|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات مع سورة البقرة (9) ميسون عبدالرحمن النحلاوي وقفات مع قلب السورة (4) تابع معالم في سياق السورة: المعلم السابع: مسألة كتمان آيات الله، والتلاعب بأوامر الله ونواهيه في سبيل حُطام الدنيا: وهي في يومنا هذا على أشُدِّها والعياذ بالله؛ وتطالعنا هذه المسألة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159، 160]، وهنا علينا التركيز بأن التوبة وحدها لا تصلح مع هذا الفعل، وإنما يجب البيان معها، بيان ما كانوا يكتمونه، والآية وإن كانت نزلت في طائفة من اليهود، فهي تتضمن توجيهًا مباشرًا للمسلمين. ومناسبة نزول الآية هي كتمان اليهود صفةَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي جاءت واضحة صريحة في توراتهم؛ يقول ابن كثير في تفسيره: "نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفةَ محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالِمَ يستغفر له كل شيء، حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء، فهؤلاء الذين يكتمون بخلاف العلماء، فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا، عن أبي هريرة، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سُئِلَ عن عِلْمٍ فكتمه، أُلْجِمَ يوم القيامة بلِجامٍ من نار))، والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدًا شيئًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾ [البقرة: 159]"؛ [انتهى ابن كثير]. ولِعِظَمِ أمرِ كتمان آيات الله، يعود السياق مرة أخرى في الآيتين 174، 175 ليؤكد على عظم إثمه، ومصير من يلجأ إلى هذا النوع من المتاجرة بالدين في سبيل عَرَضٍ من عروض الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]. ونقرأ في تفسير ابن كثير لهذه الآية السببَ وراء قيام اليهود بهذا الفعل؛ يقول: "﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [البقرة: 174]؛ يعني: اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم، وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتُّحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتَّبِعَه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نَزْرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك. ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 174]؛ وهو عَرَض الحياة الدنيا، ﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾ [البقرة: 174]؛ أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارًا تأجَّج في بطونهم يوم القيامة. ﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]؛ وذلك لأنه غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علِموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم؛ أي: يُثني عليهم ويمدحهم، بل يعذبهم عذابًا أليمًا"؛ [انتهى ابن كثير]. هؤلاء فضَّلوا الفانيَ على الباقي، والضلال على الهدى، فما أصبرهم على النار! ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 175]. الثامن: دلائل تفرُّد الله في ألوهيته: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]، فهل بعد كل هذا الانسجام والدقة والترابط الْمُتْقَن في خلق السماوات والأرض، وتسخير ما يضمن بقاءهما على نظام متناهٍ في الكمال والاتزان - شكٌّ في كمال ووحدانية الخالق؟ سماء ممتدة بلا عمد، أرض بجبال راسيات لا تميد ولا تنهار، ولا يختلط بحرها ببرها، ليل ونهار يحتكمان إلى شمس وقمر، يُسيِّرهما خالق واحد بحساب لا يُحيط مخلوق بعلمه، ماء من السماء وضع فيه الخالق سرَّ الحياة على هذه الأرض، فجعل منه كل شيء حيٍّ، فكيف وضع الخالق سر الحياة في قطرة الماء هذه؟ تصريف الرياح، السحاب المسخَّر بين السماء والأرض، فلا هو في السماء ولا هو على الأرض، من يُمسك هذا السحاب؟ من يوجِّه الريح التي تُسَيِّره؟ من يأمرها أنِ اشْتَدِّي فكوِّني إعصارًا مدمِّرًا يُدمر ديار الظالمين؟ ومن يأمرها أن كوني رحمة وسلامًا على قوم صالحين؟ هو الله الواحد الأحد، جل في علاه. التاسع: اتخاذ الناس أندادًا لله، ومشهد التبرؤ بين التابع والمتبوع يوم القيامة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]. هؤلاء المذكورون في الآية لم يكفروا بالله، هم مؤمنون به، لكنهم اتخذوا معه أندادًا - والند هو النظير والمثيل - يحبونهم كما يحبون الله، إذًا هم قوم يؤمنون بالله، ويعبدونه بل ويحبونه، لكنهم يؤمنون ويعبدون ويحبون إلى جانبه من يعتقدون فيه الندية لله، من حيث القدرة والقوة، والتشريع والحكم، والرزق والغوث، بل والقدرة على الخلق كخلق الله، والعياذ بالله. لكن كيف يكون حال هؤلاء الأنداد يوم القيامة، والمقدِّسين لهم المتَّبِعين لمنهجهم؟ وما هو مصيرهم؟ ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166، 167]. ويا له من مشهد مرعب، شديد الوقع، عندما يتبرأ السادة والمفكرون، والعلماء والعظماء، الضالون الْمُضِلُّون، ممن اتبعهم على كفرهم وضلالهم، وسار على نهجهم وناصَرَهم في الحياة الدنيا، بعد أن رأوا العذاب وعاينوه، فعلِموا وأقرُّوا بأن القوة لله جميعًا! كيف لا، وقد وجدوا أن كل ما كانوا يتباهَون به من قوة وسلطة وسمعة في الدنيا أصبح حطامًا؟ ﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]، ثم يبدأ مشهد التبرؤ المخيف: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 166، 167]. اللهم إنا نعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل. المعلم العاشر: تشريعات وأحكام وفرائض: • في المطاعم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 168 - 170]. والحديث عن وحدة الألوهية، الذي سبق في مشهد آيات الله في الكون، يستتبعه وحدة الربوبية، فالله هو الرزَّاق، وهو الذي هيَّأ الرزق للعباد في الأرض، وأمرهم أن يأكلوا مما أحله لهم، والله الخالق الرازق هو الذي يحلِّل ويحرِّم، ويبين ذلك في شرعه، وكل ما وراء حلال الله وحرامه من شرع الشيطان. والذين يتبعون خطوات الشيطان يُصِرُّون عليها استكبارًا، وعصبية وقومية؛ لأن آباءهم كانوا يتبعونها حتى ولو كانوا على ضلال في العقيدة والفكر والعقل. هؤلاء صفتهم الذين كفروا وتشبيههم: ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ ﴾ [البقرة: 171]؛ أي: كمثل الراعي الذي ينعق بغنمه الذي لا يسمع ﴿ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾ [البقرة: 171]، دون فهم أو إدراك أو تمييز، وكأنهم بلا عقول تمامًا كهؤلاء الأنعام. ثم يأتي تخصيص المؤمنين بالنداء في الإشارة إلى ما حرَّم عليهم من مطاعم، وتفصيل ذلك في سورة المائدة. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 172، 173]. • آية البِرِّ: ويتخلل التشريعات والفرائض تعريفُ البر، في آية تلخِّص حقيقة الإيمان وماهيته، فالإيمان عمل، وامتثال لأوامر الله وقوانينه وفرائضه، والوقوف عند حلاله وحرامه، وليس شعائرَ فحسب؛ عن مجاهد قال: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله، وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: ليس البر أن تُصَلُّوا ولا تعملوا، وبهذا تكون هذه الآية مقدمة لِما سيأتي بعدها من تشريعات إلهية. ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. هذه الآية من أروع الآيات التي تلخِّص حقيقة الإيمان وماهيته، كيف أن الشعائر تبقى حركات وسلوكيات، لا روح فيها ولا معنى، ما لم تحكمها الأسس الإيمانية: ليس البر - وهو جماع الخير - أن يقف الإنسان في الصلاة، ويرتاد المساجد، وفي عقيدته زيغ، وفي إيمانه تردد، وفي أفكاره انحراف. ولـكن البر من: • آمن بالله. • واليوم الآخر. • والملائكة. • والكتاب. • والنبيين. وهذه أركان الإيمان، ثم: • الإنفاق، زكاة وصدقة. • والوفاء بالعهود، ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ [البقرة: 177]. • الصبر، ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177]. ومن كانت هذه صفاته وسلوكياته الإيمانية، فهذا هو الصادق المتقي: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية: "قال الثوري: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 177] الآية، قال: هذه أنواع البر كلها، وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عُرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، وصدَّق بوجود الملائكة الذين هم سَفَرة بين الله ورسله، والكتاب، وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى خُتِمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ الله به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ [البقرة: 177]؛ أي: أخرجه وهو مُحِبٌّ له، راغب فيه، نصَّ على ذلك ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وغيرهما من السلف والخلف؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((أفضل الصدقة أن تَصَدَّقَ وأنت صحيح شحيح، تأمُل الغِنى، وتخشى الفقر)). ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ﴾ [البقرة: 177]؛ كقوله: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ [الرعد: 20]، وعكس هذه الصفة النفاق؛ كما صحَّ في الحديث: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))، وفي الحديث الآخر: ((إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَرَ))، وقوله: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177]؛ أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء، وحين البأس أي: في حال القتال والْتِقَاء الأعداء؛ قاله ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومرة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ [البقرة: 177]؛ أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]؛ لأنهم اتَّقَوا المحارم، وفعلوا الطاعات. وتتوالى التشريعات والفرائض بعد آية البر: القِصاص، والوصية، والصيام، والقتال، والإنفاق، في الجهاد - وسيطالعنا في أواخر السورة الإنفاق مفصلًا بمفهومه العام – ومن ثَمَّ الحج. القصاص في القتلى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 178، 179]؛ قال ابن كثير: "يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم؛ وهي بقاء الْمُهَجِ وصونها؛ لأنه إذا علِمَ القاتل أنه يُقتل، انكفَّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز، وقال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يُقتَلَ"؛ [تفسير ابن كثير]. الوصية: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]، ثم إن الوصية تأتي في سياق الآيات بعد القصاص، اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبًا على أصحِّ القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدَّرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية، ولا تحمل مِنَّةَ الْمُوصي؛ ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: ((إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث))؛ [ابن كثير]. الصيام: وتبدأ آيات الصيام بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، والصيام كما جاء في الآية الكريمة كان مفروضًا على أهل الكتاب، على قول بعض المفسرين، وقال آخرون: إن قوله تعالى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183] تشمل كل الناس ممن كانوا من قبلنا في جميع الشرائع. فائدة: يلفتنا في آيات الصيام أمران: الأمر الأول: هو أنها يتخللها آية الدعاء: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، فالله معنا أينما كنا، وكيفما دعونا، قريب جل في علاه، فوري الاستجابة: إذا سألك عبادي عني - مباشرة تأتي بعدها - فإني قريب، لم يقل له: فقل لهم، بل تولَّى جل وعلا الإجابة بنفسه، رحمة تقشعر لها الأبدان، سبحانك يا ألله! ما أكرمك! وما أرحمك بعبادك! فإن كان هذا حال الله معنا في جميع أحوالنا، فكيف بنا ونحن صائمون؟ الأمر الثاني هو: أنها تُختَم بآية أكل الأموال بالباطل: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، وكأنه يقول لنا: إن الصيام يكون صيامًا عن كل المعاصي، ورأسها أكل أموال الناس بالباطل، ويذكرنا ربط الآيتين بقوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح ابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر))، وجاء في تفسير هذا الحديث على أنه محمول على من صام ولم يُخلِص النية، أو لم يتجنب قول الزور والكذب، والبهتان والغِيبة، ونحوها من المناهي؛ فيحصل له الجوع والعطش، ولا يحصل له الثواب، أو هو الذي يُفطِر على الحرام، ولا يحفظ جوارحه عن الآثام، (ورُبَّ قائم)، أي: متهجِّد بالصلاة في الليل، ليس له من قيامه إلا السهر؛ وذلك لسوء نيته، أو غصب منزل صلاته، وأكل أموال الناس بالباطل. الأهِلَّة: ثم تأتي آية الأهلة؛ لتربط سياق آيات الصيام، المرتبط برؤية الهلال، بآيات القتال في الأشهر الحرم - التي ستأتي لاحقًا – ومن ثَمَّ فريضة الحج، وعِدَّة الطلاق والوفاة في كثير من شؤون الحياة الاجتماعية تنظمها الأهلة، هذا التنظيم لا يمكن أن يحل محله لا تأريخ ميلادي ولا صيني، ولا رومي ولا لاتيني. ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189]. قال العوفي عن ابن عباس: "سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189]، يعلمون بها حِلَّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حَجِّهم، وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لِمَ خُلِقت الأهلة؟ فأنزل الله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 189] يقول: جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، وعدة نسائهم، ومحل دينهم، وكذا رُوِيَ عن عطاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، نحو ذلك، وقال عبدالرزاق، عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا)). وقوله: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189]، قال البخاري: حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: "كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوا البيت من ظهره، فأنزل الله: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189]". فائدة: أسلوب السؤال في القرآن الكريم: أول سؤال في سورة البقرة كان: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾ [البقرة: 189]؛ ليتبعه التساؤل عن أمور متعددة، يطرحها المؤمنون على الرسول الكريم، ويجيب عليها المشرع جل في علاه بآيات الأحكام: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 215]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ [البقرة: 219]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ [البقرة: 217]، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ [البقرة: 222]، وهذا إنما يدل على حِرْصِ المؤمنين على تعلُّم أساسيات دينهم الذي آمنوا به إيمانًا صادقًا، فأرادوا أن تكون حياتهم بتفاصيلها ضمن إطاره. والحمد لله رب العالمين. يتبع...
