب، وساروا فيها شوطًا كبيرًا، ووضعوا لها أصولاً مُستقِرَّة ومناهج واضحة، وكان هذا مِن عملهم وحدهم على غير مثال سابق، مِن ذلك عِلمهم بالفقه وأصوله، وعِلمهم بالحديث والجرح والتعديل، وتمكُّنهم منهما، الأمر الذي يتطلب نضجًا في الفكر وحِدَّة في الذِّهن، وكذلك عِلمهم باللغة والنحو والعَروض، ولهم فيها جميعًا بحوث عميقة وافيَة، وقواعد مُستقِرَّة، وشروح مُستفيضَة.

وما إن استوعب المسلمون تلك الكتُب المُترجَمة وهضموها، حتى شرعوا بالتأليف - وكان ذلك في بحر القرن الثالث الهجري - في فروع المعرفة كافة، وكان لمؤلفاتهم الرائدة وأعمالهم الجليلة دور مُهمٌّ جدًّا في تطور العلوم جميعها وتقدمها في العالم، وعلى الأخص أوروبا؛ إذ كانت مؤلفاتهم غاية في الجودة، مِن حيث تبويبها، ووضوح قضاياها، واستقرار مَنطِقها، وهكذا احتلَّت المؤلَّفات العربية الطبية مركز الصدارة، وزاد انتشارها، وأصبحت هي المصدر الجديد الوحيد للنهضة الطبية، وصحب هذه الظاهرة اختفاء معهد جنديسابور وانتقال جميع العلماء والأطباء تدريجيًّا إلى بغداد وسامراء، المصيف الزاهر للخلفاء العباسيين.

وقد بدأ انتقال الأطباء إلى بغداد منذ عهد المنصور (ت 158هـ/775م)، وقد قيل: إنه لما مَرض أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني، استقدَم الطبيب جورجيس، رئيس أطباء جنديسابور، المُنحدِر مِن أسرة بختيشوع، فقام بخدمة المنصور، ثم جاء ابنه بختيشوع، من جنديسابور، وخدم هارون الرشيد، ومِن بعده جاء جبرائيل بن بختيشوع الذي ظل في خدمة الرشيد، ثم الأمين والمأمون، وقد جمع جبرائيل هذا من ممارسة الطب ثروةً هائلة، ووضع كتبًا كثيرة، وقد ظلَّ أفراد هذه الأسرة في خدمة بلاط العباسيين على امتداد ثلاثة قرون، كان أفرادها موضع تكريم وحَفاوة لدى الخلفاء.

هذا وساعد الخلفاء العباسيون بسلطانهم، وساهموا بأموالهم في حركة الترجمة والتأليف، فكان لاعتنائهم واهتمامهم بالطبِّ الأثر الأعظم في التطور السريع الذي حَظي به الطب بخاصة، والعلوم الأخرى بعامة؛ فقد أُنشئ "بيت الحِكمة" في عهد الرشيد، وهو مكتبة هائلة، كانت خزانتها تحتوي على أعظم الكتُب في مختلف العلوم والفنون.

أما عملية التأليف والتصنيف فقد بدأت في وقت مُبكِّر، قام بها المترجمون أنفسهم، إلا أنها لم تكن في أغلبها إلا اقتباسًا ونقلاً عن المعارف اليونانية القديمة، ولم يكن فيها مِن الأصالة إلا القليل.

بيد أن الأمر اختلف مِن مطلع القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ إذ بدأت حركة التأليف المبنيَّة على الإضافة والإبداع، الأمر الذي ظهر فعله وتأثيره في النهظة الطبية الأوروبية، ولا يَخفى أن وظيفة الطبِّ وهدفه عند المسلمين أن يحفظ الصحة على الأصحاء، ويَردَّها - بإذن الله - إلى المرضى؛ لذا فلا غرو أن كان نحو ثلث مؤلفات المسلمين في الوقاية مِن الأمراض والمحافظة على الصحة، ومِن دلالات هذا الاهتمام بحفظ الصحة، أن يُخصِّص علي بن عباس المجوسي في كتابه: "الصناعة الطبية" أو الكتاب الملَكي، واحدًا وثلاثين فصلاً في حفظ الصحة وتدبيرها بالرياضة والاستحمام والغذاء والشراب والنوم والجماع والهواء النقي، والتحرز من الأمراض الوبائية، بل يتحدث عن الأمراض النفسية وغير ذلك مما يدخل فيما نُسمِّيه اليوم بعلم صحة المجتمع، ومثل ذلك في كتُب غيره؛ ذلك لأن الأطباء في العهود الإسلامية كانوا يُجاهرون بأن حفظ الصحة والوقاية مِن الأمراض أهمُّ مِن مداواة المرض وأكثر نفعًا؛ لأن الصحة في الأصحاء موجودة، وفي المرضى معدومة، وحفظ الشيء الموجود أفضل مِن طلب الشيء المفقود.

ولم يقتصر التطبيب على فرع خاص مِن الطب، بل تشعَّب - خلال العهود الإسلامية الزاهرة - فروعًا، تخصص في كل منها فريق مِن الأطباء؛ يقول ابن قيم الجوزية في كتابه "زاد المعاد" والطبيب في هذا الحديث - أي: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مَن تطبَّب ولم يُعلَم منه الطبُّ قبل ذلك فهو ضامِن)) - يَتناول مَن يطبُّ بوصفه وقوله، وهو الذي يختص باسم الطبائعي، وبمِروَده وهو الكحال - أي: طبيب العيون - وبمِبضَعه ومراهمه وهو الجرائحي - أي الجراح - وبموساه وهو الخاتن، وبريشه وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومشرطه وهو الحَجَّام، وبخلعه ووصله ورباطه وهو المُجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكَوَّاء، وبقربتِه وهو الحاقن، وسواء كان طبه لحيوان بهيم - بيطري - أو إنسان، فاسم الطبيب يُطلق لغة على هؤلاء كلهم.

المصدر: لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين


[1] يقال: إن إسحاق - الذي أسلم وحسن إسلامه - بلغ مِن تفوُّقه في النقل والطب أن بعضهم كان يُفضِّله على أبيه في دِقَّة النقل.

[2] لم يكن هذا العمل الضخم هينًا؛ فقد اعترضته صعوبات ليست بالقليلة؛ إذ كان على حنين أن يُترجِم المصطلحات العِلمية، وقد وُفِّق في ذلك أيما توفيق.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 65.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 63.62 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.89%)]