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات ودروس من سورة البقرة (10) وقفات مع قلب السورة -4- تابع معالم في سياق السورة تتمة المعلم العاشر تشريعات وأحكام وفرائض ميسون عبدالرحمن النحلاوي القتال والحج. فرض القتال، ومسألة القتال في المسجد الحرام: القتال في سورة البقرة جاء في عدة مواضع، لا كما هو الحال مع فريضتَي الصيام والحج، كل منهما ذكر في موضعه ولم يكرر. أول موضع نجده في قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 190 - 193]. يقول الشوكاني صاحب فتح القدير: "لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعًا قبل الهجرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ﴾ [المائدة: 13]، وقوله: ﴿ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، وقوله: ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 22] وقوله: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [المؤمنون: 96] ونحو ذلك مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال، ونزلت هذه الآية، وقيل: إن أول ما نزل قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ [الحج: 39]، فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه حتى نزل قوله تعالى في سورة براءة: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5]؛ انتهى الشوكاني. ويقول ابن كثير في قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾: أي: قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبدالعزيز، ومقاتل بن حيان، وغيرهم؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا أصحاب الصوامع"؛ رواه الإمام أحمد. ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبَّه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل؛ ولهذا قال: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾، قال أبو مالك: أي: ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. وقال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس في قوله: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ يقول: "الشرك أشد من القتل"؛ انتهى ابن كثير. مسألة القتال في الأشهر الحرم: قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 191]. اختلف أهل العلم في ذلك، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له، وهذا هو الحق. والكلام للشوكاني. وقالت طائفة: "إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها لم تحل لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار" وهو في الصحيح. وقد احتجَّ القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحلَّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم"؛ انتهى فتح القدير. ويسوق ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 191]، حديثه صلى الله عليه وسلم الذي ورد في الصحيحين: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلي خلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم". يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهلها يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخندمة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"؛ انتهى ابن كثير. الغاية من قتال المؤمنين للمشركين: ويوضح السياق الغاية من قتال المشركين بقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193] وفيه الأمر بمقاتلة المشركين لهدف واضح: ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ والفتنة هنا الكفر والشرك، كما يقول القرطبي في تفسيره: ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي: كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر. قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين. ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، فدلَّت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر". والله أعلم. ويرى الشوكاني: "هي ألَّا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله، قيل: المراد بالفتنة هنا الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف. الانفاق في الجهاد: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195] في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله، وهو الجهاد. الموضع الثاني نجده في الآيتين 216 – 217 قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 216، 217]. وهذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين، كما يقول ابن كثير، أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام. وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد، غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استُعين أن يعين، وإذا استُغيث أن يغيث، وإذا استُنفر أن ينفر، وإن لم يُحتَج إليه قعد. قلت: ولهذا ثبت في الصحيح "من مات ولم يغزُ، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية"، وقال عليه السلام يوم الفتح: "لا هجرة، ولكن جهاد ونية، إذا استنفرتم فانفروا". ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] وهذا عام في الأمور كلها، قد يحب المرء شيئًا، وليس له فيه خير ولا مصلحة. ومن ذلك القعود عن القتال، قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم"؛ تفسيرابن كثير. غاية الكفَّار من قتال المسلمين: "الردَّة": ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]. والآية هنا لها سبب نزول، وفيه روايتان: فعن ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وكانوا سبعة نفر، عليهم عبدالله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبدالله اليربوعي، حليف لعمر بن الخطاب. وكتب لابن جحش كتابًا، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل، فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة. فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإنني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار، فتخلَّف عنه سعد بن أبي وقاص، وعتبة، وأضلا راحلة لهما فأتيا بحران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، وعبدالله بن المغيرة. وانفلت ابن المغيرة، فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة وقتل عمرو، قتله واقد بن عبدالله، فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا المال، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى ننظر ما فعل صاحبانا" فلما رجع سعد وصاحبه، فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون، وقالوا: إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب. فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى وقيل: في أول رجب، وآخر ليلة من جمادى، وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب. فأنزل الله يعير أهل مكة: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله. الرواية الثانية عن ابن عباس: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام، فقال الله: ﴿ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]. وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عمرو بن الحضرمي، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب. وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم، وأخذوا ما كان معه. وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك. فقال الله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ وغير ذلك أكبر منه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ﴾ [البقرة: 217] إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والشرك أشد منه. فإذن غاية المشركين من قتال المؤمنين هي ردّهم عن دينهم: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]. ومصير المرتد: ﴿ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]. ومقابل من يرتد يقف من استجاب لله ورسوله فآمن وهاجر وجاهد ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218]. الموضع الثالث نجده في مقدمة قصة قتال بني إسرائيل، طالوت وجالوت، وبعد قصة الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 243 - 245]. وسنبسطها في موضعها إن شاء الله. نتابع مع الفرائض والأحكام: الحج وأحكامه: الفريضة الثالثة في سياق الفرائض في السورة: ويأتي سياق السورة بعد فرض القتال، وهو الجهاد في سبيل الله، على فرض الحج. والحج نوع من أنواع الجهاد، كما ورد في الحديث الشريف: روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أَفْضَلَ العَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: "لا، ولَكنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ". تمام الحج والعمرة والإحصار: يقول تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196]. أول ما يلفتنا في هذه الآية قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ... ﴾ إخلاص النية لله تعالى في الحج والعمرة لله وحده، أن نخرج للحج وليس في سريرتنا إلا الله ورضاه، وأداء فريضته، وتعظيم شعائره، أنقياء من كل رياء ومباهاة، وعجب وصيت وسمعه.. وما أكثر من يقع بهذا في زماننا! ألا لله الدين الخالص، اللهم أخلص نياتنا، وقنا من كل رياء وسمعة وعجب اللهم آمين. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "عن ابن عباس في قوله: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ يقول: من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمَّهما، تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حل. وقال قتادة، عن زرارة، عن ابن عباس أنه قال: الحج عرفة، والعمرة الطواف"؛ انتهى. ويقول السعدي في تفسيره: "يستدل بقوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ﴾ على أمور: أحدها: وجوب الحج والعمرة، وفرضيتهما. الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما، وواجباتهما، التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "خذوا عني مناسككم". الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة. الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما، ولو كانا نفلًا. الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما، وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما. السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى. السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما، إلا بما استثناه الله، وهو الحصر. الحصر أو الإحصار: قال تعالى: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾؛ أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما، الحج والعمرة، بمرض، أو ضلالة، أو عدو، ونحو ذلك من أنواع الحصر، الذي هو المنع ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾؛ أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي، وهو سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو شاة يذبحها المحصر، ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما صدَّهم المشركون عام الحديبية، فإن لم يجد الهَدْي، فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل. ثم قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ [البقرة: 196]، وهذا من محظورات الإحرام، إزالة الشعر، بحلق أو غيره؛ لأن المعنى واحد من الرأس، أو من البدن؛ لأن المقصود من ذلك، حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته، وهو موجود في بقية الشعر. وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر، تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر، حتى يبلغ الهدي محله، وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر، كما تدل عليه الآية. يتبع
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
هدي المتمتع والمقرن: ثم قال تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره، ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 196] بأن توصل بها إليه، وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: فعليه ما تيسَّر من الهدي، وهو ما يجزئ في أضحية، وهذا دم نسك، مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة، ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة، وقبل الشروع في الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له. ويدل مفهوم الآية على أن المفرد للحج، ليس عليه هدي، ودلت الآية على جوازه، بل فضيلة المتعة وعلى جواز فعلها في أشهر الحج. حكم من لم يجد الهدي: "﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: الهدي أو ثمنه ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 196] أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة، وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر، أيام رمي الجمار، والمبيت بـ "منى" ولكن الأفضل منها، أن يصوم السابع، والثامن، والتاسع، ﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: فرغتم من أعمال الحج، فيجوز فعلها في مكة، وفي الطريق، وعند وصوله إلى أهله. ﴿ ذَلِكَ ﴾ المذكور من وجوب الهدي على المتمتع ﴿ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 196] بأن كان عند مسافة قصر فأكثر، أو بعيدًا عنه عرفات، فهذا الذي يجب عليه الهدي؛ لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام، فليس عليه هدي؛ لعدم الموجب لذلك. ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: في جميع أموركم، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومن ذلك امتثالكم لهذه المأمورات، واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: لمن عصاه، وهذا هو الموجب للتقوى، فإن من خاف عقاب الله، انكفَّ عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب، ولم يرج الثواب، اقتحم المحارم، وتجرأ على ترك الواجبات"؛ تفسير السعدي. وقت الحج: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 197 - 199]. ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ عن ابن عباس، أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾، وهذه الأشهر هي شوال وذو القعدة وذو الحجة. جاء في تفسير ابن كثير: "قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت عبدالله بن عمر يسمي شهور الحج؟ قال: نعم، كان عبدالله يسمي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. قال ابن جرير: إنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، كما قال محمد بن سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج. وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج، فقال: كانوا لا يرونها تامة. قلت: وقد ثبت عن عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، والله أعلم. آداب الحج: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾. ﴿ فَلَا رَفَثَ ﴾، الرَّفَث: الجِماع، وما دونه من قول الفحش، قاله عطاء بن أبي رباح. ﴿ وَلَا فُسُوقَ ﴾: عن ابن عباس: هي المعاصي. ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾: عن مجاهد: لا شهر ينسأ، ولا جدال في الحج، قد تبين. وقال الثوري، عن مجاهد في قوله: ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾: قال: قد استقام الحج، فلا جدال فيه. وكذا قال السدي. وقال هشيم: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾: قال: المراء في الحج. عن عبدالله هو ابن مسعود ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾: قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وعن ابن عباس قال الجدال: المراء والملاحاة، حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك. زاد التقوى ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ قال العوفي، عن ابن عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا، فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس. قال عطاء الخراساني: ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ يعني: زاد الآخرة. الاستفادة الدنيوية من موسم الحج: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]. عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة، وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198] في مواسم الحج. وعنه قال في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. الإفاضة من عرفات: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198]. والحج هو الوقوف بعرفة، فمن لم يقف بعرفة فلا حج له ولو أدى كل الشعائر الأخرى. عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحج عرفات - ثلاثًا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة، فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخَّر فلا إثم عليه". والمشعر الحرام هو مزدلفة، قال عمرو بن ميمون: سألت عبدالله بن عمرو عن المشعر الحرام، فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام. وقال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا محمد بن حازم، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها ثم يفيض منها. الإفاضة من مزدلفة مشفوعة بالاستغفار: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]. روى البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة ها هنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى مِنى لرمي الجمار. فالله أعلم. وقوله: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ كثيرًا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثًا". وفي الصحيحين "أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير، ثلاثًا وثلاثين، ثلاثًا وثلاثين"؛ ابن كثير. ذكر الله والدعاء بعد قضاء المناسك: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 200 - 202]. "قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾. ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه، وهو معرض عن أُخْراه، فقال: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾؛ أي: من نصيبٍ ولا حَظٍّ. وتضمن هذا الذم التنفير عن التشبه بمن هو كذلك. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن. لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾، فأنزل الله: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ ولهذا مدح من يسأله للدنيا والأخرى. وقال القاسم بن عبدالرحمن: من أعطي قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وجسدًا صابرًا، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار؛ ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء، فقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبدالعزيز، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". والحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي؛ من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة"؛ تفسير ابن كثير. الأيام المعدودات: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]. قال ابن عباس: "الأيام المعدودات" أيام التشريق، و"الأيام المعلومات" أيام العشر. وقال عكرمة: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ يعني: التكبير أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر. روى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله". وفي حديث جبير بن مطعم: "عرفة كلها موقف، وأيام التشريق كلها ذبح". وتقدم أيضًا حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي "وأيام مِنى ثلاثة، فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخَّر فلا إثم عليه". وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب". وقال مقسم عن ابن عباس: "الأيام المعدودات: أيام التشريق، أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، وروي عن ابن عمر، وابن الزبير، وأبي موسى، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير مثله"؛ انتهى ابن كثير. التعجُّل والتأخُّر: ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]. ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾؛ أي: خرج من "مِنى" ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني ﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ ﴾ بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد ﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، وهذا تخفيف من الله تعالى على عباده، في إباحة كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين، فالمتأخِّر أفضل؛ لأنه أكثر عبادة، ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره، والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم، والمتأخر فقط قيده بقوله: ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾؛ أي: اتقى الله في جميع أموره، وأحوال الحج، فمن اتقى الله في كل شيء، حصل له نفي الحرج في كل شيء،﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه وجد جزاء التقوى عنده، ومن لم يتقه عاقبه أشد العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله؛ فلهذا حَثَّ تعالى على العلم بذلك"؛ تفسير السعدي. فائدة. اللافت في سياق التشريعات والأحكام والفرائض أننا نجد أنها بمجملها مشدودةبعضها إلى بعض برباط "التقوى". ففي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]. وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوى كذلك: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180]. وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى أيضًا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في المساجد في نهاية الحديث عن أحكام الصوم: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]. في آية الأهلة ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189]. في آيات القتال: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]. في الحج: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ...وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196] ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]؛ ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]. والحمد لله رب العالمين. يتبع.
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات ودروس من سورة البقرة (11) وقفات مع قلب السورة -5- تابع معالم في سياق السورة ميسون عبدالرحمن النحلاوي المعلم الحادي عشر: نموذج المنافق والمؤمن: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 204 - 207]. أولًا: نموذج المنافق: نموذج المنافق الذي يعرضه سياق السورة يطال كل منافق اتصف بالصفات التي وصفه بها الله جل في علاه، وإن كان سبب نزول الآيات في الأخنس بن شريق الثقفي حسب ما ورد في كتب التفسير. صفات هذا النموذج كما وصفه الله جل في علاه: 1- ظاهره لا يتوافق مع باطنه، يظهر الخير ويبطن الشر: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: 204]. قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك. وعن ابن عباس: أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 207]. وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم. وهذا قول قتادة، ومجاهد، والربيع بن أنس، وغير واحد، وهو الصحيح"؛ ابن كثير. وقال البغوي في تفسيره: " قال الكلبي ومقاتل وعطاء: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، واسمه أبي وسمي الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلًا حلو الكلام حلو المنظر، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ويقول: إني لأحبك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [البقرة: 204]؛ أي: تستحسنه ويعظم في قلبك، ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ [البقرة: 204]؛ يعني: قول المنافق، والله إني بك مؤمن، ولك محب، ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: 204]. 2- من صفاته أنه ألد الخصام: ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ [البقرة: 204]، قال الحسن: ﴿ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾؛ أي: كاذب القول، قال قتادة: شديد القسوة في المعصية، جدل بالباطل، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدُّ الخصم"؛ "تفسير البغوي". 3- همته الإفساد في الأرض: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205]؛ أي: هو أعوج المقال، سيئ الفعال، فذلك قوله، وهذا فعله: كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة. وهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو: محل نماء الزروع والثمار والنسل، وهو: نتاج الحيوانات الذين لا قوام للناس إلا بهما؛ ابن كثير. 4- الكبر صفة ملازمة للمنافق، لا يعترف بخطأ، بل يرى أنه فوق كل خطيئة: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 206]؛ أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق؛ امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم؛ أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام"؛ ابن كثير. قال عبدالله بن مسعود: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد: اتقِ الله، فيقول: عليك نفسَك. ثانيًا: نموذج المؤمن: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]. ورد في التفاسير أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، لكنَّ الأكثرين حملوا ذلك على كل مجاهد في سبيل الله، فهو إذن نموذج عام، يطال كل مؤمن باع نفسه لله، فكانت حياته كلها جهادًا في سبيله. قال ابن عباس، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وعكرمة، وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر، فعل. فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقَّاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة. فقالوا: "ربح البيع"، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب". وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]؛ تفسير ابن كثير. المعلم الثاني عشر: الإسلام هو دين البشرية بكافة تشريعاته: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 208 - 210]. نزلت هذه الآية -كما أخرج ابن جرير عن عكرمة- "في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم؛ كعبدالله بن سلام، وثعلبة وأسد بن عبيد، وطائفة، استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يسبتوا، وأن يقوموا بالتوراة ليلًا، فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها". وفي ذكر عبدالله بن سلام مع هؤلاء نظر؛ إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه، والتعويض عنه بأعياد الإسلام. وعن ابن عباس: "﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]، يعني: مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾، يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تدعوا منها شيئًا، وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها. ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [البقرة: 209]؛ أي: عدلتم عن الحق، وتنحيتم عن طريق الاستقامة، وزدتم وحذفتم من شرع الله، وحكمتم بالهوى من بعد ما جاءتكم شريعة الله واضحة بينة، وقامت عليكم الحجة، فاعلموا أن الله عزيز في انتقامه، لا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب، حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. وقال محمد بن إسحاق: العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده"؛ ابن كثير. ويقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: "لما ذكر الله سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، أمرهم بعد ذلك بالكون على ملة واحدة. وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون بنبيهم وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه. والسَّلَم بفتح السين وكسرها، قال الكسائي: ومعناهما واحد، وكذا عند البصريين، وهما جميعًا يقعان للإسلام والمسالمة. وقد حكى البصريون في سِلْم وسَلْم وسَلَم أنها بمعنًى واحد، وكافةً حال من السلم أو من ضمير المؤمنين، فمعناه على الأول: لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني: لا يخرج من أنواع السلم شيء؛ بل ادخلوا فيها جميعًا: أي في خصال الإسلام، وهو مشتق من قولهم كففت: أي منعت؛ أي: لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكفُّ: المنع، والمراد به هنا الجميع، ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]؛ أي: جميعًا. وقوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [البقرة: 208]؛ أي: لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليه الشيطان"؛ انتهى الشوكاني. وهل ينتظر هؤلاء المتبعون لخطوات الشيطان المائلون عن صراط الحق، إلا أن تقع بهم أهوال يوم القيامة؟ يوم ﴿ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210]؟! اللهم أجرنا من أهوال ذلك اليوم واحشرنا مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا. ولا شك أن الإحالة إلى بني إسرائيل بعد آية الدخول في السلم كافة لها دلالاتها. يقول تعالى: ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 211، 212]. فبعد أن أمر الله الناس أن يدخلوا في الإسلام بكل شرائعه وقوانينه، وأنذرهم يوم تقوم الساعة وهم غافلون حين يأتي الله في ظلل من الغمام والملائكة، توجه بالخطاب إلى نبيه أن يسأل بني إسرائيل عمَّا كان من أمرهم مع ربهم عندما بدَّلوا إيمانهم كفرًا. فبالرغم من كل الآيات التي أنزلت إليهم، على عظمها وإعجازها، إلا أنها لم تُجْدِ معهم نفعًا، قلوب صماء والعياذ بالله، أبت إلا أن تُغيِّر نعمة الله التي أنعم بها عليهم - شريعة الله – بالكفر، فكان عقاب الله متربصًا بهم، وهذا حال من يفعل فعلهم. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل: كم قد شاهدوا مع موسى ﴿ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾ [البقرة: 211]؛ أي: حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به، كيده وعصاه وفلقه البحر وضربه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المَنِّ والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالَّات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبدَّلوا نعمة الله كفرًا؛ أي: استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها، والإعراض عنها، ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 211]؛ انتهى. ويقول القرطبي في قوله تعالى: "﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 211] أنه لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل، لكونهم بدلوا ما في كتبهم، وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فالجحود منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى. وقال الطبري: النعمة هنا الإسلام، وهذا قريب من الأول. ويدخل في اللفظ أيضًا كفار قريش، فإن بَعْثَ محمد صلى الله عليه وسلم فيهم نعمة عليهم، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرًا"؛ انتهى. والله أعلم. وسبب كل كفر، وكل حياد عن شرع الله الركون إلى الحياة الدنيا وزينتها، وتفضيل الزائل على الدائم. ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 212]. والذين كفروا بنعمة الله التي أنزلت عليهم يتمادون في كفرهم؛ لأنهم يرفلون بنعيم الدنيا ولا يدرون أنها "زينت لهم"، ويتمادون في سخريتهم من المؤمنين واستضعافهم والاستخفاف بهم، وما دروا أن ميزان الأرض يختلف عن ميزان السماء، فينظرون بمقياس الأرض، مقياس المادة، ويغفلون عن الآخرة، الغيب الذي كلمنا الله عز وجل عنه، بجنتها ونارها. أما المؤمنون فيؤمنون بغيب الله وما ادَّخَره لعباده في الآخرة دار الخلد، فيقيسون بمقياس السماء، وهم بهذا حازوا الدرجات العلا في الآخرة ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 212]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم، ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 212]؛ أي: يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاءً كثيرًا جزيلًا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة"؛ انتهى ابن كثير. اللهم ارزقنا إيمانًا يدخلنا الجنة دون حساب ولا عذاب. المعلم الثالث عشر: اجتماع البشرية على دين التوحيد من لدن آدم عليه السلام، قبل تفرقهم في أودية الضلال، وبعث الله النبيين لهم مبشرين ومنذرين: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213]. وفي هذه الآية تذكير بأن هذه الرسالة إنما هي حلقة في مسيرة الرسالات والأنبياء الذين بعثهم الله للبشرية هداة مبشرين ومنذرين بعد أن وقع الاختلاف في بني آدم، وتوضح الآية سبب هذا الاختلاف ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]. وقد سبق بسط المسألة في السمات المميزة لسورة البقرة، تحت عنوان: "تقعيد مسألة دين التوحيد على أنه هو الدين الذي تأسست عليه البشرية قبل الاختلاف". المعلم الرابع عشر: أحكام وشرائع في تنظيم المجتمع المسلم: كان المسلمون حريصين على تنظيم حياتهم وفقًا لما يحكم به شرع الله الذي جاءهم به نبي الرحمة، فكانوا يسألونه عن كل ما يعرض لهم من أمور يجدون في أنفسهم منها شيئًا، فالخمر والميسر على سبيل المثال كانا شائعين في مجتمع الجاهلية الذي أتوا منه، لكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أنهما أمران خبيثان، وبعد أن أشرق في قلوبهم نور الإسلام شرعوا بالتحري عن حكم قطعي لما يريبهم، كما كان من أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤاله عن حكم الخمر. وقد بينا سابقًا عند وقوفنا عند آية الأهِلَّة ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾ [البقرة: 189] وعن القتال في الشهر الحرام ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ [البقرة: 217]، بينا مدلولات هذا الأسلوب الحواري في القرآن الكريم، ولا بأس من إعادة إدراجه هنا: من أقوى مدلولات هذا الأسلوب الحواري في القرآن الكريم: 1- الحس الفطري الإيماني المتيقظ لدى المؤمنين الذين يستشعرون من خلاله الأمور القلقة التي كانوا عليها في الجاهلية، ويريدون التثبت من حلها أو حرمتها، يريدون التيقُّن من ضوابط حياتهم بكل محاورها من منظور أوامرالله ونواهيه:﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾[البقرة: 215]،﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾[البقرة: 219]،﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾[البقرة: 217]،﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾[البقرة: 222]. 2- أن العلاقة بين المؤمن والتشريع ليست علاقة إلغاء للعقل في الأمور التي تتناول أمور حياته، بل هي علاقة تفاعل... طبعًا هنا لا نتكلم عن الأمور الغيبية التي لا تخضع للسؤال والجواب، ومنها الروح، على سبيل المثال، التي قال فيها تعالى:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]. 1- الحكم الأولي في الخمر والميسر: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]. هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر، ولم تكن مصرحة بل معرضة؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه، لما قرئت عليه: "اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا". يقول ابن كثير في تفسيره: "قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في النساء: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت آيتا المائدة: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]، فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ قال عمر: انتهينا، انتهينا"؛ ابن كثير. 2- الحكم في نفقة التطوع: كان السؤال الأول في نفقة التطوع، في وجوهها: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]. "قال مقاتل بن حيان: هذه الآية في نفقة التطوع. وقال السدي: نسختها الزكاة"؛ ابن كثير. "قال السدي: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة. وقال ابن جريج وغيره: "هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهي مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبوَيْه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك. قال مالك: ليس عليه أن يزوِّج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه"؛ القرطبي. أما السؤال الثاني فكان في مقدارها: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]. جاء في تفسير ابن كثير: "حدثنا يحيى أنه بلغه: أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، إن لنا أرقاء وأهلين، فما ننفق من أموالنا، فأنزل الله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 219]. وقال الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [البقرة: 219] قال: ما يفضل عن أهلك. وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، وغير واحد: أنهم قالوا في قوله: ﴿ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ يعني الفضل. وقد رواه مسلم في صحيحه، وأخرج مسلم أيضًا عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصَدَّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا"، ثم قد قيل: إنها منسوخة بآية الزكاة، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس، وقاله عطاء الخراساني والسدي، وقيل: مبينة بآية الزكاة، قاله مجاهد وغيره، وهو أوجه"؛ ابن كثير. ويقول القرطبي في قوله تعالى: "﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ﴾ [البقرة: 219] في أمر الدنيا والآخرة، قال المفضل بن سلمة: أي في أمر النفقة ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219] في الدنيا والآخرة، فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها"؛ انتهى القرطبي. 3- في اليتامى: حكم مخالطة أموال اليتيم: ثم يأتي السؤال عن اليتامى مباشرة بعد السؤال عن الخمر والميسر والإنفاق، والسياق متصل من حيث الموضوع؛ لأنه اقترن بذكر الأموال، والأمر هنا بحفظ أموال اليتامى. وقيل: إن السائل عبدالله بن رواحة. وقيل: كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم، فنزلت هذه الآية. ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة:219- 220]. قال ابن عباس قال: لما نزلت في سورة الإسراء: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعام: 152]، وفي سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ [البقرة: 220]، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم"؛ ابن كثير. 4- حكم نكاح المشركين والمشركات: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 221]. • يقول ابن كثير: "هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مرادًا، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ [المائدة: 5]. • "واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: حرم الله نكاح المشركات في سورة "البقرة" ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة "المائدة"، وروي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي. وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية "المائدة" ولم يتناول العموم قط الكتابيات. وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية "المائدة" بعض العموم، وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحَلَّه الله تعالى مستثقل مذموم. وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في "البقرة" هي الناسخة، والتي في "المائدة" هي المنسوخة، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية، قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان، قال: حدثنا محمد بن رمح، قال: حدثنا الليث عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئًا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!"؛ تفسير القرطبي. • "وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 105]، وقال: ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ﴾ [البينة: 1]، ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وأيضًا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [المائدة: 5] بعد قوله: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [المائدة: 5] نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل"؛ القرطبي. هذا والله أعلم. إلا أن الناظر في أحوال الماضي والحاضر، يجد أن الزواج ممن يصنفون كتابيات كانت نتائجه غير محمودة، بل يمكن تصنيفها بأنها مدمرة، سواء على مستوى الحكم في عصور الإسلام، أو على مستوى المجتمع، أو على مستوى الأسرة في عصرنا الحالي، وليست قصص تفكُّك الأسرة وتشرُّد الأولاد وانقسامهم في الديانة بين الأم والأب بقليلة. والله المستعان. 5- أحكام المحيض: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]. قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾ [البقرة: 222] حتى فرغ من الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه! فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود قالت كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما؛ رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة. قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن. وفي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرَّق العَرق وأنا حائض، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب. وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن جابر بن صبح، سمعت خلاسًا الهجري قال: سمعت عائشة تقول: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد، وإني حائض طامث، فإن أصابه مني شيء، غسل مكانه لم يَعْدُه، وإن أصاب- يعني ثوبه- شيء غسل مكانه لم يَعْدُه، وصلى فيه"؛ ابن كثير. ثم تأتي آيات الأيمان بين آيات المحيض وآيات الطلاق والعلاقة بينهما جلية،﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة:224- 225]. • ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ﴾ قال العلماء: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة، قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعلُّلًا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا، قال معناه ابن عباس والنخعي ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير: "هو الرجل يحلف ألا يبرَّ ولا يصل ولا يصلح بين الناس، فيقال له: بر، فيقول: قد حلفت، والمعنى: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدة في الامتناع من البر. • ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ اختلف العلماء في اليمين التي هي لغو، فقال ابن عباس: "هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين"، قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها، وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "أيمان اللغو ما كانت في المراء والهَزْل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب"، وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ في قول الرجل: لا والله، وبلى والله". وقيل: اللغو ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه، قاله مالك، حكاه ابن القاسم عنه، وقال به جماعة من السلف. قال أبو هريرة: "إذا حلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة"، ونحوه عن ابن عباس. وحكى ابن عبدالبر قولًا: إن اللغو أيمان المكره. قال ابن العربي: أما اليمين"؛ القرطبي. • ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب. قال مجاهد وغيره: وهي كقوله: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾ [المائدة: 89]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. نتابع في الحلقة القادمة مع أحكام الطلاق إن شاء الله.
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات ودروس من سورة البقرة (12) وقفات مع قلب السورة -6- تابع معالم في سياق السورة أحكام الطلاق ميسون عبدالرحمن النحلاوي أحكام الطلاق: لم تُذكَر أحكام الطلاق في سورة من القرآن الكريم كما ذُكرت في سورة البقرة من حيث الشمول والتفصيل. تبدأ آيات الطلاق مع الآية 226، وتنتهي مع الآية 241، يتخللها أحكام الرَّضاع، وعِدَّة المتوفَّى عنها زوجُها، وصلاة الخوف، في ترابط وتنسيق معجز، سبحان منزل الكتاب! وسنورد بَسْطَ الأحكام من تفسيري القرطبي، وابن كثير. 1- ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226، 227]. عن سعيد بن المسيب في قوله: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ﴾: يحلفون، والتربُّص: النظر والتوقُّف. قال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألَّا يَطَأَ أكثر من أربعة أشهر، فإن حلَف على أربعة فما دونها لا يكون مُوليًا، وكانت عندهم يمينًا محضًا، لو وَطِئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأَيْمانِ؛ هذا قول مالك والشافعي، وأحمد وأبي ثور. واحتجَّ مالك والشافعي فقالا: جعل الله للمُولي أربعةَ أشهر، فهي له بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجَّل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلا بعد تمام الأجل. واختلف العلماء في الإيلاء في غير حال الغضب؛ فقال ابن عباس: لا إيلاء إلا بغضب، ورُوِيَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المشهور عنه، وقاله الليث والشعبي، والحسن وعطاء، كلهم يقولون: الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة ومشادَّة، وحرجة ومناكدة، ألَّا يجامعها في فَرْجِها إضرارًا بها، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاحُ ولدٍ أم لم يكن، فإن لم يكن عن غضب، فليس بإيلاء. ﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 227] العزيمة: تتميم العقد على الشيء. قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: للذين يُؤلون من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم، وتقديرها عندهم: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فيها فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها، فإن الله سميع عليم. 2- ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228]. ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]؛ قال القرطبي في تفسيره: لما ذكر الله تعالى الإيلاء، وأن الطلاق قد يقع فيه، بيَّن تعالى حكم المرأة بعد التطليق؛ ورد في كتاب أبي داود والنسائي، عن ابن عباس قال في قول الله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]؛ الآية: وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته، فهو أحقُّ بها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك وقال: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [البقرة: 229]؛ الآية، والمطلقات لفظ عموم، والمراد به الخصوص في المدخول بهن، وخرجت المطلَّقة قبل البناء بآية الأحزاب: ﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ [الأحزاب: 49] على ما يأتي، وكذلك الحامل بقوله: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، والمقصود من الأقراء: الاستبراء، بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة. ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [البقرة: 228] فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: من الحيض؛ قاله عكرمة والزهري والنخعي، وقيل: الحمل؛ قاله عمر وابن عباس، وقال مجاهد: الحيض والحمل معًا، وهذا على أن الحامل تحيض، والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العِدَّة على الحيض والأطهار، ولا اطلاع إلا من جهة النساء، جعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء العِدَّة أو عدمها، وجعلهن مؤتمنات على ذلك؛ وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ [البقرة: 228]. ومعنى النهي عن الكتمان: النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة: حِضْتُ، وهي لم تَحِضْ، ذهبت بحقِّه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أحِضْ، وهي قد حاضت، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرَّت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض ألَّا ترتجع، حتى تنقضي العِدَّة، ويقطع الشرع حقَّه، وكذلك الحامل تكتم الحمل؛ لتقطع حقه من الارتجاع؛ قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحملَ؛ ليُلحِقْنَ الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية. ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: بمراجعتهن، فالمراجعة على ضربين: مراجعة في العِدَّة على حديث ابن عمر، ومراجعة بعد العِدَّة على حديث معقل، وإذا كان هذا، فيكون في الآية دليلٌ على تخصيص ما شمله العموم في المسميات؛ لأن قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228] عامٌّ في المطلقات ثلاثًا، وفيما دونها لا خلاف فيه، ثم قوله: ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ ﴾ [البقرة: 228] حكمٌ خاصٌّ فيمن كان طلاقها دون الثلاث، وأجمع العلماء على أن الحُرَّ إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولًا بها تطليقةً أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها ما لم تنقُض عِدَّتَها وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلِّق حتى انقضت عدتها، فهي أحقُّ بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مُستأنَف بوليٍّ وإشهاد، ليس على سُنَّة المراجعة، وهذا إجماع من العلماء. الرجل مندوب إلى المراجعة، ولكن إذا قصد الإصلاح بإصلاح حاله معها، وإزالة الوحشة بينهما، فأما إذا قصد الإضرار، وتطويل العِدَّة، والقطع بها عن الخلاص من رِبْقَةِ النكاح، فمُحرَّم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231]، ثم من فَعَلَ ذلك فالرجعة صحيحة، وإن ارتكب النهيَ وظلم نفسه، ولو علمنا نحن ذلك المقصد، طلقنا عليه؛ قوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]. ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزيَّن لامرأتي كما تتزيَّن لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها عليَّ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]؛ أي: زينة من غير مأثم، وعنه أيضًا: أي: لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن، وقيل: إن لهن على أزواجهن تَرْكَ مضارتهن، كما كان ذلك عليهن لأزواجهن؛ قاله الطبري، وقال ابن زيد: تتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتَّقِينَ الله عز وجل فيكم، والمعنى متقارب، والآية تعُمُّ جميع ذلك من حقوق الزوجية؛ [انتهى القرطبي]. ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228]؛ قال البغوي في تفسيره: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228]؛ قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال، وقال قتادة: بالجهاد، وقيل: بالعقل، وقيل: بالشهادة، وقيل: بالميراث، وقيل: بالدِّيَة، وقيل: بالطلاق؛ لأن الطلاق بيد الرجال، وقيل: بالرجعة، وقال سفيان وزيد بن أسلم: بالإمارة؛ [انتهى]. وقال القرطبي: وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه، ولا تحج إلا معه، وقيل: الدرجة الصَّداق؛ قاله الشعبي، وقيل: جواز الأدب، وعلى الجملة فـ﴿ دَرَجَةٌ ﴾ تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حقَّ الزوج عليها أوجب من حقها عليه؛ ولهذا قال عليه السلام: ((ولو أمرت أحدًا بالسجود لغير الله، لَأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها))، وقال ابن عباس: الدرجة إشارة إلى حضِّ الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخُلُق؛ أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه؛ قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارٌّ؛ [انتهى]. ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾ [البقرة: 228] أي: منيع السلطان لا معترض عليه، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228] أي: عالِم مُصيب فيما يفعل. 3- ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]. قوله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [البقرة: 229]؛ قال القرطبي: ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عددٌ، وكانت عندهم العِدَّة معلومة مقدَّرة، وكان هذا في أول الإسلام بُرهة، يطلِّق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحِلُّ من طلاقه، راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا آويك ولا أدَعك تحِلِّين، قالت: وكيف؟ قال: أُطلِّقك، فإذا دنا مُضِيُّ عِدَّتك، راجعتك، فشَكَت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ بيانًا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهرٍ ووليٍّ، ونسخ ما كانوا عليه. وقال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسُنَّة الطلاق؛ أي من طلَّق اثنتين، فلْيَتَّقِ الله في الثالثة، فإما تَرَكَها غير مظلومة شيئًا من حقها، وإما أمسكها مُحسنًا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين. ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [البقرة: 229] ابتداء، والخبر أمْثَلُ أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء محذوف؛ أي: فعليكم إمساك بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يُعرَف أنه الحق، ويجوز في غير القرآن: فإمساكًا على المصدر، ومعنى ﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾ أي: لا يظلمها شيئًا من حقها، ولا يتعدى في قول، والإمساك: خلاف الإطلاق، والتسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر، ليخلص البعض من البعض، وسرح الماشية: أرسلها، والتسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما: تركها حتى تتم العِدَّة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها، وهذا قول السدي والضحاك، والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيُسرِّحها؛ هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما. ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]، والآية خطاب للأزواج، وخصَّ بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم؛ لأن العُرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صَداقًا وجهازًا، فلذلك خُصَّ بالذكر. ﴿ إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 229]، حرَّم الله تعالى في هذه الآية ألَّا يأخذ إلا بعد الخوف ألَّا يقيما حدود الله، وأكَّد التحريم بالوعيد لمن تعدَّى الحدَّ، والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألَّا يقيم حق النكاح لصاحبه حسب ما يجب عليه فيه لكراهةٍ يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ، والخطاب للزوجين. روى البخاريُّ من حديث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ((أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خُلُقٍ ولا دين، ولكن لا أطيقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترُدِّين عليه حديقته؟ قالت: نعم))، وأخرجه ابن ماجه عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ((أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أعِيبُ على ثابتٍ في دين ولا خُلُق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضًا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد))، فيُقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشدَّ الحب، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام. واختلف العلماء في الخلع، هل هو طلاق أو فسخ؟ فرُوِيَ عن عثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من التابعين: هو طلاق، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في أحد قوليه، ومن جعل الخلع طلاقًا، قال: لم يَجُز أن يرتجعها حتى تنكح زوجًا غيره؛ لأنه بالخلع كملت الثلاث، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، والكلام للقرطبي. عدة الْمُخْتَلِعة: عن ابن عمر قال: عِدَّة المختلعة عدة المطلقة، قال أبو داود: والعمل عندنا على هذا، قلت (والكلام للقرطبي): وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وإسحاق، والثوري وأهل الكوفة، قال الترمذي: وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229] لما بيَّن تعالى أحكام النكاح والفراق، قال: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 229] التي أمرتُ بامتثالها، كما بيَّن تحريمات الصوم في آية أخرى فقال: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187]، فقسم الحدود قسمين؛ منها حدود الأمر بالامتثال، وحدود النهي بالاجتناب، ثم أخبر تعالى فقال: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229]؛ [انتهى، القرطبي]. 4- ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 230]. فإذا طلق الرجل امرأته طلقةً ثالثةً بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرُم عليه حتى تنكح زوجًا غيره؛ أي: حتى يَطَأَها زوج آخر في نكاح صحيح، فلو وَطِئها واطِئٌ في غير نكاح، ولو في ملك اليمين لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت، ولكن لم يدخل بها الزوج، لم تحل للأول. وقد روى أحمد والنسائي عن ابن عمر قال: ((سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا، فيتزوجها آخر، فيغلق الباب ويرخي الستر، ثم يطلقها، قبل أن يدخل بها: هل تحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق العسيلة))، حديث آخر: قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن رجل كانت تحته امرأة، فطلَّقها ثلاثًا، فتزوجت بعده رجلًا فطلَّقها قبل أن يدخل بها: أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها، وذاقت من عسيلته)). التَّيس المستعار: فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلِّل الذي وردت الأحاديث بذمِّه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد، بطل النكاح عند جمهور الأئمة؛ قال الإمام أحمد عن عبدالله قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومُوكله))؛ [رواه أحمد، والترمذي، والنسائي من غير وجه، عن سفيان، وهو الثوري، عن أبي قيس واسمه عبدالرحمن بن ثروان الأودي، عن هزيل بن شرحبيل الأودي، عن عبدالله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح]. ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 230]؛ أي: شرائعه وأحكامه ﴿ يُبَيِّنُهَا ﴾ [البقرة: 230]؛ أي: يوضحها، ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 230]؛ [تفسير ابن كثير]. 5- ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231]. يقول ابن كثير: هذا أمرٌ من الله عز وجل للرجال إذا طلَّق أحدهم المرأة طلاقًا له عليها فيه رجعة، أن يُحسن في أمرها إذا انْقَضَتْ عِدَّتُها، ولم يبقَ منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها؛ أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف؛ وهو أن يُشهِد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرِّحها؛ أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويُخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح. ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231]؛ قال ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يُطلِّق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العِدَّة راجعها ضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلِّقها فتعتدُّ، فإذا شارفت على انقضاء العِدَّة، طلَّق لتطول عليها العِدَّة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعَّدهم عليه؛ فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: بمخالفته أمر الله تعالى؛ عن عبادة بن الصامت، في قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾ [البقرة: 231] قال: كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل: زوجتك ابنتي، ثم يقول: كنتُ لاعبًا، ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا، فأنزل الله: ﴿ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾ [البقرة: 231]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعب، فهن جائزات عليه: الطلاق، والعتاق، والنكاح)). ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: في إرساله الرسولَ بالهدى والبينات إليكم، ﴿ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: السُّنَّة، ﴿ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: يأمركم وينهاكم، ويتوعدكم على ارتكاب المحارم، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 231] أي: فيما تأتون وفيما تذرون، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231]؛ أي: فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية، وسيجازيكم على ذلك. يتبع
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
6- ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 232]. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلِّق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها، وكذا روى العوفي عنه، وكذا قال مسروق، وإبراهيم النخعي، والزهري والضحاك: إنها أُنزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تُزوِّج نفسها، وأنه لا بد في تزويجها من وليٍّ. وقد رُوِيَ أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته؛ فقال البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبيدالله بن سعيد، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تُخطب إليَّ، قال البخاري: وقال إبراهيم، عن يونس، عن الحسن: حدثني معقل بن يسار، وحدثنا أبو معمر، حدثنا عبدالوارث، حدثنا يونس، عن الحسن: أن أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها، فأبى معقل، فنزلت: ﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾ [البقرة: 232]؛ [ابن كثير]. أحكام الرضاع: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233]. يقول ابن كثير: هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات: أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك؛ ولهذا قال: ﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233]، وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرُم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما، لم يحرم. والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين مرويٌّ عن علي، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأم سلمة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والجمهور، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري. ﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 233]: وعلى والد الطفل نفقةُ الوالدات وكسوتهن بالمعروف؛ أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يَسارِهِ وتوسُّطه وإقتاره؛ قال الضحاك: إذا طلق الرجل زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف. ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: لا تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، لكن ليس لها دفعه إذا ولدته، حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا، ثم بعد هذا، لها رفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه، فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها؛ قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك، والزهري، والسدي، والثوري، وابن زيد، وغيرهم، هذا قول ابن كثير. ويقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في المشهور عنه: "تُضارَّ" بفتح الراء المشددة على النهي، وأصله: "لا تُضارِر"، أو "لا تضارَر" على البناء للفاعل أو للمفعول؛ أي: لا تضارِر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة، أو بأن تفرِّط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه، أو لا تضارَر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه، أو ينتزع ولدها منها بلا سبب، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين، وقرأ عمر بن الخطاب: "لا تضارَر" على الأصل بفتح الراء الأولى، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "لا تضارْ" بإسكان الراء وتخفيفها، ورُوِيَ عنه الإسكان والتشديد، وقرأ الحسن وابن عباس: "لا تضارِر" بكسر الراء الأولى، ويجوز أن تكون الباء في قوله: ﴿ بِوَلَدِهِ ﴾ صلةً لقوله: ﴿ تُضَارَّ ﴾ على أنه بمعنى تضر؛ أي: لا تضر والدةٌ بولدها، فتُسيء تربيته، أو تقصِّر في غذائه، وأُضيف الولد تارةً إلى الأب، وتارةً إلى الأم؛ لأن كل واحد منهما يستحق أن يُنسَب إليه، مع ما في ذلك من الاستعطاف، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها؛ أي: لا يكلِّف كل واحد منهما الآخرَ ما لا يُطيقه، فلا تضاره بسبب ولده؛ [انتهى، الشوكاني]. ﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 233]: قيل: في عدم الضِّرار لقريبه؛ قاله مجاهد، والشعبي، والضحاك، وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها؛ وهو قول الجمهور. ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيُؤخذ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبدَّ بذلك من غير مشاورة الآخر. ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلَّمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف. ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾؛ أي: في جميع أحوالكم، ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233]؛ أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم؛ [انتهى، ابن كثير]. عدة الوفاة: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 234]. يقول الشوكاني: لما ذكر سبحانه عِدَّةَ الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع، عقَّب ذلك بذكر عدة الوفاة؛ لئلا يُتوَهَّم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق. وظاهر هذه الآية العمومُ، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العِدَّة، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، وإلى هذا ذهب الجمهور. وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم ((أنه أذِن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع)). وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج؛ أربعة أشهر وعشرًا))، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة، والإحداد: تَرْكُ الزينة من الطِّيب، ولُبس الثياب الجيدة والحلي، وغير ذلك، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة؛ [تفسير فتح القدير، للشوكاني]. ويقول ابن كثير: أمرٌ من الله للنساء اللاتي يُتوفَّى عنهن أزواجهن: أن يَعْتَدِدْنَ أربعة أشهر وعشرَ ليالٍ، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفَّى عنها زوجُها، وهي حامل، فإن عِدَّتَها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة؛ لعموم قوله في سورة الطلاق (4): ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]. وفي الصحيحين أيضًا عن أم سلمة: ((أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفِّيَ عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنُكحلها؟ فقال: لا، كل ذلك يقول: لا، مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة)). قالت زينب بنت أم سلمة: "كانت المرأة إذا تُوفِّيَ عنها زوجها دخلت حَفْشًا، ولبِست شرَّ ثيابها، ولم تمسَّ طِيبًا ولا شيئًا، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتُعطى بَعْرَة فترمي بها، ثم تُؤتَى بدابَّة؛ حمارٍ أو شاة أو طير، فتفتض به فقلَّما تفتض بشيء إلا مات. ومن ها هنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240]. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطِّيب، ولُبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولًا واحدًا. ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 234]؛ قال العوفي عن ابن عباس: إذا طُلِّقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انْقَضَتْ عِدَّتُها، فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف؛ [انتهى، ابن كثير]. حكم خطبة المعتدة: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235]. ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾ [البقرة: 235]؛ أي: لا جناح عليكم أن تُعرِّضوا بخِطبة النساء في عِدَّتِهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح؛ قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ [البقرة: 235]؛ قال: التعريض أن تقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها، يعرِّض لها بالقول بالمعروف، وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا، ولا ينصب للخطبة، وفي رواية: إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها، ورواه البخاري تعليقًا، فقال: قال لي طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ [البقرة: 235]، هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أنه تيسَّر لي امرأة صالحة. وهكذا حكم المطلقة الْمَبْتُوتة يجوز التعريض لها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: ((فإذا حللْتِ فآذِنِيني))، فلما حلَّت خطب عليها أسامة بن زيد مولاه، فزوَّجها إياه. فأما المطلقة الرجعية، فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخِطبتها، ولا التعريض لها، والله أعلم. وقوله: ﴿ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ [البقرة: 235]؛ أي: أضمرتم في أنفسكم خطبتهن؛ وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [القصص: 69]. ﴿ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [البقرة: 235]؛ قال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة، وهي في عدتها ألَّا تنكح غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحلَّ الخطبة والقول بالمعروف، وقال ابن زيد: ﴿ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا ﴾ [البقرة: 235] هو أن يتزوجها في العِدَّة سرًّا، فإذا حلَّت أظهر ذلك، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك؛ ولهذا قال: ﴿ إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [البقرة: 235]؛ قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، والسدي، والثوري، وابن زيد: يعني به: ما تقدَّم من إباحة التعريض. ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ [البقرة: 235]؛ يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العِدَّة. ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235]: في هذا توعُّدٌ على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤيِسْهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235]؛ [تفسير ابن كثير]. تتمة أحكام الطلاق: الطلاق قبل المساس وقبل الفريضة: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236]. أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها؛ قال ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، والحسن البصري: المسُّ: النكاح، بل ويجوز أن يُطلِّقها قبل الدخول بها، والفرض لها إن كانت مفروضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها؛ وهو تعويضها عما فاتها بشيء تُعطَاه من زوجها بحسب حاله، ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾ [البقرة: 236]، وقال سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الوَرِق، ودون ذلك الكسوة؛ [ابن كثير]. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إن كان موسرًا متَّعها بخادم، أو شبه ذلك، وإن كان معسرًا أمتعها بثلاثة أثواب. وقال السعدي في تفسير الآية: "أي: ليس عليكم - يا معشر الأزواج - جُناح وإثم، بتطليق النساء قبل المسيس، وفرض المهر، وإن كان في ذلك كسرٌ لها، فإنه ينجبر بالمتعة، فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئًا من المال؛ جبرًا لخواطرهن، ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ ﴾؛ أي: المعسر ﴿ قَدَرُهُ ﴾ [البقرة: 236]، وهذا يرجع إلى العرف، وأنه يختلف باختلاف الأحوال؛ ولهذا قال: ﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 236]، فهذا حقٌّ واجب على المحسنين، ليس لهم أن يبخسوهن، فكما تسبَّبوا لتشوفهن واشتياقهن، وتعلُّق قلوبهن، ثم لم يعطوهن ما رغِبنَ فيه، فعليهم في مقابلة ذلك المتعة، فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي، وأدلَّه على حكمة شارعه ورحمته، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر؛ [تفسير السعدي]. الطلاق قبل المساس وبعد الفريضة: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237]. إذا طلقتم النساء قبل المسيس، وبعد فرض المهر، فللمطلقات من المهر المفروض نصفُه، ولكم نصفه، هذا هو الواجب ما لم يدخله عفوٌ ومسامحة، بأن تعفوَ عن نصفها لزوجها، إذا كان يصح عفوها، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح؛ وهو الزوج على الصحيح لأنه الذي بيده حلَّ عقدته، ولأن الوليَّ لا يصح أن يعفو عما وجب للمرأة، لكونه غيرَ مالك ولا وكيل، ثم رغَّب في العفو، وأن من عفا، كان أقرب لتقواه، لكونه إحسانًا موجبًا لشرح الصدر؛ [تفسير السعدي]. صلاة الخوف: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 238، 239]. يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها؛ كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني))، وقد روى الترمذي، من حديث محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد اليامي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الوسطى صلاة العصر))، ثم قال: حسن صحيح. وقوله: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 239]؛ أي: أقيموا صلاتكم كما أُمِرْتُم، فأتموا ركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها، وخشوعها وهجودها، ﴿ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 239]؛ أي: مثلما أنعم عليكم وهداكم للإيمان، وعلَّمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر؛ كقوله بعد ذكر صلاة الخوف: ﴿ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]؛ [ابن كثير]. يقول السعدي في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 239]: لم يذكر ما يُخاف منه؛ ليشمل الخوف من كافر وظالم وسَبُع، وغير ذلك من أنواع المخاوف؛ أي: إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة، فصلوها رِجالًا؛ أي: ماشين على أقدامكم، أو ركبانًا على الخيل والإبل وغيرها، ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها؛ حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها، ولو في هذه الحالة الشديدة، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل، بل أوجب من صلاتها مطمئنًّا خارج الوقت، ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ [البقرة: 239]؛ أي: زال الخوف عنكم، ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 239]، وهذا يشمل جميع أنواع الذكر، ومنه الصلاة على كمالها وتمامها، ﴿ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 239]؛ فإنها نعمة عظيمة، ومنة جسيمة، تقتضي مقابلتها بالذكر والشكر؛ ليُبقِيَ نعمته عليكم ويزيدكم عليها؛ [تفسير السعدي]. ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 240]. هذه الآية منسوخة بالتي قبلها؛ وهي قوله: ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]؛ قال البخاري: حدثنا أمية، حدثنا يزيد بن زريع، عن حبيب، عن ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ﴾ [البقرة: 240] قد نسختها الآية الأخرى، فلِم تكتبها أو تَدَعها؟ قال: يا بن أخي، لا أُغيِّر شيئًا منه من مكانه. ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نُسِخ بالأربعة الأشهر، فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يُوهِم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها، فأثبتُّها حيث وجدتها، ورُوِيَ من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات، وترك امرأته، اعتدَّت سنة في بيته، يُنفَق عليها من ماله، ثم أنزل الله بعد: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]. ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241]. قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله: ﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236]، قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت، وإن شئت لم أفعل؛ فأنزل الله هذه الآية: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241]؛ [ابن كثير]. وقال السعدي: أي: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقًّا على كل مُتَّقٍ؛ جبرًا لخاطرها، وأداء لبعض حقوقها، وهذه المتعة واجبة على من طُلِّقت قبل المسيس، والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم، هذا أحسن ما قيل فيها، وقيل: إن المتعة واجبة على كل مطلقة؛ احتجاجًا بعموم هذه الآية، ولكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيد، وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة؛ [السعدي]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. يتبع... الحلقة القادمة: مقومات الجهاد وقصة طالوت وجالوت إن شاء الله.
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات ودروس من سورة البقرة (13) وقفات مع قلب السورة -7- مقومات الجهاد، وقصة بني إسرائيل مع طالوت وجالوت وداود ميسون عبدالرحمن النحلاوي تبدأ جزئية الجهاد، التي تختم الجزء الثاني من السورة، بمقدمة من ثلاث آيات، يليها نموذج مفصل من جهاد بني إسرائيل، ممثَّلًا بقصة طالوت وجالوت وداود، نستعرضها جميعًا، ثم نخلُص إلى مقومات الجهاد. المقدمة: يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 243 - 245]. سبحان منزل الكتاب! وردت هذه الآيات في ترابط عجيب مع قصة بني إسرائيل، وطلبهم الجهادَ من نبيهم، تحكي الآيات قصة قريةٍ من قرى بني إسرائيل خرج أهلها منها، وهم ألوف، لما وقع فيها الطاعون؛ فرارًا من الموت، ظنًّا منهم أن هذا الخروج سيُنجيهم من الموت، لكن الله أراد أن يلقِّنهم – ويلقن من بعدهم – درسًا في القضاء والقدر، في مشيئة الله ومشيئة الإنسان، في الموت والبعث، درسًا وأي درسٍ؟ ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ [البقرة: 243]، يحكي سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في شأن هؤلاء: "كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون، قالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال الله لهم: موتوا، فماتوا، فمرَّ عليهم نبيٌّ من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم؛ فذلك قوله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ [البقرة: 243]؛ الآية. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل، استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية، فنزلوا واديًا أفيح، فملؤوا ما بين عدوتَيهِ، فأرسل الله إليهم مَلَكَين؛ أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد، فحِيزوا إلى حظائرَ وبُنِيَ عليهم جدران وقبور، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر مرَّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يُقال له: حزقيل، فسأل الله أن يحييهم على يديه، فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام، إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا، فكان ذلك، وهو يشاهده، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، وكان في إحيائهم عِبرةٌ ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة؛ ولهذا قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 243]؛ أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغة، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243]؛ أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم، وفي هذه القصة عِبرة ودليل على أنه لن يغني حَذَرٌ من قَدَر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء فرُّوا من الوباء طلبًا لطول الحياة، فعُوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد"؛ [انتهى]. والعبرة من القصة: 1- أنه لا يمكن لأحدٍ أن يفر من قضاء الله وقدره، فالموت مكتوب على كل نفس في زمانها ومكانها: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]. 2- تعرض الآية صورة مصغرة عن يوم البعث، حدثت في الدنيا، كي يرى الناس ويشهدوا أن الله جل في علاه كما هو القادر على الإماتة، قادر على البعث، فهو جل جلاله أماتهم كلهم بصيحة واحدة، وأحياهم جميعًا بأمر واحد. 3- وأن فرار هؤلاء من الموت كفِرار الناس من الجهاد في سبيله حذَرَ الموت، فكما أمات الله أولئك الفارين من الموت بسبب البلاء، يُميت هؤلاء الفارين من الجهاد خوفًا من الموت. لذلك جاءت آية القتال فرضًا بعد هذا الدرس وتلك العبرة؛ في قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 244]. يقول ابن كثير: "وقوله: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 244]: أي: كما أن الحذر لا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنُّبه لا يقرِّب أجلًا ولا يباعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدَّر مقنَّن، لا يُزاد فيه ولا يُنقص منه؛ كما قال تعالى في سورة آل عمران 168: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168]، وقال تعالى في سورة النساء 77، 78: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 77، 78]، ورُوينا عن أمير الجيوش، ومقدَّم العساكر، وحامي حَوزةِ الإسلام، وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفًا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء؛ يعني: أنه يتألم لكونه ما مات قتيلًا في الحرب، ويتأسف على ذلك، ويتألم أن يموت على فراشه"؛ [انتهى]. ثم يأتي السياق على آية الإنفاق: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]. وللمرة الثانية في هذه السورة تأتي آية الإنفاق مرتبطة بالجهاد، والقبض والبسط بيد الله، سواء في الأنفس أو في المال، فلا يظنَّنَّ أحدٌ أن البخل بالنفس يَقِيه من الموت، أو أن البخل بالمال يحفظه من أمر الله، إن سلَّط جنوده على هلاك ذلك المال، وجنود الله لا يعلمها إلا هو. يقول السعدي في تفسير الآية: "ولما كان القتال في سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغَّب فيه، وسمَّاه قرضًا، فقال: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ [البقرة: 245]، فينفق ما تيسَّر من أمواله في طرق الخيرات، خصوصًا في الجهاد، والحسن هو الحلال المقصود به وجهُ الله تعالى، ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245] الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بحسب حالة المنفق، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها، ولما كان الإنسان ربما توهَّم أنه إذا أنفق، افتقر، دفع تعالى هذا الوهم بقوله: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ [البقرة: 245]؛ أي: يوسع الرزق على من يشاء، ويقبضه عمن يشاء، فالتصرف كله بيديه، ومدار الأمور راجع إليه، فالإمساك لا يبسط الرزق، والإنفاق لا يقبضه، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملًا موفرًا مضاعفًا؛ فلهذا قال: ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، فيجازيكم بأعمالكم"؛ [انتهى]. قصة جهاد بني إسرائيل... طالوت وجالوت وداود: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246]. "والملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفًا، وقال الزجاج: سُمُّوا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم، والملأ في هذه الآية القوم؛ لأن المعنى يقتضيه، والملأ: اسم للجمع كالقوم والرهط، والملأ أيضًا: حُسن الخُلُق، ومنه الحديث: ((أحسنوا الملأ؛ فكلُّكم سيُروى))؛ [أخرجه مسلم]"؛ [الكلام للقرطبي]. والنبي هنا هو شمويل عليه السلام على قول مجاهد، أوحى الله إليه، وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل، فطلبوا منه أن يقيم لهم مَلِكًا يقاتلون معه أعداءهم، وكان الْمُلْكُ أيضًا قد باد فيهم، فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألَّا تَفُوا بما التزمتم من القتال؟ ﴿ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة: 246]؛ أي: وقد أُخذت منا البلاد، وسُبِيَت الأولاد؟ قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246]؛ أي: ما وفوا بما وعدوا، بل نكل عن الجهاد أكثرهم، والله عليم بهم. وبعث الله الملِك، ولكن... ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247]. المماحكة والاعتراض والجرأة على الخالق صفاتٌ متأصلة في بني إسرائيل؛ إذ كيف لهم أن يَرضَوا بسهولة بما اختاره الله لهم ملِكًا؟! هم يريدون ملِكًا مفصَّلًا على أهوائهم هم، يتوافق مع مقاييسهم التي وضعوها للمُلك والقيادة، كأن يكون منهم – أي: من الملأ عِلية القوم - وأن يكون ثريًّا؛ أي: أن يكون ذا مال وجاه، ﴿ قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ [البقرة: 247]؟! وهنا أوضَحَ لهم نبيُّهم أن مقاييسهم الدنيوية الفاشلة ليست هي المقاييس التي يُفلح معها قادة الجهاد، بل مقاييس ربِّ العباد هي التي تضمن النصر والغلبة على العدو: ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247]. أولًا هو مصطفًى من رب العباد، فليس لكم من الأمر شيء، فالله أعلم به منكم، ثم إن الله وهَبَه الخَصلتين المطلوبتين لقيادة الجهاد؛ قوة العلم، وقوة الجسم: ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ [البقرة: 247]، وقد تقدَّمت قوة العلم على قوة الجسم؛ ما يفيد أن قوة الجسم دون علم لا تفيد شيئًا. يقول ابن كثير في تفسير الآية: "لما طلبوا من نبيهم أن يُعيِّنَ لهم ملِكًا منهم، فعيَّن لهم طالوت وكان رجلًا من أجنادهم، ولم يكن من بيت الْمُلك فيهم؛ لأن الْمُلك فيهم كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط، فلهذا قالوا: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ﴾ [البقرة: 247]؛ أي: كيف يكون ملِكًا علينا، ﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ [البقرة: 247]؛ أي: ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقَّاء، وقيل: دبَّاغًا، وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنُّت، وكان الأَولَى بهم طاعة وقول معروف؛ ثم قد أجابهم النبي قائلًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 247]؛ أي: اختاره لكم من بينكم، والله أعلم به منكم، يقول: لستُ أنا الذي عيَّنته من تلقاء نفسي، بل الله أمرني به لمَّا طلبتم مني ذلك، ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ [البقرة: 247]؛ أي: وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل وأشكل منكم، وأشد قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة بها؛ أي: أتم علمًا وقامة منكم، ومن ها هنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن، وقوة شديدة في بدنه ونفسه، ثم قال: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 247]؛ أي: هو الحاكم الذي ما شاء فَعَلَ، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون؛ لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247]؛ أي: هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه"؛ [انتهى]. لكن القوم تمادَوا في اعتراضهم، فقدَّم الله عز وجل لهم آية أخرى قاطعة على ملكه؛ وهي التابوت: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 248]. رُوِيَ عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيهم: إن كنت صادقًا، فأتِنا بآية تدل على أنه ملِكٌ، فقال لهم: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 248]. قال ابن كثير في تفسيره: "يقول نبيهم لهم: إن علامة بركة مُلْكِ طالوتَ عليكم أن يرُدَّ الله عليكم التابوت الذي كان أُخِذَ منكم، ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 248]، قيل: معناه فيه وقار، وجلالة، قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ ﴾ [البقرة: 248]؛ أي: وقار، وقال الربيع: رحمة، وكذا رُوِيَ عن العوفي عن ابن عباس، وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: ﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 248] قال: ما يعرفون من آيات الله فيسكنون إليه، وقوله: ﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ [البقرة: 248]، قال ابن جرير: أخبرنا ابن المثنى، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية: ﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ [البقرة: 248]؛ قال: عصاه ورُضاض الألواح، وكذا قال قتادة، والسدي، والربيع بن أنس، وعكرمة، وزاد: والتوراة، وقال أبو صالح ﴿ وَبَقِيَّةٌ ﴾؛ يعني: عصا موسى، وعصا هارون، ولوحين من التوراة والْمَنَّ. وقوله: ﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [البقرة: 248]؛ قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون، وقال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون، وأطاعوا طالوت"؛ [انتهى، ابن كثير]. بنو إسرائيل يواجهون الاختبار الإلهي: قبِل القوم بطالوت ملِكًا بعد أن أصبح التابوت بين أيديهم، وخرجوا معه ليواجهوا جالوت، لكن الله عز وجل أدرى بخلقه، وأعلم بمن يصلح للخروج إلى الجهاد ومن لا يصلح، فما كان إلا أن واجههم باختبار جديد؛ يمتحن عز وجل فيه مدى طاعتهم، وانسياقهم لأوامر القائد، فإن كانوا يماحكون بأوامر الله، فكيف بهم بأوامر قائدٍ قبِلوا به ملِكًا على مَضَضٍ؟ ناهيك عن أن معركة بجنود لا يأبهون للأوامر مصيرها الخسارة قبل أن تبدأ. ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]. قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾ [البقرة: 249]، ﴿ فَصَلَ ﴾ معناه: خرج بهم، فقال لهم طالوت: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ [البقرة: 249]، وكان عدد الجنود - في قول السدي - ثمانين ألفًا، وقال وهب: لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كِبَرٍ أو مرض، والابتلاء: الاختبار. "يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل، وكان جيشه يومئذٍ - فيما ذكره السدي - ثمانين ألفًا، فالله أعلم، أنه قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ [البقرة: 249]، قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن وفلسطين؛ يعني: نهر الشريعة المشهور، ﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ [البقرة: 249]؛ أي: فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249]؛ أي: فلا بأس عليه؛ قال الله تعالى: ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249]؛ قال ابن جريج: قال ابن عباس: من اغترف منه بيده رَوِيَ، ومن شرِب منه لم يَرْوَ، وكذا رواه السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس، وكذا قال قتادة وابن شوذب، وقال السدي: كان الجيش ثمانين ألفًا، فشرِب ستة وسبعون ألفًا، وتبقى معه أربعة آلاف، كذا قال. وروى البخاري عن عبدالله بن رجاء، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عن البراء قال: "كنا - أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم - نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت، الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمنٌ؛ بضعة عشر وثلاثمائة". لهذا قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ [البقرة: 249]؛ أي: استقلُّوا أنفسهم عن لقاء عدوهم؛ لكثرتهم فشجعهم علماؤهم، وهم العالمون بأن وعد الله حقٌّ؛ فإن النصر من عند الله، ليس عن كثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ؛ ولهذا قالوا: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]؛ [ابن كثير]. القلة المؤمنة في مواجهة جيش جالوت: لم يبقَ مع طالوت إلا تلك القلة المؤمنة، التي تمثَّلت اليقين بملاقاة الله، وفاض به قلبها، فكانت أقدمَ على القتال، تدفعها الثقة بنصر ربها، وقوة التوكل عليه، فكان نكرانها لمقياس الخلق في القلة والكثرة، وانعقد قلبها على مقياس رب الخلائق: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، فكان زادهم الصبر! ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 250، 251]. ثم لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل من أصحاب طالوت - لعدوِّهم أصحاب جالوت - وهم عدد كثير - ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ﴾ [البقرة: 250]؛ أي: أنزِل علينا صبرًا من عندك، ﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ [البقرة: 250]؛ أي: في لقاء الأعداء، وجنِّبنا الفِرار والعجز، ﴿ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، قال الله تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 251]؛ أي: غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم، ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251]، ذكروا في الإسرائيليات: أنه قتله بمِقلاع كان في يده، رماه به فأصابه فقتله، وكان طالوت قد وعده: إن قتل جالوت أن يزوِّجه ابنته، ويُشاطره نعمته، ويُشركه في أمره، فوفَّى له، ثم آل الملك إلى داود عليه السلام، مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ [البقرة: 251] الذي كان بيد طالوت، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [البقرة: 251]؛ أي: النبوة بعد شمويل. ﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 251]؛ أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]؛ أي: لولاه يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود، لهلكوا؛ كما قال في سورة الحج آية 40: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [الحج: 40]. وقوله: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]؛ أي: منٍّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضًا، وله الحُكم والحِكمة والحُجَّة على خَلْقِهِ في جميع أفعاله وأقواله؛ [تفسير ابن كثير]. مقومات القتال، وشروط النصر كما نستخلصها من قصة الملأ من بني إسرائيل ونبيهم طالوت: 1- الإيمان بأن الموت مكتوب بالزمان والمكان، والظرف والسبب، فلا يظنن أحدٌ أن إقباله على الجهاد، أو إدباره منه، هو السبب في نجاته أو موته، أرشدنا المولى إلى هذه الحقيقة بمَثَلِ القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، فأوقع الله بهم الموت في المكان الذي اعتصموا به منه. 2- الانفاق والجود بالمال والنفس من مقومات الجهاد، والله عز وجل هو القابض الباسط، ومن أكبر الأوهام التي يعيشها الإنسان وَهْمُ الإنفاق، والإحجام عن الانفاق مَظِنَّةَ الفقر والغِنى. 3- القتال ليس ادعاء ولا أمنية يتمنَّاها المؤمن، ولكنه عزيمة يصدِّقها الفعل، مثال ذلك بنو إسرائيل أرادوا الجهاد وتمنَّوه، وسألوا نبيَّهم أن يُؤمِّر عليهم ملِكًا ليقاتلوا تحت رايته، فلما تحققت أسباب القتال واكتملت، جبُنوا ونكَصوا وتراجعوا عن وعدهم: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246]. 4- مقومات الملك والقيادة العسكرية لا علاقة لها بالحسب والنسب والغِنى والسيادة، مقياسها الإلهي القوةُ في العلم أولًا، وفي الجسم ثانيًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247]، وفي النهاية هو فضل من الله يؤتيه من يشاء. 5- الابتلاء: في الخروج لملاقاة الأعداء ابتلاءات، مثَّلها الله لنا في قصة بني إسرائيل بابتلاء العطش مع وجود الماء، وبدا أنه لا يصبر عليها إلا قليل؛ ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249]، وكما قال القرطبي في هذا الابتلاء: "ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء، عُلِم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر، فهو في العصيان في الشدائد أحرى، فرُوِيَ أنهم أتَوا النهر، وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، فلذلك رخص للمطيعين في الغَرفة؛ ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسِروا نزاع النفس في هذه الحال، وبيَّن أن الغرفة كافية ضررَ العطش عند الحزمة الصابرين على شَظَفِ العيش، الذين همُّهم في غير الرفاهية؛ كما قال عروة: واحسوا قراح الماء والماء بارد، ﴿ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249]؛ قال ابن عباس: شربوا على قدرِ يقينِهم، فشرب الكفار شُرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفًا، وبقِيَ بعض المؤمنين لم يشرب شيئًا، وأخذ بعضهم الغَرفة، فأما من شرب فلم يَرْوَ، بل برَّح به العطش، وأما من ترك الماء، فحسنت حاله، وكان أجْلَدَ ممن أخذ الغَرفة"؛ [انتهى، القرطبي]. 6- معادلة القلة والكثرة: الوهم الذي يزيِّنه الشيطان للمؤمنين دائمًا عند ملاقاة العدوِّ، أنتم قليل وهم كثير، فأنَّى لكم النصر: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ [البقرة: 249]. 7- القاعدة الذهبية في القتال يعقِلها الراسخون في العلم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، والمؤمنون بهذه القاعدة المرسِّخون لها هم ذوو الإيمان الراسخ، واليقين المتجذِّر بنصر الله، هؤلاء هم ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، المستيقنون بهذا اللقاء قولًا وعملًا، الذين يبصرون موازين الأرض والسماء ببصيرتهم لا بأبصارهم، الذين أخلصوا النية، وتوكلوا على الله، أولئك ينطقهم الله بالحكمة: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]. يقول القرطبي في تفسيره: "قوله تعالى: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 249] الفئة: الجماعة من الناس، والقطعة منهم، وفي قولهم رضي الله عنهم ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ﴾ [البقرة: 249]؛ الآية، تحريض على القتال، واستشعار للصبر، واقتداء بمن صدق ربه، قلت (والقول للقرطبي): هكذا يجب علينا نحن أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة، والنيات الفاسدة منعت من ذلك، حتى ينكسر العدد الكبير منا قُدَّام اليسير من العدوِّ كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا، وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم، وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هل تُرزَقون وتُنصَرون إلا بضعفائكم))، فالأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة؛ قال الله تعالى: ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 200]، وقال: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا ﴾ [المائدة: 23]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وقال: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، وقال: ﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا، وحلَّ بنا، بل لم يبقَ من الإسلام إلا ذِكْرُه، ولا من الدين إلا رسمه؛ لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقًا وغربًا، برًّا وبحرًا، وعمَّت الفتن، وعظُمت المحن، ولا عاصم إلا من رحم"، فإن كان هذا قول الإمام القرطبي في القرن السابع الهجري، فما عسانا نقول اليوم؟ ولله الأمر من قبل ومن بعد. 8- اليقين والصبر: اليقين يمد المؤمن بالصبر، فكلما ازداد يقين المؤمن بالله، كان للصبر منه نصيب، ومن ثَمَّ بات في معية الله: ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]. 9- الدعاء: عندما وجدت القلة المؤمنة نفسها أمام جيش طالوت الجرَّار، توجَّهت بالدعاء إلى الله تعالى بثلاث دعوات: الصبر والتثبيت والنصر: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، دعَوا ربهم وهم مقبلون بنية خالصة، أن لا رجعة عن لقاء العدو، ولم يقدموا وهم في ريب يترددون، عين في الدنيا وعين على الآخرة، فهذه النظرة لا تصلح مطلقًا في ساحة القتال؛ يقول القرطبي في تفسيره: "ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم، تضرعوا إلى ربهم، وهذا كقوله: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾ [آل عمران: 146] إلى قوله: ﴿ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ [آل عمران: 147]؛ الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقِيَ العدو يقول في القتال: ((اللهم بك أصول وأجول))، وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا لقِيَ العدو: ((اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأجعلك في نحورهم))، ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبيه؛ يستنجز الله وعده"؛ [انتهى]. 10- النصر: ومع استيفاء المؤمنين شروط النصر، أمدهم الله به: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251]، أنفذ الله وعده للمؤمنين بطريقة لم تكن تخطر لهم على بال، ولا هي في موازين العقل البشري ممكنة أو كائنة، فقد كان مقتل قائد جيوش العماليق على يد داود عليه السلام، وهو يومئذٍ صغير السن صغير الحجم، لا يُؤبَهُ له، وإمعانًا في تلقين البشرية درس "موازين البشر وموازين رب البشر"، كان موت العملاق بحجر رماه به داود من مقلاعه فحسب! والعبرة هنا: لا تنصب نفسك مدبِّرًا لأمور الكون، إنما عليك اتخاذ الأسباب ودَعِ الأمر لله. 11- التمكين: ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 251]. 12- الحكمة الإلهية في فرض قتال الكافرين الدفعُ، معادلة دفع الباطل بالحق: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]. قال ابن عباس: ولولا دفع الله العدو بجنود المسلمين، لَغَلَبَ المشركون، فقتلوا المؤمنين، وخربوا البلاد والمساجد، وقال سفيان الثوري: هم الشهود الذين تُستخرَج بهم الحقوق. قال السعدي: "لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيدَ الفُجَّار، وتكالب الكفار، لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها، وإقامتهم شعائر الكفر، ومنعهم عبادَ الله من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه؛ ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]؛ حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم، والمدافعة عنهم، ومكَّنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها". ولله الأمر من قبل ومن بعد. وهكذا انتهت قصة قتال بني إسرائيل بتمكين داود ملكًا نبيًّا، فجاء التعقيب عليها خطابًا للنبي بأنها من الآيات الحق، التي يتلوها الله عز وجل عليه في تأكيد على أنه رسول في كوكبة إخوانه من المرسلين؛ ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 252]. لماذا كان الاقتتال في البشرية؟ سنة الله في تفضيل الرسل واختلاف ذراريهم واقتتالهم. ثم تأتي الآية التالية في نفس السياق، يتصدرها تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض، مع تخصيص موسى وعيسى، في موافقة للسياق الذي سبق عن بني إسرائيل، في قصة داود وطالوت؛ يقول تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. فلماذا كان الاقتتال في البشرية؟ الاقتتال مشيئة إلهية ماضية في البشرية، أصلها العداوة التي نزلت مع آدم وإبليس: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [الأعراف: 24]، ومحورها الحق والباطل، والخير والشر. • وهذا الاقتتال ما كان إلا بعدما وقع الاختلاف. • وهذا الاختلاف ما وقع إلا بعدما جاءتهم البينات: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [البقرة: 253]، ومثال ذلك ما قصَّتْهُ علينا الآيات في قصة طالوت وجالوت. • أما سبب الاختلاف الموجِب للاقتتال، فهو الإيمان والكفر: ﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. قال القرطبي: "إنما اختلف الناس بعد كل نبيٍّ؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، بغيًا وحسدًا، وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك، لكان، ولكنه المستأثر بسرِّ الحكمة في ذلك، الفعَّال لما يريد"؛ [انتهى]. ومرة أخرى تأتي آية الإنفاق مشفوعة بآية القتال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: "قال الحسن: هي الزكاة المفروضة، وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع، قال ابن عطية: وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجَّح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوِّي ذلك في آخر الآية قوله: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]؛ أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال، قلت (والكلام للقرطبي): وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبًا، ومرة ندبًا، بحسب تعيُّن الجهاد وعدم تعينه، وأمَرَ تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله، وأنعم به عليهم، وحذَّرهم من الإمساك إلى أن يجيء يومٌ لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة؛ كما قال: ﴿ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ﴾ [المنافقون: 10]، والخُلَّة: خالص المودة، مأخوذة من تخلُّل الأسرار بين الصديقين، والخَلالة والخُلالة والخِلالة: الصداقة والمودة؛ [انتهى]. ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذٍ كافرًا. اللهم أحْيِنا على التوحيد، وأمِتْنا عليه واحشرنا عليه، وأدخلنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. يتبع بإذن الله...
__________________
|
#18
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات ودروس من سورة البقرة (14) ميسون عبدالرحمن النحلاوي ختام السورة وفيها: • صفات الله رب الخلق، فاطر السماوات والأرض، المستحق للتوحيد والعبادة دون شريك تعرضها لنا أعظم آي القرآن؛ آية الكرسي. • الولاية وحقيقة الإيمان. • حقيقة الموت والبعث في قصصٍ ثلاث. • نمرود وإبراهيم عليه السلام. • نبي الله الذي توفَّاه الله مئة عام ثم بعثه ليُريه الآيات في إحياء حماره بعد أن أصبح عظامًا. • طلب إبراهيم من ربِّه أن يُريَه كيفية إحياء الموتى. • الإنفاق في سبيل الله من زكاة وصدقة، وآدابه ومصارفه. • تشريعات مالية أساسية في المجتمع الإسلامي: - أحكام الربا. - آية المداينة. ولنا أن نقدم لهذا الجزء من السورة بنفس الآية التي أنهينا بها الفصل السابق – قلب السورة- لربط القلب بالخاتمة، وسبحان مُنزِل الكتاب. ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]. وتأتي هذه المقدمة متوافقة مع الطابع الاقتصادي المهيمن على ختام السورة، فتبدو وكأنها صلة وصل فيما انتهى إليه الجزء السابق من آيات القتال، وما هو قادم من آيات الإنفاق. فآيات القتال تصدرتها آية الإنفاق، وكان المقصود بها الإنفاق في الجهاد تحديدًا: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245]، وتنتهي هنا بآية الإنفاق أيضًا لكن بصفتها الخاصة في القتال عطفًا على ما تقدم، والعامة التي يفصِّلها السياق في الآيات القادمة. قال القرطبي في تفسير الآية: "قال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع. قال ابن عطية: "وهذا صحيح، ولكن ما تقدَّم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجَّح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]؛ أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال"؛ انتهى. وفي قوله عز وجلَّ: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، يقول السعدي: "هذا من لُطْف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرًا وأجرًا موفرًا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبًا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تَقبَّل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون، ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده، وتعَدَّوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله، فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله؛ فلهذا قال تعالى: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، وهذا من باب الحصر؛ أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]؛ انتهى. أعظم آية في القرآن آية الكرسي وفيها صفات التفرُّد الإلهي، صفات يتفرَّد بها الله جلَّ في علاه عن كل ما عداه، رب الخلق، فاطر السماوات والأرض، المستحق للتوحيد والعبادة دون شريك. ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]. هذه الآية أعظم آي القرآن الكريم، وقد وردت أحاديث بفضلها، ربما يكون أشهرها حديث أبي هريرة الذي أورده البخاري في صحيحه: يقول أبو هريرة: "وَكَّلَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فأتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُهُ وقُلتُ: واللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ، وعَلَيَّ عِيَالٌ، ولِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عنْه، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبَا هُرَيْرَةَ، ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قَالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إنَّه قدْ كَذَبَكَ، وسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أنَّه سَيَعُودُ؛ لِقَوْلِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: دَعْنِي؛ فإنِّي مُحْتَاجٌ، وعَلَيَّ عِيَالٌ، لا أعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبَا هُرَيْرَةَ، ما فَعَلَ أسِيرُكَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إنَّه قدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ، وهذا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بهَا، قُلتُ: ما هُوَ؟ قَالَ: إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، حتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ؛ فإنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولَا يَقْرَبَنَّكَ شَيطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، زَعَمَ أنَّه يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: ما هي؟ قُلتُ: قَالَ لِي: إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِن أوَّلِهَا حتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، ولَا يَقْرَبكَ شيطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ -وكَانُوا أحْرَصَ شَيءٍ علَى الخَيْرِ- فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَمَا إنَّه قدْ صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَن تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شَيطانٌ". وروى الإمام أحمد عن أُبَيِّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية في كتاب الله أعظم؟"، قال: الله ورسوله أعلم، فرددها مرارًا، ثم قال أُبَيُّ: آية الكرسي، قال: "ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش"، وقد رواه مسلم، وليس عنده زيادة: "والذي نفسي بيده...". ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]. والآية الكريمة تحمل أعظم صفات الخالق العلي في ملكوته، العظيم في قوته وتدبيره، صفات الله الواحد الأحد، المتوكِّل بالخلق والأمر، القائم على كل نفس، عالم الغيب والشهادة، مرسل العلم لعباده بقدر أراده، لا يتعدى حدود مشيئته، إنه العلي العظيم. 1- ﴿ اللَّهُ ﴾: اسمه الأعظم جلَّ جلاله. 2- ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: أساس قيام الكون وحفظه والتصرف فيه، أن مالكه ومُدبِّره إله واحد لا إله إلا هو، أساس عقيدة البشر من لدن آدم عليه السلام إلى يوم الدين، الشهادة التي يموت عليها الإنسان مؤمنًا وبغيرها كافرًا. 3- ﴿ الْحَيُّ ﴾: هو حي لا يموت، والجن والإنس يموتون، هو قيُّوم لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه. 4- ﴿ الْقَيُّومُ ﴾: بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية. 5- ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾: ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سِنةٌ ولا نوم؛ أي: لا تغلبه سِنة؛ وهي الوسن والنعاس؛ ولهذا قال: ﴿ وَلَا نَوْمٌ ﴾ لأنه أقوى من السنة. 6- ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: مالك كل ما فيهما، المتصرف بأمورهما، المدبر لكل صغيرة وكبيرة فيهما، لا يعزب عنه مثقال ذرة، الجميع عبيده، وفي مُلْكه، وتحت قهره وسلطانه. 7- ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾: لا أحد، وهذا من عظمته، وجلاله وكبريائه عز وجل، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له في الشفاعة؛ كما في حديث الشفاعة: "آتي تحت العرش فأخِرُّ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تُشفَّع"، قال: "فيحد لي حدًّا فأدخلهم الجنة"؛ كقوله تعالى في سورة النجم: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26]. 8- ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾: وهذا كمال الألوهية والربوبية، الكل عبيد، والكل تحت تصرُّف الله الواحد القهار، والكل مكشوفون له بكل ذرات حياتهم... بينما هم: 9- ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾: لا يعلمون من أمر الخلق والخالق شيئًا إلا بمقدار مشيئة "العلي العظيم". 10- ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾: فإن كان كرسيُّه وسع السماوات والأرض، فهل يحيط عقل بماهية ملكوته؟! إنه العلي العظيم، ولا يهم النقاش في الكرسي والعرش والتجاذبات التي نشأت عن اختلاف التفاسير، المهم أنه عظيم، لا يمكن لعقلِ بَشَرٍ أن يحيط بعظمته وملكوته، وليس ماهية كرسيه وعرشه من الشهادة التي يمكن لبشر أن يعمل بها عقله، بل هما غيب اختصَّ الخالق نفسه به. 11- ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾: لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه. 12- ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾: سبحانك ربي، سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك. ثم يأتي السياق بعد سرد صفات الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، على بيان حقيقة الإيمان والولاية. حقيقة الإيمان والولاية: فبعد آية العظمة الإلهية المستحقة للتوحيد والعبودية يأتي البحث بأمر الإيمان والكفر بهذا الإله العظيم، الله الذي لا إله إلا هو، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]. 1- الإكراه في الدين: "اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في قَوْلِهِ: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾عَلى أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّها مَنسُوخَةٌ؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَدْ أكْرَهَ العَرَبَ عَلى دِينِ الإسْلامِ، وقاتَلَهم ولَمْ يَرْضَ مِنهم إلَّا بِالإسْلامِ، والنَّاسِخُ لَها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [التوبة: 73]، وقالَ تَعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123]، وقالَ: ﴿ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [الفتح: 16]، وقَدْ ذَهَبَ إلى هَذا كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ. القَوْلُ الثَّانِي: أنَّها لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ وإنَّما نَزَلَتْ في أهْلِ الكِتابِ خاصَّةً، وأنَّهم لا يُكْرَهُونَ عَلى الإسْلامِ إذا أدَّوُا الجِزْيَةَ، بَلِ الَّذِينَ يُكْرَهُونَ هم أهْلُ الأوْثانِ، فَلا يُقْبَلُ مِنهم إلَّا الإسْلامُ أوِ السَّيْفُ، وإلى هَذا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ والحَسَنُ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ"؛ فتح القدير للشوكاني. وقال ابن كثير في تفسيره: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾؛ أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه؛ بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا، قال ابن عباس: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك))؛ انتهى. ومن المسلم به أن الفكر الذي يروِّج له الوسطيُّون من أن هذه الآية تنطبق على المرتدين، مردود عليهم، واستخدام هذه الآية من قبل مائعي العقيدة بل وفاقديها لتبرير فسق وفساد دهماء المسلمين أيضًا مردود عليهم، فأمَّا الوسطيون فقد علموا الحقيقة وحرَّفوها، فضلُّوا وأضلُّوا، وأما مائعو العقيدة من العامة فقد يكون الجهل قد استحكم عقولهم، فعلينا تنويرهم، فمن استكبر بعد العلم فقد استحقَّ من الله جزاء الاستكبار، والله أعلم. 2- قاعدة الإيمان الثابته: لا يجتمع إيمان بطاغوت وإيمان بالله في قلب مؤمن: لا شذوذات ولا تجاوزات، لا انحرافات ولا تأويلات لهذه القاعدة: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]. "الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله"، وصفها الله بـ "العروة الوثقى لا انفصام لها"، ولا يكون الإيمان الخالص بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت.. يُكفر بالطاغوت أولًا، ويغسل القلب من كل أدرانه ثم يكون الإيمان، لا يجتمع الله والطاغوت في قلب مؤمن أبدًا، والطاغوت رأس كل طغيان من ظالم أو غيره، هذا معنى الطاغوت من كان رأسًا في الطغيان مثل فرعون والشيطان وجمعها طواغيت. فمن خلع الأنداد والأوثان من بشر وحجر وشجر ودواب وكواكب، وكل ما يدعو إليه الشيطان من عبادة من دون الله، ووحَّد الله فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو، وأخلص وجهه إليه في كل قول وعمل "فقد استمسك بالعروة الوثقى"؛ أي: فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريقة المثلى، والصراط المستقيم. يتبع
__________________
|
#19
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
3- الولاية: ثم إن الله تعالى بعد ما ذكر من أمر الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، بيَّن أمر ولاية الطاغوت وولاية الله عز وجل، فقال جلَّ وعلا: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]. • فالله وليُّ الذين آمنوا، نصيرهم وظهيرهم، يتولَّاهم بعونه، فكل مؤمن وليُّه الله، يهديه الصراط المستقيم، ويُعيده إليه كلما حاد عنه، يتولَّاه في كل شيء طالما هو معتصم به جلَّ في علاه، كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101]، وقوله تعالى في سورة التغابن: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11]. •﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257] وهذا من تمام ولاية الله عز وجل للمؤمنين. •﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾ [البقرة: 257] "أما الذين كفروا فأولياؤهم الشيطان وأعوانه، يتولون أمرهم في توجيههم نحو كل شرٍّ وسوء". •﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ [البقرة: 257] من الهدى إلى الضلالة، ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]. يقول ابن كثير في تفسير الآية: "وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة، حدثنا عبدالعزيز بن أبي عثمان، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، قال: يبعث أهل الأهواء أو قال: يبعث أهل الفتن، فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة، ثم قرأ هذه الآية: ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257]؛ انتهى. فائدة: وحَّد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة؛ كما قال: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرُّد الحق، وانتشار الباطل وتفرُّده وتشعُّبه. قدرة الله على الخلق والبعث في ثلاث قصص متتالية: ورد في سورة البقرة سِتُّ قصصٍ في إحياء الموتى، وقعت في الدنيا، وشهد عليها أنبياء وصالحون، ساقها الله عز وجل تذكرةً لمن ينكرون البعث بعد الموت، ذكرنا ثلاثًا منها: واحدة في قصة البقرة، عندما اختلف بنو إسرائيل فيمن قتل صاحبهم، فاحتكموا إلى موسى عليه السلام، فكانت قصة البقرة وإحياء المقتول بعد موته بضربه ببعض البقرة ليحكي مَنْ قتله. والثانية: أصحاب القرية الذين خرجوا من قريتهم "ألوفًا"؛ أي: هجرة جماعية، خوفًا من الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم. والثالثة: إحياء مجموعة من بني إسرائيل بعدما أخذتهم الصاعقة عندما وضعوا رؤية الله عز وجل شرطًا لإيمانهم: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 55، 56]. ثم يعرض لنا سياق السورة في أواخر السورة القصص الثلاث الأخرى: القصة الأولى: قصة نمرود مع إبراهيم عليه السلام: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]. - لما سأل نمرود الجبار سيدنا إبراهيم عليه السلام: مَن ربُّك، أجابه عليه السلام بالصفة التي لا يمكن لمخلوق أن يَدَّعيها: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، "أرادَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي يَخْلُقُ الحَياةَ والمَوْتَ في الأجْسادِ، وأرادَ الكافِرُ أنَّهُ يَقْدِرُ أنْ يَعْفُوَ عَنِ القَتْلِ فَيَكُونَ ذَلِكَ إحْياءً، وعَلى أنْ يَقْتُلَ فَيَكُونَ ذَلِكَ إماتَةً، فَكانَ هَذا جَوابًا أحْمَقَ لا يَصِحُّ نَصْبُهُ في مُقابَلَةِ حُجَّةِ إبْراهِيمَ؛ لِأنَّهُ أرادَ غَيْرَ ما أرادَهُ الكافِرُ، فَلَوْ قالَ لَهُ: رَبُّهُ الَّذِي يَخْلُقُ الحَياةَ والمَوْتَ في الأجْسادِ، فَهَلْ تَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ؟ لَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ بادِئَ بَدْءٍ وفي أوَّلِ وهْلَةٍ، ولَكِنَّهُ انْتَقَلَ مَعَهُ إلى حُجَّةٍ أُخْرى، تَنْفِيسًا لِخِناقِهِ،وإرْسالًا لِعنانِ المُناظَرَةِ، فَقالَ: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258] لِكَوْنِ هَذِهِ الحُجَّةِ لا تَجْرِي فِيها المُغالَطَةُ ولا يَتَيَسَّرُ لِلْكافِرِ أنْ يَخْرُجَ عَنْها بِمَخْرَجِ مُكابَرَةٍ ومُشاغَبَةٍ، ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258]؛ أي: انْقَطَعَ وسَكَتَ مُتَحِيرًا، ثم إن الله سُبْحانَهُ قال: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ ولَمْ يَقُلْ: فَبُهِتَ الَّذِي حاجَّ؛ إشْعارًا بِأنَّ تِلْكَ المُحاجَّةَ كُفْرٌ. وقَوْلُهُ: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258] تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. وقصة هذا الجبار كما يرويها الشوكاني في تفسيره عن عَبْدالرَّزّاقِ وابْن جَرِيرٍ وابْن المُنْذِرِ وابْن أبِي حاتِمٍ وأبي الشَّيْخِ في العَظَمَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: أنَّ أوَّلَ جَبّارٍ كانَ في الأرْضِ نُمْرُود، وكانَ الناسُ يَخْرُجُونَ يَمْتارُونَ مِن عِنْدِهِ الطَّعامَ، فَخَرَجَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَمْتارُ مَعَ مَن يَمْتارُ، فَإذا مَرَّ بِهِ ناسٌ قالَ: مَن رَبُّكم؟ قالُوا: أنْتَ، حَتَّى مَرَّ بِهِ إبْراهِيمُ، فَقالَ: مَن رَبُّكَ؟ قالَ: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، قالَ: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258]، فَرَدَّهُ بِغَيْرِ طَعامٍ. فَرَجَعَ إبْراهِيمُ إلى أهْلِهِ، فَمَرَّ عَلى كَثِيبٍ مِن رَمْلٍ أصْفَرَ، فَقالَ: ألا آخُذُ مِن هَذا فَآتِي بِهِ أهْلِي، فَتَطِيبُ أنْفُسُهم حِينَ أدْخُلُ عَلَيْهِمْ، فَأخَذَ مِنهُ، فَأتى أهْلَهُ فَوَضَعَ مَتاعَهُ ثُمَّ نامَ، فَقامَتِ امْرَأتُهُ إلى مَتاعِهِ فَفَتَحَتْهُ فَإذا هي بِأجْوَدِ طَعامٍ رَآهُ آخِذٌ، فَصَنَعَتْ لَهُ مِنهُ فَقَرَّبَتْهُ إلَيْهِ، وكانَ عَهْدُهُ بِأهْلِهِ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهم طَعامٌ، فَقالَ: مِن أيْنَ هَذا؟ قالَتْ: مِنَ الطَّعامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَرَفَ أنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ إلى الجَبّارِ مَلَكًا أنْ آمِن وأتْرُككَ عَلى مُلْكِكَ. قالَ: فَهَلْ رَبٌّ غَيْرِي؟ فَجاءَهُ الثانِيَةَ، فَقالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأبى عَلَيْهِ، ثُمَّ أتاهُ الثالِثَةَ فَأبى عَلَيْهِ، فَقالَ لَهُ المَلَكُ: فاجْمَعْ جُمُوعَكَ إلى ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَجَمَعَ الجَبّارُ جُمُوعَهُ فَأمَرَ اللَّهُ المَلَكَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ بابًا مِنَ البَعُوضِ وطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَوْها مِن كَثْرَتِها، فَبَعَثَها اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأكَلَتْ شُحُومَهم، وشَرِبَتْ دِماءَهم، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا العِظامُ، والمَلِكُ كَما هو لا يُصِيبُهُ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ في مَنخَرِهِ، فَمَكَثَ أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالمَطارِقِ، وأرْحَمُ الناس بِهِ مَن جَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِما رَأسَهُ، وكانَ جَبّارًا أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أماتَهُ اللَّهُ، وهو الَّذِي كانَ بَنى صَرْحًا إلى السَّماءِ فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهُ مِنَ القَواعِدِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ، قالَ: هو نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعانَ يَزْعُمُونَ أنَّهُ أوَّلُ مَن مَلَكَ في الأرْضِ أتى بِرَجُلَيْنِ قَتَلَ أحَدَهُما وتَرَكَ الآخَرَ، فَقالَ:"أنا أُحْيِي وأُمِيتُ"؛ انتهى، فتح القدير للشوكاني. القصة الثانية: نبي الله الذي توفَّاه الله مئة عام ثم بعثه ليريه آية الخلق والبعث شاهدة أمام عينيه. ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]. لم تذكر الآية مَن هو هذا الرجل الذي مَرَّ على القرية، كما لم يذكر اسم القرية، وإبهام التفاصيل يفيد في التركيز على العبرة والعظة من القصة، فلو كان ذكر التفاصيل يفيد في تمثُّل العبرة من القصة لذكرها سبحانه، لكن التفاسير أتت على ذكر بعض الأقوال في الرجل والقرية: يقول ابن كثير: "رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عُزَيْرٌ، وكذا رواه قتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك. وأما القرية: فالمشهور أنها بيت المقدس مَرَّ عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: ليس فيها أحد، من قولهم: خوت الدار تخوي خواءً وخُوِيًّا. وقوله: ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾؛ أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف مُتفكِّرًا فيما آل أمرها إليه بعد ما كانت عليه من العمارة العظيمة وقال: ﴿ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [البقرة: 259]؛ وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه، قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ [البقرة: 259]، قال: وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجعت بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه. فلما استقل سويًّا قال الله له- أي بواسطة الملك-: ﴿ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ [البقرة: 259]، قالوا: وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾، ﴿ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ [البقرة: 259]، وذلك: أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير، فوجده كما فقده لم يتغيَّر منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب تعَفَّن ﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر ﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: دليلًا على المعاد ﴿ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ﴾ [البقرة: 259]؛ أي: نرفعها فتركب بعضها على بعض. وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها، ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق، كله بإذن الله عز وجل، وذلك كله بمرأى من العزير، فعند ذلك لما تبين له هذا كله ﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 259]؛ انتهى ابن كثير. القصة الثالثة: آية إحياء الطير يريها الله خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]. لا ريب أن سؤال إبراهيم عليه السلام الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموت ليس من باب الشك على وجه الإطلاق، فإن كان الشك لا يليق بمؤمن، فهل يليق بنبي وهو خليل الله! يقول ابن كثير: "ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابًا، منها: أنه لما قال لنمروذ: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258] أحَبَّ أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة، فقال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحَقُّ بالشك من إبراهيم، إذ قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]))؛ وكذا رواه مسلم، انتهى. "وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحَقُّ بالشك من إبراهيم))، فمعناه أنه لو كان شاكًّا لكنا نحن أحَقَّ به ونحن لا نشكُّ، فإبراهيم عليه السلام أحْرَى ألَّا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ذلك محض الإيمان إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقُّف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام"؛ تفسير القرطبي. استجاب ربُّ العزة لطلب الخليل عليه السلام فقال له: ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260]. ﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾؛ أي: خذ أربعة من الطير ﴿ فَصُرْهُنَّ ﴾؛ أي: قطعهن، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو مالك، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن، والسدي، وغيرهم، وقال العوفي، عن ابن عباس: ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزَّقهن وخلط بعضهن في بعض، ثم جزَّأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة أجبل. وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيًا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته؛ ولهذا قال: ﴿ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾؛ أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. والحمد لله رب العالمين. يُتبَع بإذن الله.
__________________
|
#20
|
||||
|
||||
رد: وقفات ودروس من سورة البقرة
وقفات ودروس من سورة البقرة (15) ميسون عبدالرحمن النحلاوي وفيها: تشريعات اقتصادية للمجتمع الإسلامي. أولًا: الإنفاق في سبيل الله من زكاة وصدقة: آدابه ومصارفه: يكاد موضوع الإنفاق في سبيل الله يكون متواجدًا في كل محور رئيسي من محاور السورة، خاصة وأنه قد تصدَّر السورة في صفات المؤمنين التي وردت في الآية الثانية من السورة؛ قال تعالى في وصفهم: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3]. • فمع الأوامر الأولى لبني إسرائيل في الاستجابة لدعوة نبي الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]؛ قال ابن كثير: "قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [البقرة: 43] أمرَهم أن يُصلُّوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، أمرهم أن يؤتوا الزكاة؛ أي: يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]، أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: كونوا منهم ومعهم، وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله تعالى: ﴿ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43] قال: فريضة واجبة، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة"؛ [انتهى ابن كثير]. • وعندما تكلَّم جل في علاه عن المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل؛ قال: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83]. • وفي توجيهه تعالى للمؤمنين في الثبات أمام محاولات أهل الكتاب في ردِّهم عن دينهم؛ ﴿ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109]؛ يقول لهم: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 110]. • وعندما عرَّف لعباده المؤمنين ما هو البِرُّ؛ قال: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]، فجمعت الآية بين صدقة التطوع والزكاة؛ قال ابن كثير: ﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ [البقرة: 177]: أعطى المال على حبِّه؛ قال أكثر أهل التفسير: إنها راجعة إلى المال؛ أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته المال، قال ابن مسعود: أن تُؤتِيَه وأنت صحيح شحيح، تأمُل الغِنى، وتخشى الفقر. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمُل الغِنى، ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)). • وتسوق الآياتُ سؤالَ المؤمنين للرسول صلى الله عليه وسلم عن مصارف النفقة: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]. • ثم عندما تكلَّم في القتال، كانت النفقة مصاحبة له في كل المواضع، فبعد آيات القتال في الشهر الحرام؛ يقول تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]. ثم بعد قصة القوم الذين فرُّوا من قريتهم خشية الموت؛ يقول تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245]. • وكذا بعد آية اختلاف الناس من بعدما جاءتهم البينات، وتفرُّقهم إلى معسكر كُفْرٍ ومعسكر إيمان؛ قال جل في علاه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]. وفي نهاية السورة يعرض لنا الله جل في علاه الآياتِ التي تُؤطِر لنا هذه النفقة ضمن مجموعة من الآداب والشروط، التي لا تُقبَل إلا مع تحققها. شروط النفقة وآدابها: وتنتهي قصص آيات الله في الحياة والموت، لتبدأ جزئية الإنفاق والتشريعات المالية، وكأن الله عز وجل يقول لنا: إنها جزء هام من قصة الحياة والموت، وإن اتباعنا شرائع الله في الأمور الاقتصادية تضمن لنا الحياة الحقيقية بمعناها النفسي والروحي، وحتى المادي، وإن شذوذنا عن شرائعه جل في علاه فيه الموت الروحي والنفسي، وحتى المادي، وربما تكون مسألة الربا أوضح مثال على هذا، فكلما استغرقت الأمم في التعامل الربوي، زادت مشاكلها، وعانت من سكرات الموت المجتمعي، وهذا ما لا يخفى على بصير، وكذا الأمر على الصعيد الفردي، فلا آكل الربا يجد الراحة في حياته ولا موكلها، ولا العامل عليها، غفرانك ربي. وكذا الأمر أيضًا بالنسبة لمانع الزكاة والصدقة، حياته في قلق دائم لا يعلم مصدره، والمشاكل تحيط به من كل جانب لا يكاد يخرج من حفرة إلا وقع بأعمق منها، ولا يُنجِّيه من واقعِهِ إلا التوبة وإصلاح ما فسد، فالإنفاق "في سبيل الله" - كما تحكي لنا الآيات - حياة، وزيادة في الرزق والأجر أضعافًا لا يعلمها إلا الله؛ يقول تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]. فكل نفقة في سبيل الله تُضاعف سبعمائة ضعف، سواء في حجٍّ أو جهاد؛ كما قال ابن عباس، أو في طاعة الله عمومًا؛ كما قال سعيد بن جبير، أو في إعانة المستضعفين والمساكين. وانظر إلى هذا التمثيل الرائع، فالمال أشبه بحبة من حبوب الزرع، ينمو بالنفقة، كما تنمو الحبة فتنبت سبع سنابل؛ أي: إن مقدار المال لا ينمو منه مثله، بل ينمو منه سبعة أمثاله، ثم إن كل مثل من هذه الأمثال السبعة يحمل في طيَّاته مائة ضعف، كما تحمل السنبلة مائة حبة، ولا ينتهي الأمر عند السبعمائة، بل يتعداه إلى ما لا يعلمه إلا الله من أضعاف؛ وهذا قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، فكما أننا لا نتخيل مدى سعة عطائه جل في علاه، لا يمكننا أن نتخيل مدى مضاعفة أجر الإنفاق التي قد يكتبها الله "العليم" للمنفق، سبحان الواسع العليم! وآيات الإنفاق في هذا الجزء من السورة تستغرق ثلاث عشرة آية، نستخرج منها: شروط الصدقة وآدابها. أولًا: شروط الصدقة: الشرط الأول لقبول الصدقة: أن تكون في سبيل الله: شرط قبول النفقة ومضاعفتها أن تكون "في سبيل الله"؛ أي: لوجه الله وحده بنية خالصة من كل شرك ورياء؛ يقول القرطبي في تفسيره: "وهذه الآية لفظُها بيانُ مثالٍ لشرف النفقة في سبيل الله ولحُسنها، وضمنها التحريض على ذلك، فشبَّه المتصدق بالزارع، وشبَّه الصدقة بالبذر، فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة؛ ثم قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 261]؛ يعني: على سبعمائة، فيكون مَثَلُ المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقًا في عمله، ويكون البذر جيدًا، وتكون الأرض عامرة، يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحًا، والمال طيبًا، ويضعه موضعه، فيصير الثواب أكثر"؛ [انتهى]. أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ عمل ابن آدم يُضاعَف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدَعُ طعامه وشهوته من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخُلُوف فيه أطيبُ عند الله من ريح المسك، الصوم جُنَّة، الصوم جُنَّة))؛ [وكذا رواه مسلم]. ويقول السعدي في تفسيره: "﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ ﴾ [البقرة: 261] هذه المضاعفة ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 261] أي: بحسب حال المنفق وإخلاصه، وصدقه، وبحسب حال النفقة وحلِّها، ونفعها، ووقوعها موقعَها، ويحتمل أن يكون ﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ ﴾ [البقرة: 261] أكثر من هذه المضاعفة ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 261]، يعطيهم أجرهم بغير حساب، ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ [البقرة: 261] الفضل، واسع العطاء، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261] بمن يستحق هذه المضاعفة، ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته"؛[انتهى]. الشرط الثاني لقبول الصدقة ومضاعفتها: خُلُّوها من المنِّ، وفيه لعِظَمِ إثمه ثلاثُ آياتٍ: الأولى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262]. وهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله، ولا يُتبعونها بما يَنقصها ويُفسدها من المنِّ بها على الْمُنْفَق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يُعدِّد عليه إحسانه، ويغمِزه ويلمزه بأنه ذو فضل عليه، وأن عليه أن يعترف بهذا الفضل ويكون ممتنًّا له، بل ويدفع ضريبته بطريقة أو بأخرى، ومنهم من يؤذي مشاعر الفقير بكلمات أو عبارات ضمنها الإذلال والاستصغار، والعياذ بالله، فهؤلاء الذين لا يفعلون فعل المن، وينتهجون أساليبه، لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يُؤمِّنهم الله من الخوف والحزن، سبحان الكريم المنان! يقول القرطبي في تفسيره: "لما تقدم في الآية التي قبلُ ذِكْرُ الإنفاق في سبيل الله على العموم، بيَّن في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يُتبع إنفاقه منًّا ولا أذًى؛ لأن المنَّ والأذى مُبطلان لثواب الصدقة، كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفَق عليه، ولا يرجو منه شيئًا، ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه؛ قال الله تعالى: ﴿ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، ومتى أنْفَقَ ليريد من المنفَق عليه جزاءً بوجه من الوجوه، فهذا لم يُرِدْ وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنَّه فيه منَّ بإنفاقه وآذى، وكذلك من أنفق مضطرًّا دافِعَ غُرْمٍ إما لمانَّةٍ للمنفَق عليه، أو لقرينة أخرى من اعتناء معتنٍ، فهذا لم يُرِدْ وجه الله، وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله؛ كالذي حُكِيَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أعرابيًّا أتاه فقال: يا عمرَ الخير جُزِيتَ الجنَّهْ اكْسُ بُنيَّاتي وأُمَّهُنَّهْ وكُنْ لنا من الزمان جُنَّهْ أُقسم بالله لتفعلنَّه قال عمر: إن لم أفعل، يكون ماذا؟ قال: إذًا أبا حفص لأذهبنَّهْ قال: إذا ذهبتَ، يكون ماذا؟ قال: تكون عن حالي لتُسألنَّه يومَ تكون الأُعطيات هنَّه وموقفُ المسؤول بَيْنَهُنَّهْ إما إلى نارٍ وإما جنَّهْ فبكى عمر حتى اخضلَّت لحيته، ثم قال: يا غلامُ، أعْطِه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشِعْرِهِ، والله لا أملِك غيره. قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليًا من طلب جزاءٍ وشكرٍ، وعُريًا عن امتنان ونشرٍ، كان ذلك أشرفَ للباذل، وأهنأ للقابل، فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاءَ، وطلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذمِّ ما ينافي السخاء، وإن طَلَبَ الجزاء كان تاجرًا مربحًا، لا يستحق حمدًا ولا مدحًا". يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |